السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي

أحمد أحمد غلوش

مقدمة

المقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد،،، فإن دين الله واحد، ورسله جميعًا يتحركون بعقيدة واحدة، يعلنون كلمة الله، ويعملون لنقل الناس من الضلال إلى الهدى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، يقول تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1، ويقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} 2، ويقول تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. والآيات واضحة الدلالة في إثبات وَحْدَة الدين، الذي جاء به الرسل أجمعين، وهذه الوحدة بادية في أركان العقيدة، فهي عقيدة واحدة معلومة من لدن آدم -عليه السلام- إلى محمد صلى الله عليه وسلم، تناسب الفطرة البشرية، وتتسم بالصدق والحق والواقعية. ولو كان الإنسان واحدًا، والواقع البشري ثابتًا، لجاء للناس رسول واحد، صالح للناس أجمعين.

_ 1 سورة الشورى الآية 13. 2 سورة آل عمران الآية 19. 3 سورة آل عمران الآيتان 84، 85.

لكن الإنسان ليس واحدا، وإنما هو متعدد النزعات، متنوع الفكر، يتأثر واقعه دائما بعوامل جغرافية، وبيئية، واقتصادية، وثقافية، واجتماعية ... إلخ؛ ولذلك قضى الله بحكمته أن يبعث رسولًا لكل أمة يبلغها بالعقيدة الدينية الواحدة، وبأسلوب يتلاءم معها، وبمنهج يقربها من دعوته، مع تكليف الناس بأعمال وتطبيقات تطهر حياتهم، وتقوي عقيدتهم، وتساعد في القضاء على مواريث الجهل والضلال، وبناء الحياة على الحق والصواب. وقد رأينا في الكتاب الأول الخاص بدعوة الرسل -عليهم السلام- أن كل رسول دعا قومه بمنهج خاص، وبطريقة خاصة، مع اتحادهم في العقيدة الواحدة. ورأينا -كذلك- أن كل رسول بُعث لقوم معينين، سواء تتابعوا زمنيًّا، أو بعثوا في وقت واحد كإبراهيم ولوط عليهما السلام. ورأينا -أيضًا- أن كل رسالة كانت تراعي أحوال المدعوين، وتلاحظ مستواهم العقلي والحضاري في التوجه والمناقشة. إن هذا الموكب الطويل من الرسل جاءوا للناس بصورة واحدة للاعتقاد الصحيح، القائم على التوحيد الخالص، التوحيد المطلق، الناصع، القاطع، توحيد الألوهية التي يجب أن يتوجه إليها البشر جميعًا، كما يتوجه إليها سائر الخلائق بالتسليم والخضوع والعبودية. إن هذا التوحيد يعني أن القوامة المطلقة لله لازمة على خلقه جميعًا، فلا يقوم شيء إلا لله، ولا سيادة على الخلق إلا من الله، ومن ثَم فإن الاستسلام كله من البشر يجب أن يكون لله، صاحب الحول والطول، ورب العالمين. وقد علَّم الله رسله أن يتلاءم كل منهم مع واقعه في الشريعة، وإن اختلفت عن الشرائع الآخرى، يقول تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 1.

_ 1سورة المائدة الآية 48.

وقد رأينا لكل رسول شريعته المناسبة لقومه، فيها الحلال، وفيها الحرام، وفيها التكاليف العملية المتنوعة، وهي مع اختلافها مع كل رسول فهي منزلة من الله؛ ولذلك اتسقت مع العقيدة الربانية الواحدة، التي تلزم المعتقد بضرورة التلقي من الله الواحد، والتحاكم إلى الوحي المنزل، والأخذ من توجيهات النبي المبعوث، وبذلك يتحد الضمير الخفي مع الواقع العملي، ويعيش الناس -كل الناس- مع رسلهم مؤمنين مخلصين، مطيعين لله رب العالمين. وكما اختلف الرسل في الشريعة اختلفوا كذلك في المنهج والأسلوب؛ ليتحقق المراد من الدعوة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. إن طريقة التوجه لقوم ما لا تتناسب مع التوجه لغيرهم؛ لما بين الفريقين من اختلاف تنوع، وتلك دروس مستفادة من تاريخ دعوة رسل الله تعالى. وقبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم اقترب الناس فكريًّا، وترقت عقولهم حتى وصلت إلى التصور المجرد، والقدرة على مناقشة الدليل، إلا أنهم مع ذلك كانوا مختلفين واقعًا وسلوكًا وعقيدة. ووسط هذا الحال بُعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا للعالم كله، بالعقيدة الإلهية الواحدة، والشريعة الملائمة للناس أجمعين، والصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. إن الواقع البشري يلتقي مع العقيدة الإلهية؛ لأنها نفس العقيدة التي نادى بها جميع الرسل، وخوطب بها سائر الأقوام، وآمن بها الكثيرون فيما مضى من الزمان. وسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الرسالات، فلا دين بعده، ولا رسول بعده؛ ولذلك جاء الإسلام -بعقيدته وشريعته- صالحا لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة. وحتى تلتقي الشريعة الإسلامية الواحدة مع جميع الناس، وعلى امتداد الزمن

_ 1 سورة إبراهيم آية 4.

جعلها الله على نوعين: النوع الأول: ما يتصل بالعبادات المشروعة، والأعمال التامة، والأحكام الثابتة، وهذه فصَّلها الإسلام تفصيلًا لا يقبل تغييرًا أو تبديلًا، وقد شرعها الله بهذه الدقة والدوام لتنظيم حياة الناس جميعًا إلى يوم القيامة، وهي المعروفة بالثوابت في الإسلام؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وأحكام النكاح، والطلاق، والميراث ... وهكذا. النوع الثاني: وهو ما يتصل بالأعمال التي تختلف من مكان إلى مكان، وتتغير من زمن لزمن آخر، ومن جماعة لغيرها؛ كصورة الشورى، ومناهج العمل اليومي، والطبائع المرتبطة بالعادات والتقاليد، ومع هذا النوع كان وضع القواعد العامة المنضبطة بالأصول الشرعية؛ لتكون إطارًا للمتغيرات، تأخذ الحكم منها بواسطة اجتهاد علماء الإسلام ... ومن أمثلة ذلك القوة فهي تختلف نوعًا وصورة، فهناك القوة الخَلْقية، وهناك القوة الإيمانية، وهناك القوة العلمية، وهناك القوة العسكرية، من سيف، ورمح، ومدفع، وصاروخ، وطائرة ... إلخ، وأمام هذا التنوع للقوة يضع الله تعالى مبدأ كليًّا حيث يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 1، وعلى مثال ذلك وضعت المبادئ الكلية للمتغيرات العملية. وهكذا ملكت الشريعة القدرة على الالتقاء مع الناس جميعًا، وهي تنظم لهم كافة جوانب الحياة مع اختلافهم وتنوعهم. والعالم كله لا يجتمع على منهج واحد؛ ولذلك احتاجت الرسالة المحمدية إلى عديد من المناهج لتتوجه إلى الناس، أينما كانوا، وكيفما كانوا، وبخاصة أنها

_ 1 سورة الأنفال الآية 60.

تمتد إلى آخر الزمان، وتشمل العالم كله، ولم يكن المطلب عسيرا أبدا، فقد قص الله تاريخ الأنبياء، وسحل حركة الدعوة الإسلامية من خلال الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليقدم العديد من المناهج والوسائل للقائمين بأمر الدعوة إلى الله تعالى. إن مناهج الرسل تعد طرقا عملية، تطبيقية للدعوة، تحتاج إلى من يفهمها ويطبقها في حركة الدعوة للناس. ولم يبقَ تعدد اللغات واللهجات عائقا أمام الدعوة، بعدما هيأ الله من المسلمين دعاة يتقنون كافة اللغات، ويعرفون الجوانب النفسية والفكرية التي تساعد في نجاح الدعوة. وهكذا.. جاء الإسلام للناس صالحا لكل زمان ومكان.. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول المختار لتبليغ دعوة الإسلام للناس؛ ولذلك أنزل الله عليه القرآن الكريم محكما، مفصلا، قيما، مهيمنا، لا عوج فيه، ولا ريب. وقد استمرت البعثة المحمدية ثلاثا وعشرين سنة، أقام خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، والمدة الباقية عاشها في المدينة المنورة بهجرته صلى الله عليه وسلم إليها. في مدة البعثة نزل وحي الله للناس، وكمل الدين، وتمت النعمة، وأصبح الإسلام دين البشرية جميعا، في كافة أرجاء الأرض، وعلى طول الزمن إلى يوم القيامة. وقد هيأ الله محمدا صلى الله عليه وسلم للدعوة، وصنعه للرسالة، وأمده بكل ما يحتاجه لتصل الدعوة إلى الناس على وجه صحيح واضح، قطعا للأعذار {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} .

وقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته رصيدا هائلا، يمكِّنهم من نشر الدين، وتبليغه إلى العالم، والتعامل مع كل إنسان بواقعه ولغته؛ لأن هذا الرصيد كما يقدم موضوعه يقدم معه الأسلوب الأمثل والطريق السديد. وقد أعانني الله تعالى فكتبت في تاريخ دعوة الرسل -عليهم السلام- وفيه حاولت إبراز منهجهم في الحركة بالدعوة، وتوضيح أهم الركائز المستفادة من تاريخهم، من أجل أن تكون أسسا للدعاة إلى الله من بعدهم وإلى يوم القيامة. وأصبحتُ أمام الدعوة المحمدية لأكتب بعون الله فيها، ورأيتُ ضرورة اتباع المنهج الذي اتبعته مع تاريخ الرسل؛ حيث الأسس التالية: أولا: التعريف بقوم الرسول، من ناحية: موطنهم وحضارتهم، وأديانهم، ومستواهم الفكري؛ لأن هذا يساعد على اكتشاف الجوانب الفنية التي واجه بها الرسول قومه منهجا وأسلوبا، وحتى يتمكن دعاة العصر من الاستفادة بهذه الناحية؛ كاختيار الموضوع المناسب، والطريقة اللائقة، والأسلوب المفيد ... وهكذا. ثانيا: التعريف بالرسول نفسه، من ناحية: أصله ونشأته، ورحلاته، وكافة المؤثرات في شخصيته، وصفاته، وكلها عوامل نجاح في تكوين الدعاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قائدهم ورائدهم، يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1. ثالثا: تتبع حركة الرسول بالدعوة، وإبراز كيفية مواجهته للناس على اختلافهم، فمنهم الملأ، ومنهم الضعفاء، منهم السادة، ومنهم العبيد، وبذلك دعا الرسول قومه جميعا، ووصل إلى عقولهم، وناقش حججهم، وهدم ضلالهم، وبذلك ظهرت منهجية الدعوة، والطريقة المثلى للحركة بها مع الطوائف المختلفة وأصحاب المذاهب والملل المحرَّفة.

_ 1 سورة الأحزاب الآية 21.

رابعا: استنباط أهم الركائز المستفادة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتكون ركيزة يستفاد بها في الدعوة إلى الله تعالى. خامسا: المحافظة مع الأسس المذكورة على ذكر الوقائع ورواية الأخبار وتصحيح الخطأ للمحافظة على التاريخ وأحداثه، وبخاصة أنه تاريخ الدعوة. إن اتباع هذا المنهج مع الدعوة الإسلامية دفعني إلى عدة أمور: الأمر الأول: التعريف بأمم العالم كله، فإليها جاء الإسلام، ومن أجلها بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 1، ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} 2، ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3، ويقول سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 4، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كان كل نبي يُبعث لقومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة" 5، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة" 6. وهذا التعريف بالعالم له أهميته؛ لأنه يعرف بمدى حاجة العالم إلى الدعوة، ويبين الحكمة في تنوع المناهج والطرق والأساليب التي وجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى

_ 1 سورة الفرقان الآية 1. 2 سورة الأنبياء الآية 107. 3 سورة سبأ الآية 28. 4 سورة الأنعام الآية 19. 5 صحيح البخاري - كتاب التيمم ج1 ص436 بشرح فتح الباري. 6 المرجع السابق - كتاب التفسير - باب سورة المسد ج1 ص737.

استخدامها في مجال الدعوة، ويشير إلى السر في تكليف الرسول أصحابَه بحمل الدعوة في حياته، وتحميلهم مسئولية التبليغ من بعده إلى أن تقوم الساعة. الأمر الثاني: في قضية التعريف بالرسول وجدت نفسي أمام السيرة النبوية، ولاحظت أن مرحلة ما قبل البعثة؛ حيث التنشئة والتربية والتكوين الشخصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لها ارتباط وثيق بالبيئة والواقع؛ ولذا كان الاهتمام بدراستها لما لهما من تأثير في التربية الإسلامية، ولإظهار قيمة الحق والصواب ومكارم الأخلاق الذي عاشه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط واقع مليء بالفساد والضلال. إن مرحلة ما قبل البعثة المحمدية تعد دراسة للسيرة، ولها صلة مباشرة في التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الممكن الاستفادة بأحداث هذه المرحلة وأثرها في نشأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في: اختيار الدعاة، وتربيتهم، وتكوين شخصياتهم النفسية، والاجتماعية، والخلقية، والقيادية؛ ليتمكنوا من حمل الدعوة، وتبليغ الإسلام على الوجه المطلوب. أما مرحلة ما بعد البعثة، فقد لا حظت أن تاريخ السيرة وتاريخ الدعوة متداخلان بحيث يصعب الفصل بينها، فقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم خلالها حركة دائمة للدعوة؛ حيث عد نومه صلى الله عليه وسلم، ومشيه، وصمته، وحياته في بيته، ومع الناس، جزءًا من حركته صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وقد اعتبرها المسلمون ركائز يأخذون منها، ويستفيدون من توجيهاتها وإيحاءاتها. وتبعا لهذه الحقيقة سأعيش مع السيرة النبوية في مرحلة ما قبل البعثة، وأدرسها دراسة تفصيلية، وآخذ منها الركائز التربوية في مجال التكوين والتنشئة. أما مرحلة ما بعد البعثة فسأوردها مجملة، مع التركيز على الأحداث المتصلة بشخصية محمد الرسول صلى الله عليه وسلم، تاركا تفصيل الجانب الحركي لمبحث حركة الرسول بالدعوة، مع أن هذه الحركة جزء من شخصيته صلى الله عليه وسلم العملية، وإظهار لرسالته

مع الناس. الأمر الثالث: سأحاول مستعينا بتوفيق الله تعالى إبراز الركائز التي فيها فائدة للدعوة والدعاة، متصلة بكل دراسة، سواء كانت الدارسة للواقع البشري، أو في السيرة قبل البعثة، أو الحركة بالدعوة بعد البعثة، على أن تكون هذه الركائز في فصل مستقل يجمعها جميعا.. وبذلك التزم نفس المنهج الذي اتبعته مع تاريخ رسل الله تعالى. ونظرا لطول دراسة تاريخ الدعوة خلال البعثة المحمدية، فقد قسمتها إلى قسمين: القسم الأول: ويشمل دراسة المرحلة المكية قبل الهجرة، بحيث يتكون منه الكتاب الثاني من سلسلة تاريخ الدعوة. القسم الثاني: ويشمل دارسة المرحلة المدنية الذي ستصدر بإذن الله تعالى في كتاب مستقل، يمثل الكتاب الثالث في سلسلة تاريخ الدعوة. وسيتضمن تاريخ المرحلة المكية -بعون الله تعالى- النقاط التالية تبعا للمنهج الذي رجوته في دارستي لتاريخ الدعوة، وهي كما يلي: الأولى: التعريف بالعالم قبيل ظهور الإسلام، وسيشمل دراسة أوضاع أقاليم العالم المختلفة؛ لأن مواطن الدعوة الإسلامية هو العالم كله. الثانية: التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى الهجرة. الثالثة: الحركة بالدعوة في مرحلة ما قبل الهجرة. الرابعة: إبراز الركائز المستفادة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحركته بالدعوة، وبخاصة ما لها صلة بالدعوة والدعاة في العصر الحديث. وسوف أورد كل نقطة من هذه النقاط في فصل مستقل؛ لما لكل منها من دراسة مطولة، وعمق علمي، وفوائد عديدة.

وبهذا التقسيم أكتب في السيرة، وهو الأمل الذي كنت أتمناه، كما أكتب في تاريخ الدعوة الذي أرجو له أن يصير علما شامخا بين سائر العلوم الإسلامية، وأكتب للدعاة الذين هم أمل الأمة في النهوض والتقدم، ولسوف أستفيد من سائر العلوم الإنسانية والدينية؛ لأن الدعوة في الحقيقة هي غاية كل العلوم، والحركة بها تحتاح لدراسات عديدة. إن الدعوة إلى الله تعالى من أهم علوم الإسلام في أي جانب من جوانبها، ويكفي شهادة على ذلك موقف القرآن الكريم معها، فهو الذي حدد موضوعها، ورسم مناهجها، وقص تاريخها، وأنزل العديد من أساليبها ووسائلها.. ومن المعلوم أن كل العلوم الإسلامية نشأت لخدمة القرآن الكريم، وخدمة أهدافه، والدعوة هي هدفه الأول، وغايته الأساسية.. وأملي في الله، ودعائي له أن يهيئ العلماء المخلصين، وييسر لهم العمل لإبراز علوم الدعوة، متميزة بموضوعها، ومنهجها، وغايتها، وشرفها؛ ليتتلمذ بها ومعها وعليها المؤمنون المخلصون. يقول الله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1، ويقول سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} 2، ويقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 3. فالقرآن الكريم هو كتاب الدعوة، ولا جديد في الدعوة بعد القرآن الكريم، اللهم إلا اجتهادات عقلية في مجال التطبيق، والملاءمة بين القضية والواقع في إطار

_ 1 سورة الأنعام الآية 19. 2 سورة الكهف الآيات 1-4. 3 سورة الفرقان الآية 1.

مفهوم القرآن الكريم. والرسول صلى الله عليه وسلم بُعث للدعوة، فهي مسئوليته ووظيفته، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا، وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} 2. هذا التزاوج الواضح بين القرآن الكريم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الدعوة، وكذا الصلة الوثيقة بينهما، فالقرآن الكريم دعوة تعليمية توجيهية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة تطبيقية عملية، وبهذا التلاقي تحققت المثالية الإسلامية في مجال الواقع، والتقت الفطرة البشرية مع الوحي الإلهي العظيم، وتجسدت في رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعل القرآن تطبيقا عمليا في خُلُقه وسلوكه. يروي مسلم بسنده عن سعد بن هشام قال: "قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى.

_ 1 سورة المائدة الآية 67. 2 سورة الأحزاب الآيات 45-48.

قالت: فإن خُلُق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"1. ومن هنا تكون السيرة إبرازا لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في خصائصها وكمالاتها، ويكون تاريخ الدعوة إظهارا لجهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحمل مشاق الدعوة وهو يتحرك بها مع الناس. ولي قصة مع السيرة أحب أن أذكرها هنا: فلقد كان شيخاي اللذان حفظت القرآن الكريم على يديهما، وهما الشيخ/ عيسى أحمد طه، والشيخ/ إبراهيم ويح2، يحكيان لي ولزملائي نُتَفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نقرأ على أحدهما سورة من السور التي تتحدث عن رسول الله مثل سورة "الضحى" و"الانشراح" و"الفيل"، وكان الشيخ يشرح لنا خواطره بأسلوب مبسط، مما حببني في السيرة منذ الصغر؛ حيث كنت مع زملائي الصغار، نتداول كلام الشيخ، ونسعد معه بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتمثله حركة معجبين بها. ولما انتسبت للأزهر الشريف، ودخلت المرحلة الابتدائية على النظام القديم3، صارت السيرة مقررا دراسيا، يعيش تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم من

_ 1 فيض القدير ج5 ص170. 2 ولد الشيخ عيسى أحمد طه ونشأ بقرية "مدينة مسير" من أعمال محافظة كفر الشيخ، وأسس كُتَّاب القرية، واهتم به مع زميل هو الشيخ/ إبراهيم ويح -عليهما رحمة الله- وقد بارك الله في عملهما، وتخرج من هذا الكُتَّاب علماء أفذاذ، وظهر جيل من علماء القرية يدين لهما بالفضل، ويكفي أن قرية ريفية صغيرة هي قرية "منية مسير" تخرج من أبنائها أكثر من ثلاثين أستاذ بجامعة الأزهر يدينون لكُتَّاب القرية بالفضل، ومن الواضح أن أبناء هذه القرية قد بارك الله لهم وحبب أبناءهم في العلم والتعلم. 3 كان النظام القديم في الأزهر يقصر الدراسة قبل الجامعة على مرحلتين: المرحلة الابتدائية ومدتها أربع سنوات، والمرحلة الثانوية ومدتها خمس سنوات، على أن يكون التحاق الطالب بالمرحلة الابتدائية بعد امتحان للقبول في مستوى نهاية التعليم الأساسي، وحفظ القرآن الكريم كله.

مولده إلى لقائه ربه، ونالت مقررات السيرة اهتمامي؛ إذ كنت أحفظها مع بداية الدراسة، وأذكر أن بعض زملائي كان يشيد بذلك عند الأساتذة. ولما بدأت في دراسة المرحلة الثانوية القديمة، لاحظت أننا في الدراسة كلها نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتفسير بيان لوحي الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. والحديث شرح لأقوال رسول الله وأفعاله صلى الله عليه وسلم. والفقه أحكام مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلوم اللغة تدور كلها حول القرآن؛ لمعرفة معانيه، وبيان إعجازه، وإظهار سمو الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأذكر أن مدرس الخط كان يورد الآيات والأحاديث، ويكلفنا بكتابتها -رحمه الله- ويشرح لنا معناها، وما يستفاد بها؛ وبذلك عملت المقررات كلها في بناء الصورة الإسلامية، وكان الأساتذة خير مَن يتفاعلون مع أهداف هذه المناهج، وتحويلها إلى عنصر يتفاعل معه الطالب الأزهري في النظام القديم. ومن هنا لم تعد السيرة مجرد تاريخ، وإنما صارت الدين كله، مما رغبني في أن أكتب فيها منذ صغري، وأذكر هنا أني كتبت عن محمد اليتيم، وعن غزوة أحد، وغزوة الحديبية.. وغير ذلك وأنا في المرحلة الثانوية. وكلما تقدم بي السن كبر معي الأمل، وأخذت أتصور نفسي أمام مؤلَّف ضخم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتناول فيه كافة جوانب شخصيته صلى الله عليه وسلم.. فأخذت أقرأ، وأطلع.. ومع القراءة، وعمق النظرة، وتكشف الحقيقة، أخذت أستشعر ضآلة همتي أمام هامة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبان لي أني كنت في أمنية حالمة، صعبة المنال، لكني لم أفقد الرغبة، ولم يملكني اليأس والقنوط، عشت مع أمنيتي راجيا مؤملا في توفيق الله

أن يسدد الْخُطَى، وييسر الصعب، ويقرب البعيد، والله على كل شيء قدير. وزاد من تباعد الأمنية بروز المؤلفات الضخمة العديدة حول شخصية المصطفى صلى الله عليه وسلم، متناولة أهم جوانب العظمة في السيرة النبوية، حتى خُيل إليَّ أن هذه المؤلفات لم تترك لي ولمن يأتي بعدي مجالًا نبرزه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحمدت الله، ولجأت للسكوت الهادئ، واكتفيت بالقراءة والتعلم، وقلت لنفسي: لأكن متعلمًا ما دمت قد عجزت عن أن أكون عالِمًا معلِّمًا. ولم يطل بي الحال إذ وقع أمر قدري أعاد لي الأمل مرة أخرى، حين حدث حِوار علمي حول ماهية الفروق بين السيرة النبوية، وبين تاريخ الإسلام في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو بين فقه السيرة النبوية، وبين الدعوة في عصر النبوة، ووجدت نفسي في خضم المناقشة أؤكد أن السيرة النبوية لا بد معها من فقه يعيش مع الحدث ويأخذ العبرة حتى لا تروى السيرة في صورة جامدة خامدة، لا تليق برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أفنى حياته في خدمة الإسلام، وتبليغ الدعوة، والدفاع عن دين الله تعالى، وتلك كانت مهمته، يقول تعالى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 1. إن السيرة النبوية إذا درست مع التحليل واستنباط العبر، فإنها تعد تاريخا للدعوة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي زيارة لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفت أمام قبره صلى الله عليه وسلم، وجاشت الخواطر في ضميري، ودارت تصوراتي دورة سريعة حول حياة وجهاد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقلت لنفسي: إني أقف أمام محرك البشرية كلها، وأرى الآن التاريخ مجسدا في قوته النابضة، وألفت ضميري يلتصق بعالم اللاشعور الخفي، متنقلا بين روابي مكة، وبادية بني سعد، وفي غار حراء، وثور، وعند بدر، وأُحُد،

_ 1 سورة العنكبوت الآية 18.

والأحزاب، وتبوك، وأخذت أتصور المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يواجهون الطواغيت وهم يعملون للقضاء على الإسلام وتضليل المسلمين. وسرح خاطري بعد ذلك إلى واقع المسلمين المعاصر، ورأيت ما فيه من تباعد عن المجتمع الإسلامي الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم، وقلت متسائلا: - لِمَ كل هذا التباعد الذي ألحقه المسلمون بأنفسهم؟! - وما أسباب هذا التباعد؟! - وهل من عودة مرة أخرى إلى حيوية الإسلام، وعظمة الحياة فيه؟! - ألم يتأكد المسلمون من فشل كافة السبل اللاإسلامية؟ - وهل يتصور المسلمون نصرهم في غير الإسلام وهم مسلمون؟! - وهل يضع مجد الإسلام غير المسلمين؟! - ما هي العراقيل؟ وكيف نتغلب عليها؟! - ومن الإسلام في عالم اليوم؟! وهكذا: عشت الإسلام كله، ونظرت أمامي إلى قبر حبيبي وسيدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودعوت الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين الجزاء الأوفَى. وعشت مع المسلمين ودعوت لهم بالفوز والفلاح.. وفي هذه اللحظات عشت السيرة كلها، بأحدائها، وحركتها، وقيمتها، وقيمها.. وتأكدت أن أملي القديم ضرورة نفسية تسرني وتسعدني. وهو في الوقت نفسه ضرورة إيمانية؛ لأن العصر الأول -سيرة ودعوة- هو منهج الإسلام وعبرة التاريخ للمؤمنين.. كما أنه ضرورة الاجتماعية يحتاجها الناس في وقت تتنازع فيه المذاهب، وتكثر المعارضات، وتشتد الحاجة إلى العلم والمعرفة بالإسلام؛ لأن به وَحْدَة النصر،

والفوز، الفلاح. إن عرض السيرة بصورة حركية ومنهجية فنية ضرورة ليعيش الناس السيرة، ويجيوا بها، ويعيدوا الإسلام للحياة كما حققه النبي صلى الله عليه وسلم للناس. وزاد اقتناعي بهذا التصور بعد أن اطلعت على مناهج أقسام وكليات الدعوة في الجامعات التي قمت بالتدريس فيها1، ورأيت أنها تهتم بدراسة تاريخ الدعوة، وتخص عصر النبوة بالدراسة الموسعة، وشرفني الله تعالى فقمت بتدريس مقررات تاريخ الدعوة، لسنوات عديدة في جامعات مختلفة، الأمر الذي أحيا الأمل القديم مرة أخرى في أن أكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الزاوية المنهجية، وبذلك أكتب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأؤرخ للدعوة في عصره صلى الله عليه وسلم، وأقدم للدعوة والدعاة الفوائد والعبر المأخوذة من السيرة النبوية، وتاريخ عصر النبوة، وأوضح منهج التقدم للمجتمع كله. إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم غنية بالأحداث، مليئة بالوقائع، متنوعة في العطاء رائدة في التربية والتوجيه، وعلى دارسها أن يوسع اهتمامه ليشمل جوانبها جميعا: من شخصية، وسياسية، ودعوية، واجتماعية ... إلخ. وسأحاول بإذن الله تعالى أن أكتب في الجوانب كلها؛ إيفاء لحق السيرة النبوية، وإبرازا للدعوة في إطار السيرة الكاملة.. وسوف أعمل على إيراد الحقائق المدعمة بالدليل، الخالية من المبالغة أو التهويل.. ولن أقف موقف الدفاع أمام أكاذيب أعداء الإسلام، وسأترك الحقيقة التاريخية تعلو بصدقها وأحقيتها، فليس أقوى من الحق نصرا للحقيقة في مجال المنازعة العلمية، وفي كل مجال. ولن أجري وراء المبالغة والتهويل في ذكر الحوادث والوقائع، حتى لا أتعارض مع مسلمات العقل، وأكون كالدبة التي قتلت صاحبها وهي تحبه.

_ 1 قام المؤلف بتدريس مقررات تاريخ الدعوة في قسم الدعوة بكلية أصول الدين - جامعة الأزهر، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وجامعة الملك سعود بالرياض، وفي كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر بالقاهرة.

لقد كان صلى الله عليه وسلم في حركته بالدعوة واقعيا، ربَّى أصحابه على الصبر وتحمل المشاق، وتحمل صلى الله عليه وسلم من أذى أعدائه ما لا يتصوره عاقل، وبذلك بنَى أمته على الإيمان بسنن الله في الحياة والأحياء، وأبعدها عن الجري وراء الخيال والأوهام. إن الحقيقة يجب أن تعرض في ثوب يليق بها، ثوب خالٍ من المبالغة والتهويل، بعيد عن الإخفاء والصمت؛ لأن كل ذلك يبعدها عن صورتها المستقيمة. والسيرة النبوية هي شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقية، وتاريخ الدعوة هو الحركة الحقيقية بدين الله تعالى وتبليغه للناس. وهاتان القضيتان -السيرة وتاريخ الدعوة- من أمهات الحقائق التي يجب أن يعيشها الناس، بعقل مفتوح، وتأمل دقيق، وتفهم واعٍ، من أجل أن تظهر فترة الدعوة المكية والمدنية -كما كانت- بنبضها الحي، وقوتها المتدفقة. ومن أفضل السبل لعرض حقائق السيرة والدعوة أن نأخذ من المؤرخين القدامى والمحدثين ما يفيد، فمن القدامى نأخذ: حشد الآثار، وتمحيص الأسانيد، وحقائق الوقائع والأحداث.. ونأخذ من المحدثين: التفحص، والتحليل، والموازنة، واستنباط الدروس، والعبر. وبذلك نعرض أحداث السيرة، ووقائع الدعوة بوسطية حية، محببة، يتأسى بها من كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا. إنني أكتب في السيرة كمؤمن محب لصاحب السيرة، سيدي محمد صلى الله عليه وسلم، تدفعه عواطفه المحبة إلى مواصلة المديح والإشادة، ويدفعه إيمانه إلى التزام الدقة والصدق، الذي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله أن رواية الصدق لا تُظهر إلا عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكتب في الدعوة كذلك كعالِم شرفه الله بالتخصص في علوم الدعوة، وقدر الله تعالى -بفضله ومننه- عليَّ العمل لها؛ ولذلك فإني أود أن آخذ من السيرة الدروس المفيدة للدعوة والدعاة، وأحبب الدعاة في أن يعيشوا مع السيرة فهما واستفادة وعملا.

وليس من اللائق أن يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الكتب حبيسا، أو في ثنايا الألسنة ذكرا وفقط، وإنما الواجب أن يصير عملا وسلوكا وقدوة؛ لتحيا الأمة مرة أخرى، ويعيش الإسلام حاضره العظيم. لقد عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمثلوها في نومهم، ويقظتهم، وحركتهم، وسكونهم.. وهو الأمل الذي أرجوه لنفسي وللمسلمين أجمعين؛ ولذلك جعلت دراستي للسيرة والدعوة في إطار واحد. وبذلك أكون قد سلكت منهجا وسطا، لا إفراط فيه ولا تفريط؛ لتتحقق الفائدة، ويبدو الإسلام بواقعيته وشموخه. وبهذه الوسطية المنهجية أشعر أني من الحق والصواب، أورده بدليله الصحيح بعيدا عن الشطط الذي لا أرتضيه، سواء كان مدحا أو ذما.. وبذلك ألتزم مع السيرة والدعوة بالصدق والأمانة، واضعا أمام عيني قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" 1. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني في مقصدي، ويبارك لي فيه، ويجعله ذخرا لي في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير. أ. د/ أحمد أحمد غلوش مدينة نصر 11/ 3/ 1424هـ 12/ 5/ 2003م

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب العلم - باب إثم مَن كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص202.

الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام

الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام تمهيد: تمهيد: العالم هو أمة الدعوة، فإليه بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأُمر بتبليغ الإسلام إلى الناس أجمعين. فمن أجاب ودخل في دين الله تعالى صار من أمة الإجابة التي عرفت الحق، وآمنت به، واستقامت على الصراط المستقيم. والتعريف بهذا العالم ضرورة مهمة؛ لأنه يبين واقعه، وما ساده من انحراف وضلال، ويُظهر المناهج التي دعا بها الرسول صلى الله عليه وسلم الأمم كلها على اختلافهم وتنوعهم، ويوضح طريقة المواجهة بين الإسلام ومعارضيه في هذا الزمان السحيق.. وبذلك تستفيد الدعوة، ويأخذ الدعاة الدروس والعبر.. لقد انقسم العالم في هذا الزمان إلى أمم كبرى هي: الفرس، والروم، والعرب، والهنود، وكان لكل منها وضعه ونظامه ودينه، وانضوت بقية الأقاليم تحت سلطان إحدى هذه الأمم، كولايات تابعة لها، تعيش بنظمها، وتتمذهب بمذهبها ... وهكذا. وفي هذا الفصل سأتناول هذه الأمم بالدراسة، وأُعرِّف بواقعها، وأهم نظمها، وأديانها، وأخلاقها، وسأعقد لكل أمة مبحثا على أن أعقد مبحثا أخيرا أبين فيه مدى حاجة العالم يومذاك لحمل الإسلام، وكيف تهيأت الظروف العالمية لاستقباله، وبذلك سيكون هذا الفصل مكونا من خمسة مباحث هي: * المبحث الأول: "واقع العرب". * المبحث الثاني: "واقع الرومان". * المبحث الثالث: "واقع الفرس". * المبحث الرابع: "واقع الهنود". * المبحث الخامس: "ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام". وبذلك ينتهي الفصل بتوفيق الله تعالى،،،

المبحث الأول: العرب

المبحث الأول: "العرب": 1- جغرافية بلاد العرب: العرب هم أبناء إسماعيل عليه السلام، نشئوا في مكة أولا، وبعدها انتشروا في شبه جزيرة العرب1، وهاجروا إلى البلدان المجاورة. وتنقسم الجزيرة العربية إلى خمسة أقاليم تبعا لجغرافية الأرض وطبيعة المكان؛ ذلك أن جبل السراة بدأ من ثغر اليمن جنوبا، وامتد حتى بلغ أطراف الشام شمالا، فسمي بإقليم "الحجاز" لأنه يحجز إقليم "تهامة" الواقع في غربه على ساحل البحر الأحمر، عن إقليم "نجد" الواقع شرقه.. وتسمى المنطقة الواقعة جنوب جبل السراة بإقليم "اليمن"، والمنطقة الواقعة شرق نجد بإقليم "العروض". وهذه الأقاليم تتمايز عن بعضها على النحو التالي: 1- تهامة: يشمل الأرض المنخفضة، الساحلية، المحاذية للبحر الأحمر بدءا من ينبع في الشمال، إلى نجران في جنوب السعودية، وسميت تهامة بتهامة لشدة حرها وركود ريحها، كما تسمى "الغور" لانخفاض أرضها بالنسبة لغيرها. 2- الحجاز: ويتكون من عدد من الوديان التي تتخلل جبال السراة المتدة من الشام شمالا إلى نجران جنوبا، وسميت بالحجاز لأنها تحجز تهامة عن نجد، وفي هذا الإقليم تقع مدينتا "مكة" "والمدينة"، ويرتبط هذه الإقليم بالبحر الأحمر بعدة طرق عرضية كما يرتبط بسائر الجهات.

_ 1 يسمي العرب بلادهم بـ"جزيرة العرب" على سبيل التجوز؛ لأن المياه تحيط بها من ثلاث جهات فقط هي: الشرق، والجنوب، والغرب، ويحدها من الشمال بلاد الشام، والعرب يُدخلون في جزيرتهم برية سيناء، وفلسطين، وسوريا.

3- نجد: ويمتد من اليمن جنوبا، وبادية السماوة والعروض والعراق شمالا، والخليج العربي شرقا، والحجاز غربا، وسمي "نجد" لارتفاع أرضه. 4- اليمن: ويمتد من نجد شمالا، إلى المحيط الهندي جنوبا، والبحر الأحمر غربا إلى حضرموت والشمر وعمار شرقا، وقد أقيم باليمن سد مأرب وقصر غمدان. 5- العروض: ويشمل: اليمامة، وعمان، والبحرين، والإمارات العربية، وقطر، وسمي بـ"العروض" لاعتراضه بين اليمن، ونجد، والعراق. وبلاد العرب صحراوية، شحيحة المياه، نادرة الزرع، إلا في بعض المناطق كالطائف واليمن؛ ولذلك اتجه الناس إلى الرعي والتنقل والتجارة؛ طلبا للرزق والمعاش، وساعدهم على ذلك تعدد الطرق المهددة التي تربط الشمال بالجنوب، والشرق بالغرب، بطرق ومسالك عديدة، وكانت الجزيرة قبيل البعثة معبر التجارات المختلفة الآتية: من وإلى الهند، وروما، والحبشة، ومصر، وغيرها. وتعد مدينة "مكة" حاضرة الجزيرة العربية؛ لوجود الحرم بها، وقد حفظ العرب لمكة حقها، وصانوا حرمتها، وتعارفوا على الأشهر الحرم؛ لينتشر السلام في الحرم ويحج الناس إليه آمنين. وكان العرب على اختلاف قبائلهم وأديانهم يؤمنون بأن دعوة إبراهيم -عليه السلام- الواردة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1 قد استجيبت، حتى صارت مكة التي دعا لها إبراهيم -عليه السلام- بلدا يأمن فيه الخائف، ويشبع الجائع، وتأتيها الثمرات من كل الآفاق، ويخيب فيها الظالم، ويهلك المعتدي، وقد رأوا

_ 1 سورة البقرة الآية 126.

"أبرهة" يهلك أمامهم بجيشه وفيله1، عندما جاء لهدم الكعبة، وصرف الحجيج عنها إلى الـ"قليس" الذين بناه في اليمن ليقصده الناس بدل الكعبة. وقد سمى العرب مكة بـ"ناسة" لأنها تطرد مَن يظلم فيها، كما سموها "بكة" لأنها تبك أعناق الجبابرة2. يقول جصاص بن عمرو بن الحارث لقومه الجراهمة: "لا تستخفوا بحق الحرم، وحرمة البيت، ولا تظلموا مَن دخله، وجاء معظما لحرمته، أو آخر جاء بايعا لسلعته، أو راغبا في جواركم، فإن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا منها خروج ذل وصغار"3. ومن أقوال سبيعة بنت الأحب بن عيلان توصي ولدها باحترام مكة، وبأهمية تجنب الظلم في الحرم، تقول: ابني لا تظلم بمكـ ... ـة لا الصغير ولا الكبير واحفظ محارمها بنـ ... ـي ولا يغرنك الغرور ابني من يظلم بمكـ ... ـة يلقَ أطراف الشرور ابني يضرب وجهه ... ويلح بخديه السعير ابني قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور الله أمنها وما ... بنيت بعرصتها قصور والله آمن طيرها ... والعصم تأمن في ثبير ولقد غزاها تبع ... فكسا بنيتها الحبير وأذل ربي ملكه ... فيها فأوفى بالنذور والفيل أهلك جيشه ... يرمون فيها الصخور

_ 1 أخبار مكة للأزرقي ج1 ص113. 2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص126. 3 عبقرية خالد ص17.

فاسمع إذا حدثت وافـ ... ـهم كيف عاقبة الأمور1 إن هذه المرأة العربية تشير في نصيحتها تلك إلى مقام مكة في ضمير أبنائها، والعرب جميعا منذ القديم. وقد اعتبر العرب مكة حاضرتهم ومقصدهم؛ ولذلك سموها بأم القرى. وقد ازدادت أهمية "مكة" بعد الإسلام بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم فيها، وشروق الإسلام من بين جنباتها، وتَوَجُّهِ المسلمين في كافة أنحاء الكون إليها، قاصدين الكعبة في صلواتهم وحجهم.

_ 1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص26، يبور: يهلك، وثبير: اسم جبل بمكة، بنيتها: الكعبة.

2- الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية عند العرب: اختلفت الأقاليم العربية في أنظمتها السياسية، وأوضاعها الاجتماعية والأخلاقية. ففي إقليم اليمن قامت مملكة "حمير الثانية" التي ضمت إلى سلطانها مناطق كثيرة، وكان مكلها يسمى بملك "سبأ، وذي ريدان، وحضرموت، ويمنات، وعربهم في الجبال، وفي تهامة"1. وكان هذا الإقليم محل صراع وتنافس بين الفرس والروم خلال القرن السادس الميلادي.. حكمهم "ذونواس" الحميري وكان يهوديا متعصبا، حاول فرض يهوديته على أهل نجران النصارى، فلما أبوا خد لهم أخدودا، وأحرقهم بالنار، وأعمل فيهم السيوف، فاستنجدوا بإمبراطور الروم، فأعانهم بجيش نصراني حبشي بقيادة "أبرهة" قوامه سبعون ألف جندي، فقضى على دولة "حمير" الثانية2 وسار في اليمنيين بجبروته وطغيانه حتى ملوا من ظلمة وعدوانيته، وبخاصة بعدما بني "القليس" ليصرف العرب إليها، ويهجروا الكعبة الموجودة بمكة، فاستعان اليمنيون بالفرس الذين أسسوا دولة لهم بقيادة "وهرز" الفارسي، وقد استمرت هذه الدولة حتى ظهور الإسلام. وقد سار ملوك اليمن التابعين للفرس أو للروم على نظام سياسي واحد، قائم على وراثة الحكم بين الأبناء والإخوة، وكان يساعد الملك مجلس من شيوخ

_ 1 عصر ما قبل الإسلام ص79. 2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص36.

القبائل، يتولون شئون الأقاليم؛ حيث يرأس كل قبيلة شيخها على أن يقدم الأموال التي يكلف بجمعها إلى حاكم اليمن. وكان المجتمع في اليمن ينقسم إلى طبقات أربع هي: 1- طبقة الجند: وتتكون في أغلبها من جنود الفرس أو الروم. 2- طبقة الفلاحين: وهم الذين يقومون بالزراعة والرعي. 3- طبقة الصناع: وهؤلاء يقومون بالصناعات المطلوبة التي يحتاجها الناس. 4- طبقة التجار: وهم جماعات في المدن والقبائل كثيرو السفر والتنقل. وقد أدى الثراء المادي في إقليم اليمن إلى تعاون الناس، وإلى قيام حضارة مزدهرة، وإلى بعدهم عن الشحناء والتحارب، كما ساعدهم على الحركة وركوب البحر، والانتقال إلى أقاليم العالم المختلفة، وكانوا دائما حلقة وصل بين العرب وسائر الأمم في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، وكان لهم نشاطهم الواسع من أقاليم الجزيرة الغربية، وقبيل ظهور الإسلام تأثر اليمنيون بحادثة محاولة أبرهة هدم الكعبة وبناء القليس، وشعروا بأن هذا يتعارض مع مشاعرهم القومية، ويتناقض مع توجه عرب الجزيرة جميعا إلى الكعبة بيت الله تعالى الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقد تبدلت أوضاعهم الاقتصادية بهدم سد مأرب؛ بسبب بغيهم، وظلمهم، وإعراضهم عن الحق والصواب، يقول الله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} 1 وهكذا انقلبت أوضاعهم، وعاشوا في اضطراب وضجر حتى جاء الإسلام.

_ 1 سورة سبأ الآية 16، 17.

وفي شمال الجزيرة العربية؛ حيث قرب قبائلها من الفرس والروم، تأسست مملكتان، هما: مملكة الحيرة في الشرق تابعة للفرس، ويحكمها المناذرة، ومملكة الغساسنة في الغرب تابعة للروم. وقد اتخذ الفرس والروم هاتين المملكتين حائلا بشريا لكل منهما، يتقي به هجوم الدولة الأخرى. وقد تشبه ملوك العرب في كل دولة بأسيادهم، وساند كلا منهم جيش كبير مدعوم من الفرس أو من الروم. وكثيرا ما قامت الحروب بين الغساسنة والمناذرة، وبذلك تحقق للدول الكبرى ما أرادت؛ حيث كان الصدام بين العرب والعرب، ولم يقع صدام بين الفرس والروم بصورة مباشرة. إلا أن هذا الحال أدى في الوقت نفسه إلى عدم العدوان على داخل الجزيرة العربية؛ حيث لا مطمع لأحد من الفرس أو من الروم فيها؛ لأنها بدت في نظرهم أماكن صحراوية، متباعدة، خالية من الخير والنفع، وتحتاج لجهد كبير من أجل السيطرة عليها. وأما أقاليم نجد والعروض والحجاز وتهامة، فقد عاشت حياة بدوية، تعتمد على الرحلة والتنقل ما عدا أهل مكة والمدينة والطائف، فقد سكنها أهلها وعاشوا حياتهم بين الحضارة والبداوة، فقد أخذوا الحضارة من الحجاج والزوار والتجار، وتمسكوا ببداوتهم التي ورثوها، وعاشوا نظامهم عليها. ومن هنا كان لهم شيء من الحضارة، ففي مكة أنشأ "قصي بن كلاب" نظاما سياسيا، فأسس دارا سماها "دار الندوة" وجعل بابها يؤدي إلى الكعبة، وخصصها لاجتماع كل من بلغ أربعين سنة، متمتعا بالحكمة، والفصحاة، وتدبر الأمور من أهل مكة، ولا يستثنى من شرط السن فقط إلا أبناء قصي1.

_ 1 أخبار مكة ج1 ص61.

حمل قصي قومه على دفع ضربية سنوية تسمى بـ"الرفادة".. ينفق منها على الحجيج، ضيوف الله، فهم أحق الناس بالكرم. وقد اتفق القرشيون فيما بينهم -منذ عهد قصي- على توزيع مناصب المسئولية العامة، على مختلف القبائل، مع استقلال كل قبيلة بشئونها1. استمر هذا النظام إلى ظهور الإسلام؛ حيث كانت توزع المناصب على النحو التالي: 1- الحجابة والسدانة: والمقصود بها حراسة مفاتيح الكعبة، وكانت في بيت "عبد الدار". 2- السقاية: وهي الإشراف على بئر زمزم، وكانت في بيت هاشم. 3- الديات: وتسمى الأشناق، وكانت في بيت "تيم". 4- السفارة: وتختص بالبت في الصلح، وكانت في بيت "الخطاب". 5- اللواء: وحامله هو كبير القواد إذا هوجمت مكة، وكان في بني أمية. 6- الرفادة: وهي الإشراف على جمع الأموال، وكانت لـ"عبد المطلب". 7- الندوة: وهي الإشراف على دار الندوة، وكانت لأبناء عبد العزى. 8- الخيمة: وهي حراسة دار الندوة وتولاها بنو مخروم. 9- الخازنة: وهي إدارة أموال الكعبة وكانت لبني كعب. 10- الأزلام: وهي الاستخارة لمعرفة رأي الآلهة في القضايا العامة، وكانت في بني أمية2. وقد أرضى هذا التقسيم قبائل مكة، فعاشوا في استقرار وتعاون، واستقلت كل قبيلة بشئونها ونشاطها وحركتها.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص138. 2 عصر ما قبل الإسلام ص178.

وظهرت في الجزيرة طبقات اجتماعية متعددة أهمها: 1- الصرحاء: وهؤلاء يتكونون من أبناء القبائل المعروفين بانتسابهم إلى آبائهم الموالين لهم ولقبيلتهم. 2- العبيد والموالي: وهم الأسرى الذين ملكتهم القبائل، أو الرقيق المشترون، أو الموالي الذين لجئوا إلى القبيلة، أو المحرر من العبيد. 3- الصعاليك: وهم الأحرار الذين فروا من قبائلهم، واجتمعوا في الصحارى، وكوَّنوا مجتمعات جديدة معارضة لقبائلهم الأولى، وتعتمد على السلب والنهب1. وأغلب نشاط العرب قائم على الرعي والتجارة، وبخاصة بعد أن نظم هاشم بن عبد مناف رحلتي الشتاء والصيف، وعقد محالفات عدة، ضمنت الأمن للتجار، كما أخذ الأمن "الإيلاف" من القبائل المنتشرة على الطرق في مختلف أرجاء الجزيرة. وقد استفاد أهل مكة من الحركة التجارية كثيرا؛ لأن التجارة مدرسة تعلم السياسة، والكياسة، وحسن الجوار، وعمق الفهم، فتعلموا من الحيرة القراءة والكتابة، وأخذوا من الروم السياسة، ونقلوا من الفرس ما للسلطة من سيادة وطاعة. وفي يثرب كثرت الآبار، والأشجار، واعتدل ريحها عن مكة، سكنها اليهود منذ القرون الأولى بعد الميلاد، ونزل عليهم الأوس والخزرج، وكان لكل من اليهود والأوس والخزرج وضع خاص ونظام معين، فاليهود انطووا على أنفسهم واهتموا بالزراعة والتجارة وتحصين المساكن، خاصة وأنهم رأوا قبيلتي الأوس والخزرج في قتال دائم جعلهما يقدمان شبابهما وأموالهما للحروب الطويلة المستمرة بينهما، وأغلب أيام العرب كانت في يثرب.

_ 1 الشعراء الصعاليك ص103-106 بتصرف.

وقد أدت هذه الحروب إلى اضطراب الحياة في المدينة، فاقتصادهم مهلهل، وأفراد القبائل كلهم محاربون، ورؤساء القبائل لا يعدون إلا للحرب، وطالت الأيام بين الأوس والخزرج مما جعلهم ينتظرون الخلاص من هذا التنافس، وقد حاولوا أن يتوجوا "عبد الله بن أبي الخزرجي" ملِكا عليهم يخضع له الجميع، لكنهم فوجئوا بالبعثة المحمدية في مكة فوجهوا أملهم إليها. وأما الطائف فإنها تتمتع بخصوبة التربة، وجودة المناخ، وحسن الثمر1، وجمال الموقع؛ حيث يمر بها الطريق التجاري القادم من الجنوب، وترتبط بمكة وبالمدينة بأكثر من طريق، وقد نشأت بها صناعات عديدة وإن كانت بدائية، كل هذا جعل أبناء الطائف يتمتعون بما فيها، فعاشوا في رغد ورفاهية، مع تمسكهم ببداوتهم فكانوا يرعون الإبل والغنم ويهتمون بالزراعة، وكانت القبيلة هي النظام السائد فيها؛ حيث يدير شئونها رؤساء القبائل بالتشاور فيما بينهم، وقد قام بالطائف نظام يشبه المزارعة في العصر الحديث؛ إذ تنازل "بنو عامر" وهم البدو المجاورون للطائف عن أرضهم، وسلموها لمن يعمرها ويحييها بالغرس والزراعة، على أن تنقسم الثمار بينهم نصفين2، وقد اكتسبت الطائف شهرة عظيمة عند ظهور الإسلام. وأما سكان المناطق الصحراوية في وسط الجزيرة، فهم مجموعة من القبائل الرُّحَل يتولى شئونهم مشايخهم بلا دولة أو جند أو حصون3. وعاشت هذه المناطق الجدب والحر وقلة المطر، وكان أهلها دائما في تنقل وراء رعيهم ومعايشهم4. وعاش أهل هذه البوادي حياة فقيرة؛ لبعدهم عن رحلات التجارة، وخلو

_ 1 مراصد الاطلاع ص265. 2 معجم ما استعجم، البكري ج1 ص65، 66. 3 العرب قبل الإسلام ص240. 4 الشعراء الصعاليك ص62.

مواطنهم من المياه، وقد أدى الفقر الشنيع بهم إلى قتل أولادهم أو بيعهم؛ ليستعينوا بأثمانهم على مطالب الحياة1. وكان مجال العمل أمام البدو ضيقا جدا؛ لأن الخير فوق رمال الصحراء القاحلة نادر، ومن هنا لم يكن أمامهم إلا أن يعملوا للأغنياء في رعي الإبل، أو في خدمتهم، فإن أبت ذلك نفوسهم تحولوا للغزو والإغارة2. وقد وقعت بين قبائل البدو المتناثرة في الجزيرة حروب ومنازعات هي أيامهم، ورغم كثرتها فإن الدم لم يرق فيها كثيرا؛ لأن البدوي لم يكن يرمي إلى سفك الدماء بلا مبرر3، وكثيرا ما كانت هذه المنازعات بسبب دفاع البدوي عن خلق كريم، أو رد لظلم واضح، وتعتبر "حرب البسوس" وهي أطول حروبهم صورة رائعة لاحترام البدوي لواجب الضيافة المقدس4 عند العرب ودفاعه عن الأضياف، وقد اشتهر البدوي بالشجاعة والكبرياء منذ القديم، وقد أكسبتهم الصحراء بما فيها من مخاطر صفات جعلتهم أشجع من الحضر5، وعوَّدتهم الاعتماد على أنفسهم. وكان لعرب الجزيرة تصرفات أخلاقية راقية، فالوفاء بالوعد صفة بارزة لا تنقض؛ حيث يرون أن الغدر من كبائر الأمور، ذكروا أن الحارث بن عباد مر على عدي بن ربيعة، وهو قاتل أبيه في يوم "قضه" وكان يبحث عنه ليثأر منه لأبيه فلما لقيه وهو لا يعرفه قال له: "دلني على عدي بن ربيعة. فأجابه عدي: إن دللتك عليه أتؤمنني؟! قال الحارث: نعم.

_ 1 الكامل للمبرد ج2 ص278، 279. 2 الشعراء الصعاليك ص147. 3 الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص18. 4 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص200. 5 ابن خلدون المقدمة ج1 ص125.

فقال له عدي: أنا عدي بن ربيعة. فخلاه"1؛ احتراما لكلمته، ووفاء بوعده. وكانوا أهل حِلْم ولين، ويكفيهم عند الغضب كلمة يقولونها فتهدأ تاثرتهم وهي: "إذا ملكت فاسجح"، وما حروبهم إلا لحماية المنزلة، والمحافظة على المجد والشرف، وكانوا يتحرزون عن سفك الدم بقدر إمكانهم؛ ولذلك ندر عدد القتلى في معاركهم، ففي يوم "شمطة" وهو أول أيام الفجار لم يقتل أحد من قريش، كذلك لم يقتل أحد من بني بكر بن عبد مناف، وفي يوم "الشعب" وكان أهله ثلاثين ألفا، وكان أعداؤهم أضعاف ذلك، في هذا اليوم لا يقتل إلا رجل من كل طرف2، ولم تكن الحرب تقوم أو تتوقف، إلا بعد أن يجتمع أهل الحل والعقد من القبائل؛ ليقرروا ما يستقر عليه الأمر3. وأما سخاؤهم وكرمهم فهو مضرب الأمثال، ويكفي أنهم كانوا يوقدون نارا تسمى "نار القِرَى" توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل، وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة لتكون أشهر، وكثيرا ما أوقدوا معها عطرا يطير مع الريح ليهتدي إليها العميان4. وقد اشتملت أخلاقهم على صرامة وجدية، والناظر لأسباب حرب الفجار وقيام حلف الفضول، يدرك ذلك. إن سبب حرب الفجار كان قتل رجل في الحرم5، الأمر الذي أدى إلى ثورة القبائل وتجمعها في مواجهة من فجر في الأشهر الحرم؛ لتنتقم للقتيل، ولتبقى درسا بعدها لكل من يفكر في هتك حرمة مكة أو التعدي في الأشهر الحرم، وحتى لا يفجر

_ 1 بلوغ الأرب ج1 ص136. 2 بلوغ الأرب ج1 ص70، 268. 3 بلوغ الأرب ج1 ص271. 4 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص199. 5 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص199.

أحد بعد ذلك في الحرم ويظلم غيره. وأيضًا فإن قيام حلف الفضول كان لصيانة حقوق المظلومين الضعفاء وضرورة الانتصار لمن وقع عليه عدوان من أهل مكة، أو من يقصدها من العمار والزوار. إن حلف الفضول يتميز بنُبْل الهدف، وروعة الطريقة، والتجرد الكريم من الأنانية والذاتية؛ ولذلك مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وقال عنه: "لو دُعيت إليه في الإسلام لأجبت" 1؛ لأنه يلتقي مع غايات الإسلام ومراميه.

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص144.

3- أوضاع العرب الدينية: يشير ذلك الحشد الهائل للأصنام التي شيدها العرب وأقاموها حول الكعبة وفي جوفها إلى وجود عقيدة دينية، وانتشار أفكار مقدسة عند العرب جميعا، فلقد وُجد يوم فتح مكة حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما1. يمثل هذا العدد بكثرته آلهة القرشيين الثابتة عند الكعبة وفي جوفها؛ حيث كان يأتيها أصحابها للطواف حولها بين الحين والحين، وكانت كل قبيلة تعرف صنمها الذي تعبده عند الكعبة، أما ما وراء هذا العدد فهو كثير بعضه أقيم في البيت وبعضه في مكان العمل، والبعض الآخر ينتقل مع قوافل السفر، وكان لأهل كل بيت صنم يعبدونه2 وينحتون على صورته أصناما صغيرة يصطحبونها معهم في الرحلة والسفر، ويلازمونها حتى يعودوا إلى مكة3. وقد اشتهر العرب بتقديسهم لما اتخذ من حجر، أيا كان شكله، فمنهم من اتخذ بيتا، ومنهم من اتخذ صنما، ومن كان يعجز منهم على بناء البيت واتخاذ الصنم ينصب حجرا في مكان يستحسنه، ثم يطوف به ويسميه النُّصُب4، ومن بيوت العرب المقدسة "يرئام" وكان بيتا لأهل اليمن يعظمونه وينحرون عنده5، ومنها "رضاء" وكان بيتا لبني ربيعة بن كعب6. ومن أصنامهم "هبل" وهو أول صنم أقيم في الكعبة بعد أن أحضره عمرو

_ 1 أخبار مكة ج1 ص70. 2 الأصنام ص33. 3 الأصنام ص6. 4 الأصنام ص7. 5 ابن هشام ج1 ص24. 6 ابن هشام ج1 ص92.

ابن لحي من "مآب" ونصبه على البئر الذي حفره إبراهيم -عليه السلام- في جوف الكعبة، وأمر الناس بعبادته فعبدوه، وكانوا ينادونه "يا إلهنا"1، وكان من تقديس أهل مكة لـ"هبل" أن أظهروه في المشاكل الكبرى، حتى أنهم هتفوا باسمه لما رأوا أنفسهم انتصروا على المسلمين في يوم أُحُد2. ومع أن "هبل" هو أقدم الأصنام فإن قريشا ومَن سكن مكة كانت تعظم "العزى" أكثر من "هبل" وبعدهما "مناة". وقد أشار الكلبي إلى أن "مناة" أقدم الثلاثة، وهي المنصوبة ناحية البحر عند المشلل والمتمتعة بتعظيم العرب جميعا، وكان الأوس والخرزج أكثر تعظيما له واختصاصا به. وذكر الكلبي أيضا أن "اللات" أخذت من مناة، وكان تعظيمه عند أهل الطائف أكثر، و"العزى" أحدث الثلاثة، وهي شجرة بوادي نخلة قرب مكة، ولها منزلة خاصة وفريدة عند أهلها؛ فهي أعظم الأصنام عند قريش جميعا، يزورونها، ويهدون إليها، ويذبحون عندها3. وقد تقسمت القبائل أصناما عدة، واختصت كل قبيلة بصنم، وعلى سبيل المثال نرى أن هذيلا اتخذت سواعا، وكلبا اتخذت ودا، وأنعم وأهل جرش اتخذت يغوث، وحيوان اتخذت يعوق، وحمير اتخذت نسرا، وطيئ اتخذت الفلس، وبنو الحارث اتخذت ذا الشرى4. وهكذا توزعت الأصنام على القبائل، وليس المجال هنا لحصرها، فما هي إلا نماذج نعرف منها دين العرب، ومعتقدها قبل الإسلام.

_ 1 أخبار مكة ج1 ص68. 2 سيرة ابن هشام ج2 ص37. 3 الأصنام ص13-27. 4 سيرة النبي ج1 ص83-91، الملل والنحل ج2 ص247.

وقد عظَّم العرب أصنامهم بأشكال متعددة، فكانوا يسمون أولادهم باسمها فباسم "مناة" سمى تميم بن مر ابنه "زيد مناة بن تميم"، وباسم اللات سمى ثعلبة بن عكابة ابنه "تيم اللات"، وباسم العزى سمى كعب بن سعد ابنه "عبد العزى"، وحمل عوف بن عذرة "ودا" معه إلى دومة الجندول وسمى ابنه "عبد ود". وكانوا يذبحون ذبائحهم عندها، ويهدون لحومها مَن حضر عند الصنم، ويأتونها بالهدية والزيارة1. وكانوا يهتمون بالتمسح بها، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح بالصنم، وإذا رجع كان تمسحه بالصنم أول ما يفعله، وكانت الحائض لا تقربه، ولا تتمسح به، بل تقف بعيدا عنه حتى ينتهي حيضها2. وكانوا يحلقون رءوسهم عنده، ويلقون حوله شعرهم، ومعه كمية من دقيق. وكانوا يحلفون به، يقول عبد العزى بن وديعة المزني: إني حلفت يمين صدق برة ... بمناة عند محل آل الخزرج ويقول أوس بن حجر: وباللات والعزى ومن دان دونها ... وبالله إن الله منهن أكبر3 وكانوا يصطحبون أصنامهم معهم في الحروب، فنرى العربي في يوم "أحد" يستغيث ويستنصر بـ"هبل"4، وكان أبو سفيان في هذه الغزوة يحمل اللات والعزى، وكانوا يستهمون عند الصنم، ويضربون الأقداح لديه في شئون كثيرة كالعقل إذا اختلفوا فيمن يتحمله، ولعمل ما: أيفعل أم يترك؟ يقول ابن هشام5: كانوا إذا

_ 1 الأصنام ص18، 55، 13، 16، 34، 59. 2 أخبار مكة ج1 ص66. 3 الأصنام ص48، 14، 17. 4 تاريخ الرسل والملوك ج1 ص1395. 5 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص165.

أرادو أن يختنوا غلاما، أو ينكحوا منكحا، أو يدفنوا ميتا، أو شكوا في نسب أحدهم ذهبوا به إلى هبل، وأجروا القداح، ونفذوا المراد. ولقد أشار الأزرقي إلى أن عباة الحجر نشأت في بني إسماعيل بسبب تعلقهم الشديد بالحرم وبمكة، لدرجة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه من حجارة الحرم تعظيما للحرم، وصبابة بمكة، وبالكعبة، وحيث ما حلوا وضعوا هذا الحجر أمامهم؛ ليبقى رمزا لبيت الله في غيبتهم عن مكة، ويطوفون به كطوافهم بالكعبة، وظلوا على ذلك حتى عبدوا ما استحسنوا من الحجارة1. ولعل هذه البداية سهلت للعرب تقدير الرمز نيابة عن أصله، وجعلوا ذلك مبدأ ينطبق على كل الأصنام مهما كانت بدايتها، وهو الذي جعلهم يتقبلون ما أتى به عمرو بن لحي من أصنام، حين أحضرها من بلاد الشام لقومه، ونصبها عند الكعبة، وذكر لهم أنها تنزل المطر، وتنصر في الحروب، وأمرهم بعبادتها فعبدوها2، وهو الذي أمرهم كذلك بعبادة إساف ونائلة، هذين الصنمين اللذين كانا في الأصل رجلا وامرأة فجرا في الكعبة فمسخا حجرين للازدجار والعظة، ولكنهما بتقادم العهد صارا صنمين، فلما أمر "عمرو بن لحي" بعبادتهما عُبدا3. وقد كان العرب لهذا المبدأ يستحسون بعض أصنامهم مع علمهم أنها في الأصل صورة لقوم صالحين، معظمين من قومهم السابقين؛ لكنهم مع طول العهد تأولوا وقالوا: ما عظم الأولون هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فعبدوا صورهم، وعظموا أمرهم، واشتد كفرهم4 وما عبدوا الصورة إلا لاعتقادهم أنها رمز يستشفعون به نيابة عن صاحبه.

_ 1 أخبار مكة ج1 ص67. 2 الأصنام ص8، أخبار مكة ج1 ص125. 3 أخبار مكة ج1 ص44، 69. 4 الأصنام ص51، 52.

وكان تعلق العربي الشديد بصنمه يشير إلى ارتباط عجيب معه، وتحمس من أجل دوام عبادته، فلقد دخل أبو لهب على أبي أحيحة "وهو سعيد بن العاص بن عبد شمس" وهو في مرضه الذي مات فيه فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه؟! قال: لا، ولكني أخاف أن لا تُعبد العزى بعدي. فقال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك. فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة1. ويبدو أن العرب كانت تعتقد أن لهذه الأصنام أثرا جعلهم يتمسحون بها ويطلبون نصرها ويرحلون بها، ويرون أن الاصنام احتوت روحها التي صورت في الأصل على شاكلتها، ولولا الروح التي احتوت ما كانت تستحق شيئا2. من ذلك ما عرف من "اللات" فإنها كانت في الأصل صخرة يجلس عليها رجل يلت السويق، فلما مات اعتقدوا أن روحه تقمصت الحجر وسكنته، فاتخذوه إلها هو اللات، ومنه ما عرف عن "العزى" فإنها ثلاث شجرات اعتقد العرب أن الجن سكنتها، وأن التأثير فيها للجن الساكن فيها3. وعلى الجملة كانت العرب تعتقد أن لكل صنم شيطانا، فمن عبد الصنم قضى الشيطان حوائجه بأمر الله الأكبر، وإلا أصابه الشيطان بنكبة عظيمة4، وأكد لهم هذا الاعتقاد ما كانت تصدره بيوتهم المقدسة بفعل الريح، أو بفعل الكهنة من أصوات خفية، جعلتهم يصدقون أن الأرواح والشياطين تكلمهم5.

_ 1 الأصنام ص23. 2 أخبار مكة ج1 ص44، 69. 3 تاريخ العرب قبل الإسلام ج5 ص34. 4 بلوغ الأرب ج2 ص197، 198. 5 الأصنام ص12.

ورغم صور تعظيم الأصنام السابقة، وعقيدة العرب فيها، رغم ذلك لم تنشأ طبقة كهنوتية لها مميزاتها وخصائصها، كما حدث في البلاد الأخرى، بل بقي كهنة العرب بين الناس كأحدهم، يقومون بسائر الأعمال، ويشتركون في الحروب. كذلك لم يحدث صراع من أجل الأصنام رغم تعددها، ولم تحاول قبيلة ما ضم أخرى لتعبد صنمها، بل وجدنا العكس، فالقبيلة تقدس صنمها، وفي نفس الوقت تحترم أصنام الآخرين، ولكنها لا تتقرب إلا إلى صنمها. كذلك لم تنشأ لدى العرب عاطفة دينية تربطهم بالأصنام ربطا نفسيا، فيه الحماس والاندفاع، ومعه الغيرة والانفعال؛ ولذلك نراهم يتركون أصنامهم في الكعبة يوم قدوم أبرهة، ولا يفكرون إلا في البيت وحده دون معبوداتهم. ولعل تفسير ذلك هو اعتقادهم أن كل هذه المقدسات من بيوت وأصنام ونُصُب ما هي إلا آلهة صغرى فوقها إله أكبر هو الخالق للجميع، وما عبادة المظاهر الطبيعة المادية إلا لتكون قُربى لله الأكبر؛ لأنه هو المالك لكل الآلهة الصغرى، وهو رب الحرم وحاميه، كانت التلبية السائدة عندهم تشير إلى أن الله هو المالك للأصنام، فهم يقولون فيها: "لبيك الله لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك"، وهكذا كانوا يوحدون الله في التلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده1. وأيضا فإنهم يوم قدوم "أبرهة" تركوا مكة، ورحلوا عنها إلى شعاب الجبل المحيطة بها، على أمل أن ينقذ رب الحرم حرمه، ولم ينتظروا معونة من هبل، أو اللات، أو غيرهما، ولم يفكروا في إنقاذها هي نفسها من الهدم والتكسير، يروي ابن هشام أن عبد المطلب لما أمر قريشا بالخروج من مكة أخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول:

_ 1 الأصنام ص7.

لا هم إن العبد يمنع ... رحلة فامنع حلا لك لا يغلبن صليبهم ... ومجالهم عدوا مجالك إن كنت تاركهم وقبلـ ... ـتنا فأمر ما بدا لك ولما حدثت المناقشات بين أبرهة وعبد المطلب، وقال أبرهة متسائلا: تسألني عن الإبل، وتترك البيت الذي هو دينك ودين آبائك، أجاب عبد المطلب: أما الإبل فهي لي، وأما البيت فله رب يحميه1، ولم يرد ذكر للأصنام في حوار عبد المطلب وأبرهة. وقد كان العرب يذبحون وينحرون ويتقربون إلى الأصنام، وهم مع ذلك عارفون بفضل الكعبة ورب الكعبة، يقول أوس بن حجر: وباللات والعزى ومَن دان دونها ... وبالله إن الله منهن أكبر2 يرى "ورنركاس" أن الله هو الإله الذي كان فوق آلهة القبائل جميعا؛ ولهذا ذكره شعراء مختلف القبائل؛ لأنه لا يختص بقبيلة واحدة3، فهذا أمرؤ القيس في معلقته يقسم بالله فيقول: فقالت يمين الله ما لك حيلة ... وما أن أرى عنك الغواية تنجلي ونراه يذكر الله بالحمد فيقول: أرى إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالا إذا ما استلهمتها صعودها ويقول عبيد بن الأبرص: حلفت بالله أن الله ذو نعم ... لمن يشاء وذو عفو وتصفاح4 ويقول زهير بن أبي سلمى: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب

_ 1 سيرة النبي ج1 ص51. 2 الأصنام ص17. 3 الشعراء الصعاليك ص305. 4 نفس المرجع ص197، 298.

وهكذا نراهم يعرفون الله بأنه الخالق، القادر، المدبر، الحكيم، المسخر لكل شيء في الوجود، وقد سجل القرآن الكريم لهم هذه المعرفة بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، وبقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2، وبقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 3، وبقوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 4، وبقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 5، فهم يعرفون أن الخالق هو الله، ومسخر الفلك هو الله، ومنزل المطر ومحيي الأرض هو الله، وهو المالك لكل شيء. وهذه النظرة إلى الله بما فيها من قداسة وسمو، لم تصل إلى التوحيد الخالص بسبب انعدام التعاليم الثابتة، الأمر الذي جعلهم يبحثون عن واسطة تربطهم بهذا الإله الأعلى، ويبدو أن "ابن لحي" كان يتمتع بعقلية فذة استغل بها الوضع القائم، فقدم العرب الأصنام كرمز على شيء آخر عظيم، ولتكون واسطتهم إلى الله فعبدوها وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، لدرجة أن بعض الجاهلين كانت أصنامهم على صورة تخيلوها للملائكة؛ لاعتقادهم أن الملائكة ذو منزلة عند الله، فهم أَوْلَى أن يكونوا واسطتهم إليه6.

_ 1 سورة العنكبوت آية 61. 2 سورة العنكبوت آية 63. 3 سورة المؤمنون الآيتان 84، 85. 4 سورة المؤمنون الآيتان 86، 87. 5 سورة لقمان آية 25. 6 بلوغ الأرب ج2 ص197.

ومما زاد من ضلال نظرة العرب في الواسطة ما كانوا يسمعون من أصوات تصدر من الأصنام والبيوت، ومن رؤيتهم لخيالات الجن قرب معبوداتهم؛ وبذلك تأكدت فكرتهم عن الواسطة، وبمرور الأيام أصبحت هذه الفكرة عقيدة أساسية وما استبعدوا أن يكون الرسول بشرا إلا لاستحالة اتصال البشر بالله من غير واسطة في نظرهم، وكأنهم كانوا يريدون واسطة بين الرسول والله، من نوع معبوداتهم الموضوعة عند الكعبة وحولها، رغم صغر مساحتها لتكون في رعاية الله الأكبر، وعلى مقربة منه. وكانت هذه العقيدة وذاك الخلط يعيشان عادة عند العرب، فهم يحجون الكعبة، ويطوفون بها، وبعدها يختمون حجهم بالتقرب للصنم، فيحلقون رءوسهم عنده، ويذبحون عتائرهم أمامه1، ويبدو أن سبب ذلك هو بقايا من مناسك دين إبراهيم -عليه السلام- تقادم بها الزمن فشابتها بعض العبادات المبتدعة، هذه البقايا جعلتهم يعظمون البيت، ويطوفون به، ويحجون، ويعتمرون، ويقفون بعرفة، ويهلون بالحج والعمرة2. ولعل في تسمية مكة "أم القرى" على الرغم من وقوعها في وادٍ غير ذي زرع إشارة إلى اهتمام العرب بقداسة الكعبة، أول بيت وضع للناس، وأحد مواريث إبراهيم عليه السلام. وقد سخر بعض عقلاء العرب من هذا الخلط فنظروا إلى مسلك أقوامهم مع الأصنام فوجدوه لهوا لا يفيد، وعبثا من غير فكر دقيق، وعندئذ أخذوا يلتمسون الصواب في الدين. ولقد حكى ابن هشام عن أربعة منهم هم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأنهم اجتمعوا في عيد لهم

_ 1 أخبار مكة ج1 ص73. 2 الأصنام ص6.

عند صنم من أصنامهم، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع، ولا يبصر، ولا يضر، ولا ينفع، ويا قوم التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء1. وقد وقف "قس بن ساعدة الإيادي" قبيل البعثة بسوق عكاظ، وقال: "أيها الناس، اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج، أقسم قسما، حقا حتما، لئن كان في الأرض ليكونن بعده سخطا، وأن الله عزت قدرته دينا أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه"2. وهكذا وصل فكر هؤلاء النفر إلى أن ما عليه قومهم ليس شيئًا يذكر، وأن دين الله الحق هو من نوع ما جاء به إبراهيم فبحثوا عنه، وانتظروا في الوقت نفسه رسولًا يبعثه الله إليهم، وقد انتشر هذا الفكر بين عدد من العرب3 مع اختلاف طرقهم التي سلكوها بعد ذلك، فمنهم من لم يهتد إلى شيء محدد حتى مات كـ"زيد بن نفيل"، ومنهم من تنصر وقرأ كتب النصرانية كـ"ورقة بن نوفل"، ومنهم من بقي على فكره حتى جاء الإسلام وأسلم كـ"عبيد الله بن جحش"4.. ومن هؤلاء المفكرين كانت طائفة "الحنفاء" التي عبدت الله على ما بقي من دين إبراهيم، وبحثوا عن كل ما غاب عنها، وهكذا لم يقتصر نشاط العرب الديني على الأصنام والأوثان فقط، بل اتجه مفكروهم إلى الإله الحق كما بدا من الحنفاء.

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص242. 2 بلوغ الأرب ج2 ص245. 3 الملل والنحل ج2 ص250-253. 4 ابن هشام ج1 ص243-250.

وكذلك ظهر في العرب عدد من "الحكماء" الذين امتازوا بالخبرة والتجربة، وكانوا مرجع القوم فيما يعرض لهم من مشاكل يقضون لهم فيها، وقد تنوقلت عنهم كلمات قصيرة موجزة، لكنها تحمل المعنى الكبير مما جعلها تخلد بين الناس، ومن أمثالهم: "مقتل الرجل بين فكيه". "إن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى". يقول الشهرستاني عنهم: "ومنهم الحكماء، وهم شرذمة قليلون؛ لأن أكثر حكمهم فلتات الطبع، وخطرات الفكر"1. وقد اتجه الحكماء أيضا إلى فكرة ضرورة الخالق، وربط المعلول بعلته، ورأوا استحالة وجود هذا الكون بلا موجد له قدير، يقول عامر بن الطرب الحكيم مفكرا في سبب الخلق: "إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء"2. ومن حكماء العرب كذلك "عبد المطلب" جد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي وصلت به الحكمة إلى سن أمور أقرها الإسلام بعد، فقد منع نكاح المحارم، وقطع يد السارق، ونهى عن قتل الموءودة، وجعل دية القتيل مائة من الإبل، إلا أن الحكمة مهما دقت، فإنها لا تصل إلى الحقيقة بكمالها وأصولها؛ ولذلك كانت حاجة الحكماء وغيرهم إلى وحي يقنعهم ويأخذهم إلى دين الله تعالى ضرورة لا بد منها. ويبدو أن الفرق بين الحنفاء والحكماء أن الحنفاء بذلوا الجهد كله لمعرفة الدين الحق، الذي كان عليه إبراهيم -عليه السلام- وأهملوا عبادة الأصنام، أما الحكماء فكان تفكيرهم في الخلق والخالق عارضا، وكانوا بمثابة قضاة مجتمعهم، ومع ذلك عبد بعضهم الأصنام مثل أقوامهم..

_ 1 الملل والنحل ج2 ص64. 2 تمهيد لتاريخ الفلسفة ص110.

وقد وصل الاضطراب الديني عند بعضهم إلى ابتداع رأي الحمس، وهو اتجاه مبتدع، سببه حماسة العرب تجاه حرمة البيت، ووجوب إبراز هذه الحرمة في منهج عملي، وكان هذا المنهج شديدا، ويحتاج إلى مال كثير، فلقد كانوا يلتزمون بإطعام الحجيج وكسائهم، فلا يأكل من طعام الحمس، ولا يلبس إلا أثوابهم، فإذا لم يجد من ثيابهم طاف عريانا، ولو طاف بثوبه فإنه يخلعه مباشرة ولا يستعمله أبدا؛ وذلك لظنهم أن الحجيج عصوا الله في أثوابهم؛ ولذلك لا يصح الطواف بها. هذا وقد وجدت عند العرب عقائد أخرى وردت إليهم من أقاليم العالم التي اتصلوا بها خلال التجارة أو الهجرة، ومن هذه العقائد: المجوسية: أخذ العرب المجوسية من بلاد فارس، فجعلوا النور والظلمة آلهة تُعبد، وكانوا يتخذون لهما رموزا تقدس، يقول الألوسي: كانت المجوسية في تميم، ومنهم الأقرع بن حابس، كان مجوسيا، وأبو الأسود جد وكيع بن حسان كان مجوسيا1، ويقول في مكان آخر: كانت الزندقة في قريش أخذوها عن الحيرة2. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر3، ويذكر أبو عبيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِلَ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا4. ومنها أيضا: "عبادة الكواكب": وكانت موجودة في العالم على ندرة أصحابها، وهم الصابئة، وقد نقلها بعض العرب عنهم فعبدت "طيئ" الثريا5، وعبد لخم وجذام "المشترى"، وعبد أسد "عطارد"، وعبد كنانة "القمر"6.

_ 1 بلوغ الأرب ج2 ص235. 2 المصدر السابق ج2 ص228. 3 نيل الأوطار ج8 ص63. 4 بلوغ الأرب ج2 ص239. 5 الأموال ص33. 6 التاريخ الإسلامي العام ص177.

ومنها: عبادة الحيوان والطيور: وهذه العبادة أتت من قبل الهند، وقد اتخذ بعض العرب أصنامهم على صورة الحيوان والطير. فصنمهم "نسر" كان على صورة النسر. وصنمهم "يغوث" كان على صورة الأسد. ويعوق كان على هيئة الفرس1. ومن عبادات العرب عبادة الشجر، فلقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين وقومه حديثو عهد بجاهلية، فلما رأى بعض أصحابه شجرة في الطريق، يقال لها: ذات أنواط، كانت العرب تقدسها، فنادوا وقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم" 2. ومن العرب ظهر بعض الدهريين الذين أنكروا الخالق ويوم القيامة، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني3، وقد أخبر القرآن عنهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 4، وقد أشارت الآية إلى عقيدة هؤلاء الأفراد الذين جعلوا الدهر إلها يحيي ويميت. ولقد أدت المحاولات التبشيرية للفرس والروم إلى وجود عدد ليس بالكثير تابعا لإحدى الدولتين، على منهج الولاء السياسي أو الديني، ومن هنا وُجدت

_ 1 تفسير الزمخشري ج4 ص164. 2 سنن الترمذي - كتاب الفتن - باب لتركبن سنن من كان قبلكم ج4 ص475. 3 الملل والنحل ج2 ص245. 4 سورة الجاثية آية 24.

المسيحية في شمال الجزيرة وجنوبها وشرقها. كما أن اليهود وجدت في جنوب الجزيرة ووسطها، وسكنت "يثرب" بهجرة بعض اليهود إليها، ولم تكن اليهودية دين أمة، وإنما دين جماعة متعصبة من الرجال المغامرين. وكان اليهود يسكنون عند الميلاد في فلسطين، فلما تعرضوا لاضطهاد الرومان وخاصة على يد "تيطس" الذي دمر لهم "أورشليم" في المرة الثانية، رحلوا إلى البلاد المجاورة؛ كالعراق، ومصر، والجزيرة العربية1، فسكنوا أولا بلاد اليمن حيث الازدهار والغنى، إلا أنهم وقعوا في صراع مع المسيحية، كاد يودي عليهم لولا أن ساعدهم الفرس ضد الروم، فلما اشتد اضطهادهم في اليمن، وانهدم سد مأرب مصدر الغنى، هاجروا إلى يثرب، وأسسوا فيها لأنفسهم المزارع والحصون، وفي يثرب باشروا مناسك دينهم في حرية، ونشطوا في أعمال التجارة والصناعة وغيرها. وقد أشار ابن قتيبة إلى تهود عدد قليل من العرب؛ حيث وجد أفراد من اليهود العرب في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة2. ويبدو أن السبب في عدم انتشار اليهودية هو عنصرية اليهود القائمة على فكرهم الديني، وإيمانهم بأنهم شعب مختار من الله على الخصوص، حسب ما تعلموا من نصوص كتابهم المقدس، فلقد أيقنوا أنهم أعلى من سائر الشعوب، وأن دينهم وقف عليهم كما جاء في سفر التثنية: "أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك؛ لتكون له شعبا أخص من جميع الشعوب، الذين على وجه الأرض"3، وهذا ما جعلهم يعيشون مستقلين ومنطوين على أنفسهم، ودفعهم كذلك إلى التفوق في كافة الشئون وخاصة الشئون الاقتصادية، كما أسسوا القرى المحصنة ضمانا

_ 1 التاريخ الإسلامي العام ص158. 2 المعارف ص305. 3 سفر التثنية - الإصحاح السابع فقرة.

لمصالحهم، وحفاظا على هذه العنصرية، التي آمنوا بها، وأيضا فإن من طبيعة العربي الاستعلاء، والثقة، والرضى، رغم ما فيه من نقص وحاجة؛ ولذلك أبَى أن يكون تابعا لهؤلاء المتعصبين. وقد انقسم اليهود إلى طوائف متعددة، أشهرها الفريسيون الذين ينادون بالتمسك بنص التوراة من غير تأويل ويسمون أنفسهم بالأصوليين، والصدوقيون وهم الذين ينكرون الآخرة. وتؤكد آيات القرآن الكريم وجود اليهود في الجزيرة العربية؛ حيث خاطبتهم الآيات المنزلة، وتحدثت كثيرا عنهم، ويفهم من دلالة الآيات أن اليهود في الجزيرة كانوا من بني إسرائيل لا من العرب؛ حيث كان النداء لهم ببني إسرائيل، يقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} 1، {سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} 2، ويذكر الأستاذ دروزة أن اليهودية لم يعتنقها أحد من العرب في يثرب، ويبدو أن من تهود من العرب كانوا أعدادا قليلة لا تُذكر لقلتها، وعدم تأثيرها في الناس، كما أنها لا تستحق نداء باسمها على الخصوص؛ ولذلك فهي مندرجة في نداء الله لبني إسرائيل3. هذا.. والمطلع على هذا التنوع في أديان العرب يدرك حكمة الله تعالى في جعل الإسلام ينبع أولا من العرب؛ حيث يمكن مناقشة سائر المذاهب والأديان، ومناقشة أصحابها بسهولة ممكنة، وشمول تام و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 4.

_ 1 سورة البقرة آية 40. 2 سورة البقرة آية 211. 3 سيرة الرسول ص51، 52 بتصرف. 4 سورة الأنعام الآية 124.

المبحث الثاني: الروم

المبحث الثاني: الروم: 1- جغرافية الدولة الرومانية: سكنت الروم غرب أوربا، واتخذت روما1 حاضرة لها، ومدت سلطانها على مساحات شاسعة، شملت سائر البلاد المطلة على البحر الأبيض من جميع جوانبه، وكان الشمال الإفريقي ابتداء من مصر حتى المحيط الأطلسي تحت السيطرة الرومانية، وكانت مصر تمد الإمبراطورية الرومانية بالحبوب والغذاء2. أدى الاتساع الكبير للإمبراطورية إلى أخطار كثيرة، قابلت الدولة من جيرانها في عدد من النواحي3، فمن أطرافها الشرقية عند نهر الفرات أتاها خطر الفرس، ومن حدودها الشمالية الشرقية والشمالية، كان خطر القبائل الجرمانية، ومن حدودها الجنوبية الشرقية على حدود الشام كان خطر القبائل العربية الغازية4، ولم يسلم من حدودها إلا الجنوبي في إفريقيا؛ حيث كان الأحباش قوة تحمي هذا الجانب. وأصبح لهذه الأخطار المتعددة أثر كبير في تفكك الدولة الرومانية، وانقسامها إلى شطريها الشرقي والغربي، ذلك أن تجمع هذه الأخطار جعلت الإمبراطور "قسطنطين" سنة 323م "والإمبراطور دقلديانوس" سنة 284م يشعران بأن روما لم تعد تصلح لأن تكون مركزا لإدارة الإمبراطورية، ومنذ عهدهما بدأ الاتجاه نحو الشرق، وصار غرب البحر الأبيض المتوسط في المرتبة الثانوية5،

_ 1 مراصد الاطلاع ص196. 2 المسلمون والجرمان ص12، 13. 3 الإمبراطورية البيزنطية ص1، 2. 4 الدولة الجرمانية الشرقية ص36. 5 المسلمون والجرمان ص13.

وبالفعل فلقد عين "دقلديانوس" قسيسا له مقره "رافتا" بشمالي إيطاليا يشرف على إدارة القسم الغربي. وتعتبر سنة 395م هي بداية الاتصال العلمي بين الشطر الشرقي والشطر الغربي لهذه الإمبراطورية الكبرى؛ إذ صار إمبراطور كل قسم يعمل على حماية ممتلكاته دون اعتبار لوَحْدَة الإمبراطورية1، وأصبح لها عاصمتان هما: "القسطنطينية" عاصمة القسم الشرقي و"روما" عاصمة القسم الغربي، وأخذ الانفصال في تزايد بينهما حتى القرن السابع الميلادي2. الأحباش: الأحباش أمة تابعة للدولة الرومانية، مع شيء من الاستقلال، سكنت شرق إفريقيا وأصبحت حارسة لحدود الدولة الرومانية الجنوبية في القطاع الإفريقي، واشتهرت بقوتها العسكرية التي مكنتها من شن حملات على جيرانها، وسعت بها حدودها التي وصلت شمالا إلى الحدود المتاخمة لجنوب مصر، التي كانت مستعمرة رومانية، وأخضعت لحكمها منطقة نهر "نكازه" "المجرى الأعلى لنهر عطبرة" وقبائل "البجة" ووصلت حدودها الجنوبية إلى الصومال، أما حدها الشرقي فهو البحر الأحمر3 وحدها الغربي فينتهي عند النيل وسط إفريقيا4. وكانت حاضرة الأحباش هي "أكسوم" الواقعة في شمال الحبشة، وقد عرفت دولة الأحباش بالدولة الأكسومية ابتداء من القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي5.

_ 1 المصدر السابق ص19. 2 الدولة الرومانية الشرقية ص36. 3 بين الحبشة والعرب ص27، 28. 4 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ص361. 5 بين الحبشة والعرب ص13، 15.

وقد كان لدولة الروم نفوذ واسع على الحبشة نظرا لاعتناق الأخيرة المسيحية؛ إذ من المفهوم أن المسيحية كانت تربط الدولة المتنصرة بالدولة الرومانية ربطا قويا، وكانت المسيحية هي الوسيلة المثلى في بسط النفوذ الروماني في أي مكان1.

_ 1 نفس المصدر السابق ص44.

2- أوضاع الرومان الاجتماعية والسياسية والأخلاقية: كان لكل إقليم في الدولة الرومانية بشطريها أوضاع اجتماعية مغايرة لسواها ونظم سياسية تختلف عن غيرها. فالرومان في دولتهم الشرقية أو الغربية كانوا يعرفون منهج الدولة المنظَّمة، إلا أنهم عاشوا تحت وطأة ظلم بغيض، وطبقية باغية، وكان عامة الشعب عبيدا وخدما للطبقة العليا المتمتعة بكل شيء. ففي الدولة الرومانية الغربية قامت دويلات عدة، تكونت من القبائل الجرمانية التي نزلت من الشمال في موجات غازية، وكوَّنوا طبقة السلطة، ففي أسبانيا قامت دولة القوط الغربيين التي أسسها الملك "واليا". وفي إفريقيا قامت دولة "الوندال" بعد انتزاعها من الرومان بالقوة، وتمكن القوط الغربيون من تأسيس مملكة لهم في إيطاليا، وتدعمت في غاليا "فرنسا" مملكة يحكمها الفرنجة البحريون، وبقيام الممالك المذكورة تصدعت الدولة الرومانية الغربية عمليا1، ومع بداية القرن السادس الميلادي تم استقرار هذه الممالك الجديدة في مواطنها من المدة ما بين سنة 415م إلى سنة 507م. وكان حكم هذه الممالك وراثيا في القبائل الجرمانية، وقد تشبه أمراء هذه الدول بأباطرة الشرق، وحوَّلوا المجتمع إلى طبقات، وكانت طبقة الحكم هم الجرمان والعسكريون؛ حيث تتمتع بكل شيء في الدولة، ولا يقرب منها إلا طبقة صغار الملاك والحرفيين والتجار، أما عامة الشعب فهم الطبقة الدنيا حيث العبيد والأُجَراء والفلاحين والخدم.

_ 1 المسلمون والجرمان ص22-38 بتصرف.

عاش أفراد الشعب يكرهون حكامهم، وكثيرا ما قامت صراعات بين الحكام والمحكومين في هذا العصر، الذي عرف بـ"عصر الظلام" في أوربا. وقد زاد الملوك البلاء، فكانوا يسفكون الدم، ويلحقون بالشعب العذاب لأتفه الأسباب، أو من غير سبب أصلا، ويكفي تدليلًا على ذلك أن القوط والبرجنديين أبادوا سنة 539م جميع الذكور من سكان "ميلان"، وقد قدر "بروكوبيوس" عددهم بثلاثمائة ألف طفل1. ورغم أن غالبية المجتمع زُرَّاع، فقد شمل الدمار والتخريب صغار الملاك2 فسلبت الأرض منهم، وتحولوا إلى عبيد، يرتبطون بالأرض التي يقومون بزراعتها لسادتهم بلا مقابل، وبسبب الحاجة والفقر، اضطروا إلى أكل لحوم البشر، وثمار الحشائش، وورق الشجر. وقد تدهورت الحالة الاقتصادية تدهورا تامًّا، وزاد من تدهورها أن الدولة الرومانية الشرقية قاطعت التجارة مع دول الجرمان، فضلًا عن أن دول الجرمان نفسها كانت فيما بينها متقطعة الأوصال، وكل منها ينطوي على نفسه، ولا يتعاون مع جيرانه، بل وصلت الفرقة إلى قيام عديد من الحروب بينهم، أما الشمال الإفريقي الذي كان مكانا لمملكة الوندال، فقد اضطرب اقتصاديًّا هو الآخر، عجز عن إنتاج القمح كعادته، ولم يستطع أن يقف ولو قليلا أمام هجوم "جستنيان" لما كان فيه من ضعف وانهيار. ولم يسجل تاريخ الجرمان في هذه الدويلات أيَّ نظرة إصلاحية، بل سادها نظام الإقطاع البغيض الذي مزق غرب أوربا تمزيقا كاملا3. وفي الدولة الرومانية الشرقية التي اتخذت "القسطنطينية" عاصمة لها، وهي

_ 1 المسلمون والجرمان ص48. 2 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص6. 3 المسلمون والجرمان ص20-52 بتصرف.

المدينة التي ابتناها "قسطنطين" في موقع ممتاز1، واتخذ لها هذا الاسم الديني، المنسوب إليه؛ لتكون في الحقيقة رمزا على مجتمع هذه الدولة، ونظمها الأوتوقراطية2؛ حيث كانت الهوايات، والنزعات، وكافة الأمور من سياسية واجتماعية، تلبس ثوبا دينيا3، فإذا ما تعرضت الدولة لهجمات بربرية فإنها في دستورهم أحكام من السماء نزلت على عالم فاسد يستحقها4، وصار الفرد يعيش بمجموعة من الأوهام، فإذا نزل به مرض فإن ذهابه إلى الطبيب كفر، وكانت جماهير المرضى من جميع أنحاء الإمبراطورية تهرع إلى القسطنطينية؛ لتعالج في كنيسة يوحنا المعمداني5. ولقد مزقت الطبقية أوصال هذا المجتمع، ذلك أن طبقته العليا المكونة من الإمبراطور، وأعضاء مجلس الشيوخ، كانت تقرب طبقة ثانية تقل عنها، وتتكون من الملأ، وأغنياء التجار، وأصحاب الحوانيت؛ ليمثلوا وجهة نظرهم ويقبضوا لهم على زمام الأمور، ويسخروا الشعب المتمثل في مجموعات العبيد، والأُجَراء، ورَعَاع المدن6، وكثيرا ما صدرت قرارات إمبراطورية تجعل من المستأجر رقيقا تابعا، هو وأولاده وزوجته، للمالك يرتبط بالأرض مملوكا لسيده7، وكان هذا النظام مطبقا في الولايات التابعة للإمبراطورية الشرقية8. واتصف البيزنطيون بالخدعة، والخيانة الصريحة، والوحشية، والعنف؛ نتيجة لقلة عددهم أمام عدوهم، ولما رأوه أمام أعينهم من ساستهم، الذين كانوا

_ 1 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص8. 2 مصر البيزنطية ص2 3 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص17. 4 الإمبراطورية البيزنطية "أومان" ص116. 5 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص210. 6 تاريخ الإمبراطورية الرومانية ص254، 259، 260. 7 المصدر السابق ص631. 8 مصر البيزنطية ص301، 302.

يقترفون التحريق، والقتل، وقطع الأيدي، وسمل العيون، وجدع الأنوف، بكل سهولة ولأتفه الأسباب1. وقد شاعت في أبناء القسطنطينية على الأخص صفات الجبن والفسق والخيانة، يقول بعض المؤرخين: إنها لقصة مزعجة من مكايد القسس، والخصيان، والنساء، من دس السم، والمؤامرات، ونكران الجميل، وقتل الإخوة بشكل مستمر2، ورغم أن تولية الإمبراطور كانت تتم وفق انتخاب يقوم على نظام معين، لكن النظرة المقدسة إليه من الناس جعلته أكثر رسوخا، فهو صفي الإله وخليله، وإذن فالمرشح الناجح هو بالضرورة من اختارته مشيئة الله، بغض النظر عن الطريقة التي اكتسب بها هذا النصر. إن نجاح الإمبراطور يلزم الناس دينيا بطاعته، وعلى ذلك فالإمبراطور رجل دين، وملكيته أوتوقراطية3، وقد شهد القرنان الخامس والسادس الميلادي تحول الإمبراطور من رجل مدني إلى رجل يعتمد على الدين، في تأييد نفوذه، ويمثل هذا الاتجاه بوضوح الإمبراطور "جستنيان" سنة 518م إلى سنة 565م. ومع كل هذا الفساد الإمبراطوري فقد تم إلغاء الانتخاب، صار الإمبراطور يعين من يخلفه في حياته، ويدعي أنه اختيار الله. ويكفي تصويرا للقسوة التي عامل الأباطرة شعوبهم بها أن نعرف أن الإمبراطور "جستنيان" لما قامت ثورة الزرق "أنصار جستنيوس الأرثوذكسي" والخضر "أتباع انستاسيوس اليعقوبي" وطلبوا إقصاء وزير المالية أخمدها بالقوة، وقتل من الثوار خمسة وثلاثين ألفا في ستة أيام، وذلك في يناير سنة 532م4.

_ 1 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص25. 2 الإمبراطورية البيزنطية "أومان" ص117. 3 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص80، 81. 4 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص25، 63 بتصرف.

وهكذا كثرت الفتن في الإمبراطورية، وكثرت الاضطرابات، وقد لخص أحد الكُتَّاب الإنجليز أسبابها، وذكر أنها تنحصر في الابتداع الديني، واستحداث الضرائب وتغيير القوانين والعادات، مما أدى إلى الظلم العام وانتشار المجاعات1. وكانت العَلاقة بين الإمبراطوريتين الرومانتيتين سيئة، وزادت انهيارا بقيام الحروب بينهما، وقد وجه "جستنيان" أُولى ضرباته القاصمة إلى دولة الوندال بإفريقيا، واستولى على المدن الكبرى2 وأخذ بعدها يسلك مسلكا معينا فأكثر من فرض الضرائب، واستعمل القسوة في جمعها، فهجر الأهالي مزارعهم، ومتاجرهم، واحترفوا اللصوصية وقطع الطرق، وشن الغارات على الحاميات البيزنطية3، فلجأ الإمبراطور إلى قوة أكبر لحكمهم بالأسلوب العسكري، حتى صارت إفريقيا ولاية يديرها قائد عسكري، وله مساعدون عسكريون، وكانت هذه خطوة أنتجت ضررا ضد الدولة، فعندما شعر القائد العسكري بقوته، وبإمكان استغنائه عن الإمبراطورية أعلن استقلال ولايته. وهكذا أعلن "جوريجوريوس" استقلاله بإفريقيا قبيل الفتح الإسلامي بقليل4. أما الأحباش فهم أمة عاشت هدوءا نسبيا، وسادها نظام ملكي مثلته الدولة الأكسومية، التي قامت مزدهرة، قوية منذ القرن الأول قبل الميلاد5. وقد ساعدت قوة هذه الدولة على الاستقرار الاجتماعي، وبسط سيطرتها على جيرانها بعدما قامت بحملات حربية عديدة، وعبرت البحر، وكونت مستعمرات حبشية6 في اليمن، تدر عليهم الأموال والخيرات، وتضمن لهم تجارة آمنة،

_ 1 المسلمون والجرمان ص56. 2 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص31. 3 المسلمون والجرمان ص60. 4 المسلمون والجرمان ص61. 5 بين الحبشة والعرب ص17. 6 المصدر السابق ص26.

ومتبادلة مع الجزيرة العربية، والشرق الأقصى، وكان لفتح الأحباش اليمن أن صارت أرض الحبشة متجرا لقريش، يجدون فيها رغدا من الرزق، وأمنا وربحا حسنا1، بل وصلت قوة الدولة الأكسومية غربا حيث النيل2 تستفيد من مياهه وخيراته، ولقد كان ساحل أرتيريا موطنا هاما للتجارة، ففي موانيه ترسو السفن التجارية لعديد من الجاليات الأجنبية، وقد دلت الآثار على وصول تجار من اليونان ومصر إلى هذه البلاد. وقد اشتهر ملوك هذه الدولة قبيل الإسلام بالعدل، وبكراهية الظلم، وكان هذا سببا في اختيار المسلمين للحبشة بالذات للهجرة إليها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد" 3. وخضعت الدولة الحبشية للنفوذ الروماني، وبخاصة بعد اعتناقها المسيحية خلال القرن الرابع الميلادي4؛ حيث كان اعتناق المسيحية هو السبيل الفعال إلى بسط النفود الروماني، ويمكن ملاحظة هذا النفوذ عندما تعرض مسيحيو اليمن للاضطهاد وذَهاب "روس ذو ثعلبان" إلى قيصر الروم يستنصره، فأرسله القيصر إلى ملك الحبشة الذي أعانه بجيش من عنده، قوامه سبعون ألف رجل5.

_ 1 تاريخ الطبري ج1 ص37. 2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص361. 3 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص343. 4 بين الحبشة والعرب ص36. 5 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص36.

3- الأوضاع الدينية للرومان: كانت المسيحية هي دين الدولة الرومانية بقسميها الشرقي والغربي، ودين الولايات التابعة لها كمصر والحبشة وغيرهما، وكانت الأحداث الدينية تتردد سريعا في كل أرجاء الدولة من أقصاها إلى أقصاها. وقد وضعت الكنيسة لنفسها نظاما معينا تسير عليه، فأقامت رئاساتها في العواصم الثلاث الكبرى لعالم البحر الأبيض حيث توجد كنائس روما والإسكندرية وأنطاكية، على أن يكون لبقية المدن أساقفة ورؤساء تابعون لأحد الكنائس الرئيسية الثلاث1. وظل الأمر على هذا الوضع حتى تأسست القسطنطينية وأصبحت عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، فتحولت كنيستها إلى المرتبة الثانية بعد كنيسة روما، تليها في المرتبة الثالثة كنيسة الإسكندرية وأنطاكية2. ولم يكن هذا الوضع الجديد بمحل رضى من رؤساء الكنائس الأخرى، فحل التنافس بينهم، وقد ظهرت أفكار جديدة في الفكر المسيحي شغلت بال العالم المسيحي، وقسمته إلى فرق متنازعة3. ذلك أن أفكار "أريوس" الداعية إلى إنكار ألوهية المسيح، وتأسيس فكرة دينية تعتمد على التوحيد، لاقت خلال القرن الرابع الميلادي نجاحا في عديد من الأماكن؛ حيث كانت الكنيسة في "أسيوط" على رأيه، وكثر أنصاره في الإسكندرية وفلسطين ومقدونية4، وكانت الكنائس الجرمانية التي نشأت في الدولة

_ 1 الحضارة البيزنطية ص124. 2 الدول الإسلامية وإمبراطورية الروم ص36. 3 الحضارة البيزنطية ص125. 4 محاضرات في النصرانية ص123.

الرومانية الغربية على رأيه كذلك1. وقد عرف أتباع مذهب "أريوس" بالموحدين، وقد نشط هؤلاء الموحدون في نشر عقيدتهم، حتى أنهم في الإسكندرية وثبوا على "اثناسيوس" بطريريك الإسكندرية، ورأس معارضي "أريوس" والمنادي بألوهية المسيح، وثبوا عليه ليقتلوه فهرب منهم واختفى، وكذلك فعلوا في بيت المقدس مع بطريركها2. وفي قرطاجنة تعرض "الاثناسيوسيون" للاضطهاد، ولقي كثير منهم حتفهم، وتحول بعضهم إلى عبيد، وصارت كنائسهم أماكن عبادة للموحدين، وفي بلاد الغال وأسبانيا لجأ الموحدون إلى القسوة في تبشيرهم، معتمدين على سلطان "القوط"3. ورغم سيادة أفكار التوحيد فقد استطاع "قسطنطين" بقوته أن يقضي عليها فجمع القسس من جميع الكنائس، وعقد مجمعا في "نيقية سنة 325م" ضم ألفين وثمانية وأربعين من الأساقفة المختلفين في آرائهم وعقائهم، وكان من بينهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا يقولون بألوهية المسيح، فأخذ الإمبراطور برأيهم، وجعله عقيدة عامة قررها على الناس بقوة الدولة4، وجعل مخالفته زندقة موجهة ضد الدين يعاقب عليها بالهرطقة5. وهكذا انتصرت "الاثناسيوسية" على الأريوسية مما آذن بعلو شأن كنيسة الإسكندرية6 واختفاء مذهب التوحيد، ولم يظهر في عالم المسيحية بعد ذلك إلا ألوهية المسيح.

_ 1 المسلمون والجرمان ص41، 42. 2 محاضرات في النصرانية ص131. 3 محاضرات في النصرانية ص123. 4 محاضرات في النصرانية ص124، 125. 5 الحضارة البيزنطية ص131. 6 الإمبراطورية البيزنطية "بيتز" ص100.

ولم يكن هذا النصر بداية استقرار في الفكر المسيحي، بل نشأت مسألة أخرى مع بداية القرن الخامس الميلادي، كانت هي السر في الانقسام الكامل للكنائس المسيحية بصورة واضحة. ذلك أن مجمع "أفسوس" الأول سنة 431م الذي اجتمع ليقرر رأيه في أفكار "نسطور" القائلة بأن المسيح ليس إلها، ولكنه إنسان ملهم معصوم، لا كسائر الناس1، أيد رأي أسقف القسطنطينية، في تقسيم طبيعة المسيح إلى شقين هما: اللاهوتي، والناسوتي، وأنهما امتزجا وصارا كائنا واحدا. وكان هذا القرار مبغضا عند كنيسة الإسكندرية وروما وشعب القسطنطينية؛ لأنه يهدد بعزل "مريم" العذراء من أمومتها للقسم اللاهوتي، ويحرمها من لقب "أم الرب"؛ ولذلك نجد هذه الكنائس تتحد ضد هذا القرار، وتجتمع في أفسوس ثانية، وتقرر أن للمسيح طبيعة واحدة، وتسرع في نشر هذا المذهب في أطراف الدولة، وتقوم كنيسة الإسكندرية بإرسال تسعة رهبان إلى الحبشة، يدعون لمذهب الطبيعة الواحدة2؛ مما جعل كنيسة القسطنطينية تثأر لنفسها بقرار مضاد في مجمع "خلقدونية" سنة 451م وذلك بمساعدة كنيسة روما، وقد اعتبر هذا المجمع القائلين بالطبيعة الواحدة هراطقة، وقرر وجوب تعذيبهم، ومع الأيام تطور هذا الخلاف إلى منافسة حادة، نشط فيها كل طرف لتقوية مذهبه، واتهام غيره بالهرطقة، الأمر الذي حوَّله إلى خلاف قومي، نادَى كل وطن فيه بالانفصال عن الإمبراطورية3. فشلت كل محاولات التوفيق بين الطرفين المتنازعين، كما اعترف بذلك "يوستنياتوس" في مجمع "القسطنطينية الخامس سنة 553م".

_ 1 محاضرات في النصرانية ص135. 2 بين الحبشة والعرب ص36. 3 الحضارة البيزنطية ص133.

وقد حاول "هرقل" بعد انتهائه من الحروب الفارسية أن يضع حدا لهذا الخلاف، فألف مذهبا جديدا، تخيل من ورائه أنه يرضي الأطراف المتنازعة، سماه بمذهب التوحيد في الإرادة، وهو ينادي بعد النقاش في طبيعة المسيح، حيث الاختلاف والتنازع، مع الإيمان بأن له إرادة واحدة، غير أن هذا المذهب جاء بنتيجة مضادة؛ لأن "هرقل" استعمل القوة في فرضه، وأملى على أمراء الولايات أن يفعلوا ذلك، فأخذ "المقوقس" في مصر يستعمل العنف والتعذيب في فرض هذا المذهب، واتهم القوم "هرقل" وولاته بمحاولة إضلال الشعب المسيحي، وقاموا بحركة مقاومة سرية، وقاد "بنيامين" هذه الحركة في مصر حتى أصبح المصريون يتمنون زوال الإمبراطورية1. ومع الأيام انتشر هذا النزاع في كل الدولة الرومانية بأجزائها وولاياتها، وقد انتشر مذهب الطبيعة الواحدة في مصر والحبشة، واعتنقه بعض الغساسنة وتعصبوا له. وانتشر مذهب الطبيعتين في "القسطنطينية" وروما وبلاد الحيرة، وعن طريق الحيرة امتد إلى بعض أطراف الجزيرة العربية الجنوبية2. ويجب ملاحظة أن هذه المنازعات لم تقف حائلا دون نشر المسيحية، بل إنها أدت إلى قيام منافسة وتسابق بين الكنائس المختلفة؛ لتتفوق كل على زميلتها في نشر المسيحية بمذهبها في بلاد جديدة، وبذلك يتحقق تفوق سياسي واقتصادي يمكن الدولة من مجابهة الصراع الفارسي والانتصار عليه. والمسيحية بعد المسيح -عليه السلام- تعتبر دينا توسعيا؛ ولذلك نشط معتنقوها قبل الإسلام في توسيع دائرتها في البلاد الخارجية. ففي الولايات التابعة للفرس ظهر لها أتباع من الغساسنة، كما أن امتدادها إلى الحبشة تم في القرن الرابع، ووصولها إلى اليمن تم قريبا من هذا التاريخ، وكان

_ 1 الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم ص40. 2 تاريخ العرب قبل الإسلام ج6 ص75، 79، 82.

لانتشارها طرق متعددة لاقت تشجيعا من جميع المسيحيين، وخاصة من الدولة الرومانية الشرقية، وكنائسها المتعددة، ولا غرو فهي دولة "أوتوقراطية" أسست من بدايتها على الدين. ولم تمنع المنازعات المذهبية تعاون المختلفين في المذهب إذا لزم الأمر؛ حيث نرى "النجاشي" ملك الحبشة يتعاون مع إمبراطور القسطنطينية، ويرسل جيشا إلى اليمن للمحافظة على المسيحية بها، رغم اختلاف الإمبراطور والنجاشي في طبيعة المسيح، ورغم أن نصارى اليمن أنفسهم كانوا على القول بالأريوسية المخالفة لكل من النجاشي والإمبراطور. وكان لموقع الجزيرة العربية بين الحبشة والدولة الرومانية الشرقية أن تعرضت لمحاولات تبشيرية متعددة أدت إلى اعتناق بعض العرب للمسيحية، وقد وجدت المسيحية بنجران "جنوب الجزيرة" على يد رجل من الشام هو "فيمين" حيث تمكن هو وتلميذه "عبد الله بن الثامر" من نشر المسيحية بهذه المنطقة1، وقد كان فيمين وتلميذه صورتين لمبشري المسيحية الذين انتشروا في الجزيرة يتاجرون ويدعون للمسيحية، وكانوا يعتبرون التجارة مع التبشير كسبا مضاعفا2. ويمكن اعتبار حملة "أبرهة" على مكة حملة عسكرية للتبشير بالمسيحية، تمت بعد فشل الوسائل السلمية، وبخاصة بعدما ثبت أن الدولة البيزنطية كانت ترسل تجارها إلى مكة لتتجسس على العرب3، ومما يساعد على هذا الاعتبار سرعة بناء أبرهة "للقليس" ومضاعفة تحسينها وتجميلها؛ قاصدا بذلك صرف العرب عن كعبتهم وتوجههم إلى القليس للحج والزيارة، التي بناها على هيئة الكعبة،

_ 1 التاريخ الإسلامي العام ص50. 2 أخبار مكة ج1 ص83. 3 تاريخ العرب قبل الإسلام ج6 ص58.

وصورتها، وقد كتب أبرهة إلى النجاشي بعد بناء القليس قائلًا: "ولن أنتهي حتى أصرف حج العرب إليه ويتركوا الحج إلى بيتهم"1. ولما تبين استحالة تحقيق هذا الأمل جرد حملته إلى الحجاز لهدم الكعبة، وبذلك لا يجد العرب إلا "القليس"، فيذهبون إليها مضطرين، وبذلك يسهل تنصير أبناء الجزيرة العربية كلها. وقد بذلت الدولة الرومانية الأموال الضخمة في تأسيس عديد من الكنائس والأديرة داخل الجزيرة العربية، وكانت تجلب الإعانات والأموال لهذه الكنائس من بلاد العراق والشام والروم2، ومع كل هذه المحاولات التبشيرية فإنه لم يعتنق المسيحية إلا نفر ضئيل من العرب، ويبدو أن السبب ما كان فيها من قصور فكري وتناقض واضطراب لا يتفق مع الفطرة العقلية.

_ 1 الفلسفة الشرقية ص184. 2 وحدة الدين والفلسفة والعلم ص105.

المبحث الثالث: الفرس

المبحث الثالث: الفرس 1- الموطن الجغرافي: والفرس أمة سكنت شرق الجزيرة العربية، واشتركت معها في الحدود الشرقية، ويعتبر الخليج العربي حاجزا طبيعيا بين العرب والفرس. والفرس امتداد للشعب الإيراني القديم الذي نشأ في الوديان الخصبة بين جبال الهندكوش، وسلسلة جبال بغمان، وانتشر هذا الشعب في منطقة آسيا الوسطى، وانقسم إلى شطرين: شطر سكن في منطقة ما وراء نهر جيحون وهم الإيرانيون الشرقيون، وشطر سكن غرب النهر وهم الإيرانيون الغربيون1. وقد قامت دولة الفرس في المنطقة الواقعة بين الجزيرة العربية وبلاد الشام ونهر الفرات غربا، وبين نهر جيحون والسند شرقا، وبين بلاد أرمينيا وصحراء سيبريا شمالا، وبين المحيط الهندي جنوبا2. وكانت عاصمة الفرس "المدائن" وهي مدينة كبيرة أقيمت على شاطئ نهر دجلة، فتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في واقعة مشهورة، عرفت باسمها، وقد عرف جزؤها الشرقي بـ"المدائن القصوى" وجزؤها الغربي عرف بالمدائن الدنيا3. وقبيل الإسلام وحد الساسانيون فارس تحت حكمهم، وأنهوا إمارات الطوائف التي تقاسمت الدولة، وجعلوا لدولتهم قوة تناوئ دولة الروم الموجودة في شمال غرب الدولة.

_ 1 تاريخ بخارى ص44. 2 العرب قبل الإسلام، زيادة ص552. 3 نفس المصدر ص534.

2- الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية للفرس: كان الحكم في الفرس مطلقا قائما على أساس تقديس بيت معين، يستمد حقه من الله، فلقد كان "آل ساسان" يعتقدون أن حقهم في الملك مستمد من الله ونشروا ذلك في الناس، وحتى أن العامة اعتقدوا هذا، وصار جزءا من تدينهم، ومن هنا كان الملك يتوارث للأولاد والحفدة، فإذا لم يجدوا من الأبناء رجلا كبيرا جعلوه لطفل لا يعي، فإن لم يوجد الطفل جعلوه لامرأة، ولقد ملكوا بعد شيرويه أردشير طفلا عمره سبع سنوات، وملكوا بوران بنت كسرى، وملكوا أخرى اسمها "أزرهى دفت"1، ووفقا لهذه النظرية المقدسة تمنع الأكاسرة، وهم ملوك فارس بمزايا لا حد لها، فهم كالآلهة تماما، وفوق القانون وفوق البشر، ولهم تنشد الأناشيد المقدسة، وعندهم تكفر الذنوب، وإشاراتهم أمر لا يستحق إلا السمع والطاعة، وكان لكل واحد منهم حاشية خاصة لها تقاليدها ومظاهرها. وقد استغل الملوك منزلتهم عند القوم في الإثراء الفاحش الكبير، واعتادوا أن يكتنزوا النقود، ويدخروا الطرائف من الأشياء الغالية، حتى أن "خسرو الثاني" حينما نقل أمواله إلى بناء جديد سنة 608م بلغ ما نقله 468 مليون مثقال ذهب، وبعد ثلاثة عشر عاما من ملكه بلغت ماليته 800 مليون مثقال2، يقول شاهين مكاريوس: "لم يرد في التاريخ أن مليكا بذخ وتنعم مثل الأكاسرة، الذين كانت تأتيهم الهدايا والجزيات من كل البلدان الواقعة ما بين الشرق الأقصى والشرق الأدنى"3. وكانت الولايات العديدة تخضع لكسرى يوجهها كما يريد رغم تباعدها،

_ 1 تاريخ الطبري ج2 ص45-55 بتصرف. 2 إيران في عهد الساسانية ص163 وما بعدها. 3 تاريخ إيران لشاهين مكاريوس ص211.

ولعل في طلب "باذان" من عامله في ليمن أن يحضر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدائن حيا أو ميتا توضيحا لنوع سطوة كسرى وخضوع الولاة له. وقد امتاز الفرس بالنشاط وكلفوا بالمدنية، وطلبوا الاستقرار ما وسعتهم الأرض، ومالوا إلى الاشتغال بالفنون والحرف، وأقبلوا على تجارة الحرير في غيرة وجد، وكانوا خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين يسيرون بقوافل الحرير العظيمة عبر الإمبراطورية الساسانية إلى شرق بلاد الإمبراطورية الرومانية1؛ وبسبب ذلك انتشر النشاط الصناعي والزراعي في أنحاء الإمبراطورية، وحقق رخاء ورفاهية في أنحاء الدولة. وكان المقتضى أن ينتشر العدل بين الرعية تبعا لذلك، إلا أن الوضع أخذ شكلا رهيبا من الطبقية البغيضة، القائمة على النسب والحرف، يصورة صاحب كتاب إيران في عهد الساسانية في إيجاز فيقول: "كان المجتمع الإيراني مؤسسا على أساس النسب والحرف، وكان بين طبقات المجتمع هوة واسعة، لا يقوم عليها جسر، ولا تصل بينها صلة، وكانت الحكومة تحظر على العامة أن يشتري أحد منهم عقارا لأمير أو كبير، وكان من قواعد السياسة الساسانية أن يقتنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولا يستشرف لما فوقه، ولم يكن لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقه الله لها، وكان ملوك إيران لا يولون وضيعا وظيفة من وظائفهم، وكان العامة كذلك طبقات متميزة بعضها عن بعض تميزا واضحا، وكان لكل واحد مركزا محدد في المجتمع"2. ولم تقف إهانة الطبقات الدنيا عند حد إبعادها عن الوظائف العامة، بل فرضت عليها الضرائب الباهظة بلا حساب وضبط؛ حيث كانت تختلف عن سنة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر كَمًّا ونوعًا، الأمر الذي ألحق أفدح الأضرار

_ 1 تاريخ بخارى ص45، 46. 2 إيران في عهد الساسانية ص418، 420، 422.

بالضعفاء وأصحاب الحرف الصغيرة، مما أدى أخيرا بالمزارعين إلى أن يتركوا أعمالهم، ويلجئوا إلى الأديرة يلتمسون فيها المأوى والاستقرار، وكان أسعد المزارعين حظًّا ذلك الذي سمح له بأن يعمل لسيده بأجر زهيد. ولم تقف هذه الإهانات الواقعة على الطبقات السافلة في حياتهم المدنية، بل كانت تلازمهم وهم في الجيش، وفي ميدان القتال، يقول المؤرخ "أميال مارسيلينوس": "إن هؤلاء الفلاحين البؤساء كانوا يسيرون خلف الجيوش مشاة كأنه قد كتب عليهم الرق الدائم، ولم يكونوا ينالون إعانة، أو تشجعيا، من راتب، أو أجرة، وكانت علاقة الفلاحين بالملاك أصحاب الأراضي كعلاقة العبيد بالسادة"1. وقد أدى هذا الوضع الطبقي إلى نتائج بالغة السوء، فانتشر الحقد والبغضاء بين الضعفاء، والكبر والاستعلاء بين الكبراء، وهدد المجتمع بانقسامات خطيرة، سكنت ملامحها نفوس الناس وقلوبهم. ولعل في هذا الوضع بعض أسباب انتشار واستقرار الإسلام السريع في ربوع الدولة الفارسية حين أتاها؛ لأن مبادئ الإسلام السامية صادفت وضعا ظالما فمحته، وطبقت تعاليمها مكانه، فاستقرت، وما ظهر في فارس من قوة وغنى، فقد كان خاصا بالطبقات الأعلى والحاكمة وحدها، وكل ما دونها فقد عاش في فقر وهوان.

_ 1 المرجع السابق ص324.

3- أوضاع الفرس الدينية: كانت المجوسية وهي ديانة الفرس مركبة من عناصر مذاهبهم المتعددة، التي بدأت قبل الميلاد بكثير، واستمرت في تطورها وتشكلها حتى جاء الإسلام، وهي ديانة في الجملة تهتم ببيان أصل المخلوقات وعدد الآلهة، فمنذ القدم والملوك يقدسون إلهين من بين الآلهة الكثيرة، التي يعبدها عامة الشعب، على أساس أن أحدهما أصل الخير، والثاني أصل الشر1. وبعد تطور المجوسية على يد زرادشت نراه يرجع جميع الآلهة الموجودة إلى إلهين اثنين، إله الخير ويسمى "أهورامزدا"، وإله الشر ويسمى "أهريمان"، وهما متضادان، فلقد ورد في كتبهم المقدسة أن "مزدا" قال لـ"أهريمان" ما معناه: "ليس علمنا، ولا شرائعنا، ولا مداركنا، ولا كلماتنا، ولا أفعالنا، ولا حياتنا، أنا وأنت متفقه في شيء، ولذا فنحن أضداد"2. والفرس يعتبرون أن أقوال زرادشت وتعاليمه قد أودعت في كتاب "زند أفيستا"، الذي تم جمعه في القرن السادس الميلادي3، وفي هذا الكتاب سمو خاص، ومواعظ طيبة، مما جعل الفرس يرفعون زرادشت بعد وفاته إلى مرتبة عالية، فزعموا أن وجوده في الدنيا مر بمراحل خيالية خاصة، وأنه بعث رسولا إلى الخلق، ونبيا لكشتاسب الملك وغيره، هذا مع إثباته للأصلين المتضادين النور والظلمة4، ويظهر من كلام الشهرستاني أن نبوة "زرادشت" صحيحة لأنه يقول: إن زرادشت يدعو إلى أن الباري هو الخالق للظلام والنور ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له، ولا ضد، ولا ند له، ويدعي كذلك أن كتابا نزل عليه وهو "زندوفيستا" ومن

_ 1 الفلسفة الشرقية ص184. 2 وحدة الدين والفلسفة والعلم ص105. 3 الفلسفة الشرقية ص187. 4 الملل والنحل ج1 ص217.

تعاليمه ضرورة الإيمان بالروح والجسم، والتكليف القائم على الاعتقاد والقول والعمل، وأيضا فأتباع زرادشت يثبتون له معجزات، منها دخول قوائم الفرس في بطنه، وقد بشر "زرادشت" بظهور "الرجل العالم" في آخر الزمان؛ ليزين الكون بالدين والعدل1، وهو يدعو الناس إلى الإيمان باليوم الآخر والبعث والجزاء. وليس لدينا دليل يمنع أن يكون نبيا ما دامت تعاليمه موحدة في العقيدة ومؤمنة بالبعث، وداعية إلى الخلق الطيب والعمل النافع وغير ذلك، واندراجه تحت الرسل المذكورين في قوله {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْك} جائز. ويمكن تفسير ما ينسب إليه من دعوته لإلهين، أحدهما للنور، والآخر للظلام، أنه من وضع أتباعه الذين حرفوا دعوته. لكن الذي نذكره بعد ذلك أن ديانة الفرس بعد "زرادشت" داخلها فساد كبير، أضاع أغلب معالمها، فلقد جاء "ماني" في القرن الثالث الميلادي، وعمق الأصلين في الوجود، وجعلهما إلهين، مستقلين، أزليين، قديمين. وقد حكى "محمد بن هارون" المعروف بـ"أبي عيسى الوراق" أن الحكيم "ماني" زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا2. وفي نهاية القرن الخامس الميلادي جاء "مزدك" فأضاف إلى فساد العقيدة على يد "ماني" فسادا أخلاقيا آخر، حين قال بالشيوعية المتطرفة، المنادية بالمساواة في المال والنساء؛ لأنهما في نظره سبب الحرب والقتال، وبإلغائهما تتطهر القلوب من الأحقاد ويعيش الناس في سلام3، وجاءت المانوية فأوصلت الأصول إلى ثلاثة هي: النار والأرض والماء4.

_ 1 الملل والنحل ج1 ص217، 218، 219. 2 الملل والنحل ج1 ص224. 3 الفلسفة الشرقية ص195، 196. 4 وحدة الدين ص111.

ولقد كانت المجوسية في عصر ظهور الإسلام خليطا من كل هذه الآراء، فلقد تناسى الفرس وحدانية زرادشت، وتمسكوا بثنائية المانوية، بل كان العامة منهم يؤلهون بعض القوى الطبيعية، ويقدسون بعض الحيوانات، ويؤمنون أن روح الإنسان بعد الموت تنتظر ثلاثة أيام، وفي فجر اليوم الرابع تهب ريح إما معطرة إن كان صاحب الروح خيرا، أو نتنة إن كان صاحبها شريرا، وبعد ذلك تذهب الروح مع فتاة أو عجوز لتحاكم وتأخذ جزاءها1. وكان الفرس قبيل ظهور الإسلام يعبدون النار ويقدسونها، مؤمنين بقوتها وشرفها، حتى لا يعذبوا بها في الآخرة، وقد بنوا لها بيوتا للعبادة في كثير من نواحي الدولة، ففي طوس وبخارى وغيرهما أقيمت البيوت، ومن المعلوم أن عبادة النار مع طول الزمن تغيب فلسفتها وأسباب وجودها، وتبقى هي بقداستها أمام العامة والجماهير الغفيرة بعقولها المغيبة، وبذلك يزداد الفساد والضلال كما حصل لعبدة الأوثان من العرب، فإنهم بدءوها تقديرا لأشخاص، ثم تصوروها آلهة، وتناسوا كل ما يتصل بوجودها. وقد أطلق مسمى "المجوسية" على هذا الخليط الموروث من الأقدمين، ومن زرادشت، وماني، وغيرهم، وصار للمجوسية دولة كبرى تدافع عنها، هي الإمبراطوية الفارسية المنافسة لدولة الروم قبل ظهور الإسلام، وكان الفرس يعظمون ملوكهم ويقدسونهم، ويزعمون أن الله اختار هؤلاء الملوك وأعطاهم ملكه؛ ليكونوا ظله بين الناس، فلهم الطاعة، وليس لأحد قبلهم حق، وبلغ هذا الاعتقاد أشده أيام الأسرة الساسانية2، التي وجدت قبيل ظهور الإسلام.

_ 1 الفلسفة الشرقية ص195، 196. 2 وحدة الدين ص111.

المبحث الرابع: الهنود

المبحث الرابع: الهنود 1- الموطن الجغرافي: والهنود أمة سكنت الجزء الجنوبي من قارة آسيا، وسط مجموعة من الحواجز الطبيعية التي هيأت لها لونا معينا من الحياة المستقرة، وطبعت حضارتها بطابع فريد، وهي أمة تشغل حيزا كبيرا من الأرض؛ حيث إن مساحتها تعادل مساحة دول أوربا مجتمعة باستثناء روسيا1. ويذكر البيروني أن الهند يحيط بها من الجنوب البحر المعروف باسمها وهو المحيط الهندي، وفي جهاتها الثلاث الأخرى توجد سلسلة جبال مرتفعة2. ولمعرفة ما وراء هذه المرتفعات نتطلع على سطحها، فنراه يأخذ شكلا رباعي الأضلاع، ضلعاه الجنوبي الشرقي والجنوبي الغربي يطلان على البحر، ويكونان سواحل الهند وموانيها، أما الضلعان الشمالي الغربي والشمالي الشرقي فبريان يسيران مع الحافة الجنوبية الغربية لمرتفعات وسط آسيا3، وهذان الضلعان مجموعة من المرتفعات التي تتكون من: جبال آسام، وسلسلة جبال الهملايا، وجبال هندكوش، وجبال سليمان4، وهذان الضلعان يكونان حدود الهند مع بلوخستان، والتركستان، والصين، وبورما5. قامت هذه الحدود الطبيعية المنيعة بدور عازل هام، ساعد على ازدهار

_ 1 أديان الهند الكبرى ص19. 2 تحقيق ما للهند من مقولة ص157. 3 ملامح الهند والباكستان ص11. 4 تاريخ الإسلام في الهند ص2. 5 أديان الهند الكبرى ص21.

الحضارة الهندية وبروزها في طراز فريد، جعل تأثرها بغيرها محدودا، وخاصة في داخل البلاد، أما في الأطراف الشمالية عند الأبواب، فكان التأثير أوضح1. ونظرا لتغاير السطح الطبيعي للهند فلقد انقسمت البلاد إلى ولايات عديدة واشتهرت بها مدن كثيرة2. وأبناء الهند نشيطون منذ القديم؛ حيث انتشرت مجموعات منهم في البلدان حولهم، ووصلوا إلى أقصى شرق آسيا، وأسسوا لأنفسهم مستعمرات لها طابع هندي خاص، وكان من هؤلاء الرجال تجار كبار ورجال ذوو ثقافات عالية، تمكنوا بها من نقل ثقافات الهند إلى المستعمرات التي أسسوها3. واستمر هذا النشاط لأبناء الهند حيث توقف في القرن الثامن الميلادي4.

_ 1 ملامح الهند والباكستان ص5. 2 تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية ج1 ص33. 3 ملامح الهند والباكستان ص154. 4 يلاحظ أن الحديث هنا عن الهند يشمل شبه القارة الهندية كلها التي تتكون حاليا من دول ثلاث هي: الهند، والباكستان، وباكستان الشرقية.

2- الأوضاع السياسية والاجتماعية والأخلاقية للهنود: والهنود أمة سادت فيها الطبقات الاجتماعية بكل وضوح، وقد تُنوسي دواعي هذا التقسيم الطبقي بسبب البعد الزمني لوجوده، إلا أن الراجح أنه قام بسبب اختلاف العناصر الهندية، فإن الآريين والتورانيين وفدوا على الهند، واختلطوا بسكانها الأصليين، يؤيد ذلك أن الآريين قوم بيضو اللون، طويلو القامة، والسكان الأصليون سودو اللون، قصيرو القامة، وكلمة طبقة باللغة الهندية هي "فارنا" ومعناها لون1. وعند استقرار الآريين في البلاد خافوا مغبة الاختلاط بغيرهم، فوضعوا نظام الطبقات، وجعلوا أنفسهم طبقة برهمية عالية. تليها طبقة الكشترية، فالجيش تقوده الكشترية، والبراهمة يؤيدونه بالدعاء الذي لا يتم النصر إلا به. وإلى جانب هاتين الطبقتين الآريتين وضع التورانيون في طبقة ثالثة هي طبقة الويشية. وتأتي بعدهم الطبقة الرابعة والأخيرة وهي طبقة الشودرا التي تنتظم أصحاب المهن الحقيرة والخدم2. وكان الهنود يمثلون الطبقات الأربع بجسم إنسان، فالبراهمة يمثلون الرأس والكشتريا يمثلون المنكب واليدين، والويشية تمثل الفخذ، والشودرا تمثل القدم. ويعتقد الهنود أن الطبقات خلقت من جسم براهما، ومن العضو الذي تمثله كل طبقة؛ حيث يقول متو وهو يعدد خلق برهما للكائنات: "تم خلق البرهمي من

_ 1 ملامح الهند والباكستان ص147. 2 تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية ج1 ص9.

فمه، والكاشتريا من ذراعه، والويشيا من فخذه، والشودرا من رجله"1. وقد وردت نصوص دينية تحدد وظيفة كل طبقة، فلقد جاء في الفقه الهندوسي الأكبر وذكره الأستاذ/ أحمد شلبي في "أديان الهند الكبرى": "على البرهمي أن يشتغل بالتعليم والتعليم وإرشاد الناس في دينهم، فكان هو المعلم والكاهن والقاضي، أما كشتريا فعليه أن يقدم القرابين ويحمل السلاح للدفاع عن وطنه وشبعه، أما ويشيا فعليه أن يزرع ويتجر ويجمع المال، أما شودرا فعليه أن يخدم الطوائف الثلاث الشريفة"2. والمنبوذون هم طبقة "الشودرا" وهم سلالة العنصر الأصلي من السكان القدامى، ولا يجري في عروقهم الدم الآري أو التوراني ويسمون بـ"زنوج الهند"، وقد حرمهم المجتمع حقوق الإنسان العادي، فليس لهم حقوق كطبقة، ولا منزلة لهم يشتغلون برذالات الأعمال، وهم منفيون، منحطون3 لدرجة أنه إذا استمع أحدهم خلسة لرجل برهمي وهو يتلو "الفيدا" صب في أذنيه الآنك، وإذا رؤي جالسا معه كوي بالنار، ولا يجوز له أن يتزوج من الطبقات الثلاث الأخرى4. يقول مانو: إن الخالق قد ذرأهم" الشودرا" عبيدا، وكل من انتمى إلى هذه الطبقة فمن المحال أن يكون حرا حتى ولو أعتقه سيده، ومن الذي يستطيع أن يحرره من الرق إذا كان الرق طبيعة فيه5. ومع هذه المنزلة الوضيعة للشودرا، فقد وجد في المجتمع من هو أدنى منزلة منهم، وهم الوافدون إلى البلاد، الذين ولدوا بعيدا عن براهما، وهؤلاء لا حقوق

_ 1 تحقيق ما للهند من مقولة ص76، 77. 2 أديان الهند الكبرى ص55، 56. 3 نفس المصدر ص57. 4 تحقيق ما للهند من مقولة ص77. 5 روح الإسلام ص15.

لهم مطلقا. وكان النظام السياسي في الهند ملكيا حيث يرأس الملك الدولة، ويساعده الوزراء ورجال التشريع1، ومع ذلك فالملكية تعتمد على نظام مقدس، فالملك إله في صورة إنسان، وعليه أن يكون عادلا، وخادما لشعبه، ومحافظا على حقوق الطبقات بكل دقة2. وقد ازدهرت الهند بهذا النظام السياسي، فنمت حضارتها وفلسفتها، وكثرت المدن المليئة بالحركة والناس، وانتشرت المستشفيات والمدارس وعم الرخاء والعدل وخاصة مع بداية القرن الرابع الميلادي، حيث ظهرت أسرة "كبتا" في الهند. وقد نعم البراهمة مع هذا النظام المقدس، ونالوا كل حقوقهم وصاروا سادة المجتمع، لهم ما يريدون3 وهم ملجأ الجميع في كل الحالات. أما بقية الطبقات فإنها تتمتع بالحقوق التي يسمح بها البراهمة، وليس عليهم إلا الطاعة والخضوع. وقد أدى تمسك المجتمع بالتعاليم المقدسة في أنظمته الاجتماعية والسياسية إلى ازدهار اجتماعي، تمتع به أهل الطبقات الشريفة، وما عداهم فلا شيء لهم من حقوق كما أدى هذا النظام الطبقي في الهند إلى إذلال طبقة المنبوذين، وحرمهم من كافة حقوقهم، وقد وصل مستواهم أحيانا إلى أقل مستوى الحيوان، وعاشوا حياة بدائية متخلفة، ولم يتقنوا إلا السخرة والطاعة، وفي إطار القداسة البوذية.

_ 1 تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية ص32. 2 أديان الهند الكبرى ص72. 3 تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية ص33.

3- أوضاع الهند الدينية: يرجع ظهور الهندوكية إلى أقدم العصور، وهي ديانة معقدة، لا تعرف البساطة في تعاليمها، أو السهولة في مناسكها، أخذت كثيرا من معتقدات الوافدين إلى الهند من أقدم العصور1. وللهندوكية كتب عدة أهمها "الويدا" وأهميته ترجع إلى تصويره لحياة الآريين، ومعيشتهم، ونظمهم، وعقائدهم. وقد مرت هذه الديانة بأطوار مختلفة، جعلت تطبيقاتها تأخذ أشكالا متعددة، فمن أشكالها تأليه قوى الطبيعة والكون؛ حيث يتصور مؤلهوها أن للطبيعة روحا وقوة تنفع وتضر، ومع تعدد آلهة الهنود إلا أنهم إذا اتجهوا لإله من هذه الآلهة سموه بـ"رب الأرباب" و"إله الآلهة" وهو إحساس منهم بالوحدانية غير مركز2. وللهندوكية سلوك أخلاقي، يقوم على فكرة الجزاء على العمل في الحياة الأولى للروح، أو بعد الحياة الأولى؛ لأن الروح عندهم لا تفنى، بل إنها تنتقل بعد فناء جسد صاحبها إلى جسد آخر، لتأخذ جزاءها، ولتتمتع بشهوات المادة التي لم تنلها من قبل، وتستمر هكذا في تنقلها من جسد إلى جسد، حتى تتغلب على شهواتها وتقنع بما حصلت عليه3 وحينئذ تمتزج بـ"براهما" في مرحلة تعرف عندهم بـ"الانطلاق" ذلك أنهم يؤمنون أن روح الفرد جاءت من روح العالم، ومآلها إليه4، فإذا ما وصلت إلى الانطلاق فقد اتحدت مع أصلها الأول، وهذه أشكال صوفية قائمة على إحساس بوحدة الوجود.

_ 1 ملامح الهند والباكستان ص143. 2 أديان الهند الكبرى ص42، 48. 3 ملامح الهند والباكستان ص145. 4 ملامح الهند والباكستان ص145.

وهكذا نرى أن عبادة الهندوكية انتقلت من البساطة إلى التعقيد، ومن البدائية إلى التفلسف، وكان من أثر هذا التنقل تعدد طوائف الهنادكة تعددا يخطئه العد، وفي الجملة فإن عقائد الخاصة تختلف عن عقائد العامة، حيث اتجه الخاصة إلى لون من التوحيد الغامض المشوش، بينما عاش العامة مع التعدد والتجسيد1، إلا أن العقائد كلها كانت تلتقي عند فكرة الجزاء، وتناسخ الأرواح، والروح الواحدة للهندوكية2. وتقوم العقيدة الدينية عند الهنود على أساس النظام الطبقي السابق ذكره؛ لأن المنبوذين لا يسمح لهم باعتناق الهندوكية، ولهم أن تختاروا دينا آخر، مما أدى إلى حوث ثورات عدة ضد هذه النظم، وخاصة نظام الطبقات، وأشهر هذه الثورات ثورتان قام بهما الزعيمان "مهاويرا" و"بوذا" وهما من طبقة "الكشتريا" التي ضجت من ظلم البراهمة، واضعي الهندوسية، وقد قاما بثورتيهما ضد الهندوسية، وأدخلوا بعض التعاليم الجديدة عليها، وأعلنوا ديانتين جديدتين هما: الجينية والبوذية. فالجينية: - هي مذهب "مهاويرا"- تنكر الإله، وتنادي بالمسالمة، ولا تعترف بالطبقات، إلا أن مبدأ المسألة أدى بأتباع مهاويرا إلى الإقرار بآلهة الهندوس للهندوس، واحترام عبادة البراهمة. وعلى العموم فالجينية دين يؤمن بالزهد، والتقشف، والفناء، والسلوك السوي، حتى تصل الروح إلى مرتبة "النجاة" التي تشبه مرتبة "الانطلاق"، وكل تعاليمهم المقدسة أتت من خطب "مهاويرا" ومريديه3، وكان انتشار هذا المذهب ضئيلا في العدد، انحصر في طبقة الكشتريا والمنبوذين. والبوذية: هي دعوة "بوذا" تلغي نظام الطبقات، وتدعو إلى الصبر، وتحمل الألم، ودعم قوة الذات؛ لتقهر سيطرة الشهوة والهوى وترفع النفس عن عالم

_ 1 تحقيق ما للهند من مقولة ص39. 2 أديان الهند الكبرى ص52. 3 أديان الهند الكبرى ص113 وما بعدها.

المادة، وكانت تنادي بالسلوك القويم حتى يمتزج الهندوسي مع "النرفانا" وهي تؤمن بتناسخ الأرواح، وإمكانية الوصول إلى "النرفانا"1، والاندماج معها كما حدث في الانطلاق والنجاة. أما فكرة البوذية عن الإله فقد تجاهلته تماما، ولم تتكلم عنه، ولم يشر بوذا إلى ذلك لا نفيا ولا إثباتا، بل كان يدعو إلى اكتشاف الألم، والبحث عن مصدره من أجل إعدامه لنزول الآلام، ويصل الإنسان إلى السعادة2. وكان صمت البوذية عن أفكار الألوهية الهندوسية، وقصرها إلغاء نظام الطبقات على من دخل البوذية، وتبسيطها العقائد -سببا في إقبال الناس عليها، وتمسكهم بأخلاقها، مع ولائهم لآلهة الهندوس، وكان هذا الوضع سببا في أن مظاهر البوذية لم تكن خالصة بها، بل كانت خليطا منها ومن الهندوسية، الأمر الذي جعلها محل تقبل في المجتمع الهندي، وسرعان ما اكتسبت تعاليم الهندوسية، وذابت فيها وقبلت من الناحية العملية لا النظرية نظام الطبقات الهندوسي. وأتى القرن السادس الميلادي على الهند والبوذية تنتشر بثقافاتها وأخلاقها وحضارتها، إلى عديد من الأماكن خارج الهند، فوصلت إلى البنغال والصين شرقا، وكشمير وكوريا شمالا3، وكان لاعتقاد الهندوس بتناسخ الأرواح أن عبدوا الحيوان، على أساس أن روحا قديمة تقمصته، فعبدوه على أساس أنه جد حقيقي، أو رمزي للأسرة، وأنه معطيهم الخير بلا مقابل4. وقد اتخذ العامة منهم الأصنام وجعلوها آلهة لهم5 يعبدون لها، ويتقربون إليها بقرابين، وهي عندهم تجسيد لشيء قوي وهام، وكانوا يسمون الصنم باسم

_ 1 أديان الهند الكبرى ص156 وما بعدها. 2 الله ص65. 3 أديان الهند الكبرى ص84. 4 الله ص61. 5 الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص267 وما بعدها.

القوة الغائبة عنهم، فصنعوا للشمس صنما، وللقمر آخر، وللنار مثل ذلك ... وهكذا. وقد أقاموا في بعض الأحيان بيوتا للأصنام يطوفون حولها، ويسجدون فيها، ويبدو أن هذه الأصنام هي من بقايا آلهة الهندوسية في بدائيتها، وقد بقيت عند العامة وفي عدد قليل من الشعب الهندي.

المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام

المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام أولا: شيوع الضلال الديني ... المبحث الخامس: ملاءمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام بالنظر إلى أوضاع العالم قبيل مجيء الإسلام -كما ظهرت في المباحث السابقة- نلمس مدى حاجته إلى دين ينقذه من ضلاله وهوانه، وقد تجلت رحمة الله تعالى بالناس؛ فجاء الإسلام بدعوته وعمل عمله في العقول والقلوب، وأخذ في صناعة العالم بمنهج الله تعالى. ويمكن إجمال أوضاع العالم التي جعلته ملائما لدعوة الإسلام في النقاط التالية: أولا: شيوع الضلال الديني يرحم الله عباده، وينزل عليهم كتبه، ويرسل فيهم رسله؛ ليخرجهم من ظلمات الشرك والكفر، إلى أنوار الحق والإيمان. وجاءت الرسالات تَتْرَى، فكلما احتاج الناس إلى الحق أتاهم رسول من قبل الله تعالى بالهداية والخير. ودائما تأتي الرسالة في إحدى الحالات التالية: 1- أن تكون الرسالة السابقة خاصة بقوم معينين، وحينئذ يحتاج غيرهم إلى رسالة أخرى. 2- وإما أن يتطور أتباع الرسالة فكريا أو اجتماعيا، مما يجعل الرسالة السابقة فيه قاصرة بتعاليمها عن ملاءمة التطور الجديد. 3- وإما أن تختفي معالم الرسالة السابقة، أو أغلبها لطول الزمن، مما يجعل أتباعها يعجزون عن معرفتها لتطبيقها. 4- وإما أن يقوم نفر من الناس بتحريف الرسالة الموجودة لغاية في أنفسهم، وحينئذ يحتاج الناس إلى رسالة صحيحة خالية من التحريف.

وللناس في كل حالة من الحالات المذكورة عذر في عدم الاتباع، وترك ما عندهم من رسالة؛ لأنها تكون قاصرة عن الحق، لا تمثل هدى الله للناس. فدين إبراهيم -عليه السلام- قبيل ظهور الإسلام لم يبقَ منه إلا بعض رموز لا تمثل شيئا من الحقيقة، وقد رأينا كيف امتلأت الكعبة بالأصنام، وكيف اخترع العرب ألوان الشرك، وابتدعوا صورا عديدة للعبادات، وزعموا أن ذلك من دين إبراهيم عليه السلام. ورأينا أهل الكتاب وقد أدخلوا في دين عيسى صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، وحرفوه وبدلوه وشغلوا أنفسهم بالمجادلات والمحاورات حول الألوهية والمسيح ومريم بما لا يفيد. ورأينا ما كان عند الهند وفارس من ضلال وفساد جعلهم يعبدون النار والحيوان وكافة مظاهر الطبيعة المخلوقة. كل هذا يؤكد الضلال الديني في العالم كله، ويؤكد حاجة الناس إلى دين ينقذهم من هذا الضياع الذي هم فيه، وفي رواية سلمان الفارسي عن قصة إسلامه دلالة واضحة على هذا الضلال الذي ساد العالم كله؛ لأنه عايش المجوسية والنصرانية واليهودية في هذا الزمان قبيل ظهور الإسلام. يروي ابن عباس عن سلمان الفارسي أنه قال: "كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من أهل قرية منها يقال لها: "جي"، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها، لا أتركها تخبو ساعة، وكان لأبي ضيعة عظيمة. شغل في بنيان له يوما، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فاطلع عليها، ودبر شئونها، وأمرني فيها ببعض ما يريد.

ثم قال لي: لا تحتبس علي، ولا تغب عني، فإنك إن احتبست علي كنت أهم من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري. فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري سبب حبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم، دخلت عيلهم أنظر ماذا يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها. فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. ثم رجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وقد شغلت عن عمله كله. فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبتِ مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زالت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، ودينك ودين آبائك خير منه. قلت: كلا والله، وإنه لخير من ديننا. فخافني، فجعل في رجلي قيد، ثم حبسني في بيته. وبعثت إلى النصارى وقلت لهم: إذا قدم عليكم من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، فأقبل عليهم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني. فقلت: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فآذنوني بهم. فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة.

فجئته فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك. قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له منها شيئًا اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه. فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جمعتم له منها أشياء جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعطِ المساكين منها شيئًا. قالوا: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه. فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وورقًا. فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه ثم رجموه بالحجارة، ثم جاءوا برجل آخر فجعلوه بمكانه. يقول سلمان: فما رأيت رجلًا يصلي أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلًا ونهارًا منه، فأحببته حبًّا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان، إني كنت معك، وأحببتك حبًّا لم أحبه أحدًا من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَن توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم علي ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجل بالموصل، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به. فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على مثل أمره.

فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خبر رجل "على أمر صاحبه"، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلانا أوصاني إليك وقد أمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان، فالحق به. قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب نصيبين، فجئته فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي. قال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت: يا فلان، إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته، فإنه على مثل أمرنا. فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري. فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على أمر أصحابه وهديهم، واكتسبت حتى صارت لي بقيرات وغنيمة. قال: ثم نزل به أمر الله عز وجل. قال: فلما حضر، قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، وأنه أوصى بي إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، إلى فلان، وأوصاني بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلم أحدا على ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجرة

إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل"1. ونلحظ من القصة ما كان عليه الفرس والنصارى، وما كان عليه الجميع من ضلال جعلت سلمان رضي الله عنه يترك موطنه، ودين آبائه، وينتقل في العديد من الأماكن باحثا عن الدين الحق، حتى وجده في مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومن رحمة الله بالناس أن جاءهم بالإسلام في وقت تلاقت فيه الأفهام، ونضجت العقول، وتشابهت في التوجه والتفكير، حتى صارت البشرية كيانا فكريا واحدا في مصاحبة دين الله الواحد، الذي جاء مناسبا للناس أجمعين. وقد ضمن الله دينه من التعاليم ما يجعله صالحا على الزمن كله لا يقصر عن غاية للناس إلى يوم القيامة، وحفظ الله دينه بثبوت الوحي الذي نزل به، وحقق الأسباب الموجبة لهذا الحفظ، الأمر الذي يؤكد استمرار الإسلام بين الناس كما أنزل من عند الله تعالى بلا تحريف أو غموض. إن الحقيقة التطبيقية تؤكد كفاية الإسلام للناس وعدم حاجتهم لدين جديد، وكل ما عليهم أن يعلموا دينهم، ويعملوا بما جاء به.

_ 1 رواه أحمد في المسند - الفتح الرباني - باب المناقب - باب ما جاء في سلمان ج22 ص261، والحاكم في مستدركه، والطبراني في الكبير بنحوه، يقول الهيثمي: رجال هذه الرواية رجال الصحيح، وقد صرح محمد بن إسحاق بالسماع فانتفت تهمة التدليس، وذكر البخاري في الصحيح أن قصة إسلام سلمان تناولها بضعة عشر سيدا.

ثانيا: هوان الإنسان

ثانيا: هوان الإنسان سيطر على العالم قبيل ظهور الإسلام وضع سيئ، ضيع حقوق الإنسان وحرمه من حريته وكرامته وسائر حقوقه. ففي كل مجتمع وجد العبيد والمنبوذون والضعفاء الذين يعيشون لخدمة السادة والرؤساء، لدرجة أن الإنسان الضعيف كان يعد جزءا من الأرض يملكه غيره كما يملك الحيوان والمتاع والعقار، وانقسمت المجتمعات جميعا إلى طبقات عديدة يتمتع من خلالها فريق الطبقة العليا بكل شيء، ويحرم الآخرون من أي شيء، ولذلك انتشرت الأحقاد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد. ومن العجيب أن استغلال الإنسان لغيره واستعباده لغاياته وأمانيه لبس ثوبا دينيا، فالطبقات العليا في فارس والهند هي آلهة الناس، وليس على الطبقات الدنيا إلا السمع والطاعة.. وفي الدولة الرومانية بقسميها شغل القياصرة الناس بأمور جدلية حول طبيعة المسيح وأمه، وحول الألوهية وصلة المسيح بالله.. ومع كل هذا الجدل كانت طبقة الكنيسة تملك كل شيء، فهي ظل الله في الأرض، وعليها المحافظة على ما للمسيح من قداسة وتقدير. وكان الولاة في كافة الأقاليم يرهقون الناس بدفع الضرائب، وتحصيل الإتاوات المختلفة بمسميات كثيرة، ويجبرونهم على ذلك، وإن كان فيما يدفعون معاشهم وحياتهم وحياة أبنائهم. وهكذا عاش إنسان هذا الزمان مقهورا مظلوما مستعبدا باسم دين العلية الحاكمة. وقد تذكر بعض الصور الأخلاقية الكريمة هنا، أو هناك، إلا أنها لا تدل على طبيعة العلاقات الاجتماعية بصورة عامة؛ لأنها صور وجدت في حياة الرؤساء والقادة، والطبقات العليا، ولم ير العامة منها شيئا. وهذا الوضع يفسر سر مسارعة الضعفاء إلى اعتناق الإسلام، والدخول في دين الله تعالى، لما رأوا فيه من عقيدة كاملة، ترضي العقل، وتشبع النفس، وتحقق للجميع الحرية والمساواة، في إطار الأخوة الدينية التي تؤكد على أن الناس سواسية لا يفضل أحدهم أخاه إلا بالتقوى، وجزاء الجميع عند الله تعالى.

ثالثا: سهولة التواصل

ثالثا: سهولة التواصل لم تستمر البشرية على بداوتها الأولى، ولكنها تقدمت تقدما هائلا في المدنية والتحضر المادي. وقد برز ذلك بوضوح في اكتشاف طرق الاتصال العديدة، التي ربطت العالم كله، وأصبح التجار يرحلون ببضائعهم إلى كل مكان في المعمورة، ويركبون البحر على اتساعه وعمقه، وصار شرق إفريقيا وبلاد الحبشة مرتبطا باليمن والجزيرة العربية، وتمكن تجار مكة من الرحلة بقوافلهم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا في يسر وأمان. ولم تعد المحيطات حاجزا يمنع من التنقل، وإنما ساهمت الصناعات العديدة في تحقيق التواصل، وسهولة الانتقال من مكان إلى مكان. صحيح أن التواصل لم يكن سلاما كله، فلقد نشأت الحروب، وسيطر الأقوياء على الضعفاء، وتحولت البلاد الصغيرة إلى ولايات تابعة للفرس أو للروم، تستغل خيرها، وتسخر أصحابها لخدمتهم ومصالحهم. ومع ذلك ففي التواصل كسب مادي، وارتقاء عقلي، ومعرفة عبادات وفكر الآخرين. وكثيرا ما انتقلت العادات والأفكار والمذاهب مع هؤلاء المسافرين. وقد حاول القسس والأباطرة الاستفادة بهذه التطورات المدنية، فعقدوا المؤتمرات والمجامع العالمية التي كان يحضرها الآلاف منهم في كنائس مصر، أو في بيت المقدس، أو في الشام، أو في أوربا، بسهولة وأمان. وهاجر المسلمون إلى الحبشة وكأنها بلد مجاور لمكة.. وظهر في كل إقليم من يتقن المعرفة بالطرق، وقيادة القوافل في الرحلة والحركة. ولما جاء الإسلام ساهمت هذه الخاصية في نشر الدعوة وتبليغها للناس في كل مكان؛ حيث تمكن الدعاة من الوصول إلى كل مكان قصدوا التبليغ فيه؛ لأن الطريق معروف لهم، ومخاطبة أهل البلاد أمر عادي لسابق إحاطتهم بلغتهم وعاداتهم.

وقد ساعد هذا التواصل على سرعة انتقال الأفكار والأخبار؛ ولذلك كان كل فريق يعرف أخبار الآخرين، وكانت العقائد والأديان والمذاهب الخاصة بجماعة ما معلومة لغيرهم من الناس. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم انتشر خبره في الجزيرة العربية، وفي العالم كله؛ ولذلك جاءت الوفود إلى مكة لاكتشاف أخبار الدعوة الجديدة، فلما رأوا موقف أهل مكة انتظروا نتائج صراعهم مع الدعوة، فلما فتحت مكة دخلت الجزيرة كلها في دين الله تعالى..

رابعا: تعدد الصراع

رابعا: تعدد الصراع ساد العالم في هذا الزمان صراع عام، فلم تخلُ أمة أو منطقة منه، سواء كان الصراع بين عناصر الأمة الواحدة، أو بينها ويبن غيرها، وأهم ما تميز به هذا العصر هو تكرار الصراع تكررا متلاحقا فمنهزم اليوم ينتصرغدا، وهكذا دواليك من غير توقف، وغالبا ما كان الصراع بسبب سياسي أو اقتصادي أو ديني تبعا لاختلاف البيئات، ففي البيئة العربية لم ينشأ صراع بسبب السلطة خاصة بعد أن وزع "قصي" الأعمال بين القبائل وجعلها فيهم وراثية، وإنما كان صراع العرب بسبب الاقتصاد في أكثر الأحيان. وفي البيئة الرومانية كان سبب الصراع ينحصر في الدين والسياسة. وفي الفرس والحبشة كان السبب في الدين. وفي الهند كان السبب في نظام الطبقات المعروف فيهم. وقد ساد الصراع الداخلي سائر الأمم، ففي الدولة الرومانية الشرقية قامت ثورات عدة أشهرها ثورة الزرق والخضر أثناء حكم جستنيان سنة 532م التي طالبت بإقصاء وزير المالية وإجراء تعديلات كثيرة، وقد قضى جستنيان على هذه الثورة بإراقة دماء كثيرة وصلت إلى قتل خمسة وثلاثين ألفا1.

_ 1 الإمبراطورية البيزنطية ص60-63.

وفي الرومانية الغربية نشأت دولة جرمانية، وقامت ثورات عدة وحروب كثيرة، من أشهرها في بلاد الغال "فرنسا" حيث ظهر الصراع بين كلوفسي وسيجاريوس، والثورنجيين، والبرجنديين، واللأليمان1، وكان هناك صراع في إيطاليا2 وبين البربر في شمال إفريقيا3. وبين العرب كانت أيامهم كيوم داحس الذي استمر مدة طويلة، وكذلك حرب حالب، ويوم بعاث بين الأوس والخزرج، وقد استمرت إلى قبيل الإسلام. وفي فارس كان الصراع مستحكما بين أفراد البيت الواحد، بين الأب وبين الابن، ومما ساعد على ازدهار الصراع في الفرس ظهور مذهب "ماني" القائم على الشيوعية المطلقة. ومع الصراع الإقليمي وُجد الصراع الدولي بين الفرس والروم؛ إذ كانت الحرب مستعرة بينهما على الدوام في أطراف الجزيرة العربية جنوبا في اليمن، وشمالا بين الغساسنة والمناذرة. إن الصراع بكافة أشكاله وصوره يؤدي حتما إلى تغيرات اجتماعية، سواء كانت هذه التغييرات متجهة إلى التقدم، أو إلى التأخر، وقد سلم علماء الاجتماع بضرورة هذه التغييرات4، إلا أنها تتجه عندهم في النهاية إلى التطور والتقدم، يقول إيمانول كانت: إن القوة التي تدفع التاريخ إلى التطور هي الصراع، وهيجل يرى أن التعارض هو أهم مؤثر في العلاقات الإنسانية، وأن حركة التطور الاجتماعي ما هي إلا النماء المستمر للأضداد ثم اندماجها في النهاية لإيجاد مرحلة من التطور5.

_ 1 المسلمون والجرمان ص37. 2 نفس المرجع ص30. 3 نفس المرجع ص25. 4 أصول علم الاجتماع ص220. 5 أصول علم الاجتماع ص85.

ومن التغييرات التي يمكن أن تحدث بعد أي صراع ظهور قُوَى جديدة، وبروز أفراد يقابلون المخاطر بفهم وشجاعة، كما أن التفتح الذهني يجعل المتصارعين لا يتعصبون لشيء معين، ويبحثون عن أية قيمة إنسانية تخلصهم من هذا الصراع، فإن الطبقة المستضعفة تتمنى الخلاص والهروب مما هي فيه. وقد استفادت الدعوة الإسلامية من كل هذا؛ لأن القوى الجديدة التي ظهرت كانت ركيزة لانطلاق الدعوة ونشرها، وكان أتباع الدعوة الأول من هذه الفئات الجديدة التي لا تتعصب لمواريث قديمة. وأيضا فإن الانفتاح الذهني وذوبان التعصب الأعمى يفيدان الدعوة في كثير، فبالذهن الصافي تفهم التعاليم والأفكار، وبذوبان التعصب تتخلص الدعوة من عدو بغيض يقف في طريقها. إن فكرة البحث عن قيمة راقية، وخلاص للضعفاء، وجدا في الدعوة بغيتهما، فكان الضعفاء هم أتباع الدعوة في العرب وفي كل مكان؛ لأنهم بها يتخلصون من مهانة الرق، وذل الطبقية، وضعة المنبوذين، وبها كذلك لا يتجهون بالتعظيم والتقديس إلى شخص ما، لا ينالهم منه سوى الظلم والجبروت والتعالي، وإنما يتجهون إلى الله الخالق، صاحب النعم كلها، الذي يملك الخلق كله، ويحيط به علما، وإرادة، وقدرة، ويوزع رحمته على جميع الناس، ويأمر في الدعوة بالقيم الراقية، والسلوك الممتاز، ويحث على إقامة أخوة صادقة، ومساواة حقيقية، وعدل في الكسب والعمل. إن وضعية الضعفاء تتفق لأول وهلة مع روح الدعوة ومبادئها، والمتصارعون يجدون بغيتهم في الدعوة؛ لأنها تهدم سبب صراعهم، وتؤاخي بينهم بالحسنى، وتعوِّدهم على الألفة والخير. إن صراعات هذا الزمن تميزت عن كل ما سبقها بالشمول والعمق؛ حيث اتنشرت في العالم كله، بشكل مستمر، ومتجدد، كما أنها لامست سائر حياة الناس

وعاشت في نفوسهم وأحلامهم؛ ولذلك كانت نهايتها أمنية صادقة على مستوى هذا الشمول وهذا العمق، فلما جاءت الدعوة الإسلامية هادفة إلى تغيير جذري في المجتمع، وإزالة الصراع والآلام من حياة الناس، وتحرير العبيد، والمنبوذين، والأُجَراء من وضعهم البائس، ووضعهم في الإطار النظيف الذي وضعته للناس أجمعين بما فيه من كرامة وحرية ومساواة، لما جاءت هكذا آمن بها الجميع وانتشرت بسرعة عجيبة قوية.

خامسا: النضج الفكري

خامسا: النضج الفكري شاهد القرن السادس الميلادي تطورا عقليا في كل أرجاء المعمورة بشكل لم يعهده الناس من قبل حتى كأن البشر قد ترقوا من طفولتهم الذهنية إلى مرحلة بلغ فيها الإنسان أشده -كما يقول الشيخ/ محمد عبده1- ولعل المراد من النضج العقلي المذكور هو وصول الإنسان إلى التفكير الكلي المنظم، الذي يستنتج من المحسوس، ومن القضايا العقلية أشياء أخرى غيرها، وينظر الحياة نظرة فيها الرضى القائم على التحليل والنقد، أو السخط المعتمد على الدليل والمناقشة، ويحاول دائما السمو إلى العلا والتقدم. إن طفولة الإنسان كانت تقوم على المحسوس فقط، تنبهر بالعجائب، وتندهش بالظواهر الخارقة كعهدها مع الرسالات السابقة؛ لأن الخوارق إليهم كانت حسية، كانوا يؤمنون بعدها خائفين ومندهشين، كما حدث لما أحيا المسيح شابا في مدينة "نايين" فقد أخذ الجميع خوف ومجدوا الله قائلين: قدم قام فينا نبي عظيم وافتقد الله شعبه2. ولقد كان عصر الدعوة الإسلامية يوافقه عصر نضج عقلي واضح، ساد العالم كله، وقد تجلى هذا الواقع في نقد ظهر في كل مكان، متجها إلى العقيدة

_ 1 رسالة التوحيد ص155. 2 إنجيل لوقا - الإصحاح السابع - فقرات 14-16.

الدينية وأوهامها، ولم تجد العلماء مشقة أمام الخوض فيما كان ممنوعا من قبل باسم الحق المقدس لرجال الدين وعقائدهم على اختلاف أممهم وأديانهم. ففي العالم المسيحي الواسع بدأت الأصوات ترتفع ضد أوضاع لا تتفق مع الطبيعة العقلية، من أمثال المناداة بألوهية المسيح، وتركبه من طبيعتين، مع إصرار هذه الأصوات على مذهب الفطرة القائل ببشرية المسيح، وتكونه من طبيعة إنسانية واحدة، وقد اختار الله ليكون رسولا نبيا، من قبل الإله الواحد، وأحاطه بالخوارق التي لا توجد مع الناس دفعا إلى تصديقه في دعواه، وما دفعهم إلى هذا الرأي إلا عقلهم الذي أبى التصديق بما هو وهم وخيال، ولأن تصور أصحاب مذهب الطبيعتين تصور ينهار أمام النظرة الفاحصة، وقد حدثت لهذه المعارضات أحداث خطيرة في كل العالم المسيحي انعقدت لها مجامع عدة، على النحو الذي سبق ذكره. ولم يكن المنادون بمذهب التوحيد عددا قليلا، يقول إن البطريق: "إن الذنب ليس على "أريوس"، وهو رأس المنادين بالتوحيد، بل على فئات أخرى سبقته فأخذ هو عنها، ولكن تأثير تلك الفئات لم يكن شديدا كما كان تأثير "أريوس" الذي جعل الكثيرين ينكرون سر الألوهية، حتى انتشر هذا الرأي وعم"1، وهذا دليل على نضج عقلي وجد بين المسيحيين، جعلهم يحاولون إصلاح معتقداتهم. ومن الملاحظ أن المسيحيين الذين عارضوا الإصلاح احتموا أيضا بعقلهم وحاولوا التدليل على صدق معتقدهم بأدلة جدلية في صورة تشبيه عقلي، وهذه إن دلت فإنها تدل على تقدم ذهني، وفهم إدراكي، فيه نوع من التجريد والعقل، يقول الشهرستاني عنهم: "ولهم في كيفية الاتحاد والتجسد كلام، فمنهم من قال: أشرف على الجسد إشراق النور على الجسم المشف، ومنهم من قال: انطبع فيه انطباع النقش في الشمع، ومنهم من قال: ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني،

_ 1 محاضرات في النصرانية ص123.

ومنهم من قال: تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء، والماء اللبن"1. فهذه الأدلة مع ما فيها تدل على تقدم فكري معين، ويكفي أنها من أنصار التعصب المسيحي الذين آمنوا بألوهية المسيح، وحاولوا جعل هذه الألوهية فكرة مستساغة أمام العقل، فأتوا بهذه التشبيهات ليقربوا فكرة اتحاد الألوهية مع الإنسانية. ولو تركنا عالم المسيحية إلى غيرها لوجدنا أن الهنود قد أيدوا ثورة "بوذا" على الهندوكية في بعض تعالميمها، ومحاولتها تبسيط العقائد، والاهتمام بالأخلاق والعودة إلى الفطرة، كما أن الهنود قبيل مجيء الدعوة الإسلامية كانوا يتجهون لواحد من الآلهة، ويخصونه باسم: "رب الأرباب" و"إله الآلهة"2، وهذا نوع من التوحيد لم يعهده الهنود من قبل، فلقد كانوا دائمًا يعددون الآلهة، ويقدسون كثيرًا من مظاهر الطبيعة، بلا التفات إلى حقيقتها، أو فهم لمعنى عبادتهم لها، إلا أنهم في هذا العصر بسبب النضوج تمكنوا من تخطي الردة العقلية، والقرب من توحيد الآلهة. وفي الجزيرة العربية وعلى الرغم من تعمق القوم في تقديس الأصنام، وتعظيم الحجر، فإن النضج الذي اتسم به العصر بدأ يظهر في العرب؛ إذ اتجهوا بعقولهم إلى حياتهم ينظرون فيها، ويضعون لها نظامًا يكفل الأمن والسلام، ويقلل الصراع والشرور؛ ولذلك نظموا نشاطهم خلال السنة فأحاطوا بفصولها، ونظموا التجارة على وفق هذه الفصول، وأقاموا أسواقًا تدور مع أيام السنة، وفي جميع أماكن الجزيرة، وحتى يحققوا أكبر فائدة من هذه الأسواق جعلوها مكانًا للكسب المادي، وتقوية للشعور القومي، وللتسابق اللغوي والأدبي، وكأنها مؤتمرات تمهد لوحدة مقبلة. وظهرت دقة تنظيم هذه الأسواق في اختيار الأمكنة والأزمنة، فعن الأمكنة وزعوها في ملتقى جميع أبناء الجزيرة، وعن الأزمنة جعلوها في الأشهر الحرم، وبهذه

_ 1 الملل والنحل ج1 ص201. 2 ملامح الهند والباكستان ص143.

الدقة ضمنوا لأنفسهم الحركة الآمنة، والقول الجريء، والنقد الحر، وكل هذه أسباب تجعل العقل ينمو باطراد، وخصوا الأسواق الهامة بشهري ذي القعدة وذي الحجة؛ إذ جعلوا سوق "عكاظ" في أول شهر ذي القعدة، و"المجنة" في آخره، وذي المجاز وعرفة في شهر ذي الحجة1؛ ربطا للدنيا بالدين؛ إذ يُقْدِم الحجاج في هذا الوقت من كل صوب قاصدين مكة، والكعبة، فيعيشون هذه الأسواق، ويكتسبون مع شعورهم الديني بعض معاشهم. ولعل أوضح مظاهر النضج العقلي عند العرب ظاهرة الحنفاء، الذين أخذوا يحللون بعمق وفهم فساد ما عليه الناس، ويبينون الحاجة إلى دين يعرف بالخالق، ويكتشفون الطريق إليه، مدللين على اتجاههم بما وقعت عليه حواسهم من مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، وليل داج، ونهار ساج، وقد وصلت هذه الجماعة برجاحة عقلها إلى بعض شريعة إبراهيم عليه السلام. وفي الحق لقد وصل النضج الفكري إلى مستوى ممتاز، ناسب ظهور الدعوة الخاتمة بمعجزتها التي جعلها الله تعالى في قرآنه الكريم، الذي نزل للناس، يؤمن بالكلمة ويخاطب العقول، ويهتم بالمعاني والأفكار، وينقل الإنسان من عالم الحس إلى عالم الغيب والإيمان به، مع اشتماله على وسائل تتعدد أمام الفكر، تؤكد وتجادل، وتقرب وتيسر، قاصدة الإقناع العقلي، واليقين النفسي، والثبات مع الروح والوجدان، أكثر من ثباتها مع الانفعالات والأحاسيس. يقول الشيخ/ رشيد رضا: إن الله جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها؛ لأن البشر قد بدءوا يدخلون بها في سن الرشد والاستقلال النوعي، الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع من تصدر منهم أمور مخالفة للنظام الكوني، وإنما جعل الله تعالى حجة نبيه كتابه المعجز للبشر، بهدايته

_ 1 أخبار مكة ج1 ص121، 122 بتصرف.

وعلومه، وبإعجازه اللفظي والمعنوي؛ ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال1. وقد جعل الله معجزة الإسلام هكذا لتتلاءم مع طبيعة البشر العقلية، ودائما يجعل الله المعجزة من جنس ما تفوق فيه البشر الذين تأتيهم هذه المعجزة، حتى يتمكنوا من تبيان صدق الرسول في دعواه، وينظروا إلى ما جاءهم به، ويعلموا أنه وحي من الله، ودليلهم المعجزة التي يعرفونها يقينا؛ حيث تفوقوا في جنسها ونوعها كما ظهرت لهم. إن معجزة موسى -عليه السلام- في قوم اشتهروا بالسحر كانت قلب العصا ثعبانا، وإخراج اليد بيضاء من تحت الجناح، ومعجزة عيسى -عليه السلام- إلى قوم اشتهروا بالطب هي إحياء الموتى وإبراء الكمه والأبرص، فكان لزاما أن تأتي معجزه الإسلام على هذه السنة، ما دام العالم كله على وجه العموم في موجة رشيدة من النضج الفكري. وكان العرب على الخصوص أكثر اهتماما بصناعة اللسان، وعلوم البلاغة والفصاحة2؛ ولذا كانت المعجزة هي القرآن الكريم مناسبة لهذا النضج، ومراعاة للبلاغة والفصاحة، ليؤمن العرب سراعا بها وينطلقوا حاملين الدعوة إلى كل العالم مقدرين نضجه الذي ساعد على أن تكون الرسالة عامة وخاتمة. ومع ما في القرآن الكريم من إعجاز لغوي ناسب العرب الذي نزل بلغتهم، فإنه يشتمل على وجوه عدة للإعجاز تناسب كافة الأمم؛ لأن الرسول بعث للعالم كله، ففي القرآن من وجوه الإعجاز الكثير، منها: - الإعجاز التاريخي بما فيه من بيان لتاريخ السابقين وآثارهم ومللهم ونحلهم؛ ليناسب أهل الحضارات المهتمين بالتاريخ.

_ 1 الوحي المحمدي ص61. 2 توضيح العقائد ص172.

- الإعجاز العلمي، مثل إيراد بعض الإشارات عن الحديد، وألوان الصناعات. - الإعجاز الفلكي، مثل الحديث عن الشمس والقمر والليل والنهار. - الإعجاز البيئي، مثل الحديث عن الزراعة، والحيوان، والنهر، والبحر. - الإعجاز النفسي والاجتماعي.

سادسا: انتظار رسول جديد

سادسا: انتظار رسول جديد ... سادسا: انتظار رسول الله جديد كان للنضج الذي ساعد العالم، وكثرة الصراع وتنوعه، وسهولة الاتصال، وتلاقي الأفكار قبيل مجيء الدعوة الإسلامية أن ظهرت موجة من النقد للعقائد يومذاك. إن النقد على العموم ظاهرة تدل على عدم اكتمال الثقة في العقائد التي يتوجه النقد إليها، ومن هنا صاحب عملية النقد شعور بقرب ظهور نبي من العرب يصلح فساد هذا العالم، ويضع الحقيقة الفاصلة في مسألة العقيدة والسلوك، وكل ما يعتقده الناس في الأصنام، ويطلبونه منها. وقد وصل هذا الشعور إلى حد الاحتمال المؤكد لدرجة أن اليهود في المدينة "يثرب" كانوا ينتظرون هذا النبي على وجه اليقين، وكثيرا ما ذكروا لجيرانهم من الأوس والخزرج أنهم سيتبعون هذا النبي صلى الله عليه وسلم فور ظهوره ليتمكنوا به من سيادة العالم وتملك الناس، وقتل الأوس والخزرج قتل عاد وإرم، والقرآن الكريم يقص ما كان منهم في هذا الشأن بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 1.

_ 1 سورة البقرة آية 89.

فهم كانوا يعرفون مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أن زمانه قد حان، فعن محمد بن إسحاق عن عاصم بن قتادة عن أشياخه: أن اليهود في المدينة كانت تقول للأوس والخزرج: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم1. يقول ابن عباس: إن اليهود في المدينة كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه2. ورأي اليهود له قيمته عند جيرانهم قبل البعثة؛ لأنه قد اشتهر عنهم معرفتهم ببعض أسرار الوحي وعلاماته، فلقد رووا أن مشركي مكة لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم فيهم أرسلوا وفدا منهم يسأل اليهود عن رأيهم في هذا الرسول الذي أتاهم ودعاهم بدعوته، وكان الوفد مكونا من النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط3، ولم تكن هذه المعرفة خاصة بيهود المدينة وحدهم، فلقد انتشر خبرها في أماكن كثيرة، وصلت إلى أقصى الشمال، لدرجة أن سلمان الفارسي حينما أراد أن يترك المجوسية، ويبحث عن الدين الحق، قال له كاهن عمورية: إنه قد أظل زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم -عليه السلام- يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، وبه علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة4، وليس ذلك بكثير على علماء اليهود والنصارى؛ لأنهم {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} 5. جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية أن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وجدت في التوراة والإنجيل، ولم تزل صفاته موجودة يعرفها العلماء والأحبار6 من أهل الكتاب.

_ 1 الكشاف ج1 ص296. 2 تفسير ابن كثير ج1 ص213 هامش فتح البيان. 3 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص320. 4 نفس المرجع ج1 ص237. 5 سورة الأعراف من آية 157. 6 تفسير ابن كثير ج4 ص248 هامش فتح البيان.

وكما وصل خبر ظهور نبي إلى أقصى الشمال وصل كذلك إلى أقصى الجنوب، فلقد روي الأزرقي أنه لما ذهبت القبائل العربية لتهنئة حمير أفضى سيف بن ذي يزن لعبد المطلب بما علمه من كتبه، من أن نبيا سوف يظهر في العرب يضمن الزعامة لقريش إلى يوم القيامة1. وهكذا ظهرت ملامح النبوة المحمدية في عقول الناس، وفي كثير من الأماكن، وهذه الملامح في حد ذاتها تمهد للدعوة، وتدعو إلى استماعها بشوق، خاصة وقد وقعت أحداث كثيرة، جعلت الناس يرجون التغيير على يد هذا الرسول المنتظر الذي كاد أن يلمس في طفولته؛ لوضوح صفته في الكتب السابقة، بل إن بحيرى الراهب عرفه وهو صغير، يروي ابن هشام قاصا ما حدث من بحيرى فيذكر أنه أعد طعاما لقافلة قريش، وفيها أبو طالب، ومحمد -وهو صغير- ودعاهم فحضروا جميعا إلا محمدا؛ لصغر سنه، لكن بحيرى أصر على حضوره، فلما حضر أخذ يسأله عن أشياء كثيرة، وأخيرا قال لعمه أبي طالب: ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده2، ولا غرابة في تحديد بحيرى للنبي صلى الله عليه وسلم في طفولته؛ لأنه ممن يعرف صفته الموجودة في التوراة والإنجيل. إن عديدا من الرهبان في أديرتهم، والقسس في كنائسهم، كانوا يدركون هذه الحقيقة، ويتحدثون بها لمن يمر بهم، وفي مكة نفسها كان كعب بن لؤي بن غالب يذكر بالنبوة ويبشر بها أهل مكة ويقول لهم: "زينوا حرمكم وعظموه فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم"3. إن تجمع انتظار رسول الله جديد، مع موجة النقد السائدة ضد العقائد، والمذاهب على يد الحنفاء، وأتباع أريوس "والبوذية"، مع وجود الصراع والتنافس

_ 1 أخبار مكة ج1 ص94، 95، 96. 2 سيرة النبي ج1 ص194-196 بتصرف. 3 بلوغ الأرب ج1 ص271.

وسرعة الحركة والاتصال، أدى فائدة عظمى للدعوة الإسلامية ساعدت على انتشارها، وما لاحظناه من معارضات للدعوة بعد ظهورها فمنشؤه التعصب، ومحاولة المحافظة على القديم الموروث، وبقايا صراعات قبلية قديمة، كما حدث من الأمويين، فإنهم تأخروا عن الدخول في الإسلام بسبب كون النبي من بني هاشم، لدرجة أن أبا سفيان الأموي حمل المعارضة للنبي في مكة بلا سبب غير التنافس بين الهاشميين والأمويين، وكانت "أم جميلة بنت حرب زوجة أبي لهب" تحمل الحطب، وتضعه أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي طريقه، وكانت تقول عنه صلى الله عليه وسلم: مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا1 كانت مدفوعة بالعصبية بسبب كونها أختا لأبي سفيان الأموي2، فدفعها التعصب إلى هذه الحملة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما المانع إذن أن يكون موقف زوجها أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم من تأثيرها فيه؟! وكذلك فإن أصحاب المصلحة في مكة عارضوا الدعوة حفاظا على وضعهم. لكن.. وهل تجدي الحيل الإنسانية أمام الإرادة الإلهية التي قدرت ظهور الدعوة واختارت لها هذا الزمان الذي تميز بالصراع والنضج وانتظار الرسالة؛ لكي تنتشر الدعوة، وتظهر على الأديان كلها بقدرة الله وعلى سنن البشر؟ وهل تمحو الحيل الشيطانية من واقع الحياة وأفكار الناس ما قدره الله في كافة الشئون والأحوال والأعمال؟ إن قدر الله غالب، وقضاءه نافذ، وإرادته شاءت أن تجيء الدعوة إلى الله تعالى في هذا الزمان بما فيه من خصائص وصفات.

_ 1 سيرة النبي ج1 ص379. 2 تفسير أبي السعود ج5 ص291.

الفصل الثاني: السيرة النبوية

الفصل الثاني: السيرة النبوية تمهيد: محمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الإسلام، وهو المبعوث بدين الله الخاتم إلى الناس أجمعين.. ولد بمكة، ونشأ وتربَّى في بادية العرب، وجاءه الوحي من الله على رأس الأربعين، وعاش رسالته داعيا إلى الله تعالى بمكة قبل الهجرة، وبالمدينة بعدها، وبلَّغ ما كلف به إلى العالم كله، ولم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وكمل الدين، وتمت نعمة الله للعالمين. وتعد سيرته صلى الله عليه وسلم دراسة لنموذج الإنسان الكامل الذي يجب أن يُحتذى، وأن يكون أسوة وقدوة لمن أراد الفوز والفلاح. واتباعا للمنهج الذي رسمتُه في دراسة تاريخ الدعوة، فإني أعقد هذا الفصل في التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن جعلت الفصل الأول في التعريف بالعالم الذي بُعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الرسالة اختيار إلهي محض، لا دخل فيه لأمنيات بشر، ولا لطلب مخلوق، ويوم أن تمنى كفار مكة النبوة لبعضهم {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1، متمنين بذلك أن تكون الرسالة في أحد رجال القريتين -مكة أو الطائف- ليقوم بها رجل عظيم مشهور فيهم بغناه، أو بجاهه، أو بغير ذلك، يريدونه الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم من مكة، وهو ابن عم أبي جهل، وكان يُعرف بريحانة قريش، أو أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف2.

_ 1 سورة الزخرف آية 31. 2 هذا ما قاله قتادة، ويذكر مجاهد أن الرجلين هما: عتبة بن ربيعة من مكة، وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف، ويذكر ابن عباس أن عظيم الطائف هو حبيب بن عمرو الثقفي، ويذكر السدي أن عظيم مكة هو كنانة بن عبد عمرو "تفسير القرطبي ج16 ص83".

يوم طلب كفار مكة ذلك قال الله تعالى عنهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1، وبذلك أبطل الله أمنيات هؤلاء القوم وأمثالهم، ووضح لهم أن الرسالة والنبوة لا تكون لمن شاءه الناس، وإنما لمن أراده الله واختاره، ولا دخل لبشر في هذا الاختيار. وبيَّن سبحانه في هذه الآية أيضًا أن أوضاع الناس المعيشية قسمة إلهية، تسير وفق إرادة الله وقدرته، لأسباب لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وليس لها ارتباط بالعظمة أو بالحقارة، وليست نتاجًا لمجرد العمل، وعلى الناس أن يعلموا أن النبوة خير ما يعطاه إنسان في الدنيا، بل هي أعظم من كل الخير إذا اجتمع، فإذا ما آتاها الله إنسانًا فإنه يعظم، ويعلو باختيار الله إياه، وقد اختار الله لرسالته الخاتمة العالمية محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 2، ولذلك قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} 3، ويقول سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} 4، وعلى ذلك فهو صلى الله عليه وسلم أعظم العرب قاطبة، وأعظم البشر أجمعين. وإني لموقن بأن حكمة الله في اختيار رسوله محمد صلى الله عليه وسلم للرسالة لا يمكن لبشر أن يدركها إدراكًا كليًّا، وأرى في نفس الوقت أن في مقدور البشر أن يعلموا شيئًا من هذه الحكمة، وبخاصة بعد انكشاف شيء من أسرارها خلال الحركة بالرسالة والإسلام.

_ 1 سورة الزخرف آية 32. 2 سورة الأنعام آية 124. 3 سورة القصص آية 68. 4 سورة الحج آية 75.

إن الخصائص التي تَميَّز بها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وظهرت خلال قيامه بالدعوة عديدة، وشاملة لكافة جوانب شخصيته، ومتأصلة في أصوله وجذوره، وملازمة له في تربيته ونشأته، وملموسة في سائر أعماله، وأقواله، وأمانيه، وأمانته، وسلوكه مع نفسه، ومع أسرته، ومع الناس أجمعين. ولولا أن الرسالة والنبوة اصطفاء وإحسان من الله لقلنا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم اكتسبها بخصائصه، ونالها بأعماله وجهاده، لكن جمهور علماء المسلمين -ونحن معهم- يجمعون على أن الرسالة لا تكتسب، وإنما يخلق الله الناس، ويختار منهم رسوله، ويهبه من لدنه استعدادا خاصا، يجعله أهلا لهذا الاختيار، قادرا على تحمل أمانة التبليغ والدعوة. والاختيار بهذه الكيفية رحمة من الله بالناس؛ إذ به جرت الأمور بين الخلق على وفق سننه في الكون، فلم يفاجئهم بشخص سيئ، ولم يدعهم إلى أمر شاذ لا يتصور ولا يعقل. وبمتابعة خصائص الشخصية المحمدية نبدأ من الأصول والجذور، لنرى كيف أودع الله فيه يجعلنا نؤمن بحكمة الله في هذا الاختيار، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1. وفي هذا الفصل سأتناول الحديث عن سيرته صلى الله عليه وسلم من مولده، ومرورا بنشأته، وزواجه، ومبعثه، وتكريم الله له، ومعونته إياه، في مباحث متتابعة حتى نصل إلى الهجرة إلى المدينة المنورة نهاية المرحلة المكية. وسوف أعتمد -بإذن الله تعالى- على ما رواه المؤرخون، وعلماء السير، وبخاصة ما صح منها. وسوف تكون الأحداث ممثلة للسيرة النبوية بكمالها في عدد من المباحث، وذلك فيما يلي:

_ 1 سورة الأنعام آية 124.

المبحث الأول: النسب الشريف

المبحث الأول: النسب الشريف مدخل ... المبحث الأول: النسب الشريف رسول الله صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، فنسب أبيه وأمه صلى الله عليه وسلم يلتقيان في كلاب. وكلاب هو ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مضر بن عدنان. ونسبه صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه ومن جهة أمه مجمع عليه إلى عدنان، وما فوق ذلك فمختلَف فيه، والكل يجمع على أنه صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام. ونسبه صلى الله عليه وسلم كريم، جامع لسائر أسباب الفضل والرفعة. فأبوه "عبد الله" أصغر أبناء عبد المطلب وأقربهم إلى قلبه، يُكْنَى بأبي القثم وأبي محمد وأبي أحمد، ويلقب بالذبيح. وسبب هذا اللقب أن عدي بن نوفل بن عبد مناف، والد المطعم قال له: يا عبد المطلب، أتستطيل علينا وأنت فذ ولا ولد لك؟ فقال عبد المطلب: أبا لقلة تعيرني؟ فوالله لئن أتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة1. فلما توافى بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك، فأطاعوه وقالوا: أوفِ بنذرك، وافعل ما شئت.

_ 1 طبقات ابن سعد ج1 ص53.

قال لهم: ليأخذ كل رجل منكم قدحا، ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني ففعلوا. فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه، وأخبره بنذره الذي نذر، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه، فخرج السهم على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده وحد الشفرة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها وقالوا: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، فذهبوا إلى عرافة خيبر فقالت لهم: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل. قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى بكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم، ونجا صاحبكم، ففعلوا ذلك حتى بلغت الإبل مائة. فقالت قريش: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية والثالثة، وعبد المطلب قائم يدعو الله فخرج القدح في كلتيهما على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع1. يروي ابن كثير بسنده أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يابن الذبيحين، فتبسم رسول الله، ولم ينكر عليه ... فقيل لمعاوية: مَن الذبيحان؟ قال: إسماعيل وعبد الله2.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص155. 2 قصص الأنبياء لابن كثير ج1 ص217.

تميز عبد الله بالعفة والطهر وحسن الخلق، رووا أن كاهنة بمكة يقال لها: فاطمة بنت مر الخثعمية، مر بها عبد المطلب، ومعه ابنه عبد الله أن يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب، فرأت نور النبوة في وجد عبد الله، فقالت: هل لك أن تغشاني وتأخذ مائة من الإبل، فعصمه الله تعالى من إجابتها، وقال لها: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فاستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه فلما تزوجت آمنة عبد الله، وحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، مر عبد الله على الكاهنة مرة أخرى، وقال لها: هل لك فيما طلبت؟! فنظرت إليه، ولم ترَ ذلك النور في وجهه فقالت له: قد كان ذلك أول مرة، أما اليوم لا، ماذا صنعت؟ فقال: زوجني أبي آمنة بنت وهب الزهرية. فقالت: قد أخذت النور الذي كان في وجهك، وأنشأت تقول: الآن قد ضيعت ما كان ظاهرا ... عليك وفارقت الضياء المباركا غدوت علي خاليا فبذلته ... لغيري هنيئا فالحقن بنسائكا ولا تحسبن اليوم أمس وليتني ... رزقت غلاما منك في مثل حالكا وداخلها الأسف على ما فاتها، والحسرة على ما تولى عنها1. وكان عبد الله بارا بأبيه، مطيعا له، يروي ابن إسحاق أن عبد الله حين انصرافه مع أبيه بعد الذبح مر على امرأة من بني أسد، وهي أخت ورقة بن نوفل، فنظرت إلى وجهه وقالت له: أين تذهب يا عبد الله؟ قال لها: معي أبي. قالت له: لك مثل الإبل التي نحرت عنك، وقع علي نكاحا الآن.

_ 1 أعلام النبوة للماوردي ص146.

قال لها: أنا معي أبي، ولا أستطيع خلافه، ولا فراقه1. فأخذه أبوه عبد المطلب، وذهب به إلى وهب بن عبد مناف وزوجه ابنته آمنة بنت وهب، وهي يومئذ أفضل نساء قريش نسبا وموضعا. ورسول الله هو الابن الوحيد لعبد الله وآمنة، وقد مات أبوه قبل مولده، وماتت أمه وهو ابن ست سنوات. وعبد المطلب: والد عبد الله اسمه شيبة الحمد، واشتهر بعبد المطلب؛ لأن عمه المطلب أحضره من المدينة، حيث نشأ عند أخواله، فلما ساله أهل مكة: مَن هذا؟ قال لهم: هذا عبدي، فثبت معه اسمه هذا، وترك شيبة. وكان عبد المطلب شديد الوفاء بوعده، وقد رأينا ما فعل مع نذره بذبح أحد أبنائه إذا بلغوا عشرا. ومن وفائه أنه أجار يهوديا يُدعى "أذينة" فتأمر حرب بن أمية على قتله وقتله، فلم يزل عبد المطلب يسعى في دمه حتى أخذ ديته، وسلمها لأهله2. وهو شيخ مكة، وزعيمها يوم قدوم أبرهة.. وكان عبد المطلب جسيما أبيض، وسيما، طوالا، فصيحا، ما رآه أحد قط إلا قدره، وقد صارت إليه السقاية والرفادة، وشرف في قومه وعظم شأنه، وكان يعرف فيه قوة الحق وهيبة الملك. ومكارمه أكثر من أن تُحصى، فإنه كان سيد قريش غير مدافع نفسا، وأبا، وبيتا، وجمالا، وبهاء، وفعالا. وكان ممن حرَّم الخمر في الجاهلية، وأول من جعل دية القتيل مائة من الإبل بعد فداء عبد الله..

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1. 2 سبل الهدى والرشاد ج1 ص310.

وقد أقام لأهل مكة ما كان يقيمه آباؤه لهم، فشرف فيها شرفا لم يبلغه أحد قبله، وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم. ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان: الأول: حفر بئر زمزم بعدما أمر به في المنام، ووصف له موضعها، وبعدها كانت السقاية معه، ولما حاولت قريش منازعته في زمزم والسقاية، أراهم الله ما دلهم على تخصيص عبد المطلب بـ"زمزم"1. الثاني: لما قدم أبرهة بجيشه يريد هدم الكعبة خافت قريش، وتفرقت في الشعاب، وتركت إبلها وغنمها، فاستولى عليها أبرهة، فذهب إليه عبد المطلب واستقبله أبرهة وسأله: ماذا جاء بك؟ قال عبد المطلب: جئت أسألك الإبل والغنم. فقال أبرهة له: أكبرتك حين رأيتك، وزهدتني فيك حين كلمتني، تسألني عن الإبل، وتترك البيت الذي هو دينك ودين آبائك؟! فقال عبد المطلب: أما الإبل فهي لي، وأما البيت فله رب يحميه. وقد كان حيث هلك أبرهة وجيشه بالطير الأبابيل، واسترد عبد المطلب الإبل والغنم2. وهو أول من طلى الكعبة بالذهب، وسُمي الفياض لجوده، وكان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه، وتصيبه عقوبة، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ونهى عن قتل الموءودة ونكاح المحارم، وأمر ألا يطوف بالبيت عريان3. و"هاشم" واسمه عمرو العلاء والد عبد المطلب.

_ 1 سيرة ابن هشام ج1 ص143 بتصرف. 2 منتقى النقول ص20، 21. 3 منتقى النقول ص21.

ولقب هاشما لأنه هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمهم، وذلك أن أهل مكة أصابهم جهد وشدة، فرحل هاشم إلى فلسطين، فاشترى منها دقيقا كثيرا وكعكعا، وقدم بذلك إلى مكة فأمر به فخبز ثم نحر جزورا وجعلها ثريدا عم به أهل مكة، ولا زال يفعل معهم حتى استكفوا. وهو أول من سن الرحلتين: ورحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام1. ومن قبله كان تجار مكة لا يغادرون بلدهم، فركب هاشم إلى الشام، ونزل بقيصر، فلما علم به ملك الروم سأل عنه، وكلمه، وأعجب به، وجعل يرسل إليه ويدخله عليه. فلما رأى هاشم مكانه منه قال له: أيها الملك، إن لي قوما وهم تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتبا تؤمنهم، وتؤمن تجارتهم، فيقدمون عليك بما يستظرف من أدم الحجاز وثيابه؛ ليتمكنوا من بيعه عندكم، فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن أتى منهم، فأقبل هاشم بالكتاب فجعل كلما مر بحي من العرب على طريق الشام أخذ لهم من أشرافهم إيلافا. والإيلاف أن يأمنوا وهم عندهم، وفي طريقهم، وفي أرضهم بغير حلف، إنما هو أمان الطريق، فأخذ هاشم الإيلاف فيمن بين مكة والشام، حتى قدم مكة فأعطاهم الكتاب، فكان ذلك أعظم بركة، ثم خرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم، ويوفيهم إيلافهم، الذي أخذ لهم من العرب، فلم يبرح يجمع بينهم وبين العرب حتى ورد الشام2. واشتهر هاشم بالدقة، والحكمة، ومكارم الأخلاق، ومن وصاياه الحكيمة لقومه وهو يخطب فيهم:

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج1 ص316. 2 المرجع السابق ج1 ص316.

أيها الناس، نحن آل إبراهيم، وذرية إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكل في كل حلف يجب عليه نصرته، وإجابة دعوته إلا ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم. يا بني، أنتم كغصني شجرة أيهما كسر أو حش صاحبه، والسيف لا يصان إلا بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه اللجاج أخرجه إلى البغي. أيها الناس، الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام دول، والدهر غير، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضول يجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنيئة، فإنها تضع الشرف وتهدم المجد، ألا وإن نهنهة الجاهل أهون من حزيرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به1. وكان من أجمل الناس، وأحسنهم صورة، يتلألأ النور في وجهه كالهلال يتوقد، لم يره أحد إلا أحبه، وأقبل عليه. و"عبد مناف" والد هاشم اشتهر بأفعال الخير، وأماجد الأعمال، وسمي بالمغيرة لقوته، وإغارته على الأعداء، وسمي بالقمر لحسنه وجماله. وقد ساد في حياة أبيه، وبرز بآرائه في دار الندوة، وسُر به والده "قصي" وهو الذي سماه "عبد مناف" واستبدله بـ"عبد مناة" كما سمته أمه. قام بعد أبيه قصي بالسقاية والرفادة، واشتهر بالحكمة وحسن السياسة،

_ 1 أعلام النبوة للماوردي ص139.

أحاطت قريش عبد مناف بالتفضيل والتكريم، ومن أشعارهم: كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصة لعبد مناف والمح: صفرة البيض، يشيرون بذلك إلى أن قريشا إذا انقسمت كالبيضة، فعبد مناف صفرتها، وهي أصل البيضة، وأكثرها منفعة. يروي البلاذري أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع جارية تنشد هذا البيت وتقول: فالمح خالصة لعبد الدار فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: كذا قال الشاعر؟ قال أبو بكر: لا، إنما قال: لعبد مناف. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذاك" 1. وهذا تأكيد لمنزلة عبد مناف، وقدرته في قومه. و"قصي" والد عبد مناف اسم مصغر من "قصى" أي بعد؛ لأنه بعد عن قومه في بلاد "قضاعة" مع أمه حين تزوجت بعد أبيه في بني عزرة.. وقد عاد قصي إلى مكة بعد أن عير بغربته.. وعمل بعد أن شب على أن يكون أمر مكة لأهلها، فأبت خزاعة وبنو بكر، فقاتلهم قصي ومن معه.. حتى تصالحوا بعد ذلك على أن يكون الأمر لقصي وبنيه؛ لأنهم الأحق والأولى. فلما جمع قصي قريشا قال لهم: هل لكم أن تصبحوا بأجمعكم "أي أنتم وبيوتكم" في الحرم حول البيت؟ فو الله لا يستحل العرب قتالكم، ولا يستطيعون إخراجكم منه، وتسكنونه فتسودوا العرب أبدا. فقالوا: أنت سيدنا، ورأينا تبع لرأيك، فجمعهم ثم أصبح بهم في الحرم حول الكعبة2، وبنوا بيوتهم مجاورة للكعبة، وكانوا من قبل يبنونها بعيدا عن الشعاب.

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج1 ص321. 2 المرجع السابق ج1 ص324.

وأمرهم قصي أن يجعلوا أبواب بيوتهم جهة الكعبة، على أن يتركوا بين كل بيتين طريقًا يؤدي إلى الكعبة، وفي نهاية هذه الطرق تأسست أبواب الحرم بعد ذلك. وقد جمع "قصي" لنفسه أمر الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، وبذلك حاز الشرف في مكة كلها. وبنى دارًا سماها "دار الندوة"، وجعلها مكانًا للاجتماع، والتشاور في كافة أمورهم الشخصية، والاجتماعية، والسياسة، وغيرها. وقد فرض قصي على قريش مالًا يدفعونه إليه، وهو الذي يعرف بالرفادة، يصرفه على حجاج بيت الله تعالى، قال لهم: "يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل البيت، وأصحاب الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما، وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم، ففعلوا". يقول ابن هشام: فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا، فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومنا هذا، فهو الطعام الذي يصنعه الولاة كل عام، ويقدمونه للحجيج بمنى حتى ينقضي الحج1. وقد قسم قصي المهام الرئيسية في أولاده.. فأعطى عبد مناف السقاية والندوة، وأعطى عبد الدار الحجابة واللواء، وأعطى عبد العزى الرفادة والضيافة أيام منى.. وهكذا. ومن أقوال قصي الحكيمة التي علمها أولاده: "من عظم لئيما شركه في لؤمه". "ومن استحسن مستقبحا كان معه". "ومن لم تصلحه كرامتكم فداووه بهوانه، فذاك دواء يحسم الداء".

_ 1 سيرة النبي ج1 ص130.

"العي عيان: عي إفحام، وعي المنطق بغير سداد". "من سأل فوق قدره استحق الحرمان". و"كلاب" والد قصي جمع كلب، وهو مجمع نسب عبد الله وآمنة -أبوي النبي صلى الله عليه وسلم- سمي بذلك من المكالبة، وهو المسارعة في التجمع على الكسب، أو جريا على عادة العرب في تسمية أبنائهم بأسماء موحشة كذئب، وأسد، وضبع ... قيل لأعرابي: لِمَ تسمون أبناءكم بأشر الأسماء كـ"كلب" و"ذئب"، وتسمون عبيدكم بأحسن الأسماء كـ"رباح" و"مرزوق"؟ فقال: إنا نسمي أبناءنا لأعدائنا، ونسمي عبيدنا لأنفسنا.. يريد أن الأبناء هم عدة مواجهة الأعداء، والسهام المصوبة إليهم. وقيل: سمي بذلك لدفع السوء والحسد عنه1. ومن أسماء "كلاب" الحكيم، والمهذب، وعروة، ويكنى بـ"أبي زهرة" وزهرة هو جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه. و"مرة" والد كلاب اسم منقول من وصف الحنظلة والعلقمة، وقيل: منقول من وصف الرجل بالمرارة. وقيل: مأخوذ من القوة، ومنه قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} أي: قوة، وكنيته أبو يقظة2. وهذه المعاني تفيد ما كان له من قوة في الحق، وشدة وقسوة على أهل الباطل. و"كعب" والد مرة ومعناه العلو في الشرف والسؤدد والثبات والمنزلة، وكنيته أبو هصيص.

_ 1 الروض الأنف ج1 ص8. 2 سبل الهدى والرشاد ج1 ص329.

وهو أول ما جمع الناس، وخطبهم في يوم معين، هو يوم "العروبة"، وهو اليوم المسمى في الإسلام بيوم الجمعة، ومن خطبه في قومه: أما بعد، فاسمعوا وعوا، وافهموا وتعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، لم تخلق عبثا فتضربوا عنها صفحا، الآخرون كالأولين، والذكر كالأنثى، والزوج والفرد إلى بلى، فصلوا أرحامكم، وأوفوا بعهودكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، فإنها قوام مروءتكم، فهل رأيتم من هالك رجع، أو ميت نشر، الدار أمامكم، واليقين غير ما تظنون، حرمكم زينوه وعظموه، وتمسكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، بذلك جاء موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، والله لو كنا ذا سمع وبصر، ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت فيها إرقال الفحل1. و"لؤي" يكنى باسم ابنه كعب، اشتهر بالحكمة والحلم منذ صغره، وكان مطاعا محبوبا في قومه. و"غالب" من الغلبة والفوز، وكنيته أو تيم. و"فهر" كان رئيس أهل مكة، وقيل أنه سمي بـ"قريش" يقول ابن شهبة: من جاوز فهرا فليس من قريش2. و"مالك" يكنى باسم ولده "فهر" ولم ينجب سواه، تميز بالحكمة وحسن الخلق. و"النضر" ابن كنانة، وكنيته "أبو يحلد".

_ 1 المرجع السابق ج1 ص329، 330. 2 المرجع السابق ج1 ص334.

و"كنانة" هي ستر السيف، سمي بذلك لأنه كان سترا على قومه، ويكنى بأبي النضر، يقول عامر العدواني لابنه في وصيته: يا بني، أدركت كنانة بن خزيمة وكان شيخا مسنا عظيم القدر، وكانت العرب تحج إليه لعلمه وفضله، ومن أقواله لهم: إنه قد آن خروج نبي من مكة يُدعى أحمد، يدعو إلى الله، وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفا وعزا إلى عزكم. قال أبو الربيع رحمه الله تعالى: إن كنانة رُئي وهو نائم في الحجر فقيل له: تخير يا أبا النضر بين الصهيل والهدر وعمارة الجدر وعز الدهر، فقال: كل يا رب فصار هذا كله في قريش1. و"خزيمة" يكني بأبي أسد، يروي ابن عباس أن خزيمة مات على دين إبراهيم عليه السلام، وهو أول من أهدى البدن للبيت. و"مدركة" اسمه عمرو على الصحيح، وكنيته أبو هذيل، وأبو خزيمة. و"إلياس" كان عاقلا، أريبا، يقول ابن الزبير: لما أدرك إلياس وبلغ أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم، وبان فضله عليهم، وجمعهم رأيه، ورضوا به، فردهم إلى سنن آبائهم، ولم تزل العرب تعظمه تعظيم أهل الحكمة. وهو وصي أبيه، تميز بجمال الخُلُق والخِلْقة، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمنا" 2. ويذكر أنه كان يبشر بنبي من صلبه، يصلح الله به شئون الناس. و"مضر" اسمه عمرو، وكنيته أبو إلياس، كان على دين إبراهيم عليه السلام، اشتهر بالحكمة، وسداد الرأي، ومن أقواله:

_ 1 سبل الهدى ج1 ص338. 2 الروض الأنف ج1 ص10.

"خير الخير أعجله". "احملوا أنفسكم على مكروهها فيما يصلحكم، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق"1. و"نزار" سماه أبوه بهذا الاسم لما نظر في وجهه ورأى نور النبوة الذي كان يتنقل في الأصلاب، لما رأى ذلك فرح ونحر وأطعم، وقال: هذا نذر يسير، فسمي بـ"نزار" وكنيته "أبو إياد". و"معد" يضرب به المثل في الخُلُق، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اخشوشنوا وتعددوا" أي: كونوا على خلق معد. و"عدنان" أول من كسا الكعبة، وكان الناس يعرفون أن نبيا سيخرج من صلبه، ويكنى بأبي معد. وقد سبق الإشارة إلى إجماع النسابين على معرفة نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان، وأن عدنان من نسل إسماعيل عليه السلام، إلا أنهم يختلفون في عدد آباء عدنان إلى إسماعيل عليه السلام؛ ولذلك أكتفي هنا بذكر نسبه صلى الله عليه وسلم إلى عدنان مع تأكيد أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، فلقد روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه عدنان، ثم يمسك، ثم يقول: "كذب النسابون" 2، ويرى السهيلي أن هذا الحديث من قول ابن مسعود، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما ننتسب إلى عدنان، وما فوق ذلك لا ندري ما هو3. ومن هذا الإيجاز نرى شرف النسب، وعلو المحتد، فجميعهم كرام، ذوو شأن؛ حيث نلمح في سيرتهم كل خير، فهم حماة البيت، والمقربون من الله، والمؤسسون لأهل مكة "دار الندوة"، وقد نظموا للقبائل سائر المهام، وعرفوا الناس

_ 1 سبل الهدى ج1 ص344، والفواق: المدة بين حلبتين للناقة. 2 الطبقات الكبرى ج1 ص56. 3 المرجع السابق ج1 ص58.

بيوم العروبة، وجمعوهم فيه كل أسبوع لسماع الخطب وتداول الأمور. وفي أسمائهم نلمح صفاتهم، ففي كعب العلو والثبات، وفي لؤي الهدوء والأناة، وفي غالب القوة القاهرة للأعداء1، وفي فهر الطول والعون، سمي قريشا لأنه كان يقرش -أن يفتش- عن حاجة المحتاج ليعينه بماله ونفسه2، وفي مالك السيادة وملك العرب3، وفي النضر الحسن والجمال4، وفي كنانة ستر قومه، ومرجعهم لعمله وفضله5، وفي خزيمة إصلاح قومه، وأخذهم على الحق6، وهكذا إلى عدنان الذي عاش زمن موسى عليه السلام7. هذا نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه.. وأما نسبه من جهة أمه فهو إلى كلاب، وعند كلاب يلتقي نسبها مع أبيه فنسبه من جهة أمه عال هو الآخر، يصفه ابن هشام ويقول: "إن آباء آمنة من فضلاء قريش وسادة بني زهرة"8. ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم أخ ولا أخت من أمه وأبيه، يقول الماوردي: "لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت؛ لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه؛ ليكون مختصا بنسب جعله الله للنبوة غاية، ولتفرده بها آية، فيزول عنه أن يشارك فيه ويماثل به"9.

_ 1 مدارج الصعود ص6، 7. 2 نور الظلام ص30. 3 المرجع السابق ص30. 4 فيض القدير ج3 ص37. 5 المرجع السابق ج3 ص37. 6 سيرة ابن كثير ج1 ص188. 7 الروض الأنف ج1 ص11. 8 سيرة ابن هشام ج1 ص169. 9 أعلام النبوة ص147.

ولقد تميز آباؤه بعديد من المزايا العامة التي اشتركوا فيها جميعا، واستمرت معهم تكريما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وسأبين أهم هذه المزايا لما لها من مردود إيجابي على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، وتهيئة النفوس للاستماع له، والإجابة لدعوته، وبخاصة أن الناس جبلوا على الطاعة السريعة لمن علا نسبه، وسمت أخلاقه، وكان لهم به صلة وقربى. وسأوضح -بإذن الله تعالى- أهم هذه المزايا في عدد من المسائل لتتضمن كل مسألة مزية، وهي كما يلي: المسألة الأولى: أصالة النسب. المسألة الثانية: بعدهم عن عبادة الأصنام. المسألة الثالثة: صلتهم بسائر بطون العرب. وسوف أفصل هذه المسائل فيما يأتي ...

المسألة الأولى: أصالة النسب

المسألة الأولى: أصالة النسب اشتهر آباؤه صلى الله عليه وسلم جميعا بعلو الأصل، وشرف النسب، ومكارم الخلق، فكانوا من أحسن الخلق وأماجدهم، وقد رأيناهم سادة الناس، ورواد القبائل، حملوا مهام البيت، وقاموا بواجب ضيوف الله. ولعل أهم ما تميزوا به هو طهارتهم، وعفتهم، وبعدهم عن سفاح الجاهلية، وضلالات الشرك والهوى، والأحاديث الصحيحة تؤكد هذه الحقيقة، فعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي" 1، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء، وما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام" 2. ويروي ابن سعد في طبقاته عن محمد الكلبي قال: "كتبت لنبي الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحا، ولا شيئا مما كان عليه أمر الجاهلية"3. وهكذا وضع الله رسوله صلى الله عليه وسلم في موضع يحمل معه شرف سلسلة طويلة، كريمة الخلق والسلوك، طيبة الشأن والذكر، وهو اصطفاء من الله تعالى. فعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" 4.

_ 1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد - باب علامات النبوة - باب كرامة أصله صلى الله عليه وسلم ج8 ص395. 2 المرجع السابق - باب علامات النبوة - باب كرامة أصله صلى الله عليه وسلم ج8 ص395. 3 سيرة ابن كثير ج1 ص191. 4 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص58.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه" 1. وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما، فأخرجت من بين أبوي، فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية، وخرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفسا، وخيركم أبا" 2. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما" 3. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما، فأخرجت من بين أبوي، لم يصبني شيء من عهد الجاهلية، وأخرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي" 4. وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" 5، وقد أخرجه الحافظ أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في فضائل العباس من حديث واثلة بلفظ: "إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واتخذه خليلا، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، ثم اصطفى من ولد إسماعيل نزارا، ثم اصطفى من ولد نزار

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب المناقب - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ج6 ص566. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد - كتاب علامات النبوة ج8 ص395. 3 سبل الهدى والرشاد ج1 ص276. 4 تهذيب تاريخ دمشق ج1 ص279. 5 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الفضائل - فضل نسب النبي ج15 ص26.

مضر، ثم اصطفى من مضر كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشا، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب، ثم اصطفاني من بني عبد المطلب"1، والاصطفاء أخذ الأحسن من جماعة فيها غيره ليسوا مثله. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير العرب مضر، وخير مضر بنو عبد مناف، وخير بني مناف بنو هاشم، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترقت فرقتان منذ خلق الله آدم إلا كنت في خيرهما" 2. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار إلى خيار" 3. وعن ابن عباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم حين فرقهم جعلني في خير فريق، ثم حين خلق القبائل جعلني من خير قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم بيتا، وخيرهم نسبا" 4. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا" 5.

_ 1 الحاوي ج2 ص366. 2 الطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص20. 3 دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص168. 4 سنن الترمذي - كتاب المناقب ج5 ص584. 5 الطبقات الكبرى ج1 ص20.

وعن ابن عباس قال: دخل ناس من قريش على صفية بنت عبد المطلب فجعلوا يتفاخرون ويذكرون الجاهلية، فقالت صفية: منا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تنبت النخلة أو الشجرة في الأرض الكبا. فذكرت ذلك صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب وأمر بلالا فنادى في الناس، فقام على المنبر فقال: "أيها الناس، من أنا؟ ". قالوا: أنت رسول الله. قال: "انسبوني". قالوا: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. قال: "أجل، أنا محمد بن عبد الله، وأنا رسول الله، فما بال أقوام يبتذلون أصلي؟! فو الله إني لأفضلهم أصلا وخيرهم موضعا" 1. وعن ربيعة بن الحارق قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما نالوا منه، فقالوا: إنما مثل محمد كمثل نخلة نبتت في كناس، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله خلق خلقه فجعلهم فرقتين، فجعلني في خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلا، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا"، ثم قال: "أنا خيركم قبيلا وخيركم بيتا" 2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل عليه السلام: قلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد أفضل من بني هاشم" 3. بهذه النصوص الكثيرة التي أوردتها تطمئن النفس على صدق ما تضمنته، وهو ما نريد إبرازه في إثبات علو نسبه صلى الله عليه وسلم، وتمتع آبائه وأجداده بكرم الطبع، وشرف

_ 1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد - باب علامات النبوة ج8 ص399. 2 سبل الهدى والرشاد ج5 ص276. 3 دلائل النبوة ج1 ص151.

الأصل، والبعد عن الدنايا وصغائر الأمور. كان صلى الله عليه وسلم نتاج هذه السلسلة الكريمة التي يفتخر بها، وتذكرها العرب له، وقد أقر خصومه في مكة بهذه الحقيقة، وهي في أشد حالات العداء معه. يروي البخاري أن هرقل أرسل إلى أبي سفيان ومن معه، وكانوا في تجارة بالشام، فدعاهم إلى مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعا ترجمانه. فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا. فقال هرقل: ادنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه. يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. ثم سأله عدة أسئلة وأبو سفيان يجيبه، وأخيرا قال هرقل لترجمانه: قل لأبي سفيان: سألتك عن نسبه فقالت: هو فينا ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها1. والمهم أن أبا سفيان يومئذ كان على الكفر، ولم يدخل في الإيمان بعد، ومع ذلك نطق بالحق، وشهد بعلو نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أول ما سأل عنه هرقل لمعرفته بضرورة سمو نسبه، وطهارته إن كان رسولا صادقا.. إن معرفة خصائص النسب الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثر على تقويم صاحبه وتقدير شأنه، وإدراك مستقره في الأمور، فالخلق الغالب على الأصل ينزع عنه الفرع ولا يتغير بالإسلام إلا إلى الأفضل. أخرج الشيخان وأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تجدون

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب بدء الوحي ج1 ص31، 32.

الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه"1. فأصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا أو فقهوا فهم خيار الناس2. قال ابن حجر في الفتح: وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته، فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، بل من كان شريفا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف بمن أسلم من المشروفين في الجاهلية3. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا ابن العواتك" 4 والعاتك: هو الكار الشجاع في القتال، والمرأة العاتك: هي الشريفة الكريمة. وعند اشتداد المواجهة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة لم نسمع مطعنا في نسب رسول الله وأصله، ولا نقدا لخلقه وسلوكه، ولا همزا حول شيء يتصل به صلى الله عليه وسلم.. ولو وجد شيء من هذا لتحدثوا عنه وأظهروه..

_ 1 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} ج6 ص525. 2 شروح النووي على مسلم ج5 ص230. 3 فتح الباري ج6 ص529. 4 الطبراني، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد - كتاب علامات النبوة - باب في كرامة أصله صلى الله عليه وسلم ج8 ص215.

المسألة الثانية: بعد آبائه عن الشرك وعبادة الأصنام

المسألة الثانية: بعد آبائه عن الشرك وعبادة الأصنام ... المسألة الثانية: بعد آبائه صلى الله عليه وسلم عن الشرك وعبادة الأصنام ثبت بالأدلة والبراهين العديدة أن أصول النبي صلى الله عليه وسلم وآباءه من لدن آدم عليه السلام إلى والده المباشر عبد الله بن عبد المطلب، كانوا جميعا بعيدين عن الشرك وعبادة الأصنام. والأدلة على ذلك عديدة، يجمعها السيوطي -رحمه الله تعالى1- في مقدمتين ليصل إلى نتيجة عقلية مسلمة: أما المقدمة الأولى: فهي أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم هم من خير الناس، كل منهم أفضل معاصريه وأخيرهم، فهم خيار من خيار، اصطفاهم الله منذ وجود آدم عليه السلام، واستمر هذا الاصطفاء معهم حتى جاء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. أما المقدمة الثانية: فإنها تظهر حقيقة دينية تاريخية، وهي أن الأرض لم تخل من عهد آدم عليه السلام إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة من أناس على الفطرة يوحدون الله، ويعبدونه بما بقي من دين سابق، ويرون أن الأصنام والأوثان وما يماثلها، ما هي إلا افتراءات لا حقيقة لها؛ ولذلك فهم بعيدون عنها، لا يقتنعون بها.. فإذا انضمت المقدمة الأولى إلى المقدمة الثانية لظهر بجلاء أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم في كل عصر كانوا من هؤلاء الأناس الذين عاشوا بالفطرة النقية الموحدة؛ ذلك أن الخيرية والأفضلية تقوم أساسا على التوحيد والتقوى. ومن الواجب التسليم بهذا؛ لأن الأفضلية إذا لم تقم على التوحيد، وقامت على المال أو الكثرة أو السلطان مثلا، فإن الشرك يعلو التوحيد، ويفضل المشرك

_ 1 الحاوي للفتاوى ج2 ص367 بتصرف.

المؤمن، وهذا غير صحيح، فوجب بمجموع هاتين المقدمتين أن يكون آباء النبي -وهم أفضل الخلق في زمانهم على التوحيد- أصل التفضيل وأساسه؛ لأن القول بغير ذلك يؤدي إلى أحد أمرين لا يسلم بهما أو بأحدهما عاقل: الأمر الأول: أفضلية المشرك على المسلم، وهذا أمر غير صحيح، وغير مسلم، ولم يقل به أحد من العقلاء. الأمر الثاني: أن يكون هناك مَن هم أفضل من آباء النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معارض بما ثبت في المقدمة الأولى التي سبق ذكر أدلتها. يقول الإمام السيوطي: "يجب أن يكون آباء النبي موحدين، لا شرك فيهم ليكونوا من خير أهل الأرض، كل في قرنه"1. وفي الدراسة السابقة عن المقدمة الأولى أوضحت أن آباء النبي هم خيار الخلق من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وبذلك ثبتت المقدمة الأولى. وإثبات المقدمة الثانية بعد ذلك أمر مسلم؛ لأن الناس كانوا على الإسلام منذ آدم إلى نوح عليه السلام، يقول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 2 وفي الآية بيان أن الناس جميعا بعد آدم عليه السلام كانوا على دين واحد هو الإسلام. فعن أبي أمامة رضي الله عنهم أن رجلا قال: يا رسول الله، أنبي كان آدم؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم نبي مكلم". فقال الرجل: فكم كان بينه وبين نوح عليه السلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: "عشرة قرون" 3.

_ 1 الحاوي للفتاوى ج2 ص368. 2 سورة البقرة آية 213. 3 فتح الباري شرح صحيح البخاري ج6 ص372.

وهكذا استمرت البشرية على دين الإسلام عشرة قرون، وبعد هذه المدة بدأ الشرك في الظهور، واختلف الناس، فبعث الله رسله مبشرين ومنذرين، بلاغا وإرشادا؛ ولذلك بعث شيث عليه السلام، وإدريس عليه السلام؛ نصرا لأهل الحق، ومحافظة على دين الله القويم. يُروى عن قتادة رضي الله عنه أنه قال: "ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى، وعلى شريعة الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله نوحا عليه السلام"1. وعن ابن عباس: "أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام"2. وهذه الآراء بيان لاستمرار الإسلام في الناس منذ آدم إلى نوح عليه السلام، فلما اختلفوا وانقسموا جاء رسل الله، وعلى رأسهم نوح عليه السلام. والتعبير بالاختلاف في الآية بيان لتمسك فريق من الناس بالإسلام الذي كانوا جميعا عليه، حين ارتد فريق منهم، وعبدوا الأصنام، وأشركوا في الألوهية، وبذلك وجد الاختلاف والتفرق بدليل أن الله توعد هؤلاء المشركين الذين أشركوا وضيعوا وحدة الأمة وتجمعها على الدين الحق، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 3. ومع الاختلاف على الدين الحق قبيل نوح عليه السلام نرى أن والد نوح كان مؤمنا موحدا امتدادا لآبائه من قبله، دليل ذلك أن نوحا عليه السلام دعا لأبيه كما

_ 1 الحاوي ج2 ص372. 2 تفسير الطبري ج4 ص275. 3 سورة يونس آية 19، ودلالة الآية أن الله توعد المختلفين، والله لا يتوعد إلا بسبب كفر أو معصية.

في قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 1، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لكافر، بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} 2، وبذلك تكون الآية صريحة في إيمان والد "نوح" وهو "سام"؛ لأنه لو لم يكن مؤمنا لما دعا له، وأيضا فإن دعوة نوح لأبيه كانت بعد الطوفان، ولم ينجُ من الطوفان إلا المؤمنون. هذا عن الفترة من آدم إلى نوح عليهما السلام.. أما ما بعد نوح عليه السلام، فقد روى ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما أهبط ومن معه من السفينة هبطوا إلى قرية، فبنى كل رجل منهم بيتا، فسميت القرية سوق الثمانين نسبة لعدد الناجين، فلما ضاقت بهم القرية تحولوا إلى بابل فبنوها، ولم يزالوا على الإسلام وهم ببابل، أما من كفر فقد غرق وهلك، يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} 3، ومفهوم الآية يوضح أن ذرية من كفروا غرقوا بغرق أبائهم، ولم يبقَ إلا المؤمنون الموحدون، كما يفيده ضمير الفصل الموجود في الآية. وقيل: إن المؤمنين مع نوح كانت لهم ذرية مؤمنة نجت من الناجين إلا أنها ماتت بأجلها، ولم يبقَ إلا أبناء نوح. وقيل: إن المؤمنين من ذرية الآخرين تلحق بذرية نوح في البقاء بسبب إيمانهم4.

_ 1 سورة نوح آية 28. 2 سورة التوبة آية 114. 3 سورة الصافات آية 77. 4 فتح القدير ج4 ص400.

واستمر إيمان آباء النبي صلى الله عليه وسلم من نوح إلى إبراهيم عليهم السلام، غير أن ما ورد عن والد نبي الله إبراهيم عليه السلام "آزر" يتعارض مع هذا؛ حيث يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، ويقول سبحانه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} 2، وفي هذه الآيات تصريح واضح بكفر أب إبراهيم عليه السلام، وقد رد العلماء هذا التعارض بأن إبراهيم عليه السلام كان يخاطب عمه "آزر"، أما والده فو "تارح"، واللغة العربية تطلق اسم الأب على العم؛ ولهذا يقول الله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} 3، فأطلق سبحانه على إسماعيل اسم الأب ليعقوب عليه السلام مع أنه كان عمه. وبعد نجاة إبراهيم عليه السلام من النار أمره الله تعالى بأن يهاجر إلى بلاد الشام فهاجر حيث أمره الله تعالى، وأخذ معه المؤمنين، وكانوا ثلاثة، هم: زوجته سارة وابن خالته لوط وأبوه تارح4، ولو كان أبوه مشركا ما اصطحبه معه في رحلة الهجرة من موطنه إلى بلاد الشام.. وأيضا فلقد دعا إبراهيم عليه السلام لأبيه بعد هلاك عمه بمدة طويلة، ولو كان مشركا ما دعا له، يقول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَاب} 5.

_ 1 سورة الأنعام آية 74. 2 سورة مريم آية 42. 3 سورة البقرة آية 133. 4 الكامل لابن الأثير ج1 ص96. 5 سورة إبراهيم آية 41.

أما آباء النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد إبراهيم فهم على النحو المذكور لسائر الآباء، يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} 1. فقد أخبر الله تعالى بأنه بقدرته سبحانه وتعالى جعل كلمة الهدى والتوحيد باقية، متنقلة في عقب إبراهيم عليه السلام تنتقل من واحد إلى مَن بعده في عقبه، والعقب: أبناء الرجل الذكور دون الإناث. يقول المفسرون: الكلمة هي شهادة التوحيد، جعلها الله مستمرة في ذرية إبراهيم عليه السلام، يعقب كل جيل ما سبقه، بحيث لا يزال في ذريته من ينطق ويؤمن بها. ويقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} 2 وقد دعا إبراهيم عليه السلام في الآية بدعوتين: أحدهما: أن يجعل مكة بلدا آمنا في المقام والمعاش. والثانية: أن يجنبه وبنيه وذريته عبادة الأصنام، وقد استجاب الله له، فأكرم مكة بجعلها حرما آمنا، ورزق أهلها ثمرات كل شيء، كما استجاب الله سبحانه الدعوة الثانية لإبراهيم في أولاده فنجاهم من عبادة الأصنام وجعل النبوة والكتاب فيهم خاصة. وقد جاءت أحاديث مسندة تفصل ما جاء في الآيات: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا مضر؛ فإنه كان قد أسلم" 3. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا مضر؛ ولا ربيعة فإنهما كانا مؤمنين" 4.

_ 1 سورة الزخرف الآيات 26-29. 2 سورة إبراهيم آية 35. 3 طبقات ابن سعد ج1 ص58. 4 الروض الأنف ج1 ص10.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا قسا؛ فإنه كان مسلما" 1. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا إلياس؛ فإنه كان مؤمنا" 2. وقد رأينا من كلمات آباء النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفنا على معانيها الدالة على العقل والحكمة وروح الإيمان.. يقول السهيلي: "وكعب بن لؤي أول من جمع يوم العروبة، فكانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلمهم أنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، والإيمان به". وعبد المطلب هو الذي قابل أبرهة وقال له: للبيت رب يحميه.. أما آباء النبي صلى الله عليه وسلم القريبون إليه فهم: كلاب، وقصي، وعبد مناف، وهاشم، وعبد المطلب، وعبد الله، فإنهم شيوخ مكة، وحماة الكعبة، وإليهم يرجع الفضل في تنظيم أمور البيت الحرام، والإنفاق على الحجيج، وفي حياتهم إشارات إلى عقيدتهم الدينية. يقول عبد الله: أما الحرام فالممات دونه. ويقول عبد المطلب: للبيت رب يحميه. وقد تميز هاشم وعبد مناف بالحكمة وكرم الأخلاق، ودور قصي وكلاب مع الكعبة وأهل مكة لا يخفى؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يفتخر بآبائه ويقول صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن الذبيحين" يريد بهما: عبد الله وإسماعيل عليهما السلام، وفي يوم حنين قال: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". ويقول صلى الله عليه وسلم: "أنا خيار من خيار من خيار".

_ 1 الحاوي ج2 ص380. 2 الروض الأنف ج1 ص10.

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن آبائه لتعريف منازلهم، وبيان مراتبهم، والإشارة إلى نِعَمِ الله تعالى التي أحاطه وأحاطهم بها. يقول أبو الحسن الماوردي: "أنبياء الله صفوة عباده، وخيرة خلقه، لما كلفهم من القيام بحقه، والإرشاد لخلقه، استخلصهم من أكرم العناصر، واجتنابهم بمحكم الأواصر، فلم يكن لنسبهم من قدح، ولمنصبهم من جرح؛ لتكون القلوب لهم أصفى، والنفوس لهم أوطأ، والناس إلى إجابتهم أسرع، ولأوامرهم أطوع، وإن الله استخلص رسوله صلى الله عليه وسلم من أطيب المناكح، وحماه من دنس الفواحش، ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزهة، وقد قال ابن عباس في تأويل قول الله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين} أي: تقلبك من أصلاب طاهرة، من أب بعد أب إلى أن جعلك نبيًّا، فكان نور النبوة ظاهرًا في آبائه، ثم لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه؛ ليكون مختصًّا بنسب جعله الله للنبوة غاية، ولتفرده نهاية، فيزول عنه أن يشارك فيه، ويماثل فيه، فلذلك مات عنه أبواه في صغره، فأما أبوه فمات وهو حمل، وأما أمه فماتت وهو ابن ست سنين، وإذا خبرت حال نسبه، وعرفت طهارة مولده، علمت أنه من سلالة آباء كرام، ليس في آبائه مسترذل، ولا مغموز مستبذل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة"1. ويقول الشهرستاني: "ظهر نور النبي صلى الله عليه وسلم في أسارير عبد المطلب بعض الظهور، وببركة ذلك النور ألهم النذر في ذبح ولده، وببركته كان يأمر ولده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيات الأمور، وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه: إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه، وتصيبه عقوبة، إلى أن هلك رجل ظلوم لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك

_ 1 الحاوي ج2 ص385.

ففكر وقال: والله إن وراء هذه الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بإساءته، وببركة ذلك النور قال لأبرهة: إن لهذا البيت ربا يحفظه"1. ومع سلامة النسب النبوي وأصالته أرى توضيح أمرين: الأمر الأول: يتصل بتوحيد آباء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن منهم من عاصر الأنبياء، ومنهم من كان بعيدا عنهم، أما من كان نبيا أو عاصر نبيا، فإنه كان على التوحيد الخالص الواضح الذي جاء من عند الله تعالى، بكل ما يلزمه من اعتقاد وشريعة وأخلاق، أما من بعد منهم عن زمن الأنبياء فإنه كان على توحيد يبعده عن تأليه الصنم وعبادته، مع غياب تعاليم الرسالة السابقة؛ ولذلك لم يكن لهم دين واضح بتعاليمه وتفصيلاته. إنهم لم ينغمسوا في الشرك، ولم يكونوا سدنة الأصنام، ولا كهنة الآلهة، مع ما لهذه الأعمال من أهمية في الحياة الجاهلية، ومع منزلتهم في قبائل مكة، التي تمكنهم من الحصول على ما يريدون، ولو كانوا من الكهنة ما منعهم أحد، لكن الله أنقذهم منها. إن بعدهم الزمني عن رسالات الله أنساهم كثيرا من الحقائق الدينية، شأنهم في ذلك شأن الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام، ورأوا ضرورة وجود إله واحد قدير، واهتموا في البحث عن دين إبراهيم عليه السلام؛ ولذلك لم تكن لآباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة دينية، ولم يقوموا بنشر عقيدتهم في الناس، إلا أن الله أكرمهم بالتوحيد، وخصهم بالخيرية، وفضلهم على الناس، ليذكر الرسول بهم، وحتى لا تلحقه منقصة بسببهم، يعيره بها المشركون والكافرون. الأمر الثاني: أهل الفترة وآباء النبي: يراد بالفترة المدة الزمنية بين رسولين، وبخاصة إذا طالت المدة، وغابت تعاليم الرسول السابق كليا أو جزئيا.

_ 1 الحاوي ج2 ص382.

ودرس العلماء والفقهاء أحكام أهل الفترة؛ لأنهم بعدوا عن الرسالة السابقة، ولم تأتهم رسالة جديدة، وهذا حال يرفع عنهم المسئولية أمام الله تعالى عند جمهور العلماء. والعرب من الأمم التي طالب الفترة بهم، ولم يأتهم رسول منذ إسماعيل عليه السلام، يبين الله ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} 1. وصلة هذا المبحث بآباء النبي صلى الله عليه وسلم تلمس الإنصاف لهم؛ لأن آباءه القريبين ابتداء من كلاب لم يكن لهم دور ديني واضح، مع ثبوت عدم تأليههم للأصنام، وسبب ذلك أنهم كانوا من أهل الفترة التي لا وجود فيها لدعوة دينية.. وأقصى ما كانوا فيه أنهم من الحنفاء الموحدين، الباحثين عن الحقيقة، التي تجلت أمامهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم. يذهب جمهور العلماء إلى أن أهل الفترة ناجون؛ لأنه لا تكليف قبل البعثة بدلالة الآيات التالية: يقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 2 والآية أساس للجمهور الذين يرون أن وصول الرسالة إلى الناس شرط للمسئولية، يقول قتادة: "إن الله ليس بمعذب أحدا حتى يسبق إليه من الله خبر، أو تأتيه من الله بينة"3. ويقول الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 والآية واضحة في ثبوت العذر لأهل الفترة على عدم إيمانهم، ودلالتها على ضرورة تبليغ الدعوة على وجهها الصحيح عن طريق رسول الله، أو بواسطة من يكلفه من الدعاة.

_ 1 يس آية 6. 2 سورة الإسراء آية 15. 3 تفسير القرطبي ج1 ص251. 4 سورة القصص آية 47.

وعلى هذا فآباء النبي صلى الله عليه وسلم القريبون كانوا من الحنفاء، على أقل تقدير، وليس بضروري أن يكونوا على رسالة دينية كاملة "عقيدة وشريعة"، وأما الأبوان الشريفان فهما من أهل الفترة بإجماع؛ لتأخر زمانهما، وبعد ما بينهما وبين الأنبياء السابقين1، فآخر نبي بعث للعرب هو إسماعيل، وبينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف سنة، ولم يعمرا طويلا، وكان العرب في جهل بالنسبة للرسالة لدرجة أنهم تعجبوا حين بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وقالوا ما حكاه الله تعالى: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} 2، وقالوا أيضا ما حكاه الله تعالى: {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 3، وقد صور الله تعالى أحوالهم متعجبا فقال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُون} 4. وهذا محمد صلى الله عليه وسلم لما حبب إليه الخلاء، كان يذهب إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وكانت عبادته على ما بقي من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ إذ لا سبيل له إلى غير ذلك. إن تباعد الزمان بين رسالة إسماعيل عليه السلام وآباء النبي القريبين غيب عنهم حقيقة رسالة الله بكمالها وتمامها؛ ولكنهم تمسكوا بما أبقاه الله بينهم، فلم يعبدوا غير الله، ولم يشركوا معه إلها آخر. ومن هنا نرى أن توحيد الحنفاء كافٍ في القول بإيمان آباء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 أرجح الرأي القائل بأن أبا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة على الآراء الأخرى، هذا وقد فصل السيوطي الآراء كلها بأدلتها في كتابه الحاوي. 2 سورة الإسراء آية 94. 3 سورة فصلت آية 14. 4 سورة المؤمنون آية 69.

المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر بطون العرب

المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر بطون العرب تعرف أسرة النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، وهي أسرة عربية يمتد نسبها إلى إبراهيم عليه السلام. فرسول الله صلى الله عليه وسلم واحد من العرب يتصل مع كل عربي بنسب وصلة؛ لأنهم جميعا أبناء إسماعيل، وعروبة النبي ثابتة موطنا وجنسا ولغة. يقول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} 1، وفي هذا بيان لقرية النبي صلى الله عليه وسلم التي أخرج منها، وهي مكة، موطنه الذي أجبر على تركه، والهجرة منه إلى يثرب، المدينة التي نورت بهجرته صلى الله عليه وسلم إليها، يقول قتادة وابن عباس: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة التفت إلى مكة وقال: "اللهم إنك أحب البلاد إلى الله، وأنت أحب البلاد إليَّ، ولولا المشركون أهلك أخرجوني ما خرجت منك" 2. ويقول تعالى: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} 3، ويقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّي} 4، وعلى هذا فالنبي أمي، أي عربي؛ لأن الأمية صفة ومسمى للعرب قبل المبعث في مقابل أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل5. وجاء الإسلام بلغة العرب، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 6، ويقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} 7، فهذه العروبة

_ 1 سورة محمد آية 13. 2 الحديث صحيح، رواه الثعلبي، تفسير القرطبي ج16 ص235. 3 سورة الجمعة آية 2. 4 سورة الأعراف آية 157. 5 الملل والنحل ج1. 6 سورة يوسف آية 2. 7 سورة مريم آية 97.

الثابتة لرسول الله تؤكد قرابته العامة لكل عربي، وتؤيد التقاءه مع كل منهم في نسب بعيد أو قريب. وقد وضح ابن حزم الأسباب النسبية التي ربطت النبي صلى الله عليه وسلم بقبائل العرب جميعا، فقال: "وفي عبد المطلب يجتمع معه عليه السلام: بنو علي، وجعفر، وعقيل -بني أبي طالب- وبنو العباس، وبنو الحارث، وبنو أبي لهب. وفي عبد مناف يجتمع معه: بنو أمية، وسائر بني عبد شمس، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وبنو عبد المطلب. وفي قصي يجتمع معه: بنو عبد العزى، وبنو عبد الدار، الذين منهم حجبة الكعبة. وفي كلاب يجتمع معه: بنو زهرة، وأمه منهم، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. وفي مرة يجتمع معه: بنو تيم بن مرة، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة. وفي كعب يجتمع معه: بنو عدي، وبنو جمح، وبنو سهم. وفي لؤي يجتمع معه: بنو عامر بن لؤي. وفي غالب يجتمع معه: بنو تيم الأدرم. وفي فهر يجتمع معه: بنو الحارث، وبنو محارب، وفهر هذا هو أبو قريش كلها، من لم يكن من ولده فلا نسب له في قريش، ومن كان من ولد فهر فهو قرشي. وفي كنانة يجتمع معه: كل من ينتمي إلى كنانة من بني عبد مناة، وملك، وملكان، وحدال، وعمرو بن كنانة. وفي خزيمة يجتمع معه: بنو أسد، والقارة، وهم بنو الهون بن خزيمة.

وفي مدركة يجتمع معه: بنو هذيل. وفي إلياس يجتمع معه: بنو تميم وإخوتهم، وبنو ضبة، ومزينة، والرباب، وخزاعة، وأسلم، فأما الرباب فهم: تيم، وعدي، وثور، وعكل. وفي مضر يجتمع معه: قبائل قيس كلها: سليم، ومازن، وفزارة، وعبس، وأشجع، ومرة، وسائر بني ذبيان، وغطفان، وعقيل، وقشير، والحريش، وجعدة، والعجلان، وكلاب، والبكاء، وهلال، وسواءة، وبنو جشم، وبنو نصر، وثقيف، وسعد، وسائر هوازن، ومحارب، وعدوان، وفهم، وباهلة، وغني، والطفاوة، وسائر قيس. وفي نزار يجتمع معه: قبائل ربيعة، وهم: بكر، وتغلب، وعنز بني وائل، وعبد القيس وقبائلها، وعنزة، والنمر بن قاسط. وفي معد يجتمع معه: إياد. وفي عدنان يجتمع معه: بنو عك"1. هذه واحدة.. وأخرى وهي أن جميع بطون مكة قبيل البعثة كانت ترتبط ببني هاشم بقرابة ورحم، فعن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيه قرابة"2، وبسبب هذه القرابة نرى القرآن الكريم يكرر في معرض دعوته لأهل مكة أن الرسول "منكم" و"من أنفسكم" و"منهم" يقول تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 3، ويقول سبحانه: {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِم} 4.

_ 1 جوامع السيرة ص2، 3، 4. 2 صحيح البخاري - باب المناقب ج4 ص217. 3 سورة التوبة آية 128. 4 سورة آل عمران آية 164.

ويقول: {جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُم} 1، فالرسول صلى الله عليه وسلم منهم، وهم أقرباؤه، ومع ذلك فدعوته للعالم كله، وعليهم أن يؤمنوا به ليؤكدوا تشرفهم بحمل الرسالة، وتبليغها للعالمين. إن بطون قريش يرتبطون بقرابة مع رسول الله فهم أخواله وأعمامه، وله منهم عمات وخالات، كما يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} 2 ودلالة هذه الآية صريحة في وجود أعمام وأخوال وعمات وخالات له صلى الله عليه وسلم في مكة، وأنه صلى الله عليه وسلم تزوج من بناتهم المهاجرات بعد الهجرة، وبالبحث في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم القرشيات نجد أنهن لسن من بني هاشم، ولكنهن من بقية بطون مكة.. فعائشة من بطن "تيم"، وتلتقي برسول الله في جده مرة. وحفصة من بطن "عدي"، وتلتقي برسول الله في جده كعب. وأم حبيبة من بطن "بني أمية"، وتلتقي برسول الله في جده عبد مناف. وأم سلمة من بطن "بني مخزوم"، وتلتقي برسول الله في جده كلاب. وسودة من بطن "بني عامر"، وتلتقي برسول الله في جده لؤي. وزينب من بطن "بني أسد"، وتلتقي برسول الله في جده خزيمة. وهذا يثبت القرابة القريبة لرسول الله مع بطون مكة جميعا، فهم أعمام وعمات وأخوال وخالات أقرباء لمحمد صلى الله عليه وسلم. إن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لبطون مكة تعود لعدة أجيال قديمة، وهي حقيقة لا شك فيها.

_ 1 سورة النحل آية 50. 2 سورة الأحزاب آية 50.

وقد تحدث القرآن عن هذه القرابة في مجال حث أهل مكة على الإيمان؛ حيث يقول تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 1. فهي تشير إلى القرابة المعروفة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، والتي يجب أن تدفعهم إلى الإيمان بالإسلام أداء لحق المودة، والقرابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 2.. والآية تتضمن -كما هو ظاهر- دلالة قاطعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له في مكة عشيرة، أو بطن خاص يلتحم به التحام القرابة العصبية المباشرة، مع التحام هذا البطن الخاص بوشائج القربى مع سائر بطون قريش، والقرائن القرآنية مضافة إلى أخبار السيرة والروايات، تدل على أن هذا البطن الخاص كان ذا مكانة محترمة، وملك جانبا عزيزا بين الناس. لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من المسلمين بالهجرة من مكة إلى الحبشة بسبب ما نالهم من اضطهاد قريش، لمتابعتهم النبي صلى الله عليه وسلم وعدم وجود من يحميهم وينصرهم، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غيره من رجالات المسلمين القرشيين لم يهاجروا، وظل يقوم بدعوته قويا صريحا واضحا في الإنكار والتخويف والإنذار بلسان القرآن، معتمدا على الله تعالى الذي جعل له من أقربائه أنصارا، مع أنهم لم يؤمنوا بالإسلام3.

_ 1 سورة الشورى آية 23. 2 سورة الشعراء آية 214. 3 يراجع في هذه القضية مواقف عمه أبي طالب الذي عاش حياته مدافعا عن محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يؤمن، وقصة إسلام حمزة التي قامت دفاعا عن محمد صلى الله عليه وسلم، واشتراك بني هاشم والمطلب مع المسلمين في حصار الكفار لهم.. وكلها تدل على ما كان للقرابة والعصبية من نصرة ومساندة. ويجب أن ينظر إلى أن الهجرة إلى الحبشة كانت للمحافظة على روح وقوة الجماعة المسلمة، ولإيصال الإسلام خارج جزيرة العرب.

وفي نهاية هذا المبحث أجد شبهة تستحق أن نرد عليها، فلقد عرض الدكتور/ محمود علي مراد لأحداث السيرة في المرحلة المكية في رسالته للدكتوراه، ورأى أن أغلب مروياتها وضع تمجيدا لبني هاشم، أجداد العباسيين، الذين دونت السيرة في عهدهم؛ ولذلك جاءت أحداث سيرة ابن إسحاق وبخاصة في الفترة المكية تمجيدا لبني هاشم خدمة للعباسيين على حساب الأمويين أعدائهم. ويرى أن النصوص التي تصور عبد المطلب مؤمنا غير صحيحة، ولا تتناسب مع بعض الشواهد التي ذكرها الدكتور في مؤلفه، فقصة حفر عبد المطلب لزمزم، ومواجهته لأبرهة، وإصراره على الوفاء بنذره، بذبح أحد أبنائه العشرة. هذه الأحداث يردها الدكتور، ويستدل في ردها برضى عبد المطلب على وضع الأصنام حول الكعبة، وعدم قيام عبد المطلب بدعوة دينية في قومه، وتسميته أحد أبنائه بـ"عبد العزى"، وجحود أبنائه الديني؛ حيث لم يؤمن أحدهم بمحمد إلا بعد ثلاث سنوات من البعثة1، مما يدل على عدم توجيههم دينيا. ونحن لا نرتضي ما ذهب إليه الدكتور لما يلي: 1- التشكيك في راوي السيرة "ابن إسحاق" غير صحيح، فهو من رواة السنة، وأحاديثه ورواياته مقبولة، وقد وثقه علماء الجرح والتعديل2.

_ 1 سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، د/ محمود علي مراد ص42 بتصرف، وهي رسالة حصل بها المؤلف على الدكتوراه من جامعة السوربون، وهي مترجمة من الفرنسية إلى العربية. 2 محمد بن إسحاق صاحب السيرة التي لخصها ابن هشام من العلماء الثقات، يقول عنه البخاري: روى عنه إبراهيم بن سعد سبعة عشرة ألف حديث، ومن أشهر مشايخه: عاصم بن قتادة، والزهري، وعبد الله بن أبي، وهشام وعمرو ابني عروة بن الزبير، وإبان بن سعيد. يقول ابن هشام عنه: هذا أعلم الناس بالمغازي، ويقول عاصم بن عمر: لا يزال في الناس علم ما بقي ابن إسحاق، ويقول ابن معين عنه: إنه ثقة، حسن الحديث. وقد جرح بعض العلماء ابن إسحاق لإكثاره في الرواية، واتهامه بالقدر، وتتبعه لأولاد اليهود الذين رووا أحاديث الغزوات، وهي أسباب ردها علماء الحديث، وينحصر نقد ابن إسحاق عند إمامين جليلين، هما: الإمام مالك بن أنس، وهشام بن عروة، بناء على أسباب وجدوها فيه، وهي: =

2- لأجداد الأمويين والعباسيين أمجاد ومزايا، فلِمَ نتهم ابن إسحاق بروايته أمجاد العباسيين مع أن إيرادهم هنا مع أحداث السيرة ضرورة علمية لما لهم من صلة مباشرة بصاحب السيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! ولِمَ لَمْ نفهم سبب سكوته عن أمجاد الأمويين، مع أن مجال الدراسة بعيد عنهم، ولم يشر ابن إسحاق إلى الأمويين بأي سوء؟! 3- رد الأحاديث المروية اعتمادا على العقل وحده لا يكفي؛ لأن إيمان عبد المطلب لم يكن بصورته التامة، فهو يشبه الحنفاء كما قلنا.. لكن الدكتور يتصوره رسولا، وينقد على هذا الأساس. 4- تشكك ابن هشام في صحة القصائد التي عزاها ابن إسحاق إلى بنات عبد المطلب، وقد أبرز الدكتور هذا التشكيك، واستشهد به، فلم اعتبر ابن هشام صادقا هنا وغير صادق في مروياته الأخرى عن عبد المطلب؟!

_ = الأول: حرصه على الإكثار من الرواية، وهو أمر كرهه الإمام في حياته، قال عبد الرحمن بن مهدي للإمام مالك: "يا أبا عبد الله، سمعنا في بلدكم -أي: بالمدينة- أربعمائة حديث في أربعين يوما، ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله -أي بالعراق- فقال له: يا أبا عبد الرحمن، من أين لنا دار الضرب التي عندكم؟ دار الضرب تضربون بالليل، وتنفقون بالنهار". الثاني: اتهامه بالقدر، وهي تهمة اتهم بها كثير من المحدثين ولم تنل منهم، وقد أخرج مسلم في صحيحه عن بعضهم. أخرج الخطيب عن أبي زرعة الدمشقي قال: "ومحمد بن إسحاق رجل قد أجمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ منه، منهم: سفيان، وشعبة، وابن عيينة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وقد اختبره أهل الحديث فرأوا صدقا وخيرا، مع مدحة ابن شهاب له، وقد ذاكرت دحيما قول مالك في ابن إسحاق فرأى أن ذلك ليس للحديث، إنما هو لأنه اتهمه بالقدر". وقال الجرجاني: الناس يشتهون حديثه، وكان يُرمى بغير نوع من البدع، وقال موسى بن هارون: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير يقول: كان محمد بن إسحاق يُرمى بالقدر، وكان أبعد الناس منه. الثالث: تتبعه لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وغيرها. "انظر: مع الرسول صلى الله عليه وسلم ص124، 125 بتصرف".

المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها

المبحث الثاني: إرهاصات الميلاد والرأي فيها الإرهاص أمر خارق للعادة يظهره الله قبيل مبعث نبي ما، وهو يختلف عن خوارق العادات الأخرى؛ لأن المعجزة تظهر على يد مدعي النبوة تصديقا له، والكرامة تظهر على يد عبد صالح تكريما له، والمعونة تظهر لعبد صالح معونة له. وقد أورد مؤرخو السيرة المحمدية عددا من الإرهاصات ذكروا أنها وقعت عند ولادته صلى الله عليه وسلم. من هذه الإرهاصات: ما رواه محمد بن إسحاق عن حسان بن ثابت، قال: "والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت؛ إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بـ"يثرب": يا معشر يهود! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك؟! ما لك؟! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به"1. وعن أسامة بن زيد قال: "قال زيد بن عمرو بن نفيل، قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه، واتبعه"2. ما رواه ابن سعد بسنده عن ابن عباس أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به -تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع على الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها، ورفع

_ 1 صحيح السيرة ص14. 2 المرجع السابق ص16.

رأسه إلى السماء، وقالت أيضا: لما ولدته خرج مني نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا، ولدته كما يولد السخل ما به قذر، ووقع إلى الأرض وهو جالس على الأرض بيده"1. ويروي ابن سعد أيضا أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقوم خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك من مرازبته فجمعهم، ولبس تاجه، وجلس على سريره، ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده. قال: أتدرون فيمَ بعثت إليكم؟! قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك. فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى، وما هاله. فقال الموبذان: وأنا -أصلح الله الملك- قد رأيت في هذه الليلة رؤيا، ثم قص علي رؤياه في الإبل، فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب -وكان أعلمهم من أنفسهم- فكتب عند ذلك كتابا: من كسرى ملك الملوك، إلى النعمان بن المنذر، أما بعد، فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة النسائي، فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ فقال: لتخبرني أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم.

_ 1 البداية والنهاية ج2 ص264.

فأخبره بالذي وجه به إليه فيه. قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له: سطيح. قال: فائته فأسأله عما سألتك عنه، ثم ائتني بتفسيره، فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه، فلما سمع سطيح قوله، رفع رأسه يقول: عبد المسيح، على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساواة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت، ثم قضى سطيح مكانه فنهض عبد المسيح إلى راحلته1. والإرهاصات التي ذكرها مؤرخو السيرة عديدة، وكلها تشير إلى حدوث أمر جديد يتأثر به العالم كله، ويصل خبره ونفعه إلى كل مكان في أرض الله تعالى. أدرك من شاهد هذه الإرهاصات أو بعضها حدوث هذا التغيير، لكنه لم يرتبط في أذهانهم بالمولود الجديد، اللهم إلا نفر قليل من أهل الكتاب الذين كانوا يقرءون الكتاب، ويرون صفة رسول الله، الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وسار العلماء القدامى على تصديق كل أثر صح سنده، فلم يبحثوا عن علة الأثر أو غايته؛ لأنهم رأوا أن من الأخبار ما هو متصل بأمر خارق للعادة، لا يصل العقل إلى كنهه وحقيقته، مما جعلهم يقفون عند حد ثبوت النص وتصديقه والعمل به، ورأينا العلماء القدامى يروون إرهاصات النبوة في مؤلفاتهم ودروسهم ولم يعلقوا عليها، مما يدل على أنهم راضون عنها، سعداء بذكرها.

_ 1 البداية والنهاية ج2 ص268، 269.

إلا أننا في العصر الحديث وجدنا عددا من المستشرقين والمسلمين الذين كتبوا في السيرة، يرفضون الإرهاصات باسم العلم والعقل من غير نظر إلى السند، أو مصدر رواية الحدث. فمنهم مَن رفض هذه الإرهاصات بحجة أن الإسلام لا يحتاج إليها في حركته وانتشاره؛ لأنه يحمل عوامل التصديق به في ذاته، كما أن هذه الإرهاصات لم تؤدِّ إلى إسلام أحد، ولم تكن دليلا على صدق الرسالة يوم بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وأيضا فلقد ولد مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم مولده غيره، ومن الممكن أن يدعي أهل هؤلاء الأبناء وقومهم أن هذه الإرهاصات بسبب ميلاد أبنائهم. إن هذا الفريق لا يصرح بكذب الإرهاصات، ولا يقول بها؛ لأنها لا تمثل أمامه فائدة تذكر للدعوة الإسلامية. يقول عباس العقاد: علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تتمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها، فإذا تجمعت هذه العلاقات فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟.. وإذا تعذر عليها أن تتجمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوض ما نقص منها؟ وقد خلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق؟ ولأي عمل من أعمال الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات وكل هاتيك المناقب والصفات؟.. إن المؤرخين يجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية يسردون ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان، وتفسير العِيَان، وتفسير المعرفة، وتفسير الجهالة. فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة، واستفاض أمر الإسلام؟..

لا موضع هنا لاختلاف، فما من بشارة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة. ولم يكن ثبوت الإسلام متوقفا عليها؛ لأن الذين شهدوا العلامة المزعومة يوم الميلاد لم يعرفوا يومئذ مغزاها ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء، أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة، ولأن الذين سمعوا بالدعوة، وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها لؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه. وقد ولد مع النبي صلى الله عليه وسلم أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره، ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين، إلا بعد عشرات السنين، يوم أتت الدعوة بالآيات والبراهين، غنية من شهادة الشاهدين، وإنكار المنكرين، أما العلامة التي لا التباس فيها، ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون، وعلامة التاريخ، قالت حوادث الكون: إن الدنيا في حاجة إلى رسالة، وقالت حقائق التاريخ: محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب تلك الرسالة، ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون، وعلامة التاريخ؟ 1. ومنهم مَن رأى ضرورة عرض هذه الإرهاصات على العقل، فهو ميزان القبول والرفض لأي قول، في إطار الأسس العلمية، التي أخذوها من المستشرقين؛ حيث يعتمدون على العقل اعتمادا كاملا في إدراك كل شيء. وحتى تظهر النظرة العقلية في صورة الحياد العلمي عند أصحاب هذه الاتجاه نراهم يعرضون المرويات على القرآن الكريم أحيانا، فما اتفق معه منها قُبل، وما لم يتفق فمصيره الرفض وعدم القبول، مع أن القرآن يتحدث عن الخوارق المعجزة وغيرها.

_ 1 مطلع النور ص11-13.

وعلى أساس فكرهم هذا رفضوا كثيرا من الإرهاصات، كما رفضوا كثيرا من أحداث السيرة لخروجها على عادة العقل، وسكوت القرآن عنها، ولربما جاءوا لموضعها في القرآن الكريم وأولوه، بما يؤيد موقفهم الرافض لمرويات السيرة والتاريخ، وذلك كموقفهم من شق الصدر وغيرها. وحين ننظر إلى هؤلاء ندرك الفرق بينهم، فكلاهما يرفض إلارهاصات المروية، إلا أنهما يختلفان في سبب الرفض؛ حيث يذهب الفريق الأول في سبب رفضه إلى عدم فائدتها للدعوة، بينما الفريق الثاني ينكر وجودها لعدم تسليم العقل بها. وقبل أن نرد عليهم أشير إلى أن أحداث هذه الإرهاصات جاءت على غير ما ألفه الناس، وأقل ما تتركه في عقولهم البحث عن فاعلها، وعن أسباب وقوعها بهذه الصورة الخارقة، وهذا كافٍ في توجيه أنظارهم إلى التفكير والتدبر، وإن لم يصلوا لشيء. إن الفريقين على خطأ فيما ذهبا إليه لأسباب كثيرة أهمها: أولا: ضرورة التفريق بين الجانب العقلي والصورة النبوية؛ لأن النبوة وحي مستمد من الله تعالى، وقدرة الله تعالى مطلقة، تعلو كثيرا عن نطاق العقل البشري وطاقته. وإذا كانت النبوة محاطة بخوارق العادات، فكيف تدرك حقائق هذه الخوارق بالعقل المحدود. لقد حاول كفار مكة مواجهة النبوة بعقولهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1 وحجتهم فيما طلبوه أن النبوة رئاسة وقيادة، وجدير بها العظماء المشهورون بالغنى والجاه والسطوة؛ ولذلك طلبوها لأحد عظماء مكة أو الطائف.

_ 1 سورة الزخرف آية 31.

ولو عرضنا هذا المنطق على العقل وحده لكان منطقا مسلما، فالعظيم بماله يعطي ويسود، وبجاهه يأمر ويطاع، وبقوته وسطوته يوجه ويسيطر ويحكم. أما لو عرضناه على منطق النبوة والوحي فإن الأمر يختلف كما قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1. إن النبوة رحمة الله تعالى يعطيها لمن اصطفاه واختاره، ولا دخل للعقل فيها؛ لأن العقل محدود التصور، محدود الإدراك، فكيف له أن يتدخل في رحمة الله وعطائه بالرأي والتوزيع والنقد؟!!.. إن العقل يعجز في إدراك شأن صاحبه، ولا يستطيع له أمرا، فأمور الدنيا تجري بقدر الله تعالى، ولا يمكن لإنسان أن يخرج عن هذه القدرة الإلهية. إن الغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، والصحة والمرض، والتيسير والتعسير.. كل ذلك وغيره قدر لا دخل للإنسان فيه.. فأين العقل إذن في هذه المجالات؟!.. إن القدر الإلهي قد يرفع إنسانا ويعطيه، وحينئذ يستخدم كثيرا من العقلاء الموهوبين، ومع أن حظه في العبقرية قليل، مما يدل على أن الأمر بيد الله رب العالمين. إن العقل البشري قد يتصور العظمة في الأمور الظاهرة، كالغنى والوظيفة والسلطان، وتثبت الأيام والتجارب أن العظمة الحقيقية في الجوانب المعنوية، المستورة التي يعلمها الله تعالى وحده؛ ولذلك كانت النبوة قدرا إلهيا {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} .

_ 1 سورة الزخرف آية 32.

لقد استعمل القرشيون عقلهم أيضا أمام الوحي، والقدرة الإلهية في حادثة الإسراء والمعراج، وأنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله لهم، وقالوا له: أنضرب لها الأكباد الإبل شهرا وتزعم أنك تأتيها في ليلة واحدة؟!.. لقد أملى عليهم عقلهم استحالة ما سمعوه من رسول الله؛ لأن العقل لا يسلم أبدا بأن يسافر إنسان ما في زمان النبوة والبعثة، من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ويعود في ليلة واحدة، ونسوا أن الذي أسرى برسول الله هو قدر الله تعالى، والفاعل هو الله، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أُسري بي الليلة" 2، ولم ينسب الفعل لنفسه. إن أصل الخلاف بين الرسول وأهل مكة في هذه الحادثة هو مصدر الفعل والتصور، فأهل مكة يعتمدون على عقولهم، بينما الرسول ينطلق من الوحي والنبوة. لقد ذهب الكفار إلى أبي بكر رضي الله عنه ليكون معهم في تصورهم العقلي وينكر معهم الإسراء والمعراج.. لكنه رضي الله عنه بمنطق الإيمان بالنبوة والرسالة يرد عليهم قائلا: إن قال فقد صدق، إنه يخبرني أن الوحي يأتيه من السماء في لحظة وأنا معه فأصدقه، أفلا أصدقه هنا؟! إن البعض قد يتصور أن الإيمان أبي بكر في شأن حادثة الإسراء والمعراج وغيرها قد بني على غير تفكير، أو على أساس الإيمان فقط، وهذا تصور خاطئ، إنه قد علَّم الجميع درسا فائقا، في كيفية استعمال العقل، وحدوده التي لا ينبغي له أن يتجاوزها.

_ 1 سورة الإسراء آية 1. 2 صحيح مسلم بشرح النووي - باب الإسراء ج2 ص210.

إن العقل له أن يفكر في قول الرسول إنه رسول، فإذا ثبت لديه صدق الرسول فالنتيجة الحتمية الموافقة لأي منهج عقلي، أن يؤمن بكل ما صدر عن ذلك الرسول، بدون تدخل للعقل؛ لأن الرسالة مستمدة من الله عز وجل، وقدرة الله صالحة لكل فعل خالف العقل أو توافق معه، وذلك هو جوهر القياس العقلي الذي أجراه أبو بكر أمام المشركين، لقد قال لهم: إنه يقول لي: إن الخبر يأتيه من السماء في لحظة فأصدقه، فأي غرابة في منطق العقل والعلم أن يصدقه بعد ذلك في أنه قد أسري به إلى بيت المقدس ما دامت القدرة التي أنجزت هذا الفعل هي قدرة الله عز وجل. فليخجل أتباع المدرسة العقلية من أنفسهم، وليتعلموا ذلك الدرس العظيم على يد أبي بكر في كيفية استخدام العقل1. يقول ابن عطاء الله السكندري: زار بعض السلاطين ضريح أبي يزيد رضي الله عنه وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبي يزيد؟ فأشير إلى شيخ كبير في السن كان حاضرا هناك. فقال له: هل سمعت شيئا من كلام أبي يزيد؟ فقال: نعم سمعته يقول: "من زارني لا تحرقه النار". فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وتحرقه النار؟ فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم، إنما رأى "يتيم أبي طالب"، ولو رآه صلى الله عليه وسلم رسولا لم تحرقه النار. ففهم السلطان كلامه، وأعجبه هذا الجواب منه، أي: إنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة واعتقاد أنه رسول الله، ولو رآه بهذا المعنى لتغير حاله، لكنه رآه باحتقار، واعتقاد أنه "يتيم أبي طالب"، فلم تنفعه تلك الرؤية.

_ 1 السيرة النبوية ص57، 58.

وما كان المستشرقون في تركيزهم على بشرية الرسول إلا متابعين في ذلك لهذه النزعة، وكل من يركز على بشرية الرسول من الكُتَّاب المسلمين إنما هو بذلك يتابع المستشرقين والمبشرين في هذه النزعة، أو يتابع أبا جهل، وهم في ذلك ليسوا تقدميين ولا تطوريين، وإنما هم من الرجعيين حيث ترجع فكرتهم إلى ما قبل خمسة عشر قرنا مضت، وينزعهم فيها أبو الجهل كله، وأبو الظلمة القلبية كلها!!! ليس هناك إذن اجتهاد وخطأ وصواب، وإنما هناك تصرفات تصدر عن الكرم والرحمة، فيتحدث الله مبينا طبيعة رسوله الكريمة، فطرته الرحيمة، ورأفته الواضحة، ويبين في الوقت نفسه: أن بعض هؤلاء الذين فاضت عليهم هذه الرحمة ليسوا جديرين بها، وليسوا أهلا لها، لفساد طويتهم وسوء نواياهم. ومن الحقائق المعروفة: أن الإنسان يميل إلى التركيز على "بشر" أو على "يوحى إلي" حسب قوة شعوره الديني وضعفه، فالذي لا إيمان له لا يرى إلا البشرية والعقل والمنهج الوضعي، ومن ضعف إيمانه يركز على البشرية، ويخفف التركيز على البشرية كلما قوي الإيمان، ويزداد التركيز على: "يوحى إلي" كلما ازداد الإيمان حتى يصل الإنسان إلى مستوى ألا يرى، أو يكاد يرى إلا "يوحى إلي".. وهناك إذن طرفان يمثلان فريقين من الناس، طرف "بشرا" أو {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وطرف {يُوحِي إِلَيَّ} أو "رسولا"، وبين الطرفين يتأرجح عدد لا يحصى من المسلمين نزولا وارتفاعا، وانخفاضا وسموا. إن مقياس الإيمان قوة وضعفا، ومقياس درجة الإيمان الذي لا يخطئ، إنما هو ما وقر في القلب، أو غلبه عليه من "البشرية" أو من "يوحى إلي" إنهما يمثلان ما يوضع في كفتي ميزان. إن النبوة اصطفاء إلهي، واختيار رباني، لا يدرك سرها إلا القادر العظيم، ومن الضروري أن توضع في موضعها، ويقف العقل عند حده، وبذلك يتميز جانب

النبوة عن جانب البشرية في التصور الإنساني. ثانيا: التفرقة بين الجانب الإلهي والجانب البشري تكريم للإنسان واحترام للعقل؛ لأن الإنسان إن أدرك حقيقة ذاته وعرف حقوقه وواجباته، وتمكن من القيام بما هو مسئول عنه، ونال ما هو محتاج إليه في كمال ودقة، كان هذا تكريما له. وحينما يكلف العقل بما هو ممكن، وحينما يعيش في إطار قدرته الذاتيه ينال رضى نفسه، ويحسن تفكره وتدبره، ويصير مصدر السعادة والخير لذاته ولصاحبه. وحينما يخرج الإنسان عن طاقته، ويتمادى العقل بعيدا فوق مداركه واستعداداته، فإنه يضل، ويزيغ عن الحق، ويجلب على صاحبه الاضطراب والضياع. من أين للإنسان أن يتصل بقدرة غيبية بعيدا عن ميزان النبوة ومسالكها؟! ومن أين للعقل أن يدرك الغيب الخفي مجردا عن أدواته ومصادره؟؟.. إن العقل ليس هو النبوة؛ ولذلك يجب أن يكون عقلا فقط، ويجب أن يؤمن العقل بالنبوة ليعرف ويعلم، ويؤمن ويهتدي. ثالثا: يتصور القائلون بالعقل أنهم تقدميون، يسلكون منهجا علميا معاصرا، وما دروا أنهم حين أعملوا العقل في مقابل النبوة، والإرادة الإلهية، رجعوا إلى عصور سحيقة، وتشبهوا بمخلوقات قديمة، اعتمدت على عقلها، وبذلك أثبتوا رجعيتهم وتخلفهم. ألم يقف إبليس بعقله إمام الوحي والنبوة، حين أمره الله بالسجود لآدم عليه السلام؛ حيث أبى وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ؟!.. وتمسك برأيه، وتصور صوابه، مع أنه قائم على الضلال والهوى.. على هؤلاء القائلين بالعقل فقط أن يروا مدى رجعيتهم وتخلفهم، ويعلموا أنهم تشبهوا مع أمثالهم الذين وجدوا مع آدم عليه السلام في القول والتوجيه.

رابعا: يرى المنكرون للإرهاصات النبوية غرابة فيها لا يستسيغها العقل؛ ولذلك سارعوا إلى إنكارها، أو السكوت عنها، ومن عجب أن هؤلاء المنكرين أغلبهم من المستشرقين غير المؤمنين بالإسلام والذين يدينون بالمسيحية؛ ولذلك نسألهم: أيها أكثر غرابة في عقولكم: امرأة تحمل بلا زوج، أم انطفاء نار؟ وأيها أقرب للعقل: اهتزاز قصر، أو ولادة طفل بغير أب؟!.. إن المسلم يصدق بكل هذا؛ لأنه يؤمن بالله، وبنبوة عيسى عليه السلام.. ولكن السؤال نوجهه لهؤلاء الذي يحاولون تفسير الإسلام تفسيرا عقليا، بعيدا عن بيئته وطبيعته. لو وقفنا أمام كل غريبة من الغرائب، ولم نسلم بها، وأخذنا نعرضها على التجربة والقواعد العقلية، فسوف نهدم كثيرا من وقائع الحياة التي نعيشها، فكم فيها من الغرائب والعجائب؟!! إن كون الله معجز كله، وتصور إيجاده فوق مستوى العقل كسائر أسرار الله في الخلق. كيف وجد العقل؟ وكيف يتصور ويفهم ويحكم؟ كيف للقلب أن يعمل؟ ومتى ينشط؟ ومتى يتوقف؟ كيف تقوم الجوارح والأحاسيس والعواطف بوظائفها؟ إن كل ذلك وغيره قدرة إلهية، لا تدرك العقل حقيقتها وكنهها، مما يجعلنا نقول لهؤلاء: متى تقفون بالعقل عند طاقته وحدوده؟.. متى؟!.. خامسا: المنكرون للإرهاصات والأحاديث يحكمون القرآن الكريم حينما يتصورون تعارض الأحاديث ومرويات السيرة معه؛ لأنهم لا يريدون تكذيب القرآن -كما يزعمون- ولكنهم يردون السنة فقط، حتى يظهروا بمظهر الإنصاف والحياد. ألم يعلموا أن السنة الصحيحة لها حجة شرعية كحجية القرآن الكريم؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه".

والأمر المهم هنا، هو سؤالهم: لِمَ صدقتكم بالقرآن الكريم وهو وحي صادر عن الغيب؟ وهل دفعكم تصديق القرآن الكريم إلى الإيمان بما جاء فيه؟ وقد جاء فيه ضرورة الإيمان بالنبوة والوحي وتسليم الأمر لله رب العالمين. إن إنكار الوحي الغيبي إنكار للإسلام كله، يقول الدكتور/ سعيد البوطي: إن الهمس الذي يدعو المسلمين إلى ثورة علمية إصلاحية في شئون العقيدة الإسلامية يستهدف في الحقيقة نسف الإسلام كله؛ لأن تفريغ الإسلام من حقائقه الغيبية، يعني حشوه بأمور عقلية غريبة عنه؛ لأن الوحي الإلهي -وهو ينبوع الإسلام ومصدره- يعد قمة الخوارق والحقائق الغيبية كلها، ولا ريب أن الذي يسرع إلى رفض ما جاء في السيرة النبوية من خوارق العادات بحجة اختلافها عن مقتضى سنن الطبيعة ومدارك العلم الحديث، يكون أسرع إلى رفض الوحي الإلهي كله، بما يتبعه ويتضمنه من إخباراته عن النشور والحساب والجنة والنار بالحجة الطبيعية ذاتها. كما غاب عنهم أن الدين الصالح في ذاته لا يحتاج إلى مصلح، يتدارك شأنه ولا يحتاج إلى إصلاح يغير من جوهره. غاب عن هؤلاء الناس هذا كله، مع أن إدراكهم له كان من أبسط مقتضيات العلم لو كانوا يتمتعون بحقيقته، وينسجمون مع منطقيته، ولكن أعينهم غابت في غمرة انبهارها بالنضهة الأوربية الحديثة، وما قد حف بها من شعارات العلم وألفاظه، فلم تبصر من حقائق العلم والمنطق إلا عناوينها وشعاراتها، وقد كانوا بأمس الحاجة إلى فهم كامل لما وراء تلك العناوين، وإلى هضم صحيح لمضمون تلك الشعارات1. سادسا: من الحقائق المسلمة أن عديدا من الأطفال وُلدوا يوم مولد محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه من الضرورات المعلومة.

_ 1 فقه السيرة للبوطي ص39.

ومع ذلك فلا تعارض بين كثرة المواليد وهذه الإرهاصات؛ لأن القائلين بها لا يتخذونها دليلا على معرفة الله والتصديق بالرسالة، وإنما يتصورونها رمزا قدريا لإعلان جزء من القدرة المتحكمة في هذا الكون، وتهيئة العقول لاستقبال منقذ البشرية، ومحرر الإنسان من ظلمات الطغاة، وعبث العابثين، المرسل من الله العزيز الحكيم. وحين نقول -والقول حق- إن أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم شهدت حدثا فريدا لا يمكن للعقل تصوره، مع أنه حقيقة ثابتة، وهو هلاك جيش أبرهة بحبات الحصى تنزل على الرءوس فتجعلها كعصف مأكول.. نعم، العقل لا يتصور أن حبات الحصى الصغيرة تملك قوة فكرية تمكنها من اختراق الرأس، وتقتل بعدما تتحرك كل حصاة نحو من تريد قتله!! بلا أدنى خطأ، وهل يمكن لحصاة صغيرة أن تدبر وتقتل وتفعل كل هذا؟! إنها حادثة فوق مستوى العقل.. ولكنها حدثت لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} وكان حدوثها بعد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يوما على الأرجح. وما الذي يمنع أن تكون هذه الحادثة من إرهاصات المولد النبوي.. إن القضية في النهاية ليست منهجا علميا أو عقليا، بقدر ما هي قضية إيمان وتسليم.. فالمؤمن يصدق بالخبر إذا اشتمل على صدق روايته، ويكذبه إذا لم تأته الرواية صحيحة مقبولة، أما غير المؤمن فإنه ابتداء لا يصدق، وبعدها يبحث عن مبرر يؤيد مقالته وتكذيبه. سابعا: الوجود كله خضع واستسلم لله تعالى، إلا أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تمرد عن الحق، ولعب به الشيطان، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ

أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} 1. والآية توضح هذه الحقيقة التي يجب أن تُعرف معرفة مَن رأى وشاهد؛ لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} .. هذه الحقيقة تبين ما يلي: 1- كل من في السماوات ومن في الأرض وما بينهما، صغيرا أو كبيرا -خاضع ومستسلم لله تعالى. 2- المخلوقات الكبرى المنتظمة في عملها كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدواب -خاضعة خاشعة لله رب العالمين. 3- انقسم الناس إلى قسمين: قسم خشع وخضع لله، وهو القسم الفائز الناجي. أما القسم الثاني فهو قسم متمرد ضال؛ ولذلك حق عليه العذاب، ووجبت له اللعنة، ولحقه الهوان؛ لأنه مطرود من رحمة الله تعالى. إن هذه الحقيقة بعناصرها المذكورة تؤكد حاجة الكون إلى التوازن بعودة الإنسان إليه، وائتلافه معه في حركته ونشاطه. ألا يحق لهذا الكون أن يسعد يوم ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سيبعث لإعادة التوازن بين سائر عناصره، وليضع الإنسان في إطار الطاعة لله رب العالمين؟ يقول الشيخ/ محمد متولي الشعراوي: "تقرأ في كتب السيرة أنه حدث في يوم مولده صلى الله عليه وسلم: أن انشق إيوان كسرى، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نيران فارس ... إلى آخره"، وهذه هي المعروفة بإرهاصات النبوة. نجد بعض الناس يرددها بأسلوب التأدب مع سيرته صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه لا يتعرض لها بالنفي أو التأييد، وإن كان يقترب من الرفض، وربما ذهب بعض الناس الذين

_ 1 سورة الحج آية 18.

لا يريدون الإقرار بهذه الظواهر، أو المعجزات الكونية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في حاجة إلى هذه المعجزات الكونية. أما وقد وضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليعيد انسجام الإنسان مع الكون الساجد، وأن كل ما في الوجود يسجد ويسبح لله، غير أن الجنس البشري هو الذي يشذ بعضه عن الإجماع في الخضوع والسجود لله، فإن هذه الظواهر الكونية المخلوقة لله والعابدة له بلغتها كما أثبتها القرآن ليس مستبعدا أن تفرح، وأن تبتهج بمثل هذا المولد، مولد الإنسان الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليعيد إلى الإنسانية رشدها. فإذا عرضت لنا السيرة أن أشياء من الكون فرحت بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم أو حدثت منها أشياء، فذلك أمر لا نستبعده على كون مسبح لله، عارف بحق الله، وأيضا لسنا نحن المطلوبين بأن نؤمن بهذا، ولكن الذي آمنوا بها هم الذين شاهدوها، وهم الذين سمعوا عنها، فالذين سمعوها حجة على أنفسهم، ونحن نتلقى عنهم الخبر فإن كنا موثقين لهم في الخير صدقناه، وإن لم يتسع ظننا لتوثيقهم في خبرهم فنحن أحرار في أن نصدق أو لا نصدق، ولكن منطق الوجود، لا يمنع حدوث شيء من ذلك أبدا، فإذا ذكر أن إيوان كسرى قد انشق، فماذا في ذلك من الدهشة؟ وماذا في ذلك من العجب؟ أنستبعد أن يوقف شق الإيوان بالميلاد المحمدي؟ ولِمَ يكون هذا الاستبعاد؟ أننكر على الله أن يطفئ نار فارس التي تعبد من دونه، وأن يوقت ذلك بالميلاد المحمدي؟ وما سبب الإنكار؟ أنتصور ألا تغيض بحيرة ساوة مع الميلاد المحمدي؟ ولماذا هذا التصور؟ 1 ألم ينشق القمر نصفين معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألم يفض الماء من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم؟ ألم يحدثه الحجر والشجر؟

_ 1 السيرة النبوية ص63.

ألم..؟ ألم..؟ ألم..؟ وقد يرد هنا سؤال: وهل تدرك الكائنات؟ نعم الكائنات مدركة عابدة لربها.. لنقرأ قول الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} 1، ونقرأ قوله تعالى وهو يحكي حديث النمل والهدهد، يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} 2، ويقول تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} 3 ... ألا يدل ذلك على أن الكون يدرك، فللطير منطقه وللنمل فكره وحذره، وللهدهد تخطيط وفهم وعمل. ثامنا: ونحن في إطار الدعوة ندرك ضرورة وجود المنبهات الموقظة قبيل عرض الشيء الهام، لينتبه الغافلون، ويستيقظ النائمون.. وهذه قضية علمية معاصرة.

_ 1 سورة النمل آية 16. 2 سورة النمل آية 18. 3 سورة النمل الآيات 20-22.

ألا يدفعنا استيعاب هذه القضية إلى اعتبار أن هذه الإرهاصات جاءت بقدر الله للتنبيه، وليعلم من يعقل أن لا دوام لمخلوق، وما يلحقه النقص، والتغيير ليس بإله، وكل ما يلحقه العجز والهلاك والانتهاء فهو مخلوق لله رب العالمين.

المبحث الثالث: ميلاد اليتيم محمد

المبحث الثالث: ميلاد اليتيم محمد صلى الله عليه وسلم وُلد محمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من عام الفيل، بمكة المكرمة، في دار أبيه التي كانت موجودة بشِعْب بني هاشم، وقيل: إنه ولد بدار عند الصفا، كانت لمحمد بن يوسف، أخو الحجاج، اشترتها زبيدة زوجة هارون الرشيد، وبنت مكانها مسجدا1، وهي اليوم بناء صغير موجود بجوار الساحة الجنوبية للحرم الشريف، وبها مكتبة صغيرة عامة تعرف بمكتبة الحرم المكي. ومما يدل على ولادته يوم الاثنين ما رُوي أن أعرابيا قال: يا رسول الله، ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو وأنزل عليَّ فيه" 2. ويشهد لولادته صلى الله عليه وسلم عام الفيل حديث قيس بن مخرمة الذي قال فيه: "ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل" 3. يقول محمد بن إسحاق: "ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول"4. كما يروي الترمذي بسنده عن قيس بن مخرمة بن عبد مناف قال: "ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين"5.

_ 1 الروض الأنف ج1 ص184. 2 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الصيام - باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ج8 ص51. 3 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص175. 4 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص171. 5 سنن الترمذي - كتاب المناقب ج5 ص589.

ورُوي عن أبي الحويرث قال: "سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قباث: رسول الله أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل أخضر محيلا أعقله"1. يقول ابن عباس رضي الله عنه: "ولد نبيكم يوم الاثنين"2. وجمهور المؤرخين وعلماء السيرة يجمعون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام الفيل، حين طلع الفجر3. وقد مات أبوه عبد الله وهو حمل في بطن أمه، وكانت وفاته بالمدينة عند أخواله من بني النجار حيث دفن بدار عدي النابغة، يقول ابن كثير: "خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام، إلى غزة، في عير من عيران قريش، يحملون تجاراتهم، فلما فرغوا من تجارتهم مروا بالمدينة، وعبد الله يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلفناه عن أخواله في المدينة وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث، فوجده قد تُوفي، ودفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه، وأخبره"4، وكان وقع خبر وفاته على أبيه وإخوته مؤلما. وكان عُمْر عبد الله يوم وفاته خمسا وعشرين سنة على الصحيح5.

_ 1 البداية والنهاية ج2 ص262. 2 الفتح الرباني ج20 ص189. 3 السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص199، وهناك أقوال ضعيفة تشير إلى غير هذا التاريخ، لكنها مغايرة لرأي جمهور العلماء ومؤلفي التاريخ والسيرة. 4 طبقات ابن سعد ج1 ص61، وهذا رأي الجمهور. 5 المرجع السابق ج1 ص61.

يذهب أغلب علماء التاريخ وكُتَّاب السيرة إلى أن عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم مات والرسول حمل في بطن أمه، يقول ابن إسحاق: "ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أن توفي وأم رسول الله حامل به"1، ولم يترك عبد الله مالا يورثه لزوجه وولده، اللهم إلا جاريته أم أيمن، وخمسة جمال، وقطعة من غنم2. ولذلك ولد النبي يتيما فقيرا لحكمة أرادها الله تعالى.. إن اليتم في حد ذاته منقصة للوليد، وبخاصة في مجتمع يفتخر بالأنساب والأحساب والقبيلة والجماعة، إن الوليد في نشأته بعيدا عن أبيه يعيش منعزلا، لا يحسن معاملة الناس، وينمو ضعيفا في بدنه وسلوكه، لا يتمكن من مواجهة مصاعب الحياة، وإذا وجد مع اليتم الفقر، فإن الصغير يعيش مهملا، لا يهتم به أحد، وإن اهتم به أحد فلتسخيره واستغلاله. من أين لليتيم بأبوة حانية؟!.. تتعهده غلاما، وتربيه طفلا، وتوجهه شابا يافعا، وتدفعه إلى غمار الحياة رجلا مسئولا. وأين لليتيم من رعاية شاملة، تحافظ عليه في نومه، ويقظته، وسكونه، وحركته، وراحته، وعمله؟.. ومن أين لليتيم من ينصره، ويعينه في مواجهة الخطوب والحوادث؟ فإذا ما انضم إلى اليتم الفقر، فالنتيجة أسوأ وأظلم.. إن اليتيم الفقير لا ينال التعليم الذي يريده، ولا يتمكن من نيل الأعمال التي يرغبها؛ لأن غيره أسبق إليها منه، وله من يساعده، أما اليتيم الفقير فإن الجميع ينصرفون عنه، ولا يهتمون بشأنه!!! ذلك هو منطق الواقع والحياة. فاليتيم ضعيف، مهمل، منعزل، تؤثر معيشته في خُلُقه وسلوكه..

_ 1 سيرة النبي ج1 ص158. 2 سبل الهدى والرشاد ج1 ص400.

ولذلك كانت وصية الله باليتامى من أجل إيجاد دافع إيماني، يجعل المسلم يراقب الله في معاملتهم، ويطيع الله في حسن رعايتهم، والإحسان إليهم. يقول الله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر} 1. ويقول الله تعالى: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 2. ويقول الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} 3. ويقول الله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} 4. ويقول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 5. ويقول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} 6. ويقول الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 7.

_ 1 سورة الضحى آية 9. 2 سورة الفجر الآيتان 17، 18. 3 سورة الماعون الآيتان 1، 2. 4 سورة البلد الآيات 11-15. 5 سورة الأنعام آية 152. 6 سورة الإنسان آية 8. 7 سورة البقرة آية 220.

ويقول الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} 1. ويقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2. والآيات كثيرة، والأحاديث معها مبينة وشارحة، وكلها تدور حول الاهتمام باليتيم حتى لا يضيع في مجتمع يهمله. إن الآيات تدعو إلى حسن معاملة اليتيم، وعدم القسوة معه، وترك دَعِّه وزجره وظلمه، حتى يجد من المؤمنين من يعوضه فقدان الأب والأم.. كما تدعو الآيات إلى ضرورة المحافظة على مال اليتيم، وتنميته بالحق والعدل، والابتعاد عن أكله بالباطل، أو الاستيلاء عليه بأي وجه من الوجوه. وتدعو الآيات إلى العمل على إصلاح اليتيم، والعناية بتربيته، وتوجيهه نحو الخير والفلاح. وتدعو الآيات إلى أهمية رعاية اليتيم ماليا، إن كان في حاجة للمال؛ حيث الآيات وضحت أن إعطاء اليتيم من المال له أثر كبير على المعطي، إنه بهذا العطاء يتخلص من العقبة، ويدخل الجنة، ويشرب السلسبيل، ويقرب من الله تعالى. إن الإسلام واجه واقع اليتيم بشريعته العادلة؛ لنشر الخير بين الناس أجمعين. وتعامل مع طبيعة البشر ومع ميولهم الفطرية؛ ليترقى بها في رفق ولين. هذا في الإسلام.. وبالإسلام وحده. أما في الجاهلية، حيث لا دين ولا شريعة، فإن الأمر يختلف..

_ 1 سورة النساء آية 2. 2 سورة النساء آية 10.

لكن الأمر مع الأنبياء في صغرهم له وضعه الخاص؛ لأن الله يصطفيهم بعلمه وإرادته، ويربيهم بقدرته ومعونته. ومع قدرة الله تعالى تتوقف سنن الكون، وتنعدم التأثيرات المادية، ويقف العقل مستسلما مصدقا، وليس له إلا أن يؤمن ويصدق، بعدما يرى المسيرة مع المصطفين الأخيار. هذا هو موسى عليه السلام، ولدته أمه وخافت عليه أن يذبحه فرعون، فألهمها الله تعالى أن تضعه في صندوق، وترميه في النهر، وتترك الأمر بعد ذلك لله، وفعلت وهي تتساءل عن مصيره.. وهل سيموت غريقا؟ وهل ستأكله الحيتان والأسماك؟ وكيف يحيا بلا رضاعة؟ وكيف الطريق لإرضاعه؟.. أسئلة لا يجيب عليها العقل.. لكن مسار القدر مدهش عجيب، وقد أجاب بإعجاز إلهي حكيم، لقد وصل الصندوق إلى بيت فرعون، واتخذ فرعون وزوجته موسى ابنا لهما، وأعاداه لأمه فأرضعته، ثم سلمته لفرعون يريبه تربية ملكية خاصة، يقول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 1. من كان يتصور أن الإلقاء في اليم هو سبب النجاة؟ ومن يعقل أن فرعون بحذره هو الذي ربَّى موسى عليه السلام، وخلصه من الضعف واليتم والحاجة؟ وهكذا الأنبياء جميعا!!! - أين تربَّى يوسف عليه السلام؟ وهل رباه وأبوه مع أنه كان حيا يرزق؟! - وكيف وُلد عيسى عليه السلام وتربَّى، وليس له أب أصلا؟! إن الأنبياء صناعة ربانية؛ ولذلك يوجدهم الله في قوالب معينة، وفق حكمته ومشيئته.

_ 1 سورة القصص آية 6.

ومن هنا كان في يتم محمد صلى الله عليه وسلم حكمة يريدها الله تعالى، ويتفضل بها على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.. يجمل الله تعالى هذا التفضيل على محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} 1؛ حيث يشير إلى أن محمدا صلى الله عليه وسلم ولد في رعاية الله تعالى، فبرغم يتمه إلا أن الله أحاطه بالإيواء الشامل، فأحبه كل من رآه، بدءا بمراضعه ومرورا بمن شاركهم في طفولته وشبابه ورجولته. فهو إيواء يتضمن الرعاية والاهتمام والمعاملة والتضحية في مودة صادقة، أغنت محمدا صلى الله عليه وسلم عن رعاية الوالد الحنون. وفي ولادته صلى الله عليه وسلم يتيما فقيرا إشارة إلى بعض الحِكَم الإلهية، التي يمكن استنباطها في العصر الحديث، ومن أهم الحِكَم المستنبطة ما يلي: 1- أراد الله تعالى أن ينشأ محمد صلى الله عليه وسلم محاطا بالرعاية الإلهية التامة منذ اللحظة الأولى لوجوده في الدنيا، وحتى لا تفسر خيرات الله له بسبب أبيه أو أمه أو بتأثير ماله وغناه.. ولو فكر عقلاء هذا الزمان في تميز هذا اليتيم عن أقرانه ولداته؛ لأدركوا شيئا عن هذه العناية الإلهية بمحمد صلى الله عليه وسلم. 2- في ولادته صلى الله عليه وسلم يتيما فقيرا ردٌّ لأي شبهة يمكن أن يختلقها الأفاكون الضالون كأن يقولوا: إن محمدا أخذ تعاليم النبوة من أبيه أو من أمه؛ حيث يحاول الآباء دائما غرس قيمهم وعاداتهم واهتماماتهم في أبنائهم، بل إن الابن يحاول بصورة تلقائية أن يقلد أباه، ويجتهد في حمل فكره ومذهبه. لقد زعم كفار مكة أن محمدا صلى الله عليه وسلم يأخذ ما يقوله لهم من رجل غريب وقالوا ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ

_ 1 سورة الضحى آية 6.

افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1، وفي وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 2. لقد بحث كفار مكة عن شخص له صلة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليزعموا أنه مؤلف الوحي، وأن محمدا يأخذ منه، وقد بيَّن الله كذبهم وضلالهم فيما يزعمون. فلو كان عبد الله والد النبي حيا لسهل عليهم ادعاء أنه المعلم لولده، وأن الوحي من كلامه وتأليفه.. لكن الله تعالى قطع عنهم هذا الطريق بوفاة عبد الله، وميلاد محمد بعد وفاته. 3- وفي ولادته صلى الله عليه وسلم يتيما تأكيد لحقيقة غائبة عن الكثير من الناس، وهي أن الأمور كلها بقدرة الله تعالى، وليس للإنسان في عمله إلا الكسب والميل، والله خالق كل شيء. ولو عقل الناس لعاشوا مؤمنين حقا، عن اقتناع ورضى، ولسلموا بالقدر، وعاشوا مؤمنين. إن العقل سوف يتساءل أسئلة توصل إلى اليقين والإيمان، ومن هذه الأسئلة: - من أين وجد الإنسان؟ ومن يقدر على هذا الإيجاد؟ - هل يمكن تصور المستقبل من ناحية الصحة والغنى والسعادة، أم أن ذلك مجهول أمام الإنسان؟ - هل تجري الأحداث وفق تقدير العقل، أم أن أحداث الحياة تجعل العقل عاجزا عن تفسير اتجاهاتها غالبا؟

_ 1 سورة الفرقان الآيتان 4، 5. 2 سورة النحل آية 103.

- هل الإنسان يعلم ظواهر الأشياء وبواطنها، أم ماذا؟ إن النظر في هذه القضايا تدفع الإنسان إلى التسليم بقدرة الله تعالى، وحين نقارن محمدا صلى الله عليه وسلم بسائر الناس مع إدراك يتمه وفقره، نتأكد أنه صناعة قدرية ربانية، والعلم بهذه الحقيقة يشير إلى بعض أسرار يتم محمد صلى الله عليه وسلم.. إن الحكمة الإلهية التي أحاطت بمحمد صلى الله عليه وسلم أحاطت بكافة جوانب مولده صلى الله عليه وسلم. فبالنسبة للأشخاص الذين أحاطوا به، وجريا على أن للإنسان من اسمه نصيبا، نرى أنهم مثلوا مع محمد عدة معانٍ نبيلة، فمن أمه آمنة كان الأمن والهدوء، ومن قبيلته الشفاء كانت العافية والصحة، ومن حاضنته أم أيمن كان اليُمْن والبركة، ومن مرضعته حليمة السعدية الحِلْم والسعد، ومن جده العبودية، ومن عمه التوجه إلى القادر والطلب منه، وكأن الله تعالى أوجد في حياة محمد صلى الله عليه وسلم هذه المسميات لتتحول في حياته إلى خُلُق وسلوك. وبالنسبة لتسميته فلقد ألهم الله جده عبد المطلب حين أخبرته السيدة آمنة بوضع حملها أن يسميه محمدا. يقول السهيلي: "سئل عبد المطلب: ما سميت ابنك؟ فقال: محمدا. فقيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك. فقال: إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم. وكان ذلك لرؤيا كان رآها في منامه، كأن سلسلة من فضة، خرجت من ظهره، لها طرف في السماء، وطرف في الأرض، وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب، كأنهم يتعلقون بها، فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض؛ فلذلك سماه: محمدا. وذكروا أن أمه حدثته بأنه قد قيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا

وضعتيه فسميه محمدا"1. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فضل تسميته محمدا ويقول: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما، وأنا محمد" 2. يقول القاضي عياض: "وقد سماه الله تعالى في كتابه محمدا وأحمد، فمن خصائصه تعالى له أن ضمن أسماءه ثناءه، فطوى أثناء ذكره عظيم شكره، فأما اسمه أحمد فأفعل مبالغة من صفة الحمد، ومحمد مفعل مبالغة من كثرة الحمد، وتكرره فهو صلى الله عليه وسلم أجل من حمد، وأفضل من حمد، وأكثر الناس حمدا، فهو أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين، ومعه لواء الحمد يوم القيامة؛ ليتم له كمال الحمد، ويشتهر في تلك العرصات بصفة الحمد، ويبعثه ربه هناك مقاما محمودا كما وعده، يحمده فيه الأولون والآخرون، وفي هذين الاسمين من عجائب خصائصه، وبدائع آياته، وهو أن الله عز وجل حمى اسمه أن يسمى بهما أحد قبل زمانه. أما أحمد الذي أتى في الكتب، وبشرت به الأنبياء، فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك. وكذلك محمد أيضا لم يسم به أحد من العرب، ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد، فسمى قوم من العرب أبناءهم بذلك، رجاء أن يكون أحدهم، وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعة السلمي، لا سابع لهم، ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة، أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره، حتى تحققت السمتان "الحمد والثناء" له صلى الله عليه وسلم ولم ينازع فيهما"3.

_ 1 الروض الأنف ج1 ص182. 2 صحيح البخاري ج6 ص435. 3 الشفا للقاضي عياض ج1 ص229-231.

وبالنسبة لولادته يوم الاثنين، فإنه كان لارتباط هذا اليوم بعدد من الأفعال الخيرة التي قدرها الله لكونه المخلوق في هذا اليوم، فلقد ورد الحديث من أن الله تعالى خلق الشجر يوم الاثنين، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "ولد نبيكم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وفتح مكة يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين"1، وفي ذلك إشارة إلى ارتباط الحوادث العظيمة بيوم الاثنين، ومنها مولده صلى الله عليه وسلم.. إن خلق الأقوات والأرزاق والفواكه، والخيرات التي يمتاز بها بنو آدم، ويحيون ويتداوون، وتنشرح صدورهم لرؤيتها، وتطيب بها نفوسهم، وتسكن خواطرهم، لتحصيل ما يبقي حياتهم، على ما جرت به حكمة الحكيم سبحانه وتعالى، كل ذلك كان في يوم الاثنين، فولادته صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم إشارة إلى ما وجد من الخير العظيم والبركة الشاملة للناس أجمعين ببعثته صلى الله عليه وسلم2. وبالنسبة لولادته في شهر ربيع الأول، فلما في هذا الشهر من خيرات تتوافق مع خيرات مجيئه إلى الدنيا؛ حيث الازدهار، والجدة، والحسن، والنفع العام. ففي الربيع تبدو خيرات الله تعالى في الكون؛ حيث ينبت الزرع، ويفيض الضرع، ويأتي الحب والنوى، وتنتشر الخضرة الجميلة في ربوع الأرض كلها، وفي السهول والجبال.. والجو في الربيع معتدل المناخ لا حرارة فيه، كما تقل فيه العلل والأمراض بفضل الله تعالى. وفي مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه تحقيق لهذه المعاني، فلقد أتى صلى الله عليه وسلم بما يسعد الناس في الدنيا والآخرة.. ورسالته صلى الله عليه وسلم قائمة على الاعتدال، والاستقامة، دائمة العطاء، شاملة لكافة الخلق، سهلة، ميسرة.

_ 1 الفتح الرباني ج20 ص189. 2 سبل الهدى والرشاد ج1 ص406.

وبالنسبة لميلاد المصطفى في عام الفيل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ولد قبل وقوع الحادثة بخمسين يوما، فمن أجل أن يدرك الناس أن قدرة الله الغائبة عنهم تتصل بكل موجود، وكل ما في الكون قدر إلهي محض، وإذا أراد الله شيئا قال له: كن فيكون، حتى إذا جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم علموا أنه المبعوث لهم من الله تعالى. ومن أين للناس أن يدركوا هذه الأسرار في يوم مولده صلى الله عليه وسلم؟ إن هذه الحِكَم وهذه الأسرار لم ترتبط وقتها في أذهان من رأوها بمبعثه محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، ولا يراد منها ذلك، ويكفي أنها تحرك الأذهان نحو عدم تأليه من يزول، ويتغير مثل النار المنطفئة، أو البيوت المكسورة، أو الأصنام المهتزة، وليتأكدوا من وجود قوة قاهرة تحقق أعمالا، لا يقدر عليها الناس، ولا يمكنهم تفهم أسرارها. وذلك أثر ممكن الحدوث، وبخاصة أن أهل الكتاب وحكماء العرب كانوا يؤمنون بمبعث نبي بشرت به الكتب المنزلة، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، ويقول سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. يقول ابن كثير: يخبر الله تعالى أن أهل الكتاب يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون أنه صادق، وقد جاء وصفه مكتوبا مدونا في التوارة والإنجيل مع أساسيات دعوته في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتحليل الطيبات، وتحريم الخبائث3.

_ 1 سورة البقرة آية 146. 2 سورة الأعراف آية 157. 3 تفسير ابن كثير ج1 ص194 بتصرف.

إن العالم كله قبيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبيل مولده كان في انتظار رسول جديد يجمع العالم على الحق.. وعلى هذا فإن حدوث الميلاد محاطا بهذه الحكم، يمثل عوامل تصديق رسالة الرسول بعد مبعثه، وتعد دوافع إيمانيه للعقلاء الذين يعرفون أن النبوة صناعة ربانية، ولا مانع من جريان الأحداث معها على نحو خارق لعادة الناس. والله أعلم حيث يجعل رسالته.

المبحث الرابع: محمد في ديار بني سعد

المبحث الرابع: محمد في ديار بني سعد ... المبحث الرابع: محمد صلى الله عليه وسلم في ديار بني سعد بعدما وضعت السيدة آمنة بنت وهب حملها أرسلت إلى جده عبد المطلب وأخبرته بولادة حفيده، فسُر به كثيرا، وأخذه ودخل به الكعبة، ودعا له بخير، وسماه محمدا، فلما سئل عن سبب هذه التسمية مع أنها لم توجد في آبائه أو في أقربائه، قال: أردت أن يحمد في السماء عند الله، وفي الأرض عند الناس1. يذكر السهيلي أن التسمية كانت لرؤيا رآها عبد المطلب توافقت في دلالتها مع ما حدثته به أمه صلى الله عليه وسلم2. يروي ابن عساكر أن عبد المطلب سر بولادة محمد كثيرا، وعق عنه بكبش، وقد عاش الوليد في كنف أمه سبعة أيام أرضعته فيها ومعها قبلته "الشفاء"، وقد سر أعمامه بميلاد ابن لأخيهم الذي فقدوه صغيرا، لدرجة أن أبا لهب أعتق جاريته ثويبية عندما أخبرته بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم، فذهبت إلى أمه "آمنة"، وأرضعته معها3. أقبلت آمنة على وليدها بالحنان والرفق، في انتظار مرضعة تستلمه؛ لتقوم بتربيته في البادية؛ حيث الخلاء الواسع، والطبيعة الجميلة، وبساطة الحياة، وفطرة الناس، وكانت عادة أثرياء أهل مكة أن يسلموا أولادهم بعد ولادتهم، لمرضعات من البادية لقاء أجر ورزق. واتفق أن جاءت المراضع من بني سعد يلتمس أبناء الأغنياء؛ طمعا في الرزق واليسار

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج1 ص182. 2 الروض الأنف ج1 ص183. 3 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب النكاح - باب ما يحرم من الرضاع ج7 ص12، وثويبية هي التي أرضعت عمه حمزة وأبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي؛ ليكون لهما أخا في الرضاع.

ومروا جميعا على آمنة، فرأوا ولدها يتيما فقيرا، فتركنه لقلة الأجر، وضآلة العطاء المنتظر من يتيم فقير. ووجد النسوة عند أبناء الأثرياء ما يأملون، ما عدا حليمة السعدية، فإنها كانت فقيرة ضعيفة، رأت الأمهات منها ما صرفهن عن اختيارها مرضعة لأبنائهم، فلبنها قليل، وجسدها نحيل، وأتانها هزيل، والفقر باد عليها، فانصرفوا عنها إلى غيرها. ووجدت حليمة نفسها مضطرة لأخذ محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا تعود لديارها خاوية الوفاض، فكان في أخذها له الخيرة والبركة، وظهر ذلك في كافة جوانب حياتها وأسرتها، ونعمت بهذا الخير هي وقومها بعد ذلك. وحليمة هي بنت أبي ذؤيب، وهو عبد الله بن الحارث بن سعد من هوازن، وتعرف بحليمة السعدية، وكنيتها أم كبشة.. وزوجها هو الحارث بن عبد العزى بن رفاعة من هوازن كذلك، ويكنى بأبي كبشة. وقد شرَّفها الله تعالى بإرضاع محمد صلى الله عليه وسلم، فصارت له أما، وصار زوجها له أبا، وصار أبناؤها إخوته، وهم: عبد الله بن الحارث، وحفص بن الحارث، وأمية بن الحارث، والشيماء، وهي خذامة بن الحارث، وقد أكرمها الله تعالى، ففاض الخير في كل جوانب حياتها ببركته صلى الله عليه وسلم، رغم أنها لم تكن راغبة فيه، ولولا انصراف الوالدات عنه ما أخذته. تحكي حليمة قصتها مع رضاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء بمكة، على أتان لي قمراء قد أدمت بالركب، وخرجنا في سنة شهباء، لم تبقِ لنا شيئا، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى، ومعنا شارف لنا، والله إن يبض علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لي ما نام ليلنا أجمع، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يمصه، وما في شارفنا من لبن

نغذوه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فشق ذلك علينا ضعفا وعجفا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء. فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة رضاعة، من والد المولود، فكنا نقول: يتيم! وما عسى أن نصنع أمه؟ وما يفعل جده؟ فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي، ولم آخذ رضيعا. قال: لا عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، فلما أخذته رجعت إلى رحلي1. وقد رأت حليمة فضل الله عليها عقب عودتها إلى رحلها بمحمد صلى الله عليه وسلم، تقول: "فلما وضعته في حجري، أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي. ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا لبنها حافل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا ليلتنا تلك بخير ليلة شباعا رواء، وقد نام صبيانا. يقول أبوه -يعني زوجها- والله يا حليمة، ما أراك إلا أصبت نسمة مباركة، قد نام صبيانا ورويا. فقلت: والله إني لأرجو ذلك. ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يابنة أبي ذؤيب، ويحك، أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟

_ 1 مع الرسول ص189.

فأقول لهن: بلى والله، وإنها لهي هي. فيقلن: والله إن لها لشأنا. ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعا لبنا، وتروح أغنامهم جياعا هالكة ما بها من لبن، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذويب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير، حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، كان صلى الله عليه وسلم يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة، فبلغ ستا وهو غلام جفر"1. إن رعاية الله تعالى مستمرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هي بركاته تحل بحليمة؛ حيث أخصبت أرضها الجدباء، ودر لبن إبلها الجاف، وصارت ترى النعيم في كل شئونها. وقد أجمع مؤرخو السيرة على رواية ما حكته حليمة عن قصة إرضاعها محمدا صلى الله عليه وسلم.. وهي بما روت تضيف فصلا جديدا من تكريم الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.. ولما بلغ عمره صلى الله عليه وسلم سنتين فصلته حليمة، وعادت به إلى أمه في مكة.. ويرجع السبب في عادة أثرياء مكة إرضاع أولادهم وتنشئتهم في البادية إلى أمور نتملس بعضها فيما يلي: 1- تتميز البادية بالنقاء والصفاء؛ حيث الخلاء الواسع، والفضاء الرحيب، وهذا يساعد في اتساع الأفق، وبعد المدارك، ويؤدي إلى هدوء الطبع، واستقرار النفس، فالناس في البادية يعيشون بين الخضرة اليانعة، والطبيعة الخلابة، مع الطمأنينة والهدوء، فلا اشتغال لهم بقضايا السلطة والإدارة،

_ 1 مع الرسول ص189.

ولا عناء معهم في السعي والتجارة، ولا تعب في الترقي والصناعة، إن حياتهم الرتيبة تصنع الهدوء والاستقرار. 2- تصنع البادية من أبنائها رجالا يعتمدون على أنفسهم، فليس لهم جيش يحميهم، ولا رجال أمن يحرسونهم، وإنما يعتمد كلٌّ على نفسه؛ ولذلك ينشأ البدوي على الجرأة والشجاعة، ويتعود الإقدام وعدم الخوف، ويعتمد البدو على أنفسهم في الدفاع والنصرة والحماية. 3- يعيش أبناء البادية في مجتمع مغلق، لا يأتيهم غريب ولا يعيش بينهم أجنبي، وهذا الوضع ساعدهم على المحافظة على الفطرة الطبيعية، واللغة الفصيحة، والنسب الصريح، والقوة البدنية، في ترابط الأقارب، ومودة المحبين. إن الآباء قصدوا تربية أبنائهم في البادية؛ لينشئوا أقوياء البنية، فصحاء اللسان، حسني الأخلاق، يتميزون بهدوء الطبع، وشجاعة السلوك، وحب التعاون والتواد، وتلك عوامل أرادها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فأرضعته حليمة السعدية ونشأ في ديار بني سعد؛ ليستفيد بما أراده الله له. عادت حليمة السعدية بمحمد إلى أمة السيدة آمنة بعد تمام إرضاعه وفصاله، وذلك على عادة سائر المراضع مع أبنائهن، ولم تكن حليمة سعيدة بعودته لأمه؛ لأنها تخاف توقف الخير الذي تدفق عليها، تقول حليمة: "فقدمنا به على أمه، ونحن أحرص شيء على مكثه فينا؛ لما كنا نرى من بركته"1. عرضت حليمة على آمنة أن تعود بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى ديارها مرة ثانية لتستمر بركته، ولتبتعد به عن وباء كان بمكة يومذاك، فوافقتها آمنة، وأعادته معها مرة ثانية إلى ديار بني سعد، وبخاصة أن مكة يومذاك كانت موبوءة، وأملت أن يزداد محمد نضارة وازدهارا ونموا في بدنه وعقله وشخصيته، ليشب رجلا له قدره ومنزلته

_ 1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص164.

ويقوم بدوره مع جده وأعمامه وقومه. وأخذته حليمة وعادت به سعيدة مرة ثانية، وفرحت بذلك، إلا أنها اضطرت إلى إعادته لأمه حين بلغ عمره خمس سنوات وشهرا، ولم تره بعد ذلك إلا مرتين، الأولى: بعد تزويجه صلى الله عليه وسلم خديجة، والثانية: يوم حنين، وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى. وكانت آمنة قد أوصت حليمة بمحمد، وعرفتها بما حصل معها، في حملها وولادته، وبينت لها ما رأت وما شاهدت من كرامات صاحبت مولده، وقالت لها: احفظي ابني هذا، واحذري عليه الرهبان والكهان. تقول حليمة: مر بي بعض اليهود فقلت لهم: ألا تحدثوني عن ابني هذا؟! فإني حملته كذا، ووضعته كذا، ورأيت كذا! كما قالت أمه. تريد حليمة بذلك أن تعرف شيئا عن الأسرار المتصلة بهذا الغلام المبارك. تقول حليمة: لما رآه اليهود، قال بعضهم لبعض: اقتلوه. وسألوها: أيتيم هو؟ فقلت لهم: لا، هذا أبوه، وأنا أمه. فقالوا: لو كان يتيما لقتلناه. فذهبت به حليمة وقالت: كدت أخرب أمانتي1. يقول ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن الذي أهاج أمه السعدية على إعادته لأمه أن نفرا من نصارى الحبشة رأوه معها، حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه، وسألوها عنه، وقلبوه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن، نحن نعرف أمره.. يقول ابن إسحاق: إنها لم تكد تنفلت به منهم2.

_ 1 الطبقات الكبرى ج1 ص71. 2 سيرة النبي ج1 ص167.

وعاد محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمه ليبدأ مرحلة جديدة من قومه وعشيرته.. وفاء النبي لأيام حليمة: عاش النبي صلى الله عليه وسلم أيامه الأولى عند حليمة السعدية، ونما جسده بلبنها، وصفا لسانه بلغات بني سعد، وصاحب عديدا من الناس. وعاش محمد -وهو في ديار حليمة- مع قبيلة بني سعد؛ حيث أحبه كل مَن رآه، وأحاطوه بالرعاية الحسنة والتكريم الجميل. وحفظ صلى الله عليه وسلم لحليمة وأسرتها هذا الجميل، وكان يذكره، ويشيد به.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أعربكم، أنا من قريش، ولساني لسان بني سعد" 1. يقول محمد بن المنذر: استأذنت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت أرضعته، فلما دخلت عليه، سر بها، وقال: أمي، أمي، وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه2، وعرَّف أصحابه بأنها حليمة. يروي ابن سعد بسنده أن حليمة قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد زواجه خديجة رضي الله عنها، وشكت إليه جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة في شأنها، فأعطتها أربعين شاة وبعيرا، وانصرفت لأهلها3. وأخرج أبو داود بسنده عن ابن الطفيل رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله يقسم لحما بالجعرانة -وأنا يومئذ غلام أحمل لحم الجزور- إذ أقبلت امرأة حتى دنت إلى رسول الله فبسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: مَن هذه؟ قالوا: هذه أمه صلى الله عليه وسلم التي أرضعته"4.

_ 1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد - كتاب المناقب - باب في حليمة ج9 ص415. 2 الطبقات الكبرى ج1 ص113. 3 المرجع السابق ج1 ص114. 4 سنن أبي داود - كتاب الأدب - باب في بر الوالدين ج2 ص630.

وهكذا كان تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لمرضعته حليمة؛ وفاء لحقها، وبرا بأمومتها، وتكريما لوفادتها.. لم ينسه تغير الحال ما أسدي له من جميل.. ولم يتصور أن ما أخذته من أمه أجرا كافيا في حقها، بل كان صلى الله عليه وسلم يقدر زوجها وأبناءها، فهم أبوه وإخوته في الرضاعة، أخرج أبو داود عن عمر بن الحارث أن عمر السائب حدثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه، فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله فأجلسه بين يديه1. وبعد فتح مكة كانت غزوة حنين، وأسر النبي صلى الله عليه وسلم عددا من هوازن قبيلة حليمة، فجاء وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة لفك أسراهم، وكان رأس القوم، والمتكلم فيها "أبو صرد زهير بن صرد" فقال: إن في هذه الحظائر "مكان الأسرى" أخواتك، وعماتك، وخالاتك، وبنات عمك، وبنات خالاتك، وأبعدهن قريب منك، بأبي أنت وأمي! إنهن حضنك في حجورهن، وأرضعنك بثديهن، وتوركنك على أوراكهن، وأنت خير المكفولين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحسن الحديث أصدقه، وعندي من ترون من المسلمين، أفأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم، أم أموالكم؟ ". فقالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، وما كنا لنعدل بالأحساب شيئا، فرد علينا أبناءنا ونساءنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس، فإذا صليت بالناس الظهر فقولوا: نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب

_ 1 الطبقات الكبرى ج1 ص114.

لكم الناس"، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، قاموا فتكلموا بالذي قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"، وهنا تأثر المهاجرون والأنصار، وقالوا مثل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اتفقوا على قول واحد وقاموا بتسليم الوفد جميع ما أخذوا، وهم راضون سعداء، وأطلقوا سراح ما في أيديهم من سبي هوازن إلا قوما تمسكوا بما في أيديهم، فأعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إبلا عوضا عن ذلك، وفك أسرهم جميعا1. إن الإنسان العظيم لا ينسى جميلا أُسدي إليه، وأو أسدي لأحد من صحابته، ودائما يحفظ الفضل لأهله، وعلى رأس العظماء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، لقد تذكر جميل آل حليمة في وقت عسرهم، وضعفهم فما خذلهم وما هانهم.. بل أكرمهم جميعا، وأعادهم إلى ديارهم أحرارا. وهكذا حافظ رسول الله على الخلق الكريم، فوفَّى لحليمة رضي الله عنها يوم أتت إليه، وأكرم أهلها وقومها صلى الله عليه وسلم، يوم أن وقعوا أسرى عند المسلمين، وقد أسلموا بعد ذلك، وحسن إسلامهم..

_ 1 الطبقات الكبرى ج8 ص115.

المبحث الخامس: شق الصدر

المبحث الخامس: شق الصدر: وتتواصل إرهاصات النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند حليمة بعد عودته معها مرة ثانية، ومن هذه الإرهاصات حادثة شق الصدر، الثابتة بالروايات الصحيحة. يروي مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله في طست من ذهب بما زمزم، ثم لأَمَه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني: ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قُتل، فاستقبلوه، وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى ذلك المخيط في صدره"1. وروى ابن إسحاق عن نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا له: يا رسول الله! أخبرنا عن نفسك. قال: "نعم أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام. واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا؛ إذ أتاني رجلان -عليهما ثياب بيض- بطست من ذهب، مملوء ثلجا، ثم أخذاني فشقا بطني، واستخرجا قلبي فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنة بمائة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فوالله لو وزنته بأمته لوزنها"

_ 1 صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الإسراء ج1 ص392.

وإسناد هذا الأثر جيد قوي1. ويروي أحمد وأبو نعيم في الدلائل عن عتبة بن عبد: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا، ولم نأخذ معنا زادا، فقلت: يا أخي! اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي وكنت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا من علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفه، واجعل ألفا من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوق، أشفق أن يخر عليَّ بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انلطقا فتركاني، وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي "حليمة" فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيرا لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها، وقالت: إني رأيت نورا خرج مني أضاء قصور الشام" 2. وقد تناولت كتب السيرة حادثة شق الصدر، فهي في: سيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، ودلائل النبوة لأبي نعيم، والبداية والنهاية، والخصائص

_ 1 السيرة النبوية ج1 ص175 ورواه الحاكم وصححه. 2 تهذيب ابن عساكر ج1 ص39، والحاكم في المستدرك ج2 ص616، 617، وقال: صحيح على شرط مسلم.

الكبرى للسيوطي، ودلائل النبوة للبيهقي، وسير أعلام النبلاء، وسائر المؤلفات الحديثة، وأشارت إليه بعض كتب التفسير، عند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} 1، وعند تفسير أول الإسراء. وهذه الحادثة التي وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منذ الطفولة المبكرة، تكررت معه بعد ذلك أكثر من مرة، فقد روى الإمام أحمد، وابن حبان، وابن عساكر، عن أبي كعب: أن أبا هريرة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ما أول ما رأيت في أمر النبوة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لفي صحراء، ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم، فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إليَّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما هامسا، فقال أحدهما للآخر: أضجعه، فأضجعاني بلا قسر ولا قصر، وقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهَوَى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أدخل يشبه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمني، فقال: اغد وأسلم، فرجعت بها أغدو رقة على الصغير، ورحمة للكبير"، وهذه هي المرة الثانية. وتكررت مرة ثالثة قبيل البعثة، يروي أنس بن مالك ويقول: لما حان أن ينبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام حول الكعبة، وكانت قريش تنام حولها فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا بأيهم أمرنا، فقالا أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا وجاءا من القابلة وهم ثلاثة، فألفوه وهو نائم فقلبوه لظهره، وشقوا بطنه، ثم جاءوا بماء زمزم فغسلوا ما كان في بطنه، ثم جاءوا بطست من ذهب قد ملئت إيمانا وحكمة

_ 1 سورة الشرح آية 1.

فملئ بطنه وجوفه إيمانا وحكمة1. وتكررت مرة رابعة، لما جاوز النبي صلى الله عليه وسلم الخمسين من عمره، فعن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أُسري به، قال: "بينما أنا في الحطيم -أو قال: في الحجر- قال: فاستُخرج قلبي، ثم أُتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا، فغُسل قلبي، ثم أحشائي، ثم أعيد ... " 2. وقصة شق الصدر هذه تشير إلى تعهد الله -عز وجل- نبيه صلى الله عليه وسلم منذ صغره، وعلى امتداد عمره صلى الله عليه وسلم، وإبعاده عن مزالق الطبع، ووساوس الشيطان، وتلك حصانة حسية للرسول الكريم أضفاها الله عليه؛ ليعيش طاهر الظاهر والباطن بتوفيق الله تعالى. إن الله سبحانه وتعالى -وقد شاءت إرادته منذ الأزل- أن يكون محمد خاتم المرسلين، أراد سبحانه أن يجعل منه المثل الأعلى للإنسان السوي، الذي يسير نحو الكمال بطهارة القلب وتصفية النفس. ولما شب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مكة تعج بمختلف أنواع اللهو والفساد والملاذ الشهوانية الدنسة. كانت حانات الخمر منتشرة، وبيوت الريبة وعليها علامات تعرف بها، ووجود المغنيات، والماجنات، والراقصات، من الأمور العادية الموجودة في ذلك المجتمع تتوجها عبادة الأصنام والأوثان. وكان المجتمع المكي يومذاك يقر ذلك، ويعتبره جزءا من حياة الناس.. والله سبحانه وتعالى برأ رسوله، واختاره من أكرم معادن الإنسانية، ثم اختاره لحمل أكمل رسالات السماء إلى أمم الأرض؛ ولذلك أحاطه بكل أنواع الرعاية والحفظ.

_ 1 حجة الله على العالمين ص272. 2 أخرجه مسلم، وأحمد ج3 ص121، والحاكم ج2 ص616.

وأحاديث شق الصدر صحيحة بالسند، أجمعت عليها سائر مؤلفات السيرة، فلا مجال للشك في سندها. وأحاديث شق الصدر مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه، فهي بذلك من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أبدا. ولا يصح لمسلم أن يشكك في هذه الروايات الصحيحة، ويدعي أن محمدا قال بها، وهو طفل صغير لا يتحمل الرواية. إن شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم كان لإخراج حظ النفس والشيطان من قلبه، لقد كان بوسع القدر الإلهي أن يضع في محمد ما يشاء الله له من فضل وخير، بصورة معنوية غير مدركة بالحواس، لكن الله أراد له هذه الصورة الحسية؛ ليشهد الناس على هذه العجيبة الخالدة التي جعلت من محمد إنسانا قويا، شجاعا طاهرا، نظيف الظاهر والباطن ... ولا نستطيع القول بأن حظ الشيطان مرتبط في النفس بجزء مادي أو غدة معينة؛ لأن هذا مما يستحيل تحديده. وكل ما يمكن الإشارة إليه أن شق صدر محمد صلى الله عليه وسلم من عناية الله به؛ ليترقى في الطهر، ويسمو في السلوك، ويعلو في روحانيته وشفافيته، ويقترب في نورانيته من الروح والملأ الأعلى. ومن العجب أن رأينا من ينكر حادثة شق الصدر من العلماء المسلمين، فها هو الدكتور/ محمود مراد يتحدث عن طفولة النبي صلى الله عليه وسلم وشق صدره وغيرها من الإرهاصات فيقول: "يغلب ذكر الأعاجيب فيها ذكر الواقع، في قصص ساذجة لا تشبه ما ورد في النص من أحاديث محكمة عن عبد المطلب"1. فشق الصدر في رأيه كلام ساذج يتضمن أعجوبة لا يتصورها الواقع، ولا يسلم بها، فهي عنده قصة مردودة.

_ 1 محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للدكتور/ محمود مراد ص41.

والدكتور/ محمد حسنين هيكل يرد حادثة شق الصدر بضعف السند، وبأن محمدا رواها وهو طفل صغير، وبأنه لا حاجة إليها في إثبات الرسالة، وبأن الإسلام أقام دعوته على العقل الذي يتعارض مع تصور هذه الحادثة1. والمنكرون لشق الصدر فريقان: فريق ينكره إنكارا تاما، ويبحث عن مبررات تؤيد إنكاره، فإن كان مسلما يذهب إلى ضعف سند روايات شق الصدر، وعدم تحمل الصغير للرواية، وإن لم يكن مسلما لجأ إلى التحليل العقلي، والواقع التجريبي ليصل الجميع إلى إنكار وقوع شق الصدر، ويرى هذا الفريق أن شق الصدر ليس ضروريا؛ لأن الله قادر على إنفاذ ما يرى، بدون هذه التصورات المزعومة، وبخاصة أن حظ الشيطان في النفس لا يسكن في عضو ما، وإنما هو يجري في الجسم كله مجرى الدم. والفريق الثاني: ينظر إلى حادثة شق الصدر، ويرى صحة الأحاديث الواردة التي يؤكدها قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} فقد نزلت هذه الآية لتأكيد شق الصدر كما يقول الإمام الخازن في تفسيره2؛ ولذا يبحث عن مخرج لإنكاره بعدما سلم بصحة أحاديث شق الصدر. رأى هذا الفريق صحة الأحاديث، وعلم أنها كانت بعد البعثة؛ إذ تحدث بها صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها، فذهب إلى تأويل شق الصدر بأنه يعني التطهر المعنوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن حادثة شق الصدر وقعت بصورة حسية، وتكررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والروايات الصحيحة تؤكد ذلك، فقد جاء في بعضها: "فشق من النحر إلى مراق البطن".

_ 1 انظر: حياة محمد ص128، 129 بتصرف. 2 تفسير الخازن ج7 ص262، وذكر الخازن أن الشق أحد معاني شرح الصدر.

وفي بعضها: "إلى أسفل بطنه". وجاء في إحداها: "فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته". وفوق ذلك كله فأنس بن مالك رضي الله عنه يقول: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره1. يقول الدكتور/ محمد سعيد البوطي في رده على كلا الفريقين: رُويت هذه الحادثة بطرق صحيحة وعن كثير من الصحابة. وليست الحكمة من هذه الحادثة -والله أعلم- استئصال غدة الشر في جسم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو كان الشر منبعه غدة في الجسم، أو علقة في بعض أنحائه لأمكن أن يصبح الشرير خيِّرا بعملية جراحية، ولكن يبدو أن الحكمة هي إعلاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتهيئته للعصمة والوحي، منذ صغره بوسائل مادية؛ ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به، وتصديقهم برسالته. إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي؛ ليكون ذلك الإعلان الإلهي ظاهرا بين أسماع الناس وأبصارهم، وعلى مستوى تصوراتهم. وأيا كانت الحكمة، فلا ينبغي -وقد ثبت الخبر ثبوتا صحيحا- محاولة البحث عن مخارج لصرف الحديث عن ظاهره وحقيقته، والذهاب إلى التأويلات الممجوجة البعيدة المتكلفة، ولن نجد مسوغا لمن يحاول هذا -رغم ثبوت الخبر وصحته- إلا ضعف الإيمان بالله عز وجل. ينبغي أن نعلم بأن ميزان قبولنا للخبر إنما هو صدق الرواية وصحتها، فإذا ثبت ذلك ثبوتا بينا فلا مناص من قبوله، موضوعا على الرأس، وميزاننا لفهمه حينئذ دلالات اللغة العربية وأحكامها، والأصل في الكلام الحقيقة، ولو أنه جاز لكل

_ 1 السيرة النبوية في الصحيحين ص124.

باحث وقارئ أن يصرف الكلام عن حقيقته إلى مختلف الدلالات المجازية؛ ليتخير من بينها ما يروق له، لانشلت قيمة اللغة، وفقدت دلالتها، وتاه الناس في مفاهيمها1. إن الدكتور/ محمود مراد يصف رواية الإرهاصات بالسذاجة ويصف قصص عبد المطلب بالإحكام، مع أنه لا فرق بينهما في التركيب اللغوي، أو الدلالات الفنية والمعنوية.. لكنه الغرض والمرض!! وكلام الدكتور/ هيكل مردود؛ لصحة السند الذي جاء بشق الصدر على نحو ما أوردته، وقد قال النبي أحاديث شق الصدر وهو نبي مرسل، حين سئل عنها، وأيضا فإن خوارق العادات جاءت للناس ليسلموا بما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الممكن أن يخلق الله في عباده التسليم والإيمان من غير معجزة، أو خارقة للعادة، وتلك مشيئة الله. ولو فرضنا أن هذه الخوارق لم تقع لرأينا من يطالب بها لتكون دليلا أمامه على التصديق، كما حدث من أهل مكة، فلقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم وبكافة الحجج الموجودة فيه، إلا أنهم طالبوا بخوارق للعادات، يقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} 2. إن إرهاصات النبوة لم تكن ليؤمن الناس بالإسلام، فقد ظهرت قبل المبعث بزمن طويل، ولم يبرزها النبي للناس بعد مبعثه ليجعلها دليلا لهم، وإنما جاءت هذه

_ 1 فقد السيرة للبوطي ص53. 2 سورة الإسراء الآيات 90-93.

الإرهاصات تنبيها للعقلاء؛ ليروا عجائب القدرة، وليعلموا أن الله محيط بخَلْقه، وله الأمر كله، ولتبعث في عقولهم البحث عن أسرار ما يشاهدون. إن الأمر في النهاية عقل ونبوة، وفكر بشري ووحي إلهي، والفرق بينهما كبير.. والمؤمن يعطي كل جانب حقه.. أما غيره فإنه ينادي بسيادة العقل، وليس له في تصور النبوة والوحي نصيب. يقول ابن حجر: "إن جميع ما ورد في شق الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك"1. والبشرية كلها تعلم أن النبوات قائمة على خوارق العادات، الخارجة عن مألوف العقول طبائع الأشياء، فمن آمن بالنبوة لزمه الإيمان بالخوارق، ومن أنكر الخوارق أنكر النبوة من أساسها.. والله أعلم.

_ 1 فتح الباري ج15 ص52.

المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا

المبحث السادس: محمد في مرحلة الصبا ... المبحث السادس: محمد صلى الله عليه وسلم في مرحلة الصبا عاد محمد صلى الله عليه وسلم من ديار بني سعد بعدما بلغ خمس سنوات للمرة الثانية والأخيرة، وسُرت أمه بقدومه، وأخذت في توجيهه وتنشئته، تساعدها أم أيمن، ويعاون جده عبد المطلب الذي رأى في محمد صورة ابنه عبد الله. لاحظت آمنة أن محمدا يتمتع بقوة بدنية وعقلية، تفوق أقرانه من الأطفال، ورأت أن تذهب به لزيارة أخوال أبيه من بني عدي بن النجار، وليعرف قبر أبيه الذي دفن في دارهم، وليعلم أصوله من جهة أمه كما علمها من جهة أبيه. وأخذته صلى الله عليه وسلم ورحلت به على ناقتين لها، ومعهما أم أيمن، ومكثت في المدينة شهرا كاملا؛ ليتمكن وليدها الصغير من التعرف بالمكان وأهله، ويرى ما هم فيه من عادات وأديان وأعمال، من خلال لعبه مع الصغار، أو جلوسه مع الكبار. وعند عودة آمنة من المدينة إلى مكة ماتت في الطريق عند الأبواء1 ودفنت بها.. ورجعت القافلة مرة أخرى إلى مكة بلا آمنة، فاستقبلها عبد المطلب، وضم حفيده إليه، فكفل محمدا صلى الله عليه وسلم ومعه حاضنته "أم أيمن" تخدمه. وبقيت ذكريات رحلة المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر في الإسلام إلى المدينة المنورة بعد سبع وأربعين سنة؛ نظر إلى أطم2 بني النجار وقال: "كنت ألاعب "أنيسة" -وهي جارية من الأنصار- على هذه الأطم، وكنت مع الغلمان أبناء أخوالي نطير طائرا كان يقع علينا، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار"، وقال: "وفي دار بني عدي نزلت مع أمي، وفيها قبر أبي" 3.

_ 1 الأبواء: قرية صغيرة بين مكة والمدينة، بينها وبين المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. 2 الأطم: الحصون، ومفردها أطمة. 3 الطبقات الكبرى ج1 ص116.

إنها ذكريات باقية بصورتها وحقيقتها.. وكان صلى الله عليه وسلم يذكر حاضنته أم أيمن ويقول: "أم أيمن أمي بعد أمي" 1. وقد زار النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة أيضا قبر أمه فبكى وأبكى، فلما سئل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: "تذكرت رحمتها فبكيت" 2. وبموت آمنة فقد الرسول أبويه، ووجد نفسه وحيدا فريدا، حرم من الآباء والإخوة، ولو كان غير محمد لأصابه الكثير، إلا أن الرعاية الإلهية كانت معه صلى الله عليه وسلم؛ حيث قام عبد المطلب بكفالته بعد رجوعه إلى مكة مباشرة، وشمله بعنايته واهتمامه، وكان يرعاه أكثر من أبنائه. كما أحاطته أم أيمن رضي الله عنها بالرعاية والخدمة، وكانت تخاف عليه من أي أذى يلحق به، وبخاصة أنها رأت من يهود المدينة ما جعلها تخاف عليه منهم، تقول رضي الله عنها: "وكان قوم من اليهود يختلفون إليه، وينظرونه ويتفرسون فيه، تقول أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم"3. وبقيت هذه الحادثة في ذاكرتها؛ ولذلك نراها بعد عودتها إلى مكة، تذهب به إلى جده عبد المطلب ليكفله، فكفله مرحبا به، وقربه منه، ولما قارب أجله، وصى ابنه "أبا طالب" ليكفله من بعده، وهكذا عاش صلى الله عليه وسلم مع جده، ومن بعده مع عمه، مكرما مصانا. عناية عبد المطلب بحفيده: عاد محمد صلى الله عليه وسلم وحيدا إلى جده، فضمه إليه، وقربه من نفسه، ورق عليه رقة لم ينلها أحد من ولده، وكان يتفقده إذا خلا، وإذا نام. قال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ بابنك هذا فإن له شأنا، وإنا لم

_ 1 الطبقات الكبرى ج1 ص116. 2 المرجع السابق ج1 ص117. 3 المرجع السابق ج1 ص118.

نرَ قدما أشبه بقدم إبراهيم الذي في المقام منه، فسُر كثيرا، وأتى بولده أبي طالب وقال له: اسمع ما يقول هؤلاء، فسمع منهم، واحتفظ بما سمع إقرارا بضرورة الاهتمام بمحمد صلى الله عليه وسلم. وجاء عبد المطلب لحاضنته "أم أيمن" وكان اسمها "بركة" وقال لها: يا بركة، لا تغفلي عن ابني هذا، فإني وجدته من غلمان قريبا من السدرة، وإن أهل الكتاب يرون أن له شأنا. وقد عمد عبد المطلب أن ينشئ حفيده نشأة الرجال الكبار، يقول ابن إسحاق: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك، حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له"، يقول ابن إسحاق: "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر، يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول لهم عبد المطلب حين رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على الفراش، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع"1. ويبدو أن هذه الواقعة تكررت مع غير أبناء عبد المطلب، فلقد روى ابن جريج قال: "كنا مع عطاء، فقال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسنهم وجها، ما رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس عليه معه أحد، وكان الأنداد من قريش -حرب بن أمية فمن دونه- يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام لم يبلغ، فجلس على المفرش، فجبذه رجل فبكى، فقال عبد المطلب وذلك بعدما كف بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه.

_ 1 الروض الأنف ج1 ص195.

فقال: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده"1. وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا ناداه ليأكل معه، ويقول لمن حوله: علي بابني، فيؤتى إليه، ويأكل معه. يروي كندير بن سعيد عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا رجل يطوف بالبيت ويرتجز، ويقول: يا رب رد لي راكبي محمدا يا رب رده واصطنع عندي يدا فقلت: مَن هذا؟ قالوا: هذا عبد المطلب، ذهبت إبل له، فأرسل ابن ابنه محمد في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس عليه هذه المرة.. يقول الراوي: فما برحت حتى أنظر ما يحدث، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالإبل، قال له جده: يا بني، لقد حزنت عليك حزنا، لا تفارقني أبدا2. وكان هذا الاهتمام بمحمد هو شأن عبد المطلب منذ مولد رسول الله، حتى عرف ذلك عنه؛ ولذلك حينما افتقدته حليمة السعدية مرة، لم تجد سوى جده، فأتت إليه، وأخبرته بضياعه ليبحث عنه.. يقول ابن إسحاق: "إن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها في الناس، وهي مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فقالت له: إني قد قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلني، فوالله ما أدري أين هو؟! فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده، يقول ابن إسحاق: وجده ورقة بن نوفل بن أسد، ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك

_ 1 سير أعلام النبلاء ج1 ص56. 2 سير أعلام النبلاء ج1 ص54.

وجدنا بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فحمله على عنقه، وهو يطوف بالكعبة يعوذه، ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه آمنة"1. ولما شعر عبد المطلب بدنو أجله، وصى ابنه أبا طالب بكفالته2، فكفله عمه أبو طالب بعد وفاة جده عبد المطلب، وعُمْر النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات، وقد اشترك في دفن جده، وسار خلفه وهو يبكي، وقد دفن عبد المطلب بالحجون3. يقول ابن سعد: "ومات عبد المطلب فدفن بالحجون، وهو يومئذ ابن اثنتين وثمانين سنة، ويقال: ابن مائة وعشر سنين. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: نعم، أنا يومئذ ابن ثماني سنين. قالت أم أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يبكي خلف سرير عبد المطلب"4. عناية أبي طالب بابن أخيه: عاش النبي صلى الله عليه وسلم في كفالة عمه أبي طالب، تحيطه رعاية الله الذي حفظه من ذل اليتم وضرر الفقر. تهيئة أبي طالب لكفالة محمد قدر إلهي خالص؛ لأن أبا طالب كان كثير العيال، فقير الحال، وكان الطعام يقدم لأولاده، فيتطاولون عليه لقلته، وكان الفقر باديا عليهم، يقول السهيلي: كانوا يصبحون غمضا، رمضا، مصفرة ألوانهم من الجوع. ومع هذا الحال، فإن أبا طالب اهتم بوصية أبيه، وضم محمدا لأبنائه، وخصه بالرعاية والتوجيه، وكان يجالسه ويناقشه.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص167. 2 البداية والنهاية ج2 ص282. 3 سير أعلام النبلاء ج1 ص56. 4 اختار عبد المطلب ولده أبا طالب ووصاه بمحمد دون بنيه؛ لأن أبا طالب هو الشقيق لعبد الله من الأب والأم، فأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ من بني مخزوم، وكان جميع أبناء عبد المطلب يهتمون بمحمد صلى الله عليه وسلم.

ومن رعاية الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أبي طالب أنه كان إذا وضع الطعام لأولاد أبي طالب سبقوه إليه، ويتقاصر هو، وتمتد أيديهم، وتنقبض يده تكرما واستحياء وقناعة، ومع ذلك يصبح صقيلا دهينا، كأنه في أنعم عيش، وأعز كفاية؛ لطفًا من الله عز وجل. رأى محمد رغم صغره حاجة عمه أبي طالب للمال، فأخذ على عاتقه أن يعمل ويكتسب شيئا يعين به عمه. وأراد الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الناس، ويختلط بهم، ويتعامل معهم، في بيئته، وبعيدا عنها؛ لينال أهلية الرسالة بصورة عملية تطبيقية. إن التربية العملية لها دور رئيسي في بروز الشخصية السوية، وكلما اختلط الصغير بالناس اكتسب خبرة ومعرفة، وكلما سافر ورحل عرف المزيد؛ لهذا نرى -والله أعلم- أن الله هيأ لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم مجالا رحبا لهذه التنشئة.. لقد عاش في بادية بني سعد خمس سنوات، اختلط بالناس وقام بالعمل والنشاط، تقول حليمة: "بينما هو صلى الله عليه وسلم يلعب وأخوه خلف البيوت يرعيان بهما لنا"1.. ورحل إلى المدينة برفقة أمه في رحلتها التي ماتت فيها.. وأقام بالمدينة شهرا.. وفي كفالة جده اختلط بحكماء مكة ورجالاتها.. ومع عمه أبي طالب رأى حنان الأب واهتمامه؛ حيث كان يصطحبه معه أينما ذهب، وكان يحبه حبا شديدا، لا يتركه ينام إلا بجواره، ولا يخرج إلا في معيته، ولا يطعم أبناءه إلا وهو معهم. وكان عمه لا يطمئن عليه إلا وهو معه؛ ولذلك كانت ملازمته له دائمة ومستمرة.

_ 1 سير أعلام النبلاء ج1 ص51.

وهيأ الله لمحمد صلى الله عليه وسلم أسباب الاتصال بالناس، والالتقاء بهم، مع اختلاف المذاهب والاتجاهات والعادات، فقام بأعمال عديدة ذكرها مؤرخو السيرة، ومنها ما يلي: أولا: الرحلة الأولى إلى الشام، وقصة بحيرى الراهب أراد أبو طالب أن يسير في ركب الشام للتجارة، فلما عزم على السفر تعلق به محمد صلى الله عليه وسلم قائلا له: "أي عم، إلى مَن تخلفني هاهنا؟ "، فرق له قلب عمه، وأخذه معه، وأردفه خلفه على بعيره، واتجهوا صوب الشام مع القافلة. وكان للنصارى عدد من الأديرة في الطريق، يسكنها الرهبان المنقطعون للعبادة، وهم الذين يعلمون ما بقي من دين عيسى عليه السلام، ويبدو أن هؤلاء الرهبان كانوا على علم بأوصاف النبي المنتظر {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} 1، وكما يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. لقد وصلت هذه المعرفة لديهم أن علموا ضرورة أن يكون النبي يتيما، وأن يكون موسوما بخاتم النبوة، وأن خوارق الطبيعة تحيط به، وكانوا يعلمون أن هذا النبي سيلقى كراهية اليهود؛ لأنهم يرغبون في أن تكون النبوة لهم ومنهم. ويبدو أن هذه المسألة كانت معلومة لعديد من الرهبان والقسس؛ لأن ركب أبي طالب ومحمد نزل أولا في دير قريب بشمال الحجاز، فالتقوا مع صاحبه، فنظر صاحب الدير لمحمد، وقال لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟

_ 1 سورة الأعراف آية 157. 2 سورة البقرة آية 146.

فقال أبو طالب: هو ابني. فقال الراهب: ما هو ابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال أبو طالب: ولِمَ؟ قال الراهب: لأن وجهه وجه نبي، وعينه عين نبي. فقال أبو طالب: وما النبي؟ فقال له الراهب: الذي يوحى إليه من السماء فينبئ أهل الأرض، فاتقِ عليه من اليهود. لقد كانت هذه الأديرة أماكن يستريح بجوارها المارة الذاهبون إلى الشام أو العائدون منها، ففيها من أسباب الحياة ما يشجع على الراحة عندها. وكان أبو طالب يسمع من راهب الدير الذي ينزل عنده ما سمعه من غيره، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يابن أخي، ألا تسمع ما يقولون؟ فقال له محمد: أي عم، لا تنكر لله قدرة!! وكانت الوقفة الكبرى حين بلغ الركب مدينة بصرى، فنزل الجميع وجلسوا تحت شجرة قريبة من دير "بحيرى". يقول ابن إسحاق: "فلما نزل الركب أرض الشام، وبها راهب يقال له: بحيرى، في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب، إليه يصير علمهم عن كتاب فيها، يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك، فلا يكلمهم، ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك عن شيء رآه، يذكرون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، تتحرك بحركته، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا من بحيرى، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.

فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بالطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأحب أن تحضروا كلكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم! ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟! قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعاما، فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم؛ لحداثة سنه، فبقي في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى في القوم لم يرَ الصفة التي يعرف، ويجدها عنده. فقال: يا معشر قريش! لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في الرحال. فقال: لا تفعلوا، ادعوه، فليحضر هذا الطعام معكم. فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأحضره، وأجلسه مع القوم. فلما رآه بحيرى، جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، وقد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك وحلف باللات والعزى؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما". فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه.

فقال له: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله من قومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. قال ابن إسحاق: فلما فرغ، أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده"1. وقد أورد الإمام الترمذي هذه الحادثة وزاد فيه: "حين سأله أشياخ من قريش عن سبب ما فعل قال لهم: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَ شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به وكان هو في رعي الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه.

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي، ويقول ابن حجر: رواتها ثقات.

فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، وبينما هو قائم عليهم، يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلوه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لهذا النبي الذي أظلنا زمانه، فلم يبقَ طريق إلا بعث إليه بأناس منا، وإنا قد بعثنا إلى طريقك هذا. فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيرتنا لك، لطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. فلما رد الرومان قال لأبي طالب ومَن معه: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب"1. ويبدو أنها حادثة أخرى؛ لأن رواية ابن إسحاق كان التحذير من اليهود، والتحذير في هذه الحادثة كان من الروم، وأيضا فإن الحادثة الأولى حددت اسم الراهب وهو بحيرى، بينما هذه الحادثة لم تذكر اسما معينا. وخلاصة هذه المرويات تثبت هذه الرحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومصاحبته لعمه، ومعرفة أهل الكتاب بقرب مبعثه، وكراهيتهم لعروبة هذا النبي المبعوث الذي تمنوه منهم، يقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2.

_ 1 الجامع الصحيح سنن الترمذي ج5 ص590. 2 سورة البقرة آية 89.

وقد روى الهيثمي عددا من الآثار تشهد على علم أهل الكتاب بأمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا تأكيد لما جاء في القرآن الكريم. يروي سلمة بن سلامة بن وقش -وكان من أصحاب بدر- قال: "كان لنا جار من اليهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته، قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، وأنا يؤمئذ أحدث من فيه سنا، عليَّ بردة، مضطجع فيها بفناء أهلي فذكر البعث، والقيامة، والحساب، والميزان، والجنة، والنار. قال ذلك لقوم أهل أوثان وأصحاب شرك، لا يرون أن بعثا كائنا بعد الموت. فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا، إن الناس يبعثون بعد موتهم، إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم. قال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بدل تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، يم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وإنه ينجو من تلك النار غدا. قالوا: ويحك! وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ فنظر إليَّ وأنا من أحدثهم سنا فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا له: ويلك يا فلان! أليس قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، وليس به أومن"1. وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن سافر مع عمه اثنتي عشرة سنة2..

_ 1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج8 ص420. 2 أنساب الأشراف ج1 ص96.

الأمر الذي مكنه من استيعاب كل ما رأى وما سمع، مما جعل الرحلة تربية عملية، استفادة تجريبية من المعاشرة والاختلاط، والنظر والتحليل، والفهم والتدبر. في هذه الرحلة وقعت عينا محمد على فسحة الصحراء الممتدة الواسعة، وتعلقتا بالنجوم اللامعة في سمائها الصافية البديعة، وجعل يمر بمدين، ووادي القرى، وديار ثمود، وتستمع أذناه إلى حديث العرب، وأهل البادية، وأخذ يتأمل هذه المنازل، وأخبارها، وماضي نبئها. وفي هذه الرحلة وقف في بلاد الشام عند الحدائق الغناء، وعرف أخبار الروم ونصرانيتهم، وسمع عن كتابهم، وعن مناوأة الفرس "عُبَّاد النار" لهم، وانتظارهم الوقيعة بهم. لقد كان له صلى الله عليه وسلم من عظمة الروح، وذكاء القلب، ورجحان العقل، ودقة الملاحظة، وقوة الذاكرة، وغير ذلك من صفات حباه القدر بها ما مكنه من معرفة الواقع الحياتي لكل من قابله، تمهيدا للرسالة العظيمة التي أعده الله لها، الأمر الذي جعله ينظر إلى ما حوله نظرة الفاحص المحقق، فلا يستريح إلى كل ما يسمع ويرى، فيرجع إلى نفسه يسائلها: أين الحق من ذلك كله؟ ويبدو أن أبا طلب لم يستفد من رحلته مالا كثيرا، فعاد إلى مكة، ولم يرجع لمثلها بعد ذلك، وبقي في مكة، يقنع بالقليل ينفقه على أبنائه الكثيري العدد.

ثانيا: رعي الغنم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ورأى قلة مال عمه، وكثرة أولاده، فرغب في مساعدته، وهداه الله للعمل بأجرة لأهل مكة، فرعى لهم غنمهم. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" 1. والقيراط عملة فضية تمثل جزءا من الدينار أو الدرهم.. ومن قال: إنها جزء من الأرض فقد وهم؛ لأن قيراط الأرض لم يعرف إلا في مصر. عن أبي سعيد الخدري قال: افتخر أهل الإبل والشاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم، أرعاها لأهلي بأجياد" 2. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الطهران، ونحن نجني الكباث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالأسود منه، فإني كنت أجنيه إذ كنت أرعى الغنم"، فقلنا: يا رسول الله، كأنك رعيت الغنم، قال: "نعم، وهل من نبي إلا وقد رعاها!! " 3. ومن المعلوم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رعى الغنم لحليمة مع غلام لها، كما سبق في حديث شق الصدر، حين جاءه الملكان وشقا صدره. وللمرء أن يتساءل: وما الحكمة في رعي الغنم؛ حتى يقدرها الله لأنبيائه جميعا؟..

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري، كتاب الإجارة - باب رعي الغنم على قراريط ج4 ص441. 2 المسند ج3 ص42، وفتح الباري ج4 ص441. 3 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الأشربة - باب فضيلة الأسود من الكباث ج4 ص5، والكباث: ثمر الأراك الناضج.

أرى -والله أعلم- أن الحكمة في رعي الغنم هي تربية الأنبياء على ما سيكونون عليه حين تكليفهم بالنبوة، وليتعلموا حسن التعامل مع الناس. وأهم هذه الفوائد ما يلي: 1- التعود على المسئولية: إن ثقل التكليف يحتاج إلى طاقات بشرية تتحمله، والنبوة تكليف شاق؛ لأنها تعني إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإنقاذ البشر من ضلالات الهوى ليسعدوا بنور الإيمان وبرد اليقين. إن النبوة قمة الأمانة والمسئولية، وحاجتها إلى رسول يتحمل مشاقها ومصاعبها ضرورة لا بد منها. ورعي الغنم عمل شاق، يكفي في تصور مشقته أن الراعي يعيش واقفا ومتحركا طوال الوقت؛ حيث تسرح الغنم وتمرح، وهذه أعمال في حد ذاتها تحتاج إلى قوة وطاقة؛ ولذلك كان رعي الغنم مقدمة للنبوة لما فيهما معا من مشقة وتعب.. 2- تعليم الصبر والتحمل: تحتاج النبوة إلى التخلق بالخلق الكريم، والاتصاف بالحلم والصبر، وذلك أمر يحققه رعي الغنم؛ لأن القطيع يرعى وهو مطلق السراح، فيتوزع هنا وهنا، وكلما يجمعه الراعي يعود من حيث أتى، وذلك أمر يحتاج إلى الصبر والتحمل، وبدون ذلك لا يمكن للراعي رعي الغنم.. ومن رعي الغنم إذن تعلَّم الأنبياء الصبر والتحمل في دعوة الناس؛ لأن المدعوين ليسوا على اتجاه واحد، وإنما لكل اتجاهه ومذهبه وجدله، والنبي مسئول عن تبليغ الدعوة للناس على الوجه الصحيح؛ ولذلك وجب أن يكون صابرا حليما. يقول ابن حجر: "إن مخالطة الغنم يحقق الحلم والشفقة؛ لأن النبي إذا صبر على رعيها، وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع، وسارق، وغير ذلك، ألف من ذلك الصبر على الأمة، وتحمل

اختلاف الطبع، وتفاوت العقول، ويكون تحمله لمشقة ذلك أسهل بعد تدريبه عليه"1.. 2- شمول الرعاية: راعي الغنم يحتاج إلى سعة الأفق وهو يدبر أمر غنمه؛ لتعدد جوانب الرعاية التي تحتاج إليها، ففيها الصغير المحتاج للرضاعة، وفيها الذكر، وفيها الأنثى، كما أنها تحتاج دائما إلى البحث عن مصادر أكلها وغذائها، ولا بد لها من حراسة تحميها من الذئاب واللصوص، ومن الضروري المحافظة عليها من شدة الحر، وقسوة البرد، وكثيرا ما تنتابها الآلام والأوجاع، وعلى الراعي متابعة ذلك، ومن مسئوليات الراعي تدبير أمر مبيتها في الخلاء، أو في البناء. إنها مسئوليات عديدة، لا يصلح لها ضيق الأفق، العاجز حمايتها، وإعداد كافة الجوانب التي تحتاج إليها. ولذلك كان رعي الغنم تدريبا عمليا على مباشرة أعمال النبوة لتعدد المسئوليات النبوية، فعلى النبي أن يعلم حدود ما كلف به، ويحسن فهم من سيدعوهم، ولغة من سيخاطبهم، حتى إذا سئل أجاب، وإن عورض رد، وإن واجه عدوا قاومه بالحسنى.. كل ذلك في قوالب عديدة وصور كثيرة. إن تعدد المسئولية في رعي الغنم باب يعلم النبي ضرورة قيامه الأمر، والدعوة إليه بصورة كاملة، تامة، شاملة. 4- التسوية والعدل بين الناس: يحتاج النبي إلى تبليغ الدعوة لسائر الناس على وجه يتناسب مع كل واحد منهم، ولا يقدم واحدا، ويترك غيره، ولا يهتم بغني على حساب فقير، ولا يتصور أن الخير في هذا أو في ذاك، فيفضله على غيره.

_ 1 فتح الباري ج4 ص441.

ورعي الغنم يحقق هذا الخُلُق؛ لأن الراعي عليه أن يرفق بالضعيف، ويحيطه بعنايته، فلو ولدت نعجة في الطريق فعليه حمل المولود بيده؛ ولذلك نراه يسير خلف القطيع ليكون في عون الضعفاء، ويراعي الأقوياء. 5- تعليم التواضع: إن قيام الأنبياء برعي الغنم يعوِّدهم التواضع وترك الكبر؛ لأن رعاية الغنم والحرص عليها يحتاج إلى العمل الدءوب بعيدا عن الخيلاء؛ حيث لا فخر بعمل كله تعب ومشقة، تحت حر الشمس، أو في برد الشتاء، والنبوة في حاجة إلى هذا التواضع الذي يجعل الأنبياء يتعاملون بالخلق الكريم مع كافة الناس، مع الرجال والنساء، مع الأغنياء والفقراء، مع الكبير والصغير، مع العظيم والحقير، وبذلك كانوا أمثلة عليا، وقدوة سامية. وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله أنه رعى الغنم دليل على عظيم تواضعه، اعترافه بفضل ما مَنَّ الله عليه به. 6- التعامل مع الناس: يقتني الغنم عديد من الناس، ورعاتها كثيرون، وكل راعٍ يجد نفسه يتعامل بالضرورة مع كثير من أقرانه الرعاة؛ حيث يجلسون في وقت الراحة، ويتسامرون، ويتناقشون، وفي ذلك فرصة للأنبياء يتعرفون بها على الناس؛ لتتم دعوتهم بعد ذلك بما يناسبهم ويفيدهم. 7- الشجاعة: الراعي يعمل على حماية غنمه من الذئاب واللصوص وغيرها، وهو لذلك يحتاج إلى شجاعة تعينه على هذه الحماية ليلا ونهارا، والأنبياء وهم يقومون بالدعوة يتصدى لهم الأعداء من شياطين الإنس والجن، وهم محتاجون للشجاعة والجرأة، حتى يمكنهم القيام بواجب الدعوة.

8- التأمل والتفكير: وراعي الغنم الذكي القلب يجد في فسحة الجو الطلق أثناء النهار، وفي تلألؤ النجوم إذا جن الليل موضعا لتفكيره وتأمله يسبح منه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما وراءها، ويلتمس في مختلف مظاهر الطبيعة تفسيرا لهذ الكون وخلقه. أليس هو يتنفس هواءه ولو لم يتنفسه لمات؟!.. أليست تحييه أشعة الشمس، ويغمره ضياء القمر، ويتصل وجوده بالأفلاك والعوالم جميعا؟!.. هذه الأفلاك والعوالم التي يراها في فسحة الكون أمامه، متصلا بعضها ببعض في نظام محكم {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} !! وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد يقتضي انتباهه ويقظته حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تضل إحداها في مهامه البادية، فأي انتباه وأية قوة تحافظ على نظام العالم كله مع إحكامه الموجود؟!!.. إن رعي الغنم مدرسة تحتاج إلى قوة البدن، وقوة العزيمة، والهدوء والأناة، مع الصدق والإخلاص، وقصد الاستفادة والتعلم. وقد جعل الله رسله رعاة للغنم ليتعلموا منها الكثير، في إطار معونة الله ورعايته لهم. ولكن، لِمَ كانت الفوائد في رعي الغنم خاصة دون سائر الأنعام كالإبل والبقر وغيرها؟.. وأرى أن السر في اختيار الغنم لذلك -والله أعلم- كثرة عددها، وسرعة حركتها، وسهولة تفرقها؛ لعدم ربطها أو تقييدها، أما الإبل والبقر والخيل، فعددها قليل وربطها وتقييدها بالحبال أمر عادي، وكأن الله تعالى يعلم رسله -عليهم السلام- حسن التعامل مع الناس وهم أحرار.

وأيضا فإن السيطرة على الغنم المتفرقة سهل، وانقيادها للراعي لا يحتاج لجهد كبير؛ لأنها بنداء واحد أو بإشارة بالعصا تعود لمكانها، أما البقر والخيل والإبل فلا. ومن هنا كان اختيار الغنم يرعاها الأنبياء ليتعلموا قيادة أشتات من الناس، ومخاطبة العديد من العقول، والتفاهم مع كافة لغات ولهجات المدعوين، الذين يصيخون للحق، ويؤمنون به. وهكذا رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم في مكة..

ثالثا: حرب الفجار الإجارة عند العرب عهد لا يمكن الفكاك منه، وهو وعد يعطيه العربي لضعيف يلجأ إليه، ويلتزم بإنفاذه له، وكان الضعفاء أو المحتاجون يلجئون إلى مَن لديه قوة للحماية والنصرة فيجيرهم، ويعلن ذلك للناس، وبعدها تلتزم قبيلته معه في إنفاد ما وعد به مهما كلفهم ذلك، وبخاصة إذا كان من المقدمين فيهم. وقد تقع الحرب بين القبائل بسبب هذه الحماية، وكثيرا ما وقعت. وحروب العرب هي أيامهم التي كانوا يتواعدون عليها، وكثيرا ما جعلوها قريبة من البيت مع أوقات أسواقهم وتجاراتهم. ومن أشهر أيام العرب التي وقعت بسبب الإجارة حرب الفجار -بكسر الفاء وفتح الجيم الممدود- التي هاجت بين العرب، واستمرت خمسة أعوام، واشترك فيها محمد صلى الله عليه وسلم وعمره خمسة عشر عاما. وسبب وقوعها أن النعمان بن المنذر أتى مكة بإبل تحمل الحرير والعطر، ويسميها العرب "لطيمة"، أتى بها لبيعها في سوق عكاظ، فلما نزلت عند بئر "أوارة" أراد البراض بن قيس -وكان صعلوكا خليعا- أن يستولي على اللطيمة لضعف صاحبها المنذري، وبعد قومه من مكة، فاستجار النعمان بـ"عروة الرحال بن ربيعة" ليقوي ضعفه، ويصد عنه عدوان كنانة، فأجار عروة اللطيمة، وأصبح العدوان عليها عدوانا على عروة وقبيلته. فجاء البراض بن قيس أحد بن ضمرة يعاتب عروة، ويقول له: أتجير اللطيمة على كنانة؟!! فقال عروة: نعم، وأجيرهم على الخلق كلهم. وأدت هذه المواجهة الساخنة بني الرجلين إلى أن خرج عروة الرحال في سفره فتبعه البراض بن قيس، يطلب غفلته لينال منه، حتى إذا وصلا إلى "تيمن ذي

ظلال" وهو وادٍ بعالية نجد1 غفل عروة، وهو ابن ربيعة بن جعفر بن كلاب، فوثب عليه البراض، وقتله في شهر شوال، وهو من الأشهر الحرم، وتعرف هذه الحرب بـ"فجار البراض". أدى مقتل عروة إلى قيام حرب الفجار -بكسر الفاء وفتح الجيم2- وسماها العرب بهذا الاسم بسبب وقوعها في الأشهر الحرم؛ لأنهم لما تقاتلوا لم يأبهوا بحرمة الأيام، ولا بحرمة المكان، وقالوا: قد فجرنا وارتكبنا ذنبا عظيما، وبذلك سميت الحرب بهذا الاسم3. وقيل: إنما سميت بذلك لأن كلا الطرفين استحلا من المحارم بينهم ما لم يكن يقع في أيام العرب الأخرى4. وقد جاء خبر مقتل عروة إلى قريش، وهي بعكاظ فتركت السوق، ورحلت حيث عروة، وهوازن لا تشعر، وانفض السوق، ولم يقم بعكاظ سوق هذا العام. علمت هوازن بعد ذلك أن قريشا ذهبت تيمن ذي ظلال، فاتبتعها ورأتها راجعة إلى مكة، وأدركتها قبل أن تدخل الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل. فلما دخلت قريش الحرم أمسكت هوازن فوقفت الحرب، ولكنهم تواعدوا على اللقاء في عكاظ من العام القادم حيث كان يوم شمطة، وقد استمرت أيامهم بعد ذلك مدة طويلة. وانتظم الفريقان خلال اقتتالهما تحت قيادة واحدة لكل قبيلة، حيث كان لكل بطن من قريش وكنانة رئيس منهم، ولكل قبيلة من قيس رئيس منهم، وعلى القبائل جميعا عند كل طرف رئيس واحد، وبهذا التنظيم يلتزم كل فرد بما يوجبه عليه العرف القبلي؛ حفاظا على وضع القبيلة، وحماية لها من الذل والهوان.

_ 1 معجم البلدان ج2 ص68، وتيمن ذي ظلال: ليس تيمن الموجودة بين جرش وتبالة من مخالفي اليمن. 2 انظر: لسان العرب - مادة فجر ج6 ص354، ط الدار المصرية للتأليف. 3 الروض الأنف ج1 ص211. 4 سيرة ابن هشام ج1 ص186.

ولذلك أشرك أبناء عبد المطلب محمدا صلى الله عليه وسلم معهم في حرب الفجار، وكانت هذه المشاركة تجربة عملية، عاشها مع أعمامه وأقرانه من غير أن يكون منه عدوان أو ظلم، وبخاصة إذا علمنا أن أيام العرب كانت نادرة الدم، فهي عبارة عن تدريب ويقظة، وحراسة مستمرة، ومواجهة ينشغل بها أبناء القبيلة جميعا، حتى لا يتركوا غفلة لخصومهم، وكانوا يحددون لحروبهم أياما يتقابلون فيها في مكان معين، وفي موعد معين، وكأنها مباراة دورية، ومبارزة تنتهي بانتصار طرف، وانسحاب الفريق المنهزم، وبعدها يحددون موعدا جديدا في مكان يتفقون عليه، وأغلب أيام الفجار كانت في عكاظ. يدل على ندرة الدم في أيام العرب أن هوازن حين عرض الصلح عليها، أخذت أربعين رجلا من قريش رهينة لديها حتى تأخذ دية قتلاها، الذين بلغوا هذا العدد طوال أيام الفجار التي استمرت خمسة أعوام. إن حربا تقع بين قريش وكنانة بقبائلهما وبطونهما، وبين هوازن بكل ما تشتمل عليه، وتستمر خمسة أعوام، ويقتل من هوازن أربعون رجلا، ويقتل من قريش عشرون رجلا فقط، لدليل على قلة القتلى في أيام العرب. والجانب الضعيف هو جانب هوازن؛ حيث انتصر القرشيون في يوم الشرب أكبر أيامهم، وانتصرت هوازن في يوم الحريرة انتصارا جزئيا؛ لأن بني نصر من قريش ثبتوا فيها، ولم ينسحبوا، مع أن هذه الأيام كانت تقع قرب ديار هوازن عند عكاظ، وقد دفعت قريش لهوازن دية عشرين قتيلا وهو العدد الزائد عن قتلاهم. وأيام حرب فجار البراض هذه1 ستة، هي:

_ 1 فجارات العرب أربعة: الفجار الأول: بين كنانة وهوازن، وكان الذي هاجه أن بدر بن معشر -أحد بني عقال بن مليك من كنانة- جعل له مجلسا بسوق عكاظ، وكان حدثا منيعا في نفسه، ثم كان أن افتخر في السوق وتصدى له الأحيمر بن مازن أحد بني دهمان، ثم تحاور الحيان عند ذلك حتى كاد أن تكون بينهما الدماء ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير. =

1- يوم نخلة: وهو يوم مقتل عروة حيث هبت قريش لعروة فتبعتهم هوازن، وأدركتهم قبل دخولهم الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، فلما دخلت قريش الحرم أمسكت هوازن، فكان كفافا، لا على هؤلاء، ولا على هؤلاء. 2- يوم شمطة: وهي الوقعة الثانية للفجار، والمؤرخون يعدونها الأولى؛ لأن اليوم الأول تم بصورة تلقائية كرد فعل على قتل عروة، وأتصورهم يعدون الأيام التي يتم التواعد فيها، وكان النصر في يوم شمطة لقريش وكنانة أول الأمر ثم انقلب لهوازن آخره. 3- يوم العبلاء: وهو جبل صغير قرب عكاظ، صخره أبيض، وقعت في الواقعة، وكان النصر لهوازن.. 4- يوم الشَّرِب: بفتح الشين مشددة وكسر الراء، وبها كانت وقعة الفجار العظمى التي يقع للقرب مثلها، وفي هذا اليوم قيد حرب بن أمية وسفيان وأبو سفيان أنفسهم كي لا يفروا؛ ولذا سموا بـ"العنابس" أي: الأسود لشجاعتهم، وكان النصر في هذا اليوم لقريش. 5- يوم الحريرة: والحريرة تصغير حرة، وادٍ بين الأبواء ومكة قرب نخلة، وفيه انهزمت قريش ما عدا بني النصر، فقد ثبتت ولم تنهزم.

_ = الفجار الثاني: وكان بين قريش وهوازن، وكان الذي هاجه فتية من قريش، تعرضوا لامرأة من بني عامر بن صعصعة، فهاجت الحرب، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، تحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم. الفجار الثالث: كان بين كنانة وهوازن، وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة كان عليه دية لرجل من بني نصر، فأعدم الكناني، فغير النصراني ذلك قومه بسوق عكاظ، فقام إليه كناني فضربه، ثم تهايج الناس حتى كاد أن يكون بينهم قتال، ثم تراجعوا. الفجار الرابع: ويعرف بفجار البراض، وهي التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، وهي أخطرها؛ لأن الفجارات الأخرى لم يحدث فيها قتال، وإنما كانت تنتهي بالصلح والحوار، والبحث هنا يتناول هذا الفجار الرابع.

6- يوم عكاظ: وهو اليوم الذي تصالحوا فيه. وقد استغرقت تلك الأيام خمس سنوات1. قصة الصلح بعد هذه الفجار: تواعدت هوازن وكنانة على التقابل في عكاظ، وحضروا في الموعد المحدد، وقبيل التراشق بالسهام، وجد الصفان بينهما عتبة بن ربيعة، وكان حرب بن أمية رئيس قريش وكنانة قد ضربه، ومنعه من الخروج شفقة عليه ليتمه وصغره؛ لأنه لم يكن قد أتم الثلاثين بعد، إلا أنه خرج سرا، ولم يشعر به أحد، وفوجئ به حرب على بعيره بين الصفين ينادي: يا معشر مضر، علامَ تفانون؟.. وإنما ناداهم باسم مضر لأنه الجد الجامع لقريش وهوازن وكنانة. فقالت هوازن: ما تدعو إليه؟ قال عتبة: أدعوكم إلى الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم، وتعفوا عن دمائنا. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: ندفع لكم رهنا منا. قالوا: ومَن لنا بهذا؟ قال: أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. فرضوا، ورضيت كنانة، ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا، منهم حكيم بن حزام، بعد أن عدوا قتلاهم وقتلى قريش وكنانة، وجعلوا رجلا برجل، ثم أخذوا دية مَن زاد منهم، فأخذوا دية عشرين رجلا. فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء، وانقضت حرب الفجار2.

_ 1 الروض الأنف ج1 ص212. 2 الروض الأنف ج1 ص211.

اشتراك محمد صلى الله عليه وسلم في حرب الفجار: هاجت حرب الفجار وعمر محمد صلى الله عليه وسلم خمسة عشر عاما، وانتهت وهو في العشرين من عمره. والروايات عن اشتراك محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الحرب كثيرة، يذكر ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترك في هذه الحرب دفاعا عن أعمامه؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "كنت أنبل على أعمامي" أي: أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم بها1. ويقول ابن سعد: إن محمدا حضر الحرب مع أعمامه، ورمى بالسهام2. وأرى -والله أعلم- أن اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم في حرب الفجار كان لمساعدة أعمامه بإعداد النبال لهم والدفاع عنهم، من غير عدوان على أحد من خصوم قومه، أو محاولة النيل منهم على غرة، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: "ما أحب أني لم أكن فعلت" 3. إن الله الذي صرف محمدا صلى الله عليه وسلم في شبابه عن كل ما كانت الجاهلية تفعله هو سبحانه الذي أبعده عن الفجور في هذه الأيام، وإنما كان اشتراكه -والله أعلم- لتحقيق بعض الفوائد، ومن أهمها: 1- مخالطة قبائل العرب بسائر أفرادها، الكبار والصغار، حين تجمعهم للحرب والقتال؛ لمعرفة أحوالهم وطبائعهم، وطرق تفكيرهم في هذه الظروف العصيبة. 2- معركة كيفية نظم الحرب التي يباشرها العرب؛ حيث سيحتاج إلى هذه المعرفة فيما بعد.

_ 1 سيرة ابن هشام ج1 ص210. 2 الطبقات الكبرى ج1 ص128. 3 الطبقات الكبرى ج1 ص128.

3- التدرب على أعمال الحرب الشاقة؛ حيث الحاجة إلى جهد كبير، في الليل والنهار، وتحت ظروف مناخية متقلبة، وفي ظروف قد ينعدم فيها الطعام ويندر الماء. 4- المساهمة مع قومه في أعمالهم، وأداء حق القرابة لهم؛ لأنه قريبا سيطالبهم بحق القرابة له، والمحافظة على ما للقربى من مودة وتعاون ونصرة. هذا بعض ما يمكن تصوره في مجال الفوائد التي اكتسبها النبي صلى الله عليه وسلم باشتراكه في حرب الفجار.. مع ملاحظة أن الله سبحانه وتعالى نجاه من العدوان والظلم فيها، وقصر نشاطه على خدمة أعمامه والنبل عنهم.

رابعا: حلف الفضول من أعظم ما فعل العرب قبل الإسلام حلف الفضول -بضم الفاء- وقد شاهده النبي صلى الله عليه وسلم وعمره عشرون سنة؛ لأنه كان في ذي القعدة بعد انتهاء حرب الفجار في شوال، قبل المبعث بعشرين عاما، والحلف يعني: العهد والبيعة وأخذ الميثاق بين أفراد أو جماعات حول موضوع ما. وأول مَن تكلم في هذا الحلف ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل السهمي -وكان ذا قدر وشرف بمكة- فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، فأبوا أن يعينوا الزبيدي على العاصي بن وائل وزبروه ونهروه، فلما رأى الزبيدي الشر، رقي على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر إن الحرام لمن تمت مكارمه ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ فاجتمعت بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسيد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتحالفوا في ذي القعدة، في شهر حرام، قياما، فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه، ما بل بحر صوفه، وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التآسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول"، ثم مشوا إلى

العاصي بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي ودفعوها إليه1. والسر في تسميته بالفضول أن العرب بعدما تحالف هؤلاء قالت: "لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر" ي: قاموا بعمل فاضل. ويذكر ابن قتيبة سببا آخر للتسمية؛ وهو أن جرهم في الزمن الأول عقدوا حلفا بين ثلاثة رجال منها، هم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، وفضيل بن الحارث، فلما أشبه حلف قريش حلف هؤلاء سمي باسمهم، والفضول جمع فضل، والفضل اسم هؤلاء الثلاثة. وقيل: سمي حلف الفضول؛ لأن الذين تحالفوا اتفقوا على إخراج فضول أموالهم للأضياف، وعلى التآسي في المعاش2. ويخطئ من يسمي هذا الحلف المطيبين3؛ لأن حلف المطيبين كان في أبناء قصي يوم أن تنازع بنو عبد مناف وبنو عبد الدار حول الحجابة والسقاية واللواء والرفادة؛ حيث اجتمع بنو عبد مناف ومن تبعهم، وغمسوا أيديهم في حفنة مملوءة طيبا، ومسحوها في أستار الكعبة فسموا بالمطيبين، وقد انتهى النزاع بالصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت، فحلف المطيبين ليس هو حلف الفضول. وقد شاهد النبي صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وبيَّن بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم ما في هذا الحلف من عدل؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفا، يقال له: حلف الفضول، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دُعي به اليوم في الإسلام لأجبت" 4.

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص208. 2 سبل الهدى والرشاد ج2 ص210. 3 يروي البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين شهدته مع عمومتي"، وهذا خطأ واضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين، وإنما أراد حلف الفضول الذي شاهده مع أعمامه. "انظر: سبل الهدى والرشاد ج2 ص209". 4 السيرة النبوية ج1 ص134، إتحاف الورى بأخبار أم القرى ج1 ص121.

وعبد الله بن جدعان من بني تيم ابن عم عائشة رضي الله عنها، وكان في بدء أمره صعلوكا، ترب اليدين، وكان مع ذلك شريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف ألا يؤويه أبدا لما أثقله من الغرم، وحمله من الديات، فخرج في شعاب مكة حائرا بائرا، يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيها ما يقتله فيستريح، فلم يرَ شيئا، فدخل فيه وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت، واللؤلؤ، والذهب والفضة، والزبرجد، فأخذ منه ما أخذ ثم علم الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس، ويفعل المعروف1. من آثار حلف الفضول: وقد أفاد حلف الفضول كثيرا من المظلومين المعتدَى عليهم، فلقد أخذ الزبيدي سلعته من العاصي بن وائل كما رأينا. ويقال: إن رجل من خثعم قدم مكة معتمرا، أو حاجا، ومعه بنت له يقال لها: القتول، من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحاج، وغيبها عنه. فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل. فقال له: عليك بحلف الفضول. فوقف عند الكعبة، ونادى: يا لحلف الفضول. فإذا هم يأتون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث، فما لك؟ فقال: إن نبيها ظلمني في ابنتي، وانتزعها مني قسرا. فساروا معه، حتى وقفوا على باب الدار، فخرج إليهم.

_ 1 البداية والنهاية ج2 ص217.

فقالوا له: أخرج الجارية ويحك! فقد علمت من نحن، وما تعاقدنا عليه. فقال: أفعل، ولكن متعوني بها الليلة. فقالوا له: لا والله، ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم1. ومن آثاره ما رواه ابن إسحاق من أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان -والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان- منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه؛ لسلطانه وجاهه. فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد حين قال الحسين رضي الله عنهم ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه، حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعا. فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك. وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي2. وقد اهتم الفقهاء والعلماء بأمر هذا الحلف.. وأجابوا على من يسأل عن جواز المناداة بحلف الفضول، قائلا: يا لحلف الفضول!! فقالوا: إن الإسلام قد رفع ما كان في الجاهلية من قولهم: يا لفلان عند التعصب والتحزب، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم المريسيع رجلا يقول: يا للمهاجرين!.. وآخر يقول: يا للأنصار!.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها منتنة"..

_ 1 الروض الأنف ج1 ص157، ومعنى شخب لقحة: لا نتركك قدر شرب نقطة من لبن الناقة. 2 سيرة النبي ج1 ص134، 135.

وقال صلى الله عليه وسلم: "من ادعى بدعوى الجاهلية، فأعضوه بهن أباه ولا تكنوا" أي: سموه بها صراحة بلا كناية. ونادى رجل بالبصرة: يا لعامر! فجاءه النابغة الجعدي بعصبة له، فضربه أبو موسى رضي الله عنه خمسين جلدة. وذلك أن الله عز وجل جعل المؤمنين إخوة، يوالي بعضهم بعضا، ولا يقال إلا كما قال عمر رضي الله عنه: يا لله ويا للمسلمين؛ لأنهم كلهم حزب واحد، وإخوة في الدين، إلا ما خص الشرع به أهل حلف الفضول. والأصل في تخصيصه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو دعيت به اليوم لأجبت" يريد: لو قال قائل من المظلومين: يا لحلف الفضول لأجبت، وذلك أن الإسلام إنما جاء لإقامة الحق ونصرة المظلومين، فلم يزدد به هذا الحلف إلا قوة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وما كان من حلف في الجاهلية، فلن يزيده الإسلام إلا شدة" ليس معناه: أن يقول الحليف: يا لفلان، لحلفائه، فيجيبوه، بل الشدة التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي راجعة إلى معنى التواصل والتعاطف والتآلف. وأما دعوى الجاهلية، فقد رفعها الإسلام إلا ما كان من حلف الفضول كما قدمنا، فحكمه باقٍ، والدعوة به جائزة، وقد ذهبت طائفة من الفقهاء إلى أن الحليف يعقل مع العاقلة إذا وجبت الدية لقوله صلى الله عليه وسلم: "وما كان من حلف في الجاهلية، فلم يزده الإسلام إلى شدة" 1..

_ 1 الروض الأنف ج1 ص160، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج2 ص184.

خامسا: الرحلة الثانية إلى الشام، التجارة لخديجة بلغ محمد صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، وكان يهتم بأحوال عمه أبي طالب، وبكثرة عياله، لما بلغ هذا السن وجد أن رعي الغنم لم يعد يناسبه، ودخله من الرعي قليل، لا يفي بحاجته وعمه، فأخذ يفكر في عمل آخر يحقق له ما يتمنى. ولم يطل به البحث؛ إذ قال له عمه أبو طالب: يابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وألحت علينا سنون منكرة، وليست لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر أوان خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيرانها، فيتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها، وعرضت نفسك عليها، لأسرعت إليك، وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه: "فلعلها ترسل إليَّ في ذلك"1. وخديجة رضي الله عنها امرأة قرشية، كثيرة المال، عريقة الأصل، حسيبة، نسيبة، كانت تتجر بمالها، وترسل عيرانها مع القوافل برجال تستأجرهم، أو تضاربهم بجزء من الربح، وقد اشتهرت مكة بالتجارة حيث لا زرع فيها ولا صناعة، وكل ما فيها من بضاعة فهو مستورد من الشام، أو من اليمن، أو من غيرهما، وعادة التجار البحث عن الرجل الأمين، يتعاملون معه؛ صيانة للمال، ومحافظة عليه من الضياع.. وقد رغب أبو طالب من محمد ابن أخيه أن يذهب لخديجة يتاجر لها في مالها؛ لشدة ثقته في ابن أخيه، ولما اشتهر به في مكة بالأمانة والصدق، ولما عرف عن خديجة من حسن المعاملة، والمسارعة في إعطاء الحقوق،

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص214.

وكان يرى أن خديجة ستعطي محمدا من الأجر الكثير بعدما ترى منه الصدق والأمانة وحسن المعاملة. لكن محمدا صلى الله عليه وسلم أنفت نفسه أن يذهب لخديجة، باحثا عن عمل في أموالها؛ ولذلك قال لعمه: "لعلها ترسل إليَّ". لم ينتظر أبو طالب أن ترسل خديجة لمحمد مخافة أن تولي رجلا آخر، أو تظنه لا يقبل العمل لديها، ولذلك ذهب بنفسه إلى خديجة وقال لها: يا خديجة، هل لك أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولن نرضى لمحمد دون ذلك. فقال خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لقريب حبيب1!! عاد أبو طالب لمحمد، وأخبره بما جرى مع خديجة، وقال له: هذا رزق ساقه الله إليك. وقالت خديجة لميسرة لما تأهب ومحمد للسفر، قالت له: لا تنقض له أمرا، ولا تخالف له رأيا؛ لعلمها بحسن إدارته، وقوة شخصيته، وإتقان ما يقوم به من عمل. وأخذ عمومته يوصون أهل العير بابن أخيهم، ولولا الحاجة ما أخرجوه2.. لكن الله تعالى أخرجه من مكة تاجرا هذه المرة؛ ليجوب أرض الله مكتشفا، وليخرج من تجارته تلك بما يغنيه ويرضيه. وكانت رحلة مباركة امتلأت بالعجائب التي قدرها الله لحبيبه ومصطفاه.. فقد توالت الإرهاصات، وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت الهاجرة، وقوي الحر، يظله ملكان وهو على بعيره، ولما دخل مكة في وقت الظهيرة ذهب إلى خديجة فرأت الملكين فوقه.

_ 1 الطبقات الكبرى ج1 ص130. 2 المرجع السابق ج1 ص130.

وتقابل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة مع عدد من رهبان أهل الكتاب، وكلهم نظروا إليه، وعلموا خبره ومآله. نزل في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له: "نسطورا"، فلما رآه الراهب قال لميسرة: يا ميسرة، مَن هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ قال ميسرة: رجل من قريش. فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، أفي عينه حمرة يا ميسرة؟ فقال ميسرة: نعم، لا تفارقه. فقال الراهب: هو، هو1!! اختلف مرة مع أحد التجار حول سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حلفت بهما قط". فقال الرجل: القول قولك.. ثم نظر إلى ميسرة، وقال له: هذا نبي هذه الأمة. وبالنسبة للتجارة فقد رَبِحَا رِبْحًا وفيرًا لم تره خديجة منذ أربعين سنة، فأحبه ميسرة وأطاعه، كأنه عبده، وقدرته وخديجة لمهارته وأمانته. ولما كانا "محمد وميسرة" عائدين بمر الظهران، قال ميسرة للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تسبقني إلى خديجة، فتخبرها بالذي جرى لعلها تزيدك بكرة إلى بكراتك، فركب النبي صلى الله عليه وسلم قعودا أحمر، فتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في علية لها، معها نساء فيهن نفيسة بنت منية، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره، وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك!! ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرها بما ربحوا، فسرت بذلك. وقالت: أين ميسرة؟

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص188.

قال: خلفته في البادية. فقالت: عجل إليه ليعجل بالإقبال، وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره. فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعدت خديجة تنظر، فرأته على الحالة الأولى، فاستيقنت أنه هو، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، وأخبرها بقول الراهب نسطورا وبقول الآخر الذي خالفه في البيع. يقول ابن إسحاق: فلما رأت خديجة أن تجارتها قد ربحت أضعفت له ما سمت من البكرات. وأخبرت ابن عمها ورقة بن نوفل بما رأت، وبما سمعت، فقال لها ورقة: يا خديجة، إن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة أمر ينتظر1. وهكذا مرت الرحلة ببركاتها مع محمد صلى الله عليه وسلم، وعاد بالبكرات إلى عمه سعيدا راضيا، وقد أحبه ميسرة حبا جما.. لقد أدت هذه الرحلة عددا من النتائج الهامة التي أرادها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم.

_ 1 السيرة النبوية ج1 ص189.

المبحث السابع: زواج محمد صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها

المبحث السابع: زواج محمد صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها سمعت خديجة رضي الله عنها ما وقع لمحمد صلى الله عليه وسلم في رحلة التجارة، وشاهدته بنفسها، فعادت بذاكرتها إلى ما قاله اليهودي لنساء مكة يوم أن اجتمعن به في المسجد الحرام، قال لهن: يا معشر نساء قريش، إنه يوشك فيكن نبي، فأيكن استطاعت أن تكون فراشا له فلتفعل، فحصبه النساء، وقبحنه، وأغلظن له، ما عدا خديجة، فإنها فكرت فيما سمعت، ووقر في نفسها صدقه، فلما تاجر محمد في مالها، ورأت منه الآيات والبركات تذكرت ما قاله اليهودي وقالت: ما ذلك إلا هذا1. وخديجة امرآة قرشية، اشتهرت بين قومها بالمال والجمال والحسب والنسب ومكارم الأخلاق ... وهي من المكيات القليلات اللائي عملن بالتجارة، حتى صارت من أثرياء مكة الكبار، تزوجت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجلين مخزوميين هما: الأول: هو عتيق بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وولدت له عبد مناف وهندا. الثاني: هو أبو هالة، وهو زرارة بن النباش من بني عدي، وولدت له هالة وهندا والطاهر2. وبعد ترمل خديجة بوفاة زوجها الثاني، رفضت الزواج، فلها أولادها، وقد جاوزت الأربعين، وأنَّى لها برجل يكافئها عقلا وخُلُقا وأصالة!! وقد رغبها صناديد مكة فأبت.. لكنها بعدما رأت محمدا صلى الله عليه وسلم، وتذكرت ما سمعته

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص222. 2 الروض الأنف ج1 ص215، 216.

عنه من اليهودي، ومن ابن عمها ورقة، تمنته زوجا، وسعت في ذلك بحكمة وهدوء، وعملت على اختبار التعامل معه، والتأكد من المزايا التي تصورتها فيه، وهيأ لها القدر ما أرادت حين أتاها أبو طالب يطلب منها أن يتاجر لها في مالها، وقد رحبت بهذا الطلب ترحيبا كبيرا، وقالت لعبد المطلب: لقد سألته لقريب حبيب. وتاجر محمد صلى الله عليه وسلم في مال خديجة وهو في قوة الشباب، ورشد الرجولة، إلا أنه لم يفكر في الزواج بعد بصورة مطلقة لما هو فيه من فقر وعيلة.. إنه يعمل ليسد رمقه، ويعين عمه، وما لمثله أن يفكر في الزواج. وإذا فكر في الزواج كشأن الشباب، فلن يفكر في الزواج من خديجة؛ لما بينهما من فروق، ولأنها رفضت الزواج من كبار القوم وأغنيائهم.. إن فارق السن بينهما خمسة عشر عاما، فهي في الأربعين وهو في الخامسة والعشرين، ولها أولادها من زوجيها السابقين. والفارق المالي كبير، فهي أغنى أغنياء مكة، ومحمد يعمل بالأجرة ليعيش. وشخصيتها وتجارتها وحياتها العملية وسيرتها الشريفة جعلها في مصاف كبار مكة وعظمائها. إن عديدا من عظماء مكة حاولوا الزواج منها فرفضتهم جميعا، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يفكر في زواجها، والكل يعلم موقفها من الزواج!!.. لهذا لم يفكر النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج منها.. وما درى أن القدر يخبئ له ما قدره الله تعالى. وعزمت خديجة على أن تتزوج محمدا صلى الله عليه وسلم مع صغره وفقره؛ لتنال معه الشرف العظيم، وتفضل به سائر الناس، فاحتالت لذلك بأكثر من طريق، وكان الذي سفر بينها وبين محمد صلى الله عليه وسلم نفيسة بنت منية، وهي ابنة أمية بن عبيدة الحنظلي، كما سفر بينهما ميسرة، وأختها، ومولاة مولدة، وإحدي الكاهنات في قريش1.

_ 1 إمتاع الأسماع للمقريزي ج1 ص10.

- فعن معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يذكر أن أبا مجلز حدث أن خديجة قالت لأختها: انطلقي إلى محمد فاذكريني له1، وأنهما تواطآ أن يتزوجها محمد صلى الله عليه وسلم. - وأرسلت مرة أخرى ابنة خالتها نفيسة بنت منية لتوجه محمدا نحو الزواج من خديجة، وتزيل من أمامه العقبات التي تمنعه من الزواج منها ومن غيرها.. تقول نفيسة: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة، جلدة، شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ من أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها، لو قدر على ذلك، قد طلبوها، وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسة إلى محمد، بعد أن رجع في عيرها من الشام. فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: "ما بيدي ما أتزوج به". قلت له: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: "فمن هي؟ ". قلت: خديجة. قال: "وكيف لي بذلك؟ ". قلت: عليَّ. قال: "فأنا أفعل" 2. - يروي النبي موقفا له مع ميسرة، يقول صلى الله عليه وسلم: "قلت لصاحبي:

_ 1 الطبقات الكبرى ج1 ص132. 2 الطبقات الكبرى ج1 ص131.

انطلق بنا نتحدث معا عند خديجة، فجئناها، فبينما نحن عندها إذ دخلت علينا كاهنة من مولدات قريش، فقالت: أمحمد هذا؟ والذي يحلف به إن جاء لخاطبا. قلت: كلا.. حياء وخجلا!! فلما خرجت أنا وصاحبي، قال لي: أمن خطبة خديجة تستحي؟ فوالله ما من قرشية إلا تراك لها كفؤا. فرجعت أنا وصاحبي مرة أخرى، فدخلت علينا تلك الكاهنة، فقالت: أمحمد هذا؟ والذي يحلف به إن جاء لخاطبا. فقلت علي حياء: أجل.. ولم تخالف خديجة ولا أختها"1. إن المرء ليحار أمام هذا التوافق الذي وضع القدر خيوطه، حتى الْتَأَمَ وتَمَّ.. وهل كانت رحلة التجارة اختبارا من خديجة، أم إظهارا لمقام محمد؟ وهل رفض خديجة للزواج قبل ذلك جعلها تنتظر الشرف العظيم الذي ظهر لها في محمد صلى الله عليه وسلم، فرغبت في الاقتران به؟ وما الذي جعل محمدا يرحب بالزواج من خديجة مع أنه كان لا يملك مطالب الزواج ونفقات الحياة؟!! وما الذي جعل خديجة الرافضة للزواج أن تبحث عنه في شاب يصغر عنها بخمسة عشر عاما؟ إنها أسئلة تؤكد الحكمة الإلهية التي خبأها الله سبحانه وتعالى لهذين الزوجين الكريمين.. إن القدر الذي دفع كلا من خديجة ومحمد ليسعى كل لصاحبه لتتكون بهما خير أسرة ظهرت في حياة المسلمين. زوجة تشهد لزوجها بالعظمة وهي تقول: "ووالله لا يخزيك الله أبدا ... "2.

_ 1 دلائل النبوة ج1 ص90. 2 السيرة النبوية ج1 ص188.

وزوج يشهد لزوجته بعد مماتها ويقول: "والله ما رزقني الله خيرا منها ... "، ويقول صلى الله عليه وسلم: "لقد رزقت حبها" 1. ويذهب محمد صلى الله عليه وسلم إلى أعمامه يخبرهم بنبأ خطبة خديجة فيسرون جميعا، ويحضر محمد صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب وعشرة رجال من قومه، ويخطبها عمه أبو طالب من عمها عمرو بن أسد، فيقول وهو يخطبها: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوبا، وحرما آمنا، وجعلنا حكام الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة وقد بذل هلا الصداق حكمكم عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ونشا. فقال عمرو بن أسد عمها: هو الفحل لا يقدع أنفه، وأنكحها منه2. وما روي من أن أباها هو الذي زوجها، وهو لا يدري لسكره، فمردود؛ لأن أباها خويلد هلك قبل حرب الفجار. ويقال: إن الذي أنكحها هو ورقة بن نوفل، وقيل: هو أخوها عمرو بن خويلد ... والأظهر أنه عمها. يمتن الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بزواجه من خديجة؛ حيث يقول له سبحانه بعد المبعث: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} 3. حيث كنت فقيرا فأغناك بمال خديجة الذي تنازلت عنه لك راضية سعيدة.. لتتفرغ للمهام الكبرى، وتعيش الأسرة معك راضية مطمئنة، ويرزقكم الله الأبناء عددا..

_ 1 صحيح مسلم - مناقب خديجة ج15 ص201. 2 الروض الأنف ج1 ص213. 3 سورة الضحى آية 8.

وأول مَن وُلد لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم، ثم ولدت له صلى الله عليه وسلم زينت، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، وكلهم ولدوا قبل الإسلام، أما عبد الله فقد وُلد في الإسلام، فسمي بالطاهر والطيب، وكل هؤلاء من خديجة. وكانت خديجة تعق عن كل مولود لها، عن الذكر بشاتين، وعن الأنثى بشاة واحدة.. وقد مات القاسم بعد ولادته بعامين.. ومات عبد الله قبل الهجرة.. أما رقية وأم كلثوم فخطبهما عتبة وعتيبة ابنا جدهما أبي لهب "شقيق عبد الله"، لكنهما تركاهما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كفرا برسالته، فتزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه الواحدة بعد الأخرى، حيث تزوج أم كلثوم بعد وفاة رقية، أما فاطمة فقد تزوجت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وتزوج أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس ابن خالته زينبا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم.. وأولاده صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة ما عدا إبراهيم، فأمه مارية القبطية التي أهداها المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وتزوجها صلى الله عليه وسلم.. وولدت له في المدينة المنورة بعد الهجرة.

المبحث الثامن: بناء الكعبة

المبحث الثامن: بناء الكعبة الكعبة المشرفة هي البناء المربع المجوف المقام وسط المسجد الحرام، وهي تتوسط العالم كله. وهي أول بناء وضع في الأرض، بنتها الملائكة بصورة بسيطة، وكثيرا ما كانت تتأثر بالنار فتحترق، وبالسيول فتتصدع، وبغير ذلك من عدوان الناس. ولذلك تكرر بناؤها قبل الإسلام وبعده، فلقد بنتها الملائكة أولا، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينها؟ قال: "أربعون سنة" 1. ثم توالى البناء فبلغ عددا ذكرها المؤرخون على اختلاف بينهم، إلا أنهم مجمعون على مرات ثلاث لثبوت أدلتها، وهي بناء إبراهيم عليه السلام، وبناء قريش، وبناء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. وفي إطلاق عبارة البناء تجوز واضح، فإن بعضها كان جدارا واحدا كبناء الحجاج، وبعضها كان ترميما وإصلاحا ... وهكذا. والبنايات التي ذكرها المؤرخون للكعبة كثيرة: منها: بناء الملائكة عليهم السلام. ومنها: بناء آدم عليه السلام. ومنها: بناء أولاد آدم عليه السلام. ومنها: بناء العمالقة. ومنها: بناء جرهم. ومنها: بناء قصي بن كلاب.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق ج4 ص177، ط. الشعب.

ومنها: بناء الخليل إبراهيم عليه السلام. ومنها: بناء قريش. ومنها: بناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي رضي الله عنه. ومنها: بناء الحجاج بن يوسف الثقفي. فأما بناء الملائكة للكعبة: فذكروه الأزرقي في تاريخه، وذكر أن ذلك كان قبل خلق آدم عليه السلام، واستدل على ذلك بخبر رواه عن زين العابدين، وجزء خبر رواه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وكلاهما يدل على بناء الملائكة للكعبة. وأما بناء آدم عليه السلام: فقد ذكره البيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر، وحواء تنقل التراب، حتى أجابه الماء فودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنياه أوصى الله إليهما أن طوفا به" 1. وأما بناء أولاد آدم للكعبة: فذكره الأزرقي، حيث روى بسنده إلى وهب بن منبه قال: رفعت الخيمة التي عرى الله -عز وجل- بها آدم عليه السلام من حلية الجنة، حين وضعت له بمكة في موضع البيت، وبعدما مات آدم عليه السلام بنى بنوه من بعده مكانها بيتا بالطين والحجارة، فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم، حتى كان زمن نوح عليه السلام فنسفه الغرق، وغير مكانه حتى بوئ لإبراهيم عليه السلام. وأما بناء الخليل عليه السلام: فهو ثابت كما في القرآن العظيم والسنة الشريفة، وهو أول من بنى البيت بعد نوح عليه السلام، وحدد قواعده، ورفعه، ونظمه، عن ابن إسحاق: "أن الخليل عليه السلام لما بنى البيت جعل طوله في السماء تسعة أذرع وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعا، من الركن الأسود إلى الركن الشامي، الذي

_ 1 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج1 ص176.

عنده الحجر من وجهه، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي اثنين وعشرين ذراعا، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحدا وثلاثين ذراعا، وجعل عرض سقفها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا، وجعل بابها بالأرض، وحفر جبا في بطن البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت، وكان إبراهيم عليه السلام يبني وإسماعيل ينقل له الحجارة على رقبته، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1". وأما بناء العمالقة وجرهم للكعبة: فذكره الأزرقي؛ لأنه روى بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال في خبر بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة: ثم انهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قبيلة من جرهم، ثم انهدم فبنته قريش. وأما بناء قصي بن كلاب: فقد جزم به الماوردي في "الأحكام السلطانية"؛ لأنه قال: فكان أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم عليه السلام قصي بن كلاب، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل. وأما بناء قريش الكعبة: فهو ثابت كما في السنة الشريفة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحضره صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وثلاثين سنة، كما جزم به ابن إسحاق وغير واحد من العلماء. وأما بناء ابن الزبير رضي الله عنه للكعبة: فإنه ثابت مشهور، ويرجع سبب اهتمامه ببنائها إلى ما حدث فيها من تهدم لسببين: السبب الأول: توهن الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير رضي الله عنهما بمكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة؛ لمعاندته يزيد بن معاوية، ومبايعة أهل مكة والمدينة له خليفة للمسلمين.

_ 1 سورة البقرة آية 127.

السبب الثاني: احتراق الكعبة؛ بسبب النار التي أوقدها بعض أصحاب ابن الزبير رضي الله عنهما في خيمة له؛ حيث طارت الرياح بلهب تلك النار، فأحرقت كسوة الكعبة، كما أحرقت الساج الذي بني في الكعبة حين عمرتها قريش، فضعفت جدران الكعبة، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها من الوهن والضعف. ولما زال الحصار عن ابن الزبير رضي الله عنهما لإدبار الحصين بن نمير من مكة بعد أن بلغه موت يزيد بن معاوية، رأى ابن الزبير رضي الله عنهما أن يهدم الكعبة ويبنيها، فوافقه على ذلك نفر منهم جابر بن عبد الله، وكره ذلك نفر، منهم ابن عباس رضي الله عنهما. وكان هدم ابن الزبير للكعبة في يوم السبت في النصف الأول من جمادى الآخرة سنة أربع وستين للهجرة. وقد بناها ابن الزبير على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها ما أخرجه منها قريش في الحجر، وزاد في ارتفاعها على بناء قريش نظير ما زادته قريش على بناء الخليل عليه السلام وذلك تسعة أذرع، فصار ارتفاعها سبعة وعشرين ذراعا وهي سبعة وعشرون مدماكا، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض، أحدهما بابها الموجود اليوم، والآخر المقابل له من الجهة الغربية المسدود الآن، واعتمد في ذلك على ما أخبرته به خالته عائشة رضي الله عنها. وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وجعل لها درجا في ركنها الشامي يصعد منها إلى سطحها، وجعل فيها ميزابا يصب في الحجر، وجعل فيها روازن للضوء1. والبناء المقصود من هذا المبحث، هو البناء الذي قامت به قريش، والذي

_ 1 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج1 ص186.

اشترك فيه محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن كان عمره خمسا وثلاثين سنة. والكعبة ليست هي المسجد الحرام، وليس هي الحرم؛ لأن المراد بالمسجد الاتساع المحيط بالكعبة، الذي يصلي فيه الناس، والحرم هو المكان الذي يشمل مكة وما حولها من جميع الجهات إلى الأماكن المعروفة المحددة، التي تفصل بين الحل والحرم، من كافة نواحي مكة، وهي المعروفة بالمواقيت المكانية، التي يحرم منها أهل مكة بالعمرة. وبناية قريش للكعبة كان قبل الإسلام بخمس سنوات، وهي المرة التي اشترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وعمره خمس وثلاثون سنة1. وسبب قيام قريش ببنائها ما أصابها من حريق نال منها بسبب شرارة صدرت من امرأة عربية، وهي تقوم بتجمير الكعبة، ولدخول السيل فيها، وتصدع جدرانها، ولأنهم لاحظوا أن نفرا تمكنوا من الدخول فيها، وسرقوا حليا وذهبا منها. أرادت قريش أن تتغلب على هذه المثالب فاتفقوا على بناء الكعبة سويا، وقاموا بتقسيم جدر الكعبة أجزاء، ووزعوها على سائر القبائل؛ لتنال كل قبيلة شرف المساهمة في بناء الكعبة. فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وهو الجدار الشرقي. وكان من بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وهو الجدار الجنوبي. وكان ظهر الكعبة لبني جمع وبني سهم، وهو الجدار الغربي. وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي، ولبني أسد بن عبد العزي بن قصي ولبني عدي بن كعب، وهو الحطيم2 الواقع في الجهة الشمالية. وقد اشترك النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه في بناء الكعبة، فكان ينقل معهم الحجارة، وهم يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل محمد مثلهم، فبانت عورته،

_ 1 الروض الأنف ج1 ص221، وهذا أصح الأقوال. 2 السيرة النبوية ج1 ص226، هامش الروض الأنف.

فنودي: عورتك، عورتك، فما رؤي لرسول الله عورة بعد ذلك1. وجاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس ينقلان الججارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك، فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، فقال: "أرني إزاري"، فشده عليه2. وتجمع قبائل مكة في بناء الكعبة، واشتراك الكبار والصغار دليل على منزلة الكعبة في قلوب وعقول سائر القبائل؛ لأنهم كانوا يرون أنها بيت الله تعالى، والذي بناها هو إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام، وأنها وديعة الله في أرضه للناس، وهم مسئولون عنها. وأن المرء ليحار وهو يرى هذا الاهتمام بالكعبة، ويرى في نفس الوقت الأصنام وقد وضعوها حولها.. فهل هذا اهتمام بالأصنام حيث وضعوها في هذا المكان المقدس، أم هو اهتمام بالكعبة آملين أن تفيض على أصنامهم ببعض ما فيها من خير وبركة؟! لقد أدت روح العصبية في القبائل إلى أن تبحث كل منها عن تميز لها تعلو به على غيرها من القبائل.. فلعب الشيطان بهم، ووجههم إلى تعدد الآلهة، وأعمى عقولهم عن الحق والصواب. لقد كادت هذه العصبية أن توقع الحرب بين القبائل يوم بناء الكعبة.. فبرغم أنهم جزءوا جدران الكعبة، وجعلوا لكل قبيلة جزءا تقوم ببنائه، إلا أنهم لما ارتفعوا بالبناء إلى مستوى الحجر الأسود، ويسمونه بالركن، من باب تسمية الشيء باسم محله؛ لأنهم يضعون الحجر في ركن الكعبة، لما بلغوا هذا المستوى اختلفوا فيمن يرفعه بيده، ويضعه في مكانه.. يقول ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش

_ 1 البخاري - كتاب الحج - باب فضل بناء الكعبة ج3 ص439. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب الحج - باب فضل مكة وبنائها ج3 ص442.

جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تجاوزوا، وتحالفوا، وأعدوا للقتال. ووصل الأمر بهم إلى أن بني عبد الدار أعدت جفنة وملئوها دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في جفنة الدم؛ إيذانا باستعدادهم للقتال حتى الموت؛ ولذلك سموا "لعقة الدم"، وكل ذلك من حمية العصبية1. ثم إن أهل مكة فكروا في مصير مكة إذا وقعت الحرب، واشتركت فيها القبائل جميعا، وأخذوا في تدبر الأمر، والبحث عن حل مقبول. وتوقف العمل خمس ليال بسبب هذا التنافس، إلا أنهم في النهاية اجتمعوا في المسجد الحرام، ورأوا تحكيم أسنهم، وهو أبو حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي، فتدبر في الأمر، ثم قال لهم: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون أول من يدخل من باب هذا المسجد، ويقضي بينكم فيه، يريد به باب "بني شيبة"، وكان يسمى في الجاهلية "باب عبد شمس"، وهو في الإسلام "باب السلام"، فوافقوه على رأيه وانتظروا، فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: "هلموا إليَّ ثوبا"، فأتي به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده، ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، وليمثلها شيخها"، ولما فعلوا كان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني أبو زمعة بن الأسود بن المطلب، وفي الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، وفي الرابع أبو قيس بن عدي2.

_ 1 البداية والنهاية ج1 ص303، ط. دار الفكر العربي. 2 المرجع السابق ج1 ص196، ويرى معاوية أنه العاصي بن وائل.

فجاء الأربعة، وحملوا الثوب، ورفعوه حتى إذا بلغ الحجر الأسود موضعه حمله صلى الله عليه وسلم بيده، ووضعه حيث هو الآن، وبنى عليه، واستمروا في البناء، كل في جهته حتى ارتفع البناء ثماني أذرع، ثم كسوها بالقباطي والبرود1. يصور الأزرقي ما حدث يوم بناء الكعبة في حوار واضح تذكر فيه بعض الصحابة ما كان يوم بناء الكعبة، يقول الأزرقي: "اجتمع عند معاوية بن أبي سفيان -وهو خليفة- نفر من قريش، منهم: جعدة بن هبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن زمعة بن الأسود، فتذاكروا أحاديث العرب. فقال معاوية: مَن قال حين اختلفت قريش في بنيان مقدم البيت: يا معشر قريش، لا تنافسوا، ولا تباغضوا، فيطمع فيكم غيركم، ولكن جزئوا البيت أربعة أجزاء، ثم ربعوا القبائل فلتكن أرباعا؟ قالوا: إنه أبو أمية بن المغيرة. قال: هكذا كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن القائل حين اختلفت قريش في وضع الركن: حكموا بينكم أول من يطلع من هذا الباب؟ قال: أبو حذيفة بن المغيرة. قال: نعم. قال: فمن النفر الذين رفعوا الثوب حين وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: جدك عتبة بن ربيعة أحدهم، في الربع الأول. قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن كان من الربع الثاني؟ قالوا: أبو زمعة بن الأسود بن المطلب.

_ 1 القباطي: ثياب مصنوعة من القطن، والبرود: الثياب المصنوعة من الصوف.

قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن كان في الربع الثالث؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة. قال: كذلك كنت أسمع أبي يقول. قال: فمن كان في الربع الرابع؟ قالوا: أبو قيس بن عدي السهمي. قال: هذه واحدة قد أخذتها عليكم، وإنما هو العاصي بن وائل. قال: فمن قال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا طيبا من كسبكم؟ قالوا: أبو حذيفة بن المغيرة. قال: هذه أخرى قد أخذتها عليكم، إنما القائل هذا، والمتكلم به أبو أحيحة سعيد بن العاصي. قال: فأسكت القوم"1. وهذه الحادثة تدل على ما تميز به محمد بالصدق والأمانة في قومه، وقد سمي فيهم بالصادق الأمين، حتى أن هذه الأسماء إذا أطلقت بينهم تنصرف في أذهانهم تلقائيا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وتدل كذلك على ما قدره الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلقد نال الشرف الذي بحث عنه الجميع، فهو الذي وضع الحجر الأسود على الثوب، وهو الذي رفعه من فوق الثوب، ووضعه في موضعه، وهو الذي بنى فوقه.. وقد رضي الجميع، واطمأنوا إلى تصرف محمد صلى الله عليه وسلم فيهم.. ولم يغب إبليس عن هذا الحدث، فلقد حاول إفساد خطة الصلح، فجاء في صورة رجل نجدي، وحاول مناولة النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشد به الركن. فقال العباس بن عبد المطلب: لا، ونحاه، وناول العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا فشد

_ 1 أخبار مكة للأزرقي ج1 ص172، 173.

به الركن. فغضب النجدي حيث نُحي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس يبني معنا في البيت إلا واحد منا". فقال النجدي: يا عجبا لقوم أهل شرف، وعقول، وسن، وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنا، وأقلهم مالا، فرأسوه عليهم في مكرمتهم، وحرزهم، كأنهم خدم له، أما والله ليفوتنهم سبقا، وليقسمن بينهم حظوظا وجدودا! 1.. ولما بنى القرشيون الكعبة قصرت بهم النفقة، ولم يتمكنوا من بنائها على قواعد إبراهيم، وأهم التغييرات في بناء قريش للكعبة ما يلي: 1- كان باب الكعبة على الأرض، فلما هدمتها قريش وأعادوا بناءها، ردموا وسط الكعبة بمخلفات الهدم، فارتفعت أرض الكعبة، وبالتالي ارتفع بابها، وقد استحسنوا ذلك حتى لا يدخلها إلا من أرادوا له الدخول، وبخاصة أن بعض اللصوص كانوا يدخلون الكعبة لسرقة بعض المجوهرات التي أهديت إليها، يروي الأزرقي بسنده عن أبي جعفر أنه قال: كان باب الكعبة على عهد إبراهيم وجرهم بالأرض حين بنتها الملائكة، كما يروي أن أبا حذيفة بن المغيرة قال: يا معشر قريش، ارفعوا باب الكعبة حتى لا يدخل عليكم أحد إلا بسلم، فإنه لا يدخل عليكم إلا من أردتم، ففعلت قريش ذلك، وردموا الردم الأعلى، وصرفوا السيل عن الكعبة وكسوها2. 2- جعلوا للكعبة بابا واحدا، هو الباب الشرقي، وهو الموجود الآن، وسدوا الباب الغربي. 3- تركوا بناء الحجر بطول ستة أذرع ونصف، مع أنه جزء من الكعبة؛ لأن النفقة الطيبة قصرت بهم، فأبوا أن يدخلوا في بنائها مالا خبيثا، وأطاعوا

_ 1 الطبقات الكبرى ج1 ص146. 2 أخبار مكة للأزرقي ج1 ص173.

نصيحة أبي أحيحة سعيد بن العاص حين قال لهم: لا تُدخلوا في بيت ربكم إلا طيبا من كسبكم1. 4- ارتفعوا بالبناء تسعة أذرع، فصار ارتفاع الكعبة ثمانية عشر ذراعا، حيث رغبوا في إطالتها؛ رمزا لرفعتها. 5- قاموا بتسقيفها؛ حيث كرهوا أن تكون بغير سقف، ولعلهم لاحظوا أهمية السقف في حمايتها من الأتربة والفضلات التي تحملها الرياح إلى جوف الكعبة. 6- أقاموا داخل الكعبة ست دعائم في صفين يجاوران الجانب الشرقي والجانب الغربي؛ لتكون أساسا يقوم عليه السقف، وقد بنيت هذه الدعائم من الحجر والخشب. 7- أقاموا داخل الكعبة من ناحية شرق الحجر سلما حلزونيا يمكن بواسطته الصعود إلى سطح الكعبة. 8- جعلوا سطح الكعبة مستويا يميل نحو الحجر، وأحاطوا السطح بسور يبلغ ارتفاعه ذراعا، وجعلوا فيه ميزابا يصب ماء المطر في الحجر. 9- أدخلوا جميع جدران الكعبة بعيدا عن قواعد إبراهيم عليه السلام بمقدار نصف ذراع؛ حيث أقيم عليه "الشاذوران" فيما بعد، وهو البناء البارز الموجود أسفل الجدر حاليا، ويشبه الوزرة، وهو حجارة مائلة ملتصقة بجدر الكعبة من خارجها، والشاذوران من بناء السلطان مراد العثماني عام 1040هـ، وقد جعل ارتفاعه أحد عشر سنتيمترا من الأرض، وعرضه أربعين سنتيمترا، وهو بناء مائل على هيئة مثلث قائم الزاوية ارتفاعه ملاصق للكعبة من جهاتها الثلاث، أما جهة الحجر فهو على هيئة درجة واحدة مسطحة. وجمهور الفقهاء أجمعوا على أن الشاذوران من البيت خلافا لأبي حنيفة2.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي ج1 ص173. 2 في رحاب البيت الحرام ص126، 127.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بأن قومها لم يقيموا الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام. - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تري إلى قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم عليه السلام"، قلت: يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال عبد الله بن عمر: فوالله لئن كانت عائشة سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يقم على قواعد إبراهيم عليه السلام إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت كله من وراء قواعد إبراهيم عليه السلام1. - عن عائشة رضي الله عنه قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدي فأدخلني في الحجر فقال لي: "صلي في الحجر إذا أردت دخول البيت؛ فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت" 2. - عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "لولا أن قومك حديث عهد بشرك أو بجاهلية لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين، بابا شرقيا، وبابا غربيا، وزدت فيها من الحجر ستة أذرع، فإن قريشا اقتصر بها حين بنت الكعبة" 3. عبد الله بن الزبير وبناء الكعبة: قام عبد الله بن الزبير حين ولي أمر مكة والمدينة، معارضا ليزيد بن معاوية

_ 1 الفتح الرباني ج12 ص49. 2 الفتح الرباني ج12 ص50. 3 الفتح الرباني ج12 ص51.

ببناء الكعبة، وسبب بنائه لها يرجع لأمرين: الأول: توهن الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير رضي الله عنهما بمكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة؛ لمعاندته يزيد بن معاوية. الثاني: ما أصابها مع ذلك من الحريق؛ بسبب النار التي أوقدها بعض أصحاب ابن الزبير رضي الله عنهما في خيمة له، فطارت الرياح بلهب تلك النار فأحرقت كسوة الكعبة، والساج الذي بني في الكعبة حين عمرتها قريش، فضعفت جدران الكعبة، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها1. ولما زال الحصار عن ابن الزبير رضي الله عنهما لإدبار الحصين بن نمير من مكة بعد أن بلغه موت يزيد بن معاوية، رأى ابن الزبير رضي الله عنهما أن يهدم الكعبة ويبنيها، فوافقه على ذلك نفر قليل، وكره ذلك نفر كثير، منهم ابن عباس رضي الله عنهم. فلما رأى ابن الزبير هذا الخلاف بين الصحابة قفال لهم: لو أن بيت أحدكم احترق لا يرضى له إلا بأكمل صلاح، ولا يكمل صلاح الكعبة إلا بهدمها وإقامتها على قواعد إبراهيم عليه السلام كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وسمعها ابن الزبير منها رضي الله عنها، فهدمها اجتهادا منه بناء على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن النفقه موجودة وقد بعد الناس عن الجاهلية، وما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد البيت لعائشة إلا لحكمة فهم ابن الزبير منها جواز بناء البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام، وقد وافقه بعض الصحابة في هذا الاجتهاد. وكان هدم ابن الزبير رضي الله عنه لها يوم السبت في النصف الأول من جمادى

_ 1 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج1 ص185.

الآخرة سنة أربع وستين، وبعد هدمها تماما بناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها ما أخرجه منها قريش في الحجر، وزاد في ارتفاعها على بناء قريش نظير ما زادته قريش في ارتفاعها على بناء الخليل عليه السلام وذلك تسعة أذرع، فصار ارتفاعها سبعة وعشرين ذراعا، وهي سبعة وعشرون مدماكا، وجعل لها بابين لاصقين بالأرض، أحدهما بابها الموجود اليوم، والآخر المقابل له المسدود حاليا، واعتمد في ذلك وفي إدخاله في الكعبة ما أخرجته قريش منها في الحجر على ما أخبرته به خالته عائشة رضي الله عنها. وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد، وجعل لها درجا في ركنها الشامي يصعد منها إلى سطحها، وجعل فيها ميزابا يصب في الحجر، وجعل فيها روازن للضوء1. فلما قتل ابن الزبير، وكانت ولاية عبد الملك بن مروان أمر بإعادة البيت إلى ما كان عليه في بناء قريش؛ ظنا أن ابن الزبير أخطأ في اجتهاده، أو شك في الأحاديث التي اعتمد عليها ابن الزبير؛ ولذلك قام الحجاج بأمر من الخليفة عبد الملك بإخراج الحجر من الكعبة، وإلغاء الباب الغربي، وأبقى على ما عدا ذلك من بناء ابن الزبير، ولما أتم الحجاج ما أمر به عبد الملك وفد على بعد الملك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة. فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة. قال عبد الملك: سمعتها تقول ماذا؟ قال الحارث: سمعتها تقول: وذكر الأحاديث. قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا

_ 1 المرجع السابق ج1 ص186.

سمعت هذا منها، قال: فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت والله أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك1. وقد أراد أبو جعفر المنصور أن يعيد بناءها على بناء ابن الزبير فأبَى عليه الإمام مالك وقال له: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك، يغيره من يريد تغييره، فتذهب هيبته من القلوب، فانصرف المنصور عما أراد2. الكعبة والمسجد الحرام: جاء ذكر المسجد الحرام خمسة عشر مرة في القرآن الكريم، وهي: 1- {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 3. 2- {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 4. 3- {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 5. 4- {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 6. 5- {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 7. 6- {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْه} 8.

_ 1 أخبار مكة للأزرقي ج1 ص211. 2 الروض الأنف ج1 ص222. 3 سورة البقرة آية 144. 4 سورة البقرة آية 149. 5 سورة البقرة آية 150. 6 سورة البقرة آية 191. 7 سورة البقرة آية 196. 8 سورة البقرة آية 217.

7- {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 1. 8- {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 2. 9- {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 3. 10- {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 4. 11- {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 5. 12- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 6. 13- {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} 7. 14- {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} 8. 15- {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} 9. وحين ننظر في هذه الآيات نرى أن المراد ببعضها الكعبة خاصة، وهي قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ويراد ببعضها الآخر مكة، وهي قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ

_ 1 سورة المائدة آية 2. 2 سورة الأنفال آية 34. 3 سورة التوبة آية 7. 4 سورة التوبة آية 19. 5 سورة التوبة آية 28. 6 سورة الإسراء آية 1. 7 سورة الحج آية 25. 8 سورة الفتح آية 25. 9 سورة الفتح آية 27.

الْأَقْصَى} حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُسري به من بيت أم هانئ، ويراد بها في موضع آخر الحرم كله، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} . فالمسجد الحرام غير الكعبة المشرفة؛ ولذلك يقول القائل: خرجت من المسجد الحرام، واعتكفت به، وهكذا ... ولذلك كان الحديث عن بناء الكعبة خاصا بها، أما المسجد فلم يقع له بناء وظل عبارة عن فسحة واسعة محيطة بالكعبة، وكان حول الكعبة خلاء كبير؛ لأن القبائل كانوا يسكنون في شعاب مكة الموجودة بين الجبل، حيث عرف كل شعب بمن كان يسكنه، واستمر الأمر على ذلك حتى استولى قصي على مكة، وأمر قومه أن يبنوا لأنفسهم حول الكعبة، وقال لهم: إن سكنتم حول الكعبة هابكم الناس، وخافوا من قتالكم، والهجوم عليكم، وبدأ هو أولا بالبناء فاتبعوه. وكانت أبواب البيوت مفتوحة تجاه الكعبة، ومحيطة بها، ولم يتركوا للطائفين إلا مساحة ضيقة بمقدار مطافهم، حتى عد مكان الطواف مدخل البيوت. وتقديرا للكعبة جعلوا بين كل دارين طريقا إليها، واشترطوا ألا يعلو بناء ما عن الكعبة حتى تُرى من جميع نواحيها. واستمر حال المسجد على ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمن أبي بكر رضي الله عنه، فلما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أن الناس قد ضيقوا على المسجد، وألصقوا دورهم به، مع أنه صار مقصدا للناس، يشد المسلمون إليه الرحال من كل مكان.. لما رأى ذلك عمر رضي الله عنه قال لأهل مكة: إن الكعبة بيت الله، ولا بد للبيت من فناء، وإنكم دخلتم عليها، ولم تدخل عليكم، فاشترى تلك الدور من أهلها،

وهدمها، وبنى سورا للمسجد وفتح في السور أبوابا في أماكن الطرق التي كانت بين الدور، وسمى كل باب باسم الطريق المقابل له، وبهذا تعددت الأبواب في السور. ولما ولي عثمان رضي الله عنه اشترى دورا أخرى، وأغلى في ثمنها، وزاد في سعة المسجد1، وزاد في عدد الأبواب. فلما كانت خلافة ابن الزبير رضي الله عنه عمر المسجد الحرام بعد أن انتهى من عمارة الكعبة المعظمة وزاد فيه زيادة كبيرة من الجهة الشرقية والجنوبية والشمالية، واشترى دورا كثيرة وسقف المسجد أيضا2. وتوالت الزيادة في المسجد الحرام، وأشهرها الزيادة العثمانية؛ حيث تركوا مكانا خاليا للطواف، وأحاطوه ببناء دائري، مقام على أعمدة رخامية، ومسقف بقباب في جميع نواحيه. وكان آخرها في العصر الحديث؛ حيث الزيادة السعودية في عهد الملك سعود بن عبد العزيز وفي عهد أخيه الملك فهد بن عبد العزيز، جزاهم الله خير الجزاء.

_ 1 الروض الأنف ج1 ص224. 2 في رحاب البيت الحرام ص199.

المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية

المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية أولا: كثرة المبشرات ... المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية بعدما تزوج محمد صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها لم يعد محتاجا لمال يسعى لتحصيله، أو ينشغل في العمل من أجل كسبه، فلقد أغناه الله بمال خديجة رضي الله عنها، وأغناه كذلك برضى النفس، وهدوء البال، وأغناه بالميل نحو التأمل والتفكير، أكثر من ميله للكسب المادي، وبذل الجهد والعمل. ولذلك نراه صلى الله عليه وسلم يبدأ حياة التأمل، ويتفرغ للتحنث بعيدا عن صخب الحياة، وضجيج العمل، وفي فترة ما قبل البعثة عاش محمد صلى الله عليه وسلم -وعاش العالم كله- مقدمات البعثة، المتمثلة في النقاط التالية: أولا: كثرة المبشرات تمتلئ كتب السيرة والتاريخ بالمبشرات الكونية والإنسانية، التي أشارت إلى قرب ظهور نبي في بلاد العرب، يُبعث للعالم كله؛ لنشر العدل، وتحقيق الأمن والسلام، وقد أتت أغلب هذه المبشرات من أحبار اليهود، ورهبان النصارى، وكهان العرب. وسوف أورد هنا شيئا منها؛ لثبوتها بتصديق القرآن الكريم لها، ولأن ثبوت صدقها إثبات للإرهاصات العديدة التي صاحبت مولد محمد صلى الله عليه وسلم ونشأته وحياته كلها. إن مبشرات أهل الكتاب من اليهود والنصارى هي مبشرات صحيحة لشهادة القرآن الكريم؛ حيث بيَّن الله تعالى بصورة قاطعة معرفة الأحبار والرهبان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتحديد مواصفاته، ومكان ظهوره، وطبيعة رسالته العالمية.

يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1، ودلالة الآية صريحة في أن أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، يعرفون محمدا ورسالته معرفة تفصيلية، ومع ذلك فقد جحد فريق منهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكتم ما يعرفه، وأنكر ما هو صحيح لديه. جاء في تفسير الطبري أن أحبار اليهود وعلماء النصارى كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، فأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته بكتمانهم ذلك عن علم ومعرفة، وليس لهم ذلك2. وإنما شبه معرفتهم له صلى الله عليه وسلم بمعرفتهم بأبنائهم، ولم يشبهه بمعرفتهم بأنفسهم؛ لأن الوالد يعرف ابنه في كل وقت وفي كل حال، وقد يغفل عن نفسه أحيانا، وأيضا فإن المعرفة الكاملة للنفس أمر مستحيل بينما المعرفة للولد تكون أكمل. قيل لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا كما تعرف ابنك؟ قال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه، بنعته، فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه3!! ويقول الله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} 4، فهو صلى الله عليه وسلم موجود في التوراة والإنجيل بوصفه ورسالته. يروي البخاري بسنده أن عطاء بن يسار لقي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقال له: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة.

_ 1 سورة البقرة آية 146. 2 تفسير الطبري ج3 ص146، ط. دار المعارف. 3 تفسير القرطبي ج2 ص163، ط. دار الكتب. 4 سورة الأعراف آية 157.

فقال عطاء: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا, ومبشرا، ونذير، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا1. ويقول سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2، والآية تبين أن عيسى عليه السلام بشر أتباعه -وعلى رأسهم الحواريون- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وحدد لهم اسمه ووصفه. ويقول سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3، والآية صريحة في أن الله تعالى بيَّن لأهل الكتاب رسالة محمد ووضحه لهم بالتمثيل والتشبيه الذي يقرب المعنى، ويسهل المفاهيم الصعبة، فمثل محمد وأصحابه في التوراة أنهم متعاونون، يجب بعضهم بعضا، ويواجهون الكفار بقوة وشدة، وأنهم عابدون لله، راكعون، ساجدون، في وجوههم

_ 1 صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب كراهية السخب في السوق ج4 ص46. 2 سورة الصف آية 6. 3 سورة الفتح آية 29.

علامات السجود، وهم يدعون ربهم، ويطلبون منه الخير، والفضل دائما.. ومثلهم في الإنجيل كزرع يانع، بلغ غاية النمو والثمر، بمنظر بهيج، وفائدة واضحة، ينفع نفسه وغيره. وضَرْب المثال بعد التصريح لزيادة التعريف والتوضيح؛ ولذلك كان عتاب الله لأهل الكتاب لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم آيات الله التي جاءت معه صلى الله عليه وسلم، ولا عذر لهم في ذلك.. يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} 1؟!!.. ويقول سبحانه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2؟!!.. وقد جاءت الآيتان بصيغة الاستفهام الإنكاري لإظهار خطأ أهل الكتاب فيما هم فيه من الكفر والعناد، بعدما رأوا الآيات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته، وقد رأوها بأعينهم، وتيقنوها بأفئدتهم. لقد كان اليهود في المدينة المنورة يخوفون الأوس والخزرج قبل الهجرة بقرب ظهور نبي يتبعونه، ويتقوون به، حتى يتمكنوا من قتل العرب قتل عاد وإرم، الأمر الذي دفع أهل المدينة إلى الإسراع في الدخول في الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يسبقهم اليهود إلى الإيمان به. يروي ابن إسحاق أن عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه أنهم قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه لنا، ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا

_ 1 سورة آل عمران آية 70. 2 سورة آل عمران آية 71.

وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1.. وخلاصة المبحث هو تأكيد صدق أخبار اليهود ورهبان النصارى في البشارات العديدة التي تحدثوا عنها، وأكدوا ضرورة وقوعها في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنهم لم يؤمنوا بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم حين جاءتهم؛ حقدا وحسدا.. - يقول سفيان بن حرب: إن أمية بن أبي الصلت ذهب إلى عالم من علماء النصارى، انتهى إليه علم الكتاب، وسأله عن النبي المنتظر. فقال له: أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر. فأجابه: هو رجل من العرب. قال له: من أي العرب؟ فأجابه: من أهل بيت يحجه العرب من إخوانكم من قريش. قال له: صفه لي. فأجابه: رجل شاب حين دخل في الكهولة، بدء أمره يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، وهو محوج، كريم الطرفين، متوسط في العشيرة، أكثر جنده الملائكة2. - ويروي ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال: سافرت إلى اليمن

_ 1 سورة البقرة آية 146. 2 سبل الهدى ج2 ص256.

قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، فنزلت على عثكلان بن عواكن الحميري، وكان شيخا كبيرا، وكنت لا أزال إذا قدمت اليمن أنزل عليه، فيسألني عن مكة، وعن الكعبة وزمزم ويقول: هل ظهر فيكم رجل له ذكر؟ هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم؟ فأقول: لا، حتى قدمت المرة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته قد ضعف، وثقل سمعه، فنزلت عليه، فاجتمع عليه ولده، وولد ولده، فأخبروه بمكاني وأتوني له، وقد شدت عصابة على عينيه، وأسند فقعد، فقال لي: انتسب يا أخا قريش. فقلت: أنا عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عدي بن الحارث بن زهرة. قال: حسبك يا أخا زهرة، ألا أبشرك ببشارة هي خير لك من التجارة؟ قلت: بلى. قال: أنبئك بالمعجبة، وأبشرك بالمرعبة، إن الله تعالى بعث في الشهر الأول من قومك نبيا، ارتضاه صفيا، وأنزل عليه كتابا، وجعل له ثوابا، ينهى عن الأصنام، ويدعو إلى الإسلام، يأمر بالحق ويفعله، وينهى عن الباطل ويبطله. فقلت له: ممن هو؟ قال: لا من الأزد ولا ثمالة، ولا من سرو ولا تبالة، هو من بني هاشم، وأنتم أخواله يا عبد الرحمن، أحسن الوقعة، وعجل الرجعة، ثم امض وآزره، وصدقه1. - ويقول عروة بن مسعود الثقفي: بلغت نجران وكان أسقفها صديقا لي، فلما رآني، قال لي: يا أبا يعفور، هذا حين خروج نبي من أهل حرمكم، يهدي إلى الحق، وحق المسيح إنه لخير الأنبياء وآخرهم، فإن ظهر فكن أول مَن يؤمن به2. - ويُروى أن أبا ثور عمرو بن معدي كرب رضي الله عنه قال: فزعنا إلى كاهن

_ 1 سبل الهدى ج2 ص258. 2 سبل الهدى ج2 ص259.

لنا في أمر نزل بنا، فقال الكاهن: أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، إن هذا لإمراج، ولقاح ذي نتاج. قالوا: وما نتاجه؟ قال: ظهور نبي صادق، بكتاب ناطق، وحسام ذالق. قالوا: أين يظهر؟ وإلامَ يدعو؟ قال: يظهر بصلاح، ويدعو إلى فلاح، وينهى عن الراح والسفاح، وعن كل أمر قباح. قالوا: ممن هو؟ قال: من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، ومطعم الطير المحوم، والسباع الضرم. قالوا: وما اسمه؟ قال: محمد، وعزه سرمد، وخصمه مكمد1. - ويروي ابن هشام أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله، ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي فعثر فقال ابنه: تعس الأبعد، يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوه: لا تفعل، فإنه نبي، واسمه في الوضائع -يعني الكتب- فلما مات لم يكن همه إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه2. وهكذا نرى كثرة المبشرات، وانتشارها في كل أرجاء الأرض، وكلها تشير إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وكان الأمل أن يسارع أهل الكتاب إلى الإيمان والتصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم العارفون بها وبصدقها، وقد بشروا الناس بها، لكن الحقد أعمى قلوبهم، وصرفهم

_ 1 سبل الهدى ج2 ص260، وصلاح اسم من أسماء مكة. 2 سبل الهدى ج2 ص262.

عن اتباع الحق، وكَبُرَ في نفوسهم أن يكونوا تابعين لغيرهم.. ومع أنهم لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أبقوا في أفهام الناس هذه المبشرات، وهيئوا العقول الصالحة للإيمان، مما جعل الكثير ينتظر هذا النبي المبعوث بدين الله تعالى. وقد سبق ذكر ما قاله كاهن عمورية لسلمان الفارسي، وما قاله بحيرى لأبي طالب، وما قاله نسطورا لميسرة 1. هذا بعض ما قاله الرهبان.. ومما قاله الأحبار ما رواه ابن سعد بسنده عن أبي بن كعب، قال: لما قدم تبع المدينة، ونزل بقناة، بعث إلى أحبار اليهود وقال لهم: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية، ويرجع الأمر إلى دين العرب، فقال له سامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك، إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده مكة اسمه أحمد، وهذه دار هجرته2. - وعن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: كان الزبير بن باطا -وكان أعلم اليهود- يقول: إني وجدت سفرا كان أبي يختمه عليَّ، فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض القرظ صفته كذا وكذا3. - وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخبير يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قبيل أن يُبعث، ويعلمون أن دار هجرته بالمدينة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت أحبار اليهود: ولد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع، فلما تنبئ قالوا: قد تنبئ أحمد، قد طلع الكوكب الذي يطلع، كانوا يعرفون ذلك، ويقرون به، ويصفونه، لولا الحسد والبغي4.

_ 1 انظر ص87. 2 الطبقات الكبرى ج1 ص159. 3 الطبقات الكبرى ج1 ص159. 4 الطبقات الكبرى ج1 ص159.

- وعن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته، فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك. قلت: هلم! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منه، ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكل من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبقَ نبي غيره، يقول عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه السلام ورحمة الله عليه وقال: "وقد رأيته في الجنة يسحب ذيولا" 1.

_ 1 الطبقات الكبرى ج2 ص161.

ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة

ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة من مقدمات البعثة أن محمدا صلى الله عليه وسلم تمتع بعلامات عرفت بخاتم النبوة، وقد رآها أهل الكتاب وغيرهم قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم وأكثروا الحديث عنها. وخاتم النبوة عبارة عن بضعة لحم مرتفعة عن الجسد، وجدت في ظهره الشريف صلى الله عليه وسلم عند أسفل عظم كتفه اليسرى، وقد تكلم العلماء عن الحكمة في وضعه مع الخاتم خلف ظهره، وفي هذا المكان المواجه للقلب. يقول ابن دحية رحمه الله: الحكمة في وضع الخاتم بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لا نبي بعدك يأتي من ورائك1. وقال في الفتح: السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة2. وقال العلامة السهيلي في الروض الأنف: وحكمة وضعه -أي الخاتم- عند النغض من الكتف اليسرى عصمته من وسوسة الشيطان، ولأن ذلك الموضع منه يدخل الشيطان، فكان ذلك حفظا له من الشيطان3. وروى ابن عبد البر بسند قوي إلى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، فأري جسده ممهي "يرى داخله من خارجه" وأري الشيطان في صورة ضفدع، عند كتفه حذاء قلبه، له خرطوم كخرطوم البعوضة، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه، ويوسوس إليه، فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس. قال في الفتح: وهو مقطوع، وله شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يعلى، وابن

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب المناقب - باب خاتم النبوة ج6 ص561. 2 فتح الباري على صحيح البخاري ج6 ص562. 3 الروض الأنف ج1 ص191.

عدي ولفظه: "إن الشيطان وضاع خطمه على قلب ابن آدم"1. ميعاد ختم النبي بهذا الخاتم: اختلف العلماء في موعد ختم النبي صلى الله عليه وسلم بخاتم النبوة، وذكروا أوقاتا تتفق غالبا مع الأوقات التي ذكروها لشق صدره صلى الله عليه وسلم، وهي: - قال بعضهم: ختم حين مولده صلى الله عليه وسلم. - وقال آخرون: ختم يوم شق صدره عند حليمة. - وقال غيرهم: ختم قبيل المبعث. - وقيل: ختم ليلة الإسراء والمعراج. ولكل دليله وحجته.. ورجح ابن حجر أن الختم كان يوم شق صدره عند حليمة، وقطع به القاضي عياض؛ لأن الذين رأوه وشاهدوه ذكروا أن رؤيتهم للخاتم كانت قبل البعثة بوقت طويل. ولا مانع من القول بأن الله تعالى كرر الختم لرسول الله في كل هذه المرات إعمالا للأحاديث كلها، وزيادة في البركة والعون. وسميت هذه العلامة بالخاتم جريا على عادة الناس في إثبات صدق ما يكتبون بخاتم معين، فكأن هذا الخاتم دليل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم. والأحاديث المثبتة لخاتم النبوة كثيرة، منها: - عن السائب بن يزيد رضي الله عنه يقول: ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع، فمسح صلى الله عليه وسلم رأسي، ودعا لي بالبركة، وتوضأ، فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه، فإذا هو مثل زر الحجلة2.

_ 1 فتح الباري ج6 ص563. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب الوضوء - باب فضل استعمال وضوء الناس ج1 ص296.

- وعن سماك قال: حدثني جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام. - وفي رواية أخرى قال: رأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة حمام يشبه جسده1. - وعن ابن زيد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا زيد، ادنُ مني، فامسح ظهري"، فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم. قلت: وما الخاتم؟ قال: شعرات مجتمعات2. - عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزا ولحما، أو قال: ثريدا، فقلت له: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . قال: ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، عند نغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل3. - وعن أبي نضرة العوفي رضي الله عنه قال: سألت أبا سعيد الخدري عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: خاتم النبوة، فقال: كان في ظهره بضعة ناشزة4. وللعلماء في وصف خاتم النبوة أقوال: - يصفها الحاكم في كتابه بأنها شعر مجتمع.

_ 1 صحيح البخاري بشرح النووي - كتاب الفضائل - باب شيبة النبي صلى الله عليه وسلم ج15 ص97. 2 قال الألباني في الشمائل: رواه الترمذي والحاكم وأحمد وابن حبان - بسند صحيح رقم 17. 3 الثآليل: جمع ثؤلول، وهو بثر صغير صلب مستدير يظهر على الجلد كالحمصة أو دونها، والحديث رواه مسلم - كتاب الفضائل - باب إثبات خاتم النبوة ج15 ص99. 4 ناشزة: مرتفعة، والحديث قال الألباني عنه في الشمائل: رواه الترمذي بسند حسن رقم 19.

- وفي كتاب البيهقي: بصقة ناشزة. - وفي حديث عمرو بن أخطب: "كشيء يختم به". - وفي تاريخ ابن عساكر: "مثل البندقة". - وفي الترمذي: "كالتفاحة". - وفي الروض: كرأس المحجم الغائص على اللحم. - وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: شامة خضراء محتفرة في اللحم. - وفيه أيضا: شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس. - وفي تاريخ القضاعي: ثلاث مجتمعات. - وعن عائشة رضي الله عنها: كتينة صغير تصرب إلى الدهمة1. واختلاف العلماء في وصف خاتم النبوة ليس من قبيل التنافي والتضاد، إنما هو باعتبار أن كلا منهم شبه الخاتم بما سنح له وبما ظهر أمامه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستره بثوبه، فواصف الخاتم رآه بنظرة خاطفة، أو أري له فجأة، ومع وجود عوامل الهيبة والدهشة في هذا الموقف العجيب، ومن الملاحظ أن الأقوال متقاربة في وصف الخاتم من ناحية صورته وحجمه ومكانه. ووجود الخاتم النبوي مندرج في خوارق العادات التي أحاط الله بها النبوات، ويجب التسليم بها.

_ 1 دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص260 هامش، فتح الباري ج6 ص593.

ثالثا: منع الجن من الاستماع

ثالثا: منع الجن من الاستماع الجن خَلْقُ الله تعالى أوجدهم من النار، وقدر لهم أن يعيشوا على نحو أراده لهم، فهم أجسام معنوية، هائمة في الدنيا، سريعة التنقل والحركة، قوية الإدراك، يرون الناس من حيث لا يرونهم. وهم خلق مكلفون برسالات الله، منهم المؤمن، ومنهم الكافر، وقصة وجودهم تبدأ بقصة إبليس مع آدم عليه السلام؛ حيث أخرجهما الله من الجنة، وقدر لهما التناسل والتكاثر، وأهبطهما الأرض ليعيش كل طرف وذريته في عداوة مع الطرف الثاني وذريته إلى يوم القيامة. وقد تمكن كل طرف بالاستعانة بأفراد من الطرف الآخر، والتعاون معهم فيما هو عليه من اتجاه وعمل. واستطاع كهان الإنس أن يستعينوا بأفراد من الجن فزادوهم ضلالا وخبالا، يقول تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 1، وذلك أن الرجل من الإنس كان إذا نزل بمكان مخوف يقول: أستعبذ بسيد هذا المكان من شر سفهائه، فزادوهم طغيانا وضلالا وبعدا عن الله تعالى. وكان الجن يقومون باستماع الخبر من السماء، وبما يسمع الكهان من الناس، فيضيفون إليه من عندهم، ويتحدثون به كذبا وبهتانا، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بشيء". قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه

_ 1 سورة الجن آية 6.

قر الزجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"1. ويروي البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الملائكة تنزل في العنان -السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان فيتحدثون به" 2. وبهذا الطريق علم الكهان خبر مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتحدثوا به للناس.. ومن أقوال الكهان ما قاله خطر بن مالك وهو أعلم كهان العرب، قال: أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير بني الإنس برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمس بمحكم التنزيل غير اللبس ... فقلنا له يا خطر وممن هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حمله طيش، ولا في خلقه هيش، يكون في جيش، وأي جيش! من آل قحطان وآل أيش. فقلت له: بيِّن لنا، من أي قريش هو؟ فقال: والبيت ذي الدعائم، والركن والأحاتم، إنه لمن نجل هاشم، من معشر كرائم يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم. ثم قال: هذا هو البيان، أخبرني به رئيس الجان، ثم قال: الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكت وأغمي عليه، فما أفاق إلا بعد ثلاثة3. - يقول عبد الله بن كعب: سمعت عمر بن الخطاب يحدث الناس ويقول: والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية، في نفر من قريش، قد ذبح له رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه، ليقسم لنا منه؛ إذ سمعت من جوف العجل

_ 1 صحيح البخاري - كتاب الطب - باب الكهانة ج7 ص208. 2 صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق ج4 ص79. 3 الروض الأنف ج1 ص240، 241.

صوتا ما سمعت صوتا قط أنفذ منه، وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شهرين، يقول: يا ذريح أمر نجيح، رجل يصيح، يقول: لا إله إلا الله1. - ويقول الكاهن "سطيح" لربيعة بن نصر ملك اليمن لما سأله عن تأويل رؤياه، قال له الكاهن: رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت أرض تهمة.. فأكلت منها كل ذات جمجمة، فقال الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف ما بين الحرتين من حنش.. لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين! قال: أيدوم ذلك في ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، بل ينقطع لبضع وسبع من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلي ذلك من أمر قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذو يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن! قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟! قال: بل ينقطع. قال: من يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي! قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب من فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر

_ 1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص210.

الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا اتسق، إن ما أنبئك به لحق! 1 - وسأل ربيعة بن نصر كاهنا آخر هو "شق" فأجابه بمثل ما أجاب سطيح.. - ويروي النويري في نهاية الأرب أن سفيان ين مجاشع بن دارم احتمل ديات دماء كانت من قومه، فخرج يستعين فيها، فدفع إلى حي من تميم، فإذا هم مجتمعون إلى كاهنة تقول: العزيز من والاه، والذليل من خالاه، والموفور من مالاه، والموتور من عاداه.. قال سفيان: من تذكرين.. لله أبوك؟ فقالت: صاحب حل وحرم، وهدى وعلم، وبطش وحلم، وحر وسلم، رأس رءوس، ورائض يسوس، وماحي بوس، وماهد وعوس.. قال سفيان: من هو.. لله أبوك؟ قالت: نبي مؤيد، قد آن حين يوجد، ودنا أوان يولد، يبعث إلى الأحمر والأسود بكتاب لا يفند، اسمه محمد. قال سفيان: لله أبوك! أعربي هو أم أعجمي؟ قالت: أما والسماء ذات العنان، والشجر ذات الأفنان، إنه لمن معد بن عدنان، فقدك يا سفيان2.

_ 1 النبي محمد صلى الله عليه وسلم ص218. 2 المرجع السابق ص221، 222، بوس: أي البؤس، والدعوس: أي الصعب.

إن أخبار الكهان تشبه أنباء الأحبار والرهبان في أنها جميعا تدخل في جملة المنبهات الحسية التي تسبق الأمور الهامة؛ لتتيقظ العقول لهذا الجديد القادم. إنها ليست دعوة إلى دين الله، وليست تكليفا بشريعة، ولكنها مقدمة لأمر له شأنه، ينبه الأفهام، ويوقظ العقول، وقد فطر الله الناس على أن عظائم الأمور تسبق بتمهيد يشير إليها، ويجذب الأفهام نحوها. وقد عرفنا الله تعالى بما كانت تقوم به الجن من استماع حديث الملائكة، وحديث الله عنهم؛ حيث يقول تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} 1، وذلك حين كان يمكن للجن أن يجلس في السماء في مكان يسمع فيه، وفجأة تغير الحال وتبدل، ونظرت الجن إلى السماء التي كانوا يتحركون خلالها للتصنت والاستماع، بلا عائق أو مانع، فوجدوها على غير ما كانت عليها، يصور الله ذلك فيقول سبحانه: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} 2، لقد امتلأت السماء بالحرس القوي من الملائكة تمنع الجن من الاقتراب، فإذا اقترب أحدهم يُرمى بالشهب الملتهبة. وقد كان الجن يتحايل في الاستماع؛ حيث كانوا يجلسون واحدا فوق واحد، فإذا احترق الأعلى طلع الذي تحته، حتى يتمكنوا من استماع شيء، فإذا ما استرقوا كلمة ألقوها إلى الكهان أشياعهم ليتحدثوا بها مع إضافة مائة كذبة إلى الكلمة الواحدة المسروقة3. فلما كانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم منع الجن من الاستراق، يقول الله تعالى على لسان الجن: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} وحينئذ رأت الجن أن ذلك

_ 1 سورة الجن آية 9. 2 سورة الجن آية 8. 3 فتح الباري - كتاب التفسير - باب قل أوحي إلي ج8 ص671.

الحدث مقدمة ضرورية لأمر ضروري سوف يقع، وقالوا عن ذلك: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} 1، إنهم لم يحددوا ما سيجد للناس، ولكنهم أكدوا خطورته وأهميته. ولما رأت قريش الشهب في السماء توقعوا أمرا جللا حتى تصوروه الفناء، يقول أبي بن كعب: رأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم، ويعتقون أرقاءهم، يظنون أنه الفناء، وفعلت ثقيف مثل ذلك. فبلغ عبد ياليل فقال: لا تعجلوا، وانظروا، فإن تكن نجوما تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف، فهو عند أمر قد حدث. فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال: هذا عند ظهور نبي. فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل. فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمي بها2. يروي ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية؟ قالوا: يا نبي الله، كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك، ملك ملك، ولد مولود، مات مولود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك كذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه حملة العرش، فسبحوا فسبح مَن تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، فلا يزال التسيبح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا ثم يقول بعضهم لبعض: ممَّ سبحتم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم

_ 1 سورة الجن آية 10. 2 سبل الهدى ج2 ص267.

فيقولون: ألا تسألون مَن فوقكم ممن سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش فيقال لهم: ممَّ سبحتم؟ فيقولون: قضى الله تعالى في خلقه كذا وكذا، للأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثون به، فتسرقه الشيطاطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتون به الكهان فيحدثونهم فيخظئون بعضا، ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة" 1. وهكذا.. كثرت البشائر والمنبهات مقدمة لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإرساله بدين الله تعالى للناس أجمعين..

_ 1 صحيح مسلم - كتاب السلام - باب تحريم الكهانة ج4 رقم 1750، 1751.

رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم

رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم مع بلوغ محمد صلى الله عليه وسلم سن الأربعين1 تكاملت شخصيته في كافة جوانبها البشرية، فوصل إلى التمام في: صورته وخُلُقه وعقله وروحه، وذلك بفضل الله وعنايته. إن النبوة تكليف إلهي، يصنع الله لها رجالا من خَلْقه، على نحو يريده سبحانه وتعالى، ويوحي إليهم، وبذلك توجد النبوة في النبي، وتتلاقى الرسالة والرسول في انسجام وتناغم وتوازن. إن النبي صناعة إلهية، يقول الله عن موسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} 2، ويقول سبحانه على لسان عيسى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} 3، وهكذا الأنبياء جميعا في تكوينهم وتنشئتهم وحياتهم؛ حيث نلقاهم جميعا محاطين بالرعاية والعناية، تحفهم خوارق العادات التي تمثل جزءا من حياتهم ونشاطهم قبل النبوة. ويخطئ بعض الناس حيث يقفون أمام الإرهاصات والمبشرات موقف الإنكار والدهشة؛ لأنها خوارق للعادة جرت قبل البعثة، ويسلمون بخوارق العادات بعد النبوة؛ لأنها معجزة تصدق الرسول في نبوته. وبعض آخر من الناس ينكر هذه المبشرات لخروجها عن مألوف عقولهم، ومعارضتها لتصوراتهم للكون والحياة.

_ 1 شرح النووي على صحيح مسلم ج15 ص99. 2 سورة طه آية 41. 3 سورة مريم آية 30.

والواجب أن يدرك الجميع أن خوارق العادات تحيط بالرسول قبل بعثته، بل وقبل مولده، كما تكون معه بعد مبعثه؛ لأنها جميعا من الله، ولكل منها وظيفته ودوره. والخارق للعادة مطلقا لا دخل للعقل فيه، فما بال فريق من الناس يؤمن بالبعض، ويكفر بالبعض الآخر. إن العقل عاجز لا يمكنه تغيير مسار الأمور العادية القدرية؛ كحركة الأفلاك، وتكوين الجنين ... وغيرها، والعقل حين يعجز عليه أن يسلم بما يرى.. هذا في الأمور العادية.. وواجب أن يكون التسليم في كل قدر الله وبخاصة ما جاء خارقا للعادة مطلقا. لقد أحاطت عناية الله محمدا صلى الله عليه وسلم من كافة النواحي، من ناحية نسبه، وحمل أمه به، وإرضاعه، ونشاطه، ورحلاته، وقد سبق ذكر صور لهذه العناية التي أثمرت شخصية متكاملة في واحد من الناس يريد الله له أن يكون رسولا نبيا. وقد تجلى هذا الكمال البشري في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه في الجوانب التالية: 1- سمو السلوك: عاش محمد صلى الله عليه وسلم حياته كلها في أعمال فاضلة، وسلوك سليم، ولم يُؤْثَرْ عنه ريبة قط، بل كان في كل حالاته وأحواله رجلا فاضلا وممتازا، حتى عرف في مكة بحسن العمل وسمو السلوك. ومع خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع مكة، واختلاطه بشبابها، وتعامله مع رجالها، كانت عناية الله معه، فصار رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحبهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأكثرهم أمانة،

وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، ما رُئي ملاحيا، ولا مماريا أحدا، حتى عرفه قومه بالأمين الصادق؛ لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة. صرف الله عنه كل ما يسيء ويشين، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهيمون به من الغناء إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة، ونحن في رعاية غنم أهلنا: هيا بنا نسمر كما يسمر الشباب، وقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى، فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفا، وغرابيل، ومزامير. قلت: ما هذا؟ قيل: تزوج فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله علي أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شيء، ثم أخبرته بالذي رأيت. فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله بنبوته" 1.

_ 1 السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص251.

وعن أم أيمن رضي الله عنها قالت: كان بوانة صنما تحضره قريش يوما في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك معه، فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه وقلن: يا محمد، ما تريد أن تحضر لقومك عيدا، ولا تكثر لهم جمعا، فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب ما شاء الله، ثم رجع مرعوبا فزعا. فقالت عماته: ما دهاك؟ قال: "إني أخشى أن يكون بي لمم". فقلن: ما كان الله يبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال: "إني كلما دعوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه". قالت: فما عاد إلى عيد لهم1. وعن علي رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنا قط؟ قال: "لا". قالوا: فهل شربت خمرا قط؟ قال: "لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان" 2. يقول ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- يحدث عما كان يحفظه الله به في صغره، وأمر جاهليته، أنه قال: "لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره

_ 1 الخصائص الكبرى ج1 ص221. 2 دلائل النبوة لأبي نعيم ص146.

فجعله على رقبته، يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر؛ إذ لكمني لاكم لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك. فأخذته وشددته عليَّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليَّ من بين أصحابي". يقول السهيلي: ورد مثل هذا الحديث الصحيح في بنيان الكعبة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل الحجارة مع قومه، وكانوا يحملون أزرهم على عواتقهم لتقيهم قسوة الحجارة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها على عاتقه، وإزاره مشدود عليه، فقال له العباس رضي الله عنه: يابن أخي، لو جعلت إزارك على عاتقك، ففعل فسقط مغشيا عليه، ثم قال: "إزاري، إزاري"، فشد عليه إزاره، وقام يحمل الحجارة1. ولا مانع من تكرار هذا التوجيه القدري ليبقى محمد صلى الله عليه وسلم في طهارته وسموه. يروي ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحاكم إليه في الجاهلية قبل الإسلام لما عرف عنه من العقل والحكمة؛ ولذلك لما بعث ناداهم، وسألهم عن خُلُقه وصدقه، فأقروا له بما عملوا منه. يروي البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 2، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صَعِدَ الصفا فهتف: "يا صباحاه". فقالوا: مَن هذا؟ فاجتمعوا إليه. فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ ". قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". قال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟! 3.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص183. 2 سورة الشعراء آية 214. 3 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب التفسير - باب تبت يدا ج8 ص137.

ولقد اشتهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بالأخلاق الكريمة، تمتع بالصفات الفاضلة، وجاء قول الله تعالى في وصف خلقه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1، لتصف أخلاقه بالعظمة التي اتصف بها بصورة شاملة قبل المبعث، حتى سماه قومه بالأمين، ووصفته السيدة خديجة بما كان فيه يوم أن جاءها مرتعشا خائفا، قالت له: والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق2. وصدقت السيدة خديجة رضي الله عنها في شهادتها، ونطقت بالحق، وكانت تعبيرا ناطقا عن المستقبل؛ إذ أكرم الله محمدا صلى الله عليه وسلم، واختاره رسولا للعالم كله. 2- جمال الخِلْقَة: أضفى الله تعالى بفضله وكرمه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الحسن والجمال، الذي تميز به قبل النبوة.. وحين نورد شيئا من جمال خلقته صلى الله عليه وسلم، فليس أمامنا إلا مصادر السيرة والحديث ننقل عنها. يروي البخاري بسنده عن أبي هريرة أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، حتى قال أنس رضي الله عنه: لم أرَ بعده ولا قبله مثله"3. ولما سئل البراء رضي الله عنه: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر، وكان مستديرا. وورد أنه كان صلى الله عليه وسلم مليح الوجه4. وكان عظيم الفم، طويل شق العين5.

_ 1 سورة القلم آية 4. 2 صحيح البخاري - كتاب المناقب. 3 البخاري 7/ 58 - كتاب اللباس - باب الجعد، ومسلم 4/ 819 - كتاب الفضائل - باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أحسن الناس وجها. 4 صحيح البخاري - كتاب الفضائل - باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض مليح الوجه ج6 ص28. 5 صحيح البخاري - كتاب الفضائل - باب صفة فم النبي صلى الله عليه وسلم وعينيه وعقبيه ج6 ص28.

أما شعره فليس بالجعد القطط، ولا بالسَّبِط، بل كان رَجلا1. كان له جمة عظيمة تصل إلى شحمة أذنيه، وأحيانا تضرب منكبيه، وأحيانا ثالثة تكون بين أذنيه وعاتقه، كما كان صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية2. وإذا كان البياض في شعره قد شمل العنفقة والصدغين، وفي الرأس نبذ، فلم يكن ذلك البياض كله يبلغ عشرين شعرة3. أما الحمرة في بعض شعره، فكانت من آثار الطيب4. وكان أبيض اللون، ولكنه لم يكن بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، وإنما كان أزهر اللون5. ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالطويل البائن، ولا بالقصير، بل كان مربوعا، وكان مقصدا6. وكان صلى الله عليه وسلم بعيد ما بين المنكبين، وكان ضخم اليدين والقدمين، وبسط الكفين، وكان لين الكف، حتى قال أنس: ما مسست خزة ولا حريرة ألين

_ 1 صحيح البخاري - كتاب اللباس - باب الجعد ج9 ص191، ومسلم ج15 ص92 - كتاب الفضائل - باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وسنه، ومعنى "رجل" أي: لم يكن شديد الجعودة، ولا البسوطة، بل بينهما "النهاية ج2 ص203". 2 صحيح البخاري - كتاب اللباس - باب الجعد ج9 ص191 رواية البراء، وابن عمر، وأنس رضي الله عنهم، وصحيح مسلم ج15 ص92 - كتاب الفضائل. 3 صحيح مسلم ج15 ص95، 96 - باب شيبة صلى الله عليه وسلم، صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ج6 ص26، ط. الأوقاف، العنفقة: هي ما تحت الشفة السفلى. 4 صحيح البخاري ج6 ص27، ط. الأوقاف. 5 صحيح البخاري - كتاب اللباس - باب الجعد ج9 ص190. 6 المرجع السابق ص190، 191، قال في النهاية: كان أبيض مقصدا، هو الذي ليس بطويل، ولا قصير، ولا جسيم، كأنه خَلْقَه نُحِيَ به القصد من الأمور، والمعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي التفريط والإفراط "النهاية في غريب الحديث والأثر ج4 ص67".

من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم1، وكان منهوس العقبين2. يروي الترمذي بسنده عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصافا، عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما3، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب4، عظيم الهامة5، رجل الشعر6، إذا انفرقت عقيقته فرقها وإلا فلا7، يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره8، أزهر اللون9، وساع الجبين10، أزج الحواجب11، سوابغ في غير قرن12، بينهما عرق يدره الغضب13، أقنى العرنين14، له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله أشم15.

_ 1 صحيح البخاري ج9 ص192. 2 مسلم ج4 ص1820، وقد فسر أحد رواة الحديث "منهوس العقبين" فقال: قليل لحم العقب. 3 أي: عظيما في نفسه، معظما في الصدور والعيون عند كل من رآه صلى الله عليه وسلم. 4 الربعة والمربوع: هو الوسط، بين القصير والطويل على حد سواء، والمشذب: هو الطويل البائن الطول، والمراد: أنه صلى الله عليه وسلم أطول من المربوع عن إمعان النظر، وأما في بادئ النظر يرى ربعة. 5 الهامة: بتخفيف الميم هي الرأس، وعظم الرأس المتناسب مع الجسم دليل قوة العقل والمدارك. 6 أي: في شعره صلى الله عليه وسلم شيء من الجعودة. 7 المراد بالعقيقة هنا: شعر الرأس، والمعنى: أن شعر رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم إن قبل أن يفرق بسهولة فرقه، أي: جعل شعره نصفا عن اليمين، ونصفا عن اليسار، وإلا بأن لم ينفرق فلا، أي: فلا يفرق شعره بل يتركه على حاله. 8 أي: إذا جعل شعره وافرا وأعفاه من الفرق صلى الله عليه وسلم. 9 أي: هو صلى الله عليه وسلم أبيض اللون بياضا نيرا مشربا بحمرة. 10 أي: واضح الجبين وممتده طولا وعرضا، وهو معنى رواية: صلت الجبين، وعظيم الجبهة. 11 الزجج: تقوس في الحاجب مع طول طرفه، ويلزم من ذلك دقة الحاجبين وسبوغهما. 12 القرن -بالتحريك- هو اقتران الحاجبين، والتقاء أطرافهما، وهو من البلج، والمعنى: أن حاجبيه صلى الله عليه وسلم لم يتصلا ببعضهما، فهو أبلج، وأما ما ورد في حديث أم معبد: "كان أزج أقرن" فالمراد كان كذلك فيما يبدو للناظر من بعيد ومن غير تأمل، وأما القريب المتأمل، فيرى أنه صلى الله عليه وسلم أبلج في الواقع. 13 أي: بين حاجبيه صلى الله عليه وسلم عرق إذا غضب تحرك وظهر جليا. 14 قال العلامة المناوي في شرح الشمائل: أقنى: من القنا، وهو ارتفاع أعلى الأنف واحدداب الوسط. 15 أي: للعرنين -وهو ما صلب من عظم الأنف- نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم: من الشمم، وهو ارتفاع قصبة الأنف، مع استواء أعلاه وإشراف الأرنبة.

كث اللحية1، سهل الخدين2، ضليع الفم3، مفلج الأسنان4، دقيق المسربة5، كأن عنقة جيد دمية في صفاء الفضة6، معتدل الخلق7، بادن، متماسك8، سواء البطن والصدر9، عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس10. أنور المتجرد11، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط12، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك13، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر14 طويل الزندين، رحب الراحة15، شئن الكفين والقدمين16، سائل الأطراف، أو قال: شائل الأطراف17.

_ 1 أي: عظيم اللحية صلى الله عليه وسلم. 2 أي: غير مرتفع الخدين، وهو أكمل وأجمل. 3 أي: عظيم الفم، وليس بضيق الفم، فإن سعة الفم تعطي فصاحة في الكلام، وبيانا لمخارج الألفاظ، ولا شك أن جميع ذلك على تناسب كامل بين أعضاء جسمه الشريف كلها صلى الله عليه وسلم. 4 يعني: أن أسنانه الشريفة صلى الله عليه وسلم منتظمة ومنفرجة، وليست متراصة ومتضايقة فوق بعضها. 5 المسربة: هي الشعر بين الصدر والسرة، والمعنى: أن تلك المسربة دقيقة. 6 الجيد: هو العنق، والمراد: كأن عنقه صلى الله عليه وسلم في استوائه واعتداله وحسن هيئته وجماله، كأنه عنق صورة، ولكن من حيث اللون هو في صفاء الفضة وبياضها البهيج اللامع. 7 يعني: أن جميع أعضاء جسمه الشريفة صلى الله عليه وسلم خلقها الله تعالى كاملة متناسقة مع بعضها غير متنافرة. 8 والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم ممتلئ الجسم، ليس بالنحيل ولا بالهزيل، وأن أعضاءه الشريفة متماسكة بقواها، وليست متراخية. 9 والمعنى: أنه بطنه وصدره الشريفين مستويان، لا ينتأ أحدهما عن الآخر. 10 الكراديس: جمع كردوس، وهو رأس العظام ومجمعها، كالركبة والمنكب ونحوهما، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان عظيم رءوس العظام ومجامعها وقويها، ويدل ذلك على كمال قواه صلى الله عليه وسلم. 11 يعني: أنه صلى الله عليه وسلم أنور العضو لا متجرد عن الثوب وشديد بياضه. 12 اللبة: هي البقرة فوق الصدر، والسرة ما بقي بعد القطع، وأما الذي يقطع عند الولادة فهو السر. 13 أي: خالي الثديين والبطن من الشعر. 14 أي: كثير شعر هذه المواضع الثلاثة. 15 أي: واسع الكف. 16 أي: ضخم الكفين والقدمين، كما جاء في رواية، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم ممتلئ الكفين والقدمين، وليس بالضعيف النحيل. 17 الشك من الراوي، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان مرتفع الأطراف بلا احدداب ولا انقباض.

خمصان الأخمصين1، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء2، إذ زال قلعا3. يخطو تكفيا4، ويمشي هونا5، ذريع المشية6، إذا مشى كأنما ينحط من صبب7، وإذا التفت التفت جميعا8. خافض الطرف9، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء10، جل نظره الملاحظة11. يسوق أصحابه12، ويبدر من لقي بالسلام13.

_ 1 تثنية أخمص، وأخمص القدم هو الموضع الذي لا يمس الأرض عند وطئها من وسط القدم، ومعنى خمصان الأخمصين: أنه صلى الله عليه وسلم شديد تجافي الأخمصين عن الأرض، لكن على وجه لا يخرجه عن حد الاعتدال والجمال. 2 أي: أملس القدمين ومستويهما بلا تكسر؛ ولذلك ينبو عنهما الماء: أي يتباعد عنهما الماء، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم إذا صب عليهما الماء مر سريعا؛ لأنهما مستويتان. 3 يعني: أنه صلى الله عليه وسلم إذا مشى رفع رجليه بقوة، كأنه يقلع شيئا، ولا يجرهما على الأرض، لا يمشي مشية المختال الذي يقارب خطاه تبخترا. 4 يمشي مائلا إلى سنن المشي، وهو ما بين يديه. 5 الهون: الرفق واللين، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي يرفع رجليه عن الأرض بقوة، كما دل عليه قول ابن أبي هالة: إذا زال زال قلعا، وإذا وضعهما على الأرض وضعهما برفق وتؤدة، وهذا معنى: يمشي هونا، فهو يشير إلى كيفية وضع رجليه على الأرض، وأنه صلى الله عليه وسلم يمشي بسكينة ووقار، وحلم وأناة، دون أن يضرب برجله الأرض، أو أن يخفق بنعله، وقد أثنى الله تعالى على الذين يمشون هذه المشية، ويسلكون هذه الخطة، فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} . 6 أي: واسع الخطوة خلقة بلا تكلف. 7 أي: كأنما ينزل في موضع منحدر. 8 أي: لا يسارق النظر، ولا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة، كما يفعل ذلك الطائش الخفيف. 9 المراد بالطرف هنا: العين، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم إذا لم ينظر إلى شيء يخفض بصره، وهذا شأن المتأمل المفكر. 10 والمعنى: أن نظره صلى الله عليه وسلم إلى الأرض حال السكوت وعدم التحدث أطول من نظره إلى السماء، وأما في حال التحدث فإنه يكثر النظر إلى السماء، وكما ورد في سنن أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء. 11 قال العلامة المناوي في شرحه: والمراد أن أكثر نظره صلى الله عليه وسلم في غير أوان الخطاب الملاحظة، والملاحظة: هي النظر بلحاظ العين، وهو شق العين مما يلي الصدغ، وأما الذي يلي الأنف فالموق والماق. 12 والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يقدم أصحابه بين يديه ويمشي خلفهم ليرعاهم ويختبر حالهم، ويعين ضعفاءهم، وليترك ظهره للملائكة خلفه، كما روى الدارمي بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خلو ظهري للملائكة"، وأحرج الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون أمامه ويدعون ظهره للملائكة كذا في جمع الوسائل. قال الإمام النووي: وإنما تقدمهم -أي تقدم أصحابه في قصة جابر يوم الخندق- لأنه صلى الله عليه وسلم دعاهم إليه، فجاءوا تبعا له، كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم. 13 وفي رواية: ويبدأ، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يبادره ويسبق من لقيه من أمته بتسليم التحية.

3- عظمة الْخُلُق: كما اتصف صلى الله عليه وسلم بجمال الخِلْقَة اتصف بعظمة الخُلُق، يصفه أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أفٍّ قط!! ولا: لِمَ صنعت كذا؟ ولا: ألا صنعت كذا1. وهذه الخدمة والملازمة من أنس للنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في الحضر وحده، أو في السفر وحده، وإنما كانت -كما يقول أنس- في الحضر والسفر2. ولم يكن هذا الخلق الحسن قصرا على خدمه، وإنما كان هذا ديدنه مع كل من كان يأتي إليه، ويتعامل معه، فكان مثالا للصبر والحلم والرفق وتعليم الجاهل، وهذه نماذج منها: عن أنس قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء!! 3 وجاء أعرابي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المسجد، فقام يبول في المسجد، فزجره الصحابة "مه مه" فنهاهم عن ذلك، وقال: "لا تزرموه، دعوه" فتركوه حتى بال. ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن"، ثم دعا بدلو من ماء فشنه عليه4.

_ 1 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب حسن الخلق والسخاء ج15 ص69. 2 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ج15 ص70. 3 صحيح البخاري - كتاب فرض الخمس - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ج5 ص234. 4 صحيح مسلم - كتاب الطهارة - باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد ج3 ص190، ومه: اسم فعل بمعنى انته، لا تزرموه: أي لا تقطعوه، وشنه: أي صبه.

وجاء في إحدى روايات البخاري في آخرها: "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" 1. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقا، فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت من طريق حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك. فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك؟ قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله2. وهذا الصبر والرفق يزينه التواضع في خلقه، والمزاح -أحيانا- مع أصحابه، فالأمة من إماء المدينة كانت تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت3، والقاصد إليه في بيته لا يجد على بابه بوابين4. أما مزاحه صلى الله عليه وسلم، فكان تسرية لأصحابه عند همومهم أحيانا، ومداعبة لأطفالهم أحيانا أخرى، إلى غير ذلك من مقاصده الحميدة في هذا المزاح، ونذكر -كمثال على ذلك- موقفه مع علي رضي الله عنه حينما غاضب زوجته فاطمة رضي الله عنها، فخرج علي رضي الله عنه فاضطجع إلى جدار المسجد، فتبعه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع، وقد امتلأ ظهره ترابا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عن ظهره، ويقول: "اجلس يا أبا تراب" 5. ويقول أنس رضي الله عنه: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ صغير

_ 1 صحيح البخاري - كتاب الوضوء - باب صب الماء على البول في المسجد ج1 ص164. 2 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ج15 ص70، 71. 3 صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب الكبر ج9 ص243. 4 صحيح البخاري - كتاب الأحكام - باب ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب. 5 البخاري - كتاب الأدب - باب التكني بأبي تراب، وإن كانت له كنية أخرى ج10 ص38.

لي إذا رآه: "يا أبا عمير، ما فعل النغير؟! "1. وإلى جانب صفاته في الرفق والتواضع والمزاح، فهو موصوف بالشجاعة في السلم والحرب، وشجاعته صلى الله عليه وسلم في الحرب معروفة، أما في السلم فنذكر منها قصة الفزع الذي أصاب أهل المدينة ذات ليلة، فخرجوا نحو الصوت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه، وتلقاهم راجعا، وهو على فرس لأبي طلحة عري، وفي عنقه السيف، وهو يهدئ ثائرتهم ويقول: "لم تراعوا، لم تراعوا، ما رأينا من شيء" 2. وكان من خلقه صلى الله عليه وسلم حسن التعامل، وحسن القضاء، فقد استقرض من رجل سنا من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال: "أعطوه"، فطلبوا سنه، فلم يجدوا له إلا سنا فوقها، فقال: "أعطوه"، حتى قال الرجل: أوفيتني أوفى الله بك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إن خياركم أحسنكم قضاء" 3. وفي رواية: إن ذلك لرجل أغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم القول، فهَمَّ به أصحابه فقال لهم: "إن لصحاب الحق مقالا"، ثم قال لهم: "اشتروا له سنا، فأعطوه إياه"، فقالوا: إنا لا نجد إلا سنا هو خير من سنه، قال: "اشتروه وأعطوه إياه، فإن خيركم أحسنكم قضاء" 4. ومن صفاته: الجود والكرم، فهو أجود الناس5، وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا6؛ ولهذا غضب الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك الرجل الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكسوه البردة التي أهدتها إليه امرأة

_ 1 صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب الانبساط إلى الناس - وباب الكنية للصبي، وقبل أن يولد للرجل ج10 ص9، والنغير: تصغير نغر، وهو طائر صغير كالعصفور. 2 صحيح البخاري - كتاب الجهاد والسير - باب الحمائل وتعليق السيف بالعنق ج5 ص99. 3 صحيح البخاري - كتاب الوكالة - باب وكالة الشاهد والغائب جائزة ج4 ص140. 4 صحيح البخاري - كتاب الاستقراض - باب لصاحب الحق مقال ج4 ص200. 5 صحيح البخاري - كتاب الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ج1 ص11. 6 صحيح البخاري ج4 ص29.

وكانت قد نسجتها بيدها، وكان صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، ومع ذلك طواها وأرسل بها إليه، فقال له الصحابة: ما أحسنت، سألتها إياه، وقد علمت أنه لا يرد سائلا1. وهذا الجود والكرم منه صلى الله عليه وسلم كان سببا في دخول أقوام في دين الله، ومن ذلك قصته مع الرجل الذي جاءه يسأله، فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر2. ولهذا قال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها!! 3 بل لقد كان هذا الجود منه صلى الله عليه وسلم مثار عجب، وسبب مودة، حتى لأعدائه، يقول صفوان بن أمية بعد أن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مائة من النعم، ثم مائة من غنائم حنين: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني، حتى إنه لأحب الناس إليَّ!! 4 ولفرط جوده صلى الله عليه وسلم ومعرفة الناس به علقت الأعراب -منصرفة من حنين- يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف وقال: "أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا" 5. وقال عمر رضي الله عنه: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما، فقلت: والله يا رسول الله لغير هؤلاء كان أحق به منهم، قال: "إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخلوني، فلست بباخل" 6.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب ذكر النساء ج4 ص29. 2 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب في سخائه صلى الله عليه وسلم ج15 ص72. 3 صحيح مسلم - كتاب الفضائل ج15 ص72. 4 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب سخائه صلى الله عليه وسلم ج15 ص73. 5 صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب ما كان يعطي المؤلفة ج5 ص234. 6 صحيح مسلم - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة ج7 ص146.

ولم يقتصر ذلك الجود على المؤلفة قلوبهم، ومن يطمع في إسلامهم، بل شمل جوده وكرمه صحابته المؤمنين، فعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان على بكر صعب لأبيه "عمر"، كان هذا البكر يغلب عبد الله، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "بعنيه"، فقال: هو لك يا رسول الله "أي هبة"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعنيه"، فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد الله بن عمر، تصنع به ما شئت"!! 1. وجابر بن عبد الله رضي الله عنه يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ومعه جمل ثقال قد أعيا به، وخلفه في أخريات القوم، حتى زجره النبي صلى الله عليه وسلم، فأسرع به، فطلب منه بيعه عليه فقال: هو لك يا رسول الله، قال: "بعنيه" فاشتراه منه، وقال: "لك ظهره إلى المدينة"، فلما قدم المدينة أوصى بلالا أن يقضيه، ويزيد له عن ثمنه، ثم رد عليه جمله والثمن!! 2. وفوق ما تقدم من كريم خلقه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح3. ولم يكن صلى الله عليه وسلم سبابا، ولا فحاشا، ولا لعانا4، وهو القائل لعائشة رضي الله عنها: "يا عائشة، متى عهدتيني فحاشا؟! " 5. وهو الموصوف بالتوراة ببعض صفته في القرآن: "يا أيها النبي إنا إرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل،

_ 1 صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا ج4 ص41، 42. 2 صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب شراء الدواب والحمير ج4 ص32، 33. 3 صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب كراهة السخب في السوق ج4 ص46. 4 صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا ج9 ص228. 5 صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب لم يكن فاحشا ج9 ص228.

ليس بفظ ولا غليظ ... "1. وكان الصدق في الحديث خلقا من أخلاقه صلى الله عليه وسلم، عرفه بذلك العدو والصديق، فأمية بن خلف حينما قال له سعد بن معاذ: سمعت محمدا يزعم أنه قاتلك. قال: إياي؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث. وكذا زوجة أمية لما أعلمها بالخبر قالت: فوالله ما يكذب محمد!! 2. وأبو سفيان لما سأله هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أجابه قائلا: لا، وعندها رد هرقل، لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله3. ومشركو قريش كانوا يعرفون هذا الخلق للنبي صلى الله عليه وسلم، فحينما صَعِدَ الصفا، واجتمع إليه الملأ من بطون قريش قال لهم: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ " قالوا: ما جربنا عليك إلا صدقا4. وفي رواية: قالوا: ما جربنا عليك كذبا5. ولم يكن من خلقه صلى الله عليه وسلم الغدر والخيانة، بل كان من خلقه الأمانة والوفاء بالعهد، وهذه أيضا اعترف بها أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم أمام هرقل6.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب السخب في السوق ج4 ص46. 2 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام ج6 ص66. 3 صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي ج1 ص11. 4 صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ج7 ص360. 5 صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب تبت يدا ج8 ص93. 6 صحيح البخاري - باب بدء الوحي ج1 ص11.

والتزام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق جعله يرد أبا بصير وأبا جندل عام الحديبية -مع كرهه والمسلمين لذلك- لأنه عاهد قريشا على رد مَن يأتي إليه منهم1. 4- حلاوة المنطق: تميز صلى الله عليه وسلم بحسن اللفظ، وجمال المنطق، وحلاوة الحديث، يقول أبو هالة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان2، دائم الفكر، ليست له راحة3، طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة4، يفتتح الكلام ويختتمه باسم الله تعالى5، ويتكلم بجوامع الكلم6، كلامه فصل، لا فضول ولا تقصير7، ليس بالجافي ولا المهين8، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئا، غير أنه لم يكن يذم ذواقا ولا يمدحه9، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تُعدي الحق10 لم يقم

_ 1 صحيح البخاري - كتاب الصلح - باب الصلح مع المشركين ج4 ص401. 2 لم يكن حزنه صلى الله عليه وسلم من أجل أمور الدنيا، وإنما كانت تتوارد الأحزان لأسباب متعددة، ترجع إلى دين الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى؛ ولذا كانت الآيات تنزل في تسليته صلى الله عليه وسلم وتخفيف شدة الأسى عنه. 3 والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان دائم التفكر في أمور الأمة ولا يصلح شئونهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، ومن ثَمَّ ليست له راحة. 4 يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت، لا يتكلم إلا في حاجة دينية أو دنيوية، فيتحرز عن الكلام الذي لا فائدة منه؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} . 5 والمعنى: أن كلامه صلى الله عليه وسلم كان محفوا بذكر الله تعالى بدءا وانتهاء. 6 أي: بكلمات قليلة الحروف، جامعة لمعانٍ كثيرة. 7 يعني: أن كلامه صلى الله عليه وسلم فاصل بين الحق والباطل، ومفصل لا يتداخل في بعضه، بحيث يتلقاه السامع بوضوح دون التباس، لا يكثر فيمل، ولا يقصر فيخل. 8 أي: ليس هو صلى الله عليه وسلم بالجافي الغليظ الطبع، السيئ الخلق، ولا بالمهين لخلق الله تعالى، ولا بالمهين: أي المبتذل الذليل، بل هو الفخم، المفخم، الموقر، المعظم صلى الله عليه وسلم. 9 فهو صلى الله عليه وسلم يعظم نعم الله تعالى الكبيرة والصغيرة، الظاهرة والباطنة، ولا يذم منها شيئا، كما وأنه صلى الله عليه وسلم لا يذم ذواقا -أي مذوقا- من المأكولات أو المشروبات التي أباحها الله تعالى؛ لأن في الذم كفران النعمة، وهو شأن المترفين المتكبرين، كما وأنه صلى الله عليه وسلم لا يمدح ذواقا؛ لأن ذلك شأن ذوي الشره والنهمة المذمومة. 10 أي: فإذا تعدى أحد الحق وجاوزه إلى الباطل غضب صلى الله عليه وسلم غضبا لا يقاومه شيء، ولا يدفع غضبه شيء حتى ينتصر للحق بالحق.

لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها1، وإذ تحدث اتصل بها وضرب براحته اليمنى بظن إبهامه اليسرى2. وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه3، جل ضحكه التبسم يفتر عن مثل حب الغمام4. 5- كمال العقل: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم سن الأربعين تميز بكمال العقل، وحسن تقدير الأمور، واتخاذ القرار السديد، ولعل فيما حباه الله به من عمل وترحال، وأحداث وأحمال، أثرا في تكامل عقله صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على هذا الكمال قراره يوم بناء الكعبة؛ إذ حكم بين الذين اختلفوا فيمن يرفع الحجر الأسود ويضعه في موضعه حُكْما أرضاهم جميعا مع بساطته ويسره. ومع رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم أنه تمكن من التعامل مع كافة طبقات الناس، وأنواعهم، وأجناسهم، في البيئات المختلفة، فأقروا له جميعا بكمال عقله، وسمو خلقه.

_ 1 والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أشار إلى شيء: إنسان أو غيره، أشار بكفه كلها، ولا يقتصر على الإشارة ببعض الأصابع؛ لأنه شأن المتكبرين والمحتقرين لغيرهم، وإذا تعجب صلى الله عليه وسلم من أمر قلب كفه، كما هو شأن كل متعجب. 2 يعني: أنه صلى الله عليه وسلم إذا تحدث اتصل بحديثه بكفه اليمنى، وذلك لتأكيد الكلام وتقويته في النفوس، وزيادة إيضاحه بإشارات الكف، وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى؛ اعتناء بذلك الحديث، ودفعا لما يعرض لنفس السامع مع الفتور أو الغفلة عن الحديث. 3 أي: إذا غضب من أحد أعرض عنه، فلا يقابله بما يقتضيه الغضب؛ امتثالا لقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} . وأشاح: أي بالغ في الإعراض وعدل عنه بوجهه صلى الله عليه وسلم، وإذا فرح صلى الله عليه وسلم من شيء غض طرفه، ولا ينظر إليه نظر شره وحرص. 4 أي: معظم ضحكه صلى الله عليه وسلم إنما هو التبسم، ويفتر: أي يضحك ضحكا حسنا كاشفا عن سن مثل حب الغمام في البياض والصفاء، وحب الغمام هو البَرَد -بفتحتين- الذي يشبه اللؤلؤ، فكان صلى الله عليه وسلم إذا تبسم بدت أسنانه الشريفة كاللؤلؤ اللامع.

وكان صلى الله عليه وسلم صاحب دين ومبدأ، لم يفعل شيئا نهى الله عنه فيما بعد أبدا، ولم يترك شيئا أمر به. ولو تأملنا سائر أعماله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها، نرى كل واحدة منها تشهد بكمال العقل، وحسن التقدير. وباتصاف محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الصفات التي أكرمه الله بها، صار مؤهلا ليكون رسولا للناس أجمعين..

خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم

خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم لم تغب ذكريات الماضي عن فكر محمد صلى الله عليه وسلم، بل كان يختزنها في باطنه، ويغفل عنها لانشغاله بأعماله وأسفاره، فما تزوج خديجة رضي الله عنها، ورفع الله تعالى عن كاهله عناء الفقر، ومسئوليات المعاش، بدأ يعيش حياة الراحة الهادئة، والطمأنينة السعيدة، ويستعد للمسئوليات الجسام. ومن خصائص النفس أنها تكون مشغولة مع صاحبها دائما، فهي معه في مسئولياته وقضاياه ... فإن استراح وسكن، وخلا من المهام، شغلته هي بما يحركها ويشغلها. إن النفس البشرية قادرة على التذكر والتخيل والتفكير، وهي في حركتها لا تعرف حدود الزمان والمكان، ولا توقفها حواجز السلطة والطبقات، ويساعدها في حركتها الدائمة السريعة ما يأتيها من عالم الشعور وعالم اللاشعور. وعلماء التربية يرشدون إلى ضرورة إشغال النفس بالحق وتوجيهها نحو النافع المفيد، وذلك بإيجاد حيز من الدوافع التي تدفع النفس نحو فكر معين مقصود. لقد بدأ الماضي يعاود محمدا بعد زواجه من خديجة، وأخذت الذكريات تتحرك أمامه، وتشغل فكره، وتدعوه إلى التأمل فيها، وفيما وراءها. لقد عاش في ديار بني سعد، وشق صدره، ورعى الغنم، وعاشر الرعاة، وعاش الخلاء، وسمع كلام الأحبار والرهبان والكهان، وسافر للمدينة وللشام، وباع واشترى. وقابل أشتاتا من الناس، وسمع ألوانا عديدة من الأفكار والمذاهب والأديان.

ورأى في مكة بعض الحنفاء ينكرون على العرب ما هم فيه من بعد عن دين إبراهيم عليه السلام، لقد عاش صلى الله عليه وسلم حياة عملية ممتلئة بالحوادث والاتجاهات، وقد عادت نفسه لذلك كله، وتذكره عقله صلى الله عليه وسلم في تحليل نظري وتأمل فكري؛ للوصول إلى شيء من أسرار ذلك كله. والخلوة والبعد عن الناس من الأمور غير المحببة في حياة البشر؛ لأن الإنسان مدني بطبعه، يحب الأنس، ويعشق ملاقات الآخرين، ويجب التعامل والسمر معهم، وما سمي الإنسان إنسانا إلا لوجود هذا الطبع فيه. والخلاء مع هذا عامل تربوي، يُعلم الصمت والسكون، ويدفع إلى التأمل والتفكير، ويساعد على الطهارة والسمو؛ ولذلك كانت العبادة في جوف الليل من عظائم الأمور، وكان قرآن الفجر مشهودا، وذلك لمن جعل خلوته لخدمة القيم والخلق. وقد حبب الله لمحمد الخلاء، فكان يخرج من مكة بعيدا عن الصخب والضجيج، ويمكث وحيدا في غار حراء، ومعه زاده وعدته، مدة تضم الليالي ذوات العدد، حيث يقضي شهر رمضان في خلوته وانقطاعه عن الناس. يقول الخطابي: والخلوة يكون معها فراغ القلب، وهي معينة على الفكر، وقاطعة لدعاوى الشغل الفطري، والبشر لا ينفك عن طباعه، ولا يترك مألوفه من عاداته إلا بالرياضة البليغة، والمعالجة الشديدة، فلطف الله تعالى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في بداية أمره فحبب إليه الخلوة، وقطعه عن مخالطة البشر؛ ليتناسى المألوف عن عاداتهم، ويستمر على هجران ما لا يحمد من أخلاقهم، وألزمه شعار التقوى، وأقامه في مقام التعبد بين يديه؛ ليخشع قلبه، وتلين عريكته، فيجد الوحي منه حين وروده مرادا سهلا، ولا يصادفه حزنا وعرا. فجعلت هذه الأسباب مقدمات لما أرصد له من هذا الشأن ليرتاض بها، ويستعد لما ندب إليه، ثم جاءه التوفيق والتبشير، وأخذته

القوة الإلهية، فجبرت منه النقائض البشرية، وجمعت له الفضائل النبوية1. وقد كان من عادة مفكري أهل مكة أن ينقطعوا عن الناس مدة كلما جد لهم أمر، يلجئون خلالها إلى آلهتهم، وإلى عقلهم؛ بحثا عن حل لهذا الأمر الذي يشغلهم. ووجد محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المسلك طريقا يعيشه في خلوته، يلتمس أثناءها إشباع ما يتمنى الوصول إليه، ووجد في جبل حراء شمال مكة غارا يأتيه المكيون فأحبه، وأخذ ينقطع فيه وحيدا، يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فكان إذا جاء رمضان يحمل طعامه وشرابه ويمكث فيه، بعيدا عن الصخب والضوضاء، يلتمس الحق.. وحراء جبل بأعلى مكة، على بعد ثلاثة أميال منها، على يسار المار إلى منى؛ ولهذا الجبل قمة مشرفة على الكعبة، وفي قمة الجبل غار عرف بـ"غار حراء"، وهو على هيئة حجرة ضيقة، مستطيلة منحوتة داخل قمة الجبل، أرضها مسطحة، وسقفها مقوس، والغار مفتوح من جهتيه الشمالية والجنوبية، ويمكن للجالس فيه أن يرى الكعبة، وبخاصة قبل وجود البنايات الحديثة العالية. إن الخلوة في غار حراء تؤدي إلى القرب من الله، والنظر إلى الكعبة؛ ولذلك كان أهل مكة يعظمون هذا الغار، ويقصدونه بين الحين والحين، ويربطون بينه وبين الكعبة، وكان صلى الله عليه سلم يطوف بالبيت قبل أن يذهب إلى الخلاء، وكان أول ما يبدأ به إذا انصرف من خلوته أن يطوف بالبيت قبل أن يدخل بيته2. إن حياة التأمل والتفكير تعرف الإنسان بنفسه، وترقق مشاعره، وتبعده عن شواغل المادة، وتجعله يلتمس القوة في غير سائر المخلوقات؛ لأن كل مخلوق ضعيف ومحتاج.

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص319. 2 لم تنازع قريش محمدا في خلوته بغار حراء؛ لأن عبد المطلب أول من كان يخلو فيه، وكان لعبد المطلب منزلة فيهم، فلما خلا محمد بالغار جعلوه مكان جده.

إن تحبيب النبي صلى الله عليه وسلم في الخلاء تدريب على تخليه عن الناس، واتصاله بالملأ الأعلى، وهو يتلقى وحي الله تعالى، والذي سوف يتكرر كثيرا، ويدوم طويلا. والخلاء يُعلم الإنسان التجرد عن الماديات والشهوات المتصلة بها، وتشعره بقيمة المعنويات والروحانيات الغائبة عن الحواس. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: " ... ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك"1 وجاء تعبير الحديث بلفظ "حُبب" المبني للمجهول إشارة إلى أن حب محمد للخلاء لم يكن من بواعثه البشرية، وإنما كان من الوحي والإلهام2. يقول ابن هشام: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذاك، كان أول ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره الذهاب إلى الكعبة، قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته3. وكان صلى الله عليه وسلم يطيل النظر في الكون المحيط به في السماء ونجومها، وقمرها وشمسها، وأفلاكها ومجراتها، وصورتها في الليل وفي النهار. ويتأمل الصحراء ساعات لهيبها المحرق تحت ضوء الشمس الباهرة اللألاء، وساعات صفوها البديع؛ إذ تكسوها أشعة القمر، أو أضواء النجوم بلباسها الرطب الندي. وينظر في أهل مكة والحياة تشغلهم، ويتأمل في الآتين لمكة، وهم يطوفون بالبيت، والأصنام أمامهم!!.. كان صلى الله عليه وسلم يتأمل في كل ذلك وفي غيره يلتمس معرفة هذا الوجود، وما

_ 1 صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي ج1 ص21. 2 فتح الباري على صحيح البخاري ج1 ص22. 3 السيرة النبوية ج1 ص236.

وراءه من سبب وغاية!!!.. في هذا الكون المتحرك كان يلتمس الحقيقة العليا، وكان ابتغاء إدراكها يسمو بنفسه ساعات خلوته ليتصل بهذا الكون، وليخترق الْحُجُب وصولا إلى مكنون سره. ولم يكن في حاجة إلى كثير من التأمل ليرى أن ما يباشره قومه من شئون الحياة، وما يتقربون به إلى آلهتهم ليس حقا. فما هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق ولا ترزق، ولا تدفع عن أحد غائلة شر تصيبه؟!.. وما هبل، واللات، والعزى؟!!.. وكيف تكون آلهة، وهي مصنوعة بأيديهم؟!! وما كان هذه الأنصاب والأصنام القائمة في جوف الكعبة أو حولها، إنها لم تخلق يوما ذبابة، ولا جادت مكة بخير! ولكن! أين الحق إذن؟ أين الحق في هذا الكون الفسيح بأرضه وسماواته ونجومه؟ أهو في هذه الكواكب المضيئة التي تبعث إلى الناس النور والدفء، ومن عندها ينحدر ماء المطر، وتأتي للناس، ولأهل الأرض كافة من خلائق، أسباب الحياة من الماء والهواء والنور والدفء؟ كلا! فما هذه الكواكب إلا أفلاك كالأرض سواء. أهو فيما يتصوره وراء هذه الأفلاك من أثير لا حد له، ولا نهاية له؟ ولكن ما الأثير؟ وما هذه الحياة التي تحيا اليوم فتنقضي غدا؟ ما أصلها؟! وما مصدرها؟! أمصادفة تلك التي أوجدت الأرض؟! وأوجدتنا عليها؟ لكن للأرض وللحياة سننا ثابتة لا تبديل لها، ولا يمكن أن تكون المصادفة أساسها.

وما يأتي الناس من خير أو شر، أفيأتونه طواعية واختيارا، أم هو بعض سليقتهم، فلا سلطان لاختيارهم عليه؟!! لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم بثاقب فكره أن عناصر الكون خاضعة لقوة مجهولة هي أقوى من أن تقهر، وأسمى من أن تعرف، وأعلى من أن تتصور، واحدة هي بالضرورة لا تتعدد، عالمية، شاملة.. لأن الوجود كله واحد. إن عناصر الكون تشغل فكره، وديمومتها المستمرة تدفعه إلى النظر والتدبير فيسائل نفسه، ويعاود النظر، هنا تارة، وهناك تارة أخرى. ها هي الشمس، ترسل أول أشعتها على الحصى المنثور هنا وهناك، فتصيره جواهر تتلألأ، وأضواء تبرق، وجمالا ينساب بين الكائنات، فينشغل بها!! ثم ها هي الشمس في كبد السماء، جبارة طاغية، ترسل بأثواب الضوء البراقة لتنشرها على الأرض في حسن وشمول، فيأخذه بهاؤها!! وها هي ذي الأرض هامدة ساكنة، مستسلمة، كجثة لا حياة فيها.. ثم ماذا؟!.. وها هي أمواج الذهب ترسلها الشمس على الكون عند غروبها، في سخاء وهدوء، وتنسحب كأنها تريد أن توحي إليه بالأسف لمغيبها بلا استئذان.. وتنتهي!! ثم ها هو ذا طوق القمر الباهر، يشبه طوق الحمامة، تنسجم فيه ألوان الطيف السبعة، ويتألق في وسطه القمر الذي يزهو بما يصدر عنه من شرر، يتحول إلى الآلاف المؤلفة من النجوم والكواكب، ليخلف القمر حتى الصباح!! وها هي تلك الأعمدة المختالة تتلهى بها الرمال، عند هدوء الجو، بإقامتها ثابتة تحت القبة الزرقاء، حتى إذا ما ثارت الأعاصير، وبعثت بالأتربة من بطون الوديان قاذفة بها في هجوم عنيف، على الغيوم السوداء المفعمة بالبرق، هكذا بعد الهدوء!!

وها هي ذي قوافل الغيم، تشبه الخراف البيض، تطاردها الرياح حتى تبعدها عن قمم الجبال، فتضطر إلى الهجرة قبل أن تسيل عبراتها على مسقط رأسها، بلا خيار، ولا قصد، ولا معرفة!!.. وها هي تلك العواصف الممطرة تنفجر شآبيبها الهطالة، فتصب على الجبال العريانة أنهارا من المياه، عنيفة جارفة، لها دوي، ولها زئير. أمام هذه العناصر الكونية الهائلة، العاتية، التي لم تجرؤ قط، رغم جبروتها على عدم الخضوع، ولو شروى نقير، للقوانين التي تسيرها والتي فرضتها عليها القوة السامية العليا.. إن كل عنصر في فلكه يسبح، وكل عنصر لا يملك إلا الاستسلام والخضوع.. وهكذا رأى الكون في جملته قويا شديدا، وفي نفس الوقت وجده خاشعا ذليلا. لشد ما بدا لمحمد من ضعف الإنسانية وهوانها!!.. ولكم بدا له غرورة العقل وضلاله!!.. ولكم رأى خداع الحس بالمحسوس، وخيبة الاستدلال بالماديات!!.. أجل، وكم من سخرية في أن تثق الإنسانية بالمحسوسات، مع أنها ترى السراب صورة براقة من موجات الأثير الفائر ليشهدها بذلك على غرورها المطلق! في مثل هذه الأمور النفسية وغيرها كان محمد صلى الله عليه وسلم يفكر أثناء انقطاعه وتعبده بغار حراء؛ إذ ليس أمامه إلا هذا التدبير. وكان يتمنى رؤية الحق فيها، وفي الحياة جميعا، وكان تفكيره يملأ نفسه وفؤاده وضميره وكل ما في وجوده، ويشغله لذلك عن هذه الحياة وصبحها ومسائها، فإذا انقضى شهر رمضان عاد إلى خديجة، وبه من أثر التفكير ما يجعلها تسائله، تريد أن تطمئن إلى أنه بخير وعافية. ولكن.. بأي نسك كان محمد يتعبد أثناء تحنثه ذاك؟ وعلى أن شرع بذاته كان يعمل؟

هذا أمر اختلف العلماء فيه، وقد روى ابن كثير في تاريخه طرفا من آرائهم في الشرع الذي كان يتعبد عليه. فقيل: كان صلى الله عليه وسلم يتعبد بشرع نوح عليه السلام. وقيل: كان يتعبد بشرع إبراهيم عليه السلام. وقيل: كان يتعبد بشرع موسى عليه السلام. وقيل: كان يتعبد بشرع عيسى عليه السلام. وقيل: كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به. ولعل هذا القول الأخير أقوم من غيره، فهو الذي يتفق وما شغف محمد به من التأمل، ومن التفكير، وما عرف عن غياب الشرائع يومذاك، حتى أن كثيرا من الحنفاء لم يصلوا إلى شيء رغم ما بذلوا من جهد للوصول إلى دين حقيقي. واستمر محمد على عادته تلك في حب الخلاء، والانقطاع له، ومداومة البحث عن الحقيقة؛ حتى هداه الله إليه بنزول الوحي، وبدء الرسالة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} 1. يذهب المفسرون في بيان المعنى المراد من الضلال إلى معانٍ كثيرة: - فهو بمعنى: الغفلة عما يراد بك من أمر النبوة. - وبمعنى: عدم معرفة دين وشرع ما، فهداك الله للإسلام وشريعته. - وبمعنى: في وسط ضلال قومك وكفرهم فهداهم الله بك. - وبمعنى: الحيرة فيما ترى، فعرفك بالصواب والحق2. وهذه المعاني تلتقي في معنى عام واحد، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن طريق الحق والهدى، وسط قومه الغافلين، ولم يكن يتصور أن النبوة ستأتيه،

_ 1 سورة الضحى آية 7. 2 انظر: تفسير القرطبي ج20 ص96، 97.

وكثيرا ما أضنته الحيرة والقلق حتى جاءه جبريل عليه السلام فأرشده إلى صراط الله المستقيم. والمعاني تدور مع أحوال محمد صلى الله عليه وسلم قبل المبعث، ومع بحثه الدءوب عن الحقيقة التي هداه الله إليها، وعرفه بها، فكانت الرسالة والبعثة.

المبحث العاشر: بدايات الوحي

المبحث العاشر: بدايات الوحي وبلغ محمد صلى الله عليه وسلم سن الأربعين، وكمل في ذاته، وأصبح مستعدا لتكميل الآخرين، وهنا جاءه وحي الله، كما هو الشأن مع جميع الأنبياء والمرسلين1. يروي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "أنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة"2. لقد حاول محمد صلى الله عليه وسلم الوصول إلى الحقيقة المتصلة بالوجود والحياة، وطال تفكره وتدبره، ولم يصل إلى ما يتمنى ويريد. إنه يسمع عن دين الله وأنبياء الله، لكنه لا يعرف حقيقة الألوهية وحقوقها، ويجهل كل ما يتصل بالنبوة والرسالة، وإدراكه للملأ الأعلى ساذج وبسيط، والأسرار من حوله تتكاثر وتتعدد، وكلما طال تأمله تشعبت مناحي النظر، وبعدت عنه الأسرار والغايات. والعقل مهما سما إدراكه، ومهما دق فكره، ومهما تعمقت تأملاته ونظراته، لا يمكنه أن يصل إلى شيء من حقائق هذا الوجود، ولا بد له من وحي الله يكشف له الأسرار التي يحتاج إليها. ومحمد صلى الله عليه وسلم مع صفاء نفسه، وكمال عقله، وسمو روحه، يحتاج إلى فيوضات الله تهديه للحق، وتنقذه من الحيرة، وتعرفه بالحقائق الدينية التي لا يمكن للعقل أن يصل إليها. كما يجتاج لرحمة الله مراعاة لجانب البشرية فيه، حتى لا تفاجئه روحانية الوحي، وغرائب الملأ الأعلى.

_ 1 شروح النووي على صحيح مسلم ج15 ص99. 2 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ج6 ص26.

ويحتاج كذلك إلى تعلم كيفية الاتصال بخالقه، والتعامل مع الملائكة، واستقبال الوحي بمختلف صوره وأشكاله. وقد تجلت فيوضات الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بصورة رقيقة، شفيقة عمادها الرحمة والمودة، وعناصرها الترقي ببشرية محمد ليكون نبيا ورسولا. وكانت رحمة الله مع محمد صلى الله عليه وسلم حين جاءه وحي الله تعالى؛ إذ كلفه بالنبوة أولا، وجاءه الوحي ينبئه، ومن المعروف أن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلما خبر صلى الله عليه وسلم الوحي، ورأى صوره، وأنواعه، وأصبح متآلفا مع لقائه جاءته الرسالة، فصار رسولا نبيا. والنبوة أخص من الرسالة؛ لأن النبوة تعني نزول الوحي من عند الله، إلى من يختاره الله تعالى من الناس؛ ليعلم ويعمل بما أوحي به، وهي تعليم لمن تنبأ خاصة، أما الرسالة فإنها الوحي يأتي للشخص المختار على أن يعلمه ويقوم بتبليغه للناس ويعمل به، فهو رسول الله إليهم. وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس بلازم أن يكون النبي رسولا.. ولقد نبئ محمد صلى الله عليه وسلم وجاءه الوحي من عند الله، واستمر على ذلك مدة تعد تمهيدا لإرساله، أراد الله أن يهيئه خلالها للتعامل مع الملائكة، والاتصال بالله، ويعرفه كذلك بكل ما تحتاجه الرسالة من أمور لا بد منها للرسول المختار. إن الرسول بشر يتصل بالله وبالناس، ولا بد له من أن يتصف بصفات ذاتية ترتقي به إلى درجة الكمال البشري والسمو الروحي؛ ليسهل عليه الاتصال بالملأ الأعلى بجانبه الروحي، والتعامل مع الناس بجانبه البشري في توازن وانسجام. وقد بدأت نبوة محمد بأوليات الوحي كما أرادها الله تعالى، ولم يكلف بالرسالة إلا بعد أن أصبح مؤهلا لها، مستعدا للقيام بواجبها1.

_ 1 انظر: أعلام النبوة للماوردي ص175-180، ويرى الماوردي أن الوحي تدرج مع رسول الله منزلة بعد أخرى، فبدأ بالرؤيا ثم بالنداءات، ثم بالنبوة، ثم بالرسالة ... إلخ.

لقد كان صلى الله عليه وسلم في مرحلة النبوة يخاف من الوحي يأتيه بإحدى صوره؛ ولذلك كان يأتي لخديجة شاكيا، ويقول لها: "خشيت على نفسي"، ويصف الرجل الذي يظهر أمامه ويقول: "سطا عليَّ الرجل"، وكان يجري منه محاولا الهرب من أمامه، أما في مرحلة الرسالة فكان يأنس بالوحي، ويتعجله، ويخاف أن يتركه ولا يأتيه.. ولقد اختلف الوحي مع محمد صلى الله عليه وسلم في فترة النبوة عن الوحي في فترة الرسالة، يقول القاضي عياض: وإنما بدأ الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤيا؛ لئلا يفجأة الملَك، ويأتيه بصريح النبوة بغتة، فلا تتحملها قواه البشرية، فبدئ بأوائل خصال النبوة، وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا، وما جاء من رؤية الضوء، وسماع الصوت، وتسليم الحجر والشجر عليه بالنبوة، حتى يستشرف عظيم ما يراد به، ويستعد لما ينتظره، فلم يأته الملَك إلا بأمر عنده مقدماته1. يقول ابن كثير: وبدء الوحي بصورة التدرج يهدئ القلب، ويطمئن النفس.. ومن صور الوحي في بدايته ما يلي: 1- الرؤيا الصادقة: إذا نام الإنسان انقطع عن عالم الناس، وعاش مع باطنه وإدراكاته اللاشعورية، وخلال النوم تهيم نفس النائم في رؤى تتضمن أفكارا وأحداثا، لا يمكن له أن يتصور حدوثها في حالة اليقظة؛ ولذا كانت الرؤى المنامية تدريبا للإنسان وهو في عالم اللاشعور، على ما سوف يراه في عالم الإدراك والشعور. إن علماء النفس المعاصرين يزرعون في الإنسان مبادئهم الضارة، وقيمهم المادية، وهو نائم، وذلك بوضع تسجيل صوتي تحت رأسه وهو نائم تحببه فيما يرغبون، وتتحدث عن مزايا ما يدعون إليه، فإذا ما استيقظ الإنسان يجد عقله مشغولا بما سمعته روحه أثناء نومه، من غير إدراك سبب هذا الانشغال.

_ 1 الشفا ج1 ص360 بتصرف.

إن هذه المقدمة بيان لأهمية الرؤى، وإبراز لدورها في تهيئة الإنسان لأحداث عالم اليقظة، وبخاصة إذا كانت الأحداث غريبة مدهشة. ولقد كان من رحمة الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن بدأه الوحي بالرؤيا الصادقة، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح"1. وبذلك كان الوحي يُعْلِمُ رسول الله وهو نائم بما يريده الله تعالى في رؤى صادقة، صالحة، خالية من الضغث والوهم، وكانت رؤى الوحي في وضوحها وظهورها تشبه ضوء الصبح في بيانه وسطوعه. جاء في فتح الباري أنه ثبت في مراسيل عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أولا في المنام حتى أتاه الملَك بعد ذلك في اليقظة على الصورة التي أتاه بها في المنام2، وقد تعددت الرؤى المنامية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يندهش لذلك.. ومنها3: - رأى أن آتٍ أتاه، ومعه صاحبان له، فنظروا إليه فقالوا: هو، هو، ثم ذهبوا.. فهاله ذلك، وتساءل عما رأى، وعن حديثهم أمامه، فقال له عمه أبو طالب: يابن أخي، ليس بشيء. - وأتاه هذا الآتي مرة أخرى، فجاء لعمه، وقال له: يا عم، سطا بي الرجل الذي ذكرت لك، فأدخل يده في جوفي حتى أني أجد بردها، فخرج به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطيب بمكة، فحدثه حديثه، وقال: عالجه، فصوب به، وصعد، وكشف عن قدميه، ونظر بين كتفيه، وقال: يابن عبد مناف، ابنك هذا طيب طيب، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته، وليس الرائي شيطانا، ولكنه من النواميس الذين يتحسسون بها القلوب للنبوة، فرجع به.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي ج1 ص5. 2 فتح الباري - كتاب الوحي ج1 ص22. 3 انظر: سبل الهدى والرشاد ج2 ص310-312.

- رأى في منامه أن سقف بيته نزعت منه خشبة، وأدخل فيه سلم من فضة، ثم نزل إليه رجلان، فأراد أن يستغيث فمنع من الكلام، فقعد أحدهما إليه، والآخر إلى جنبه، وأدخل أحدهما يده في جنبه فنزع ضلعين منه، وأدخل يده في جوفه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجد بردها، فأخرج قلبه، فوضعه على كفه، وقال لصاحبه: نعم القلب قلب رجل صالح، فطهر قلبه وغسله، ثم أدخل القلب مكانه، ورد الضلعين، ثم ارتفعا، ورفعا سلمهما، فإذا السقف كما هو، فذكر ذلك لخديجة بنت خويلد فقالت له: أبشر، فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا، هذا خير فأبشر. - ورأى في منامه جبريل ومعه نمط من ديباج فيه كتاب فقال له: اقرأ. فقال له: "ما أقرأ؟ ". فغته به حتى ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الموت، ثم أرسله فقال: اقرأ. قال صلى الله عليه وسلم: "ما أقرأ؟ ". فغته به حتى ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الموت، ثم أرسله فقال له: اقرأ. قال صلى الله عليه وسلم: "ماذا أقرأ؟ "، قال ذلك إلا افتداء منه أن يعود إليه بمثل ما صنع. قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتهى فانصرف جبريل، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه، قال: "فكأنما كتب في قلبي كتابا"، فذكر ذلك لخديجة فقالت: أبشر، فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا. وهكذا ... تعددت الرؤى، وركزت على قضية إعلام الرسول بنبوته، وتطهيره، وإعلامه ما ينتظره من أحوال وأعمال، حتى لا يفجأه الملَك على صورته الحقيقة، فيصاب بالخوف والاضطراب.

2- نداءات الملائكة: من صور الوحي الذي بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم نداء الملائكة عليه، وإعلامهم إياه بنبوته، وهو لا يعرف المنادِي، ولا يمكنه تحديد مصدر النداء.. من ذلك ما رواه ابن كثير بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر". قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر، قالت له خديجة، يا عتيق، اذهب مع محمد إلى ورقة1. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة. قال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة. فانطلقا إليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض". فقال له: لا تفعل إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد، قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} قل: لا إله إلا الله، فأتى محمد ورقة، فذكر له ذلك، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل2. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خرجت مرة حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى

_ 1 ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة رضي الله عنها، آمن بمحمد يوم أن جاءه يسأله، فلما توفي قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: "لقد رأيت القس في الجنة على ثياب بيض؛ لأنه آمن بي، وصدقني"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين". "سيرة ابن كثير ج1 ص398". 2 البداية والنهاية ج3 ص9.

السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فرفعت أنظر إليه فما أتقدم وما أتاخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أتأخر ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة، ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرفت راجعا إلى أهلي. حتى أتيت خديجة فجلست إليها فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، فبلغوا مكة، ورجعوا إلي!! ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يابن عم واثبت، فوالذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة، فأخبرته بما أخبرتها به، فقال ورقة: قدوس قدوس! والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت". فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة. وفي مرة ثالية قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره، وانصرف يصنع كما كان يصنع؛ حيث بدأ بالكعبة فطاف، فلقيه ورقة عند الكعبة، قال له: يابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت. فلما أخبره قال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتقاتلنه ولتوذينه، ولئن أدركت ذلك لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبل يا فوخه. ويقول صلى الله عليه وسلم لخديجة: "لما قضيت جواري، هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئا، فنظرت عن شمالي فلم أرَ شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض فقلت: دثروني دثروني، وصبوا عليَّ ماء باردا" 1.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب سورة المدثر ج8 ص62، البداية والنهاية ج3 ص12، 13.

إن نداءات الملائكة لرسول الله، وتعجبه مما يسمع، دفعه إلى معرفة شيء من أسرار ما يسمع؛ ولذلك كان يرجع لخديجة يقص عليها ما رأى. وكانت خديجة رضي الله عنها خير معين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تسمع منه وتجتهد في معرفة أسباب ذلك، وتسأل أهل الكتاب عن خبر ما يسمع، وتخبر زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يسري عنه ويطمئنه. وكانت تبحث عن أسرار ما يرى لتطمئن عليه، وتطمئنه رضي الله عنها، قالت له مرة: يابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: "نعم". قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاء جبريل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني". فقالت: قم يابن عم، فاجلس على فخذي اليسرى. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم". قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: "نعم". فحسرت فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: "لا". قالت: يابن عم، اثبت وأبشر، فوالله إنه لملَك، ما هذا شيطان1. 3- كلام الشجر والحجر: يروي ابن سعد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتا، ويفضي إلى الشعاب، وبطون

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص314، البداية والنهاية ج3 ص15، 16.

الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه، وشماله، وخلفه، فلا يرى أحدا1. روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أعرف حجرا كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن" 2. وقال محمد بن عمر بسنده عن برة بنت تجراة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى كرامته، وابتداءه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد، حتى تحسر عنه البيوت، ويفضي إلى شعاب مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر، ولا شجر، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، فلا يرى إلا الشجر، وما حوله من الحجارة، وهي تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله3. وروى ابن سعد عن هشام بن عروة عن أبيه رحمهما الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا خديجة، إني أرى ضوءا، وأسمع صوتا، لقد خشيت أن أكون كاهنا"، فقالت: إن الله تعالى لا يفعل بك ذلك يابن عبد الله؛ إنك تصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتصل الرحم4. 4- لقاء الملائكة: من رحمة الله برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن أخذ يهيئه للقاء ملَك الوحي، وذلك بإرسال الملائكة إليه، تعلمه كلمة، أو شيئا ما؛ ليستعد بذلك على ملاقاة جبريل عليه السلام.

_ 1 طبقات ابن سعد 1/ 157. 2 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب تسليم الحجر عليه ج15 ص26. 3 طبقات ابن سعد ج1 ص157. 4 المرجع السابق ج1 ص195.

يروي ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه النبوة كان يأتيه "إسرافيل" واستمر معه يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل شيء من القرآن على لسانه1، يقول أبو شامة: إن "إسرافيل" كان يأتي النبي وهو في غار حراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة، ولا يقيم معه، تدرجا وتمرينا.. وأحيانا كان يأتيه جبريل بصحبة ملك آخر، يقول ابن عباس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصفا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة دقيق، ولا كف من سويق"، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أأمر الله القيامة أن تقوم؟ ". فقال جبريل: لا، ولكن أمر الله إسرافيل فنزل إليك، حتى يسمع كلامك. فأتاه إسرافيل فقال: إن الله تعالى بعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض إليك أن أسير معك جبال تهامة زمردا، وياقوتا، وذهبا، وفضة، فإن شئت نبيا ملكا، وإن شئت نبيا عبدا؟ فأوما إليه جبريل: أن تواضع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نبيا عبدا" ثلاثا2. ويقول البراء بن عازب رضي الله عنه: أتاه جبريل وميكائيل، فنزل جبريل وبقي ميكائيل واقفا بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو. قال: فزنه برجل، فوزنه به فرجحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: زنه بعشرة، فوزنه فرجحهم. قال: زنه بمائة، فوزنه فرجحهم. قال: زنه بألف، فوزنه فرجحهم.

_ 1 طبقات ابن سعد ج1 ص191. 2 سبل الهدى والرشاد ج2 ص310.

ثم جعلوا يتساقطون عليه من كفة الميزان. فقال ميكائيل: تبعته أمته ورب الكعبة، ثم أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك، فيه الياقوت واللؤلؤ، فقال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشقه، فأخرج منه مغمز الشيطان، وعلق الدم فطرحها، فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاطه، ثم أجلساه فبشره جبريل برسالة ربه حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم1. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس، وعنده جبريل؛ إذ سمع نقيضا من السماء من فوق، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: يا محمد، هذا ملك قد نزل، لم ينزل إلى الأرض قط. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منها إلا أوتيته2. 5- مجيء جبريل بالقرآن: استمر الوحي بالمقدمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو المبين، وأدرك محمد صلى الله عليه وسلم أن أمرا عظيما ينتظره، وسمع من زوجته، ومن ورقة، ومن غيرهما: أن الذي يراه ويسمعه هو الوحي الذي كان يأتي موسى وعيسى والأنبياء من قبله عليهم صلوات الله وسلامه. وشيئا فشيئا بدأ يطمئن لما يرى، ويثق فيما يسمع حتى جاءه جبريل عليه السلام بأول آية قرآنية أمره الله تعالى أن يقرئه بها، تصور السيدة عائشة رضي الله عنها نزول جبريل بأول آية قرآنية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول رضي الله عنها: جاءه الملَك "أي جبريل" وهو في غار حراء، فقال: اقرأ. قال: "ما أنا بقارئ".

_ 1 انظر ص190 وما بعدها. 2 سبل الهدى والرشاد ج2 ص310.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأخذني فغطني حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} ". فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: "زملوني زملوني"، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. ثم قال: "يا خديجة، ما لي؟ " وأخبرها الخبر، "لقد خشيت على نفسي". فقالت خديجة له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة لأبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي والعبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وقد عمي في شيخوخته. فقالت له خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أومخرجي هم؟ ".

فقال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي1. ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن الهداية التي جاءته، ومع أنه كان على يقين بالفوز العظيم بمجيء جبريل؛ ولذلك قال لخديجة: "أرأيتك الذي كنت أخبرتك أن رأيته في المنام؟ فإنه جبريل، استعلن لي، وأرسله إليَّ ربي".. ومع كل ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أصيب بالروع، وخشي على نفسه. وهذا الخوف الذي عاشه النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء جبريل عليه السلام جعل البعض يتساءل عن سبب هذا الخوف؛ لأن المقام مقام سرو ورضى، وليس مقام رهبة وهلع. وقد تناول العلماء هذه المسألة، ورأوا أن الخوف لم يكن من النبوة، أو من الوحي، وإنما كان من تصوره أذى يأتي من الغط الشديد، أو من ثقل المسئولية، أو لأن الحوار لم يكن عاديا.. فلقد أمر جبريل عليه السلام محمدا صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثلاث مرات، وغطه بشدة ثلاث مرات أيضا، والرسول يقول له: "ما أنا بقارئ"، وينتشر خبر ذلك عند خديجة، وأبي بكر، وورقة، ويتحدث عنه أهل مكة؛ ليكون حديثهم تعريفا بمحمد، وتنبيها على منزلته عند الله، والناس، فضلا من الله ونعمة. يقول الإسماعيلي: إن العادة جرت بأن الأمر الجليل إذا قضى الله تعالى بإيصاله إلى الخلق أن يتقدمه ترشيح وتأسيس، وكان ما يراه النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة ومحبة الخلوة والتعبد من ذلك، فلما جاءه الملَك فجأه بغته بصورة تخالف العادة والمألوف، نفر طبعه البشري منه، وهاله ذلك، ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال؛ لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه، وينفر وطبعه منه، حتى إذا اندرج عليه، وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى خديجة التي ألف تأنيسها له، فأعلمها بما وقع له، فهونت عليه خشيته، مما عرفته من

_ 1 صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي ج1 ص5، 6، 7.

أخلاقه الكريمة، وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة؛ لمعرفتها بصدقه، ومعرفته وقراءته الكتب القديمة، فلما سمع كلامه أيقن بالحق، واعترف به، وأشار الإسماعيلي كذلك إلى أن الحكمة في ذكره صلى الله عليه وسلم ما اتفق له في هذه القصة: أن يكون سببا في انتشار خبره، في بطانته، ومن يستمع لقوله، ويصغى إليه، طريقا في معرفتهم مباينة من سواه في أحواله لينبهوا على محله1 ويعرفوا مقامه صلى الله عليه وسلم. ومع لقاء جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم وإقرائه أول سورة العلق نلاحظ بعض الملاحظات: الأولى: غط جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات؛ ليجعل التفاته وفكره إليه وحده، دون الانشغال بغيره، ويعرفه بثقل الرسالة، وضخامة المسئولية، ويتعود على التلقي من الوحي فقط. وليكن صبورا حين التبليغ. ويعلم أن تكرار الطلب منهج في نشر دين الله تعالى. وليتأكد صلى الله عليه وسلم بتكرار الغط أن ما يحدث حقيقة واقعية ملموسة، وليست خيالا أو وهما. لقد كان جبريل عليه السلام في أشد الاشتياق للقاء محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك ضمه إليه، وقبله أكثر من مرة. كان من الممكن أن يلقن جبريل عليه السلام محمدا صلى الله عليه وسلم بما يلقنه شفاهة من بعد، ويمضي، لكنه فعل ذلك بأمر الله تعالى؛ ليؤكد خطورة الأمر، وأهميته، وضرورة بذل الجهد، وتحمل المشاق في أداء الواجبات الخطيرة، وهل هناك أخطر من مهمة الرسالة والدعوة؟!! وكان من الممكن أن يتم اللقاء مناما، لكن الله تعالى أراد أن يطلع رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم على صورة روحه الأمين، كما أراد له أن يعرف أهم صور

_ 1 فتح الباري على صحيح البخاري ج12، ص360.

الوحي بعد أن عاش الرؤى، وسمع النداء، وشاهد الجمادات تناجيه، وعاش الخلوة بفكره، أراد الله له بعد ذلك أن يتعود على صورة الوحي التي ستستمر معه، وقد كان، فجاء جبريل وأقرأه أول سورة العلق. الثانية: في بدء الوحي بـ"اقرأ" بيان لموقف الإسلام من القراءة، ومن العلم كله، فالقراءة أساس معرفة الدين، بها يحفظ القرآن، وتصان السنة، وتفهم الشريعة، وبها تكون الدعوة، وحماية الإسلام ... وبالعلم تحيا الأمة، وتحافظ على الضرورات الشرعية جميعا، وتنظم كافة جوانب الحياة. الثالثة: قدمت خديجة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة للزوجة العظيمة المثالية، فلقد كانت تعيش حياة رسول الله لحظة بلحظة، تتمنى له الخير، تشاركه في كل ما يعن له، وتهتم بكل ما يهمه. لقد أعطته مالها فأغنته صلى الله عليه وسلم به، وأبعدته عن متاعب الفقر ومشاغله، ولما بدأ الوحي مناما ونداء وضوءا كانت تطمئنه، ولكنها من ورائه كانت تبحث عن حقيقة ما يرى صلى الله عليه وسلم خوفا عليه وحذرا. وكان رضي الله عنها إذا غاب عنها ترسل في طلبه مَن يبحث عنه1.. كما ذهبت وحدها إلى ورقة، وأخبرته بخبر زوجها، تريد أن تعرف شيئا عنه، فقال لها ورقة: قدوس، قدوس، والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة2. ولم تكتفِ بما سمعت عن ابن عمها ورقة، بل ذهبت مرة أخرى إلى غلام لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس -نصراني من أهل نينوى- يقال له: عداس، فقالت له: يا عداس، أذكرك الله إلا ما أخبرتني: هل عندكم علم عن جبريل؟ قال عداس: قدوس، قدوس، ما شأن جبريل يُذكر هذه الأرض التي أهلها أهل أوثان.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص13. 2 انظر ص312.

فقالت: أخبرني بعلمك فيه. قال عداس: هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام1. لقد تميزت خديجة رضي الله عنها بكمال الخِلْقَة والْخُلُق، يقول عنها صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها خديجة بنت خويلد" 2، وقد جعلت عقلها الكامل في خدمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، وكانت رضي الله عنها خير معين لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك بشرها الله ببيت في الجنة3.. ونلحظ مدى ملاطفتها وتقديرها لزوجها في مناداته: يابن عم.. ولذلك فقد استحقت التقدير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: "إني رزقت حبها" 4. فتور الوحي: واطمأن محمد صلى الله عليه وسلم لصدق ما رأى وما سمع، وتيقن أن الذي كان يأتيه هو وحي الله، وتأكد أنه فاز بذلك فوزا عظيما. وحتى يستوعب كل ما رأى، وتهدأ نفسه فتر الوحي، وانقطع عنه جبريل عليه السلام، فمكث صلى الله عليه وسلم أياما لا يرى جبريل، فحزن حزنا شديدا، وأخذ يدور بسببه بين رءوس الجبال عساه يراه ويحدثه، وحاول أن يتردى من رءوس شواهق الجبال من شدة ألمه لانقطاع جبريل عنه. وقد شق هذا الفتور على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن خوطب بعد من الله بأنه رسول الله، ومبعوثه إلى العباد، فخاف أن يكون ذلك أمرا بدئ به ثم لا يراد استتمامه، فحزن لذلك؛ ولذلك أتاه جبريل بعد ذلك وأخبره بأنه رسول الله.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص13. 2 صحيح مسلم - كتاب فضائل خديجة ج15 ص198. 3 المصدر السابق ج15 ص201. 4 المصدر السابق ج15 ص201.

يقول الزهري: فكلما وافَى ذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال له: يا محمد، أنت رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر عينه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى ذروة الجبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك1. يتساءل البعض: كيف يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يفكر في إلقاء نفسه من ذروة الجبل؟ والجواب: أن ذلك كان هَمًّا، لا قرارا. وكان يظن أن قوته عاجزة عن تحمل ما يتوقعه من أعباء النبوة. وخوفا مما قد يحصل له صلى الله عليه وسلم حين القيام بها من مباينة الخلق جميعا وعداوتهم. وذلك كما يطلب الرجل الراحة من غم يناله في العاجل، بما يكون فيه زواله عنه، ولو أفضى إلى إهلاك نفسه عاجلا، حتى إذا تفكر فيما سيكون من العقبى المحمودة صبر، واستقرت نفسه. والعلماء يختلفون في تحديد مدة انقطاع الوحي، فبعضهم يذهب إلى أن الوحي انقطع مدة قاربت السنتين ونصف، وبعضهم يرى أنها كانت أياما، إلى غير ذلك من الآراء، يرى ابن إسحاق: أنها كانت ثلاث سنوات، ويرى ابن كثير: أنها كانت سنتين ونصف، ويرى ابن عباس: أنها كانت أربعين يوما، ويذهب ابن الجوزي إلى: أنها كانت خمسة عشر يوما، ويرى مقاتل: أنها ثلاثة أيام، والرأي الأول بالاعتبار هو في تقصير مدة الانقطاع لمناسبته مقام الرسول عند ربه، ولأنه من الأمور التي إذا طالت انتشرت وعرفت واشتهرت، كما أن الانقطاع مدة طويلة يؤدي إلى ضياع كثير مما تم بناؤه في دنيا الناس، وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر ص324 وما بعدها.

المبحث الحادي عشر: صور الوحي

المبحث الحادي عشر: صور الوحي ... المبحث الحادي عشر: صورة الوحي تعتبر مدة انقطاع الوحي فاصلا بين النبوة والرسالة، فلقد نبئ صلى الله عليه وسلم لثمان مضين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، ونزل عليه القرآن الكريم في شهر رمضان من نفس العام، والمدة بينهما هي فترة النبوة، وبعدها كان الرسالة. ولقد كان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه بصورة عديدة، منها: الأول: الرؤيا الصادقة في المنام ومثاله رؤية إبراهيم عليه السلام، كما يقول تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} 1، فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما كان يأتيهم في اليقظة، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. يروي البخاري بسنده عن عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي2. الثاني: أن ينفث الملَك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي، لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله؛ فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته" 3. يقول المفسرون في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} 4: هو أن ينفث في روعه بالوحي الذي يخص القلب دون السمع.

_ 1 سورة الصافات آية 102. 2 صحيح البخاري - كتاب الوحي ج1 ص11. 3 سبل الهدى والرشاد ج3 ص352. 4 سورة الشورى آية 51.

الثالث: أن يأتيه مثل صلصة الجرس وهو أشده عليه، فيتلبس به الملَك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك على الأرض. يروي الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملَك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" 1. وروى ابن سعد بسند رجاله ثقات عن أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه عليَّ كما يلقي الرجل الرجل فذاك يتفلت مني، ويأتيني في شيء مثل صلصة الجرس حتى يخالط قلبي فذاك لا يتفلت مني" 2. الرابع: أن يكلمه الله تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة، كما في ليلة الإسراء، على القول بعدم الرؤية. الخامس: أن يكلمه الله تعالى كفاحا بغير حجاب على القول بالرؤية ليلة الإسراء. السادس: أن يكلمه الله تعالى في النوم، كما في حديث معاذ عند الترمذي: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيمَ يختصم الملأ الأعلى" 3، وهذا النوع يختلف عن الرؤيا المنامية؛ لأن هذا كلام الله تعالى. وذكر بعضهم أن من هذا النوع نزول سورة الكوثر لما رواه مسلم عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع بصره مبتسما

_ 1 صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي ج1 ص4. 2 طبقات ابن سعد 1/ 197. 3 سنن الدارمي - باب رقم 12.

فقرأ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} وكانت قد نزلت عليه قبل ذلك، على الأصح، وهذه مرة أخرى تتنزل فيها السورة؛ لأن القرآن الكريم نزل كله في اليقظة. السابع: مجيء الوحي كدوي النحل. روى الإمام أحمد والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه يُسمع عند وجهه دوي كدوي النحل"1. الثامن: العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه، وعلى لسانه، عند الاجتهاد في الأحكام. لأنه اتفق على أنه صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد أصاب قطعا، وكان معصوما من الخطأ، وهذا خرق للعادة في حقه صلى الله عليه وسلم دون الأمة، وهو يفارق النفث في الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه. ولقد كان الوحي ثقيلا، كقوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} 2، ويرجع ثقل الوحي إلى ما يتضمنه من: عقيدة، وشريعة، وأخلاق، بحيث لا يقدر على حملها والعمل بها سوى العقلاء، الذين يحكمون عقولهم، ويسيطرون على هواهم ونفوسهم. ومن دلالات ثقل الوحي ما كان يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزول الوحي عليه الآثار التي رواها أصحابه رضوان الله عليهم، ومنها: - يقول زيد بن ثابت رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخدي، فكادت فخذه ترض فخذي.

_ 1 مسند أحمد 1/ 34. 2 سورة المزمل آية 5.

- وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الوحي ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه، وتلت الآية1. - ويقول أبو أروى الدوسي رضي الله عنه: رأيت الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه على راحلته فترغوا، وتفتل يديها، حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت، وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه من ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان2. - ويقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وغمض عينيه3. - ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى يقضي الوحي4. - وتقول عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا"5. - وتقول أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: كنت آخذه بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة المائدة، فكاد ينكسر عضدها من ثقل السورة6. - ويقول ابن عمر رضي الله عنه: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب ععلى راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها7.

_ 1 أي: قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} . 2 طبقات ابن سعد 1/ 197. 3 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الفضائل - سبل الهدى ج2 ص344. 4 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب الجهاد - باب فتح مكة ج12 ص128. 5 صحيح البخاري - باب بدء الوحي ج1 ص4، ومعنى يتفصد: ينفصل. 6 سيرة ابن كثير 1/ 424. 7 سيرة ابن كثير 1/ 424.

- وثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فكأنه يكون تارة وتارة بحسب الحال1. والآيات التي بدأ الوحي بها بعد فترة الانقطاع هي أوائل سورة المدثر، وفيها يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 2، وهذه الآيات تضمنت في إجمال كل ما يتعلق بالرسالة.. ففي الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} بيان لعظم مقام الرسول عند ربه كما يتضح من مناداته وتسميته بالمدثر الذي يفيد الستر والمؤانسة والهدوء، وهي أمور ضرورية ليقوم الإنسان بالمهام التي توكل إليه. يقول القرطبي: وفي خاطبه بهذا الاسم فائدتان: الفائدة الأولى: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب، وترك المعاتبة، سموه باسم مشتق من حالته التي هي عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له: "قم يا أبا تراب" 3؛ إشعارا له أنه غير عاتب عليه، وملاطفة له، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: "قم يا نومان"، وكان نائما؛ ملاطفة له، وإشعارا لترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فيه تأنيس وملاطفة؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية: تنبيه لكل متدثر خائف؛ لينهض بما كفله الله به، فالقيام بالواجب أولى وأحسن من النوم والقعود، والتوكل على الله يساعد على النشاط والعمل.

_ 1 سيرة ابن كثير 1/ 424. 2 سورة المدثر الآيات 1-7. 3 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب فضل علي رضي الله عنه ج6 ص116.

وفي الآية الثانية: {قُمْ فَأَنْذِرْ} أمر بالقيام والنهوض، وترك النوم والكسل، وضرورة التصميم الجاد، والسعي المستمر في الدعوة لدين الله تعالى، وليكن الإنذار أول الأمر مع الناس، وهو المناسب لهم؛ تنبيها لعقولهم، وتعريفهم بالخطر الذي يترصد الغافلين، الساترين في الضلال، وهذا الإنذار رحمة من الله للناس؛ لأنه يعطيهم الفرصة لينقذوا أنفسهم من ضلال الدنيا وعذاب الآخرة. وتتجلى الرحمة في هذا الإنذار بأنه يأتيهم بواسطة رسول، يدعو ويبين، ويكرر ويصبر، ويستمر طويلا في دعوتهم، عساهم يستجيبون ويتأثرون. والرسول صلى الله عليه وسلم كما هو منذر فهو مبشر إلا أن المقام اكتفى بالإنذار مراعاة لأحوال المخاطبين. والآية الثالثة: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} توجه رسول الله خاصة لمعرفة مقام الله وعظمته التي تصغر أمامه سائر القوى، فهو وحده الكبير المتعال، وبهذا التصور يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته الناس آمنا، لا يتأثر بمعارضاتهم أو عداوتهم؛ لأنه مع الله القوي العزيز. يقول سيد قطب: ليواجه نذارة البشرية، ومتاعبها، وأهوالها، وأثقالها، بهذا التصور، وبهذا الشعور، فيستصغر كل كيد، وكل قوة، وكل عقبة، وهو يستشعر أن ربه الذي دعاه ليقوم بهذه النذارة، هو الكبير، وكما أن مشاق الدعوة وأهوالها في حاجة دائمة إلى استحضار هذا التصور ومعايشة هذا الشعور1. والآية الرابعة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} توجه الرسول صلى الله عليه وسلم للمحافظة على طهارة الظاهر والباطن؛ لأن التلقي عن الملأ الأعلى يتناسب مع هذه الطهارة. وطهارة الثوب كناية عن طهارة القلب والعمل والسلوك. والمحب للطهارة، المتعود عليها، يعمل ألا يقع في غيرها.

_ 1 في ظلال القرآن ج29، ط. دار التراث العربي.

والطهارة عموما ضرورة لمزاولة مهام الرسالة والدعوة وسط الضالين المنحرفين، وبذلك يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتأثر بهم، وبخاصة أن أهل الباطل وأنصار الشيطان يحاولون التغلب على أهل الحق بأخذهم إليهم، مستعينين بوسائل الهوى، ومغريات الشهوات، وبكافة ما يمكنهم من إغراء. ولذلك كانت الطهارة ضرورة للرسل والدعاة.. والآية الخامسة: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} والرجز شامل للشرك، ولسائر المعاصي، والرجز معناه العذاب، أطلق على مسبباته للإشارة إلى أن العقوبة ملازمة للمعصية، وقد أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالهجر وليس بالترك فقط؛ لما في الهجر من ترك ونفور، وكراهية وتباعد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان هاجرا للشرك، ولموجبات العذاب حتى قبل النبوة، فقد عافت فطرته السليمة الانحراف، وبعد عن أنواع المعتقدات الشائهة، وترك الرجس من الأخلاق والعادات، ولم يعرف عنه أنه شارك في شيء من هوس الجاهلية وأخطائها، ومع كل هذا كان هذا التوجيه الذي يعني ضرورة المفاصلة، وأهمية إعلان التميز الذي لا يصلح فيه، ولا هوادة معه، فهما طريقان مفترقان لا يلتقيان، كما يعني التحرز من دنس هذا الرجز ودواعيه. والآية السادسة: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عدم المن على الناس، وعدم استكثار ما سوف يعطيه لهم، فهو مكلف بالعطاء، وسيعطي الكثير في إصلاح الحياة للناس أجمعين، فعليه البذل والعطاء، بلا مَنٍّ وبلا عدد، وبذلك يعظم العطاء، ويعظم صاحبه. إن النبوة فضل إلهي، وعلى الرسول أن يدوم شاكرا عابدا متحليا بمكارم الأخلاق، وليس المن من الخلق الكريم أبدا. والآية السابعة: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} تشتمل على أمر كريم يحتاجه الرسول في مسيرته مع النبوة والدعوة، وعليه أن يصبر مع نفسه وهو يقاوم شهواتها، ومع الوحي

وهو يسمعه ويحفظه، ومع الناس وهو يعلمهم، ومع الأعداء وهو يقاومهم. إن المعركة طويلة، والصبر هو الزاد الذي يلائمها، وهو الذي يحقق الفوز في النهاية. وهذه الآيات السبعة الأولى في سورة المدثر نزلت في أول الوحي بالرسالة بعد فتور الوحي متضمنة الأسس الرئيسية للحركة بدين الله تعالى؛ ولذلك جاءت إعلانا واضحا عن أساسيات القيام بالرسالة، وأهم ما يجب أن يتحلى به الرسول والدعاة. وأما أول سورة العلق فقد نزل في مرحلة الوحي بالنبوة التي استمرت ستة أشهر؛ ليعرف النبي صلى الله عليه وسلم ربه، ويقف على كمال صفاته وحقائقها، ويألف لقاء الملائكة، وتلقي الوحي من ربه. يذهب البعض إلى أن أول المدثر نزل أولا استنادا إلى حديث البخاري الذي رواه بسنده عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .. قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن ذلك، وقلت له مثل ما قلت لي، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء فلما قضيت جواري، هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئا، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئا، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليَّ ماء باردا"، قال صلى الله عليه وسلم: "فدثروني وصبوا عليَّ ماء باردا"، قال: "فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} " 1.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب التفسير - سورة المدثر ج8 ص676.

ويروي مسلم حديثا يشير كذلك إلى أن أول المدثر نزل أولا، فلقد روى بسنده عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: "فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي قبل السماء، فإذا الملَك الذي جاءني بحراء، جالسا على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني، زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} "، قال أبو سلمة: والرجز الأوثان، ثم حمى الوحي بعد ذلك وتتابع"1، ورواه البخاري من هذا الوجه أيضا2. يعلق ابن كثير في تفسيره على هذا الاختلاف فيقول: والأولى القول بأن جبريل نزل بأول سورة العلق في بداية النبوة، وأن نزول أول سورة المدثر كان في بداية الرسالة؛ لأن في حديث نزول أول سورة المدثر الذي رواه مسلم وغيره إشارة إلى المجيء السابق لجبريل، حيث يقول: "فإذا الملَك الذي جاءني بحراء" يوم أن جاءه بأول سورة العلق، وهذا يفيد أن أول سورة نزلت بعد فتور الوحي هي المدثر، وهي أول وحي الرسالة، وعلى هذا فأولية نزول أول العلق أولية مطلقة، وأولية أول سورة المدثر مقيدة بما بعد فتور الوحي، وبدء الرسالة3. ويذهب البعض إلى أن سورة المزمل نزل قبل المدثر، لكن هذا الرأي مردود؛ لأن أول سورة المدثر فيه أمر بالإنذار، وهذا يكون في أول المبعث، أما أول سورة المزمل ففيها الأمر بقيام الليل، وترتيل القرآن، وهذا يقتضي تقدم تشريع

_ 1 صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي ج2 ص206. 2 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب التفسير - باب {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ج8 ص677، 678. 3 تفسير ابن كثير ج4 ص440.

الصلاة، ونزول كثير من آيات القرآن الكريم يتلوها النبي في الصلاة، وفي غير الصلاة، حيث أمر بذلك. ويذهب البعض إلى أن سورة الضحى هي التي نزلت أولا بعد فترة الوحي، مستدلا بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . لأن أم جميل بنت حرب امرأة أبي لهب، لما تباطأ الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ودعك ربك وقلاك، فنزلت.. يرد الحافظ ابن حجر هذا فيقول: الحق أن الفترة المذكورة في سبب نزول والضحى، غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي، فإن تلك دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة. وقد ثبت أن الوحي كان يفتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا كما حدث قبل نزول سورة الكهف، فإن النبي لما سئل عن أصحاب الكهف، قال: "سأحدثكم بها غدا" ولم يستثن ففتر عنه الوحي خمسة عشر يوما1، فقال الله له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} ، فدل ذلك على أن القول بالأولية فيه اختلاف كبير بين العلماء؛ بسبب اختلاف اعتبار كل قول2. وبعد نزول أوائل سورة المدثر تتابع الوحي، واستمر في مكة والمدينة، حتى لقي الرسول ربه..

_ 1 انظر: تفسير ابن كثير ج4 ص440، 522 بتصرف. 2 تفسير ابن كثير ج3 ص72.

المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة

المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام ... المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة بعد أن كُلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة تحول نشاطه إلى العمل بالتبليغ، وسيطرت عليه جوانب الرسالة سيطرة كاملة. فهو صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي من الله، ويبلغه لمن حوله، ويدعو به كل مَن بلغ، ويبذل في سبيل هذا وقته وجهده ونشاطه كله. وكانت زوجته معه خير رفيق لهذه الرحلة الكريمة الشاقة.. وحيث إن الفصل التالي خاص بحركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الناس، وهو بذلك متضمن للرسول محمد، ورسالته في الفترة المكية، فإني أورد هنا أهم الأحداث المتصلة بالسيرة المحمدية موضوع الفصل. وتتميما لجوانب السيرة الشخصية لمحمد صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية، فإني سأورد الملامح العامة لسيرة محمد صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفترة مع التركيز على ما له صلة بالجانب الشخصي عنده صلى الله عليه وسلم، وبذلك نقدم السيرة لننتقل إلى حركته صلى الله عليه وسلم بالدعوة بعد ذلك. ولهذا سوف يتضمن هذا المبحث عددا من المواقف التي تحدد مسار السيرة النبوية، وهي: أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة في بيئة متآلفة متحابة، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يربي عليا، وينفق عليه، وكان معه مولاه زيد بن حارثة، بالإضافة إلى زوجته وأولاده. فتكونت بذلك جماعة متآلفة تجعل حركة الحياة في إطارها سهلة ميسرة، وهذا من فضل الله على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليقوم بمهام الرسالة على وجهها.

فلقد آمنت خديجة رضي الله عنها بالرسالة من لحظتها الأولى، وأخذت تطمئن محمدا صلى الله عليه وسلم وتسري عنه، وتفسر له ما يرى في الغار بما يربحه ويرضيه، وتشاركه في مشاغله ومسائله، يقول ابن إسحاق: وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاء به من الله، وآزرته على أمره، فكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع بشيء يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها، تثبته، وتخفف عليه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، يرحمها الله تعالى1. وكانت رضي الله عنها عاقلة حكيمة، تكون حيث يكون، وتحب ما يحبه، وتتمنى ما يتمناه، آمنت بالدعوة، وعبدت ما كان يعبد في صدق وإخلاص. جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الوضوء والصلاة بطريقة عملية، ففي الخبر: أن جبريل أتى محمدا صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له منه عين، فتوضأ جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيفية الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يتوضأ، ثم أقام به جبريل فصلى به، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته. ولما انصرف جبريل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة، فتوضأ أمامها، يريها كيفية الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى لها كما صلى به جبريل، فصلت بصلاته2. ثم إن على بن أبي طالب رأى رسول الله وخديجة يصليان فقال: ما هذا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده، لا شريك له، وإلى عبادته، وإلى الكفر باللات والعزى".

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص402. 2 سبل الهدى والرشاد ج2 ص398.

فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرا حتى أحدث به أبا طالب ليأذن لي فيه. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي علي سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: "يا علي، إذا لم تسلم فاكتم هذا". فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله تبارك وتعالى أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد". ففعل علي رضي الله عنه وأسلم1. وأما زيد بن حارثة فقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ صغره مولى له؛ لأن خديجة اشترته ووهبته للنبي صلى الله عليه وسلم وعمره ثماني سنوات، وهو من أوائل من أسلم حتى قال بعضهم: إنه أسلم قبل علي بن أبي طالب، وبقي في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن باسمه في قصة زواجه بزينب بنت جحش2، يقول تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} 3.

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص403. 2 انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج2 ص140-142 بتصرف. 3 سورة الأحزاب آية 37.

وإنما كانت الصلاة وكان الوضوء في أول المبعث على وجه الإباحة والسنية، فلما فرضت الصلاة في ليلة الإسراء، جاء الأمر بالوضوء في القرآن الكريم لأداء الصلاة المفروضة. وهكذا تآلفت هذه الجماعة بالإسلام، وتوحد عملها وهدفها، مما جعل السعادة ترفرف على محمد صلى الله عليه وسلم في بيته الكريم. وسارت به الحياة هادئة في مرحلة الدعوة السرية، ومدتها سنتان ونصف على الأرجح؛ لأن كفار مكة تصوروا محمدا واحدا من الحنفاء الذين يتكلمون من غير أن يؤثروا في غيرهم، وبخاصة أنه لا يتكلم مع كل الناس، وإنما كان يتخير أفرادا قليلين متميزين بلين الجانب والتواضع مع التروي والهدوء. كما تصوروا أن محمدا سيفتر عن دعوته، ويتركها بعد مدة حين ينصرف الملأ والوجهاء عنه، وصدقوا أنفسهم حينما رأوا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الفقراء والضعفاء، فلما جهر محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة، ودخل في الإسلام عدد يزيد كل يوم شعروا بالخطر، وبدءوا في المواجهة والمقاومة والعدوان.

ثانيا: صلته بأعمامه

ثانيا: صلته بأعمامه أعمام النبي صلى الله عليه وسلم هم أبناء عبد المطلب، وكانوا جميعا يحبون محمدا، ويرون فيه أخاهم عبد الله، الذي استسلم للذبح فداء لهم، ومات، ومحمد حَمْل في بطن أمه حتى أن عمه أبا لهب أعتق جاريته "ثويبنة" فرحا بمولده صلى الله عليه وسلم. وقد أنزله جده منزلة خاصة، فلما مات عبد المطلب كفله عمه الشقيق "أبو طالب"، وكان أعمامه جميعا يهتمون بشأنه، فإذا رحل للتجارة أوصوا القافلة به. وفي يوم زواجه من خديجة كانوا معه، وشاركوه هذا الحدث السعيد.. فلما ولد له صلى الله عليه وسلم البنين والبنات خطب عمه أبو لهب لولديه عتبة وعتيبة بنتي رسول الله رقية وأم كلثوم.

وبعد أن أعلن محمد صلى الله عليه وسلم رسالته، ونادى في مكة بدين الله تعالى ظل عمه أبو طالب على دين قومه، ولم يدخل في الإسلام، ومع ذلك بقي يدافع عن محمد، ويرد من يقصده بسوء. ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب أبَى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن وقوفه بجانبه، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له: قد بلغنا يا أبا طالب الكثير عن ابن أخيك محمد، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل. فقال لهم أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني! أتعظوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك1. وقد تجمع أعمامه حوله صلى الله عليه وسلم حماية له ما عدا أبي لهب، فقدأعماه الله عن الحق، وأخذ في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم والصد عن الدعوة حتى أمر ولديه بتطليق بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذت امرأته في وضع الشوك والحطب والقذر أمام بيت محمد صلى الله عليه وسلم. ولما عزمت قريش على قتل محمد جاءوا يستأذنون قومه -وهم بنو هاشم وبنو المطلب- لأخذه وقتله برضى قومه، فأبوا ذلك عليهم، ورفضوا تسليمه لهم مع أنهم لم يدخلوا في الإسلام يومذاك؛ عصبية وخوفا من العار..

_ 1 سيرة النبي ج1 ص266، 267.

إن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ظلوا معه عصبية، حتى أن عمه حمزة أسلم بسبب دفاعه عن محمد صلى الله عليه وسلم.. فلقد حدثوا أن أبا جهل مر على محمد صلى الله عليه وسلم وهو عند الصفا فأذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكلمه، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ما قاله أبو جهل، وشاء الله تعالى أن يمر حمزة راجعا من قنص له، متوشحا قوسه، فقالت له المرأة: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم عمرو بن هشام، وجده هنا جالسا فأذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف، ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم، فاحتمل حمزة الغضب، فخرج يسعى، ولم يلتفت إلى أحد حتى أتى أبا جهل، وهو جالس في نادي القوم حول المسجد، فضربه بالقوس، فشج رأسه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد ذلك علي إن استطعت. فقام رجال من بني مخزوم لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وثبت حمزة من ساعتئذ على ما قاله، فأسلم وحسن إسلامه، ويومها عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز -والمسلمين معه- بإسلام عمه حمزة المعروف بينهم بأنه أعز فتى في قريش1. وهكذا دافع عنه أعمامه؛ لمنزلته بينهم، وحسن تعامله، وكرم خُلُقه، ولو كان غير ذلك لخلعوه وتركوه.. أما عمه أبو لهب فقد استمر مع أعداء محمد يناصرهم، ويصد عن سبيل الله تعالى.

_ 1 هذا الحبيب ص67.

ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة

ثالثا: الجهر بالدعوة ومواجهة متاعب أهل مكة استمرت الدعوة سرية مدة عامين ونصف، وبعدها أمر الله رسوله بالجهر بالدعوة.. وهنا أخذ كفار مكة في صرف النبي عن دعوته، وبذلوا لهذا الغرض كل ما أمكنهم، وأهم ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ما يلي: 1- السؤال عن مدى صدق محمد صلى الله عليه وسلم: أخذ كفار مكة يبحثون عن مطعن يوجهونه لمحمد صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا رسلهم إلى أهل الكتاب يسألون عن مدى علمهم بصدق محمد، وكيفية كشف مزاعمه. يقول محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا، حتى أتيا المدينة، فسألوا الأحبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره، وبعض قوله. وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول، فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح، ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقال: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار اليهود أن نسأله عن أمور، وأخبروهم بها. فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، عن كذا وكذا، وسألوه عن الأمور التي حددها الأحبار. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخبركم غدا عما سألتم عنه، ولم يستثن"، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا ينزل عليه من الله وحي، ولا يأتيه جبريل عليه السلام. حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها ولم يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم من انقطاع الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. وبعد خمسة عشر يوما جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، وفيها يعاتبه الله على حزنه عليهم، ويخبره عما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . فلما أخبرهم بنبأ ما سألوا عنه، رجعوا إلى أنفسهم، وعملوا أنه لا طاقة لهم بمواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهة عقلية فكرية؛ ولذا لجئوا إلى العدوان والإيذاء المادي، ونشر الأكاذيب والمفتريات حول محمد ودعوته. 2- موقف أبي لهب منه: لما نزل قول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 خرج رسول الله حتى صَعِدَ النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فهتف: "يا صباحاه". فقالوا: مَن هذا؟!

_ 1 سورة الشعراء آية 214.

فجعل صلى الله عليه وسلم ينادي: يا بني فهر! يا بني عدي! وهكذا لبطون قريش جميعا، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتكم إن أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟! ". قال: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط. قال صلى الله عليه وسلم: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقد تب1. ولم يكتفِ أبو لهب بهذا الموقف، بل أخذ في التصدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يسير خلفه ويقول: إنه كاذب، وأنا أعلم خبره، فهو ابن أخي ... وأخذ هو وزوجته في وضع الشوك والحطب أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعجزه عن الخروج والحركة، وفيه وفي زوجته نزل قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} 2. 3- السخرية والاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم: أخذ كفار مكة يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ توهينا لنفسه، وصرفا للناس عنه، فكانوا ينادونه بالمجنون، يقول الله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب التفسير - باب سورة تبت ج8 ص737، والتباب الخسران والتدمير. 2 سورة المسد.

إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} 1، ويصفونه بالسحر والكذب، يقول سبحانه: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} 2، وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ناقمة، وعواطف هائجة، وكراهية ظاهرة، يقول تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} 3، وكان إذا جلس، وحوله المستضعفون من أصحابه استهزءوا بهم، وقالوا: هؤلاء جلساؤه الذين {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 4، فرد الله عليهم بأنه وحده العليم بحقائق الناس وقلوبهم، وليس لهم أن يتقوَّلوا عليهم، وذلك بقوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 5، فأنكر عليهم بأسلوب يبرز جهلهم وخيبتهم. إن كفار مكة كانوا يتصرفون باستعلاء وجبروت، وهم يتعاملون مع رسول الله وسائر أصحابه، حتى أنهم جعلوا المؤمنين مادة سخريتهم، ودعابة مجالسهم، يتضاحكون من عقيدتهم، ويتغامزون إذا رأوهم، وإذا رجعوا إلى أهليهم تفكهوا بسيرهم، معتقدين أنهم ضلوا عن الحق، بتركهم عبادة الأوثان، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} 6.

_ 1 سورة الحجر آية 6. 2 سورة ص آية 4. 3 سورة القلم آية 51. 4 سورة الأنعام آية 53. 5 سورة الأنعام آية 53. 6 سورة المطففين الآيات 29-33.

4- بث الدعاية الكاذبة عنه: أخذ الكفار يبثون الدعايات الكاذبة حول شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، وعن القرآن الكريم الذي ينزل عليه حتى لا يصدقه أحد، فقالوا عن القرآن ما حكاه الله تعالى في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1، وقالوا عن الرسول: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} 2. وكل ما قالوه ظاهر البهتان؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، ولو كان من عند محمد كما زعموا فما بالهم يعجزون عن الإتيان بأقصر سورة منه؟! ومن هم هؤلاء الآخرون الذين يعينون محمدا؟! إنهم بشر كما يزعمون، فلمَ يتركونهم يفعلون؟! ولِمَ لا يواجهونهم بالتحدى؟! وهل يكتب محمد عنهم وهو أمي؟! لقد جاءوا بالزور والبهتان!! ولِمَ يعترضون على بشرية محمد صلى الله عليه وسلم؟! أيريدونه ملَكا؟! وكيف يتعاملون مع الملَك؟! إن قلوبهم قد عميت، وكل اعتراضهم تبريرات لكفرهم وعتوهم.. وقد رأيناهم يبحثون عن أي علة تساعدهم على كفرهم. ذكروا أن الوليد بن المغيرة قال مرة لقريش: يا معشر قريش! والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم خلقا ومسلكا، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة، ونفثهم وعقدهم.

_ 1 سورة الفرقان الآيتان 4، 5. 2 سورة الفرقان آية 7.

وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة، وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها، هزجه، وزجره.. وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، انظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. ثم ذهب الوليد إلى الحيرة بحثا عن حل يريده، فتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ووقف على أخبار رستم وأسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا للتذكير بالله والتحذير من نقمته، خلفه النضر، وهو يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول: بماذا يكون محمد أحسن حديثا مني1. وما درى الوليد أن حديث محمد صلى الله عليه وسلم مع جماله يتضمن دينا صالحا، ومنهجا طيبا، وطريقا لتحقيق سعادة الدنيا والآخرة، وهو كلام الله.. وأما حديثه فهو خيال كاذب، وإبهار لفظي لا حقيقة فيه، ولا غاية له، ولا فائدة معه. وفي الوليد بن المغيرة المخزومي نزل قول الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 2. وقصته مع القرآن الكريم ومع محمد صلى الله عليه وسلم تشبه ما فعله النضر

_ 1 تفهيم القرآن ج4 ص9. 2 سورة المدثر الآيات 11-25.

ابن الحارث، فلقد ذكروا أن النضر قال: والله لقد نظرت فيما قال محمد، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو ما يعلى عليه، وما أشك أنه سحر، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه فإنك أتيت محمدا تعرض لما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يعلم قومك منه أنك منكر لما قال، وأنك كاره له. قال: فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى. قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أتفكر فيه، فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره1. 5- مساومات وتخليط: حاول الكفار مرات عديدة أن يتعاون معهم محمد صلى الله عليه وسلم في خلط الإسلام بالكفر؛ ليكونا سويا دينا خليطا من هذا وذاك، وأن يعبدوا الله يوما، ويعبد محمد أصنامهم يوما آخر، وهكذا. يروي ابن إسحاق بسنده أن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمي -وكانوا ذوي أسنان في قومهم- اعترضوا محمدا، وهو يطوف بالكعبة، وقالوا له: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما

_ 1 تفسير ابن كثير ج4 ص443.

نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 1 2، فكانت المفاصلة الكاملة بين الإيمان والكفر. 6- الاضطهاد البدني: كان أشد الناس إيذاء لرسول الله جيرانه، وعلى رأسهم عمه أبو لهب، يقول ابن إسحاق: كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي -وكانوا جيرانه- لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص فإنه أسلم فيما بعد، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاه، وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه، ثم يقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق3. وازداد عقبة بن أبي معيط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم "وهو عقبة بن أبي معيط" فجاء به، فنظر،

_ 1 سورة الكافرون. 2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص361. 3 سيرة النبي ج1 ص416.

حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغني شيئا، فجعلوا يضحكون، ويميل بعضهم على بعض، مرحا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه حتى جاءته ابنته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: "اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، وقد سمى الرسول في دعائه فقال: "اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط"، وعد السابع فلم نحفظه، فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذي عد رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر1. وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، وفيه نزل قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} 2 قال ابن هشام: الهماز: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به، والهمز هو الشتم نفسه، واللماز: الذي يعيب الناس سرا ويؤذيهم3، واللمزة هي العيب والأذى. أما أخوة أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين، جلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيا أنبه وعاتبه، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبي بن خلف نفسه هو الذي فت عظما رميما، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم4. وكان الأخنس بن شريق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه من خلق رديء، وهي في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} 5.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب الوضوء - باب إذا ألقي على المصلي قذر أو جيفة 1/ 37. 2 سورة الهمزة آية 1. 3 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص356، 357. 4 نفس المصدر 1/ 361، 362. 5 سورة القلم الآيات 10-13.

وكان أبو جهل يجيء أحيانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن، ولا يطيع، ولا يخشى، ويؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالا بما يفعل، فخورا بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئا يذكر، وفيه نزل قول الله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} 1. وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا، فنزل قول الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} 2. ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد، أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم! فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه مهرولا، ويتقي بيديه. فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار، وهولا، وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لأختطفته الملائكة عضوا عضوا" 3.

_ 1 سورة القيامة الآيات 31-35. 2 سورة العلق آية 17. 3 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص126.

7- محاولة قتل محمد صلى الله عليه وسلم: وصل حد كراهية القوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن كفار مكة حاولوا قتله، من ذلك أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} 1 و {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} 2، ثم تسلط على الرسول بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم، إلا أن البزاق لم يقع عليه، وحينئذ دعا عليه صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك". وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له: الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه3. وفي رواية هشام عن عروة عن أبيه: أنه لما طاف الأسد بهم تلك الليلة انصرف عنهم، فجعلوا عتيبة وسطهم، فأقبل الأسد يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه4. ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان5. ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل: يا معشر قريش، إن محمدا قد أبَى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلس

_ 1 سورة النجم آية 1. 2 سورة النجم آية 8. 3 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص135. 4 المرجع السابق ص136. 5 المصدر السابق ص113.

له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامضِ لما تريد. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم، ينتظرون ما يفعله أبو جهل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، احتمل أبو الجهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه، مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده. وقام إليه رجال قريش، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ول أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني. قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه1. أما طغاة قريش فلم تزل فكرة قتل النبي صلى الله عليه وسلم تنضج في قلوبهم، وتكبر في عقولهم وتفكيرهم، روى ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك من وجهه صلى الله عليه وسلم.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص298، 299.

ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: "أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح"، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر، واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا. فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط1. وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ 2 وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه، وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئا من غدائره إلا رجع معا3. ولم نغادر فكرة قتله صلى الله عليه وسلم عقولهم، وبخاصة بعدما رأوا انتشار الإسلام، وصلابة المسلمين، وتأكدوا أن بقاء محمد صلى الله عليه وسلم سوف يؤدي إلى القضاء على عبادة الاصنام، وحرمانهم من السيادة والتسلط، وكان آخر محاولتهم مؤامرة ليلة الهجرة.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص289، 290، والغمز: الطعن والسب، ووصاة: أي توصية بالسوء، ويرفأ: أي يترفق. 2 صحيح البخاري - باب ذكر ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة 1/ 544. 3 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص113.

8- نتائج الاضطهاد: مع الجهر بالدعوة وخروج الرسول للعلن والمواجهة بدأ كفار مكة في إيذاء الرسول وأصحابه. وكان الاضطهاد في بدايته قليلا ضعيفا، ثم أخذ يشتد شيئا فشيئا، حتى وصل إلى حد التآمر، والتخطيط لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتيجة لهذا التصعيد في الاضطهاد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع أصحابه في دار الأرقم ليعلمهم الإسلام بعيدا عن كفار مكة، كما أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر إليها كثير من أصحابه. وقد حاول كفار مكة اعتقال المهاجرين، والفتك بهم، لكنهم فشلوا، ورأى المشركون والكفار أن أغلب المسلمين تركوا مكة، وتركوا محمدا صلى الله عليه وسلم مع قلة قليلة من أصحابه في مكة، وهاجروا إلى الحبشة، وغاظهم أن محمدا لم يضعف، ولم يترك دعوته.. فذهبوا إلى عمه أبي طالب، وقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. عظم علي أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا كذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال: "يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك فيه"، ثم استعبر وبكى، وقام. فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل قال له: اذهب يابن أخي، فقل ما

أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا1، وأنشد: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذاك منك عيونا2 فلما لم يحقق ذهابهم نتيجة يرجونها من أبي طالب، رجعوا بحيلة أخرى حيث ذهبوا إليه بعمارة بن الوليد؛ ليأخذه ويعطيهم محمدا، فأبَى وقال لهم: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا3. وذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم محاولين مساومته، يقول ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما، وهو في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد، فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه.. فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت بمن مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع". قال عتبة: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص265، 266. 2 مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص68. 3 وقد سبق ذكر هذه المحاولة في ص331.

من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت تريد به مُلْكا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه، لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. ولما فرغ عتبة من حديثه. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوقد فرغت يا أبا الوليد؟ ". قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاسمع مني". قال: أفعل. فقال صلى الله عليه وسلم: {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السورة يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك". فلما رجع عتبة إلى قومه رأوا فيه ما لا يريدون، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم،

فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سَحَرَك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم1، وماذا أقول فيه؟ والله إنه ليس من كلام الإنس، ولا من كلام الجن. فقال له أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: دعى أفكر فيه، لما اجتمع بقومه قال وقد حضر الموسم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، أقم لنا رأيا نقول فيه. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، فقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن، ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: والله ما هو بمجنون فقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص293، 294.

قال: والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه، ولا بعقده. قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لمثمر، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر، فما يقوله سحر يفرق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروه لهم. وأنزل الله تعالى في الوليد قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} . 9- أبو طالب يحتاط للأمر: رأى أبو طالب أن الكفار والمشركين قد اشتدت عداوتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورأى أنهم لن ينتهوا من مكائدهم إلا إذا تخلصوا من محمد صلى الله عليه وسلم بأي وسيلة ممكنة وذلك عار يلحق ببني عبد مناف، يتحدث به العرب كلهم، فجمع أبناء عبد مناف، وهم: بنو أمية، وبنو عبد شمس، وبنو المطلب، وبنو نوفل، وبنو هاشم، وعرض عليهم خطورة الأمر، وضرورة التكاتف، والاتحاد في مواجهة عدوان كفار مكة

على ابن أخيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فوافقه بنو هاشم وبنو المطلب، وأخذوا على أنفسهم الميثاق على حماية محمد صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، وعدم تسليمه إلى الكفار أبدا، واتفقوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، ولم يشذ من هذين البطنين إلا أبو لهب، فإنه انحاز مع كفار مكة ضد محمد ودعوته؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كنا وبنو المطلب معا في الجاهلية والإسلام". 10- المقاطعة العامة: لما رأى كفار مكة أن بني هاشم وبني المطلب تواثقوا وتعاهدوا جميعا على حماية محمد صلى الله عليه وسلم عملوا على مقاطعتهم، وعدم التعامل معهم مطلقا، وتحالفوا على ألا يجالسونهم، ولا يبيعونهم، ولا يشترون منهم، ولا يدخلون بيوتهم، ولا يكلمونهم، ولا يتزوجون منهم، ولا يزوجوهم حتى يسلموا محمدا لقتله، والانتهاء من أمره، وكتبوا بذلك ميثاقا علقوه في جوف الكعبة. واستمرت المقاطعة ثلاث سنوات، واشتد الأمر على بني هاشم وبني المطلب حتى أكلوا ورق الشجر، وحوصروا في شعبهم، لا يخرجون منه إلا في الأشهر الحرم للتعامل مع وفود الحج والعمرة، وكان أهل مكة يزايدون عليهم لحرمانهم من كل خير؛ حيث منعوا أن يتصل بهم أحد من القبائل البعيدة عن مكة، وكانوا إذا رأوا تجارة قادمة سارعوا بشرائها قبل أن تصل إلى المحاصرين في الشعب، مبالغين في ثمنها. ودام الحال على ذلك حتى قضى الله بنقض المقاطعة، وتمزيق الميثاق المكتوب1.

_ 1 سيأتي حديث مفصل عن انتهاء المقاطعة في الفصل التالي.

المبحث الثالث عشر: عام الحزن

المبحث الثالث عشر: عام الحزن ... المبحث الثالث: عام الحزن ويشاء الله تعالى أن يتعرض محمد صلى الله عليه وسلم لامتحان شديد.. فبعد مضي عشر سنوات من بعثته يموت عمه أبو طالب، وتموت زوجته خديجة بعده بأيام قليلة. كان النبي صلى الله عليه وسلم يجد من كل منهما العون والمساعدة، فلقد قام عمه بحمايته والتصدي لأعدائه، وتحمل من أجل ذلك، ومعه بنو هاشم وبنو المطلب مقاطعة قريش العامة، وقد كان من ورائها الضرر الكبير. وزوجته خديجة نعم الزوجة، أمانة ووفاء، كانت عاقلة، وكانت كاملة، عاشرت النبي خمسا وعشرين سنة، وعاملته بكل الرقة والحنان والحب، وكانت تتابع أخباره وتسليه، وتحاول إرضاءه بعقلها، وحكمتها، وتعاونه بما لها، وبكل ما يمكنها. يروي أنس بن مالك رضي الله عنه حادثة تدل على حكمة خديجة، وحسن تصرفها، وكمال عقلها. يقول أنس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة فأذن له، وبعث أبو طالب بعده جارية له يقال لها: "نبعة" فقال لها: انظري ما تقول له خديجة؟.. وما يقول لها؟.. بحثا عن سر ما يراه بينهما من مودة وما يلمسه من ترابط. قالت نبعة: فرأيت عجبا، ما هو إلا أن سمعت به خديجة، فخرجت إلى الباب، فأخذته بيده فضمتها، إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي يبعثك لي.

فقال لها صلى الله عليه وسلم: "والله لئن كنت أنا هو، فقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن يكن غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا" 1. يفقد الرسول صلى الله عليه وسلم أبا طالب هذا، وخديجة هذه، في عام واحد، بل وفي أسبوع واحد. ولذلك تألم كثيرا، وسُمي هذا العام عام الحزن.. والموت قدر الله على جميع الخلق فـ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ورسول الله صلى الله عليه وسلم أول المؤمنين بقدر الله تعالى، وهو أول الصابرين، وكان حزنه في حدود القدر المشروع. وقضاء الله في موت أبي طالب وخديجة يتضمن حِكَما جليلة، منها: * بيان أن حبيبه صلى الله عليه وسلم قدوة كاملة في الصبر الأمثل، والتأسي الجميل، لقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يبتلى به الإنسان فلم يجزع، ولم يفرق، ولكنه كان خير معتصم بجناب ربه، وأفضل لائذ بحمى مولاه، وليس غريبا على الذي فقد أباه قبل أن يولد، وأمه وهو في الخامسة، وجده الذي كان عوضا عن والده وهو في الثامنة، وأولاده الذين يعتبرهم الناس زينة الحياة الدنيا وعزاه الله عن ذلك عزاء جميلا، ليس غريبا أن يعزيه الله أيضا عن فقد العم وفقد الزوجة، وعزاء الله خير عزاء. * أراد الله أن تقولم أعمدة الإسلام على كواهل المسلمين أنفسهم، فلقد كان أبو طالب ينصر المسلمين مع احتفاظه بشركه، فربما لو امتدت حياته حتى انتصار الإسلام، وقيام دولة المسلمين، لنسب الناس ذلك إلى زعامة هذا العم ومعاضدته، ولكن الله كان أغير على دينه، وأحرص على توطيده بجنود الإيمان وأبناء الإسلام؛ ولذلك كانت الوفاة قبيل الهجرة بزمن وجيز.

_ 1 فتح الباري ج7 ص134، 135.

أما إطلاق عام الحزن على هذا العام فليس مرده إلى حزن النبي صلى الله عليه وسلم على فقد عمه وزوجه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أصبر من أن تهزه أحداث الموت، ولو كانت مزلزلة، وهو أعرف الناس بالله، وأقربهم منه، وما شغل قلبه إلا بالدعوة الإسلامية، والحرص على إبلاغها للناس، والحرص على هدايتهم.. هذا هو الذي أحزنه، أحزنه أن هذه الوفاة سيكون لها أثر في انطلاق وحوش قريش، يقطعون الطريق في وجه الدعوة ويبطشون بكل من يعلن إسلامه. إن حزن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أجل انتصار الإسلام، ونجاح الدعوة، وكان يتألم كثيرا حينما يرى كفر قومه، وانصرافهم عن دين الله، يقول تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} 1. ويقول سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 2. وقد حاول النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعين بغير أهل مكة بعد وفاة عمه، فقام بمحاولتين داعيا إلى الله تعالى: المحاولة الأولى: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف في الطائف، واصطحب معه زيد بن حارثة رضي الله عنه مولاه. والطائف بلدة لطيفة، كثيرة الثمر، معتدلة المناخ، تقع شرقي مكة على مرتفع عال، وهي مشهورة بعنبها، وتينها، ورمانها، وتمرها، وأزهارها، وحدائقها الفيحاء، ولما وصل الرسول إليها ومعه زيد بن حارثة عمد إلى حيث يجتمع سادة

_ 1 سورة الكهف آية 6. 2 سورة الأنعام آية 33.

ثقيف، فجلس إليهم، وكلمهم فيما جاء له، من طلب نصرتهم للإسلام، والقيام معه على من خالفه، على أن يعيش بينهم. بدأ حديثه يأخذ بأفئدة أغلب الحاضرين، ويؤثر -كعادته- فيمن يصغون إليه، وإذا بثلاثة إخوة من أشراف ثقيف، ممن لهم الرأي المسموع فيها، يقطعون عليه حديثه، وهم: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، أبناء عمرو بن عمير. فقال أحدهما مكذبا: أقطع ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك يا محمد! وقال الثاني: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم قدرا من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك1. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من إيمان ثقيف، وقد قال لهم: "إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني"، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه، فيثيرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، فدخله ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل شجرة من عنب، فجلس تحته، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف. فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" 2.

_ 1 سيرة ابن هشام ج1 ص419. 2 الكامل في التاريخ ج1 ص345.

يصور الحديث الصحيح الوارد في البخاري فعل ثقيف وقسوتهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أُحُد؟ قال: "لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد، لك ما شئت فيهم، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت" -والأخشبان: هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قيقعان- قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا" 1. وهكذا كانت رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فبرغم ما لاقاه من ثقيف ومن أبناء عمرو بن عمير لم يدعُ عليهم، وإنما دعا لهم صلى الله عليه وسلم. المحاولة الثانية: عرض نفسه على القبائل أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب الآتين للمواسم حاجين أو معتمرين، وكان يطلب منهم أن يؤمنوا بالله تعالى، ويتركوا عبادة الأصنام والأوثان، على أن يخرج معهم إلى ديارهم؛ ليمنعوه من غدر قريش وعداواتها، حتى يتمكن من تبليغ رسالة الله، وتوصيل دينه إلى الناس. فمنهم من لم يؤمن بدعوته، ورده ردا قبيحا. ومنهم من لم يؤمن به.. ولكنه وعد بحمايته.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق ج1 ص458.

ومنهم من كان بينه وبين الفرس مواثيق تمنعه من الإيمان ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان على رأس من لم يؤمن بدعوته من القبائل، ورد عليه ردا قبيحا قبائل كندة، وكلب، وبني حنيفة. يتكلم محمد بن عمر الأسلمي عن بني حنيفة فيقول: نسأل الله ألا يحرمنا الجنة، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبالمجنة وبذي المجاز، يدعونا إلى الله -عز وجل- على أن نمنع له ظهره، حتى يبلغ رسالات ربه، ويشرط لنا الجنة، فما استجبنا له، ولا رددنا عليه ردا جميلا، فخشنا عليه وحلم عنا1. يروي مدرك بن منيب عن أبيه عن جده فيقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وهو يقول: "يأيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بعس من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: "يا بنية، لا تخشى على أبيك غلبة ولا ذلة"، فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي جارية وضيئة2. ومن القبائل التي أحسنت لقاء النبي صلى الله عليه وسلم بنو شيبان بن ثعلبة، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه، ومعنا أبو بكر، ثم ذهبنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة. فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي وأمي هؤلاء غرر الناس، وفيهم مغروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مغروق قد غلبهم لسانا وجمالا، وكانت له غديرتان تسقطان على ثريبته،

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص595. 2 سبل الهدى والرشاد ج2 ص594.

وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر. فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مغروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مغروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى، لعلك أخا قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا. فقال مغروق: إلامَ تدعونا يا أخا قريش؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت على الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد". فقال مغروق: وإلامَ تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلاما أحسن من هذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1. فقال مغروق: دعوت -والله- إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك. ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا.

_ 1 سورة الأنعام آية 151.

فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا، واتباعنا دينك لمجلس واحد جلست إلينا فيه، لا أول له ولا آخر، لذل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، إن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدا، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر. ثم كأنه أحب أن يشركه المثني بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا، وصاحب حربنا. فقال المثني: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا، ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صريين: أحدهما اليمامة، والآخر السمامة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذان الصريان؟ " قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى: ألا نحدث حدثا، ولا نؤوى محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم، أتحبون الله تعالى وتقدسونه؟ " فقال النعمان: اللهم فلك ذاك. فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 1. ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم2.

_ 1 سورة الأحزاب آية 45، 46. 2 دلائل النبوة لأبي نعيم ص237.

ومن القبائل التي أعلنت استعدادها لإيواء النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم الإيمان به بنو كعب بن ربيعة، كاد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب معهم لولا طاغية من طغاة البشر ردهم عما عزموا عليه. يروي أبو نعيم عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عكاظ فقال: "من القوم؟ ". قلنا: من بني عامر بن صعصعة بنو كعب بن ربيعة. فقال: "إني رسول الله إليكم، أتيتكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي، ولا أكره أحدا منكم على شيء". قالوا: لا نؤمن بك، وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك. فأتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال: من هذا الرجل الذي أراه عندكم أنكره؟ قالوا: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. قال: فما لكم وله؟ قالوا: زعم أنه رسول الله، فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه. قال: ما رددتم عليه؟ قالوا: بالرحب والسعة نخرجه إلى بلادنا ونمنعه مما نمنع منه أنفسنا. فقال ببحرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به! أتعمدون إلى رهيق قوم طردوه وكذبوه فتؤووه وتنصروه، تنابذوا العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، فبئس الرأي رأيكم، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه سلم فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك1. ونلاحظ أن أهل مكة لم يتركوا محمدا يتصل بالناس، بل سلطوا عمه أبا لهب وأبا جهل يسيران خلفه، أحدهما بعد الآخر بالتناوب، وكلما خاطب قوما

_ 1 سبل الهدى والرشاد ج2 ص595.

ودعاهم إلى الله يقول أبو لهب، ويقول أبو جهل: يا بني فلان، إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وتتركوا حلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوا، ولا تسمعوا منه. يقول طارق بن عبد الله: إني بسوق ذي المجاز، إذ مر رجل بي عليه حلة من برد أحمر، وهو يقول: "يأيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجل خلفه قد أدمى عرقوبيه وساقيه يقول: يأيها الناس، إنه كذاب فلا تطيعوه. فقلت: من هذا؟ قالوا: غلام بني هاشم الذي يزعم أنه رسول الله، وهذا عمه عبد العزى1 "أبو لهب". ويروي الإمام أحمد بسنده عن رجل من كنانة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وهو يقول: "يأيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا". وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، يقول: يأيها الناس، لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى. يتبعه حيث ذهب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه، وما يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه2.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص423. 2 سيرة ابن كثير ج2 ص156.

المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة

المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة أولا: سودة بنت زمعة رضي الله عنها ... المبحث الرابع: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة بعد وفاة خديجة رضي الله عنها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم غيرها، وهو في مكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، فعقد على عائشة في مكة، ودخل بها في المدينة، وتزوج سودة بنت زمعة، ودخل بها في مكة، وتزوج أيضا أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين؛ حيث عقد عليها وهي في الحبشة، ودخل بها بعد عودتها إلى المدينة بعد الهجرة. وهذا تعريف بهولاء الزوجات: أولا: سودة بنت زمعة رضي الله عنها روى ابن إسحاق -من طريق يونس بن بكير- أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خديجة ودخل بها في مكة قبل الهجرة، ولم يصب منها ولدا، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول عنها: ما رأيت من امرأة أحب إلى أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة1. يورد ابن كثير قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بسودة وعائشة، فيقول: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم، امرأة عثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ألا تتزوج؟ قال: "مَن؟ ". قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا. قال: "فمن البكر؟ ". قالت: أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر. قال: "ومن الثيب؟ ".

_ 1 الطبقات الكبرى ج8 ص57.

قالت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك. قال: "فاذهبي فاذكريهما علي"، فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة. قالت: انظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر، فقلت: يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة. قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له. قال: "ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي"، فرجعت فذكرت ذلك له، قال: انتظري، وخرج، ثم رجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته، فزوجها إياه، وعائشة يومئذ بنت ست سنين. ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت لها: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه. قالت: وددت، ادخلي إلى أبي بكر "والدسودة" فاذكري ذلك له، وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن، فدخلت عليه وحيته، فقال: من هذه؟ قالت: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة.

فقال: كفؤ كريم، ماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذلك. قال: ادعيها إلي، فدعتها، قال: اي بنية، إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفؤ كريم، أتحبين أن أزوجك به؟ قالت: نعم. قال: ادعيه لي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه1. وقد شكت سودة ظروفها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولت أن تعتذر عن الزواج به، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يمنعك مني؟ ". قالت: والله يا نبي الله ما يمنعني منك ألا تكون أحب البرية إلي، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية. قال: "فهل منعك مني غير ذلك؟ ". قالت: لا والله، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحمك الله، إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل صالحو نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده" 2. وهي التي وهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة، وذلك حينما كبرت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة3. ونفهم من رواية الصحيحين أنها كانت امرأة -مع كبر سنها فيما بعد- كبيرة الجسم حتى أنها لتعرف وتميز بين النساء إذا مشت، حتى قال عمر ذات يوم وقد خرجت سودة ليلا: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا4. وتصفها بعض الروايات بأنها كانت ثقيلة، ثبطة، بطيئة الحركة؛ ولهذا استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع "مزدلفة" في الدفع قبل حطمة الناس فأذن لها5.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص131. 2 البداية والنهاية ج3 ص133. 3 صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب كثرة النساء ج8 ص127. 4 صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب خروج النساء لحوائجهن ج8 ص201. 5 صحيح البخاري - كتاب الحج - باب من قدم من ضعفة أهله ج3 ص166.

ثانيا: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها

ثانيا: عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها بعد وفاة خديجة بثلاث سنين1، والذي يظهر من غالبية الروايات أن عقده صلى الله عليه وسلم كان بمكة وعمرها ست سنوات، أما الدخول بها فكان بالمدينة وهي بنت تسع سنين2. ومما يؤكد صغر سنها حين الزواج لعبها مع البنات عند رسول الله، ومجيء صواحب لها ينقمعن من رسول الله، فيسربهن إليها3. وقد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، فقال أبو بكر: إنما أنا أخوك! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال". أما عن كيفية دخوله صلى الله عليه وسلم بها، فتحدثنا عائشة وتقول: تزوجني النبي صلى الله عليه سلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحرب بن خزرج، فوعكت، فتمرق شعري فوفى جميمه، فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة، ومعي صواحب لي، فصرخت بي، فأتيتها لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمتني إليه وأنا يؤمئذ بنت تسع سنين4. وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة كان بعد رؤيا رآها في المنام تكررت مرتين كما في البخاري5، أو ثلاث مرات كما في مسلم6.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ج6 ص163. 2 صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب تزويج عائشة ج6 ص201. 3 صحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب فضل عائشة ج15 ص204. 4 صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب البناء بالنهار ج8 ص166. 5 صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب نكاح الإبكار ج8 ص131. 6 صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب فضائل عائشة ج15 ص202.

يقول صلى الله عليه وسلم: "جاءني بك الملَك في سرقة من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب، فإذا أنت هي، فقلت: إن يك هذا من عند الله يمضه" 1. وعائشة رضي الله عنها هي الوحيدة من بين أزواجه صلى الله عليه وسلم التي تزوجها وهي بكر؛ ولهذا كانت تظهر هذا الفضل، وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، رأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟! قال: في التي لم يرتع منها، تعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها2. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لعائشة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرك. مكثت عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، ومات عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة. وفي فضلها قال صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 3، وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يقرئها السلام4. وقد اختصت من بين سائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه وهو في لحافها، أخبر عن ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول لأم سلمة: يا أم سلمة، لا تؤذيني عائشة، فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها5. ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لم تكن تخفى على المسلمين، حتى لقد كانوا يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة6.

_ 1 واللفظ للبخاري ومسلم معا. 2 صحيح البخاري - كتاب النكاح - باب نكاح الإبكار ج8 ص131. 3 صحيح مسلم - كتاب الفضائل ج15 ص199. 4 صحيح مسلم - كتاب الفضائل ج15 ص210. 5 صحيح البخاري - كتاب المناقب ج6 ص143. 6 صحيح مسلم - كتاب الفضائل ج15 ص205.

وعائشة رضي الله عنها هي التي قبض النبي صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها -كما كانت تقول1- لأنه صلى الله عليه وسلم لقي ربه وهو في حجرها، وكان آخر عهده أن بل ريقها ريقه رضي الله عنها.

_ 1 المرجع السابق ج15 ص208.

ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان

ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان أم حبيبة هي رملة بنت أبي سفيان، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش الأسدي، وفارقته بعدما تنصر، وارتد، فعقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأنكحها النجاشي للنبي صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعمائة دينار ذهبا. ودخل بها صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد أن عادت من هجرتها1. وهي التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم الزواج بأختها عروة بنت أبي سفيان، فعجب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وقال: "أوتحبين ذلك؟! " قالت: نعم. وتعلل ذلك، وتقول لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في الخير أختي، فرد عليها: "إن ذلك لا يحل لي". وإنما عقد النبي صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة تكريما لها، وتقديرا لتمسكها بالإسلام، وعوضا لها عن مفارقة زوجها.

_ 1 جوامع السيرة ص35.

المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى

المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى النصر الأول: إسلام عداس ... المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله تعالى بذل النبي صلى الله عليه وسلم جهده في دعوة أهل الطائف، وفي عرض نفسه على القبائل، ومع ذلك لم يتحقق له ما يتمنى؛ حيث رده أهل الطائف ردا قبيحا، ولم تؤمن القبائل بدعوته، ورفضت إجارته خوفا من عداء قريش، وتأثرا بما كان أبو لهب وأبو جهل يذكران عنه. وكانت معونة الله مع عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث يسر له من أمره رشدا، ولم يخرج من جهاده مع الناس خالي الوفاض، فحقق له عددا من الانتصارات التي ترضيه؛ رحمة من الله وفضلا، وأهمها ما يلي: النصر الأول: إسلام عداس بعدما ردت ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة السيئة -التي ذكرتها- أخذ صلى الله عليه وسلم في العودة إلى مكة مرة أخرى. وعندما وصل إلى بستان بني ربيعة جلس تحت ظل شجرة ليستريح، وأخذ يدعو ربه، ويستغيث به ... فاستجاب الله له، وجاءه نصر الله، حتى لا يعود لمكة خاوي الوفاض، فكان إسلام عداس. وقصة إسلام عداس أنه صلى الله عليه وسلم لما جلس تحت الشجرة رآه عتبة وعتيبة ابنا ربيعة وعلما ما وقع له، فتحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له: عداس؛ ليعطيه شيئا من الفاكهة تعينه على هذه المتاعب وقالا له: خذ قطفا "من هذا" العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل. فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال: "باسم الله"، ثم أكل.

فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ ". قال عداس: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى". فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي"، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه، وأسلم. وهكذا أسلم عداس في أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم من رحلته إلى الطائف. وأما أبناء ربيعة فقد قالا لعداس: ويلك يا عداس؟ ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟! فقال لهما: لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي1.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص421.

النصر الثاني: إسلام الجن

النصر الثاني: إسلام الجن حين انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف، راجعا إلى مكة، وعند وادٍ في طريق مكة يسمى "نخلة" قام صلى الله عليه وسلم في جوف الليل يصلي، فأتاه سبعة من جن نصيبين، استمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته، أعلنوا إيمانهم وإسلامهم، ثم انصرفوا إلى قومهم دعاة، يحملون الإسلام إليهم، ويوضحون تعاليمه ومزاياه، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى

الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1، وقد نزلت قصتهم كاملة في سورة الجن. وهكذا بدأ خلق آخر يدخلون في الإسلام، ويهتمون بالدعوة إليه.. ومن سياق الآيات يتضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بحضور هذا النفر من الجن. لقد كان إيمان الجن نصرا آخر، أمده الله به، من كنوز غيبة المكنون، ولله جنود لا يعلمها إلا هو. ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث تحمل في طياتها بشارات نجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتؤكد أن سائر قوى الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها، يقول الله تعالى: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2، ويقول سبحانه: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} 3.

_ 1 سورة الأحقاف الآيات 29-32. 2 سورة الأحقاف آية 32. 3 سورة الجن آية 12.

النصر الثالث: إجارة المطعم بن عدي

النصر الثالث: إجارة المطعم بن عدي لما خرج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عزمت قريش على منعه من العودة إلى مكة، حتى لا يجد مكانا يأويه، أو أناسا يحمونه.. ومع ذلك نوى رسول الله العودة إلى مكة.

قال له زيد بن حارثة رضي الله عنه رفيقه في رحلة الطائف: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه". وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم صوب مكة، حتى وصل حراء فمكث بها، وأخذ يبحث عن شخص يجيره وينصره.. فأرسل رجلا من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال الأخنس: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث الرجل إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. فبعث الرجل إلى المطعم بن عدي، فرد المطعم ردا جميلا وقال: نعم، ثم تسلح، ودعا بنيه وقومه، وقال لهم: إلبسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدا فلا يهجه أحد منكم. وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته. وقيل: إن أبا جهل سأل مطعما: أمجير أنت أم متابع -مسلم-؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت.. وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" 1.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب الجهاد - باب ما مَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم به على الأسارى ج5 ص226، ط. الأوقاف.

النصر الرابع: أضواء وسط ظلام القبائل

النصر الرابع: أضواء وسط ظلام القبائل ظلت القبائل على كفرها، وردوا على رسول الله حين عرض نفسه عليهم ردودا مختلفة، وكان لموقف القبائل أثر مؤلم على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأبَى الله إلا أن يكرم محمدا صلى الله عليه وسلم ببعض الخير، فتشرق عليه أضواء من بين هذه القبائل، وذلك بإسلام أفراد منهم، ودخولهم في دين الله تعالى، وعلى رأس هؤلاء المسلمين: 1- سويد بن الصامت رضي الله عنه: وهو رجل من بني عرف بن مالك الأوسي، جاء إلى مكة حاجا أو معتمرا، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله، وإلى الإسلام. فقال له سويد: فلعل الذي معك هو الذي معي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما الذي معك؟ ". قال: معي مجلة لقمان؛ يعني: حكمة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعرضها عليَّ". فعرضها عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الكلام حسن، والذي معه أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي، هو هدى ونور"، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا لقول حسن وأسلم، ثم انصرف عنه1. 2- إياس بن معاذ رضي الله عنه: إياس بن معاذ من بني عبد الأشهل وهم من الأوس، جاء وهو صغير مع قومه يلتمسون الحلف مع قريش؛ لينتصروا بهم على الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم، وجلس معهم وقال لهم: "هل لكم في خير مما جئتم له؟ ".

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص427.

فقالوا له: وما ذاك؟ قال: "أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب"، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ: هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر -أنس بن رافع- حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج. ثم لم يلبس إياس بن معاذ أن هلك، يقول محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما، لقد استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع1. 3- أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: لما بلغ يثرب خبر سويد وإياس رضي الله عنهما، وإنهما سمعا محمدا صلى الله عليه وسلم وآمنا بدعوته، بدأ أهلها في التفكير في أمر محمد، وبخاصة أهل الرأي فيهم، ومنهم أبو ذر الغفاري، أخذ أبو ذر يفكر في الإسلام، وهو في يثرب، فقال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فأعلمني علم هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني. فانطلق أخوه حتى قدم مكة، ولقي محمدا صلى الله عليه وسلم، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر. فقال أبو ذر: ما شفيتني مما أردت، فتزود أبو ذر، وحمل شنة له فيها ماء، حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي رضي الله عنه فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم

_ 1 المصدر السابق ج1 ص427، 428.

يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. فلما أصبح أبو ذر، احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي لا يراه حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه. مر به علي في مضجعه فقال له: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه عنده، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني، ما الذي أقدمك؟ قال أبو ذر: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنني فعلت، ففعل، فأخبره. قال علي: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه، حتى دخل علي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه سلم، ودخل أبو ذر معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك، فأخبرهم حتى يأتيك أمري". قال أبو ذر: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه. وأتى العباس فأكب عليه ثم قال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار؟ وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه1. 4- الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه: الطفيل شيخ من شيوخ قبيلة دوس، إحدى قبائل اليمن، قدم الطفيل مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، فقالوا له: يا طفيل، إنك

_ 1 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب إسلام أبي ذر ج6 ص182.

قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك، وعلى قومك، ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه، ولا تسمعن منه شيئا. يقول الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، وحشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا خوفا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت منه قريبا، فأبَى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب، شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟! فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته. فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل لبيته دخلت عليه. فقالت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لكي لا أسمع قولك، ثم أبَى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض عليَّ أمرك، فعرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق1. 5- ضماد الأزدي رضي الله عنه: ضماد رجل من اليمن، كان يعمل بالرقيا من الجن، قدم مكة، فسمع أهلها يقولون: إن محمدا مجنون. فقال: لو أني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص382، 383.

فقال: يا محمد، إني أرقي من هذا الريح، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. أما بعد". فقال ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. فقال ضماد: فقال سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه1.

_ 1 الرحيق المختوم ص152.

النصر الخامس: الإسراء والمعراج

النصر الخامس: الإسراء والمعراج وأكرم الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم برحلة الإسراء والمعراج؛ ليؤنسه ويعرفه بمنزلته عنده، وليبدأ صلى الله عليه وسلم بها مرحلة جديدة في الدعوة إلى الله تعالى. والحديث عن الإسراء المعراج يحتاج إلى تناول نقاط معينة، وهي: 1- مفهوم الإسراء والمعراج: يراد بالإسراء تلك الرحلة التي صحب فيها جبريل عليه السلام محمدا صلى الله عليه وسلم ليلا من البيت الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى، وهو بيت المقدس بإيلياء حيث ركبا معا البُرَاق. ويراد برحلة المعراج صعود جبريل بمحمد صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس إلى السماوات العلا، في معراج أحضره معه جبريل عليه السلام. 2- ثبوت الإسراء والمعراج: والإسراء والمعراج ثبت وقوعهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، وبالسنة النبوية، وبشهادة الصحابة رضوان الله عليهم.

أما القرآن الكريم ففيه يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، ويقول سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 2. وأما السنة فقد أخرج مسلم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه سولم قال: "أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار، ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط به الإنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد

_ 1 سورة الإسراء آية 1. 2 سورة النجم الآيات 1-18.

قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه السلام. فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما فرحبا ودعوا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل. فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام إذا هو أُعطي شطر الحسن فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل عليه السلام. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد

قال: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير، قال الله عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} . ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون عليه السلام، فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا بموسى عليه السلام، فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل. فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟

قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك لا يعودون إليه. ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال. فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فأوحى الله إليَّ ما أوحى ففرض عليَّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى عليه السلام، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال موسى عليه السلام: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخيرتهم. فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب خفف على أمتي، فحط عن خمسا. فرجعت إلى موسى، فقلت: حط عني خمسا. قال موسى عليه السلام: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف". يقول صلى الله عليه وسلم: "فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم حتى قال الله تعالى: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه" 1.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي - باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ج2 ص210-215، يقول القاضي عياض عن هذا الحديث: لم يأتِ أحد بأصوب من هذا الحديث "الشفا ج1 ص179".

وقد روى حديث الإسراء والمعراج ثمان وثلاثون صحابيا وصحابية، بعضهم ذكره مطولا، وبعضهم ذكره مختصرا، وبعضهم زاد جوانب لم تذكر عند الآخرين، وقعت بينهم اختلافات، والقدر المجمع عليه هو أنه صلى الله عليه وسلم أُسري به من مكة إلى بيت المقدس، راكبا البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد، ربط الدابة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين. ثم أتى المعراج، وهو كالسلم، ذو درج يرقى فيها، فصعد فيه، إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها. ثم سلم على الأنبياء الذين في السماوات، بحسب منازلهم، ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم، وإبراهيم الخليل في السادسة والسابعة، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام؛ أي: أقلام القدر بما هو كائن. ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب، وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة. ورأى هناك جبريل على صورته، وله ستمائة جناح، ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، يتعبدون فيه، ثم لا يعودون منه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار، وفرض الله عليه هناك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس؛ رحمة منه، ولطفا بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها، ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ، بعد رجوعه إليه؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم، جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا، فيخبره بهم، وكان الأنبياء أنفسهم يسألون جبريل عليه السلام عن المصاحب له، وعن بعثته.

والقول بأن الصلاة كانت بعد العودة من العروج هو اللائق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أولا مطلوبا إلى الجناب القدسي ليتشرف بالمقام العلوي، وتعرف منزلته عند ربه، وحتى يفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى، ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين، وأظهر شرفه وفضله عليهم، بتقديمه في الإمامة وائتمامهم جميعا صلوات الله عليهم به، وذلك بوحي جبريل عليه السلام لهم في ذلك، ثم خرج صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس فركب البراق، وعاد إلى مكة بغلس، والله سبحانه وتعالى أعلم1. وحتى نقف على ما بين هذه الروايات من اتفاق أو اختلاف أبين ما يلي: أولا: رواة حديث الإسراء: بلغ عدد رواة حديث الإسراء من الصحابة ثمان وثلاثين صحابيا وصحابية، وهم: 1- أبي بن كعب رضي الله عنه. 2- أبو ذر الغفاري رضي الله عنه. 3- بريدة بن عبد الله رضي الله عنه. 4- أسامة بن زيد رضي الله عنه. 5- أنس بن مالك رضي الله عنه. 6- جابر بن عبد الله رضي الله عنه. 7- حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. 8- سمرة بن جندب رضي الله عنه. 9- سهل بن سعد رضي الله عنه. 10- شداد بن أوس رضي الله عنه. 11- صهيب بن سنان رضي الله عنه. 12- عبد الله بن عباس رضي الله عنه. 13- عبد الله بن عمر رضي الله عنه. 14- عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. 15- عبد الله بن أبي أوفَى رضي الله عنه. 16- عبد الله بن سعد بن زرارة رضي الله عنه. 17- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. 18- العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. 19- عثمان بن عفان رضي الله عنه. 20- علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 21- عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 22- مالك بن صعصعة رضي الله عنه.

_ 1 تفسير ابن كثير ج3 ص22.

23- أبو بكر الصديق رضي الله عنه. 24- أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه. 25- أبو الحمراء رضي الله عنه. 26- أبو الدرداء رضي الله عنه. 27- أبو سعيد الخدري رضي الله عنه. 28- زيد بن حكيم رضي الله عنه. 29- أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه. 30- أبو سلمة بن دحية رضي الله عنه. 31- أبو ليلى الأنصاري رضي الله عنه. 32- أبو سلمى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم. 33- أبو هريرة رضي الله عنه. 34- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. 35- أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها. 36- أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 37- أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها. 38- أم هاني رضي الله عنها1. وقد أورد السيوطي مختلف الروايات بأسانيدها في كتابه "الخصائص الكبرى" ونقلها عنه العلامة الشيخ/ يوسف النبهاني في كتابه "حجة الله على العالمين"، فليرجع إلى أيهما من أراد الاطلاع عليها. ثانيا: الزيادات الواردة عن رواية أنس المذكورة وردت زيادات في بعض الروايات زائدة عن رواية أنس بن مالك رضي الله عنه التي نقلتها من صحيح مسلم وجعلتها أساسا لسائر الروايات، وسأحاول هنا ذكر هذه الزيادات لتتضح صورة الإسراء والمعراج كاملة، وهي: أ- أخرج البخاري بسنده عن أنس، قال: ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يُوحى إليه بالإسراء وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم. فقال أحدهم: خذوا خيرهم. وفي ليلة أخرى أتوه وهو نائم فحملوه ووضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين نحره إلى لبته، حتى فرغ من صدره

_ 1 أورد ابن كثير حصر هذه الأسماء في تفسيره ج3 ص24، كما ذكرهم صاحب كتاب "حجة الله على العالمين" ص337.

وجوفه فغسله بماء زمزم بيده، حتى ألقى جوفه، ثم أتى بطشت من ذهب، محشو إيمانا وحكمة، فحشى به صدره ولغاديده "عروق حلقه"1. ب- وأخرج أحمد عن طريق أنس: أن النبي أتر بالبراق ليلة أسرى به، مسرجا، ملجما، ليركبه، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ فوالله ما ركبك خلق قط أكرم على الله منه، فأرفض البراق عرقا، ثم قر حتى ركبه صلى الله عليه وسلم2. ج- وأخرج ابن عساكر والبيهقي بسندهما عن حديث أبي سعيد الخدري يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة، ونفس طيبة، فاجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار، فيقول: روح خبيئة، ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين. ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأخونة عليها لحم، قد أروح وأنتن، عندها ناس يأكلون منها، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يتركون الحلال، ويأتون الحرام. ثم مضت هنيهة فإذا بأقوام بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر يقول: اللهم لا تقم الساعة، وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمعتهم يضجون إلى الله، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا: {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل، فتفتح أفواههم، ويلقمون حجرا، ثم يرضخ من أسافلهم، فسمعتهم يضجون إلى الله، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟

_ 1 صحيح البخاري - باب المعراج ج6 ص190 بمثله. 2 سيرة ابن هشام ج1 ص405، 406.

قال: هؤلاء من أمتك {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} . ثم مضت هنيهة فإذا أنا بنساء تعلقن بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعتهن يضججن إلى الله، قلت: يا جبريل، من هؤلاء النساء؟ قال: هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن. ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمون، فيقال له: كل كما كنت تأكل من لحم أخيك، قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون" 1. د- وأخرج البيهقي وابن جرير بسندهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "وسار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في يوم، ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل، ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه. ثم أتى على قوم ترضخ رءوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء. فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على إقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والنعم، ويأكلون الضريع والزقوم، ورضف جهنم، وحجارتها. قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئا.

_ 1 حجة الله على العالمين ص353، 354.

ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم أخر نيئ خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب. قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح. ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته. فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها. فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء. قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة. ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج، لا يستطيع. فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة، وريح مسك، وسمع صوتا. فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت غرفي، وإستبرقي، وحريري، وسندسي، وعبقريي، ولؤلؤي، ومَرْجاني، وفضتي، وذهبي، وأكوابي، وصحافي

وأبارقي، ومراكبي، وعسلي، ومائي، ولبني، وخمري، فآتني ما وعدتني، فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، قالت: رضيت. ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا، ووجد ريحا منتنة. فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب آتني ما وعدتني، فلقد كثرت سلاسلي، وأغلالي، وسعيري، وحميمي، وضريعي، وغساقي، وعذابي، وقد بعد قعري، واشتد حري، فآتني ما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت"1. هـ- وأخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة، فنظرت فوق فإذا رعد وبرق وصواعق، وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني، فإذا أنا برهج ودخان وأصوات، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم؛ لئلا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب" 2. و جاء في حديث أبي هريرة ذكر كلام كل من إبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان عليهم السلام، ثم ذكر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وأن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل، فقال: كلكم أثنى على ربه، وأنا أثني على ربي الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس، بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة، وجعل أمتي أمة وسطا، وجعل أمتي هم

_ 1 حجة الله على العالمين ص358. 2 المصدر السابق ص362.

الأولون، وهم الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا، وخاتما، فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد" 1. ز- جاء في حديث أبي هريرة من طريق الربيع بن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى سدرة المنتهى قال له الله تعالى: سل، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وأعطيته ملكا عظيما، وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجن، والإنس، والشياطين، والرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الكمه، والأبرص، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل. فقال له ربه تعالى: قد اتخذتك خليلا وحبيبا، فهو مكتوب في التوراة: محمد حبيب الرحمن، وأرسلتك إلى الناس كافة، وجعلت أمتك هم الأولون، وهم الآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيين خلقا، وآخرهم بعثا، وأعطيتك سبعا من المثاني، ولم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطها نبيا قبلك، وجعلتك فاتحا وخاتما" 2. وهذه الزيادات -مع حديث أنس الذي أوردته- تقدم صورة كاملة للإسراء والمعراج، بدءا من شق صدره صلى الله عليه وسلم قبيل الإسراء به، وحتى عاد إلى مكة. ثالثا: أحداث متعارضة في روايات حديث الإسراء: بمراجعة روايات أحاديث الإسراء نلحظ فيها المعارضات التالية: 1- في حديث أنس الوارد في الفقرة "أ" السابقة: أن ثلاثة نفر جاءوا إلى رسول الله قبل أن يوحى إليه، مع أن الإسراء كان بعد المبعث، وقبيل الهجرة؛ حيث جاء

_ 1 الشفا للقاضي عياض ج1 ص182. 2 الشفا للقاضي عياض ج1 ص183، 184.

في الحديث أن كثيرا ممن أسلم ارتد. 2- في رواية أنس الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم عليه السلام في السماء السابعة عند البيت المعمور، ولقي موسى عليه السلام في السماء السادسة، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السادسة، ولقي موسى عليه السلام في السماء السابعة1. 3- في رواية ابن إسحاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بثلاث أوان، أحدهما ماء، فقال قائل: إن أخذ الماء غرق، وغرقت أمته، وفي إحدى روايات البخاري: أنه أتى بثلاث أوان، ولم يذكر فيها الماء2. 4- يقول الله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} 3 ورؤية الفؤاد تشبه رواية أنس من أن الرؤية كانت قلبية، وعين الرسول صلى الله عليه وسلم نائمة، وفي الآ الثانية يقوله الله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} 4 فجاءت الرؤية بصيغة المضارع، ولم يقل على ما رأى كالآية الأولى، فدل على الرؤية الثانية ليست هي الرؤية الأولى. 5- في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} دلالة على أنها رؤية قلبية، وفي قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 5 دلالة على أنها رؤية بالعين؛ ولذلك رأى فيها: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 6. أما الآيات التي ترى في النوم فليست بهذا القدر من العظمة والفخامة.

_ 1 انظر: صحيح مسلم في حديث أبي ذر بشرح النووي ج2 ص217. 2 انظر: سيرة ابن هشام ج1 ص397، وصحيح البخاري ج6 ص197، 198. 3 سورة النجم آية 11. 4 سورة النجم آية 12. 5 سورة النجم آية 17. 6 سورة النجم آية 18.

6- في تفسير قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} 1 قال المفسرون في رواية: يغشاها فراش من ذهب، وفي رواية أخرى قالوا: ينتثر منها الياقوت وثمرها مثل قلال هجر. 7- جاء في أحاديث الإسراء: أنه صلى الله عليه وسلم رأى عند سدرة المنتهى نهرين ظاهرين ونهرين باطنين، وأخره جبريل عليه السلام بأن النهرين الظاهرين هما: النيل والفرات.. وذكر حديث أنس: أن هذين النهرين في السماء الدنيا، وقال له الملك: هما النيل والفرات، أصلهما، وعنصرهما. رابعا: فك تعارض الأحاديث والسؤال هنا: كيف نفك هذا التعارض؟ ونجمع بين هذه الآراء؟ نظر العلماء إلى هذا التعارض الظاهري، وذهبوا إلى أن الإسراء وقع مرتين، مرة في المنام، ومرة ثانية في اليقظة. يقول الإمام محمد الشامي: "ذهب جماعة منهم المهلب شارح البخاري إلى هذا الرأي، وحكاه عن طائفة، منهم أبو نصر القشيري، والحافظ البغوي، والمحدث أبو القاسم عبد الرحمن الخثعمي المعروف بالسهيلي، وبين أن النووي جزم به فتاويه، وهؤلاء وغيرهم من العلماء ذهبوا إلى تكرر الإسراء مرتين، مرة في المنام، ومرة في اليقظة، وكانت مرة النوم توطئة له، وتيسيرا عليه، كما كان في بدء ثبوته صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة؛ ليسهل عليه أمر النبوة، لأمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء سهله عليه بالرؤيا أولا؛ لأن هوله عظيم، فجاء في اليقظة بعد توطئة وتقدمة، رفقا من الله تعالى بعبده، وتسهيلا عليه2.

_ 1 سورة النجم آية 16. 2 الروض الأنف ج1 ص149، 150، سبل الهدى والرشاد ج3 ص106.

وعلى هذا فإن حدوث الإسراء مرتين، مرة على صورة، ومرة أخرى على صورة أخرى، لا تعارض فيه، وبذلك ينتفي تعارض الروايات. ولا مانع من تكرر الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموضوع الواحد لحكمة يريدها الله، كما هو ثابت في حالات عديدة. 3- كيفية وقوع الإسراء والمعراج: أورد العلماء عدة آراء في كيفية وقوع الإسراء والمعراج؛ حيث ذهبوا في تحديد كيفيتها إلى ثلاثة آراء: الرأي الأول: الإسراء والمعراج كانا في النوم وبالروح يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الإسراء كانت رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم رآها وهو نائم، وعلى رأس القائلين بهذا الرأي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ويستدلون على رأيهم بما يلي: 1- رؤيا الأنبياء وحي، لأن قلوبهم لا تنام، يقول صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم" 1، وبذلك يتحقق في المنام ما يقصد في اليقظة. 2- يقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} 2 فقوله تعالى: "الرؤيا" دليل على أنها كانت مناما؛ لأنها لو كانت يقظة لقال: "رؤية". 3- جاء في حديث أنس في رواية شريك عنه: "وهو صلى الله عليه وسلم نائم بالمسجد الحرام ... واستيقظت من منامي، وأنا في المسجد الحرام"3، وذلك دليل لى وقوع الإسراء في أثناء نوم النبي صلى الله عليه وسلم.

_ 1 صحيح البخاري بشرح فتح الباري - كتاب المناقب ج6 ص34. 2 سورة الإسراء آية 60. 3 صحيح مسلم بشرح النووي - كتاب المناقب - باب الإسراء ج2 ص217.

4- كان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما إذا تحدث عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: كانت رؤيا من الله صادقة1. 5- يقول ابن إسحاق: "حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه". الرأي الثاني: الإسراء كان بالجسد والمعراج كان بالروح يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن الإسراء كان بالجسد والروح معا، من المسجد الحرام بمكة إلى بيت المقدس بإيلياء، وبعده كان المعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلا بالروح فقط، ويستدلون على ذلك بما يلي: 1- يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} حيث جعلت الآية المسجد الأقصى غاية الإسراء؛ تشريفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت غاية الإسراء إلى مكان آخر غير المسجد الأقصى لذكره سبحانه وتعالى؛ لأنه أبلغ في التشريف والمدح. 2- توجهت اعتراضات كفار مكة على انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس والعودة منه في ليلة واحدة، ولم يرد على لسانهم اعتراض على العروج إلى السماء السابعة، حتى سدرة المنتهى، مع أنه أدعى لإنكار الكافرين لو كان بالجسد

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص399، جاء في زاد المعاد: ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان مناما، وإنما قالا: الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى كأنه عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة أو أقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تغب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، ومع هذا الفرق فإن القول بأن الإسراء بالروح لا يبعد كثيرا في أثره، وتصوره عن الإسراء في النوم؛ لأن التوجه أثناء النوم هو للروح أيضا.

وعلى هذا يثبت أن الإسراء كان بالجسد والروح، أما المعراج فكان بالروح فقط؛ لأن كفار مكة لم يعترضوا عليه مع كثرة المشاهد التي حكاها الرسول صلى الله عليه وسلم حين رؤيته لها في معراجه، ولو كان المعراج بالجسد لكثر الاعتراض. الرأي الثالث: الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح يذهب جمهور علماء السلف والخلف من الفقهاء والمفسرين والمحدثين إلى أن الإسراء والمعراج كانا يقظة بالجسد والروح، ويستدلون على ذلك بما يلي: 1- يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فقد ذكرت الآية أن الإسراء كان بعبده المكون من الجسد والروح؛ لأنهما حقيقة العبد، وظاهر اللفظ يدل على هذه الحقيقة، ومن المعلوم أنه لا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند استحالة حقيقة الظاهر، ولا استحالة في قدرة الله أن يسري بعبده روحا وجسدا، فلزم أن يكون الإسراء بهما. 2- يقول الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} 1، ففي الآية إثبات واضح على أن الرؤية كانت بالبصر، وأسندها الله للبصر احترازا عن رؤية القلب. 3- يقول الله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 2، ففي الآية دلالة على الرؤية البصرية؛ لأنها لو كانت مناما ما كانت كبرى، ولسلم بها من سمعها من كفار مكة.

_ 1 سورة النجم آية 17. 2 سورة النجم آية 18.

4- يروي البخاري في صحيحه عن ابن عبسة عند قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء1. وقد رد الجمهور وهم أصحاب الرأي الثالث، القائلون بأن الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح معا، على الرأيين السابقين بإبطال أدلتهم وردها. رد أدلة أصحاب الرأي الأول: قال أصحاب الرأي الثالث: إن رؤيا الأنبياء وحي، وبها تثبت الحقائق والمعلومات، إلا أن الإعجاز في الإسراء والمعراج لا يتم إلا إذا كان بالجسد مع الروح؛ لأن المقصود إثبات ما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم بطريقة حسية حقيقية.. وبذلك لا يتحقق بإسراء الروح ما قصد بإسراء الجسد. وأيضا فإن الرؤيا تأتي بمعنى الرؤية، ومن ذلك قول الشاعر: وكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر قلبا كان جما بلابله وما كانت الرؤيا فتنة للناس، إلا لأنها رؤيا بالبصر، وقد قال الكفار: يزعم محمد أنه أتى بيت المقدس، ورجع إلى مكة في ليلته، والعير ترد إليها شهرا مقبلة وشهرا مدبرة، ولو كانت رؤيا نوم لم يستبعد أحد منهم هذا، فمعلوم أن النائم قد يرى نفسه في السماء، وفي المشرق، وفي المغرب، ولا يستبعد منه ذلك. وأما استشهادهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "بين النائم واليقظان، ثم استيقظت"، فالظاهر أن تلك الأقوال كان في أول وصول الملك، وبعد يقظته كان الإسراء. وأيضا فإن أحاديث الإسراء تتضمن ألفاظا صريحة تؤكد أن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب التفسير ج6 ص160.

رد أدلة أصحاب الرأي الثاني: يرد الجمهور أدلة الرأي الثاني أيضا، ويرون أن آية الإسراء ذكرت الغاية بالمسجد الأقصى مراعاة لحال المستمعين، حتى يؤمنوا بالإسراء؛ لأنه الأقرب إلى عقولهم، وأيسر لهم في التصور عن المعراج؛ لأنهم إذا صدقوا بالإسراء، وسلموا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أخبرهم بعد ذلك بما هو أعظم منه، وهو "المعراج"؛ ولذلك نزلت آيات المعراج في سورة النجم بعد آية الإسراء. وهكذا يرد الجمهور أدلة مخالفيهم، فيترجح رأيهم برجحان أدلتهم.. التوفيق بين الآراء ورد الاختلاف: ويجب أن أشير هنا إلى ما ذكرته سلفا في ص396 من أن الإسراء وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في اليقظة، ومرة في المنام، يرفع التعارض الظاهر في الأقوال الثلاثة، يقول الحافظ ابن حجر: إن قيل بتكرر الإسراء فلا إشكال، وأن المرة الأولى كانت مناما لتسهيله وتخفيف وطأته، وأن المرة الثانية كانت يقظة بعد التوطئة والتقديم؛ رفقا من الله بعبده، وتسهيلا عليه، كما حدث في أول الوحي؛ إذ بدأ بالنبوة وثنى بالرسالة. وعلى هذا تصدق الآراء الثلاثة، فمن قال بالإسراء الروحاني، اعتمد على وقوع الإسراء في المرة الأولى، ومن قال بالإسراء الجسدي، اعتمد على وقوع الإسراء في المرة الثانية، ومن قال بالإسراء البدني، والمعراج الروحي أخذ من المرة الأولى المعراج، ومن المرة الثانية الإسراء. يقول السهيلي: وهذ القول هو الذي يصح، وبه تتفق الأخبار، فالرواة جميعا ثقاة عدول، لا سبيل إلى تكذيب بعضهم أو توهينه1. يقول ابن كثير: ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء، فيه صورة ما وقع بعد ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل

_ 1 الروض الأنف ج2 ص150.

ذلك من حديث بدء الوحي، أنه رأى في منامه مثل ما وقع له يقظة بعد ذلك، من باب الإرهاص والتوطئة والتثبت والإيناس1. وهكذا كان الإسراء والمعراج رحلة علوية سامية، خففت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يعانيه من انصراف الناس عن الإيمان، واستهزائهم به، وعلو مقامه وقدره ومنزلته، وهذا كافٍ في عونه على متاعب الناس، وصموده أمام عتوهم وظلمهم.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص114.

النصر السادس: إسلام الأنصار

النصر السادس: إسلام الأنصار: لما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز رسوله، وإيصال الدعوة إلى العالم كله، قضى بأن يترك المسلمون مكة، ويهاجروا منها إلى مكان آمن، يعيش أهله للإسلام، ويهاجر إليه المسلمون ليكونوا قوة تحمي الحق، وتدافع عنه، وترد كيد المعتدين. لما أراد الله ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبائل العرب كما كان يفعل في كل موسم، وذلك في العام العاشر من المبعث، وقد وفقه الله تعالى، ووفق الأنصار معه فتلاقوا في ثلاثة مواسم متتابعة عند العقبة؛ حيث كان اللقاء الأول تمهيدا لبيعتي العقبة، اللتين تمتا في اللقاءين الثاني والثالث. وبيان هذه اللقاءات فيما يلي: اللقاء الأول: إسلام نفر من الأنصار حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر للقاء القبائل لقي نفرا من الخزرج، وهم: 1- أسعد بن زرارة.. من بني النجار. 2- عوف بن الحارث بن رفاعة.. من بني النجار.

3- رافع بن مالك بن العجلان.. من بني زريق. 4- قطبة بن عامر بن حديدة.. من بني سلمة. 5- عقبة بن عامر بن ناتي.. من بني حرام بن كعب. 6- جابر بن عبد الله بن وئاب.. من بني عبيد بن غنم. فلما لقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: "من أنتم؟ ". قالوا: نفر من الخزرج. قال: "أمن موالي يهود؟ ". قالوا: نعم. قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟ ". قالوا: بلى، من أنت؟ فانتسب لهم، وأخبرهم خبره، فجسلوا معه، ودعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما حببهم في الإسلام أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، كثيرا ما قالوا لهم: إن نبيا أظلنا زمانه، سنؤمن به، ونقتلكم وهو معنا قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله أيقنوا به، واطمأنت قلوبهم إلى ما سمعوا، وعرفوا صدق ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب عن صفته. فقال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه إلى ما دعاهم بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام. ثم قالوا: قد علمت الذي بيننا "يعنون الأوس والخزرج" من الاختلاف، وسفك الدماء، ونحن حراص على ما أرسلك الله به، مجتهدون لك بالنصيحة، دعنا نشير عليك برأينا، فامكث على رسلك باسم الله، حتى نرجع إلى قومنا، فنذكر لهم شأنك، وندعوهم إلى الله ورسوله، فلعل الله يصلح ذات بينهم، ويجمع لك أمرهم

فإنا اليوم متباغضون متباعدون، ولكنا نواعدك الموسم من العام المقبل، فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرفوا راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا، وصدقوا1. ويعد هذا الاتفاق عهدا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء النفر وحدهم على أن يبذلوا جهدهم لإصلاح ذات البين، بين الأوس والخزرج؛ ليأتوا في العام القادم سويا، ويشتركوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم معا. وكثير من المؤرخين وكتاب السيرة لا يعدون إيمان هؤلاء النفر بيعة، ويعتبرونه مقدمة للبيعتين بعد ذلك، إلا أن الشيخ/ محمد الشامي عدها بيعة، وتحدث عن ثلاث بيع لعده اللقاء الأول اتفاقا متكاملا، وتم عند العقبة، يقول عبد الله بن أبي بكر: لا أدري ما العقبة الأولى، ويقول ابن إسحاق: قد كانت عقبة وعقبة، إشارة إلى اللقاء الأول والثاني؛ لأنهما كانا في مكان واحد، يجاور العقبة التي نسبت البيع إليها؛ لأن المبايعة كانت تتم بشعب يجاور العقبة، يقع يسار القادم من مكة إلى منى، وقد أقيم في هذا المكان مسجد يعرف بـ"مسجد البيعة" وموقعه في أول شعب يعرف بـ"شعب العقبة" و"شعب الأنصار"2. ومع جمال وجهة نظر الشيخ إلا أني سأعتبر اللقاء الأول تمهيدا للبيعتين بعده تبعا لجمهور مؤلفي السير والتاريخ. اللقاء الثاني: بيعة العقبة الأولى رجع النفر الذين قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، وأحاطوا قومهم بخبر لقائهم وإسلامهم، ودعوا أهل المدينة جميعا من الأوس والخزرج إلى الإيمان، ففشا الإسلام في دور الأنصار جميعا، فلم يبقَ بيت من بيوت الأوس والخزرج إلا وفيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص429. 2 أخبار مكة ج2 ص166، 167.

ووضعت الحرب أوزارها، وانتهى يوم بعاث، آخر أيام الأوس والخزرج، والكل يتمنى ألا يعودوا إليها مرة ثانية ... ولذلك أقبلوا على الإيمان بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليتوحدوا بالإسلام، وحتى لا يسبقهم اليهود إليه، يروي البخاري في صحيحه بسنده أن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد افترق ملؤهم، وقتل سرواتهم، وخرجوا فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وجعله سببا في دخولهم الإسلام"1. وذلك يشير إلى أنها كانت وقعة عظيمة، احتاجوا بعدها إلى وصل ما انقطع، وتعويض ما فقدوه، فوجدوا الإسلام، فصدقوا به، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان كل من الأوس والخزرج يأنف من تسيد صاحبه عليه، وأملوا في أن يكون الرائد من غيرهم؛ ولذلك كانت سعادتهم غامرة بمقدم مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ ليكون إماما للجميع. والذين حضروا اللقاء الثاني وبايعوا هذه البيعة اثنا عشر رجلا، هم: 1- أسعد بن زرارة. 2- عوف بن الحارث. 3- معاذ بن الحارث. 4- ذكوان بن قيس. 5- عبادة بن الصامت. 6- يزيد بن ثعلبة. 7- العباس بن عبادة. 8- أبا الهيثم بن التيهان. 9- عويس بن ساعدة. 10- رافع بن مالك. 11- قطبة بن عامر. 12- عقبة بن عامر. وقد بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة عرفت ببيعة النساء؛ لخلوها من النصرة والجهاد، أيضا لأنها جاءت موافقة لما نزل القرآن الكريم بها بعد ذلك، وهو يشرع للنبي صلى الله عليه وسلم ما يبايع النساء عليه، وذلك في صلح الحديبية.

_ 1 صحيح البخاري - باب مناقب الأنصار ج6 ص144.

يروي البخاري بسنده عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: "تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله: إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه" 1. ولما هم القوم بالرجوع إلى المدينة طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل معهم من يقرئهم القرآن، ويعلمهم ما نزل من الإسلام، فأرسل صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، وأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم الإسلام، ويقرئهم القرآن، ويفقههم في الدين.. وكان اختيار مصعب بن عمير لهذه المهمة اختيارا موفقا؛ لأنه استطاع بفضل الله أن يدخل الإسلام في كل بيوت المدينة خلال عام واحد، وصار الجميع يهتمون بما يتلى عليهم من كتاب الله تعالى، حتى عرف مصعب رضي الله عنه باسم القارئ والمقرئ. وتلقى الأوس والخزرج مصعبا بالترحيب ليؤمهم حيث كره كل منهم أن يؤمه واحد من القبيلة الأخرى2. اللقاء الثالث: بيعة العقبة الثانية عاد أصحاب العقبة الأولى إلى المدينة، ومعهم مصعب بن عمير، ولم يقترب موعد الحج من العام القادم حتى تهيأت قلوب أهل المدينة للخير، وانتشر الإسلام فيهم، حتى لم تبقَ دار من دور يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون إيمانهم، ويلتزمون بما عاهدوا الله عليه.

_ 1 صحيح البخاري ج6 ص200. 2 البداية والنهاية ج3 ص151.

وقد تعلقت قلوب أهل المدينة برسول الله صلى الله عليه وسلم حبا وتقديرا، وتألموا لموقف أهل مكة من الإسلام والرسول؛ ولذلك اجتمعوا ودرسوا الموقف، وقال بعضهم لبعض: إلى متى نذر رسول الله يطوف في جبال مكة ويخاف ويعتدي عليه المشركون؟! فكان أن رحل عدد غفير من الأوس والخزرج إلى الحج تأدية للمنسك، وحبا للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا إلى منى، وفي ثاني أيام التشريق واعدوا لقاء رسول الله في الشعب المجاور للعقبة. يقول كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق أن نوافيه في الشعب الأيمن إذا انحدرنا من منى بأسفل العقبة، على ألا ننبه نائما، ولا ننظر غائبا. فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا أخذناه معنا، وكنا نكتم على من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بمعياد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا في العقبة، فأسلم وشهد معنا العقبة. فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا، مستخفين، حتى اجتمعا في الشعب، عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بن كعب -أم عمارة- إحدى نساء بني مازن من بني النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، كما حضر معه صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعلي بن أبي طالب.

فلما جلس كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج1، إن محمدا من حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة من بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. وقال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم تريدون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتل، أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما عاهدتموه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة. ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: "ليتكلم متكلمكم، ولا يطيل، فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم". فقالوا: يا رسول الله، قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم". فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم فوالله الذي بعثك بالحق لنمعنك ما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر.

_ 1 قال: وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها.

فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أشهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم -أي: ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم- أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالتم" 1. ثم قال أبو أمامة: يا محمد، سل لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله، وعليكم إذا فعلنا ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: "أسألكم لربي أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا، وتنصرونا، وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لكم الجنة". قالوا: فلك ذلك2. وهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم"، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. فمن الخزرج: أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار، ورافع بن مالك بن العجلان نقيب بني زريق، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة نقيب بني الحارث بن الخزرج، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو نقيب بني ساعدة، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت. ومن الأوس: أسيد بن حضير نقيب بني عبد الأشهل، ورفاعة بن عبد المنذر وسعد بن خيثمة نقيبا بني عمرو بن عوف.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص160، 161. 2 المرجع السابق ج3 ص163.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: "أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي" يعني: المسلمين، قالوا: نعم1. وقد روى البيهقي عن الإمام مالك رضي الله عنه قال: حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل كان يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة2. وفي حديث كعب بن مالك قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع القوم3، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يأهل الجباجب، هل لكم من مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، استمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجعوا إلى رحالكم"، فقال له العباس بن عبادة بن نضالة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم"، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا.. فلما علم أهل مكة جاءوا إلى الأنصار، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء، وما علمناه، وقد صدقوا لم يعلموه4.

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص443. 2 سبل الهدى والرشاد ج3 ص281. 3 البداية والنهاية ج3 ص163. 4 المرجع السابق ج4 ص164.

وكذلك أراد الله بالأنصار خيرا، وأراد الله بدينه أن يظهره على أيدي هذا الحي من العرب، وقضى بأن يكون للأنصار اليد الطولى في نصرة الإسلام، بعد أن أنعم الله عليهم بنعمة التوحيد والتوحد، ومحا ما كان بينهم من العداء والتنافر، فلطالما سالت الدماء غزيرة بين الأوس والخزرج، وكان آخر يوم شهدوه هو يوم بعاث الذي ذهب ضحيته العديد من رجالاتها، وكان اليهود وراء هذه الدماء الغزيرة التي تسيل ضمانا لسيادتهم، وابتزازا لأموال المتحاربين، عن طريق بيعهم الأسلحة، وما تحتاج إليه الحروب. لقد قامت هذه المبايعة على المصارحة، فقد اشترط العباس للنبي صلى الله عليه وسلم، كما اشترط أبو الهيثم لقومه وعلم كل طرف ما له وما عليه، وبذلك لم تكن بيعة قائمة على مجرد العاطفة فقط، ولكنها قامت على التفهم للموقف، والنظرة البعيدة للمستقبل. وتجلت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم حين طلب من الأنصار أن يكتموا أمرهم حين يتوافدون إليه في المكان الذي واعدهم فيه وقد أطاعوه، فلم يوقظوا نائما، ولم ينتظروا غائبا، ذلك أنه كان يراقبهم في هذا الموسم من لم يدخل نور الإسلام في قلبه، وأراد الله تعالى تضليل أهل مكة، فتولى هؤلاء الذين لم يسلموا عبء الرد فيما بعد على مشركي قريش حين عاتبوا اليثربيين على مبايعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلم الأنصار المبايعون من عناء مجادلة المشركين والتعرض للكذب إن أنكروا. وبعد تمام البيعة الكبرى عاد الأنصار إلى مدينتهم، وأخذ المشركون يشتدون في أذى المسلمين، ومنعهم من الخروج. فشكا الصحابة أحوالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذنوه في الخروج من مكة، فأذن لهم، وقال لهم: $"أريت دار هجرتكم، أرض سبخة ذات نخل بين

لابتين"1، ثم مكث أياما، وخرج لأصحابه مسرورا، وقال لهم: "قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها" 2، فأخذ الصحابة يخرجون متخافين مهاجرين إلى المدينة، لتبدأ مرحلة جديدة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة الإسلامية.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص168. 2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص468.

الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى في مكة

الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى في مكة تمهيد: نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا تعليما وتهيئة، وبعد مرور سنة أشهر نزل جبريل عليه السلام بأول سورة المدثر لنقل محمد صلى الله عليه وسلم من مرحلة النبوة إلى مرحلة الرسالة، كما هو واضح من قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} فهو أمر بالقيام بأمر الدعوة بما يعنيه من الثبات، والإخلاص، والملازمة، والاستقامة، والشمول، وحسن الطلب والتوجيه؛ لأن القيام يشمل ذلك كله1. وبهذا الأمر "قُمْ" أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يتحرك بالدعوة؛ لإيصالها إلى البشر أجمعين، بطريقة منهجية تراعي أحوال الناس، وبالحركة الممكنة، وبقدر ما تسمح به الأحوال. وقد اقتضت منهجية الحركة بالدعوة أن تمر بعدد من المراحل في مكة؛ حيث تغاير التوجيه والبلاغ في صورته وأسلوبه، في كل مرحلة عن سابقتها، وعن ما يلحق بها. وهذا التغاير بين مراحل الدعوة ضرورة واقعية ليتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم والدعاة معه، ومن بعده، مع الواقع بما يناسبه، وبما يحقق الغاية المقصودة منه. إن هدف الدعوة معروف منذ اللحظة الأولى، لكن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى وسائل عديدة تتعامل مع واقع الحياة والأحياء، ويحتاج كذلك إلى أسلوب يلتقي مع أفهام المخاطبين، ويتلاءم مع أفكارهم وثقافاتهم.. إن ثبات الغاية وتغيير الأسلوب والوسيلة مسألة تعطي الدعوة الحيوية والمرونة والتجديد. ومن المعلوم أن جمود الوسيلة لا يتفق مع تطور الحياة، وتقدم المدنية، وطبائع الناس، كما أن جمود الأسلوب تخلف يؤدي إلى وضع الأفكار في قوالب غامضة تضر الفكرة، وتعجز عن إيصالها إلى عديد من الناس.

_ 1 بصائر ذوي التمييز ص307-313 بتصرف.

وقد تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام بوسائل متعددة وأساليب كثيرة، من خلال تعامله مع عديد من البشر، في بيئات مختلفة، وبين أُطُر مذهبية كثيرة. وفي هذا الفصل سيكون الحديث عن حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة في الفترة المكية؛ ولذلك رأيت أن أقسمه على عدد من المراحل؛ لتميز كل منها بخصائص معينة، لا توجد في غيرها. ومن خلال تناولي للفترة المكية بمراحلها أجدني أتعامل مع مصطلحات عديدة من أهمها مصطلحات المنهج والوسيلة والأسلوب. وحتى لاتتدخل المعاني، أرى أهمية تحديد مفاهيم هذه المصطلحات، وبعدها سأتناول مراحل الدعوة في الفترة المكية ليشمل الحديث كل مرحلة بمنهجها ووسائلها وأساليبها، وبذلك يتضح الأمر، ويفهم المقصود. وبذلك سيتكون هذا الفصل من المباحث التالية: المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة. المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة في المرحلة السرية. المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية. المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية. المبحث الخامس: المرحلة الأولى للجهر بالدعوة. المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة. المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام. المبحث الثامن: توافق الأسلوب مع الموضوع. المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار. المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة. المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية. وذلك فيما يلي..

المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة

المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة أولا: منهج الدعوة ... المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة يختلط الأمر على من يقرأ في الدعوة الإسلامية حين يرى استعمال كلمات مكان كلمات أخرى ظنا من المؤلف أنها متحدة المعنى، مع أنها ليست بمعنى واحد، كوضع كلمة المنهج مكان كلمة الأسلوب، واستعمال الأسلوب في موضع الوسيلة.. وهكذا، الأمر الذي من أجله أعقد هذا المبحث لتحديد مفاهيم الحركة بالدعوة الإسلامية، وبخاصة أن كل مصطلح بدأ في أن يكون علما على علم خاص من علوم الدعوة العديدة، التي يحتاجها الدعاة إلى الله تعالى في العصر الحديث. وأرى أن تحديد مفاهيم مصطلحات الدعوة له أهميته في دراسة عصر النبي صلى الله عليه وسلم لتعرف القضايا، وتحدد معاني المصطلحات، وتفهم بوجه يحقق الاستفادة الدقيقة بها، ولتكون الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يريد الله تعالى. أولا: منهج الدعوة تعتمد الدعوة على منهج يحدد مسائلها، ويوضح طرقها، ويعرف وسائلها، ويضع القواعد العلمية التي تقنع المدعو، وتحقق الغايات المقصودة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما فيها من خير، وأمن، وسعادة، للناس أجمعين، في الدنيا، وفي الآخرة. إن المنهج نظرية متكاملة تتناول كافة جوانب عملية الدعوة، بها تتحدد مهام كل جانب، وطريقة قيامه بدوره في الدعوة إلى الله تعالى. إن الدعوة إلى الله تعالى تقوم على عدة جوانب، هي: أ- مضمون فكري هو الإسلام بما حوي من عقيدة وشريعة وأخلاق. ب- أسلوب يحتوي على الفكرة، ويتحرك بها، ويوصلها لمن يستقبلها من الناس، وقد يكون الأسلوب قولا، أو عملا، أو حالة معبرة، أو غير ذلك.

ج- أدوات تحمل الأسلوب بمضمونه ومحتواه. د- شخصية عاقلة تجمع الأجزاء المذكورة في صورة حسنة لتصل بها إلى المدعوين؛ رجاء إيمانهم وهدايتهم. هـ- أناس يتوجه إليهم الدعاة بالفكرة واضحة مقنعة، بأسلوب مناسب، وأدوات ملائمة؛ رجاء تحقيق ما تريده الدعوة منهم. إن هذه الجوانب علوم للدعوة إلى الله، ويجب أن يهتم العلماء بها، بوضع القواعد، وإعداد الدراسات التي يحتاجها كل علم منها. ومنهج الدعوة هو الخطة الكلية والنظام العام الذي يحدد الإطار لكل هذه الجوانب، ولكل هذه العلوم لتترابط وتتكامل. إن منهج الدعوة بصورة عامة هو النظام الذي يجمع كافة جزئيات عملية الدعوة، وينسق بينها لتتكامل وتحقق للدعوة ما يراد منها على وجه صحيح. وقد بيَّن العلماء أن المنهج كمصطلح علمي يدل على ما ذكرت.. تقول اللغة: إن المنهج يعني الخطة المرسومة، والنظام الموضوع والمحدد للسير عليه، واتباعه لتحقيق هدف معين، والوصول إلى غاية محددة1. وعلماء التفسير والمحدثون يذهبون في معنى المنهج إلى ما ذكرناه، ويرون أن المنهج هو الطريق الواضح البيِّن2. يقول الدكتور/ أحمد بدر وهو يتحدث عن مفهوم مناهج العلوم: إن المنهج هو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم، وبواسطة طائفة من القواعد العامة التي تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة3.

_ 1 مناهج الدعوة إلى الله، د/ جلال البشار ص29، وهذا المعنى استنباط من كتب اللغة وهي تبين معنى نهج ومنهج، المدخل إلى علم الدعوة، د/ محمد البيانوتي ص45. 2 انظر معنى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} في: تفسير الطبري، والرازي، وفي كتب السنة عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" فتح الباري ج1 ص10، والفتح الرباني ج23 ص10. 3 أصول البحث ومناهجه ص15.

إن المنهج خطة كاملة، ونظرية تامة، تحدد الدعوة ومسارها، وطرق الإقناع بها، وأسلوب الخطاب لها، وتحقيق أهدافها في كافة جوانب الحياة. وعلى هذا فمنهج الدعوة كمصطلح، أو كعلم خاص، يشتمل على نظرية شاملة للدعوة بكل جوانبها، وحيئذ لا يصح إطلاق مسمى المنهج على الأسلوب، أو على الوسيلة، أو على الموضوع، أو غير ذلك، إلا على وجه المجاز من باب تسمية الجزء باسم الكل، ومع وجود قرينة تمنع من إرادة حقيقة المفهوم. ومنهج الدعوة رباني كله، ويمكن أخذه من تعاليم الله تعالى من كافة جوانبه؛ لأن الجوانب الثابتة كموضوع الدعوة وغايتها ثابتة مفصلة. أما الجوانب غير الثابتة كالوسائل والأساليب وصفات القائم بالدعوة وأحوال المدعوين، فإن تعاليم الله تعالى تضع الأسس والشروط مع ترك التفاصيل للاجتهاد والبحث. ومنهج الدعوة ليس هو الحركة بالدعوة؛ لأن الحركة تعني الصورة العملية التي تظهر حين يقوم الرسل والدعاة بتبليغ دين الله للناس، والمنهج أعم من ذلك.

ثانيا: المضمون الفكري للحركة

ثانيا: المضمون الفكري للحركة الإسلام هو الموضوع التي تتحرك به الدعوة، وهو المضمون الفكري الذي يحتويه الأسلوب، ويحركه بوسائله وأدواته. والإسلام أساسه العقيدة؛ ولذلك تدور حركة الدعوة مع تبليغ العقيدة، وتثبيتها في القلوب، وربطها بكافة أنشطة الإنسان.. إن العقيدة الإسلامية تتمثل في "شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله".. وهذه الشهادة تتكون من شطرين: الشطر الأول: وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وبه تتحدد للإنسان عبوديته لله المعبود؛ ليقر له بالوحدانية المطلقة، ويتجهله وحده سبحانه وتعالى بالعبادة كلها، ويحصر

التلقي منه سبحانه وتعالى. فليس عبدا لله من لا يعتقد بوحدانيته سبحانه وتعالى، بكل اليقين والإخلاص. وليس عبدا لله وحده من يخضع، ويخشع، ويتجه بالعبادة لغير الله تعالى!! وليس عبدا لله من يرتضي لنفسه مصدرا غير الله، يأخذ منه النظام والتشريع!! وليس عبدا لله من يعلن العبودية ظاهرا، وعند حاجته للإعلان فقط، ويخالف لوازمها عند العمل والتطبيق!! ويؤكد الشطر الثاني: وهو أشهد أن محمدا رسول الله، وأن محمدا هو طريق التلقي الوحيد عن الله تعالى، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه بالوحي، وبلغه للناس؛ ليمدهم بكل ما يحتاجون إليه في حياتهم، وينظم لهم جميع أعمالهم وأنشطتهم. وليس مؤمنا من لا يضع الرسول صلى الله عليه وسلم في موضعه الواجب. وليس مسلما من يهمل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل بما جاء من عند غيره!!.. إن العقيدة الإلهية تقوم على كلمة الشهادة بركنيها؛ لأن الشهادة تشمل الإسلام كله؛ ولذلك كان اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بها منذ البداية.. يقول سيد قطب: والقلب المؤمن المسلم يتمثل هذه القاعدة بشطريها، بصدق وإخلاص، وبذلك يكون مؤمنا؛ لأن كل ما بعدهما من مقومات الإيمان، وأركان الإسلام، يتحقق بهما، فالإيمان بملائكة الله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، خيره وشره، يقوم على هذه القاعدة. وكذلك الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، يعتمد عليها. ثم الحدود، والتعازير، والحل، والحرمة، والمعاملات، والتشريعات، والتوجيهات الإسلامية، إنما تقوم كلها على قاعدة العبودية لله وحده، كما أن المرجع فيها كلها هو ما بلغه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.

والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضياتها جميعا تمثلا علميا وعمليا؛ لأنه بغير تمثل تلك القاعدة ومقتضياتها فيه لا يكون المجتمع مسلما. ومن ثم تصبح شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قاعدة لتصور كامل، تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها، لا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة، أو قامت على قاعدة أخرى معها، أو عدة قواعد أجنبية بعيدة عنها1. يقول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 2. ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 3. ويقول سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4. ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 5. من هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن الكريم تعرف وحدانية الله تعالى، وتتحدد واجبات العبودية، وتتأكد ضرورة حصر الأخذ والتلقي من الله تعالى.

_ 1 معالم في الطريق ص155، 116. 2 سورة النحل آية 51. 3 سورة الأنعام الآيتان 162، 163. 4 سورة الشورى آية 21. 5 سورة الحشر آية 7.

لقد ركز رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة على تثبيت العقيدة في القلوب؛ ليعيش الناس الإسلام كله بعدما تمتلئ قلوبهم بالإيمان. إن المجتمع المسلم والفرد المسلم يجعل الإسلام دستور الحياة على أساس إيماني خالص، ويعيشه بكماله وتمامه، على أساس أنه متطلب إيماني، نابع من عقيدة "لا إله إلا الله" التي هيمنت على قلبه وعقله وعواطفه، وأصبحت هي الموجِّه الوحيد لسلوكه عن طواعية واختيار. إن مقتضى شهادة التوحيد يشمل أركان الإيمان، وسائر العبادات، والتوجيهات التشريعية والأخلاقية ... وغيرها1. إن مقتضى هذا التوحيد يشمل الحياة كلها؛ ولذلك كان البدء بتعليم العقيدة، وكان الجهد المبذول في تثبيتها ضخما ليتلاءم مع أهميتها، ودورها في تطبيق الإسلام كله. إن مقتضى التوحيد يؤدي إلى إيجاد الفرد المسلم، والمجتمع المسلم في عالم الواقع، وبذلك يتحول الكون كله عابدا لله تعالى، ويصير الناس ربانيين، مخلصين، صالحين، أعمالهم كلها لله، يتحرون بها طاعة الله، والامتثال لأمره، واجتناب نواهيه. وأمانيهم كسب رضى الله، ومن أجلها يتحرون مناط الرضى، ويركزون على عوامل القربى؛ ليتمتعوا برحمة الله، ورضوانه، وحبه. وتجارتهم الرئيسية مع الله، وأغلى أرباحهم ينتظرونها يوم أن يتجلى الله عليهم بعزته، وهم في النعيم، فيرونه، ويسعدون بلقياه، ويعيشون في الجنات خالدين لهم فيها ما يشاءون. إن النطق بالشهادة يعبر عن حقيقة اليقين، ويؤدي إلى التمسك بلوازمها ومقتضياتها، ويوجد المؤمن السعيد، ويحقق المجتمع العظيم، في عالم الناس.

_ 1 انظر: كتاب لا إله إلا الله، للأستاذ/ محمد قطب، العقيدة أولا، للدكتور/ الشريف الهجاري.

ولقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهادة مجتمعا متحررا من سلطان الشهوة، وسلطان الطغاة، مجتمعا قائما على العدل، وتقرير كرامة الإنسان، مجتمعا طاهر الخلق، زكي الروح، يقظ الضمير، متآلفا، متحابا، يوالي الفردُ الفردَ أخاه، ويعمل للجماعة كما يعمل لنفسه. ولقد صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المجتمع السعيد؛ لأن أفراده أقاموا هذا الدين "أولا" في قلوبهم وضمائرهم، وطبقوه "ثانيا" في حياتهم وأعمالهم، وبعد ذلك كانوا رجالا يحبون لغيرهم ما يحبونه لأنفسهم، ويحافظون على حقوق الآخرين قبل أن ينالوا حقهم. إن هذا المضمون هو الإسلام كله، وهو الجزء الرئيسي في منهج الدعوة؛ لأن غاية المنهج هو خدمة الإسلام، وتبليغه للناس، وتحقيقه في عالم التطبيق والسلوك.

ثالثا: أسلوب الدعوة

ثالثا: أسلوب الدعوة الفكرة في حقيقتها معلومات عقلية لا تظهر للناس إلا في قوالب لغوية، يؤلفها حامل الفكرة أو تؤلف له، ويتمكن بواسطتها من إيصال فكرته ومعارفه لغيره. كما أن المستمع والمتلقي يفهم الفكرة، ويتصورها ويتجاوب معها من خلال الكلمات التي سمعها أو قرأها. والقوالب اللغوية الحاملة للمضمون هي الأساليب البيانية. والأسلوب أحد أركان منهج الدعوة، ويعرفه العلماء بأنه المحتوى البياني الذي يحمله الطريق لتصل الدعوة إلى المدعوين، وقد يكون هذا المحتوى قولا منطوقا أو مكتوبا أو صورة أو عملا وهكذا.. وللأسلوب أهميته في إيصال المضمون للناس؛ لأن الإنسان لا يستوعب الفكرة، ولا يفهمها جيدا، إلا إذا وصلت إليه بأسلوب مفهوم، مرتب على قواعد علوم اللغة والبلاغة التي لا بد منها لدقة المعنى، والتاثر به؛ ولذلك دعا الرسل

عليهم السلام بلسان المدعوين، ووجب تبليغ الدين على نحو بيِّن ومفهوم دقيق. إن الخطاب الديني يتجه إلى الإنسان، ويعيش مع طاقاته العقلية والوجدانية والسلوكية ... ووجب لذلك أن يتنوع مع دقة المعنى، وجمال العبارة، وحلاوة الأسلوب على نمط القرآن الكريم الذي شهد له أعداؤه، وقالوا عنه: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة1. إن أسلوب القرآن الكريم يتضمن الإقناع العقلي، والتأثير الوجداني، والجذب الروحي؛ لأنه يخاطب في الإنسان شعوره ومشاعره، ويتحدث مع عقله وعواطفه، ويأخذ بالألباب والأرواح. لقد كان كفار مكة -وعلى رأسهم قادتهم- يتأثرون بالقرآن حين سماعه؛ ولذلك كانوا يأتون سرا لسماع محمد صلى الله عليه وسلم في الليل إعجابا بأسلوب القرآن الكريم. ويرى ابن هشام عن ابن إسحاق أن محمد بن شهاب الزهري قال: إن أبا سفيان بن حرب، وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا. وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا.

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص293.

حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، وخرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك. ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت عن محمد؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه1. لقد كان لأسلوب القرآن الكريم التأثير العظيم في عقول من يفهمه، ووجدان من يسمعه، حتى رأينا كفار مكة يتخفون للتمتع بالاستماع إليه، وما صدهم عن الإيمان إلا التعصب والحقد والحسد. إن كثيرا من أهل الكتاب دخلوا في الإسلام بسماعهم القرآن الكريم، يقول تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 2، وما ذلك إلا لما

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص315. 2 سورة المائدة آية 83.

فيه من أصالة الموضوع، وبساطة المعنى، وجمال الأسلوب، ولما فيهم من سلامة الفطرة، وصدق التوجه، واتباع الحق، والتسليم بالدليل، وشأن القرآن الكريم دائما أن يزداد به الإيمان، وتخشع القلوب، وتذرف العيون، يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 1. ويقول سبحانه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} 2. ويصف الله تعالى تأثير القرآن الكريم في النفوس المؤمنة، ويبين ما يصيب القلوب من خشية ولين، وما يظهر على جلودهم من قشعريرة واضطراب، يقول تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 3. وحتى يقوم الأسلوب بدوره أرسل الله الرسل عليهم السلام بلغة أقوامهم ليتضح المعنى، ويعرف المطلوب، يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 4. والأساليب تتنوع مراعاة لحال المدعوين؛ لأن من الناس طائفة ذات نفوس مشرقة، وعقول ذكية، وإدارك سريع، وهؤلاء تكفيهم الإشارة، ويناسبهم الإيجاز،

_ 1 سورة الأنفال آية 2. 2 سورة مريم آية 58. 3 سورة الزمر آية 23. 4 سورة إبراهيم آية 4.

وترضيهم الكلمات القليلة ذات الدلالات الموجزة، والمعاني الدقيقة. ومن الناس طائفة ذات عقول متوسطة، ونفوس خاملة، وطباع لا تتحرك إلا إذا استثيرت وانفعلت، وهؤلاء يناسبهم بسط الكلام، وتكرار العبارة، وسوق المعنى بأكثر من طريق. ومن الناس طائفة ذات عقل وفهم، لكنها محبة للجدل والحوار، كثيرة السؤال والاعتراض، مرة لتفهم، وأخرى لتظهر ذاتها في حوار ونقاش1. وقد أدى تنوع الناس إلى تنوع الأساليب، مع أن المعنى والمضمون واحد. ولذلك رأى العلماء أن الأسلوب بصورة عامة يتنوع إلى ثلاث صور كلية وبعدها تأتي الأساليب الفرعية العديدة، المناسبة للمدعوين، تعبيرا عن إحدى هذه الصور الكلية. والصورة الكلية للأسلوب ثلاثة، أمر الله بها في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 2، وبيانها فيما يلي: الصورة الأولى: الحكمة وهي مشتقة من الإحكام والإتقان، ومرجعها إلى العلم الدقيق، والحقيقة المجردة، الخالية من الإطناب والتكرار. وتطلق الحكمة على مسميات عديدة كالعقل، والفهم، والنبوة، والحديث، وعلى بعض أساليب الدعوة. والحكمة في أساليب الدعوة تعني اللفظ المحكم، الدقيق، الدال على معناه المقصود بلفظ موجز، وعبارة جميلة.. يقول أبو السعود: "الحكمة هي الدليل الموضح

_ 1 انظر: تفسير الرازي ج5 ص515 بتصرف. 2 سورة النحل آية 125.

للحق، المزيل للشبهة، المتجه إلى العقل مباشرة، من غير إثارة وجدان، أو تهييج انفعال"1. ويقول الإمام النووي: الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالإحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق، والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك، قال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك وزجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح، فهي حكمة2. ويقول ابن القيم: الحكمة جامع مانع؛ لأنه يشمل الإتقان والإحكام للأقوال، وتنزيل جميع الأمور في مواضعها المناسبة، وفي أوقاتها الملائمة للإفادة بها3. الصورة الثانية: الموعظة الحسنة والوعظ يعني: النصح، والإرشاد، ومخاطبة الوجدان، وإثارة العواطف، ومن خلال التنوع البياني الذي يعرض المعنى بأساليب مختلفة، مع التذكير بالعواقب، والترغيب في الفعل، والتخويف من الترك. والوعظ يشمل الوصية الخيرة، والأمر بالحسنى.. وعلى الجملة، فإن الموعظة عبارة عن مجموعة من العبر النافعة، والخطابات المقنعة، والإرشادات المعبرة. وإنما وصفت الموعظة بأنها حسنة للإشارة إلى أن الموعظة تعني النصح الخير، وتدور حول فعل المعروف، وترك المنكر، وتحاول إقناع العقل، وإرضاء العاطفة، وإن لا لم تكن حسنة.

_ 1 تفسير أبي السعود ج2 ص200. 2 تربية النبي لأصحابه ص319. 3 نفس المرجع السابق ص320.

الصورة الثالثة: المجادلة بالتي هي أحسن المجادلة أدلة كلامية يوردها الداعي ليلزم الخصم ويفحمه، ويجعله يؤمن بالمدعي، واتصفت المجادلة بالحسنى إبعادا لها عن مفهوم المجادلة الاصطلاحية الذي يعرف المجادلة المنطقية، والمكابرة، والمعاندة، بأنها ليست لإظهار الصواب، بل لإلزام الخصم، والتعالي، وإثبات الذات، ذلك أن حملة الدعوة يقصدون إظهار الصواب دائما والوقوف على الحق باستمرار، وإقناع الخصم بالحسنى. يقول صاحب مختار الصحاح: "جادل مجادلة جدالا إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق، ووضوح الصواب، هذا أصله ثم استعمل على لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها، وهو محمود حسن إن كان للوقوف على الحق، وإلا فمذموم"1. ويقول الرازي: الجدل المذموم محمود على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال، والجاه، والجدل الممدوح محمول على الجدل في تقرير الحق، ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى2. وهكذا قيد الله الجدل بالذي هو أحسن حتى يكون هادفا، ومقنعا، ومناقشا لشبه المدعوين. والفرق بين الجدل والموعظة: أن المجادلة منازعة بين طرفين متعارضين، والخصم فيها ليس صامتا، وإنما يناقش ويرد بما رسخ في نفسه من أوهام وشُبَه. بخلاف الموعظة، فإن المدعو بها يستمع إليها، ويستثار بها، وينفعل معها، بلا ضرورة المنازعة الكلامية.. وقد أمر الله رسوله أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى؛ لتعم الفائدة سائر الخلائق المختلفين: مكانا، وزمانا، وفكرا، وطبيعة.

_ 1 مختار الصحاح مادة "جدل". 2 مفاتيح الغيب ج2 ص252.

وقد بين الرازي تنوع الناس، وذكر أنهم بالنسبة لكمال الطبع طرفان وواسطة. فالطائفة الأولى التي تتجه إليها الحكمة هي طرف الكمال. والطائفة الثالثة المجادلة هي طرف النقصان. والطائفة الثانية صاحبة الموعظة هي الواسطة، وهم الذين لم يبلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، كما لم يبلغوا في النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، ويقول: إن معنى الآية: ادعُ الأقوياء الكاملين إلى الدين بالحكمة، وهي البراهين القطعية اليقينية، وعوام الخلق بالموعظة الحسنة، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية، والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل1. وتقسيم الناس إلى هذه الطوائف الثلاث تقسيم يتفق مع الواقع البشري؛ لأن من الناس من يريد التعمق ويكره السطحية، ولا يهدأ له بال إلا باليقين الحقيقي القائم على الفكر والتدبر، ومنهم من يستهويه موضوع مثير، وفطرة طيبة، فيقف أمام اللفظة الجميلة، والمثل النادر، والقصة الشيقة، والتكرار المؤكد، ويسهر لمنظر بائس ورؤية مسكين، ومنهم من يَهْوَى اللحج ويعشقه، وينازع ويجادل. لكن ليس معنى هذا التقسيم أن كل طائفة تغاير الأخرى تماما، وتتمايز تمايزا كليا؛ إذ من الناس من يجمع في طبعه أكثر من صفة؛ ولذا كان تنوع الأسلوب ضرورة لمخاطبة كافة الناس، ولإرضاء كافة عناصر الإنسان. جاء في الظلال: والدعوة بالحكمة تراعي أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر المختار في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشق عليهم بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنوع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها.

_ 1 مفاتيح الغيب ج5 ص536، 537.

والدعوة بالموعظة الحسنة تدخل إلى القلوب برفق، وتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي تقع عن جهل، أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخبر أكثر من الزجر والتأنيب والتوبيخ. والدعوة بالجدل بالتي هي أحسن تكون بلا تحامل على المخالف، ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي، ويشعر أن ليس هدفه الغلبة في الجدل، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق حتى لا تسرع بالهزيمة، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة1. ويلاحظ: أن كلا من صور الأسلوب الثلاث لا تنحصر في شكل بياني محدد؛ لأن الصورة الواحدة تظهر في صورة فرعية عديدة، فمن الحكمة: الإيجاز، والإشارة، والتأكيد المجرد. ومن الموعظة: الاستفهام، وضرب المثال، والتشبيه، وإيراد القَصَص، والتأثير الصوتي. ومن الجدل: المحادثة، وحلقات النقاش، وعقد الاجتماعات، والمناظرات. ولذلك اعتبرت هذه الصور الثلاث أصولا للأساليب تتفرع منها صور عديدة قابلة للزيادة كلما تقدم الناس، وتطورت العلوم، وتنوعت الحضارات. وهكذا.. يكون الأسلوب، ويكون دوره مع البلاغ والدعوة..

_ 1 في ظلال القرآن ج4 ص2202.

رابعا: وسائل الدعوة

رابعا: وسائل الدعوة وسائل الدعوة عديدة، ووظيفتها حمل الأسلوب بمضمونه، وتوصيله إلى المدعوين. ويخلط كثير من الناس بين الوسيلة والأسلوب، ويرون المقالة والخطبة والدرس وسائل للدعوة، مع أنها تشتمل على أساليب تنقل الفكرة إلى المستمعين بواسطة الاتصال الشفهي الذي هو الوسيلة. ويرجع سبب الخلط إلى تداخل النظرة إلى هذه الموضوعات؛ لأنها تكون وسائل أو أساليب باعتبار الجانب المنظور إليه. إن الخطابة والكتابة وغيرها قد تكون وسائل للدعوة، إذا نظر إليها من ناحية هيكلها العام، وشكلها الفني، وتكون أساليب إذا نظر إلى الكلمات المنقولة من خلالهما، المتضمنة للمعاني المقصودة. إن الأسلوب الواحد تنقله الوسائل العديدة، كما أن الأسلوب يوجد في عالم الواقع بعد إعداده، بينما الوسيلة توجد قبل الإعداد أو بعده، وتظهر أهميتها وقت استخدامها، فالخطابة وسيلة، والخطبة أسلوب ... وهكذا. إن القرآن الكريم أسلوب للدعوة، ينقل إلى الناس بوسائل عديدة مثل: المشافهة، والكتابة، وآلة تكبير الصوت ... وهكذا. وأيضا فإن القرآن الكريم وهو أسلوب للدعوة موجود قبل عملية توصيله للناس، وقد تتعطل الوسيلة وتنتهي ولا يتعطل القرآن الكريم؛ لأنه محفوظ بأمر الله تعالى. ولهذا كانت أهمية التمييز بين الوسيلة والأسلوب.. وأهم أساليب الدعوة ما يلي:

أولا: وسائل المواجهة "المشافهة" يعتمد هذا اللون من الاتصال على المواجهة المباشرة بين الداعي والمدعو؛ حيث تنقل الرسالة بواسطة هذه الوسيلة. والاتصال المواجهي أقدم أنواع الوسائل، وأكثرها تأثيرا، وهو يشمل الاتصال الذي يتم بين فرد وفرد، أو بين فرد وجماعة، أو بين جماعة وجماعة، ما دام كل منها يتم بصورة شفوية مباشرة. ومن صور الاتصال المواجهي ما يلي: أ- المحادثة البسيطة: وتكون بين عدد قليل من الناس بينهم معرفة سابقة حيث؛ يتحدث كل منهم مع الآخر سائلا أو مجيبا؛ كأفراد الأسرة، والجيران، وزملاء الدراسة والعمل ... وهكذا. ب- المناقشة: وهي فن من فنون التربية والدعوة، وتتم مشافهة بين عدد من الأشخاص؛ حيث يعرض كل منهم رأيه من الموضوع محل النقاش، وتختلف المناقشة عن المناظرة؛ لأن المتناقشين يسيرون في اتجاه واحد، بينما المتناظرون يسيرون في خطوط متعارضة، كما أن المناقشة تتم أحيانا بلا إعداد، بينما المناظرة تقوم على الإعداد دائما. ج- الخطبة: بكافة أنواعها، لها دورها في الحضارات القديمة وما زال لها هذا الدور، وتتميز الخطبة بتأثيرها الواضح؛ لأنها تخاطب العواطف والوجدان، وتدور حول موضوعها، وتقدم العديد من البراهين، في صور بيانية مؤثرة. والخطبة تلقى من جانب واحد فقط هو الخطيب؛ ولذلك وجب على من يقوم بالخطبة أن يهتم بجوانبها الفنية وقواعدها العلمية؛ لكي يحقق الهدف الذي يرجوه من وراء عمله. د- الندوة: وتقوم على الاتصال المباشر إلا أنها تختلف عن الخطبة بأن الاتصال فيها يتم بمشاركة عدد من الاتجاهات تدور حول موضوع واحد.

وتحتاج الندوة إلى جمهور مثقف متمكن من المتابعة، والمشاركة في الحوار؛ لأن بعض الندوات يفتح فيها للجمهور باب التعليق ليساهموا بآرائهم مع المتحدثين الأساسيين في الندوة. هـ- المحاضرة: وهي لون من الاتصال المواجهي يعتمد على التحليل العلمي، والبراهين القوية، وهي وسط بين الخطبة والندوة؛ لأنها تأخذ من الخطبة أن المتحدث فيها واحد، والمستمع جمهور عريض، وتأخذ من الندوة فتح باب المناقشة حول موضوع المحاضرة. و الدرس الديني: وهو لون من الاتصال الديني يتم في المساجد غالبا، وهو اتصال يتسع الموضوع فيه، ويفتح المجال أمام المستمع للسؤال والمناقشة، وله أثره الكبير في نشر الدين، والتعريف بقضاياه. 2- الوسائل المكتوبة والمطبوعة: استعمل الإنسان هذا النوع قديما ولكن بصورة بدائية، فحينما اخترعت الكتابة كان الإنسان يكتب على الجلد وورق الشجر وورق البردي وما شاكل ذلك، وبهذه الطريقة استفاد الإنسان منذ القديم بالكتابة؛ حيث ضمنها ما أراد من آراء وأخبار، وأوصلها إلى غيره، أو تركها للأجيال المتعاقبة من بعده. وهذه الوسيلة هي التي عرَّفت الناس حديثا بالحضارات القديمة، وما وقع لها من حروب وأحداث، وما كان فيها من ممالك ودول. وفي عام 1454م تمكن الإنسان من اختراع المطبعة، الأمر الذي ساعد على إعطاء صور عديدة للرسالة الواحدة، وفي أشكال متعددة؛ إذ يمكن إبراز الرسالة في شكل كتاب، أو في نشره، أو في صحيفة، أو في خريطة، وهكذا. وتتميز الوسائل المطبوعة بما يلي: أ- تقوم على الرأي المدروس؛ لأن المصدر لا يكتب رسالته إلا بعد بحث وتأمل، ويحاول أن يصوغها في قالب بياني مشوق، دال على معناه، بيسر وسهولة.

ب- تسمح للقارئ بتكرار قراءتها، والتحكم في ظروف التعرض لها مكانا وزمانا، وبذلك يتمكن من فهمها، واستيعاب المراد منها؛ ولهذا نادى بعض الباحثين بأن تقدم الرسائل المعقدة في صورة مطبوعة لتحقيق الهدف منها. ج- تتمكن الرسالة المطبوعة من الوصول إلى الجماهير المتخصصة، والصغيرة الحجم؛ لقلة تكلفتها إذا قورنت بالوسائل الأخرى. د- تساعد الرسالة المطبوعة على الإقناع؛ لأنها لا تخترق السمع، ولا تفاجئ العين، وإنما يقدم المتلقي عليها مختارا راضيا مما يجعله جزءا من موضوعها فيتخيل، ويفسر، ويرضى أو يرفض، وتلك هي مراحل الاقتناع. هـ- تؤدي الرسالة المطبوعة إلى الفهم الدقيق الهادئ؛ لأن القارئ يمكنه أن يقرأها عددا من المرات، ويمكنه أن يجزئ قراءتها، وله أن يتأكد من صدق ما جاء فيها بالبحث والتحري والتأمل. وقد أدى التطور بالوسائل المطبوعة إلى قيام مؤسسات ضخمة ساعدت على اتساع النشر، وضخامة التوزيع، مما جعلها بحق وسيلة للاتصال الجماهيري. 3- الوسائل المسموعة: ويقصد بها الوسائل التي توصل الكلمة إلى الجماهير العريضة عبر المسافات البعيدة وهي الراديو، تلك الوسيلة العجيبة التي تحمل الكلمة المذاعة بمختلف أشكالها وفنونها إلى أي مكان في العالم في ثوانٍ قليلة. وتتميز هذه الوسيلة بما يلي: أ- يتميز الراديو بقدرته على اختراق أي مكان في الكرة الأرضية في زمن وجيز بلا عائق أو حاجز. ب- يتميز الراديو بقدرته على مخاطبة كافة الفئات مهما اختلفت ثقافتهم وأعمارهم وأجناسهم.

ج- لا يحتاج الراديو إلى التفرغ التام من المتلقي؛ لأن من الممكن الاستماع إلى الراديو خلال الاشتغال بعمل آخر، يقول إيريك بارنو: "إن الراديو هو الوسيلة الوحيدة التي لا تستحوذ على العين؛ أي: أنه يمكن أن يخدم جمهورا نشطا أثناء تناوله الطعام، وقيامه بالعمل المنزلي، وأثناء نهوضه من النوم، واستحمامه وأثناء أداء متطلباته، وهكذا"1. د- تتميز الرسالة المرسلة بالراديو باشتمالها على المؤثرات الصوتية، والحوار البناء، وهذا يجذب المستمع ويربطه بالرسالة الإعلامية. هـ- يتميز الراديو بنقل رسائله فور وقوعها؛ ولذلك فهو الوسيلة الأساسية في وقت الأزمات، وحين وقوع حروب وصراعات. و التكرار في الرسالة الإعلامية بواسطة الراديو تكون مقبولة غير مملة؛ لأنها تتخذ صورا متعددة، كل منها له جاذبيته الخاصة للمستمع. وقد أدى التطور الحضاري إلى قيام الراديو بالترفيه بجانب قيامه بالخبر والتثقيف. 4- الوسائل المسموعة المرئية: وتجمع هذه الوسيلة أهم العناصر المؤثرة في المستمع، وهي: الصوت، والحركة، والصورة، وبذلك تتمكن من جذب أكثر من حاسة لدى الجمهور، ولولا ما في هذه الوسيلة من صور غير مشروعة، وبرامج مثيرة للشهوة، لقلنا: إنها أعظم وسيلة إعلامية معاصرة، وأكثرها فائدة للدعوة إلى الله تعالى. والأمل معلق بالمسلمين أن يستفيدوا بكافة الوسائل، ووضعها في الأطر الشرعية؛ لتكون طريقا لإيصال الإسلام كما نزل من عند الله إلى كل مكان في العالم أداء للأمانة، وتحقيقا للذات، وتأسيسا لحضارتهم الذي يعمل الإسلام لتحقيقها.

_ 1 الأسس العلمية لنظريات الإعلام ص364.

وليس من المقبول في عالم اليوم أن يعيش المسلمون -وهم مسلمون- تابعين لغيرهم مقلدين، وهم يملكون الأصالة والحياة. إن الرؤية تدفع المشاهد إلى التنوع، وتقدم الحدث نابضا بالحركة والحيوية. خامسا: الداعي والمدعو الداعي والمدعو هما طرفان في العملية الدعوية؛ لأن الداعي هو حامل الدعوة ومبلغها، والمدعوون هم غاية الدعوة، والمقصودون بعملية الدعوة كلها، وعلى الداعي أن يتصف ببعض المزايا التي تمكنه من القيام بواجباته، ومنها أن يتعامل مع المدعوين بما يناسب واقعهم وأحوالهم، ويؤدي إلى اقتناعهم بما يعرض لهم، وهذه تحتاج إلى دراسات عديدة، وسوف نذكر بعضها -بإذن الله تعالى- حين نستنبط أهم ركائر الدعوة المستفادة من المرحلة المكية. والرسول صلى الله عليه وسلم هو إمام الدعاة ورائدهم، وهو أسوة الدعاة على الزمن كله1. إن تحديد المفاهيم المتصلة بحركة الدعوة النبوية عمل أرجو من ورائه متابعة حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى؛ لنستفيد بها، ونضع كل جانب في موضعه، ونحن نتحرك بالدعوة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 انظر: الإعلام في القرآن الكريم ص214 وما بعدها.

المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية

المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية مدخل ... المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية في مرحلة النبوة التي استمرت ستة أشهر أَلِفَ النبي صلى الله عليه وسلم ملاقاة جبريل عليه السلام، وتهيأت نفسه للمحافظة على ما يوحى إليه، والقيام بما يكلف به، والقدرة على تبليغه، والدعوة إليه. وهنا نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} 1 حيث كلفه بالنهوض، وبذل الجهد، والإنذار، والدعوة، والقيام بواجبات الرسالة، وبذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم أولى مراحل الدعوة التي استمرت حتى نزل قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 2، وبلغت مدتها عامين ونصفا لتبدأ مرحلة الجهر بالدعوة بعد ثلاث سنوات من بداية الوحي3، وقد عرفت هذه المرحلة بـ"مرحلة الدعوة السرية". ومفهوم السرية التي وصفت بها الدعوة لا يعني الكتمان؛ لأن الدعوة بطبيعتها تعني تبليغ الغير أمرا ليتبعه، مع ترغيبه في الاتباع، وتخويفه من الترك، كما تفيد الدعوة الطلب المتكرر، والنصح المؤكد، وإظهار الخير، والمصلحة للمدعوين، بأساليب متعددة، وبوسائل مختلفة. إن أبا بكر رضي لله عنه من السابقين الأول إلى الإسلام، ومع ذلك سمع قبل إسلامه من قريش أعداء الإسلام حديثهم عن الدعوة، مما يؤكد أن الدعوة لم تكن سرا مكتوما، ويروي ابن كثير أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

_ 1 سورة المدثر الآيتان 1، 2. 2 سورة الحجر آية 94. 3 السيرة النبوية ج1 ص262، وبذلك تكون فترة تهيئة النبي للرسالة ستة أشهر.

أحق ما تقول قريش يا محمد: من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى، إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته"، وقرأ عليه القرآن، فلم يقر، ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق1. ولهذا فإن وصف الدعوة بالسرية خلال هذه المرحلة كان للسرية النسبية التي ظهرت خلال الحركة بالدعوة. ومن ملامح الحركة بالدعوة خلال هذه المرحلة ما يلي:

_ 1 البداية والنهاية ج1 ص26.

أولا: اقتصار الدعوة على العقيدة

أولا: اقتصار الدعوة على العقيدة: دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالرسول، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بهذه الأركان لا يتم إلا بترك الشرك، ونبذ عبادة الأصنام. يقول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى". ويقول لأبي بكر رضي الله عنه: "إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى ترك عبادة غيره". وكان صلى الله عليه وسلم يخرج متخفيا لعبادة الله مع علي في شعاب مكة، لا يعلم أحد عنهما شيئا إلا الله تعالى، وذات يوم عثر عليهما أبو طالب، وهما يصليان. فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يابن أخي! ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: "أي عم، هذا دين الله، ودين ملائكته، ودين رسله، ودين أبينا إبراهيم عليه السلام، بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أي عم، أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إليه، وأعانني عليه".

فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت. وذكروا أنه قال لعلي: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال علي رضي الله عنه: يا أبتِ، آمنت بالله وبرسوله الله، وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته. فذكروا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه1. فنجده صلى الله عليه وسلم في حواره مع عمه يورد الكلمات الموجزة، الجامعة للمعاني الكثيرة، مع التركيز على القضايا المسلمة عند العرب، والانطلاق منها إلى ضرورة الإيمان بالله تعالى. فالعرب جميعا يعرفون الله تعالى، ويسلمون له بالقدرة، ومع ذلك يشركون معه في العبادة آلهة آخرى ... ويعتزون بأبيهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. ولذلك وضح النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أنه يدعو لدين الله، ودين إبراهيم عليه السلام، ودين الأنبياء السابقين. ولم يغب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبة عمه بالحسنى فيقول له: "أي عم، أنت أحق من بذلت له النصيحة، ورجوت له الهداية". ومع أن أبا طالب لم يستجب للدعوة إلا أنه طمأن محمدا صلى الله عليه وسلم على حمايته، ولم يعترض علي إيمان ابنه علي رضي الله عنه. وكان مجرد إعلان الصحابي "أي صحابي" الإيمان بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية لتبدل حياته كلها، ليظهر جديدا في كل شيء، ويتغير تغيرا تاما، وتلك إحدى العجائب التي صنعها محمد صلى الله عليه وسلم في الذين آمنوا بدعوته. يقول سيد قطب: ولقد كنت وأنا أراجع سيرة الجماعة المسلمة الأولى أقف أمام شعور هذه الجماعة بوجود الله سبحانه، وحضوره في قلوبهم وفي حياتهم،

_ 1 السيرة النبوية ج1 ص247.

فلا أكاد أدرك كيف تم هذا؟ كيف أصبحت حقيقة الألوهية حاضرة في قلوبهم وفي حياتهم على هذا النحو العجيب؟ كيف امتلأت قلوبهم وحياتهم بهذه الحقيقة هذا الامتلاء؟ كيف أصبحت هذه الحقيقة تأخذ عليهم الفجاج والمسالك والاتجاهات والآفاق؛ بحيث تواجههم حيثما اتجهوا، وتكون معهم أينما كانوا، وكيفما كانوا؟ كنت أدرك طبيعة وجود هذه الحقيقة، وحضورها في قلوبهم وفي حياتهم، ولكني لم أكن أدرك كيف تم هذا! عدت إلى القرآن أقرؤه على ضوء موضوعه الأصيل، وعرفت منهج القرآن في تجلية حقيقة الألوهية، وتعبيد الناس لها وحدها، بعد معرفتها، وهنا فقط أدركت كيف تم هذا كله. أدركت سر الصناعة، عرفت أين صنع ذلك الجيل المتفرد في تاريخ البشرية وكيف صنع! إنهم صناعة قرآنية، صنعوا في هذا المنهج الرباني على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غرس في نفوسهم معرفة أن الله هو الأول والآخر، والله هو الظاهر والباطن، والله هو الخالق والرازق، والله هو المسيطر والمدبر، والله هو الرافع والخافض، والله هو المعز والمذل، والله هو القابض والباسط، والله هو المحيي والمميت، والله هو النافع والضار، والله هو المنتقم الجبار، والله هو الغفور الودود، والله هو العلي الكبير، والله هو القريب المجيب، والله هو الذي يحول بين المرء وقلبه، والله هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، والله هو العليم بذات الصدور، وهو معهم أينما كانوا، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وهو الذي ينزل الغيب من بعد ما قنطوا وينشر رحمته، وهو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ولا ملجأ من الله إلا إليه، وما لهم من دونه من وال، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا.

وهكذا.. وهكذا.. جعلت هذه الحقيقة تملأ على الناس حياتهم، وتواجههم في كل درب، وتتراءى لهم في كل صوب، وتأخذ على أنفسهم أقطارها، وتعايشهم، وتساكنهم بالليل والنهار، وبالغدو والأسحار، وحين يستغشون ثيابهم، وحين تهجس سرائرهم، وحين يستخفون من الناس، بل حين يستخفون من نفوسهم التي بين جنوبهم1، حتى خرجت منهم أناس يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتيقنون بأن الدار الآخرة هي الحياة الصحيحة، ويعيشون العبادة والعبودية في خواطر النفس، وهمسات الروح، وقول اللسان، وعمل الجوارح. ولا عجب بعد أن كانوا هكذا، فلقد تتلمذوا في مدرسة النبوة، وتكونوا بمنهج الله، وكانوا الجماعة الإسلامية الأولى.

_ 1 مقومات التصور الإسلامي ص190، 191.

ثانيا: قيام الدعوة على الاتصال الفردي

ثانيا: قيام الدعوة على الاتصال الفردي 1: قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتوجيه الدعوة إلى الناس بصورة فردية، فلقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم دعا السابقين إلى الإسلام كلا على حدة، وأحيانا كانت الدعوة تبدأ بسؤال موجه من الصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحيانا آمن البعض اقتناعا بما كان يسمع ويرى. وخديجة رضي الله عنها أول من دخلت في الإسلام، آمنت بالرسالة قبل أن يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منها أن تؤمن؛ لأنها كانت تبشر بالرسالة، وتنتظرها،

_ 1 يسمى علماء الإعلام الاتصال الفردي بالاتصال الشخصي ويذكرون أنه الاتصال المباشر الذي يتم مواجهة بين فردين أو بين فرد وجماعة صغيرة بين أعضائها علاقة ما. وهو يتم عادة بطريقة تلقائية كالتحية والرد عليها، وإجابة سؤال، والتحادث حول أمر ما. ونمط هذا الاتصال المواجهة، والاحتكاك المباشر، ورد الفعل فيه يكون واضحا. ويتميز هذا النوع بأنه يتم في اتجاهين بصورة مباشرة مما يؤدي إلى فهم كل طرف للآخر، وهذا يساعد على الفهم، وسرعة القضاء على المعوقات التي تظهر أثناء العملية.

فلما جاء جبريل بالوحي صدقت بما كانت تتوقعه، وأخذت تعبد الله كما يتعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلما تعلم الرسول الوضوء والصلاة وعاد لخديجة، توضأت كوضوئه، وصلت بصلاته، فلما رآهما علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصليان سألهما علي: ما هذا؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى". فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرا حتى أحدث به أبا طالب. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: "يا علي، إذ لم تسلم فاكتم"، فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد"، ففعل علي وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره1. وكان سن علي رضي الله عنه يوم أسلم عشر سنوات، كان من فضل الله على عليٍّ رضي الله عنه في إسلامه أن جعله سبحانه وتعالى ينشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه سلم قبل الإسلام، يكفله صلى الله عليه وسلم ويربيه كأنه ابنه. وأسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ يحفظ القرآن معه. وأراد الله بأبي بكر خيرا، فسمع عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه مسرعا يسأله قائلا: أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا؟

_ 1 حياة الصحابة ج1 ص48.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى، إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته"، وقرأ عليه القرآن، فأسلم، وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق1. وهكذا أسلم أبو بكر وعلي وزيد رضي الله عنهم، وهم أول من دخل في الإسلام بعد خديجة، والعلماء مختلفون في أسبق الثلاثة إلى الإسلام، فمنهم من قال: أولهم أبو بكر، ومنهم من قال: أولهم علي، ومنهم من قال: أولهم زيد بن حارثة. والأولى بالصحة أن أولهم علي بن أبي طالب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما" 2. يجمع أبو حنيفة الآراء المذكورة، ويؤكد صحتها جميعا، ويرى أن أول من أسلم من النساء خديجة، وأول من آمن من العبيد الأرقاء زيد بن حارثة، وأول من آمن من الصبيان علي بن أبي طالب، وأول من آمن من الرجال الأحرار الكبار أبو بكر رضي الله عنهم جميعا3. ويروي ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن الحنفية أن أبا بكر لم يكن أول المسلمين إسلاما، بل أفضلهم، وأكثرهم فائدة للدعوة إلى الإسلام4. وعلى الجملة، فإن إسلام هؤلاء السابقين إلى الإسلام تم بالدعوة الفردية..

_ 1 المرجع السابق ج1 ص46. 2 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد ج9 ص123. 3 البداية والنهاية ج3 ص29. 4 المرجع السابق ج3 ص31.

ثالثا: تخير المدعوين

ثالثا: تخير المدعوين: لم يكن التوجه إلى الأفراد يتم مع جميع الأفراد بصورة مطلقة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتخير من يدعوهم، وهم المتصفون بالهدوء، وقلة الحديث، والتسامح، وحب الخير؛ لأن هؤلاء الأشخاص إن أسلموا لن يجاهروا بإسلامهم، ولن يظهروه لصناديد مكة وشيوخها، ولن يتحدثوا عنه إلا مع أفراد على نمطهم وصفاتهم، وإن لم يسلموا، فالصمت ديدنهم، ولن يحاولوا إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم بالتحدث عنه، والتكلم فيما دعاهم إليه.. ولذلك نرى المسلمين الأُوَل كانوا من أمثال أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، أما عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، فقد تم عرض الإسلام عليهم في مرحلة تالية. وهكذا بقيت الدعوة منحصرة بين أفراد معينين، ولم يصل إلى أهل مكة إلا معارف قليلة عن الدعوة لا تحرك فيهم ساكنا، ولا تثير غضبهم، ولا تهيج مشاعرهم. إن هذا التخير والاصطفاء للمدعوين إجراء حكيم قام به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لضمان بداية سليمة وموفقة للدعوة؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يركز على المعرفة الشخصية "لقابليات" الأفراد من جهة، ومدى استعدادهم للتجاوب مع الدعوة والانخراط في موكبها من جهة أخرى، حتى لا يتسرب إليها من ليس في مستواها، ممن لا يصلحون طليعة قيادية يؤسس عليها صرح الدعوة في هذه المرحلة1.

_ 1 سيرة ابن هشام ج1 ص288، 289.

رابعا: تجنب ضلالات القوم

رابعا: تجنب ضلالات القوم: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويعلم أصحابه العقيدة المطلوبة منهم، مع تجنب الحديث عن آلهة القوم وضلالهم مع الأصنام، لم يذم الآلهة، ولم ينقد عبدتها، وإنما اكتفى بعرض أركان العقيدة، وبيَّن مدى أحقيتها في ذاتها، وأخذ يظهر للناس ما في أنفسهم، وفي الكون من دلالات على وحدانية الله واستحقاقه وحده للعبادة. والآيات التي نزلت في هذه المرحلة شاهدة على مدى ابتعاد النبي صلى الله عليه وسلم عن نقد ضلالات القوم، والاكتفاء بتربية المسلمين، وتقوية إيمانهم، ومن هذه الآيات: أوائل سورة المزمل، وأوائل سورة القلم، وهي آيات تحدد منهج التربية الإيمانية،

وبناء عقيدة قوية متصلة بالله تعالى عن طريق قيام الليل، وقراءة القرآن؛ حيث يتعود المسلم بالقرآن، وقيام الليل على يقظة القلب، وقوة التأمل، وتربية الإرادة.. وبذلك يتحول العبد إلى طاقة قوية، تستفيد بما في الليل من فوائد، وتستعد لما في النهار من عمل، كل ذلك في عبودية ذاكرة، وقلب مخبت منيب. وتؤكد الآيات عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تتحدث عن كمال عقله وكرم خلقه وعلو شأنه في الدنيا وفي الآخرة، يقول تعالى: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} 1.

_ 1 سورة القلم الآيات 1-5.

خامسا: دعوة الأقربين الذين يعاشرهم

خامسا: دعوة الأقربين الذين يعاشرهم صلى الله عليه وسلم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام على الناس المختارين، وكان في تخيره لمن يدعوهم يكتفي بالأقرب إليه الذي يعايشه ويعاشره، فدعا علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأخذ يطبق تعاليم الوحي مع هؤلاء الأقربين تاركا الآخرين لوقت يقدره الله تعالى.. يقول يحيى بن عفيف: جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس، وحلقت في السماء، وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدا فسجدا معه. فقلت: يا عباس، أمر عظيم! فقال العباس: أتدري من هذا؟ فقلت: لا.

فقال العباس: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي. قال: أتدري من الغلام؟ قلت: لا. قال: هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا. قال: هذه خديجة بن خويلد زوجة ابن أخي، وقد حدثني محمد أن ربك رب السماء والأرض، أمره بهذا الذي تراه عليه، وايم الله، ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة1. وبقيت الدعوة منحصرة في هذا العدد القليل حتى أسلم أبو بكر رضي الله عنه فأظهر الإسلام، ودعا أصحابه إليه ملتزما بأهمية التخير في الدعوة كما تعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص25.

سادسا: إسلام الضعفاء فقط

سادسا: إسلام الضعفاء فقط كان السابقون إلى الإسلام من الضعفاء الفقراء الذين لا جاه لهم في مكة ولا سطوة، وهذا أمر جعل أشراف مكة لا يهتمون بالإسلام أول أمره؛ استهانة بقلة أتباعه، وهوانهم بين الناس، ويروي البخاري بسنده عن همام قال: سمعت عمارا يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر1. والعبيد هم: زيد بن حارثة، وبلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، وأبو فكيهة مولى صفوان بن أمية، وعبيد بن زيد الحبشي، والمرأتان هما: خديجة، وأم أيمن، نظر أهل مكة إلى هؤلاء الضعفاء، فاستصغروا شأنهم، وتصوروهم ظاهرة عارضة، لا تلبث أن تنتهي وتزول.

_ 1 صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب فضل أبي بكر ج6 ص81.

وساعدهم على هذه النظرة أن العبيد من هؤلاء الضعفاء لم يقصروا في أعمالهم، ولم يرتكبوا خيانة لسادتهم، مع أنهم لم يسلموا. وقد قضى الله تعالى بأن يكون أتباع الدعوة الأول من الضعفاء الفقراء؛ لتنمو الدعوة على سنة البشر في التطور والتقدم، وليعلم المسلمون دائما حاجتهم الملحة للصبر والتحمل، ومواجهة الطغيان بالعفو والتسامح. إن هؤلاء الضعفاء هم القوة العملية في مجتمعهم، فمنهم العمال والأجراء والعبيد، ولا بد أن يعملوا ليعيشوا، فليس معهم المال الذي يدفعهم إلى الترفه والكسل، وتلك خاصية أفادت الدعوة الإسلامية لأنهم لما آمنوا بها وضعوا طاقتهم واستعدادهم في خدمتها، ولذلك هاجروا بها، وواصلوا الدعوة إليها، وتحملوا في سبيلها الكثير، فقدموا بذلك النماذج الرائدة للمسلمين بعدهم، ولو كانوا من المترفين المنعمين ما تحملوا أذى، وما صبروا على مشقة، ولعجزوا عن أداء ما كلفوا به. وأحب أن أبين قضية لها أهميتها، وهي أن ضعف هؤلاء كانت في الجانب المادي فقط، أما في الجانب المعنوي فكانوا هم الأقوياء، وهم العقلاء، فقد دخلوا في الإسلام مخالفين أسيادهم، ولم يعبئوا بأي أذى ينالهم، وتحملوا -صابرين- كل ما أصابهم من ظلم وعدوان، وصل أحيانا إلى حد القتل والفناء.

سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه

سابعا: قصور الدعوة على أهل مكة ومن يأتيه اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال هذه المرحلة على أفراد من الأقربين إليه في مكة، ولم يخرج عن هذا الإطار في دعوته، اللهم إلا مع من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خارج مكة، وجاء يبحث عن دين الله تعالى. ولذلك بقيت الدعوة في نطاق محدود، لم يؤمن بتعاليمها أحد خارج مكة، ولم ينشغل كفار مكة بتتبعها، ولم يحدث صدام بين المؤمنين وغيرهم. واستمر الأمر هكذا حتى قويت هذه الجماعة الأولى، وأسلم أبو بكر رضي الله عنه فأعلن الأمر، وجاهر به، بعد إصرار منه على ذلك.

وكان صلى الله عليه وسلم حريصا في هذه المرحلة على عدم إثارة كفار مكة منعا للتصادم معهم، فكان إذا جاءه من يسلم بدعوته، وهو من غير مكة يأمره بكتم إسلامه، والامتثال لأمر الله، والعمل به بعيدا عن الناس، وهذا من الحكمة في الدعوة؛ لأن كفار مكة لو بدءوا يعملون ضد المسلمين في هذه المرحلة لتمكنوا منهم لقلة عددهم وضعف وجودهم، وهذا قدر أراده الله للمؤمنين في هذه المرحلة لينصر دينه بهم. يروي ابن سعد بسنده عن شداد بن عبد الله: أن أبا أمامة سأل عمرو بن عبسة: بأي شيء تدعي أنك ربع الإسلام؟ قال: إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان بشيء، ثم سمعت عن رجل يخبر أخبارا بمكة، ويحدث بأحاديث، فركت راحلتي، حتى قدمت مكة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا، وإذا قومه عليه جرآء. فتلطفت حتى دخلت عليه فقلت: من أنت؟ قال: "أنا نبي". فقلت: وما نبي؟ قال: "رسول الله". قلت: الله أرسلك؟ قال: "نعم". قلت: فبأي شيء؟ قال: "بأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، وتكسر الأوثان، وتوصل الأرحام". فقلت له: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد" يقصد: أبا بكر، وبلال بن رباح. فقلت له: إني متبعك.

قال: "إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت، فالحق بي". فرجعت إلى أهلي وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة وقد أسلمت، فجعلت أتخبر الأخبار حتى جاء ركبه من يثرب فقلت: ما فعل هذا الرجل المكي الذي أتاكم؟ فقالوا: أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذاك، وحيل بينهم وبينه، وتركت الناس إليه سراعا، فركبت راحلتي، حتى قدمت عليه المدينة. فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: "نعم، ألست الذي أتيتني بمكة؟ ". فقلت: بلى يا رسول الله، علمني مما علمك الله وأجهله. "ثم ذكر الحديث بطوله، وفيه تفصيل مواقيت الصلاة والوضوء وغير ذلك"1. وهكذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل إلى عدم البقاء في مكة والرجوع إلى قومه، وملازمة الصمت والسكوت، حتى يظهر أمر الإسلام، وبعدها يتمكن من الحركة والجهر والدعوة، في ظلال حفظ الله، ونصر إخوانه له. ويبدو أن عمرو بن عبسة رضي الله عنه كان من الحنفاء، الذين أظهروا فساد آلهة القوم، وأخذوا في البحث عن الدين الحق؛ ولذلك كان توجيهه إلى التخفي أمرا ضروريا في هذه المرحلة من مراحل الدعوة؛ لأن الحنفاء تعودوا نقد ما عليه الناس، واحتقار آلهتم، من غير تقديم دعوة جديدة، تتضمن معالم دين صحيح، فلو استمر عمرو بن عبسة في النقد مع إسلامه، فإنه يمثل خطورة لأهل مكة تشعل غضبهم في هذه المرحلة التي لا تتحمل هذا. يخبر شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية، وذلك أنها باطل، فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله.

_ 1 الطبقات الكبرى ج4 ص216.

يخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبده. ثم لعله يجد ما هو أحسن منه، قبل أن يرتحل، فيتركه، ويأخذ غيره إذا نزل منزلا سواه. فرأيت أنه إله باطل، لا ينفع، ولا يضر، فدلني على خير من هذا. فقال: يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها، فإذا رأيت ذلك فاتبعه، فإنه يأتي بأفضل الدين، فلم تكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة فآتي فاسأل: هل حدث فيها حدث؟ فيقال: لا، ثم قدمت مرة فسألت، فقالوا: حدث فيها رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، فرجعت إلى أهلي، فشددت راحلتي، ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة، فسألت عنه فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا عليه أشداء، فتلطفت حتى دخلت عليه فسألته. فقلت: أي شيء أنت؟ قال: "نبي". قلت: ومن أرسلك؟ قال: "الله". قلت: وبِمَ أرسلك؟ قال: "بعبادة الله وحده لا شريك له، ويحقن الدماء، ويكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل". فقلت: نعم ما أرسلت به، قد آمنت بك، وصدقتك، أتأمرني أمكث معك أو أنصرف؟ فقالت: "ألا ترى كراهة الناس ما جئت به؟ فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني" 1.. وساق الحديث السابق بطوله، وبألفاظ متقاربة.

_ 1 الطبقات ج4 ص217.

ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه

ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه أخذ صلى الله عليه وسلم يتخفى عن أعين أهل مكة وهو يوجه أتباعه، ويطبق معهم تعاليم الإسلام. وقد اختار صلى الله عليه وسلم للتخفي أماكن لا تكتشف بسهولة، ومن ذلك الشعاب البعيدة عن بيوت أهل مكة، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الشعاب، ومعه علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة للصلاة فيها بعيدا عن أعين الناس1. يقول ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا2. ولما كثر عدد المسلمين كانوا يذهبون إلى الشعاب فرادى أو مثنى؛ محافظة على السرية، وعدم التصادم. ومن طرق التخفي اتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم مكانا يجتمع فيه المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعلم والعمل.. وكان اختيار دار الأرقم ملائما للتخفي والاستتارة لعدة أسباب: أ- تقع دار الأرقم عند الصفا، وهو مكان يتجه إليه كثير من أبناء مكة، وتوجه المسلمين إلى هذا المكان أمر عادي لا يثير تساؤلا، ولا يوقعهم في شبهة. ب- لم يتوقع أحد من أهل مكة أن يجتمع محمد صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في دار الأرقم، ولا يمكن لهم أن يتصوروا ذلك؛ لأن الأرقم من بني مخزوم، وهي قبيلة تنافس بني هاشم في السلم والحرب، ولا يتصور أن تنشأ دعوة هاشمية في دار مخزومية. ج- أسلم الأرقم وهو صغير لم يبلغ السادسة عشرة, وصبي في هذا العمر لا يجرؤ أن يجعل بيته مكانا لتجمع المسلمين، فلقد جرت عادة القرشيين أن يكون اجتماعهم في بيوت كبار القوم وأغنيائهم وشيوخهم.

_ 1 إمتاع الأسماع ج1 ص17. 2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ج1 ص246.

د- إسلام الأرقم نفسه كان سرا على قبيلته، وعلى غيرهم، ولا يمكن تصور بيته حينئذ مكانا لاجتماع المسلمين؛ لأن صاحبه لم يدخل في الإسلام في نظرهم. والحكمة في بدء الدعوة بالاستخفاء عديدة، منها: 1- التريث ريثما تتكون لبنات قوية المزج، شديدة التماسك، في جو بعيد عن إثارة المعوقات في طريق سير الدعوة؛ لأن هذه اللبنات هي القوة الدافعة التي سيعتمد عليها بناء المجتمع الإيماني الجديد، في مواجهة قوى الظلم والبغي المتربصة بهذا الدين، في صبر لا يعرف الوهن، وجهاد لا يعرف اليأس. 2- ضرورة المسالمة في البداية؛ لأن مهاجمة هذا المجتمع الغارق في شروره ومواجهته بضلاله، وساق الدعوة لم يستوِ بعد، يؤذن بتحريك دوافع المقاومة للدعوة في نفوس المستكبرين، والدعوة لا تزال في أول خطواتها، فتتعثر في سيرها، وهي لا تزال وليدة طرية. لذلك آثر النبي صلى الله عليه وسلم الاستسرار بدعوته، وتبليغ رسالته؛ حرصا منه أن يكون سيرها مطردا، وئيدا، هادئا، تسير إلى القلوب بخطا ثابتة، حتى تتمكن من الإعلان عن نفسها في الوقت المناسب1، بعد أن يؤمن بها عدد من الناس يضحون في سبيلها بالغالي والنفيس، مما يضمن استمرارها وبقاءها. 3- إتاحة الفرصة للدعوة حتى تصل إلى مسامع العرب في مواسمهم ومحافلهم وأسواقهم ومضارب منازلهم، فأتت هذه الخطوة أكلها؛ حيث أقبل إلى مكة فريق منهم، يتحسس أخبارها، ويتعرف مكانها في خفية وحذر، حتى إذا بلغوا مأمنها في مقرها "دار الأرقم" أسلموا لله تعالى، واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم، واهتدوا بهديه، وآمنوا بما جاء به من الحق2.

_ 1 محمد صادق عرجون، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ج1 ص605. 2 منهج النبي صلى الله عليه وسلم ص149.

4- المساهمة في تكوين قاعدة إيمانية صُلْبة، ومثالية في هدوء وأناة؛ لتقوم بدورها في المراحل التالية، ولتقدم أسوة راقية لمن بعدهم في الخلق والسلوك وأداء الواجب.

تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة

تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة: قام الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الدعوة إلى الله تعالى، وتبعه نفر قليل، فأخذ يعلمهم بتعاليم الله التي ينزل بها الوحي، وأخذ المسلمون يعيشون حياة جديدة طيبة، وتكون منهم أناس ربانيون خرج حظ الشيطان من نفوسهم، وتابع الرسول صلى الله عليه وسلم تغذيتهم بالقرآن وتقويتهم بالإيمان حتى صاروا -بحق- عبيدا لله، لا يريدون في الأرض علوا ولا فسادا.. ورأوا أن أعظم العمل هو الدعوة لدين الله والعمل به.. ولذلك رأينا أبا بكر رضي الله عنه لم يكتفِ بإسلامه متخفيا، وإنما أظهر إسلامه، ودعا إلى الله، وإلى رسوله، فأسلم بدعوته: عثمان بن عفان. والزبير بن العوام. وعبد الرحمن بن عوف. وسعد بن أبي وقاص. وطلحة بن عبد الله بن عثمان ... رضوان الله عليهم أجمعين. فلما أسلم هؤلاء الخمسة، قدم بهم أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلوا معه، وصدقوا برسالته، وبلغ عدد المسلمين بهم ثمانية1.. وفي اليوم التالي جاء أبو بكر بنفر آخرين أسلموا بدعوته أيضا، وهم: عثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم. ويرجع نجاح أبي بكر في الدعوة إلى عدة أسباب:

_ 1 تاريخ الطبري ج1 ص317.

أ- بساطة الدعوة إلى التوحيد، كما هو ظاهر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته".. وفي قوله صلى الله عليه وسلم دلالة على أن الله واحد، وحقه أن يعبد وحده، ونبذ ما عداه من آلهة وشركاء. وقد صدق أبو بكر بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن به بلا تردد أو مراجعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما تردد فيه" 1. ب- اشتهار أبي بكر رضي الله عنه في مكة بحسن الخلق، وسَعَة الأفق، وتنوع الثقافة، ودقة الأمانة، يقول ابن كثير: وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه، محبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق، ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لغير واحد من الأمر؛ لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه، ويجلس إليه2. ج- الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في الاصطفاء، وتخير من يدعوهم، كما هو واضح من الصحابة الذي آمنوا بدعوته لهم. وعلى مثال أبي بكر رضي الله عنه كان سائر الصحابة الذين دخلوا في الإسلام، فكان الواحد منهم إذا توسم الخير في إنسان دعاه برفق إلى الإسلام، فإن استجاب وجهه إلى دار الأرقم، وإن لا تركه وانصرف عنه، يروي ابن سعد في الطبقات قصة إسلام عمار بن ياسر، وصهيب بن سنان، ومجيئهما إلى دار الأرقم، والتقائهما عند الباب، والحوار الذي دار بينهما، فيقول: قال عمار بن ياسر: لقيت صهيب بن

_ 1 دلائل النبوة للبيهقي ج2 ص164. 2 البداية والنهاية ج3 ص29.

سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقلت له: ما تريد؟ قال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أردت أن أدخل على محمد فأسمع كلامه. قال: وأنا أريد ذلك. فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، ثم مكثنا يوما على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون1. وكان مجيئهما إلى دار الأرقم بتوجيه بعض الصحابة الذين وثقوا من إيمانهم. وكان صلى الله عليه وسلم ينظم الذين أسلموا في جماعات صغيرة؛ لتلتقي كل مجموعة في بيت أحدهم، يقرءون كلام الله، ويتعاهدون الإسلام بالفهم والتطبيق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إلى هذه المجموعات أحد القراء ليحفظهم القرآن الكريم الذي نزل، يروي ابن سعد أن عمر بن الخطاب لما ذهب إلى أخته مغاضبا وجد عندها خباب بن الأرت، وكان يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن مع زوجها2. وإذا كان أحد المسلمين يقرأ ويكتب فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل له القرآن مكتوبا ليقرأه على إخوانه. وكان المسلمون الأوائل حريصين على حماية الإسلام، وحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما فعله نعيم بن عبد الله النجام، وكان مستخفيا بإسلامه، فإنه لما رأى عمر بن الخطاب متوشحا سيفه شك في أمره وارتاب في مقصده، مما دفعه إلى سؤاله فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله.

_ 1 ابن سعد، الطبقات ج3 ص227. 2 صحيح مسلم.

فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا، أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟! قال: وأي أهل بيتي؟ قال: خنتك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب1. ومن أعمال الصحابة التي بذلوها لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم مراقبة الغرباء القادمين إلى مكة، ومعرفة مقاصدهم، ومساعدتهم في الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رغبوا في ذلك في إطار من السرية المطلوبة.. يروي البخاري بسنده أن أبا ذر رضي الله عنه قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي رضي الله عنه فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم قام، واحتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي رضي الله عنه فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل أي واحد منهما صاحبه عن شيء. حتى إذا كان اليوم الثالث، فعاد علي رضي الله عنه على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال أبو ذر: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت. ففعل. فأخبره. وقال علي له: إنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع

_ 1 ابن هشام، السيرة ج1 ص366.

من قوله، وأسلم مكانه1. وبهذا الحذر كان تصرف الصحابة حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحافظة عليه رضي الله عنهم أجمعين.

_ 1 أخرجه البخاري في الجامع الصحيح - كتاب مناقب الأنصار - باب إسلام أبي ذر ج6 ص182.

المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية

المبحث الثالث: الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية قام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدعوة الناس عن طريق الاتصال الشخصي والمواجهة المباشرة، وهذه الوسيلة تحتاج إلى معرفة مسبقة بين الداعي والمدعو؛ ليتمكن الداعي من تخير الوقت المناسب والحالة المناسبة والأسلوب المناسب، كما يتمكن المدعو من السؤال والاعتراض والرد بهدوء وتعقل. وبمراجعة عدد المسلمين في المرحلة السرية، ومعرفة طرق إسلامهم، نرى اتصال الدعاة بهم مباشرة على نحو ما سبق ذكره. وأما أسلوب الدعوة، فقد قام على عرض الأدلة الدقيقة المحكمة، على صورة سؤال أو إجابة، من ذلك ما روي في قصة إسلام عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه -السابق ذكرها- حيث رأينا أن عمرًا كان يبحث عن دين خال من الخرافات والأكاذيب الموجودة في حياة العرب، ولم يرتضِ لنفسه أن يتخير حجرا، ويجعله إلها، فلما سمع برسول الله جاءه، وأخذ في سؤاله حتى تيقن من صدقه، وآمن به، وكان يقول رضي الله عنه: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام1. ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبره بكل من أسلموا؛ حفاظا على سلامتهم، وسلامة إيمانهم؛ ولذلك قال: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام. وعلى هذا يمكن فهم التضارب الذي ظهر على ألسنة الصحابة، وهم يعدون السابقين إلى الإسلام؛ لأن كلا روى حسب علمه، وسط جو الاستخفاء والسرية المذكور، يعضد ذلك ما قاله كل من أبي ذر وسعد بن أبي وقاص من أنه ثلث الإسلام2.

_ 1 صحيح مسلم. 2 صحيح البخاري.

المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية

المبحث الرابع: المسلمون خلال المرحلة السرية استمرت مرحلة الدعوة السرية سنتين ونصفا، ودخل في الإسلام ستون مسلما ومسلمة من كافة طبقات وقبائل المجتمع المكي، حتى أنه لا تخلو عشيرة مكية من شخص أو أكثر أسلموا من بينها. وقد ورد ذكرهم بالتفصيل في كتب السيرة1، وهم: أولا: بنو هشام 1- علي بن أبي طالب. 2- جعفر بن أبي طالب. 3- أم الفضل بنت الحارث. 4- أسماء بن عميس "زوج جعفر". 5- خديجة بنت خويلد. ثانيا: بنو أمية 6- عثمان بن عفان. 7- خالد بن سعيد. 8- أمينة بنت خالد "زوج خالد". 9- حاطب بن عمرو. 10- عبد الله بن جحش. 11- أبو أحمد بن جحش. 12- امرأته فاطمة. ثالثا: بنو مخزوم 13- أبو سلمة بن عبد الأسد. 14- عياش بن أبي ربيعة. 15- عمار بن ياسر "حليف". 16- أسماء زوجة عياش. 17- ياسر بن عامر "حليف". 18- سمية بنت خياط "زوج ياسر". 19- الأرقم بن أبي الأرقم. رابعا: بنو تيم 20- أبو بكر الصديق. 21- طلحة بن عبيد الله. 22- عامر بن فهيرة "مولى". 23- بلال بن رباح "مولى". خامسا: بنو عدي 24- سعيد بن زيد. 25- فاطمة بنت الخطاب. 26- عامر بن أبي ربيعة "حليف". 27- نعيم بن عبد الله. 28- واقد بن عبد الله "حليف".

_ 1 المنهج الحركي للسيرة النبوية ج1 ص24-27.

29- خالد بن البكير "حليف". 30- عامر بن البكير "حليف". 31- إياس بن البكير "حليف". سادسا: بنو زهرة 32- سعد بن أبي وقاص. 33- عبد الرحمن بن عوف. 34- عمير بن أبي وقاص. 35- عبد الله بن مسعود "حليف". 36- المطلب بن أزهر. 37- خباب بن الأرت "حليف". سابعا: بنو سهم 38- خنيس بن حذافة. 39- حفصة بن عمر "زوجة". ثامنا: بنو جمح 40- حاطب بن الحارث. 41- امرأته فاطمة. 42- خطاب بن الحارث. 43- امرأته فكيهة. 44- السائب بن عثمان. تاسعا: بنو أسد 45- الزبير بن العوام. عاشرا: بنو عامر: 46- أبو عبيدة بن الجراح. 47- سليط بن عمرو. حادي عشر: قبائل متفرقة: 48- صهيب بن سنان "رومي". 49- مسعود بن ربيعة. 50- معمر بن حبيب. 51- زيد بن حارثة. 52- عمرو بن عبسة "سلمي". 53- عثمان بن مظعون. 54- قدامة بن مظعون. 55- عبد الله بن مظعون. 56- رملة زوجته. وهؤلاء السابقون إلى الإسلام نماذج فريدة، عاشوا أحرج فترات البناء الإسلامي، وواجهوا أصعب المواقف، وكانوا بحق أمثلة عالية في الفداء والتضحية والإخلاص والعبودية لله رب العالمين.

لقد خلعوا أنفسهم من مجتمعهم الجاهلي، وكوَّنوا جماعة الدعوة الأولى، التي تميزت بخصائصها وصفاتها؛ إذ كان إيمانها يعني الخلوص التام من كل شرك، والالتزام المطلق لأمر الله تعالى، فلا مهادنة في عقيدة، ولا ضعف في القيام بواجب مع تحمل أي ضغط، والصبر على أي أذى، وكان دخول أحدهم في الإسلام يعني البراءة التامة من الشرك وأهله، والبعد عن موالاة غير المؤمنين ولو كان من أقرب الناس إليه. وكان المسلم يحب أخاه المسلم، لا يحبه إلا الله، ويلتزم بكل لوازم هذه المحبة من النصرة والنصيحة والمودة وحسن الأخلاق. إن الإيمان كان يعني عند هؤلاء هجرا كليا عن كافة صور الجاهلية، وانتقال المؤمن إلى منهج الإسلام بكماله وتمامه، وذلك هو الإيمان في الحقيقة. وقد قام هؤلاء المسلمون بواجبهم إزاء الدعوة إلى الله تعالى؛ إذ حملوا الإسلام إلى زوجاتهم وأبنائهم وأهليهم، وإلى كل من يعاشرونهم، وله معهم ثقة، ولهم به معرفة، وبواسطة هؤلاء الصحابة دخل الإسلام بيوتهم، وأسلم عدد من الزوجات والأبناء. وساعد هؤلاء الصحابة في تبليغ الإسلام حسن الاتباع، وسلامة التطبيق، والتخلق بأخلاق الإسلام؛ لأن ذلك يعد في ذاته دعوة عملية. وساعدهم كذلك أنهم تيقنوا أن الإيمان يعني العلم والعمل معا، فلم يقصروا في تعلم، ولم يتهاونوا في تطبيق، وكان إيمانهم قائما على اليقين التام، والاقتناع الصادق، فلما تعرضوا للابتلاء لم يتأثروا، ولم يضعفوا. لقد كانوا قوة انتصروا لدينهم وارتفعوا به إلى مصاف العلا، فكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس، واستحقوا أن يضعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فوق الصحابة أجمعين، فعندما اختلف أحدهم وهو عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد بعد إسلامه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أُحُد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته" 1.

_ 1 السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص74.

فبالرغم من أن خالدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من أنه من الذين أسلموا، وأنفقوا قبل الفتح، بالرغم من ذلك كله، فلقد قيل له هذا القول حين اختلف مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أحد أفراد الطليعة السابقة، والنواة الصُّلْبة التي قام البناء الإسلامي على أكتافها.. ولا ننسى أبدا أن من هؤلاء بين النسوة خديجة رضي الله عنها، إحدى الكاملات في الدنيا، وأسماء بنت عميس، وأم الفضل بنت الحارث، وغيرهن اللاتي كن النموذج الأعلى للنساء في التاريخ.

المبحث الخامس: المرحلة الأولي للجهر بالدعوة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم

المبحث الخامس: المرحلة الأولي للجهر بالدعوة جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخل ... المبحث الخامس: المرحلة الأولى للجهر بالدعوة "جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم" لم تبقَ الدعوة سرا مجهولا على أهل مكة، فلقد علموا كثيرا عن محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته لدين جديد، ولم يتحركوا لذلك، ولم يكترثوا به؛ لأن معلوماتهم عن الإسلام كانت عامة وبسيطة، جعلت الدعوة في نظرهم أقل خطورة على معتقداتهم من الحنفاء الذين يجاهرون ببطلان عبادة الأصنام والأوثان. ومما يدل على علمهم بالدعوة أن أحد تجار مكة جاء إلي أبي طالب فرأى محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي، وخلفه علي وخديجة، وعلم أنهم بذلك يعبدون الله الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم. وسبق ذكرم علم أبي طالب بإيمان علي بالإسلام، ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له ليسلم. ومع اتساع موجة المعرفة بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم بقي أهل مكة على إهمالهم شأن محمد ومن معه فسكتوا عن دعوته، ولم يتصوروا خطورة على أديانهم وأوضاعهم. وكان صمت أهل مكة عن المسلمين في هذه الفترة فضلا من الله؛ حيث تكونت النواة الصلبة التي يقوم عليها البناء، ونشأ جيل القمة الذي حمل مسئولية الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، ويكفي أن نعرف أن تسعة من هؤلاء، هم المبشرون بالجنة، وعاشرهم هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ منهم أهل الشورى الستة، ومات صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. بعد هذا مراحل الجهر بالدعوة التي تعددت تبعا لاعتبارات مختلفة.. وقد رأيت بعض العلماء يعدها ثلاثا باعتبار نوعية المدعوين، فهناك الجهر للأقربين، وهناك جهر لأهل مكة، وهناك جهر ثالث للناس أجمعين1.. لكن هذا

_ 1 انظر: الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص304-335.

التقسيم لم يلاحظ تداخل صور الجهر بالدعوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يجهر بالدعوة كان يدعو أقرباءه الأدنين وأهل مكة، وكلهم أقرباؤه.. وأيضا كان يدعو من يأتي مكة من خارجها.. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن من أول الدعوة أنها للناس أجمعين. وهناك من يقسم المرحلة الجهرية إلى مرحلتين باعتبار الشخص الذي جهر بالدعوة، ويرى هؤلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جهر بالدعوة للناس في المرحلة الأولى.. وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه هما اللذان جهرا بالدعوة بعد المرحلة الأولى بعامين1، وكان جهرهما بداية المرحلة الجهرية الثانية. وأرى أن هذا التقسيم أكثر صوابا من التقسيم الأول؛ ولذلك سأتناول المرحلة الأولى هنا على أساس هذا التقسيم. ويلاحظ هنا أن مراحل الدعوة تقسيم منهجي لتسهيل المعرفة بالسيرة النبوية؛ لأن المراحل كانت تتداخل أحيانا، ففي المرحلة السرية جهر أبو بكر بالدعوة، ومع جهر الرسول صلى الله عليه وسلم كان الصحابة يباشرون الدعوة أيضا. وتعد المرحلة الجهرية الأولى وسطا بين المرحلة السرية ومرحلة الجهر العام؛ لأن المرحلة الجهرية الأولى قام بالجهر خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المحافظة على سرية أماكن التجمع والحركة للمسلمين، الأمر الذي يجعل هذه المرحلة انتقالا من طبيعة المرحلة السرية إلى طبيعة الجهر العام. وتبدأ مرحلة جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة بنزول قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} 2، وقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3.

_ 1 انظر: المنهج الحركي للسيرة ج1 ص37، 78. 2 سورة الحجر آية 94، 95. 3 سورة الشعراء آية 214، 215.

والآيات تأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة، وترك المشركين في غيهم، وعدم إثارتهم، مع التركيز على دعوة الأقربين، وتقوية العلاقة الطيبة مع المؤمنين. وكانت هذه المرحلة جهرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط؛ حيث أمره الله تعالى بالجهر، أما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين فقد ظلوا على صمتهم واستخفائهم؛ لأن الأمر بالجهر جاء مقترنا بالدعوة إلى الصبر والتحمل وتجنب المشركين والبعد عن كل ما يؤدي إلى التصادم معهم. ولأن حركة الصحابة كانت سرية بقي مكان تجمعهم في دار الأرقم سرا لا يعلمه كفار مكة إلا يوم أسلم عمر بن الخطاب، وكانوا يخفون من أسلم حفاظا عليهم؛ ولذلك استمروا يؤدون مناسكهم وصلواتهم في الشعاب، ولم يتجمعوا عند الكعبة إلا بعد إسلام عمر. رغب المسلمون مرة في إسماع القرآن الكريم أهل مكة عساهم يتأثرون ببلاغته ومعانيه، فاجتمعوا لتدبير هذا الأمر، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال: دعوني فإن الله سيمنعني. فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رافعا بها صوته {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} . فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه، فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك.

فقال: ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا. قالوا: لا، حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون1. إن استضعاف المشركين لمن أسلم، وإيذاء من يظهر منهم، كان سببا في التدرج بالجهر بالدعوة؛ ولذلك اتخذ الجهر مرحلتين. إن موضوع الدعوة تحدد بدقة منذ اللحظة الأولى، وهو الدعوة إلى وحدانية الله، وقصر العبادة له سبحانه وتعالى، وكل ما جد في شأن الدعوة كان مع الوسائل والأساليب؛ ولذا سأتناول في هذا المبحث الملامح التالية:

_ 1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص314.

أولا: ظهور الجماعة المؤمنة

أولا: ظهور الجماعة المؤمنة ... أولا: ظهور الجماعات المؤمنة: ظهرت الجماعة الإسلامية الأولى في مكة، وخرجت للعلن بعد أن جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وصارت تمثل كيانا له دينه ومرجعيته وعلمه وذاتيته. إن العقيدة التي صدق بها هؤلاء السابقون الإسلام، وهي الدين الذي آمنوا به، وهي القاعدة التي طهرتهم، وصهرتهم نظريا وعمليا، وجعلتهم يكونون المجتمع الإيماني على قاعدة نظرية معرفية تختم العمل والتطبيق. إن التوحيد هو الحقيقة الكبرى في الكون، فالخلق تعالى واحد، والكون بسننه ونواميسه واحد، والإنسان في جوهره وغايته ووجوده واحد، والكون بكامله يتجه إلى الله عز وجل اتجاها واحدا بالعبادة والطاعة: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} 1، وينبغي للإنسان أن يتجه إلى نفس الغاية والهدف، وإلا حصل التصادم والتمزق والضياع في مسيرة الحياة. ولذلك نص القرآن المكي على قاعدة الوجود الكبرى، وغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2؛ حيث

_ 1 سورة آل عمران آية 83. 2 سورة الذاريات آية 56.

ترسم الآية الإطار العام للعقيدة، والدائرة الشاملة للحياة البشرية، وجعل كل الأعمال الظاهرة والباطنة عبادة الله تعالى. ولم يكن صدفة أن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربية المجموعة الأولى على تجريد التوحيد، فرسخ في قلوبهم المعرفة الحقة بالله تعالى التي تقتضي الاستسلام التام له، والطاعة المطلقة له، وعدم التقديم بين يديه، والرضا والتسليم بقضائه وقدره1. ومرجعية هذه الجماعة هي الوحي الإلهي، والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم يعلمهم ويبين لهم طرق العمل به، والهداية بمنهجه.. وقد تعلمت هذه الجماعة من القرآن الكريم الذي نزل عليهم أن هناك سننا أرادها الله تعالى لمسيرة الحياة والأحياء، لا بد من تقبلها والتعامل معها.. ومن أهمها: أ- الابتلاء والتمحيص: ابتلاء المؤمنين بالأذى والاضطهاد سُنَّة إلهية في الناس؛ ليظهر الطيب والخبيث؛ ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما جاء رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"2، ويقول الله تعالى: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 3. وعلى هؤلاء المسلمين ومن يأتي بعدهم ضرورة تحمل الابتلاء، والصبر على الأذى؛ تمييزا لهم، وإظهارا لصلابتهم، يقول الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ

_ 1 منهج النبي صلى الله عليه وسلم ص32. 2 صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي ج1 ص3. 3 سورة العنكبوت الآيات 1-3.

الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 1، ليبين دور الابتلاء في إظهار صلابة الرجال، وبروز مزايا المؤمن الصادق، ويقول سبحانه: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 2.. إنه ابتلاء يبرز الإيمان، ويمحص الصادقين. ب- التغيير يبدأ من الباطن: الإنسان عقل وجسد، وباطن وظاهر، وتعاليم الإسلام شاملة لعناصر الإنسان جميعا؛ ولذلك نرى الدعوة قد بدأت بالجزء الهام في الإنسان وهو الباطن أساس التغيير، يقول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 3، وإذا تغير الباطن تغير الظاهر، ودائما تأتي النتائج تبعا لأسبابها. ج- أهمية الإعداد للنجاح: يعتمد النجاح في أي مجال على مقدمات لا بد منها، ومن هذه المقدمات الاستعداد للعمل، وإعداد العدة المكافئة له حتى لا يضيع المسلم في بيداء الحياة وصخبها، وهذا الإعداد متنوع تبعا للعمل المطلوب والغاية المقصودة؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 4.

_ 1 سورة آل عمران آية 179. 2 سورة آل عمران آية 154. 3 سورة الرعد آية 11. 4 سورة الأنفال آية 60.

إن سنة النصر لا تتخلف متى استوفت الشروط والإعداد، وأهمها الاستقامة على منهج الله بطاعة أمره، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} 1، وقال جل ذكره: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2. وجاءت عوامل النصر جلية واضحة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 3. ولكن إذا تخلفت هذه الأسباب تخلف النصر بطبيعة الحال، وربما حلت الهزيمة؛ لأن سنن الله تعالى لا تحابي ولا تجامل أحدا من الخلق، ولا تجاري أهواء البشر، وإنما تساير أعمالهم، وإن الذين يرثون الكتاب وراثة بالاسم، وشهادة الميلاد، ولا يترجمون ما فيه من الأوامر والنواهي عملا سلوكيا ثم يقولون: سيغفر لنا! لا يستجيب الله عز وجل لهم، حتى يعودوا إلى العمل بما أمرهم الله به في كتابه المنزل4.

_ 1 سورة محمد آية 7. 2 سورة الصافات الآيات 171-173. 3 سورة الأنفال آية 45، 46. 4 حول التفسير الإسلامي للتاريخ ص102.

ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة

ثانيا: مواجهة الرسول قومه بالدعوة بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة، وأن ينذر عشيرته القريبة منه، على أن يبدأ بالأقرب إليه، أخذ صلى الله عليه وسلم يعد للأمر عدته، ورأى أن أفضل وسيلة لذلك هي المواجهة المباشرة سواء بصورة فردية أو جماعية أو عامة يروي ابن الأثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت ذرعا، وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره" 1.

_ 1 الكامل ج2 ص61.

ولما مرض صلى الله عليه وسلم وجاءته عماته يعدنه، قال لهن: "ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين". فقلن له: فادعهم ولا تدعُ أبا لهب فيهم، فإنه غير مجيبك. فنراه صلى الله عليه وسلم يخبر عليا وعماته بدعوته بصورة فردية.. ومرة يجمع أعمامه ونفرا من بني المطلب بن عبد مناف، حيث دعاهم إلى طعام، وبلغهم بدعوة الله تعالى مرتين؛ لأنه لم يتمكن من الحديث في المرة الأولى بسبب مقاطعة أبي لهب له، ودعاهم في المرة الثانية. جاء في الكامل لابن الأثير أنه لما أنزل الله على رسوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} اشتد ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وضاق به ذرعا، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عماته يعدنه، فقال: "ما اشتكيت شيئا، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين"، فقلن له: فادعهم ولا تدعُ أبا لهب فيهم فإنه غير مجبيك، فدعاهم صلى الله عليه وسلم. فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا. فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك، وبنو عمك، فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك في العرب قاطبة طاقة، وأن أحق من أخذك فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب لك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية وقال: "الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدا، أو النار أبدا". فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامضِ

لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب: هذه والله السوءة! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا1. فقالت له أخته صفية -عمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها: أي أخي، أيحسن بك خذلان ابن أخيك، فوالله ما زال الناس يخبرون أنه يخرج من بني عبد المطلب نبي، فهو هو. قال أبو لهب: وهذا والله الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش، وقامت معها العرب، فما قوتنا بهم، فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا2. وهكذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين في جو أسرى خالص، قائم على المودة وروح القرابة.. ودار نقاش في إطار هذا التجمع. كما وجه لهم دعوة عامة بأن نادى عليهم جميعا من فوق الصفا، فلما تجمعوا دعاهم إلى الله تعالى. يروي المؤرخون أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صَعِدَ النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي ... " لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرايتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ ". قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

_ 1 الكامل لابن الأثير ج2 ص61. 2 الدعوة الإسلامية في عهدها المكي ص315.

فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} 1 2. كما أن عددا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَنَّ الله عليه بالإسلام، وهداه إلى الحق بإحدى طرق الهداية، فمنهم من أسلم بعدما رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة بهرته، أو موقفا حركه، أو دعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم استجيبت، كما حدث مع عبد الله بن مسعود، وخالد بن سعيد بن العاص، وعمر بن الخطاب، وأم أبي بكر رضي الله عنهم. يقول عبد الله بن مسعود: كنت غلاما يافعا، أرى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة، فأتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه وقد فرا من المشركين، فقالا: أعندك يا غلام لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من جذعة لم ينز عليهما الفحل بعد؟ ". قلت: نعم! فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع، ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر متقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: "أقلص" فقلص. فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت علمني من هذا القول الطيب؛ يعني: القرآن الكريم. فقال له صلى الله عليه وسلم: "إنك غلام معلم"، يقول ابن مسعود: فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد3.

_ 1 سورة المسد آية 1، 2. 2 فتح الباري ج1 ص118-120. 3 البداية والنهاية ج3 ص32.

وأما خالد بن سعيد بن العاص، فلقد رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم، ويرى في النوم كأن آتٍ أتاه، يدفعه فيها، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بحقويه، لا يقع، ففزغ من نومه، فقال: أحلف بالله، إن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال: أريد بك خير، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجياد، فقال: يا رسول الله، يا محمد إِلَمَ تدعو؟ قال: "أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر، ولا يبصر ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده". قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وتغيب خالد وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتي به، فأنبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه، وقال: والله لأمنعنك القوت. فقال خالد: إن منعتي فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكرمه ويكون معه1. وهكذا تكاثر المسلمون، وأخذ عددهم يزداد يوما بعد يوم لدرجة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أخذ يلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار الإسلام، وتوسيع دائرة التحرك به، وإعداد المؤمنين لتحمل ما يصيبهم من الضرر والأذى. ورؤية أبي بكر في المجاهرة والمواجهة لها ما يبررها، فلقد أحس من كفار قريش قلقا من زيادة عدد المسلمين دفعهم لتشديد الأذى، والتعنت مع كل من يسلم. ومن المعلوم أن الطغاة يضاعفون عدوانهم كلما رأوا من خصومهم خنوعا

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص32.

واستسلاما، فأراد أبو بكر رضي الله عنه أن يبرز لهم من نفسه قوة، فمنعهم من العدوان وخوفهم من أذى المسلمين. وفي هذه الحالات تبرز أهمية المواجهة؛ لأنها تحد من غلواء المعتدي، وتظهر رجالا يتحمسون للحق، ويدخلون في الإسلام، فينتصر الإسلام بهم. وقد أراد الله تعالى إظهار الإسلام كطلب أبي بكر رضي الله عنه، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انتصار المسلمين، وخزي الكافرين. إن المسلمين الأول لم يكونوا على مستوى واحد من المواجهة، فمنهم من كان تحميه قبيلته، ومنهم المتميز بالجرأة والصلابة وقوة الشكيمة والقدرة على المواجهة.. ولذلك ألح أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، إنا قليل". فلم يزل أبو بكر يلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أذن له صلى الله عليه وسلم، فأظهره رضي الله عنه وحده، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته. وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوا من وجدوه في المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزل على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب، حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته. ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئًا، أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك. فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل. فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟ فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك!! قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر ضريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: لا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن الله عليَّ أن لا أذوق طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتاه حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا

لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا1. وأراد الله للمسلمين قوة، فجعل من اشتداد أذى قريش للمسلمين سببا في إسلام حمزة عم رسول الله وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهما من فتيان مكة، اللذين اشتهر بالشجاعة والبأس، وكان القرشيون يهابانهما لقوتهما. يسوق ابن إسحاق قصة إسلام حمزة فيقول: إن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادٍ من قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش، وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده هاهنا جالسا فأذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى، ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشمته وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد ذلك عليَّ إن استطعت، فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، واستمر حمزة رضي الله عنه على

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص30.

إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه1. وزاد غير ابن إسحاق أن حمزة لما أسلم كان منفعلا مندفعا، وأدركه الندم على تسرعه، يقول حمزة رضي الله عنه: أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة، وتضرعت إلى الله سبحانه أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني الريب، فلما استتممت دعائي انزاح عني الباطل، وامتلأ قلبي يقينا، فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما كان من أمري، فدعا لي بأن يثبتني الله2. وأسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا في وسط التشدد والاضطهاد للمسلمين، يروي ابن إسحاق بسنده قصة إسلام عمر فيقول: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، زوجة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قد أسلمت، وأسلم بعلها سعيد بن زيد، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام، رجل من قومه، من بني عدي بن كعب قد أسلم، وكان أيضا يستخفي بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكروا له، أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين، ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم، ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص291. 2 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص292.

فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش، سفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: خنتك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما. قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة، فيها {طَه} يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما. فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى والله أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. لما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع، فارعوى، وراجع نفسه، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد! وكان عمر كاتبا. فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.

قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها. فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس، على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها {طَه} فقرأها، فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته صلى الله عليه وسلم أمس وهو يقول: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب"، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك عمر: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ائذن له". فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حجزته، أو بمجمع ردائه، ثم جبذه به جبذة شديدة، وقال: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة". فقال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم1.

_ 1 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام ج1 ص343-346.

وبإسلام حمزة رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه بدأت مرحلة الجهر العام بالدعوة؛ لأنهما لم يرتضيا لدينهما هذا الاستتار ما دام هو الحق. وقد سأل عمر عن أكثر الناس قولا، وأفشاهم للحديث، وعلم أنه جميل بن معمر الجمحي فأتي إليه، وأخبره بأنه أسلم، فصاح جميل بأعلى صوته: إن ابن الخطاب صبأ. وذهب إلى أبي جهل وأخبره بإسلامه. وأراد كفار مكة قتل عمر فأجاره العاص بن وائل السهمي، يروي البخاري بسنده أنه بينما كان عمر بن الخطاب في الدار خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سبرة، وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم خلفاؤنا في الجاهلية، فقال له: ما لك يا عمر؟ قال عمر: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت. قال: لا سبيل إليك، وبعد أن قالها أمنت. فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ. قال: لا سبيل إليه، فكر الناس1. وكان إسلام عمر بن الخطاب بعد إسلام حمزة بن عبد المطلب بثلاثة أيام، وبذلك بدأت مرحلة الجهر العام بالدعوة إلى الله تعالى.. لقد تم الانتقال إلى هذه المرحلة في وقت كان كفار مكة يخططون للقضاء على الإسلام والمسلمين بعدما شعروا بخطورة الإسلام على وضعيتهم في مكة. - هل كان يتصور كفار مكة أن ينقلب حمزة عليهم بهذه الصورة المفاجئة؟!! - وهل توقعوا أن يتبعه عمر، ويعلن إسلامه بعده بثلاثة أيام فقط؟!

_ 1 المنهج الحركي ج1 ص81.

- وهل ظنوا مرة أن يجير العاص بن وائل عمر وينقذه منهم، وقد كادوا أن يفتكوا به؟!! - وهل دار بخلدهم أسرار هذه المواقف المفاجئة، وفي هذا الوقت بالذات؟!! لم يفكروا في شيء من ذلك، ولم يتوقعوه؛ لأنهم لم يتصوروا القدر الإلهي، ونصره لعباده المؤمنين. إن عقول البشر جميعا تعجز عن تصور أي شيء من هذه القضايا، ولا تقدر على اكتشاف شيء من أسرارها، وكل ما تصوره أهل مكة عن محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته وعن المؤمنين به عكس ما حدث؛ لأن المواجهة وقتها تصاعدت وتضخمت، والتخطيط لقتل محمد ومن معه أمر موجود. لكن إرادة الله غالبة، وقدرته لا حدود لها، ففي وسط الضعف تبرز قوة، ومن ثنايا الجبروت والطغيان يأتي العدل والحق، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة

المبحث السادس: مرحلة الجهر العام بالدعوة أكرم الله تعالى المسلمين في مكة بإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلقد أعز الله بهما الإسلام، وقوي المسلمون، يقول صهيب بن سنان رضي الله عنه: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به1. ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر2، يروي ابن إسحاق أنه لما أسلم عمر نزل جبريل وقال: يا محمد، استبشر أهل السماء بإسلام عمر، وهو الفاروق؛ لأنه كان سببا في التفريق بين عهدين؛ لأنه لما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم: "بلى". قال عمر: ففيمَ الاستخفاء؟! 3 وأصر عمر رضي الله عنه على أن يخرج المسلمون من دار الأرقم جهارا، معلنين إسلامهم، فخرجوا في صفين في أول الصف الأول عمر، وفي أول الثاني حمزة وهم يهللون، ويكبرون، ولهم دوي كدوي الرحى، حتى دخلوا المسجد الحرام بهذه الصورة الجهرية الجماعية؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" 4. والفرق واضح بين إظهار أبي بكر للإسلام وبين إظهاره بعد إسلام عمر؛ لأن إظهار أبي بكر كان فرديا، وأما بعد إسلام عمر فكان إظهارا جماعيا قام به المسلمون

_ 1 الطبقات الكبرى ج3 ص269. 2 المرجع السابق ص18. 3 مناقب عمر لابن الجوزي ص18. 4 الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ج6 ص252.

وخرجوا من دار الأرقم يهللون ويكبرون. وهكذا.. بدأت مرحلة الجهر العام بالدعوة، يصدع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وينادون بها قولا وعملا، في بيوتهم وفي كل مكان وعند البيت. لقد حاول أبو بكر رضي الله عنه إظهار الدعوة بالبيت قبل ذلك فأوذي إيذاءً شديدًا1، فلما أسلم حمزة وعمر حقق المسلمون ما تمناه أبو بكر قبل ذلك. وشعر كفار مكة بخطورة الإسلام لما رأوا من قوة أتباعه، وكثرة معتنقيه، وشدة إخلاصهم لما يؤمنون به، وحينئذ شددوا في الاضطهاد والأذى. والفرق بين الجهر الأول والجهر الثاني؛ أن الجهر الأول كان خاصا بالدعوة يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، بينما الجهر الثاني صار عاما يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه القادرون على التبليغ، كما أن السرية ظلت ملازمة لتحرك المسلمين في المرحلة الأولى وهم يتعلمون الإسلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم وفي الشعب أو في الأماكن النائية، أما في المرحلة الثانية فقد أخذ المسلمون يظهرون مناسكهم في الأماكن العامة، عند الكعبة، وفي أماكن العمل، وصاروا يجتهدون في إبراز الإسلام في عملهم ونسكهم وخلقهم. ولهذا.. كانت الحركة بالدعوة في المرحلة الأولى أشبه بحركة المرحلة السرية، أما مرحلة الجهر العام فكان لها طابعها الخاص في الدعوة إلى الله تعالى.

_ 1 انظر ص473 وما بعدها.

المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام

المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة ... المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام أدى تغير صورة الجهر العام عن المراحل السابقة إلى أن أخذ طابع الحركة بالدعوة صورا عديدة، منها القديم، وفيها الجديد. فمع ثبات المضمون الفكري للدعوة إلا أن بقية الجوانب قد تغيرت.. فلقد تنوعت الوسائل، وأصبحت شاملة لكل وسيلة ممكنة، وتغيرت الأساليب، وصارت ملائمة للمدعوين مع تعدد مذاهبهم وأماكنهم ولهجاتهم. وقد اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه إلى مواجهة الاضطهاد الذي يقع عليهم من أهل مكة بما أمكنهم في إطار ما هم فيه من قلة وضعف. وذلك سيتناول هذا المبحث المسائل التالية: المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة لم تعد وسائل الدعوة قاصرة على الاتصالات الشخصية، والمواجهة المباشرة وإنما رأيناها ظهرت في صور عديدة ومختلفة، ومن أهمها: أولا: الاتصال بصوره المختلفة: يرى علماء الاتصال في العصر الحديث أن صورة الاتصال التي يتم بها التوجيه والدعوة تنحصر في ثلاث صور رئيسية هي: أ- الاتصال الشخصي: وهو الذي يحدث بين فرد وفرد، أو بين فرد وعدد قليل، وهذا الاتصال يتم بصورة تلقائية، لما بين أفراد هذا الاتصال من معرفة مسبقة وتلاقٍ عادي، كالرجل وبنيه، والإنسان وجاره، والعامل وزملائه، والطالب وإخوانه، وهكذا ...

ويتميز هذا اللون بأنه اتصال هادئ، يقوم على الثقة، وتبادل الرأي في وضوح وبساطة، ورد الفعل واضح عند الطرفين؛ لأنه يتم مباشرة بين الأطراف من غير واسطة، وبلا سابق إعداد، وفي موضوعات شتى، والدعاة إلى الله تعالى يستفيدون بهذا الاتصال، ويجعلونه طريقا لدعوتهم التي يبرزونها لمعاشرتهم بالقول، أو بالعمل، أو بالتأمل والتفكير المشترك.. وهذا الاتصال يفيد في نطاق المجتمع الصغير والبدائي، كالأسرة، ورفاق المسجد، والقرية، وجماعة العمل، وفريق اللعب، وهكذا.. ب- الاتصال الجمعي: وهو الاتصال الذي يتم بين القائم به وبين جماعة من الناس، بعد إعداد وتنظيم يشمل المكان والزمان والموضوع. ويتميز هذا النوع بأنه يتم مواجهة وبطريقة مباشرة؛ لأن الإعداد والتنظيم يجمع أفرادا تقاربت ثقافتهم واهتماماتهم ونشاطهم العام، وكل هذا يساعد على وضوح الرؤية، ومعرفة مدى استجابة الجماعة لتوجيهات القائم بالاتصال.. ومن أمثلة هذا الاتصال تجمع الناس لخطبة الجمعة، أو لسماع درس، أو لمناقشة قضية مثارة، أو لحل مشكلة تهم المجتمعين. ج- الاتصال الجماهيري: وهم الاتصال الذي يتم بين القائم بالاتصال وبين جمهور عريض غير محدد، وبطريقة غير مباشرة، ويتميز هذا الاتصال بسعته، وسرعة انتشاره، وبتخطيه للحواجز المادية، ووصوله لكل الناس في مختلف أحوالهم وأماكنهم وأعمالهم، ومن صور هذا الاتصال: النشرات التعليمية، والكتب المؤلفة، وتوجيهات الصحف، وبرامج الإذاعة المسموعة والمرئية، وأشرطة التسجيل، وهكذا.. ومع تميز هذا الاتصال بالسعة والتنوع، فإنه يحتاج لبذل مالي وعملي في إعداد رسائله، ومعرفة مدى استجابة الناس لما يطلب منهم، والوقوف المباشر على تساؤلاتهم

واستفساراتهم، والتأكد من وصول الأفكار إليهم على الصورة المطلوبة. تلك هي صور الاتصال الممكنة، التي تحدث عنها علماء الإعلام في العصر الحديث، وقد أحاطوها بهالة تفيد أنها من مستحدثات العصر، ومخترعات الحضارة الحديثة، برغم ذلك نقول وبكل وضوح: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم هذه الصور الثلاث وهو يدعو الناس خلال مرحلة الجهر بالدعوة.. فبالنسبة للصورة الأولى: نرى أنه صلى الله عليه وسلم استخدم وسيلة الاتصال الشخصي مع أهل بيته وأقربائه وأصحابه الذين أسلموا؛ حيث كان يلتقي بهم بصورة تلقائية عددا من المرات، في اليوم الواحد، وكان صلى الله عليه وسلم يسائلهم عن أحوالهم، ويجيب لهم عما يعن لهم، ويؤمهم في الصلاة، ويبلغهم ما نزل من وحي، ويقرأ عليهم القرآن الكريم، ويحثهم على الصبر والتحمل، ويشد من أزرهم. وكان صلى الله عليه وسلم يقابل غير المسلمين المعروفين له، يدعوهم إلى الله تعالى، ويدور عليهم في بيوتهم، وأماكن تواجدهم في مكة أو حولها، وكان كلما قابله واحد يعرفه في الطريق، أو عند البيت، حرا أو عبدا، ضعيفا أو قويا، غنيا أو فقيرا، إلا ويعرض عليه دعوة الله تعالى، ويطلب منه الدخول في دين الله تعالى. وكان صلى الله عليه وسلم يتبع الناس في مجالسهم، ومحافلهم، وفي المواسم والأسواق؛ ليدعوهم إلى الله تعالى بالحسنى، وبالخلق الكريم. وكان صلى الله عليه وسلم يشرك من يدعوه في تناول قضية الدعوة من أجل إقناعه بالحسنى، وذلك أمر مهم في حركة الدعوة؛ لأن الدعوة ليست تسلطا واستعلاء، وليست احتقارا لعقل الناس، وليست استهانة بقدراتهم على التصور والحكم السليم. انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يدعو الحصين والد عمران؛ حيث تراه يستدرجه إلى الحق، ويضعه أمام اعتراف صريح بالإيمان، فقد أخرج ابن خزيمة عن عمران بن خالد بن طليق بن عمران بن حصين قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده: أن قريشا جاءت إلى الحصين -وكانت تعظمه-

فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم، فجاءوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوسعوا للشيخ"، وعمران وأصحابه متوافرون. فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك: إنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة وخيرا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا حصين! إن أبي وأباك في النار، يا حصين! كم تعبد من إله؟ ". قال: سبعا في الأرض وواحدا في السماء. قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا أصابك الضر مَن تدعو؟ ". قال: الذي في السماء. قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا هلك المال من تدعو؟ ". قال: الذي في السماء. قال صلى الله عليه وسلم: "فيستجيب لك وحده، وتشركه معهم، أرضيته في الشكر، أم تخاف أن يغلب عليك؟ ". قال: ولا واحدة من هاتين، وقد علمت أني لم أكلم مثله. قال صلى الله عليه وسلم: "يا حصين! أسلم تسلم". قال: إن لي قوما وعشيرة فماذا أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قل: اللهم أستهديك لأرشد أمري، وزدني علما ينفعني". فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم، فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى وقال: بكيت من صنيع عمران، دخل حصين وهو كافر، فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة، فلما أراد حصين أن يخرج قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فشيعوه إلى منزله"، فلما خرج من سدة الباب رأته قريش فقالوا: صبأ وتفرقوا عنه1. ونراه صلى الله عليه وسلم يعيش مع واقع حصين، ويسائله فيها إلى أن تحقق لدعوته ما يريد.

_ 1 حياة الصحابة ج1 ص55.

إن الدعوة في حد ذاتها تقدير للإنسان، وتوجيه أمين للفكر والعقل، وإيقاظ للفطرة وللإنسانية السليمة، وبذلك يتم الإيمان بالاقتناع والفهم، ويرتبط المسلم بدينه حبا وولاء وطاعة. وبالنسبة لصورة الاتصال الثانية: وهي الاتصال الجمعي نرى أنه صلى الله عليه وسلم استفاد بها، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يتخير الجماعة القليلة العدد، المتفقة اتجاها، الموحدة اهتماما، ويعد لهم اجتماعا منظما، في جو من الود والمحبة لما بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين هذا الجمع من صلات القربى والمعاشرة والقومية وغير ذلك.. كما حدث بعد أن أمر بالجهر بالدعوة، فإن صلى الله عليه وسلم أمر عليا ابن عمه، بأن يعد طعاما وشرابا لأعمامه وعماته، وقد تكرر هذا التجمع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعمامه وعماته، ومن خلال هذا الاتصال اتضحت مواقف كل طرف، وظهر خط كل فرد فقد أعلن أبو لهب عصيانه، وتصديه للدعوة، وأعلن أبو طالب وقوفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحمايته له غير أنه سيستمر على دين أبيه، ومن هذا القبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض الإسلام على من يعرفهم، ولو كانوا أعداء، فلقد اجتمع عند ظهر الكعبة مع صناديد مكة، وهم: عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، ورجل من بني عبد الدار، وأبو البختري أخا بني الأسد، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابني الحاج السهميين1. والاتصال الجمعي: وسيلة تحتاج إلى الإعداد الجيد؛ لأن الرسول أو الداعية يعرف مقدما الهدف الذي من أجله كان تنظيم هذا الاتصال؛ ولذلك لزم إعداد الموضوع، وعرضه بطريقة مقنعة ترضي المستمعين. وعلى منظم هذا الاتصال أن يتوقع المعارضات العديدة لموضوعه؛ ليستعد بالشرح والتفصيل، وتفنيد المزاعم التي قد تظهر في اجتماعه، انظر إلى رسول الله

_ 1 انظر ص471.

صلى الله عليه وسلم وهو يدعو أبا جهل ومعه المغيرة بن شعبة.. يقول المغيرة: إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة؛ إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: "يا أبا الحكم، هلم إلى الله ورسوله، أدعوك إلى الله". فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟.. هل تريد إلا أن تشهد أنك قد بلغت؟.. فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل على أبي جهل فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق ولكن يمنعني شيء، إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السقاية، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل1. وبالنسبة للصورة الثالثة: وهي التي تعرف بالاتصال الجماهيري، فقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، ورجا من ورائها أن يصل الإسلام إلى الجماهير الغفيرة من الناس. لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، ورغب في دعوة أهل مكة جميعا استعان بهذه الوسيلة الجماهيرية، فصعد على الصفا، وأخذ ينادي في الناس فعم وخص، ونادى بطون قريش بطنا بطنا، فجعل الواحد منهم إذا لم يجد وقتا، أرسل من يعرف له الخبر.. وهكذا تواجدت مكة كلها عند الصفا2. وخرج صلى الله عليه وسلم عند المروة بعد نزول قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ثم قال: "يا آل فهر"، فجاءته قريش، فقال أبو لهب بن عبد المطلب: هذه فهر عندك

_ 1 حياة الصحابة ج1 ص65. 2 انظر ص474.

فقل، فقال: "يا آل غالب"، فرجع بنو محارب وبنو الحارث ابنا فهر، فقال: "يا آل لؤي بن غالب"، فرجع بنو تميم الأدرم بن غالب، فقال: "يا آل كعب بن لؤي"، فرجع بنو عامر بن لؤي، فقال: "يا آل مرة بن كعب"، فرجع بنو عدي بن كعب وبنو سهم وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، فقال: "يا آل كلاب بن مرة"، فرجع بنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو تيم بن مرة، فقال، "يا آل قصي"، فرجع بنو زهرة بن كلاب، فقال: "يا آل عبد مناف"، فرجع بنو عبد الدار بن قصي بنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو عبد بن قصي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم الأقربون من قريش، وإني لا أملك لكم من الله حظا، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا: "لا إله إلا الله" فأشهد بها لكم عند ربكم، وتدين لكم العرب، وتذل لكم بها العجم"، فقال أبو لهب: تبا لك فلهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 1. ووصلت الدعوة إلى كل أهل مكة.. ولذلك عدت هذه الطريقة اتصالا جماهيريا. وكان صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلى هذه الطريقة ويقول لهم: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب".

_ 1 حياة الصحابة ج1 ص72.

ثانيا: الدعوة بالحوار والمفاوضة دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الوسيلة أملا في إسلام من يفاوضهم ويحاورهم. وهذه الوسيلة تختلف عن الاتصال الجمعي في أنها قد تكون تلقائية، وقد تكون بإعداد وتوجيه من المدعوين لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يأتي الرسول أو الداعية للمفاوضة، وهو لا يعرف موضوعها، وكل ما في ذهنه، وكل ما يأمله هو عرض الدعوة، وإيمان الناس بها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمل في المفاوضات، ويرجو أن تكون سببا في إسلام أهل مكة.. يروي ابن كثير صورا لهذه المفاوضات، ومنها أن أشراف مكة اجتمعوا عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره شيء، وكان حريصا، يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك1. ثم عرضوا أن يحققوا له المال، أو الْمُلْك، أو الشرف، أو الزوجة الجميلة، إن كان هو ما يعمل له.. فأجابهم صلى الله عليه وسلم: "ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليَّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي،

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص50.

ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم". فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا1، وحاجتنا شديدة إلى المال والماء والعطاء، وأخذوا يطلبون أمورا حسية تأتيهم على وجه خارق للعادة.. فمرة يقولون: سل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنها الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم قصى بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك، وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول2. ومرة ثانية يقولون: سل ربك أن يبعث لنا ملَكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا، وكنوزا، وقصورا من ذهب، وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنا نراك تقوم في الأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم3. ومرة ثالثة يقولون: أسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل. واستمر أهل مكة في هذه العروض لا يقصدون من ورائها سوى السخرية، وإضاعة الوقت، والرسول يقول لهم في كل مرة: "ما بهذا جئت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" 4.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص50. 2 البداية والنهاية ج3 ص51. 3 البداية والنهاية ج3 ص51. 4 البداية والنهاية ج3 ص50، 51.

ورغم مقصد أهل مكة من هذا الحوار، إلا أنه يعتمد على أسلوب بياني له فوائده.. فهم يعرضون قضيتهم ومزاعمهم مع شبههم ووجه نظرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع ويرد عليهم في حلم ورفق بما يرد طلبهم، ويحدد لهم ما يدعوهم إليه. إن وسيلة المفاوضة تتميز بإظهار مراد كل طرف منها، ونظرته إلى الطرف الثاني، ومنهجه في العرض والرد.. ولذلك اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم وسيلة لعرض الإسلام. ويبدو أن هذه المفاوضات تعددت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقام بها غير واحد من القرشيين، وكلها تتجه وجهة معينة، فقريش تبرز ما حل بها بسبب الدعوة، وتحاول صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنها بإغرائه بكافة ألوان الإغراء، مع تهديده، وتخويفه، إن لم يتفق معهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يرد بالوحي المنزل عليه، ويقرأ عليهم من القرآن ما يناسب المقام؛ ليبين حقيقة الدين الإلهي، في أنه منزل من الله، وحقيقة القرآن العربي المبين، وحقيقة الرسول الداعية، مع إنذارهم بالويل والثبور إن لم يؤمنوا بالإسلام، وتذكيرهم بما حل بمن سبقهم، وهم على علم به. لقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم خلال هذه اللقاءات بالدعوة إلى دينه؛ حيث كان يسمع لمقالة القوم وشبههم ومزاعمهم، ثم يكر بالنقض والرد. إنه رسول يحمل رسالة، وكتاب ربه معه يهدي به من ضلال، وينقذه من خبال، وإذا كان الله يطلب من عباده أن يستقيموا ويستغفروا، فمحمد الرسول عبد بشر، وهو أول من يستقيم لربه ويستغفر، إنه لا يحتاج لمال، ولا لملك، ولا لجاه، فقد استبان له الطريق، ووضحت أمامه معالم الهدى، وتيقن من كل ما نزل عليه. إنه صلى الله عليه وسلم متمسك برسالته، ومستمر في الدعوة لها بالحسنى، واللين، والحجة، والبرهان، والبصيرة، والوضوح.

وهكذا كانت المفاوضات وسيلة للدعوة إلى الله تعالى، يقول الإمام ابن كثير: "اعترض المشركون على رسول الله وتعنتوا في أسئلتهم له؛ حيث طلبوا أنواعا من الآيات وخوارق العادات على وجه العناد، لا على وجه الطلب والإرشاد، وكان الرسول يسمع منهم، ويرد عليهم، بالرفق واللين، ويبين لهم خطأ جدلهم وعنتهم"1. ثالثا: الدعوة بالانتقال إلى القبائل ودعوتهم: وكان رسول الله يذهب إلى قبائل العرب وبطونهم، يدعوهم إلى الله بالحكمة واللين، وكان ينتهز المواسم والأسواق، ويذهب إلى القبائل في اجتماعهم ويدعوهم، يقول الزهري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض دعوته على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم شريف كل قوم، لا يسألهم من ذلك إلا أن يؤووه ويسمعوا له ويقول: "لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي بالذي أدعوكم إليه فذلك، ومن كرهه لم أكرهه".. فلم يقبل أحد منهم، وما بات أحد من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعرف به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه، ولفظوه2. وقد ذكر الواقدي البطون والأفراد الذين ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام، وعدهم واحدا واحدا، موضحا مواقفهم. وأهم هذه الانتقالات من أجل الدعوة ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لدعوة بني ثقيف إلى الإسلام؛ حيث عرض عليهم أن يأوي إليهم ويكون معهم إذا أسلموا، لكنهم ردوه ردا قبيحا، وسلطوا عليه سفاءهم وأطفالهم، فرموه بالحجارة، وطردوه من ديارهم وحيدا لا يجد لنفسه نصيرا من الناس، ولا مأوى في ديارهم3.

_ 1 انظر: البداية والنهاية ج3 ص49-53. 2 المرجع السابق ج3 ص140. 3 انظر ص362.

فاتجه إلى الله قائلا: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني! أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي! أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أم الدنيا والآخرة، أن يحل عليَّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" 1. وكان نصر الله مع رسوله في هذه الشدة فاستجاب له الدعاء، فآمن به "عداس"، ولما اتجه إلى مكة أجاره "المطعم بن عدي"، فدخل مكة في جواره2. إن الانتقال بالفكرة برهان على أهميتها، واهتمام صاحبها بها، وهذا في حد ذاته يدفع العقلاء إلى الاستماع والمعرفة والفهم. وهكذا استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة الانتقال من أجل الدعوة وتبليغ الرسالة لما لها من أهمية في مباشرة التوجيه، ومعرفة موقف المدعوين، والرد على تساؤلاتهم واستفساراتهم، وكان النبي لا يفرق بين قوم وقوم، ولا بين مكان ومكان، بل كان يتجه كلما أمكنه ذلك.. ولعل ذهابه إلى الطائف سيرا على قدمه ذهابا ورجوعا دليل على ذلك، وعلى مدى ما تحمله الرسول للدعوة بهذه الوسيلة. رابعا: الدعوة بمقابلة الوفود: استقبال الوفود لإحاطتهم بالأمور التي وفدوا من أجلها أسلوب انتشر بعد صلح الحديبية لكثرة الوافدين، حتى ظن كثير من الناس أن هذه الوسيلة لم تظهر قبل صلح الحديبية.

_ 1 الكامل ج1 ص345. 2 انظر ص376، 378.

لكن ذلك ليس صحيحا، فلقد ظهرت هذه الوسيلة قبل الهجرة.. وأهمية هذه الوسيلة تبرز في أنها تبلغ قوما جاءوا يبحثون عن الحقيقة، ولديهم رغبة في الاستماع إليها، كما أن هؤلاء الوافدين لا يثقون فيما لديهم من مذهب أو خبر، ويريدون أن يسمعوا الحقيقة من مصدرها، وبخاصة أن أهل مكة وأعداء الدعوة أخذوا في ترويج الإشاعات، ونشر الأكاذيب حول محمد ودعوته.. ولذا جاءت الوفود للرسول نفسه بعيدا عن قالة السوء، ومروجي الإشاعات، وناقلي الأخبار الكاذبة. ومجيء الوفد دليل على رجحان عقل أصحابه ومن وراءهم، فهم من أجل الوصول للحق والصواب جاءوا متحملين للمشاق، باذلين من وقتهم وجهدهم ومالهم الكثير في سبيله. إن الغالبية العظمى للوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مكة أو في المدينة، كانت خيرا لأصحابها؛ إذ دخلوا في الإسلام بعد أن عرفوه، وعلموا حقيقته. وأول وفد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وفد نصارى الحبشة؛ حيث قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا أو قريبا من ذلك فكلموه، وسألوه، وتحدثوا معه "ورجال من قريش يرقبونهم"، لما فرغوا من أسئلتهم واستفسارتهم، استمعوا لرسول الله يحدثهم فيما أرادوا، ويدعوهم إلى الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، حتى فاضت أعينهم من الدمع، وآمنوا، وصدقوا، ودخلوا في دين الله تعالى، فلما قاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، اعترضهم أبو جهل ونفر من قريش، وقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم، فتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم. فردوا عليهم: لا نجاهلكم، سلام عليكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا أنفسنا خيرا1.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص82.

ومن أشهر الوفود التي قدمت إلى مكة وفد الأوس والخزرج الذين جاءوا إلى رسول الله وقابلوه عددا من المرات وبايعوه بيعتين عند شعب العقبة، تعرفان بيعة العقبة الصغرى، وبيعة العقبة الكبرى؛ حيث اتفق النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة الثانية على أن يهاجر والمسلمين إلى المدينة، على أن يمنعه أهلها بما يمنعون به نساءهم وأبناءهم وأموالهم، واختار منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، يكونون على قومهم بما بايعوا عليه1. ويعد وفد الأنصار هذا من أكثر الوفود تأثيرا في مسار حركة الدعوة، فيه نشأت قوة الإسلام في المدينة، وكانت الهجرة، وكانت الدولة الإسلامية. إن استقبال الباحث عن الحقيقة يحتاج لداعية كفء يفهم قضيته، ويعرف طرق عرضها الحسن، ويجيد التعامل مع الوافد ذي الثقافة المعينة، والبيئة الخاصة، والتقاليد المتنوعة. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونة الله له يتعامل مع الوفد بطريقة حكيمة حسنة تؤدي إلى النتائج التي يرجوها المخلصون، والبحث عن الحقيقة موجود دائما، وتصورات العقول يشوبها الشك كثيرا وهي تريد الوصول لليقين، والمشكلة تكمن في وجود أشخاص يتعاملون مع الواقع، ويطوعون القضايا، ويوجهونها نحو الصواب، ويجيدون فهم الدعوة، وحسن عرضها على الأفهام. ولقد كان صلى الله عليه وسلم نموذجا عاليا في الاستفادة بهذه الوسيلة؛ لأن القبائل كانت تتخير أعلم أبنائها وأعقلهم، ويحددون له الهدف المقصود، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقابلهم وهو يرجوهم للإيمان. لا بد من معرفة دوافع الوفد للحضور، وكشف خصائص أفراده، ومعرفة من وراءه؛ ولذلك فالاستماع لأفراده ابتداء ضرورة لا بد منها، وكان صلى الله عليه وسلم يستمع للوفد ويجيب على تساؤلات أعضائه، ويكرم وفادتهم، ويقدم لهم النصح

_ 1 انظر تفصيلات وفود الأنصار من ص149 إلى ص170.

ويدعوهم بالحسنى والهدوء؛ ولذلك كان أعضاء الوفود يتأثرون بكرم الخلق، ويندهشون لجلاء الحق، ويؤمنون بدين الله رب العالمين. خامسا: الدعوة بإرسال الرسائل والدعاة من الوسائل التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرحلة ما قبل الهجرة إرسال الدعاة والرسائل، وبخاصة إلى الأماكن البعيدة. ومن الرسائل ما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم وأرسله إلى النجاشي وحمله عمرو بن أمية الضمري وجاء فيه: "من محمد رسول الله، إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك، القدوس، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة، الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى عليه السلام، فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخته، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، فتؤمن بي، والذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءوك فأقرهم، ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى" 1. وقد أسلم النجاشي الأصحم، وأرسل إلى النبي يخبره بذلك، ويعرفه أنه لا يملك إلا نفسه، وهو النجاشي الذي أكرم وفادة المسلمين إليه، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما علم بوفاته.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص83، وفي المرجع تفصيلات واسعة عن أعمال مصعب في المدينة.

وكما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائله خلال هذه المرحلة بعث بعض الدعاة متميزين بالخصائص التي تؤهلهم للدعوة، ومن هؤلاء "مصعب بن عمير"، فلقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عقب بيعة العقبة الأولى، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين.. فنزل مصعب على "أسعد بن زرارة" فكان يصلي بمن أسلم، ويدعو إلى الله تعالى، وسمي رضي الله عنه في المدينة بالقارئ والمقرئ. وبسبب مصعب دخل الإسلام كل بيوت المدينة، وعلى يديه أسلم زعيما الأوس والخزرج، وخيرة رجال الأنصار. ولما هاجر المسلمون إلى الحبشة الهجرة الثانية كان معهم جعفر بن أبي طالب أميرا مقدما عليهم، ومتحدثا نيابة عنهم، وقد قام جعفر بدوره كداعية مسلم، يفهم دينه، ويوضحه بالحسنى والحكمة، ذلك أن قريشا أرسلت وفدا من قبلها إلى النجاشي ليعيد المهاجرين إلى ديارهم. حاول أعضاء وفد قريش إحداث وقيعة بين النجاشي وبين المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، إلا أنها قوبلت بحكمة جعفر الداعية. يروي ابن إسحاق بروايته عن أبي موسى قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشا، فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية، وقدما على النجاشي، فأتياه بالهدية فقبلها، وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك. قال النجاشي: في أرضي؟! قالا: نعم.. فبعث النجاشي إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.

فلما انتهينا بدأنا من عنده من الرهبان قائلين: اسجدوا للملك. فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل. فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد؟! قال جعفر: لا نسجد إلا لله. فقال له النجاشي: وما ذاك؟ قال جعفر: "إن الله بعث فينا رسولا، وهو الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام من بعده اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر". فأعجب النجاشي بقول جعفر. فقال عمرو بن العاص: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم! فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ قال جعفر: يقول بقول الله فيه: "هو روح الله وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، ولم يفرضها ولد". فتناول النجاشي عودا من الأرض ورفعه وقال: يا معشر القسيسين والرهبان، ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ولا وزن هذه.. مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، امكثوا في أرضي ما شئتم، ثم رد هدية قريش1. وتعد الهجرة إلى الحبشة عملا إسلاميا رائدا، يدخل في إطار التبليغ العام للدعوة؛ لأن الإسلام بهذه الهجرة وصل إلى خارج الجزيرة العربية، وبدأ انتشاره عمليا في العالم. ويخطئ من يتصور الهجرة إلى الحبشة فرارا من الأذى؛ لأنها كانت في الأصل هجرة للدعوة إلى الله تعالى، وفي نفس الوقت راحة من عدوان قريش.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص70.

يدل على أنها كانت هجرة للدعوة إلى الله في الأساس أن أغلب الذين هاجروا كانوا من ذوي القوة والمنعة في مكة، ولهم من عصبتهم من يدافعون عنهم وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب، وله من أبيه وقومه قوة ومنعة، وفي نفس الوقت بقي الموالي والمستضعفون ولم يهاجروا، وبقوا في مكة صابرين محتسبين. وأيضا فلقد هاجر نسوة من أشراف مكة، والنسوة لا يتعرضن للأذى كما هو عُرْف العرب في الجاهلية.. ويلاحظ أن هذه الهجرة ضمت رجالا من اليمن كذلك. وهؤلاء لا صلة لهم بما يجري في مكة؛ لأنهم ليسوا منهم، وعلى رأس هؤلاء اليمنيين أبو موسى الأشعري، الذي هاجر إلى الحبشة مع المهاجرين إليها. ولو كانت الهجرة إلى الحبشة هروبا وفرارا فقط ما حاول أهل مكة أن يستعيدوا هؤلاء المهاجرين الفارين؛ لأنهم بفرارهم قد تخلصوا منهم، ولو كانت الهجرة فرارا وخوفا لعاد المهاجرون عقب الهجرة إلى المدينة مباشرة بعد زوال سبب الخوف، ولكنهم لم يرجعوا إلى المدينة إلا في العام السابع بعد الهجرة. إن الهجرة إلى الحبشة كانت دعوة ناجحة، وكان أفرادها خير ممثلين للإسلام، وخير دعاة إليه، وبذلك حملوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وسلموها إليه بمجرد وصولهم إلى بلاده. وهكذا كان دعاة الإسلام الذين أرسلهم رسول الله وهو في مكة إلى المدينة وإلى الحبشة، كانوا قوة في الحق، وصبرا على البلاء، وحكمة في الدعوة، وأفقا واسعا، ودقة عالية في فهم الموقف، والتعامل معه بما يفيد الدعوة، ويؤدي إلى الإيمان.. لم يعرف مصعب رضي الله عنه الانفعال في مواجهة التعنت والإيذاء، وإنما كان رقة في السلوك، وسموا في الأخلاق، وصبرا جميلا في عرض قضيته على الناس. ولم يفقد جعفر رضي الله عنه رباطة جأشه حينما رأى وفد قريش يجلسون مع النجاشي، ويوجهون له الأسئلة في تحد واستفزاز، وإنما كان متخلقا بخلق الإسلام،

يرد بما علمه الله، ويجيب وفق ما سمع من رسول الله، واثقا في علو الحق وانتصاره، وقد كان له ما تمنى. إن الدعوة في المجتمعات غير الإسلامية تحتاج إلى مثل هذه النماذج الرائدة من الدعاة المخلصين. تلك هي أهم الوسائل التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم خلال مرحلة الجهر بالدعوة في مكة، ويلاحظ أن وسائل المرحلة السرية لم تهمل، وإنما كانت وسائل مستمرة لمواقف تحتاجها، وهكذا سائر الوسائل تكون مع حركة الدعوة على طول الزمن. سادسا: الدعوة بالعمل والتطبيق حافظ الرسول صلى الله عليه وسلم على تطبيق ما يدعو إليه، والالتزام به على وجه دقيق، وبذلك قدم دعوته للناس بمنهج عملي. ولذا كان من أوائل الذين عذبوا وأذوا، وحين دعا المؤمنين إلى الصبر والتحمل كان من أوائل الصابرين، وبقي صلى الله عليه وسلم مع قومه محاصرا في الشعب حتى أتاهم الفرج، وحين عرض عليه قومُه الملك والمال والجاه رفض عرضهم، وبين لهم أنه رسول الله إليهم، وإلى الناس كافة، يحمل لهم دين الله تعالى1. واستمر يقيم في مكة مع كفارها في الوقت الذي وجه أصحابه رضوان الله عليهم بالهجرة إلى الحبشة حيث الأمن والهدوء. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا عمليا في التأسي والقدوة؛ ولذلك جعله الله تعالى مناط الأسوة والاتباع، يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 2.

_ 1 انظر 342 وما بعدها. 2 سورة الأحزاب آية 21.

إن حياة الرسول العملية كانت دعوة حكيمة ناجحة؛ لأن النفوس تتأثر بالأعمال أكثر من تأثيرها بالأقوال؛ لأن دلالة العمل على الصدق أوضح من دلالة القول المجرد، فلربما كان القول لكسب شخصي، أو لغاية قاصرة، أما عمل الرسول والدعاة فهو دليل على إيمانهم اليقيني بما يدعون إليه، وينادون به. سابعا: الاستفادة من عادات المجتمع الجاهلي أقام المجتمع القرشي قبل الإسلام عادة جاهلية، وحافظ عليها، وهي عادة الحماية والجوار، ومعناها أن الضعيف إذا لجأ لقوي أجاره، وأعلن حمايته، وحينئذ لا يجرؤ أحد على التعدي عليه، وإن لا قامت الحرب. ولذلك كان المجير قوي الشكيمة، عزيزا في قومه، متمكنا من حماية من يجير. وهذه العادة لا صلة لها بفكر المستجير أو ثقافته؛ ولذلك استفاد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحرك بالدعوة في مكة. وقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية عمه أبي طالب، يقول ابن إسحاق: "وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله مظهرا لأمره لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم"1.. وقد حاول كفار مكة عدة مرات صرف أبي طالب عن حماية محمد فلم يتمكنوا، وكان لحماية أبي طالب أثر فعال في خدمة الدعوة؛ حيث بقي رسول الله يدعو إلى دين الله تعالى وهو يقيم في مكة. ومن صور الحماية والجوار التي استفاد بها المسلمون ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها، قالت: "لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج

_ 1 السيرة النبوية ج1 ص284.

أبو بكر مهاجرا إلى أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي. فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقري الضعيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع أبو بكر، وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن إبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: فاؤمر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر. فطفق أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وبرز فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فتتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، وقد جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقرآن فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فانهه، فإن أحب على أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبَى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفر ذمتك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله"1. ومن صور الإجارة ما سبق ذكره حين عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، فلقد دخل مكة في جوار المطعم بن عدي على نحو ما سبق ذكره2. ومن المعلوم أن الاستفادة بالواقع الاجتماعي في نجاح الدعوة أمر مباح ما دام لا يمس جوهر الدعوة بصورة ما.. أما إذا أدى إلى أي مساس ضار بالدعوة فإنه لا يجوز؛ ولذلك صاح الرسول صلى الله عليه وسلم في وجه عمه باكيا حينما طلب منه أن يبقي الدعوة على نفسه، قال له: "يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك فيه" 3. وكما فعل أبو بكر رضي الله عنه، فإنه رد جوار ابن الدغنة حين وجده قيدا عليه في الدعوة، واكتفى بحماية الله له.

_ 1 صحيح البخاري - باب الكفالة - باب جوار أبي بكر ج4 ص130، ط. الأوقاف. 2 انظر ص 376. 3 سيرة ابن هشام ج1 ص265.

المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية

المسألة الثانية: أساليب الدعوة من خلال البلاغة القرآنية تنتقل الأفكار والمعلومات من طرف إلى آخر بواسطة ألفاظ وجمل، تملك قوة التأثير والإقناع، وتحقق الغاية من إطلاقها منطوقة أو مكتوبة أو مصورة. والبلاغة بفنونها المختلفة هي المورد الفياض الذي يقدم للدعوة أسلوبها المؤثر ومقولتها السديدة.

والقرآن الكريم هو الذروة الأعلى في البلاغة العربية، وهو الأسلوب الذي اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم في عرض دعوته، وتبليغ دين الله تعالى؛ ولذلك حين نبحث في أساليب الدعوة في عصر الرسالة نجد أنفسنا تلقائيا أمام القرآن الكريم نستنطقه فيطلعنا على أسلوب رسول الله في الدعوة، وسنتهديه فيهدينا. ومن هنا ندرك أن القرآن الكريم هو دستور الدعوة موضوعا، ووسيلة، وأسلوبا، وغاية.. والقرآن الكريم يقدم الفصاحة العالية البليغة، في أسلوبه، ونسقه، ويصور المعنى المقصود تصويرا حركيا؛ حيث يجسد المعنى، ويقدمه مشخصا، ظاهرا؛ حيث نجده يفضل الكلمة المصورة للمعنى أكمل تصوير؛ ليشعرك به أتم شعور وأقواه، وخذ لذلك أمثلة: كلمة "يسكن" في قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} 1 لما في السكون من الهدوء والثبات، كأنها على الأرض. وكلمة "تسوروا" في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} 2 لدلالة الكلمة على المفاجأة والمخالفة والاستعلاء. وكلمة "يطوقون" في الآية الكريمة: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3 لأن الطوق يعم ويشمل ما بداخله في إحكام. وكلمة "يسفك" في آية: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} 4 لأن السفك

_ 1 سورة الشورى آية 33. 2 سورة ص آية 21. 3 سورة آل عمران آية 180. 4 سورة البقرة آية 30.

يشير إلى كثرة إسالة الدم والعدوان. وكلمة "انفجر" في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} 1 لما فيها من المفاجأة والانطلاق والكثرة والدهشة. وكلمة "يخرون" في الآية: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} 2 لدلالة يخرون على الاقتناع والخضوع وقوة الإيمان. ومن بلاغة القرآن الكريم وتعمقه في التصوير الحركي، نراه يعبر عن المعنى المعقول بألفاظ تدل على محسوسات، تبين أثر ما يوحيه هذا النوع من الألفاظ في النفس، ذلك أن تصوير الأمر المعنوي في صورة الشيء المحسوس يزيده تمكنا من النفس، وتأثيرا في الوجدان، ويكفي أن نقرأ قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} 3، وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} 4، لترى قدرة كلمة "ختم" في تصوير امتناع دخول الحق قلوب هؤلاء الناس، وقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} 5 لترى قيمة كلمتي "الظلمات والنور" في إثارة العاطفة وتصوير الحق والباطل، وتلمس من كلمة "يخرجونهم" ففيها دلالة على تصوير

_ 1 سورة البقرة آية 60. 2 سورة الإسراء آيات 107، 108. 3 سورة البقرة آية 7. 4 سورة الجاثية آية 23. 5 سورة البقرة آية 257.

الإخراج بصورة حسية مع أنه مع المعنويات التي يدركها العقل المجرد. وقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 1 لترى قيمة هذه الصفات التي تكاد تخرجهم عن دائرة البشر إلى عالم لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى؛ بسبب عتوهم وكفرهم. وقوله سبحانه: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} 2 فكلمات "ينقضون ويقطعون ويوصل" تصور الأمور المعنوية في صور المحس الملموس، وفي القرآن من أمثال ذلك عدد ضخم. وقد يأتي القرآن الكريم بكلمتين فيهما سر الإيحاء ومصدره، كالجمع بين الناس والحجارة، في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 3، فهذا الجمع يوحي إلى النفس بالمشاكلة بينهما والتشابه. وقد تكون العبارة بجملتها هي الموحية، كما نجد ذلك في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} 4 أولا تجد هذه الثيات من النار، موحية لك بما يقاسيه هؤلاء القوم من عذاب أليم، فقد خلقت الثياب يتقي بها اللابس الحر والقر، فماذا يكون الحال إذا قدت الثياب من النيران؟!! ومن هذا الباب قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} 5، فإن الظلة إنما تكون ليتقى بها وهج الشمس، فكيف إذا كانت الظلة نفسها من النيران؟!!

_ 1 سورة البقرة آية 18. 2 سورة البقرة آية 27. 3 سورة البقرة آية 24. 4 سورة الحج آية 19. 5 سورة الزمر آية 16.

يقول السيوطي في الإتقان: المعنى الواحد قد يخبر عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزأي الجملة قد يعبر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بد من استحضار معاني الجمل، واستحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ ثم استعمال وأفصحها، واستحضار هذا متعذر على البشر، في أكثر الأحوال، وذلك ميسر حاصل في علم الله، فلذلك كان القرآن الكريم أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملا على الفصيح والأفصح، والمليح والأملح؛ ولذلك أمثلة منها قوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} 1، من جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يجنى فيها، ومن جهة مؤاخاة الفواصل. ومنها قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} أحسن من التعبير بـ"تقرأ" لثقله بالهمزة. ومنها: {لا رَيْبَ فِيهِ} أحسن من "لا شك فيه" لثقل الإدغام، وهذا كثر ذكر الريب. ومنها: {وَلا تَهِنُوا} أحسن من "ولا تضعفوا" لخفته. ومنها: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} أحسن من "ضعف" لأن الفتحة أخف من الضمة. ومنها: "أمن" أخف من "صدق"؛ ولذا كان ذكر الإيمان أكثر من ذكر التصديق. ومنها: {آثَرَكَ اللَّهُ} أخف من "فضلك". ومنها: "آتَى" أخف من "أعطى". ومنها: "أنذر" أخف من "خوف".

_ 1 سورة الرحمن آية 54.

ومنها: {خَيْرٌ لَكُمْ} أخف من "أفضل لكم"، والمصدر في نحو: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} ، {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أخف من "مخلوق" و"الغائب" و"نكح" أخف من "تزوج"؛ لأن فعل أخف من تفعل؛ ولهذا كان ذكر النكاح فيه أكثر. ولأجل التخفيف والاختصار استعمل لفظ: الرحمة، والغضب، والرضا، والحب، والمقت، في أوصاف الله تعالى مع أنه لا يوصف بها حقيقة؛ لأنه لو عبر عن ذلك بألفاظ الحقيقة لطال الكلام، كأن يقال: يعامله معاملة المحب، والماقت، فالمجاز في مثل هذا أفضل من الحقيقة؛ لخفته، واختصاره، وابتنائه على التشبيه البليغ، فإن قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أحسن من "فلما عاملونا معلمة المغضب" أو "فلما آتوا إلينا بما يأتيه المغضب"1. اهـ. ولم يزد مرور الزمن بألفاظ القرآن إلا حفظا لإشراقها، وسياجا لجلالها، ولم تهن لفظة، ولم تتخل عن نصيبها، في مكانها من الحسن، وقد يقال: إن كلمة الغائظ من قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} 2 قد أصابها الزمن، فجعلها مما تنفر النفس من استعمالها، ولكنا إذا تأملنا الموقف، وأنه موقف تشريع وترتيب أحكام، وجدنا أن القرآن عبر أكرم تعبير عن المعنى، وصاغه في كتابة بارعة، فمعنى الغائط في اللغة المكان المنخفض، وكان يمضون إليك في تلك الحالة، فتأمل أي كناية تستطيع استخدامها مكان هذه الكتابة القرآنية البارعة، وإن شئت أن تتبين ذلك فضع مكانها كلمة تبرزتم، أو تبولتم، لترى ما يثور في النفس من صور ترسمها هاتان الكلمتان، ومن ذلك كله ترى كيف كان موقع هذه الكناية

_ 1 الإتقان ج2 ص125. 2 سورة المائدة آية 6.

يوم نزل القرآن، وأنها لا تزال إلى يوم الناس هذا أسمى ما يمكن أن يستخدم، في هذا الموضع التشريعي الصريح. وتأتي الفاصلة في القرآن مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة، يتعلق معناها بمعنى الآية كلها تعلقا تاما؛ بحيث لو طرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم، فهي تؤدي في مكانها جزءا من معنى الآية، ينقص ويختل بنقصانها. وقد يشتد تمكن الفاصلة في مكانها، حتى لتوحي الآيات بها قبل نطقها، كما رُوي عن زيد بن ثابت أنه قال: أملى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، وهنا قال معاذ بن جبل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له معاذ: ممَّ ضحكت يا رسول الله؟ قال: "بها ختمت" 1. وحتى ليأبى قبولها، والاطمئنان إليها، من له ذوق سليم، إذا غيرت وأبدل بها سواها، كما حكي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، ولم يكن يقرأ القرآن وختم بأن الله غفور رحيم، فقال الأعرابي: إن كان هذا كلام الله فلا، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء عليه2، والآية إنما ختمت بقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وخذ الآيات التي تنتهي بوصفه تعالى بالعلم، أو بالقدرة، أو بالحلم، أو

_ 1 الإتقان ج1 ص104. 2 المرجع السابق ج1 ص101.

بالغفران، نجد المناسبة في ذلك الختم واضحة جلية، واقرأ: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 1 فهو يعلم بما يجري في المشرق والمغرب. وقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2 السميع لنجوانا، والعليم بما تضمره أفئدتنا من الإخلاص لك. وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3 فهو سميع بما تم من وصية، وعليم بمن يبدلها. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4 فالمجيء بالساعة في مثل لمح البصر أو أقرب يستدعي القدرة الفائقة. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5 فإحياء الموتى يحتاج كذلك إلى قدرة خارقة. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 6 فمالك السماوات والأرض -لا ريب- يقدر على كل شيء.

_ 1 سورة البقرة الآية 115. 2 سورة البقرة الآية 127. 3 سورة البقرة الآيتان 180، 181. 4 سورة النحل الآية 77. 5 سورة الحج الآية 6. 6 سورة آل عمران الآية 189.

وقد تجتمع فواصل متنوعة، في إطار غاية واحدة، لحكمة يريدها الله تعالى من هذا التنوع في هذا التنوع، ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} 1، فإن الموضوع عرض لإثبات أدلة وجود الله وقدرته ووحدانيته، ومع ذلك تنوعت الفواصل؛ حيث ختمت آية بـ"يتفكرون" لما أن الاستدلال بإثبات الزرع والثمر على وجود الله وقدرته، ويحتاج إلى فضل تأمل، يرشد إلى أن حدوث هذا النوع يحتاج إلى إله قادر يحدثه، فناسب ذلك ختم الآية بما ختمت به، وانتهت الثانية بـ"يعقلون" لما أن تسخير الليل والنهار لخدمة الإنسان؛ ليرتاح ليلا، ويعمل نهارا، وتسخير الشمس، والقمر، والنجوم، فتشرق وتغرب في دقة ونظام تامين، يحتاج إلى عقل يهدي إلى أن ذلك لا بد أن يكون بيد خالق مدبر، فختمت الآية بـ"يعقلون"، وختمت الآية الأخيرة بـ"يذكرون" لأن الموقف فيها يستدعي تذكر ألوان مختلفة بثها الله في الأرض، للموازنة بين أنواعها، بل الموازنة بين أصناف نوع منها، فلا يلهيهم صنف عن سواه، ولا يشغلهم نوع عن غيره، وهذه الموازنة تقضي إلى الإيمان بقدرة الله، خالق هذه الأنواع المختلفة المتباينة.

_ 1 سورة النحل الآيات 10-13.

هذا.. وقد أبرز القرآن الكريم مع فصاحة الكلمة، وبلاغة الآيات، ودقة الفواصل، وروعة التعبير -صورا تعد قمة في الفصاحة والبلاغة، وتجعل القارئ أو المستمع أمام صورة حسية بارزة، تصورها الكلمات، وتقدمها للعقل في هيئة جميلة، مقبولة، بعيدة عن التجريد العقلي الخالي من الإثارة والتوضيح. إن الأسلوب التصويري يختلف عن الأسلوب التجريدي في أن التجريد يضع المعنى في صورة معنوية تحتاج لإدراكها إلى عقل واعٍ، وفهم عالم، أما التصوير الحسي فإنها تقدم المعنى في صورة متحركة تلتقي مع الحس، وتثير الوجدان، وتوجد في النفس انفعالا يدفعها إلى معايشة الحدث ومتابعته والتأثر به. ومن أهم ما قدمه القرآن الكريم في مجال الأسلوب التصويري ما يلي: 1- التصوير بالألفاظ والعبارات: ألفاظ القرآن الكريم كلها مختارة ومقدرة لتحتل مكانها في الجملة بحيث لا يغني عنها سواها، ولتنهض بدورها في تأدية المعنى على أكمل وجه، وأتم بيان، وأبلغ صيغة. والقرآن الكريم لم يبتكر ألفاظا كانت مجهولة قبله، بل الجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف الموارد، وأمسها رحما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها، وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. وقد مر بنا منذ قليل عدد من الأمثلة على كلمات قرآنية وضعت في موضعها، ورأينا كيف أنها صورت معناها، وقدمته جليا واضحا شاملا لكل جوانبه وعناصره. كما شاهدنا تميز الكلمة في موضعها عن سواها المشتمل على نفس المعنى..

وكما بدت البلاغة القرآنية في الكلمة الواحدة، والجملة المركبة، فإنها تتحقق كذلك في الآيات الكثيرة وهي تتحدث عن موضوع ما.. ومن أمثلة ذلك النوع نقرأ قوله تعالى: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} 1 وهذه الآيات جزء من قصة أصحاب الجنة التي ذكرها القرآن الكريم بيانا لعاقبة البخل؛ ترهيبا منه، وحثا على البذل، ونقف عند الكلمات {فَتَنَادَوْا} و {مُصْبِحِينَ} و {فَانْطَلَقُوا} و {يَتَخَافَتُونَ} فنجدها تصور حركة أصحاب الجنة وهم يتنادون مبكرين قبل أن يستيقظ الفقراء، ثم وهم ينطلقون إلى جنتهم لا يصرفهم شيء عما اعتزموه، ثم وهم يبالغون من التكتم زيادة في الحيطة، ويتخافتون ويسرون بالكلام، وهذا التصوير الذي قامت به الكلمات يثير الخيال، ويجعله يتابع حركتهم، ويستثير في النفس حبها للاستطلاع، ويستولي على مشاعر السامع، فلا يستطيع التحول عن متابعتهم فيرى نهاية أمرهم، ومن ثم يستقر في وجدانه الدرس القيم الذي سيقت القصة من أجله. ومن أمثلته قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} 2 والآيات الكريمة تخوف من البخل وعاقبته؛ ولذا نقف عند الكلمات {نَارًا} و {تَلَظَّى} و {الْأَشْقَى} و {وَتَوَلَّى} و {وَسَيُجَنَّبُهَا} ففيها من القدرة على التصوير ما يجعلها أبلغ في الترهيب، فالمنذر به {نَارًا} ومن ذا الذي لا يفزع من النار، ويعمل ما يقي نفسه شرها، ثم هي نار {تَلَظَّى} أي: تتسعر، ويشتد لهيبها، ثم

_ 1 سورة القلم الآيات 21-24. 2 سورة الليل الآيات 14-18.

اختيار صيغة المضارع للمبالغة في تأثير التصوير باستحضار المشهد، كأنه واقع وقت التكلم، وما يلقيه المشهد في الحس من الفزع والخوف. ولو عبر بألفاظ أخرى لا تستطيع هذا التصوير مثل "عذابا شديدا" لما كان له مثل هذا الأثر المناسب للمقام. وقوله: {الْأَشْقَى} الذي يجعل المستحق لهذا العذاب في قمة الشقاء، وتلك إضافة جديدة تزيد التعبير قدرة على الترهيب، ثم لنتأمل قوله: {وَتَوَلَّى} الذي يصور المكذب في عدم استجابته للدعوة وعناده كأنه يذهب بعيدا عن الدعوة مبالغة في وصفه بالكفر الذي استحق به العذاب. أما قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} فإنه يصور الأتقى وقد أبعد عن مصدر الخطر، فلم يكتفِ بالوعد بعد تعذيبه، بل أخبر بأنه سيكون بعيدا عن النار زيادة في الاطمئنان، وحثا على البعد عن أسباب الشقاء. وهكذا يبدو أثر التصوير بالكلمات في تقوية المعاني وزيادة تأثيرها في النفوس تحقيقا لما يرمي إليه الداعية ترهيبا أو ترغيبا. 2- التصوير بالتشبيه: أسلوب التشبيه من الأساليب القوية في التأثير لما تملكه من عناصر الحركة والتوضيح، يقول الإمام عبد القاهر الجرجاني: إن التشبيه يفتح إلى القلب طريقا متصلا بالعين. وعلى ذلك فهو تحريك للعين والقلب والحواس، ومثاله قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} 1 وقد جاءت هذه الآيات بعد آيات صورت مصير المؤمنين والكافرين بعد استقرارهم في الجنة والنار.

_ 1 سورة المدثر الآيات 49-51.

وقد بدأت الآيات باستفهام إنكاري عن سبب إعراضهم عن الإيمان مع وجود كل دواعي الاستجابة ليقوا أنفسهم هذا المصير الذي ينتظرهم. والقرآن يصورهم في نفورهم من الدعوة، والإسراع في إبعاد أنفسهم عنها إسراعا يمضون فيه على غير هدى، بالحمر المستنفرة التي تبالغ في الهرب، وتحث نفسها عليه، فرارا من أسد هصور، يبغي اللحاق بها لافتراسها، فكم توحي هذه الصورة بالعجب من أمرهم، والسخرية منهم! ثم ما أعظم ما أبرزته هذه الصورة من أحوالهم، فهم في فرارهم هذا من الدعوة لا يلجئون إلى مأمن من الخطر، بل يفرون على غير هدى ولا بصيرة، ثم إبراز ما في نفوسهم من كراهيتهم العميقة للدعوة في تلك الصورة البالغة التي تحملهم على المبالغة في البعد عنها، وعدم الاستماع إليها فضلا عن تدبرها. وإذا كنا نركز هنا على أثر التصوير في إبراز المعاني، فإن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى عوامل أخرى تضمنتها الصورة، وضاعفت ما بها من تأثير، فاختيار لفظ "الحمر" وما يوحي به من دناءة وخسة مبالغة في السخرية بهم، ثم اختيار لفظ "قسورة" من بين أسماء الأسد؛ لما يوحي به من القسر والعنف مبالغة في سبب فرارهم، وذلك إشارة إلى ما في نفوسهم من مشاعر عدائية، تحثهم على الفرار من الدعوة، وهكذا يبرز التشبيه المعاني ويثبتها في النفوس، ويوحي بما يحقق الهدف منه، ويتضح هذا بجلاء إذا حاولنا أن نعبر عن هذا المعنى بأسلوب غير أسلوب التشبيه، كأن نقول مثلا: فما لهم يعرضون عن الدعوة كل هذا الإعراض، أو هذا الإعراض الشديد؟!! 3- التصوير بضرب المثل: يطلق المثل ويراد به: القول السائر الذي يمثل مضربه بمورده، وحيث لم يكن ذلك إلا قولا بديعا، فيه غرابة، صيرته جديرا بالتسيير في البلاد، وخليقا بالقبول استعير لكل حال أو صفة أو قصة، لها شأن عجيب، وخطر غريب، من غير أن

يلاحظ بينها وبين شيء آخر تشبيه1. ويطلق بالمعنى الأول على الاستعارة التمثيلية التي اشتهرت وصارت مثلا، وهي كثيرة في القرآن الكريم، ومن المعنى الثاني قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} 2 أي: الوصف الذي له شأن عظيم وخطر جليل، وقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} 3 أي: قصتها العجيبة الشأن. هذا وأسلوب المثل له خطره بين فنون القول وقدرته على التأثير التي يستمدها من خصائصه المميزة: أولها: ما يعبر عنه السيوطي في الإتقان بقوله: "ضرب الأمثال يستفاد منه أمور كثيرة، منها: تقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص؛ لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالمشاهد"4. ويقول عنه صاحب الكشاف: "ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق، حتى يريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في محضر المتيقن، والغائب كأنه مشاهد وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبي"5. وثانيها: أن للأمثال قدرة على الاستحواذ على المشاعر، وإيقاظ النفوس، وتحديد نشاطها، فالإنسان يميل بطبيعته إلى الاستشهاد بالأمثال لما يرى فيها من جمال

_ 1 تفسير أبي السعود ج1 ص40. 2 سورة النحل الآية 60. 3 سورة الرعد الآية 35. 4 الإتقان في علوم القرآن ج2 ص131. 5 تفسير الكشاف ج1 ص195.

حكمتها ورشاقة لفظها، وإصابتها المعنى، وطرافتها التي تتجدد ولا تبلى، مما نرى أثره في وجوه السامعين لها، وإقبالهم عليها، وتسليمهم بحكمها. وثالثها: أن المثال وسيلة من وسائل الإقناع، فإن المورد للمثل إنما هو في الحقيقة يقيس الأمر الذي يدعيه على أمر معروف عند من يخاطبه، ومسلم لديه، ومن ثم لزم التسوية بينهما في الحكم، وتحقق الإلزام به. تلك أهم عوامل التأثير في أسلوب ضرب المثل، ولنورد بعض النماذج لها. يريد القرآن الكريم أن يبين للمشركين تفاهة ما يعبدونه من دون الله وعجزهم المزري، فلا يعبر عن ذلك بوصفهم بالعجز والتفاهة، بل يصوره في هذا المثل المؤثر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 1. وأي عجز أبلغ من عجز من يزعمونهم آلهة عن خلق أتفه المخلوقات وأحقرها وهو الذبابة، ولو اجتمعوا، وتعاونوا في ذلك، إنهم يعجزون عما هو أيسر من الخلق، وهو استنقاذ ما يسلبه منهم ذلك المخلوق الضعيف. أبعد هذه دليل على الجهل والضلال؟! وهكذا يتركهم القرآن الكريم هم وآلهتهم سخرية الساخرين، وحديث المتندرين. 4- التصوير القصصي: القرآن في قصصه لا يعمد إلى الحشد من الحوادث والمواقف، فيصوره في تتابع ليأتي عليه كله، بل إن القصص القرآني مرتبط بالغرض الديني فهو يسوق القصة في مقام يقتضيها، ولهدف محدد يرمي إليه، ومن ثم يختار من الحوادث والمواقف ما يحتاجه المقام ويصيب به الهدف المقصود، حيث نرى القصة تركز مرة على الزمن

_ 1 سورة الحج الآية 73.

وأخرى على المكان، وثالثة على الأشخاص، ورابعة على الأحداث، وخامسة على الحوار ... وهكذا تبعا لما يقتضيه مقام إيراد القصة. ولهذا نرى القصة الواحدة تكرر مرات عديدة في مقامات مختلفة، ويختار منها في كل مقام ما يناسب الغرض المذكور من أجله، وربما كان الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة هو قصة يوسف عليه السلام؛ إذ ذكرت تامة كاملة مرة واحدة. ولنأخذ للتصوير القرآني للمشاهد والمواقف، وما يلابسها من نزعات وعواطف، مثالا من قصة مريم عليها السلام في السورة المسماة باسمها. والغرض الذي سيقت له القصة هو بيان الحق في شأن عيسى عليه السلام وولادته من غير أب، ونفي ما نسجه النصارى حوله من دعاوى زائفة، رتبوا عليها ادعاء ألوهيته، أو أنه ابن الإله، إلى آخر ما قالوه. وقد اختار القرآن الكريم في هذه المقام من المشاهد ما يفي بهذا الغرض، معقبا عليه بتقرير الهدف من القصة في قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 1. أما المشاهد التي اختارها القرآن الكريم فهي مرتبة على النحو التالي: تبدأ بمشهد يمثل مريم بعد أن بلغت مبلغ النساء، وقد انتحت مكانا بعيدا واتخذت حجابا يسترها عن أعين الناس لشأن من شئونها، يقتضي ألا يرها أحد، ويفاجئها الملَك وهي في خلوتها فينتابها الفزع، ويدور بينهما حوار ينتهي باستسلامها لأمر الله ويحدث الحمل. {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ

_ 1 سورة مريم الآيات 34-36.

إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} 1. المشهد الثاني: يصورها وقد حملت بابنها، وخافت أن يطلع أهلها على ما بها، فآثرت البعد عنهم ورحلت إلى مكان بعيد، وهناك تعاني آلاما لا قبل لها بها، فهي تعلم أنها تؤدي دورا اصطفاها الله له، ولكنها تدرك كذلك أن أحدا لن يصدقها فيما ستذكره من تفسير لحملها بهذا الوليد بلا أب، ثم تجتمع عليها الآلام الجسدية والنفسية عند الوضع فتكاد مقاومتها تنهار، وتتمنى لو ماتت قبل أن تتعرض لكل ذلك، ولكن الرحمن يفرج عنها ذلك كله في لحظة ويبرئ جراحها، وترى من الآيات ما يملؤها ثقة به تستهين معها بكل شيء. {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 2. المشهد الثالث: يمثلها وقد عادت تحمل ابنها إلى قومها، فيواجهونها بما هو متوقع منهم، بالتأنيب والسخرية، ويقفونها موقف المسئول عن جريمة ارتكبتها، ولكن المعجزة الإلهية تنهي الموقف كله، وينطق الله الوليد ليخبر القوم بالحقيقة.

_ 1 سورة مريم الآيات 16-21. 2 سورة مريم الآيات 22-26.

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} 1. وتنتهي المشاهد عند هذا الحد، فقد استوفى الغرض المسوقة له القصة ما يحتاجه من بيان، ولم يبقَ إلا أن يعقب القرآن عليها بما يبلور مغزاها ويقرر ما دلت عليه. والمشاهد كما نرى تنقلنا إلى مسرح الأحداث وتعرضها علينا بعد أن منحتها الحياة، وجعلتها تجري تحت أبصارنا وبصائرنا. ولنلق نظرة على قدر النص على تصوير المشاعر التي صاحبت هذه الأحداث وجعلتنا نشارك أصحابها انفعالهم ونتجاوب معهم. فها هي ذي مريم -تلك الفتاة العذراء الطاهرة- تريد الخلوة فتحطاط ألا يراها إنسان، وتتخذ الحجاب، ولكنها تفاجأ بشاب وسيم أمامها، ولنا أن نتخيل أزاء ما أصابها من ذعر وفزع، وماذا تملك وهي فتاة لا حول لها ولا طول، وماذا تفعل؟ فلنستمع إلى القرآن يعبر عن فزعها في قوله: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} . وعندما يجيبها الملَك الكريم موضحا مهمته لا يجدي ذلك في طمأنتها ونزع الشك من نفسها، فقد تكون خدعة دبرها ذلك الذي اقتحم عليها خلوتها فنراها

_ 1 سورة مريم الآيات 27-33.

لا تستسلم له، بل تعمد إلى الاستيثاق من الأمر فتسأله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} ؟ وعندما يقضي أمر الله وتحمل استجابة بقضائه، وترحل بعيدا عن قومها تنتابها الهواجس، وتتداعى عليها الهموم، كيف ستواجه قومها، وهم أهل عبادة وطهر وغيرة على الشرف والعرض؟ وكيف ستفسر لهم ما حدث؟ ثم يضاف إلى آلامها النفسية آلام جسدية مما يصاحب الوضع فتخور مقاومتها، وتهن عزيمتها، ولنستمع إلى القرآن يعبر عن ذلك بقوله على لسانها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} . ولكن تطورا مفاجئا يبدل كل شيء، وينهي أزمتها، ويبرئ جراحها المادية والمعنوية، فترى من آيات الله ما يرد إليها يقينها، ويملؤها ثقة تواجه بها العالم، وتتحدى الدنيا، فإذا بها تعود غير مكترثة لشيء تحمل ابنها في اعتزاز وفخر، مؤمنة بأن الله الذي رأت فضله وقدرته لن يتخلى عنها مصدقة بوعده، ملتزمة بأمره، وعندما تبدأ محاكمتها أمام قومها بالسخرية اللاذعة، والتوبيخ المهين، لا يحرك ذلك ساكنا فيها، ولا تهتز ثقتها في الله، ولا تزيد عن أن تشير إلى ابنها {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إنه الاطمئنان القلبي لنصر الله ورعايته. ولكن قومها معذورون، فهي تحدثهم بما لم يعهدوه، فلا تقنعهم إجابتها، بل يرون فيها تهكما بهم، واحتقارا لهم، فيردون عليها وهم في ذروة انفعالهم منكرين ذلك عليها: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} ؟!. تلك قدرة التصوير على إبراز المشاعر والتعبير عن أعمق الانفعالات تجعلنا نشارك أبطال القصة مشاعرهم، فنحس نحو مريم بالإشفاق عليها، والتعاطف معها في

محنتها، والإعظام لشأنها، والإعجاب بقوة يقينها، ونتمنى لو كنا هناك لندفع عنها الأذى ونرده على لائميها. ونلحظ أن أسلوب القصة القرآنية يتضمن التشويق، وتصوير المشهد، ويمزج الجوانب الدينية بجوانب القصة، ويبرز الحوار الحسن، ويكرر بلا ملل أو سآمة. 5- التشويق والإثارة في الأسلوب: يتضمن أسلوب القرآن الكريم الإثارة والتشويق بعدة طرق؛ فمرة يفصل بعد إجمال، ويبين بعد إبهام؛ لأن النفس مع الإجمال والإبهام تتشوق إلى معرفة ما وراء ذلك، وتتنبه لما يأتي عساه يكون شارحا موضحا، ومثاله قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} 1 هكذا عبر عن جزائهم في إجمال بأن مصيرهم الجنة، ثم فصل ما في الجنة من ألوان النعيم، فيقول ذاكرا أحوالهم فيها: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} 2. ومثل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} 3 هكذا يعبر في إجمال، ثم يفصل بعض هذا الملك الكبير والنعيم فيقول سبحانه: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} 4.

_ 1 سورة الإنسان الآية 12. 2 سورة الإنسان الآيات 13-14. 3 سورة الإنسان الآية 20. 4 سورة الإنسان الآيات 21-22.

ومثل قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 1 فقد بيَّن أن مساعي الناس في الدنيا متنوعة، ثم فصل ذلك بقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} 2. ومثال الإبهام ثم التوضيح قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} 3 فقد ذكر لفظ {مَثَلًا} مبهما ثم فسره بما جاء بعده ليثير النفس إلى معرفة المراد ويشوقها إليه. ومرة بأسلوب التهييج، ومثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 4 فحاشى لله أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لا يتقون الله حتى يؤمر بها، أو أن يكون مطيعا للكافرين فينهى عن طاعتهم، ولكنه أسلوب الإلهاب والتهييج الذي يراد به الحث على زيادة التمسك والتصلب والثبات على ما هو عليه، ويكون فضل هذه الطريقة في التعبير على قولنا: استمر في التقوى أو ازدد منها، وازدد تمسكا بعدم طاعة الكافرين والمنافقين، هي أنها تفيد مع ذلك الإلهاب والتهييج، وتثير الشعور والوجدان، فتكون النفس أحسن تلقيا وأكثر تمسكا بما هو كائن؛ ولذلك نجد هذا الفن من فنون القول مستعملا في المعاني الهامة التي هي أصول في هذا الدين5.

_ 1 سورة الليل الآية 4. 2 سورة الليل الآيات 5-10. 3 سورة التحريم الآية 10. 4 سورة الأحزاب الآية 1. 5 من أسرار التعبير القرآني.

6- التأثير الصوتي من خلال الترتيل: يقول الدكتور محمد دراز: أول ما يلاقيك ويسترعي انتباهك من أسلوب القرآن خاصية تأليفه الصوتي في صورته وجوهره، دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله، نازلا بنفسه على هوى القرآن، لا نازلا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ مكانا قصيا، لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها، وسكناتها، ومداتها، وغناتها، واتصالها، وسكتاتها، ثم ألق بسمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جردت تجريدا، وأرسلت ساذجة في الهواء، فستجد نفسك منها بإزاء لحن غريب لا تجده في كلام آخر، ستجد اتساقا وائتلافا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر على أنه ليس بأنغام ولا بأوزان. ثم يقول: وهذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب1. وقد تحدثنا من قبل عن الألفاظ المصورة بجرسها الخاص، حتى أنها لتكاد ترسم صورة للمعنى بنغمها المميز من أمثال: الصاعقة، والصرصر، وغيرها. ثم هو في بناء جمله يعمد إلى لون من التوافق تكاد تكون به متوافقة في الوزن، فلنقرأ قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 2 فنجد ذلك الإيقاع المميز الذي يشيع في هذه الجمل، فيجعلها كأنها مضبوطة بتفاعيل، وأوزان متحدة. وثمة سمة أخرى للتعبير القرآني هي ذلك التشاكل الواقع بين الحروف في أواخر الآي يطلق عليه العلماء الفواصل، وهي تمد التعبير بميزة صوتية أخرى تزيد تأثيره، بجانب وظيفتها المعنوية؛ إذ تساعد على تلاوته مرتلا مجودا، بأنغام آسرة،

_ 1 النبأ العظيم ص101، 102. 2 سورة الليل الآيات 1-4.

ذات إيقاع يتناسب مع الموقف، واتجاه التي تصاحبه؛ ولهذا نرى القرآن الكريم ينتقل من فاصلة إلى أخرى تبعا للموقف، وما يتطلبه من إيقاع يتناسب معه. ولنقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 1 فنراه يستخدم قافية الراء الساكنة التي يوحي إيقاعها بالحزم والجد الذي يستوجبه سياق هذه الأوامر إلى نبيه الكريم بعد انقطاع الوحي عنه. فإذا انتقل إلى غرض آخر تغيرت الفاصلة بأخرى ذات إيقاع مغاير: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} 2 فهو هنا يذكر باليوم الآخر وما فيه من أهوال، فيختار الألفاظ المتسمة بالشدة والقافية الموحية بالرهبة العميقة. ومثل هذا نجده في قصة مريم، فقد التزم في القافية الياء المشددة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 3 إلى آخر القصة، فإذا انتهت وانتقل إلى تقرير مغزى القصة وبيَّن العبرة من ذكرها نقرأ قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4 فتتغير القافية كما ترى، وكأنما هذه

_ 1 سورة المدثر الآيات 1-7. 2 سورة المدثر الآيات 8-10. 3 سورة مريم الآيتان 16، 17. 4 سورة مريم الآيات 34-36.

الآيات الأخيرة تصدر حكما مستمدا منها، ولهجة الحكم تقضي أسلوبا موسيقيا غير أسلوب الاستعراض، وتقضي إيقاعا رصينا قويا بدل إيقاع القصة الرضي المسترسل، وكأنما لهذا السبب كان التغيير1. وهكذا يستخدم القرآن الكريم الخصائص الصوتية كوسيلة للتأثير كما سبق أن بينا، فيختار لكل مقام ما تستوجبه البلاغة في التعبير عنه. 7- إظهار عوامل الطاعة: يعمل أسلوب القرآن الكريم على إبراز عوامل الطاعة في النفس البشرية، ويورد لذلك عديدا من ألوان الترغيب والترهيب2. ويحيط الإنسان بمدى علم الله وقدرته، ويدعو دائما إلى النظر في الآيات الكونية والإنسانية.

_ 1 التصوير الفني في القرآن ص90، 91. 2 سوف نفصل هذا الجانب في الجزء التالي بإذن الله تعالى.

المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع

المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع حين نعيش مع أسلوب الدعوة في عصر الرسالة نلحظ دقة التوافق بين الأسلوب والموضوع. الدعوة إلى العقيدة: إذا كان الموضوع دعوة إلى العقيدة نرى الأسلوب يتجه إلى قدرات الإنسان المختلفة بالإقناع والدليل. فمرة يتجه إلى العقل، فيجادله ليكشف له عن زيف ما هو عليه من عقيدة فاسدة، وأنها متهافتة لا تقوم على أساس ولا يقرها منطق سليم، وليسوق له بعد ذلك الأدلة القاطعة على صحة العقيدة الجديدة، وشهادة المنطق لها، واطمئنانه إليها، وهو في جدله ذاك يسوقه في أسلوب تجتمع له جوانب الإقناع العقلي، والتأثير الوجداني، مما يجعله جديرا بأن يطلق عليه المنطق الوجداني كما سبق. فقد جادل المشركين، وركز في جدله على إثبات عجز هؤلاء الشركاء المزعومين، وعرض ذلك في أساليب متعددة. مرة بالتلطف والاستدراج، وإشراكهم في استنباط النتائج، والوصول إلى الحق، كما فعل إبراهيم عليه السلام في إبطال عبادة الكواكب، وكيف استعرضها إبراهيم عليه السلام واحد واحدا؛ ليثبت عدم أحقيتها للألوهية، حتى إذا انتهى منها جميعا صدع بالحق الذي يريده قائلا: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. ومرة بأسلوب المواجهة الصريحة، التي تقطع كل حجة، وتنهي كل جدل، كما في تلك التجربة العملية التي قام بها إبراهيم؛ ليثبت لقومه أن أصنامهم عاجزة، لا عن النفع والضر فقط، بل عاجزة أيضا عن أن تدفع عن نفسها، وذلك عندما

_ 1 سورة الأنعام الآيات 78، 79.

حطمها وجعلها جذاذا متناثرا تطؤه الأقدام. ومرة بأسلوب التقرير الذي يجبرهم على النطق بالحق الذي لا يدفع: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 1. ومرة بالسخرية منهم وتصويرهم في صورة العاجز عن أتفه الأمور، كما رأينا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2. ومرة بمطالبتهم بالدليل على دعواهم حتى إذا عجزوا كان ذلك قاطعا في بطلانها؛ لأنها لا تعتمد على دليل. ومرة يحثهم على تدبر ما في الكون من دلائل على وحدانية الله، وهو في هذا المجال يعرض عليهم صفحات ناطقة من كتاب الكون الدالة على ألوهية الله ووحدانيته، فليس عليهم إلا أن يعملوا عقولهم ويتدبروا، وستبدو الحقيقة لبصائرهم جلية لا تحتاج إلى دليل. ويتجه القرآن الكريم إلى الوجدان كذلك باعتباره وعاء الشعور الإنساني ومجمع غرائزه ونزعاته وحوافز إرادته؛ حيث نراه:

_ 1 سورة يونس الآيتان 34، 35. 2 سورة الحج الآية 73.

- يثير غريزة حب الذات بالترغيب، فالإنسان مجبول على حب الخير لنفسه والسعي لما يحققه، فيعده بالخير في الدنيا والآخرة، ويعرض عليه صورا وألوانا منه، مستخدما كل وسائل التأثير، من تصوير معجب، وتأكيد قوي، وتشويق يثير الكوامن، فيريه الجنة كأنه يرى مباهجها، ويستروح نسماتها، ويزين له ما يصنعه الإيمان في القلوب من شعور بالمن وشعور بالرضا إلى آخر تلك المعاني التي تلمس الوجدان وتفتح مغاليق القلوب. - يثير غريزة الخوف بالترهيب مما سيترتب على عدم الاستجابة من ويل وبلاء في الدنيا والآخرة أيضا، فيعرض عليه صور العذاب في الآخرة، ويذكره بما أصاب الأمم السابقة في الدنيا عندما تولت عن دعوة الله، في أساليب تجعله يرى مصارع القوم، ويسمع أناتهم، مما يهز القلوب، ويزلزل النفوس لتنقاد وتلين. - يثير غريزة التدين في الإنسان التي تدفعه إلى البحث عن الحق، فيلقنه إياه، في أسلوب أخاذ يحثه فيه على النظر في آيات الله، ويعرض عليه من ذلك ما يمتع الحس والعقل معا. - كما يثير فيه مشاعر الهيبة والإجلال لله، بما يعرضه عليه من صفات جلاله، وعظائم آياته الدالة على قدرته، كما يثير مشاعر الحب لله، ورجاء فضله، والتودد إليه، والتوكل عليه، والثقة في رعايته وحمايته، بما يعرضه من ألوان نعمه، وعميم فضله، وسابغ رحمته، فهو الرحمن، الرحيم، الودود، الغني، الباسط، الجواد، أسبغ نعمه على الناس ظاهرة وباطنة. تلك المعاني التي تمثل رباطا روحيا محكما يشد الإنسان إلى ربه، يكررها القرآن ويؤكدها حتى تستقر في النفوس فترقق العواطف وتلين القلوب وتجذبها نحو الحق جل وعلا. كما يستجيش القرآن شعور الكرامة الإنسانية، فيربأ به أن يذل لمخلوق مثله، وأن يعنو وجهه لما لا يملك لنفسه شيئا، ويزكي فيه شعور الاعتزاز بما فضل به

على سائر خلقه، من اصطفائه للخلافة في الأرض وحمل الأمانة، وتلك المنزلة العالية لا يصح أن يهدرها الإنسان فيسجد لحجر، أو يطلب العون من جماد. هذه الغرائز وتلك المشاعر التي يتجه إليها القرآن ليجد الحق طريقه إلى القلوب من خلالها، يختار في التعامل معها منا يناسبها من الأساليب المؤثرة التي تؤجج أوارها، وتزكي حميتها. الدعوة إلى العبادة: إذا كانت الدعوة إلى العبادة نرى القرآن الكريم يتجه إلى غريزة حب الذات بالترغيب، فيعرض ألوانا مما تحققه العبادات للمسلم في الدنيا، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعند حديثه عن الحج يشير إلى أنه فريضة ليشهد المؤمنون منافع لهم، والزكاة تطهر المال، وتزكي النفوس، وتحقق الخير للمجتمع كله، وتربط بين الغني والفقير برباط الحب والإخاء، ثم يسوق ألوانا من الجزاء في الدنيا بمضاعفة الخير، وتحقيق الجزاء الأوفَى في الآخرة، ويعرض ذلك في صورة آسرة تدفع النفوس دفعا للطاعة. ويتوجه إلى غريزة الخوف بالترهيب، فيوعد المقصرين بكل ألوان العذاب. ويتوجه إلى غريزة الملكية فيقلل من حدتها، كما في تسميته الصدقة قرضا فهي لن تضيع بل تتضاعف، ويؤكد أن ما ينفقه المسلم اليوم سيضاعفه له الله غدا، ويذكر بأن المال الذي في يد الأغنياء إنما هو مال الله جعلهم مستخلفين فيه، فهو يطالبهم بإعطاء الفقراء بعض ما أعطاهم من مال. ويتوجه إلى النفس الإنسانية فيعالج أدواءها من بخل وشح وحب للجاه والاستعلاء والمن والأذى. كل ذلك لاحظه الإسلام في دعوته للعبادات؛ لأن طبيعة الموضوع تقتضيه، وساقه في أساليب زاخرة بألوان من وسائل التأثير. الدعوة إلى المعاملات: إذا كانت الدعوة إلى المعاملات نرى القرآن يتجه إلى الألفاظ فيختار أدقها وأحكمها في الدلالة على المعنى المراد، ويكون استعماله للألفاظ استعمالا

حقيقيا، فإذا أطلق لفظا إطلاقا مجازيا لغرض ما، كان ذلك واضح المأخذ قريبا، شديد الظهور، كما في تسميته المرضعة أُمًّا، والمشاركة للطفل في الرضاعة من الأم أختا. وفي الصياغة القرآنية تقصد الآيات إلى تقرير الحقائق الدينية، والأحكام الشرعية دون مبالغة، أو تجوز، فلا يستعمل الخيال في أصول المعاني المرادة، وإنما يكون التعبير الحقيقي المفصل الواضح، إذا كان المقام يستدعي التفصيل أو المجمل الجامع إذا كان المقام له. ويؤثر غالبا المعاني الوجدانية لبعث الثقة فيها؛ لأنها حكم الله العليم بما يصلح الناس، أو التذكير برقابة الله واطلاعه على الأعمال أو التحذير من مخالفتها، وإثارة شعور التقوى في النفس، أو الترغيب في الطاعة، والوعد بجزيل الأجر، وحسن المثوبة، كما يستخدم وسائل التأثير الأخرى؛ كالتوكيد، وتكرير صفات الله في الفواصل، أو إثارة الشعور الأخلاقي في النفس، وباللمسات الوجدانية التي توحي بها الألفاظ والتعبيرات. وهكذا.. ويتوافق أسلوب القرآن الكريم مع الموضوع الذي يدعو إليه، بدقة بليغة تحقق المقصود من الأسلوب.

المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار

المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار مدخل ... المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار تيقن كفار مكة أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم تختلف عن ما سبقها من أفكار الحنفاء وأمثالهم من ناحية: تحديد موضوعها، وثباتها، وسمو أهدافها ... وكان أكثر ما أثار انتباهم ازدياد قوة المسلمين يوما بعد يوم، وشدة تواصل المؤمنين وترابطهم، وقوة حب المسلمين لله ورسوله، وعظمة اعتزاز المسلمين بدينهم، وتمسكهم بتطبيق تعاليمه بصدق وإخلاص. وصل كفار مكة إلى هذا الفهم، وبدءوا في التحرك لمواجهته، وقد أخذ توجهم يزداد عنفا شيئا فشيئا من أجل الوصول إلى إطفاء نور الحق، والقضاء على الدين الوليد. بدءوا -أولا- بإغراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمال والجاه والسلطان وبكل ما يريد شريطة أن يترك دعوته1، لكنه صلى الله عليه وسلم رد عليهم بتمسكه بدعوة الله، وحذرهم من عاقبة كفرهم، ونفذ معهم أمر الله في قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 2. وحاولوا -ثانيا- مساومة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع شيئا من دينهم وشيئا من دعوته ليلتقي الفريقان في منتصف الطريق، وبذلك لا تضار آلهتهم؛ لأنها ستعبد مع الله تعالى، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 3.

_ 1 انظر صفحة 345. 2 سورة فصلت آية 13. 3 سورة الكافرون.

وطلبوا منه ثالثا أن يُبقي أمره لنفسه، وعلى آل بيته، فأبَى عليهم ذلك، وعرفهم أنه رسول الله تعالى لهم، وللعالم كله. عندئذ أخذوا في صد الناس عنه بنشر الإشاعات الكاذبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بالسحر، والكذب، والسفه، واتهموا القرآن بالاختلاق، والنقل من الأساطير، واتهموا المسلمين بالضعف وعدم التعقل، يحكي الله تعالى حملتهم هذه فيقول سبحانه: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} 1. فلما يئسوا من محاولاتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبوا إلى عمه عددا من المرات. مرة يطلبون منه أن يكف ابن أخيه عن دعوته؛ لأنها -في نظرهم- فرقت جمعهم، وعابت آلهتهم، وأساءت إلى آبائهم. ومرة يحاولون أن يستبدلوا به فتى منهم، للقيام بقتله بعد تملكه، فلما لم يستجب لهم أبو طالب ذهبوا إليه مهددين، فكلم أبو طالب محمدا صلى الله عليه وسلم في الأمر، فرد عليه بأنه مستمر على دعوته، ولن يتركها بحال. يصور ابن إسحاق ذلك فيقول: "ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم اشتد الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال، وتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها فتذامروا فيه، وحض بعضهم بعضا عليه. ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على

_ 1 سورة الفرقان الآيات 5-8.

هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه. فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بتسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، ولا لأحد منهم، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فابقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، والله لو ضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته". ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا"1. وحينئذ تأكدوا من فشلهم في تحريض عمه أبي طالب، وتجريده صلى الله عليه وسلم من الحماية والمساندة، فوضعوا خطه متعددة الأطراف لإرهاب الرسول والمؤمنين، ومنع الناس من الاقتراب من رسول الله، والاستماع لدعوته، ومجمل هذه الخطة يتضح في النقاط التالية: 1- قيام كل قبيلة بتعذيب واضطهاد من أسلم من أبنائهم أو من عبيدهم. - من ذلك أن أبا جهل كان إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة، أنبه وأخزاه وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به2.

_ 1 سيرة النبي ج1 ص265، 266. 2 سيرة النبي ج1 ص320.

- ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشا، فتخشف جلده تخشف الحية1. - وكان أمية بن خلف الجمحي يضع حبلا في عنق مولاه بلال، ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به جبال مكة، وكان أمية يشده شدا ثم يضربه بالعصا، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع، وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى. فيقول بلال وهو في ذلك: أحد، أحد، حتى مر أبو بكر يوما وهو يصنعون ذلك به، فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه2. - وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون -وعلى رأسهم أبو جهل- يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال لهم: "صبرا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة"، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية -أم عمار- في قلبها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر على صدره تارة أخرى، وبالتغريق ثالثة، وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا، أو تقول في اللات والعزى خيرا، فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء باكيا معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3.

_ 1 رحمة للعالمين ص58. 2 سيرة ابن هشام ج1 ص317، 318. 3 سورة النحل آية 106.

- وكان أبو فكيهة -واسمه أفلح- مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل ثم يجرونه على الأرض1. - وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعا من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبا، ويلوون عنقه تلوية عنيفة ويضجعونه مرات عديدة على فهام ملتهبة، ويضعون عليه حجرا، حتى لا يستطيع أن يقوم2. - وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس إماء أسلمن، وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا. - وأسلمت جارية لبني مؤمل -وهم حي من بني عدي- فكان عمر بن الخطاب- وهو يومئذ مشرك- يضربها، وإذا مل قال: إني لم أتركك إلا ملالة3. - وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضا أخر درعا من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة4. - وقائمة التعذيب طويلة شملت أغلب من أسلم في مكة بعد الجهر بالدعوة، يروي ابن كثير بسنده عن ابن جبير أنه قال: قلت لعبد الله بن عباس: "أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله! إنهم كانوا يضربون أحدهم، ويجيعونه، ويبطشون به حتى ما يقدر أن يستوي جالسا" من شدة الضرر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له:اللات والعزى إلهان من دون الله، فيقول: نعم! افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم5.

_ 1 رحمة العالمين ج1 ص57. 2 تلقيح فهوم أهل الأثر ص106. 3 سيرة ابن هشام ج1 ص319. 4 رحمة للعالمين ج1 ص58. 5 البداية والنهاية ج3 ص59.

2- إعداد فريق من شباب الكفر ممن يجيد فن التعامل مع الناس؛ ليمروا على القبائل في مواسمهم؛ ليقولوا في رسول الله ما شاءوا من قول سيئ، ووشاية كاذبة. 3- تكليف جماعة من أبنائهم لملاحقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيت، وشتمه، ووصفه بكل صفة منفرة، وإحاطته بالسخرية، والاستهزاء حتى تسقط مهابته في نظر الناس، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن عروة بن الزبير سأله عن أكثر ما رأى من قريش إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم. فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بهم ثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف، ثم قال: "أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح"، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول فيقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به، يقولون له: أنت تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم.

فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم أنا الذي أقول ذلك". فرأيت رجلا منهم يأخذ بمجمع ردائه صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط1. وقد سبق أن ذكرنا ما كان منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة إسلام حمزة رضي الله عنه2. 4- التعنت في مواجهة رسول الله، وطلبهم أمورا خارقة للعادة، دليلا على صدقه، وهم مع ذلك عازمون على الكفر، مهما جاءهم من الخوارق؛ ولذلك قال الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصرفه عن مواجهتهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ، وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} 3. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} 4. لقد رأى أهل مكة العديد من المعجزات الخارقة للعادة وعلى رأسها القرآن الكريم، ومع ذلك لم يؤمنوا، فلما طلبوا خوارق جديدة لم يستجب الله لهم رحمة بهم؛ لأنه سبحانه وتعالى لو أوجدها لهم، واستمروا على كفرهم لعذبهم عذابا شديدا.

_ 1 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص298، 299. 2 انظر صفحة 481. 3 سورة الأنعام الآيات 109-111. 4 سورة يونس الآيات 96، 97.

يروي ابن كثير أن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، ونؤمن بك. قال صلى الله عليه وسلم: "وتفعلوا؟ ". قالوا: نعم. فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه فأتاه جبريل. فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذابه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة، قال: "بل التوبة والرحمة" 1. وقد واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العدوان بطرق عديدة أهمها:

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص52.

أولا: تقوية إيمان المعذبين

أولا: تقوية إيمان المعذبين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقوية إيمان المعذبين، وعرفهم أن المؤمنين دائما في بلاء، وأنهم بإيمانهم يعملون للآخرة قبل الأولى، يقول ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر، وبأبيه وأمه، وكانوا أهل أول بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما بلغني: "صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة"، فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام1، وكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه" 2. وكان المسلمون يرون في رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل والقدرة، فهو أسبقهم إلى العدو، وأولهم في التضحية، وأفضلهم في الشرف والنيل والطهر؛ ولذلك صدقوا في كل ما عاهدوا الله عليه. ولقد كانت آيات القرآن الكريم تنزل عليهم تؤملهم في النصر وتحدد لهم معالم الطريق

_ 1 السير النبوية ج1 ص319. 2 فيض القدير ج1 ص519.

يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} 1. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصا على تعريف المسلمين بمدى العبء الواجب تحمله، يروي البخاري بسنده أن خباب بن الأرت جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط حديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه" 2. وبهذا التوجيه النبوي للجماعة المؤمنة الأولى ظهرت قوية صامدة محتسبة.. وعليها وعلى أمثالها وجدت الأمة الإسلامية، وتحقق للإسلام والمسلمين الكرامة والحرية.

_ 1 سورة الصافات الآيات 171-177. 2 الرحيق المختوم ص117.

ثانيا: تحرير الأرقاء

ثانيا: تحرير الأرقاء: كان أغلب من يعذب هم الأرقاء الذين أسلموا عند سادتهم؛ ولذا هدى الله أبا بكر رضي الله عنه إلى تحرير من استطاع تحريره، وبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله. من ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه مر على بلال رضي الله عنه وهو يعذب، فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال له: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى. فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه، وأقوى، على دينك، أعطيكه به

فقال أبو بكر: هو لك، فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه، ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب، بلال سابعهم، وهم: عامر بن فهيرة -شهد بدرا" وأحدا" وقتل يوم بئر معونة شهيدا- وأم عبيس، وزنيرة، وقد أصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها، وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدا. فقال أبو بكر رضي الله عنه: حل يا أم فلان. فقالت: حل، أنت أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها. قالتا: أونفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها. قال: وذلك إن شئتما. ومر بجارية من بني مؤمل "حي من بني عدي بن كعب" وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يعذبها لتترك الإسلام، وهو يؤمئذ مشرك، وكان يضربها، حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر فأعتقها1. وقد عاتب أبو قحافة والد أبي بكر ولده فيما فعله؛ لأنه رأى أن أبا بكر ينفق ماله في تحرير الضعفاء الذين لا ينفعونه، ولا يدفعون ضرا عنه "كما يتصور".. وهنا قال له أبو بكر: يا أبتِ، إني لم أفعل ذلك إلا الله.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص52.

فنزل فيه قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 1.

_ 1 سورة الليل الآيات 5-7، 19-21.

ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة

ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة شقت الدعوة مسيرتها الصعبة بين كفار مكة، وأخذ الأذى يلاحق كل من أسلم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنين من الجهر بالدعوة أن الكفار ماضون في عنفهم وعنتهم، وصدهم الناس عن سبيل الله.. ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، لما فيها من موطن آمن، ووجود ملك لا يظلم أحدا.. روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أصحابه إلى النجاشي، وكانوا نحو ثمانين رجلا وامرأة، وذلك في رجب سنة خمس من النبوة. تقول أم مسلمة: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا النجاشي خير جار، وأمنا على ديننا كما وعدنا الله، لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، وأقمنا في خير دار مع خير جار. وعاش المهاجرون بالحبشة مدة سمعوا خلالها أن صلحا أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل مكة فجاءوا إلى مكة عائدين فلما اكتشفوا أن شيئا لم يحدث عادوا مرة ثانية إلى الحبشة، وظل المهاجرون في الحبشة إلى أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقدموا إليها بعد فتح خيبر. هذه الكوكبة السابقة إلى الهجرة كان لها فضل السبق في إيصال الإسلام إلى خارج الجزيرة، والدعوة إليه بعملهم وسلوكهم.. وبهذا السبق تميزوا عن المهاجرين إلى المدينة.. يروي البخاري بسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بلغنا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه.

أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة، والثاني أبو رهم في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت حفصة: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟! البحيرية هذه؟! قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار، أو في أرض البعداء، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأسأله والله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا. قال صلى الله عليه وسلم: "فما قلت له؟ ". قالت: قلت له كذا وكذا. قال صلى الله عليه وسلم: "ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان". قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالا يسألون عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وأنه ليستعيد هذا الحديث مني1.

_ 1 فتح الباري ج9 ص24-27.

وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا بالغا بعودة مهاجري الحبشة بعد هذه الفترة الطويلة وأمر الإسلام يعلو، وسلطانه يمتد شمال شبه الجزيرة وجنوبها، وعندما نزلوا بالمدينة قام الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم يرحب بعودتهم، ويعلن فرحه بهم، وذلك فيما يرويه الحاكم بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري بأيهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟! " 1. إن الهجرة إلى الحبشة كانت مؤقتة، يلجأ إليها المسلمون، يكتشفون بها معالم الناس، ويتعرفون على مذاهب وعادات الأقوام؛ ولذلك عاد المهاجرون إلى المدينة موطن الإسلام ومستقره، وقاعدة انطلاقه إلى العالم كله.

_ 1 المستدرك ج2 ص624.

رابعا: انتهاء المقاطعة

رابعا: انتهاء المقاطعة لم تقف المواجهة بين كفار مكة وبين المسلمين عند الهجرة إلى الحبشة، بل أخذت تزداد عنفا وشدة؛ لأن كفار مكة فشلوا في رد المهاجرين إليهم، واعتقالهم بعدما كانوا يتصورونه أمرا سهلا. وحينئذ رأى كفار مكة ضرورة القيام بعمل حاسم للقضاء على محمد ودعوته، فلما تصدى لهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وتحصنوا بشعبهم، اتفقوا على مقاطعة بني هاشم وبني المطلب، بصورة تامة، لا يجالسونهم، ولا يبيعونهم، ولا يشترون منهم، ولا يزوجونهم، ولا يتزوجون منهم، واستمرت المقاطعة ثلاث سنوات حتى اشتد الأمر ببني هاشم، وبني المطلب، حتى أكلوا ورق الشجر، وكان يسمع للأطفال بكاء من شدة الجوع. واستمر الأمر على ذلك حتى أذن الله له بالانتهاء، يروي ابن كثير ذلك بقوله: "وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني المطلب وبني هاشم وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم،

وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله، فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعل ذلك حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا. فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة، وعهودا، ومواثيق، لا يقبلون من بني هاشم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل، فلبث بنو هاشم وبنو المطلب في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، ولم يتركوا طعاما يقدم مكة، ولم يجدوا بيعا إلا بادروهم إليه، فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول صلى الله عليه وسلم فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد مكرا واغتيالا له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه، أو أخوته، أو بني عمه؛ ليضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه. فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف، ومن قصي، ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم، واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغد، والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق. ويقال: إنها كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من ظلم، وشرك، وقطيعة رحم. وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب. فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابته من بني المطلب حتى

أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوه عامدا لجماعتهم أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فائتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعا إليهم فوضعوها بينهم، وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا، وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد، جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم. فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، وإن ابن أخي أخبرني -ولم يكذبني- أن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم، وقطيعتكم إيانا، وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا، فو الله لا نسلمه أبدا، حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم. قالوا: قد رضينا بالذي تقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا: والله إن هذا سحر من صاحبكم فارتكسوا، وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم، والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه"1. ثم إنه قام في نقض الصحيفة نفر من قريش، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء وهشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هشام بنت عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه فكان فيما بلغني يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه في رأسه ثم ضرب على جنبيه فدخل الشعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره برا فيفعل به مثل ذلك.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص84، 85، وتذكر رواية أخرى: أن الأرضة أكلت كل ما في الصحيفة ما عدا اسم الله تعالى.

ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت، لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه ما أجابك إليه أبدا. فقال: ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد؟! والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها. قال: قد وجدت رجلا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال له زهير: ابغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه، أما والله لئن تخلصتم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا. قال: ابغنا ثالثا. قال: قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن بني أمية. قال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البحتري بن هشام فقال نحو ما قال لمطعم بن عدي فقال: وهل تجد أحدا يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك. قال: ابغنا خامسا.

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى القوم، فاتعدوا عنه الحجون ليلا بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها. وقام زهير بن أبي أمية فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس، فقال: يأهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. قال أبو جهل: هذا أمر قد قضي بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا "باسمك اللهم"1. وهكذا انتهت هذه الفترة القاسية التي مر بها المسلمون في مكة، وجاء الفرج من عند الله تعالى، وانتهت هذه المقاطعة الظالمة. وشاءت إرادة الله تعالى بوفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة رضي الله عنها في عام واحد، عرف بعام الحزن، فكان أن سرى الله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برحلة الإسراء والمعراج، وبذلك تجلت معالم الدعوة العالمية في لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخوانه الرسل وبما أوحي إليه.

_ 1 البداية والنهاية ج3 ص96.

المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة

المبحث العاشر: استمرار الحركة بالدعوة في خلال مرحلة الاضطهاد والمواجهة كان الرسول يتحرك بالدعوة في اتجاهات متعددة، باذلا ما أمكنه من جهد وفكر وتوجيه. فقد عرض الإسلام على القبائل، وعلى جميع الوافدين إلى مكة في مواسم الحج والتجارة، وواجه كفار مكة بدعوتهم إلى الله، وتلاوة القرآن الكريم عليهم، وأبدى لهم ما بدعوته من صدق وحق.. وبين لهم أن ما منعهم من الإسلام إلا الجحود والتعصب، يدل على ذلك أقوال وأفعال نطق بها الكفار. يقول أبو جهل: يا محمد، إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} 1. وغمزه الكفار يوما ثلاث مرات، فقال لهم في الثالثة: "يا معشر قريش، جئتكم بالذبح"، فأخذتهم تلك الكلمة، حتى أن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده، ولما ألقوا عليه سلا جذور وهو ساجد دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون. ودعا على عتيبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه، حتى أنه حتى رأى الأسد قال: قتلني والله محمد وهو بمكة. وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل، فقال: "بل أنا أقتلك إن شاء الله"، فلما طعن أبيا في عنقه يوم أحد -وكان خدش غير كبير- قال: إن محمدا قال: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني. وقال سعد بن معاذ -وهو بمكة- لأمية بن خلف: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنهم -أي المسلمين- قاتلوك"، ففزع فزعا شديدا، وعهد ألا يخرج عن

_ 1 سورة الأنعام الآية 33.

مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار فقالت له امرأته: يا أبا صفوان، أنسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا. وكان صلى الله عليه وسلم يعيش مع المسلمين يمدهم بالوحي، ويعلمهم الإسلام، ويملأ قلوبهم باليقين، ويعمل على سلامتهم، وتحقيق الخير لهم بكل ما أمكنه. من ذلك لما اكتشف المشركون بعض الصحابة في شعاب مكة، وهم يصلون مستخفين ناكروهم واصطدموا معهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالاجتماع في دار الأرقم؛ لكي يعبدوا الله بعيدا عن أنظار قريش، ويتعلموا ما ينزل من القرآن الكريم1. وحين أسلم بعض الغرباء؛ كعمرو بن عبسة، وأبي ذر الغفاري، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى قومهم؛ لينشروا الإسلام في قبائلهم من ناحية، وليحافظوا على أنفسهم من كفار قريش الذين يفتنون الضعيف، والغريب الذي لا ناصر له2. حرص صلى الله عليه وسلم على متابعة شئون أصحابه بتقوية هممهم وتثبيتهم عند حلول الشدائد والمحن بهم، فكان يزور الذين يعذبون منهم في أماكن تعذبيهم، فيواسيهم بالصبر والثبات، ويبشرهم بالجنة، كما في قوله لآل ياسر وهم يعذبون: "صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" 3، وهو صلى الله عليه وسلم هو الذي وجه أبا بكر الصديق لشراء العبيد وإعتاقهم حسبة لله تعالى. وكان عليه الصلاة والسلام يقوم بزيارة منتظمة لأبي بكر رضي الله عنه كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: "لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا".

_ 1 سيرة ابن هشام ج1 ص275. 2 صحيح البخاري - كتاب المناقب الأنصار - باب إسلام أبي ذر ج4 ص241. 3 أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ج3 ص388.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الواقع في حركته للدعوة وهو في مكة، وجعل حركته محاطة بالسرية ليحقق ما يريد؛ ولذلك لم يوجه دعوته لعمر بن الخطاب لشدته ولم يطلب من عمه حمزة الإيمان لقوته، وإنما تركهما وأمثالهما ليتأثرا بأسلوب مناسب لهما، رغم أن الخير للدعوة كان في إيمان عمر وحمزة رضي الله عنهما. لقد كان صلى الله عليه وسلم يدور على الناس في منازلهم ومساكنهم، ويستفيد بالمواسم والأعياد، ويقابل المفكرين والشعراء ليقنعهم بدين الله تعالى. وكان صلى الله عليه وسلم يحتاط لدعوته ولنفسه وهو يتحرك بالإسلام، فلقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف راجلا ليلا مع مولاه زيد، حتى لا يعلم أحد من قريش بوجهته، فيعملون على معاكسته1. وعندما كان يتصل بالقبائل في مواسم الحج لطلب النصرة، كان كثيرا ما يخرج في ظلام الليل2، ولا يعلن ذلك لأحد. وعندما التقى عليه الصلاة والسلام بوفد الأنصار في السنة الثالثة عشرة من البعثة لمبايعته على الحماية والنصرة، اتخذ سلسلة من التدابير الأمنية حتى لا يعلم به أحد من أهل مكة. فكان أول إجراء أمني اتخذه هو ضبط الموعد مكانا وزمانا بدقة متناهية، فكان المكان: "شعب العقبة الأيمن". والزمان: أوسط أيام التشريق؛ حيث يكون الناس في زحمة الانشغال بتهيئة أنفسهم للعودة إلى ديارهم وأولادهم. والوقت: نهاية الثلث الأول من الليل؛ حيث يستسلم الناس للنوم3. وثاني إجراء: هو الكتمان الصارم للأمر، وخروج المجتمعين مثنى وأفرادا

_ 1 الرحيق المختوم ص148. 2 تاريخ إسلام ج1 ص129. 3 سيرة ابن هشام ج2 ص49.

مستخفين، دون انتصار غائب، أو إيقاظ نائم1. وثالث إجراء: حضوره بعد اكتمال العدد ومعه عمه العباس، ووضعه عليه الصلاة والسلام حراسة قوية وأمينة في مداخل الشعب2؛ حيث كلف أبا بكر بالوقوف على فم الطريق، وكلف عليا بالوقوف على فم الشعب. ورابع إجراء: هو طلبه عليه الصلاة والسلام من كل متكلم أن يوجز في كلامه3، وأن يخفض صوته، حتى لا يطول اللقاء ولا يشعر به أحد. وبعد ذلك قام صلى الله عليه وسلم باختيار اثني عشر نقيبا -تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس- لتحمل المسئولية وقال لهم: أنتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي.. قالوا: نعم. وبهذا الاختيار بدأت ملامح القيادة الجديدة في المدينة المنورة وبدأت أنظار المسلمين تتجه نحوها ليعيشوا عصر التمكين والقوة، وليؤدوا واجبهم مع دين الله تعالى. ولسوف نرى في تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة مدى الحرص الذي بذله صلى الله عليه وسلم ليصل إلى الغاية، وبالهجرة تبدأ مرحلة جديدة في مسار الدعوة إلى الله تعالى. وسوف نوضح ذلك في الجزء التالي بعون الله تعالى..

_ 1 الطبقات ج1 ص221. 2 منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حماية الدعوة ص417. 3 السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص202.

المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية

المبحث الحادي عشر: المسلمون في نهاية المرحلة المكية اتسع نطاق الإسلام، وكثر عدد الداخلين فيه، ووصل خبره إلى قبائل العرب جميعًا، وانتقل المسلمون بالإسلام إلى خارج الجزيرة العربية. وأصبح عدد المسلمين كثيرًا، فلقد هاجر منهم إلى الحبشة ما يقرب من مائة، وهاجر منهم إلى المدينة ما يقرب من خمسمائة صحابي وصحابية، بالإضافة إلى عدد غير قليل آمن سرًّا في مكة، وفي غيرها، وهم المؤمنون والمؤمنات المشار إليهم بقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} . لقد أدى هذا الانتشار الواسع للإسلام إلى ضرورة الهجرة من مكة؛ لأن كفار مكة أخذوا يبذلون جهدهم لصد الناس عن الإسلام بوسائل عديدة، ولم يعد مقبولًا أن يبقى المسلمون مستسلمين للطغاة وحقهم واضح، في الوقت الذي أخذ الناس فيه ينظرون إلى ما بين المسلمين وأهل مكة؛ ليبنوا عليه موقفًا، ويتخذوا قرارهم في الإيمان. الأمر الذي دعا إلى ضرورة وجود دولة للإسلام ترفع رايته، وتحمي أتباعه، وهو الذي أراده الله تعالى، وحققه بالهجرة إلى المدينة المنورة.

الفصل الرابع: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المكية

الفصل الرابع: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المكية تمهيد: لقد امتدت المرحلة المكية حتى الهجرة إلى المدينة المنورة، ووقعت خلالها أحداث عظام، تقدم أضواء عالية في حركة الدعوة إلى الله تعالى، تظهر العبر والدروس، وتكشف الطبائع والنفوس، وتبين ما في كل موقف من ركيزة ومبدأ مدروس، وتعود أهمية معرفة هذه المرحلة للدعوة إلى أنها تعيش مع المسلمين في مرحلة قلتهم وضعفهم، وتصور كيف عاش المسلمون بالإسلام صادقين مما أدى إلى انتقالهم من الضعف إلى القوة، ومن الهوان إلى العزة والانتصار، وهي أمور يحتاجها المسلمون المعاصرون. كما أن أحوال الدعوة، ومدى ارتباط المسلمين بالإسلام، يحتاج إلى مراجعة ضرورية لقياس الأحوال على عصر التأسيس الأول؛ ليُعرف الداء، ويظهر الدواء. وفي المرحلة المكية حدد النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بجلاء، ودعا إليه بوضوح، وتلقاه الصحابة منه نقيا صافيا، وعاشوا به، وعملوا له، وتحركوا من أجله؛ لأنهم تحملوه أمانة ومسئولية وحاجة شخصية. إن المسلمين في كل زمان ومكان عليهم أن يرتبطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقوالهم، وأعمالهم، وأحوالهم، وكافة شئونهم، وهذا يحتم عليهم ضرورة العودة إلى السيرة النبوية وأحداثها، فهي الصورة العملية التطبيقية لتعاليم الله تعالى، وهي القرآن متحركا في السلوك والطاعة. إن السيرة النبوية هي الوحي المنزل في صورة تطبيقية؛ ولذا كانت مدارستها تصويرا حيا للإسلام، وكان فهمها هو البداية الصحيحة للعمل بالإسلام. والمسلم الصادق يدرك تماما أن السيرة النبوية ثقافة روحية، وفهم للدين، وإحاطة بالإسلام ناصعا جميلا. لهذا ولغيره عقدت هذا الفصل لأطوف مع السيرة، وأتأمل في حركة الدعوة خلال المرحلة المكية لأبرز أهم الركائز المستفادة منها، وذلك فيما يلي:

الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين

الركيزة الأولى: المعرفة الشاملة للمدعوين من أساسيات النجاح في تبليغ الدعوة على وجهها الصحيح معرفة المدعوين والإحاطة بالواقع النفسي والفكري والاجتماعي لهم؛ لأن ذلك ييسر عملية الدعوة، ويمكِّن القائمين على شئونها من وضع الخطط الملائمة للمدعوين، ومراعاة ما هم عليه من فكر ودين واتجاه. إن المعرفة بالمدعوين تمكن الدعاة من مخاطبة القوم بلغتهم، والدخول إلى عقولهم من الجوانب المؤثرة التي تدفعهم إلى النظر والتفكير. إن كل جماعة لها خصائصها النفسية، واتجاهاتها العقلية، ونشاطها العملي، وفي هذه الجوانب توجد مفاتيح الولوج لشخصية الجماعة، ولذاتية الفرد وسط الجماعة. والمقصود بالجماعة الطائفة من الناس التي تكون مجتمعا متماسكا مترابطا بواسطة انتماءات خاصة؛ كالوطن أو الدين أو التحزب، مما يؤلف بين أفرادها جماعة يشملهم تماسك نفسي، وولاء وجداني. إن أي جماعة تعيش مدة ما في إطار انتماء معين، تكتسب صفات خاصة، واتجاهات جديدة، وتعيش بشعور واحد، وآمال واحدة. إن الفرد يكتسب من الجماعة بفعل العدد شعورا بقدرة لا تقهر، بينما الفرد وحده يردع غرائزه ويخضعها لعقله، لشعوره بالمسئولية. إن الفرد وسط الجماعة يذعن لغرائزه طوعا؛ نظرا لزوال الشعور بالمسئولية ما دامت الجماعة غفلا، وغير مسئولة. إن الفرد في الجماع تسري إليه بالعدوى المشاعر الجماعية، بطريقة لم يتوصل إلى تفسيرها، وإن كانت موجودة، وتسهل ملاحظتها، وانتقال شعور الجماعة إلى الفرد بالعدوى يُسَهِّل للفرد أن يضحي بمصالحه الشخصية في سبيل الجماعة العامة،

وهذا استعداد مخالف لطبيعة الفرد، لا يقدر عليه الإنسان إلا إذا كان جزءا من جماعة. لهذا كان فهم المدعو من أسياسات تكوين الدعاة؛ ليتخيروا المنهج الذي يتبعونه حين الدعوة؛ لأن أملهم النجاح، وتحقيق ما يرجون من غايات. ولعل الحادثة التالية أوضح دلالة على ما نحن بصدده من تأثير الجماعة، فصاحبها اتخذ موقفا من الدعوة، وكادت تصل إلى أعماقه، ويستسلم لها عندما احتكم إلى طبيعته الخاصة، لكنه لحظه العاثر قدر له أن يضع نفسه مرة أخرى في غمار الجماعة، ويقع تحت تأثيرها، ذلكم هو الوليد بن المغيرة؛ فقد روت كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في المسجد يصلي، والوليد قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه، أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: "والله لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه"، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها، فأوفدوا إليه أبا جهل يحتال لصرفه عن الإسلام إن كان قد نوى الدخول فيه، وما زال به حتى قام معه إلى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم مجنون، فهل رأيتموه يحنق قط؟ تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن؟ تزعمون أنه شاعر وما فيكم أعلم بالشعر مني، فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط؟ تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذبا؟ يسألهم ويجيبونه: كلا، في كل سؤال، حتى أعياهم أن يردوا كلامه، فقال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. فقال: دعني حتى أتفكر. ثم قال: ما هو إلا سحر يؤثر، أَمَا رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فهو ساحر، وهذا هو السحر المبين.

ومن هنا كان لا بد من تثبيت الإيمان في القلوب، ومنحه القدرة على مغالبة هذه الموانع النفسية، ولا نكتفي بجعله إيمانا عقليا باردا، لا بد أن يتحول اليقين إلى إيمان وجداني، حاكم على القلب، راجح على ما يخالفه من رغب ورهب وأمل وألم، ولن يتهيأ ذلك إلا بأن نتوجه إلى كل منافذ التأثير في الإنسان، وهو وحده، أو وهو في جماعة، لنصل من خلالها إلى ما نريده من جعل الدعوة في قرار مكين، وأن نغير بها النفوس قبل أن نغير بها السلوك. يقول الدكتور/ محمد رجب البيومي: إذا كان القرآن الكريم قد أوتي الإقناع المنطقي الملزم، فإنه لا يتجه بحديثه إلى الفكر وحده، فيلزمه الحجة، مكتفيا به عن سواه؛ إذ إن فاطر السماوات والأرض يعلم أن المعرفة العلمية وحدها لا تكفي في الجذب والتأثير، فلا بد معها من غزو مناطق الشعور، وبعث كوامن العواطف، حتى يتهيأ السامع إذا سمع، والقارئ إذا تلا، إلى انجذاب نفسي يدفعه إلى أشرف المبادئ وأحكم المثل. ولو كانت المعرفة وحدها كافية للهداية لكانت كتب العلوم الأرضية المخلصة دليل المهتدي، إذا قرئت ودرست، ولكنك تشاهد الناس يقرءونها مقتنعين، ثم يحيدون عن أكثر ما تهدي إليه؛ إذ إن العلم شيء والسلوك الإنساني شيء آخر؛ لذلك اتجه القرآن إلى التأثير الوجداني بعد الحجة والبرهان؛ ليغزو مناطق الشعور الإنساني بتصويره، كما غزا مناطق التفكير العقلي بحججه، فجاء التصوير البياني في القرآن الكريم آية الآيات في الروعة والإعجاز1. والإنسان سواء أكان منفردا أم في جماعة يجمع في طبيعته من الملكات المتعددة ما يجعل إهمال بعضها إهدارا لجانب من الطبيعة الإنسانية، خلقه الله تعالى ليقوم بدوره، ويؤدي وظيفته.

_ 1 البيان القرآني ص78.

وحين اتجه علماء الكلام إلى العقل وحده، ماذا كانت الثمرة التي جناها الإسلام من وراء جهودهم الخارقة التي ظلت قرونا وقرونا تبدئ وتعيد، في حجج عقلية باردة، لا تثير وجدانا، ولا تدفع إلى عمل؟!! إن علينا أن نلتقي بالإنسان في قواه المختلفة، وأن نتعامل معها جميعا، نتعامل مع العقل بما له من قوة الإدراك والتمييز، ونتعامل مع الوجدان باعتباره وعاء الأحاسيس والمشاعر، التي تنشأ عن التأثير بما يسر ويؤلم، ونتعامل مع الإرادة باعتبار ما تتخذه من قرارات هي النتيجة النهائية لاستجابتها أو رفضها للدعوة، ذلك أن الصفات النفسية للإنسان مرتبط بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض، والإيمان هو حالة نفسية، مرتبط بالجوانب النفسية كلها، يتأثر بها ويؤثر فيها. يقول الدكتور/ محمود حب الله: فالعقائد الدينية لا تعتمد على جانب واحد من جوانب الحياة النفسية للإنسان -الوجدانية والإرادية والعقلية- ولكنها تتصل بها كلها اتصالا وثيقا، ولا ترضى نفس المرء ولا تكتمل شخصيته إلا إذا تضامنت شخصيته ونواحيه النفسية كلها، وعملت معا على تقبل كل عقيدة من عقائده، فلا يوجد شيء من التضارب بين قواه المتعددة، حول عقيدة من العقائد، بل انسجام ووئام، فيوجد قبول عقلي، واطمئنان قلبي، والتقاء مع الإرادة، وذلك هو كمال الشخصية وكمال العقيدة1. ثم يقول: وما دامت العقائد الدينية متصلة بكل من العقل والوجدان والإرادة احتاجت في وسائل نشرها إلى الاعتماد على كل هذه القوى2. وما دام هذا شأن من توجه له الدعوة وطبيعته، فلا بد لنا -كي نصل إلى التأثير فيه- أن نلاحظ طبيعته بكل جوانبها؛ لأن الفرد في جماعة يواجه واقعا يحدث

_ 1 الحياة الوجدانية والعقيدة الدينية ص268، 269. 2 المرجع السابق ص274.

في طبيعته بعض التعديل عنه وهو وحده؛ حيث ينشط جانبه الوجداني، بسبب تفاعل مع الجماعة، واستهوائها له، وسيطرة روحها العامة على ملكاته الخاصة. وقد سبق أن رأينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى العالم كله؛ ولذلك عرفه الله بطبائع الناس، وواقع المجتمعات المختلفة عن طريق القصص القرآني الذي نزل أغلبه في مكة قبل الهجرة. وقد احتوى القصص القرآني على نماذج من المجتمعات البشرية، ووضح خصائصهم، وحدد أساليب مخاطباتهم؛ حيث نراه يصور الملأ والضعفاء، ويجلي حقيقة المنافقين والمشركين، ويبين دور السفهاء والمترفين بين الناس ... إلخ. وبذلك قدم القصص القرآني تحليلا صحيحا للنفوس والعقول للناس أجمعين. إن الهيكل العام للقصة القرآنية يأخذ صورة واحدة، فهو قائم على دعوة الله يقدمها الرسول إلى قومه، إلى من أرسل إليهم، فيقف المدعوون موقف المعارضة والإنكار، فيأخذ الرسول في محاورتهم، والرد عليهم، ويناقشهم في شبههم ومعارضاتهم، ويبين لهم الصدق بأدلته، ويحدد لهم بطلان ما هم عليه ببراهينه، ويطوف بهم خلال الحوار مع طبيعة النفوس، واتجاهات العقول، وميول الوجدان. إن القصص القرآني يبرز ملامح أشخاصه ومنهجهم في الجدل والحوار، وموقفهم من الحق، وبذلك يقدم للدعوة والدعاة صورة حقيقية للمدعوين. وينتهي القصص القرآني دائما ببيان عاقبة المؤمنين، ومصائر الضالين المكذبين. والواضح من هذا ما رأينا في تنشئة النبي صلى الله عليه وسلم فلقد عاشر الرعاة، وعاش مع فئة العمال والأجراء، وتعامل مع التجار وسادة الناس، وكان له مع الملأ مواقف وتصرفات، وانتقل إلى عديد من الأماكن؛ حيث سافر إلى المدينة، وإلى بلاد الشام، وتربَّى في بادية بني سعد.

ويكفي حياته المكية؛ لأن مكة في ذلك الزمان كانت تحتوي على كافة أنماط المجتمع البشري؛ حيث جعلها الله بوتقة تضم كل ألوان وأطياف البشر؛ لتكون معمل الخبرة والتجربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللدعوة إلى الله تعالى. إن معرفة المدعوين، والوقوف على المثيرات الوجدانية والعقلية، ضرورة للدعوة، وحتى لا يحدث انفصال بين الداعية والناس. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث كل قوم بلغتهم، وفي كل أمر يهمهم، وحين يقدم لهم الآيات الدالة على صدق الدعوة اختار الأدلة المناسبة، فإن كانوا من أهل الزرع خاطبهم في الأشجار والنبات والثمار، وإن كانوا من أهل البحر خاطبهم بالماء والسفن واللؤلؤ والمرجان ... وهكذا. إن خطاب العالم يختلف عن خطاب العامي بالضرورة، كما أن الحديث مع الكبير ليس كالحديث مع الصغير، والقضايا التي تحرك الرجل ليس هي التي تحرك المرأة. والإنسان كما يتاثر بالجماعة يتأثر بالبيئة والثقافة والتوجه العام للمجتمع، فالإنسان الشرقي يختلف عن الإنسان الغربي، والعربي غير العجمي، ومن ثقافته علمية ليس كمن ثقافته فنية أدبية.. والإنسان في مجتمع مستقر يفكر بطريقة تغاير الإنسان في مجتمع مضطرب قلق. وهذه نماذج لمدى تنوع الناس، وتعدد بؤر التأثير فيهم، مما يؤكد ضرورة تفاعل الدعاة مع المخاطبين، ومخاطبتهم بما يناسبهم1. وفي العصر الحديث رأينا مدى تأثير الدعاة في أقوام يتفاعلون معهم، وما كان ذلك إلا بسبب معرفة الدعاة الشاملة بواقع المدعوين وطبائعهم.. الأمر الذي مكنهم من مخاطبتهم الحسنى، ومناقشتهم بالدليل المقنع، والبرهان السديد.

_ 1 لقد عاصرت مجموعة من الدعاة أرسلهم الأزهر الشريف -مشكورا- للدعوة في بعض البلدان الإفريقية، لكنهم لعدم معرفة لغة وأحوال الناس ظلوا مدة طويلة يعلمونهم مبادئ اللغة العربية، ولم يتمكنوا من تبليغهم دين الله تعالى.

الركيزة الثانية: دور الداعية

الركيزة الثانية: دور الداعية مدخل ... الركيزة الثانية: دور الداعية بين الله والناس إيصال الإسلام للناس فن لا يقدر عليه الجميع؛ ولذا كان من الضروري إيجاد داعية يملك القدرة على أداء هذه المسئولية. إن الدعوة تحتاج إلى داعية متصف بصفات عديدة تجعله قادرا على القيام بواجب الدعوة على الوجه الذي يرضي الله ورسوله. وأول هذه الصفات عراقة الأصل، وشرف المنزلة؛ لأن الناس تعودوا الخضوع لعلية القوم، والاستماع لأصحاب المنزلة فيهم. وقد علم النظام القبلي أهل مكة أن يكون لكل قبيلة شيخ، ولكل فخذ رئيس يأمر فيطاع، ويحتاج فيعطى؛ ولذلك وجب أن يكون الداعية بين الناس متميزا فيهم بكرم الخلق، وعلو المنزلة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من خير العرب نفسا، ومن خيرهم نسبا، فهو خيار من خيار. ومن أهم ما يجب أن يتحلى به الدعاة أن ينشئوا نشأة عملية، يعايشون فيها الناس على اختلاف مواطنهم ومذاهبهم وثقافاتهم، كما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمعايشة: بني سعد، والرعاة، والتجار، واليهود، والنصارى، وأهل مكة، الأمر الذي مكنه بعد ذلك من التعامل الجيد مع الناس جميعا. ومما يجب أن يتحلى به الدعاة مكارم الأخلاق؛ لأن ذلك أدعى للثقة، وأقوى في التصديق. وهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتهر بين قومه بالصدق والأمانة، وكان الغرباء عن مكة يسألون عن خلق رسول الله، فإذا علموا تميزه بالخلق الكريم أقبلوا عليه. والداعية وارث النبي صلى الله عليه وسلم في مهمته الإرشادية، والقائم مقامه في إبلاغ دين الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد المسلمين إلى ذلك، فقال لأصحابه: "ألا ليبلغ

الشاهد منكم الغائب"1، وقال: "تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم" 2. وحتى يتمكن المسلمون من القيام بهذه المهمة قضى الإسلام يتخصيص فئة معينة للقيام بها، فما صح ولا يصح أن تقوم الأمة كلها على تخصص واحد، وتهمل سواه، وقد بين الله تعالى أن على الناس ألا يتجمعوا كافة على غرض واحد، ولو كان هو الجهاد، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} 3. يقول علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة، هي السرايا، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل الله بعدهم قرآنا تعلمه القاعدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك معنى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} أي: يتعلم القاعدون ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرونه4، ويمثل ذلك فسر مجاهد وقتادة الآية. وهذا التفسير ينهى عن التجمع الكامل للنفير، ويحث على بقاء جماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم لمتابعة تعاليم الدعوة، وذلك هام في حد ذاته؛ لأن التفقه للدعوة أمر ضروري، وهذا الوجه في تفسير الآية مقبول5؛ لأن النبي مصدر العلم، والقعود معه يحقق التفقه والتعليم، من غير سفر أو رحيل.

_ 1 صحيح البخاري ج1 ص37 - كتاب العلم- باب ليبلغ الشاهد منكم الغائب. 2 الفتح الرباني ج1 ص264 - كتاب العلم - باب فضل تبليغ الحديث. 3 سورة التوبة الآية 122. 4 تفسير ابن كثير ج3 ص87. 5 وهناك توجيهات أخرى للآية، وهي أن تخرج طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الجهاد قصد النفقة؛ ليعلموا غيرهم بعد الرجوع إليهم في المدينة، أو تعليم المجاهدين إذا التقوا بهم بعد المعركة.

وإن طلب جماعة لعلوم الدعوة فرض كفاية كالجهاد تماما؛ لأنهما معا يؤديان إلى حفظ الدين واضحا من غير تحريف، وإلى حمايته قويا بلا اعتداء، بل إن الدفاع عن الدين بالكلمة أحيانا يكون أجدى من الجلاد عنه بالسيف. هذا وقد أخذ الشاطبي1 من قوله: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} أن الدعاة المنذرين قائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال له: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} فالإنذار في الآيتين عمل مشترك يقوم به النبي وأتباعه من بعده على وتيرته. ولئن كانت مهمة النبي في زمنه صلى الله عليه وسلم صعبة، فإن مهمة الدعاة اليوم كذلك؛ لأن الهدف واحد وهو مخاطبة القلوب بالحكمة، ومجادلة المخالفين بالحسنى، وما أكثرهم اليوم ككثرتهم أيام النبي صلى الله عليه وسلم. ولئن كان الوحي ينزل بالدين على رسول الله جزءا جزءا، فإن ما نزل منجما قد جمع وحفظ كله ليبقى بجملته مع الدعاة زادا لهم، وأملا لدعوتهم في النصر والبقاء. ولئن عز الأشخاص المميزون فواجب على الأمة المسلمة أن تتخير وتعلم وتدرب، وكما تبذل جهودا لتخريج الأطباء والمهندسين والضباط، فعليها أن تبذل الكثير لإيجاد الداعية الكفء الذي يفيد الدين والناس جميعا. والدعاة اليوم هم المبشرون المنذرون، الحاملون صوت النبوة، المكلفون بالوصول بها إلى كل مكان في الوجود.. وقد قدر الله للدعوة أن تظل باقية في كتبها محفوظة بأمره، لكن الذي يجب أن يكون اليوم هو وجود الداعية الكفء الذي يتخذ الرسول أسوته، ويحاول أن يستجمع ما اتصف به على قدر طاقته و {لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . ولا بد في تكوين الداعية أن يكتسب بعض الصفات الضرورية التي تجعله ذا صلة قوية

_ 1 الموافقات ج4 ص245.

بالله تعالى، الذي يحمل رسالته، ويبلغ دينه، ويعيش مع وحيه سبحانه وتعالى، كما تجعله قوي الصلة بالناس، فهم مجال حركته، ومقياس نجاحه، وأمله كله ينحصر في هدايتهم. إن الداعية يحتاج إلى هذين الجانبين لأهميتهما له:

أولا: تقوية صلته بالله

أولا: تقوية صلته بالله الداعية مرشد إلى الخير، وموجه نحو الهدى، وكل هدفه أن يعرف الناس بربهم الخالق؛ ليفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة. وعليه هو أولا أن يمتن صلته بالله في يقين وقوة، ويجعل إيمانه قائما على تفرغ القلب الكامل لمولاه، والارتباط المطلق به، والتوكل الراسخ عليه، والتسليم التام كل ما يأتي به من غير ارتياب -أو حرج- لتكون الدعوة بذلك نابعة من قوله وفعله، ,كل ذلك سهل ميسور. إن معرفة الله يلمسها من القرآن الكريم، كتاب الدعوة الذي هو دستوره وهاديه، ومن آياته يعلم أن الله واحد، منزه عن الشريك في ذاته وصفاته وأفعاله. وآيات القرآن واضحة في مفهومها ودلالاتها، انظر قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 1. تراها قد صرحت بوحدانية الله من غير غموض، بل إن القرآن يدافع عن هذه الوحدانية فيدعو إلى ترك ما عداها فيقول: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2، ويتجه بالدليل العقلي لمن يريده فيقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 3.

_ 1 سورة الصافات الآية 4. 2 سورة النحل الآية 51. 3 سورة الأنبياء الآية 22.

ولا تقف الآيات عند الحديث عن وحدانية الذات، بل تتكلم عن كل كمالاتها بإثبات الصفات والآثار، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} 1، وقوله {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2. فتجد هذه الآيات وغيرها تعرف بأن الله موجود، قديم، حي، باقٍ، عليم، مريد، قادر، سميع، بصير، متكلم، وبإثبات هذه الصفات تنتفي أضدادها، والصفات وإن تشابهت ألفاظها مع مسميات صفات البشر إلا أنها ليست هي في الحقيقة؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. والقرآن الكريم لا يترك الداعية يبحث وحده عن الدليل الدافع إلى الإيمان، بل يوجه نظره إلى الآثار الإلهية في المخلوقات؛ ليتم إيمانه، ويحس طمأنينة خاصة تمر بين جوانبه، فلا يرى بعد ذلك إلا الخير المطلق يسري في داخل النفس وخارجها، والمخلوقات عديدة، والنظر فيها يبين الدقة الإلهية والعناية الربانية، ويؤدي إلى الإيمان المطلوب، فنفس الإنسان المركبة من باطن فيه جهاز هضمي، وآخر للتنفس، ومن ظاهر به حواس وجوارح، هذه النفس بكل أجزائها تقوم بوظيفتها بطريقة تلقائية. وقد وزعت الأعمال في براعة ودقة على كافة الأجهزة؛ ليقوم كلٌّ بدوره، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتكلم، والرجل تمشي، والأسنان تمضغ، والمعدة تهضم، والرئة تستنشق. وهذا كله يشير إلى العناية والدقة الموجودة في خلق الله تعالى، وهو الأمر الذي جعل العلماء يرون في القرآن الكريم أدلة خاصة به سموها: 1- أدلة العناية والدقة.

_ 1 سورة الحديد الآية 3. 2 سورة الرعد الآية 16. 3 سورة الشورى الآية 11.

2- أدلة الحسن والجمال. 3- أدلة الغاية والقصد. وهذه أدلة تجعل الإنسان يؤمن بلا تردد رؤيته لها ونظره فيها. وقد حث الله الإنسان على النظر إلى النفس، فقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1 ليروا فيها دلالة اضحة على وجود الصانع وحكمته وتدبيره، ويكفي أن ينظر الإنسان إلى نفسه ليرى -كما قال الزمخشري- في ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها، عجائب الفطر وبدائع الخلق، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة، والبينات القاطعة، على حكمة المدبر، دع الأسماع، والأبصار، والأطراف، وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل2. وكما يجب النظر إلى النفس، فإن هناك العالم الفسيح المملوء بالآيات البينات والعجائب الرائعة التي يجب النظر فيها، يقول تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . إن الداعية وهو يلازم الدعوة عليه أن يفكر في هذا، وفي غيره؛ ليؤمن الإيمان الواجب، ويعلم من غير تردد حق الله الذي آمن به فيؤديه. وقد حصر الله سبب خلقه للجن والإنس في أداء هذا الحق، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .

_ 1 سورة الذاريات الآية 21. 2 تفسير الكشاف ج4 ص16.

يقول الزمخشري: إن معنى الآية: ما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جمعهم لا إياها1؛ ولذا دعيت كل الأمم إلى واجبها، يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وكان النداء الأول في دعوة كل رسول هي: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} لأن الإيمان بالله الخالق والتسليم له يقتضي حتما وبالضرورة أن تكون العبادة له وحده. إن العبادة هي الحبل الوثيق الذي يربط الإنسان بالله، وليس هناك سبيل سواها، والله قريب من عباده قربا ولا واسطة فيه، والداعية يعلم ذلك فيعبد الله مخلصا له الدين، ويتفرغ بكليته في عبادته؛ ولذلك فعبادته غذاء روحي، ترقَى به ذاته، وتذكره بالسلطان المطلق، وتسمه بحسن الخلق، وكريم المعاملة، وذلك كله سر العبادة وحقيقتها، فمثلا عن الصلاة -كعبادة- قد أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها؛ لأن إقامة الشيء يعني الإتيان به مقوما كاملا، يصدر عن علته، وتصدر عنه آثاره، ومن المعلوم أن الغاية من الصلاة ذكر الله، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} 2 وآثارها تظهر على المصلي ذاته لأنها: {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} 3 وهي بالإقامة عبادة حقة، فيها خضوع كامل، ناشئ عن إحساس يقيني بعظمة الرب القادر سبحانه وتعالى، ويتبعها أثرها المراد الذي يظهر في البعد عن كل باطل، والتخلق بكل حسن جميل، وهكذا كل عبادة تعطي للنفس جرعة من الذكر، وجزءا من السعادة. ولا يرى الداعية من عبادته هذه المنزلة إلا إذا أداها مخلصا كما أمر، فإن القوم جميعا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 4، وقد قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: " {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} "5؛ ولذلك فهم

_ 1 تفسير الكشاف ج4 ص21. 2 سورة طه الآية 14. 3 سورة العنكبوت الآية 45. 4 سورة البينة الآية 5. 5 سورة الزمر الآية 11.

بسبب هذا الإخلاص يشعرون بالمعية الإلهية دائما {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} 1، انظر إليهم تجدهم {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} 2، لا يفارقون ذكره في لحظة من لحظات الحياة، وكذلك يذكرهم ربهم، ففي الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" 3، وهم في ذكرهم الدائم يتقلبون بين الخوف والرجاء {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} 4. والداعية كما هو الواقع يعلم أن العبادة لا تقتصر عن نوعها الخاص الذي رسم الدين إطارها، وحدد شعائرها؛ كالصلاة والصوم والزكاة والحج، بل إنه في كل حياته عابد كما أراد الله بالمعنى العام والخاص معا، فاجتماعياته عبادة يفعلها لله رب العالمين، والسعي في معايشه، والتعاون مع أهله عبادة يؤديها ويلتزم بها؛ لأنها من حقيقة دينه. والقرآن الكريم يقرن من خرج مجاهدا في سبيل الله بمن خرج سعيا على المعاش فيقول تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 5. إن هذا الفهم الأصيل يجعل العابد في علاقة خيرة مع الناس، فيعود المريض، ويطعم الجائع، ويسقي العطشان، ويرفع الأذى من طريق الناس، ويدفع إلى السعي

_ 1 سورة المجادلة الآية 7. 2 سورة آل عمران الآية 191. 3 صحيح البخاري ج9 ص139. 4 سورة السجدة الآية 16. 5 سورة المزمل الآية 20.

والضرب في الأرض، وهكذا، يؤديها الداعية بهذا الفهم وبتلك النية ويسلمها لله رب العالمين. وعبادة الداعية كما هو المطلوب استغراق كامل في عالم الروح؛ لأنها عنده لذاتها فتربطه تلقائيا بالله، وتبرزه كحقيقته خاضعا لربه، محبا هائما في تعلقه به؛ لأنه بإيمانه أشد حبا لله؛ لأنهم كما عرفهم ربهم بقوله: {أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 1، والدعاة عباد الله بحق {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} لأن الله يحب المتقين، والمحسنين الصابرين. ومع هذه العاطفة الصادقة من الداعية لا يملك أمام أمر الله إلا السمع والطاعة، ويبحث عن المعروف ليفعله، ويأمر به، وعن المنكر ليجتنبه، وينهى عنه، وبسبب استغراق الداعية في ذكر ربه الحبيب إليه كانت العبادة أعظم علاج لراحة نفسه، ونسيان آلامها، كما أنها أعظم وسائل الشكر تحقق الهدوء التام، ألا تراها كانت علاجا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن أكثر القوم من أكاذيبهم ومفترياتهم حتى ضاق صدره بما يقال، فوجهه الله إليها علاجا له فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 2، ووجهه إليها كذلك إذا أحس بالنصر والفوز شكرا ورضًا، فقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 3. والعبادة بدورها لا تجد عسرا في القيام بمهمتها في الشدة أو الرخاء؛ لأنها تعايش إنسانا منفعلا بها، ومسلما بأنه مخلوق يتصرف كإرادة الخالق ويؤمن أنه {مَا

_ 1 سورة البقرة الآية 165. 2 سورة الحجر الآيات 97-99. 3 سورة النصر.

أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 1. إن هذا الإيمان الراسخ "من الداعية" الذي استتبع عبادة مخلصة صادقة، وحبا هائما شاملا، يؤدي بصاحبه حتما إلى التوكل الدائم على الله، والاستسلام له بلا تردد؛ لأنه ما دام قد ثبت في نفسه ثبوتا جازما أنه لا فاعل إلا الله، واعتقد فيه تمام العلم وتمام القدرة على كفاية العباد، ثم تمام العناية والرحمة بجملة العباد وآحادهم، وأنه ليس وراء منتهى قدرته وعلمه ورحمته قدرة ولا علم ولا رحمة، فإنه متكل لا محالة على الله، مستمر في انفعاله الروحي الصادق؛ لأن الله معه في كل آنٍ وحال. ولتمام توكله نجده يسلم أمر رزقه إلى الله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} 2، ويترك كل شيء لإرادة الله؛ لأن المسألة هي: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} 3، ويشكر النعم ويصبر على المكروه: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 4. وعلى الجملة، فإن المرء كما يقول الحكيم الترمذي: "من نور الله قلبه بالإيمان قويت معرفته، واستنارت بصيرته بنور اليقين، فاستقام قلبه، واطمأنت نفسه، وسكنت، ووثقت، وأيقنت، وسعدت بربها الخالق، وائتمنته على نفسها، فرضيت به وكيلا، وتركت التدبير عليه، فإن وسوس له عدوه بالرزق والمعايش لم يضطرب قلبه ولم يتحير؛ لأنه قد عرف أن ربه قريب، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنه رءوف رحيم، وأنه حليم ودود، وأنه رب عفو غفور، وأنه عدل لا يجور، وأنه عزيز لا تمتنع منه الأشياء، وأنه يجير ولا يجار"5.

_ 1 سورة الحديد الآية 22. 2 سورة الذاريات الآية 58. 3 سورة يوسف الآية 67. 4 سورة إبراهيم الآية 12. 5 الرياضة وأدب النفس ص93.

وبهذه الصلة الصادقة مع الله تكتمل عقيدة الداعية، فيكون خيرا في كافة الجوانب، ويملك القدرة على الدعوة والبلاغ، وحينئذ يمكنه أن يفيض على الناس بما امتلأ به، فكل إناء بما فيه ينضح، والظل في استقامته وامتداده يشبه أصله. إن داعية متمتعا بهذا اليقين يخدم الدعوة أكثر من آلاف ضعف إيمانهم، وهذلت عقيدتهم؛ لأن هؤلاء الآلاف يضرون ولا يفيدون، وقد أتى الإسلام من قبلهم.

ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس

ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس لا يقف أمر الداعية عند تحسين صلته بالله على نحو ما سبق، فإن ذلك يفيد شخصه أولا وهو مستوى يحتاج إليه كل من أسلم وجهه لله وهو محسن، وإنما على الداعية أن يحسن صلته بالناس، فمعهم تكون دعوته، ولهم ينشرها، وبهم يحقق نصرها وفوزها، وهذه الصلة الاجتماعية ضرورية للداعية؛ لأنه: أولا: أخ للناس استظهر عليهم بالنصح والتوجيه. ثانيا: محل الثقة والنظر لما له من صفات ولما ينادي من مبدأ. ثالثا: رائد الجماعة وزعيمهم؛ ولذلك وجب أن يتحلى بصفات تجعله يعيش وسط الناس في فهم وتقدير، ويتآلف معهم في مودة، ويتجلى بما يضعه في الريادة من غير منازعة وشكوك. والناس جميعا إخوة، ومردهم جميعا إلى عنصر واحد، وهو آدم أبو البشر أجمعين، وعلى الداعية أن يتيقن ذلك، ويعمل على أساس أنه ليس هناك فرق بين إنسان وإنسان بسبب لونه أو طبيعته أو عنصره، وإنما التفاوت بشيء خارج عن ذات الشخص وعنصره؛ كإيمان، أو عمل، أو إخلاص، وهو تفاوت لا يمس الإنسانية في شيء، وقد وضح الله هذه الحقيقة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1.

_ 1 سورة الحجرات الآية 13.

يقول الزمخشري: إن معنى الآية: فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب1، وذلك شيء طبيعي؛ لأن الإنسان خلق مكرما، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 2، يقول الألوسي: أي جعلناهم قاطبة -برهم وفاجرهم- ذوي كرم أي شرف ومحاسن3، ولهذه الكرامة الإنسانية جاءت النداءات في القرآن الكريم مصدرة بـ {يَا بَنِي آدَمَ} و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} تنويها بهذه الصفة العامة التي يأخذ منها أي إنسان بقدر ما يأخذ الآخرون سواء بسواء. إن هذا الفهم عند الداعية يجعله لا يفرق بين إنسان وإنسان في دعوته، ولا يفرق بينهم بسبب غنى أو حسب أو ما شاكل ذلك، فلا يدعو القوي تاركا الضعيف، أو يخص غنيا مهملا الفقير، أو يقصر دعوته على الرجال دون غيرهم؛ وذلك لأن دعوته عامة للجميع، وهو المكلف بنشر هداية الله بينهم، والكل متحاج إليها، بل إن الضعيف الضال أحوج إليها من سواه؛ ولذلك فالإعراض عنه ليس من صفات الداعية المثالي، ولقد أودع الله للدعاة درسا في هذا الباب بما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله ابن أم مكتوم، فرغم أن عبد الله كان أعمى مما جعله لا يتحقق عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فدخل عليه طالبا التعليم، في الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا فيه بتعليم غيره من صناديد قريش، وكونه أعمى يعطيه العذر في عدم تقدير الوقت المناسب للسؤال، وسبق القرشيين في الحضور يعطي النبي صلى الله عليه وسلم عذرا في إمهال عبد الله، خاصة وأن عبد الله أسلم من قبل، والقرشيون لم يسلموا بعد، وفي إسلامهم إسلام غيرهم، رغم ذلك فقد عوتب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف

_ 1 تفسير الكشاف ج1 ص569. 2 سورة الإسراء الآية 70. 3 روح المعاني ج15 ص117.

حتى لا يقال: إنه أهمل عبد الله لفقره وعماه، واهتم بغيره لجاهه وغناه، ولا يبقى هذا القول بعد ذلك بداية سيئة يهتم فيها الدعاة بالأشياء الظاهرة ويفرقون بين بعض الخلق وبعض بما ليس لهم به سبب، فقال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} 1. إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كله كان يعمل للدعوة، ويسعى إلى إسلام القوم وتزكيتهم، باذلا من نفسه جهدا وعملا، كما تفيده التاء في "تصدى"، والقوم الذين تصدى لهم النبي صلى الله عليه وسلم هم: عتبة، وشيبة -ولدا ربيعة- وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وهم قادة مكة ورؤساؤها، مما جعل الرسول يرجو من إسلامهم إسلام غيرهم2؛ ولذلك بقي مستمرا في دعوتهم، فلما جاءه عبد الله ودعاه لم يقطع حديثه معهم، وإنما أعرض عنه، فكان العتاب موعظة ترسي مبدأ إسلاميا؛ هو الحرص على كرامة الإنسان مطلقا، يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.

_ 1 سورة عبس الآيات 1-10. 2 تفسير الكشاف ج4 ص218.

الركيزة الثالثة: صفات الدعاة

الركيزة الثالثة: صفات الدعاة مدخل ... الركيزة الثالثة: صفات الدعاة الداعية رائد في مجتمعه، يقود بالحسنى، ويدعو إلى الحق والصواب، وينادي بالخير المطلق للناس أجمعين. وهذه المهمة التي يقوم بها الدعاة تحتاج إلى شخصية ذات مواصفات معينة، تساعد على القيام بهذه المهمة الخطيرة الشاقة. إن الدعوة فهم دقيق للإسلام، وتقدير صحيح لمخاطبة الناس، ومهارة فائقة لمواجهة المواقف المفاجئة، وذكاء فريد للبيان والتفصيل، والدفاع عن الحق، وإزاحة الشُّبَه والزيوف. لهذا وغيره أرى حاجة الدعاة إلى صفات تعينهم في تبليغ دين الله للناس، ويمكن تقسيم هذه الصفات إلى أُطُر رئيسية هي: أولا: صفات التكامل الذاتي، وأهمها الصدق، والأمانة، والإخلاص، والذكاء. ثانيا: صفات الترابط والمودة، وأهمها الحلم والتواضع، والقناعة، والكرم. ثالثا: صفات الريادة والتوجيه، وأهمها المشاركة الوجدانية، والقوة، والشجاعة. وهذه الصفات تحتاج إلى بيان ...

أولا: صفات التكامل الذاتي

أولا: صفات التكامل الذاتي يبعث الله رسله بعد بلوغهم سن الأربعين؛ لأنه حد الرشد وبلوغ العقل، يقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ؛ لأن كمال الرشد يساعد على تكميل الغير، ونحن هنا نشير إلى أهم الصفات البارزة في الشخصية الكاملة؛ لتكون منارة في تنشئة الدعاة، وتوجيههم نحو النجاح في مهمتهم. إن تأثير داعية واحد، يتميز بالصفات المنشودة، أفضل من تأثير مئات الدعاة الذين اتخذوا الإمامة والدعوة وظيفة يكفيها حضور الأوقات والانصراف من المسجد. سمعت مرة أحد العلماء يقول: إني أومن بالواحد فظننته يتحدث عن الإيمان بالله تعالى الواحد الأحد.. ولكنه بين أن مقصده الداعية المثالي ولو كان واحدا؛ لأن الكثرة غير المهيأة لا تفيد مثله. ومع آمال المؤمنين المخلصين أرجو للدعاة أن يكونوا على مستوى دعوة الله تعالى.

وأهم صفات الكمال الذاتي ما يلي: 1- الصدق: والصدق فوق أنه في حد ذاته سلوك سامٍ وصفة راقية، فهو منبع الثقة وأساس التسليم؛ لأن الصادق لا يخالف الواقع، وكل قوله مسلم، لا يحوم حوله شك أو تكذيب. والصدق في الداعية ضرورة؛ لأن ما يذكره ليس رأيا شخصيا، ولا اجتهادا ذاتيا؛ لأنه مبلغ دعوة الله كما جاءت، ومبين لغوامضها، وناقل كل بيان قيل في شأنها، وكل هذا يحتاج إلى صدق في التبليغ، ودقة في النقل والبيان، حتى يتيقن المدعو من أن كل ما يسمعه من الداعية هو رسالة الله، وأن الدعوة كما بدت من قوله هي هي كما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا تزيد أو انتقاص. ولذلك كان من الحِكَم الخالدة في رسالة الإسلام أن أهم صفة اشتهر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي صفة "الصادق الأمين"، وقد ذكر النضر بن الحارث بعض أوصافه لقومه فقال لهم: "هو أصدقكم حديثا"1. ولما سأل هرقل أبا سفيان "ولم يكن قد أسلم بعد" عن محمد قائلا: وهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أجابه: لا. فقال هرقل: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله2. وهذا القول من هرقل يبين أهمية الصدق؛ لأن دعوة الله لا نعلمها إلا من مبلغها، ومن كذب على الناس جاز أن يكذب على الله، أما من التزم الصدق مع البشر فهو صادق حتما مع الله سبحانه وتعالى. ولما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته سأل الناس: "لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح الجبل، أكنتم مصدقي؟ " قالوا جميعا: ما جربنا عليك كذبا3، وإنما

_ 1 سيرة النبي ج1 ص319. 2 صحيح البخاري ج1 ص5، 6 - باب بدء الوحي. 3 صحيح البخاري ج6 - كتاب التفسير - باب تبت يدا أبي لهب.

بدأ معهم بإظهار إقرارهم بصدقه ليوضح لهم أن دعوته لهم هي الحق؛ لأنه لم يعهد فيه الكذب قط. وقد كثرت التنبيهات والتوجيهات في القرآن الكريم والحديث النبوي لالتزام الصدق في كل شيء، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة" 1، بل يصل الأمر في أهمية الصدق إلى جعله أحد الصفات الأساسية للمسلم؛ لأن الإسلام في حقيقته نبذ للأوهام، وبعد عن الباطل، وهو بذلك يتنافى مع الكذب، ومن افتراه ليس مؤمنا كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 2. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: "نعم"، فقيل: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: "نعم"، فقيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ فقال: "لا" 3. وإن كان هذا شأن المسلم على إطلاقه، فما بالك بالداعية الذي هو في أشد الحاجة إلى أن يتبع، وبغير الثقة في صدقه لا يكون هناك اتباع؟! ألا ترى إخوة سيدنا يوسف عليه السلام حينما احتجز أخوهم "بنيامين" عند يوسف عليه السلام ذهبوا إلى أبيهم قاصين، ومن أجل أن يثق في قولهم قالوا: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} 4، بل إن رسل الله إلى لوط عليه السلام يقولون له: {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} 5، فتجدهم يظهرون صفة الصدق لمحدثهم على وجه التأكيد فيها؛ ليكون ذلك أدعى إلى السماع،

_ 1 موطأ مالك ج4 ص227 - ما جاء في الصدق. 2 سورة النحل الآية 105. 3 موطأ مالك ج4 ص228 - ما جاء في الصدق والكذب. 4 سورة يوسف الآية 82. 5 سورة الحجر الآية 64.

وأسرع في الموافقة، لا فرق كما هو مذكور بين الملائكة والبشر؛ لأن الإقناع لا يتم إلا بالأمر الواقع، ويعيش التصديق دائما مع الحق والثبات، ومن أكثر من الدعوة حاجة إلى الإقناع والثبات!!! صحيح أن الدعوة تحمل في طياتها عناصر الثقة بها، من واقعية في التشخيص ودقة في الإسعاد، لكن هذا لا يعفي الداعية من ضرورة الثقة فيه أيضا؛ لكي تصغى إليه الآذان، وتسمع العقول، وتفكر الأفئدة، وبعدها يكون قد أدى ما عليه. 2- الأمانة: ومما يلازم الصدق صفة الأمانة الشاملة لكل ما يقوم الإنسان به تجاه نفسه وتجاه الناس، من قول أو عمل، ومن أكبر الخيانات أن تكذب الحديث؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: "كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق، وأنت له به كاذب" 1؛ ولذلك أمر الله المسلم بألا يخون في أي جانب من الجوانب؛ حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، وكما ارتبط الإيمان بالصدق فهو يرتبط بالأمانة، ويجب أن يشتهر الداعية بالأمانة كما اشتهر بالصدق عند الجميع: من أسلم ومن لم يسلم؛ ليتحقق خير كثير للدعوة. 3- الإخلاص: يحتاج الدعاة إلى الإخلاص لله تعالى وهم يبلغون دينه.. والمقصود بالإخلاص أن يكون العمل كله لله، لا يداخله غرض آخر، وأن يبحث في كل أقواله وأعماله وأحواله عن مراد الله، وتوجيهه فيما سيقوم به. وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي عاش عمره للدعوة ولم ينظر لشيء آخر. عرض عليه كفار مكة المال والملك والسلطان والمرأة ليترك الدعوة، فكان رده واضحا بأنه لن يتركها ولو ملكوا قوى الكون وأعطوها له في يده، وتحت تصرفه.

_ 1 البخاري - الأدب المفرد. 2 سورة الأنفال الآية 27.

ولصدق إخلاصه صلى الله عليه وسلم لدعوة الله تعالى تحمَّل في سبيلها الكثير، فقد أوذي في نفسه، وولده، وسائر جوانب حياته، وظل صابرا محتسبا، راجيا رضوان الله تعالى؛ لذلك وجب على الدعاة أن يعيشوا للدعوة، وبخاصة أن الله تعالى قد يسر لهم أمر المعاش في هذا العصر. إن الداعية المخلص لرسالته مسئول عن: - العلم بالدعوة: وذلك لا يتأتى إلا بالقراءة الدائمة والتعلم المستمر، وليجعل للكتاب نصيبا من حياته، يعود إليه أثناء تحضير درسه، وإعداد خطبته. ومن المعلوم أن الداعية يعرض دعوته جزءا جزءا، وعليه حينئذ أن يعد لكل جزء عدته بالقراءة والفهم والإعداد. - تخير الوسيلة: وهذا يحتاج إلى النظر في كافة الوسائل الممكنة لتخير المفيد منها، فقد يكون المفيد كتابا، أو حوارا، أو مصاحبة، أو حديثا مطولا. وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، فلقد دعى خديجة رضي الله عنها بالعمل، ودعا أبا بكر بالكلمة الموجزة، ودعا غيره بالخطبة المطولة، أو برؤية العمل والتطبيق ... وهكذا. - تحمل المشاق: يلاقي الدعاة في أعمالهم عديدا من العقبات، بعضها من المدعوين وبعضها من غيرهم، من شياطين الإنس والجن.. وقد عشنا مع رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه، ورأينا المعاناة التي قابلتهم أثناء قيامهم بالدعوة إلى الله تعالى.. ومع ذلك لم تلن لهم قناة، ولم تضعف لهم عزيمة، واستمروا على إخلاصهم في الدعوة إلى الله تعالى. على هذا يجب أن يستمر الدعاة غير مبالين بما يعترضهم من مشاق، محتسبين ذلك لله رب العالمين. 4- الذكاء والبديهة: يتعرض الدعاة لمواقف تحتاج منهم إلى بديهة متوقدة تمكنهم من إيجاد الحل المناسب لها، في إطار المشروعية الإسلامية، وبسرعة خاطفة، منعا

لنشر الملل مع المدعوين. إن الذكاء العادي والذاكرة الضعيفة تضر أكثر مما تفيد في بعض الأحيان، وكثير من العباقرة فقدوا تفوقهم بسبب بطئهم في التفكير، وإيجاد الحلول، ومعالجة المواقف؛ لأن الإنسان قد يكون مثقفا، غزير المادة.. ومع ذلك يرتج عقله، وتخونه ذاكرته، إذا صادف موقفا حساسا مفاجئا. وقديما قالوا: "إن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه". ذهب غلام مع وفد قومه لتهنئة عمر بن عبد العزيز، ولما وقفوا بين يدي الخليفة اشرأب الغلام للكلام.. فقال عمر: يا غلام، ليتكلم من هو أسن منك. فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لسانا لافظا، وقلبا حافظا فقد أجاد له الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان هاهنا من هو أحق بمجلسك منك. فقال عمر: صدقت1. والقلب الحافظ لا يكون إلا من ذاكرة حسنة، وبديهة حاضرة.. وقد درس علماء النفس ظاهرة ضعف الذاكرة، فوجدوها ضارة بالإنسان، وخاصة الإنسان العادي. يقول "كارل سيشور": إن الرجل العادي لا يستخدم أكثر من عشرة في المائة من قدرته الموروثة في الاستذكار، ويضيع منه تسعون في المائة بإهماله قوانين التذكر الطبيعية2. إن العلم هبة إلهية يعطيها للمتقين من عباده، كما يقول تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} . ويقول الإمام الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يعطى لعاصي

_ 1 الشخصية ص22. 2 التأثير في الجماهير ص61.

وأهل التصوف يشعرون بالإلهام الإشراقي، ويذكرون أن أهل الله يكون الله معهم دائما عونا ونصيرا. ومع أن الأمر هبة إلهية، فإننا نطالب بالأخذ بالأسباب ومطرد العادة. أراد النظام أن يوجه ولده إبراهيم للدعوة إلى الله تعالى، فأحضره إلى الخليل بن أحمد، فقام الخليل باختبار ذكائه، والوقوف على درجة بديهته، فأحضر كأسا، وقال له: صف هذا الكأس. فقال إبراهيم: بمدح أم بذم؟! فقال الخليل: بمدح. فقال إبراهيم: تريك القذى، ولا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء. فقال الخليل: بذم. فقال إبراهيم: يسرع إليها بالكسر، ولا تقبل الجبر. وهنا أخذ يعلمه ويوجهه لما رأى فيه من فطنة وذكاء. ومن هذا الباب أيضا أن الحافظ العراقي لما ذهب إلى شيح بن البابا؛ ليتلقى عنه الحديث، اختبره أولا حيث قال له: من ابن البيع؟ قال الحافظ: الحاكم أبو عبيد الله النيسابوري. فقال له: من أبو محمد الهلالي؟ قال: سفيان بن عيينة. قال له: هلم يا بني، وعرف مكانته من الوعي والإدراك، واستعداده للتعلم، وعلمه. إن مثل هذا الاختبار يتم اليوم في عدد من الدراسات المتخصصة التي تبدأ من وقت مبكر؛ كدور المعلمين والمعلمات، ومعاهد الخدمة الاجتماعية، والمدارس العسكرية المتنوعة، وذلك كله لينجح الطالب بعد تخرجه فيما يوكل إليه من أعمال. وقد أدرك قدر هذا الاختبار المبكر مع الاختيار أصحاب المذاهب الوضعية

ورجال الأديان الأخرى، فعملوا به وأخذوا يعدون لباطلهم دعاة فيهم الذكاء والنشاط والإخلاص وغير ذلك من الصفات التي تنتشر بها الأفكار والعقائد. وإعداد الدعاة إلى الإسلام يجب أن يندرج في هذا الخط الطبيعي؛ حيث يختارون في سن مبكرة، وتختبر مستوياتهم الذهنية وقدراتهم الشخصية؛ ليسهل إعدادهم، ويكونوا بعد تخرجهم على مستوى واجب الدعوة، وأهمية العمل لها.

ثانيا: صفات الترابط والمودة

ثانيا: صفات الترابط والمودة تأليف القلوب عملية أساسية في الدعوة إلى الله تعالى؛ ولذلك وجب على الداعية أن يهتم بهذا الجانب الحيوي في نشاطه؛ ليرتبط مع الناس في مودة وإخلاص. ويعتمد هذا التأليف على ملامح شخصية الداعية؛ ولذا نوصي بضرورة تميزه بالصفات التالية: 1- الحِلْم: والحلم صفة هامة للداعية تجمع القلوب، وتذيب الإحن، وتعطي له قدرا كبيرا من الصلابة في مواجهة أشد المواقف وأحلكها، وهو أول ما يمتحن به الخلق الحسن؛ لأنه يقرب الغريب، ويذهب العداوة. وهل يستوي الحلم والتهور؟ أبدا لا يستويان؛ لأن الحلم سيد الأخلاق، والحقيقة أنه: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} 1. والحلم ليس دليل ضعف أبدا، بل هو الدليل على القوة، والمالك لنفسه عند الغضب هو القوي في الحقيقة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" 2. والإسلام رغم أنه يعطي للنفس حقها في مقابلة السوء بمثله؛ حيث قال تعالى:

_ 1 سورة فصلت الآية 34. 2 موطأ مالك ج4 ص95 - ما جاء في الغضب.

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .. وهذا شيء طبيعي يتفق مع غريزة الإنسان في الانتقام والانتصار، إلا أن الأسمى من الانتصار هو أن يكون المرء حليما يعفو عند الإساءة، فقال تعالى عقب هذا الجزاء المثلى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، وكون الأجر على الله يختم العفو إلى درجة كبيرة. ولضرورة هذه الصفة للداعية أمر الله رسوله بها فقال له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 1، وقاله له: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 2. وعلى الدعاة أن يهتموا بالحلم والعفو ليصلوا إلى غرضهم، ولا يجعلوا همهم الغضب والانتقام؛ لأن ذلك ينفر المدعوين منهم ولا يحببهم في استماع الدعوة وتفهمها، يقول الإمام الغزالي: "أما حسن الخلق بعد العلم والورع فضرورة؛ ليتمكن من اللطف والرفق، وهو أصل الباب وأسلمه، والعلم والورع لا يكفيان فيه، فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله، وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق، ومقدرة صاحبه على ضبط نفسه وقت الشدة والغضب، وبه يصبر الداعي على ما أصابه من دين الله، وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه نسي الدعوة، وغفل عن دين الله، واستغل بنفسه، بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم"3. يقول الشيخ ابن علوي الحداد: "على الدعاة أن يكونوا على نهاية من: الصبر، والاحتمال، وسعة الصدر، ولين الجانب، وخفض الجناح، وحسن التأليف، وإن دخل عليهم شيء من أذى الجاهلين، عليهم أن يصبروا، ويعرضوا، ويقولوا خيرا؛ لأنهم من عباد الرحمن الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"4.

_ 1 سورة الأعراف الآية 199. 2 سورة المائدة الآية 13. 3 الدعوة التامة ص9. 4 الإحياء ج2 ص292.

ويقول ابن تيمية: "ولا بد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الرفق، ولا بد أن يكون الداعية صبورا على الأذى، فإنه لا بد أن يحصل له أذى، فإن لم يصبر ويحلم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"، وينقل ابن تيمية ما قاله القاضي أبو ليلى: "لا يأمر ولا ينهى إلا من كان رفيقا فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه"1. ويكفي الدعاة أن يتعلموا من توجيهات القرآن الكريم المؤكدة نحو الحلم والعفو؛ حيث قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. 2- التواضع: والتواضع أحد الصفات الأساسية التي تساعد على المعاشرة الحسنة؛ لأن المتواضع يعيش مقدرا لنفسه وللناس، ومقدرا من الآخرين، ومن هذا المنطلق لا يبدو متعاليا قط، ولا يكون وضيعا أبدا، ويشعر أن المساواة الأصيلة هي الروح المسيطرة، فيألف ويؤلف ويأنس ويؤتنس به. ويستقر التواضع في النفس بسبب يقينها بأنها والناس جميعا من نفس واحدة، وما انقسمت إلى القبائل والشعوب إلا لأجل التعارف واللقاء والتآلف؛ حفاظا على ما يمليه الإحساس الواقعي بالأصل الواحد، واتباعا لتعاليم الرب الواحد الذي كفل للناس فرصة متكافئة، فلا يتمايزون بخلقتهم أو لونهم أو ثقافتهم، وإنما يكون التمايز تابعا للإيمان والعمل، وحتى مع التميز بالإيمان والعمل فإن الواجب على المؤمن أن يتمسك بالتواضع حتى النهاية لما يحققه من فائدة، انظر ما قاله الله تعالى لتأصيل هذه الحقائق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 3.. فالجميع من

_ 1 الحسبة في الإسلام ص281، 282. 2 سورة النور الآية 22. 3 سورة الحجرات الآية 13.

أصل واحد والتفرق للتعارف، والكريم هو التقي، والذي يحكم بالدرجة الصادقة هو الله العليم الخبير، أما هذا الذي يتعالى حتى ولو بتقواه فلا يعتد به؛ لأنه زكى نفسه مخالفا أمر الله القائل: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1. والداعية الذي جعل همه الدعوة إلى الله، يجد نفسه ملتزما بالتواضع؛ ليتمكن من التماس طريق الله الذي دعا إليه عباده الصالحين؛ ليتحقق له كل ما وعد الله به، من تمتع كامل بالدنيا، ومن تمتع عظيم بالآخرة، فإن الواقع أن: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 2. والتواضع يمكن صاحبه من الاستفادة بكل آيات الذكر والكون؛ لأنها لن تصرفه عن فهمه لتواضعه، كوعد الله القائل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} 3، فبين أن عقول المتكبرين وحدهم هي التي لا تفهم ولا تعي، فيجادلون في الحق بعد تبينه، ومهما عرضت لهم الآيات الواضحات -كونية أو قولية- لا يرونها، ذلك حالهم، وحال المتكبرين دائما {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، وإنما فقدوا كل هذا لأنهم بالتكبر بعدوا عن رحمة الله وحبه {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} وبفقدهم هذا الحب لا يجدون أي حب من الناس؛ لأن الملائكة تنادي أرواح البشر: أن الله يبغض فلانا فأبغضوه، وسيجدون أنفسهم بعد ذلك في عزلة من الناس، وهذا مما لا يرضاه داعية لنفسه. فعلى الداعية أن يلتزم التواضع ليقرب من الناس؛ لأن دعوته في حاجة إلى صلة مستمرة بهم، وعليه أن يكون قريبا إلى قلوبهم وأرواحهم، والتواضع هو ضمان ذلك كما بينته الحقائق الدينية التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقا على نفسه، وتوجيها لمن بعده

_ 1 سورة النجم الآية 32. 2 سورة القصص الآية 83. 3 سورة الأعراف الآية 146.

من المؤمنين، اقرأ هذه الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1، والمس منه التوجيه الواجب إلى التواضع؛ لأنه بهذا الخفض يقربهم، ويوجه عقولهم وأرواحهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعالَى على أحد من أصحابه، بل يجلس معهم ويعرفهم أنه كأحدهم في كافة شئون حياته، وإذا ما مر بصبيان صغار وقف وسلم عليهم، فلقد مر أنس على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي يفعله2، بل إنه يوضح لأصحابه تواضعه فيما قام به من عمل، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فلما سأله جابر عن نفسه قال: "وهل من نبي إلا وقد رعاها! " 3. وعلى الدعاة أن يلتزموا بالتواضع الكامل حتى يتمكنوا من تأدية دورهم، ويضربوا في هذا المجال صورا عملية كثيرة. 3- القناعة والزهد: الزهد الصادق يتبعه قناعة بما أوتي، وعفاف عما في أيدي الناس، ولا تقف النفس الكريمة بصاحبها عند الزهد والقناعة والعفاف، بل إنها تطبعه بطابع السخي المعطي حين يجد الذي يعطيه غير منتظر علم أحد أو شكره؛ لأنه أنفقه لوجه الله، ولا ينتظر ثوابا إلا من الله، وما ذلك إلا لإيمانه بحقائق القرآن الذي يتلوه ويرشده، والتي منها: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} 4. إن الداعية في أمس الحاجة إلى نفس زاهدة تؤمن بالزهد، وتعرف فضيلته، وترى أن

_ 1 سورة الشعراء الآية 215. 2 رياض الصالحين ص174. 3 صحيح البخاري ج4 ص191 - كتاب بدء الخلق - باب يعكفون على أصنام لهم. 4 سورة البقرة الآية 272.

"هذه الحياة الدنيا ليست دار التمتع الكلي، ولكنها فترة مؤقتة تنبني عليها كل سعادة الآخرة" {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1، وبذلك فليس الهدف منها التلذذ من الشهوات والمطعم، وليس هو شأن المؤمنين أبدا، أما الكافرون فإنهم {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} 2، وبهذا الزهد لا يكون المؤمن منعما في تصرفه، وفي الوقت نفسه لا يحرم من الدنيا {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . هذه الحقائق ترسخ في نفس الداعية فيعطي بلا حد، ويعلم أن الله سيخلفه ويعوض عليه بالنجاح في دعوته. 4- الكرم والسخاء: والكرم والسخاء صفة من أهم صفات الداعية؛ حيث تقرب القلوب النافرة وتمهد العقول للطاعة؛ ولذلك كان من أُولَى الأوامر الأخلاقية للرسول صلى الله عليه وسلم {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} 3 أي: لا تعطِ مستكثرا ما أعطيت للناس، فنجده صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، وكان كما وصفه ابن عباس "أجود الناس"4، ولم يقل صلى الله عليه وسلم "لا" عن شيء سئل فيه5، ولا يكفي في الكرم العطاء المادي وقت وجود المال، فـ"ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غني النفس"6، بل لا بد من نفس كريمة استجمعت كل خواص الكرم وأصالته في كافة حالاتها.

_ 1 سورة الشعراء الآية 215. 2 رياض الصالحين ص174. 3 سورة المدثر الآية 6. 4 صحيح مسلم ج7 ص73. 5 صحيح مسلم ج7 ص73. 6 صحيح البخاري ج8 ص118.

ومن هنا نجد القرآن الكريم يعلم المؤمنين الالتزام بمكارم الأخلاق، غير عابئين بما يعترضهم من عقبات، ويعد الكرم أحد الاسباب التي حببت الناس في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول علي: "كان رسول الله أجود الناس كفا"، ومن المعروف أن الإنسان عبد الإحسان؛ ولذلك يُروى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه مسلما وهو يقول لهم: "أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء ما يخشى فيه الفاقة"1.

_ 1 الشفا ج1 ص238.

ثالثا: صفات الريادة والتوجيه

ثالثا: صفات الريادة والتوجيه: والداعية لا يكتفي بالمودة مع الناس؛ لأنه صاحب رسالة يعمل لنشرها فيهم، ويهديهم بها، وذلك لا يتأتى له إلا إذا تمتع بشخصية مؤثرة فيها قدرة الجذب النفسي، ومنها يقبل التوجيه والريادة، على أن هذه الشخصية لا بد أن تمتلك مجموعة من الصفات ذات التأثير والريادة، ومنها: 1- المشاركة الوجدانية: وهي صفة هامة للداعية، تجعله يعيش حياة الناس؛ ليشعر بشعورهم، وينفعل مع آرائهم وحياتهم، ويتداخل في تقاليدهم وكافة شئونهم بصدق وفهم وتحليل، ويجب أن تأخذ هذه الصفة عنده شكلا عاما بمعنى تواجدها تلقائيا مع الجميع بلا تفرقة بين غني وفقير، أو رئيس ومرءوس، ورفيع أو وضيع؛ لكي يصل بالدعوة إلى الجميع، فإن المشاركة تضفي إحساسا عمليا له قوته في الوصل والتأثير، ومن المعروف أن المشاركة الوجدانية هي الرباط الحريري الذي يصل القلب بالقلب ويربط العقل بالعقل والجسم بالروح1، وهي التي تنشئ كل التصرفات الحسنة والسلوك القويم، وتأثيرها في الحياة الاجتماعية مؤكد بسبب خلوها من الزيف والتصنع، ولأنها

_ 1 الشخصية ص40.

تظهر مع أول مقتض، ولكل أمر، ولا تحتاج إلى عناء كبير لكي تعرف وتدرك؛ لملازمتها القول والسلوك والعمل. والداعية بها ينتظره الناس ويقدمونه عليهم، فيأخذون رأيه، وينهجون نهجه ويجعلونه رائدهم، وما استحق ذلك عندهم إلا بعد أن تأكدوا من الصور العملية لهذه الصفة، فهو حبيب يتمنى الخير للجميع، كما يتمناه لنفسه، فيصل الرحم، ويكرم الجار، ويقري الضيف، ويخلص للجميع، ولا يترك أمرا فيه مصلحتهم إلا ويحث عليه ويبعدهم عن سواه، ودائما تلقاه مهتما بالخير والنفع، فيكرر النصيحة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وتعاونه مع الجميع يلمسه الجميع، في كثرة ووضوح، وهو في هذا لا ينتظر من الناس جزاء أو شكورا، وكل ما يتمناه أن يجعل الأفهام متفتحة لدعوة الله مقبلة على تدبرها واليقين بها. والداعية يطبق أشكال هذه الصفة عن اقتناع بها؛ لأنها أوامر دينه إليه، وحياة رسوله صلى الله عليه وسلم مع الناس، وإذا كانت هذه مصادر دعوته فهو أحق الناس بتطبيقها. إن الدروس المستفادة من فهمه لحقيقة الإنسانية، ودعوة الإسلام للتعارف، تحتم المشاركة الصادقة، وجدانيا، وعقليا، وحسيا، ليصنعوا جميعا ما يفيدهم وينفعهم، وآيات القرآن تؤكدها وتحث عليها، انظر قوله تعالى حينما يخاطب القوم بصيغة الجماعة، فإنه لا يفرق بين إنسان وإنسان، ولا بين مؤمن ومؤمن، فالخطاب واحد للجميع؛ إذ ينادي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وهذا يعلم المشاركة، بل إن القرآن يعلم الناس أن يكون دعاؤهم لأنفسهم ولغيرهم؛ إذ يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، وهو دعاء في سورة الفاتحة يقرؤه المسلم كل يوم داعيا بصيغة الجماعة إيثارا لغيره، وتبرئة لنفسه من الأنانية، ولأنه شيء يحبه الله ورسوله؛ حيث يقول تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 1، ويقول إخبارا

_ 1 سورة محمد الآية 19.

عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} 1، وذلك ليس بدعا، فإن القرآن يمتدح المؤمنين الأُوَل؛ لأنهم تركوا أنانية الذات إلى حب الجميع؛ حيث كانوا لا يدعون للأحياء وحدهم؛ بل يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} 2، ولم يكن بالقول فقط وإنما بالعمل كان إيثارهم كما يفيده قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3، فترى الأنصاري ساكن المدينة يحب المهاجر إليه من مكة، بكل صفاء، ويؤثره على نفسه خاصة، وسبب ذلك أن وجداناتهم قد آمنت بهذه المشاركة عن اقتناع، فتمكنوا بعد ذلك من تأسيس مجتمعهم على الحب والخير والمشاركة، وكل ما حرصوا عليه هو أن ينمحي الغل من قلوبهم، وأن يوقفوا شح النفس ليصلوا إلى الفلاح، وذلك درس للداعية. إن الداعية ملتزم بأن يحسن صلته مع الجميع تنفيذا لأمر الله القائل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 4.. يبين الزمخشري في تفسيره هذه الطوائف فيذكر أن ذا القربى كل ما بينك وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما، والجار ذي القربى هو من قرب جواره، والجار الجنب من بعد جواره، وهو أجنبي، والصاحب بالجنب الذي

_ 1 سورة إبراهيم الآية 41. 2 سورة الحشر الآية 10. 3 سورة الحشر الآية 9. 4 سورة النساء الآية 36.

صحبك في أمر ما أو المرأة، وابن السبيل المسافر المنقطع أو الضيف1، ويجب أن تأخذ هذه الصلة الحسنة أشكالها المتعددة، فهي على الخير والبر المأمور بهما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 2، وهي نصيحة خيرة وتواص به؛ لأنها من صفاتهم {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} 3، وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، اللذان هما أساس خيريتهم كما أخبر الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 4، وسبب فلاحهم الذين أمروا به في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5. ويجد الداعية أمامه كذلك صورة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقاته لهذه الصفة، فلقد كان قبل البعثة كما وصفته زوجته خديجة: "إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق"6، وكان يشارك قومه أحداثهم الكبرى، فساهم في حرب الفجار، وحلف الفضول، وبناء الكعبة، وعاشر الرعاة والتجار، والأثرياء، والكبار، والصغار، وكان الجميع يذكرونه ويتوددون إليه، فلما بعث عليه الصلاة والسلام تضاعفت اهتماماته بالناس كما وصفه الله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 7. وكان يوالي الناس بالنصح والإرشاد قاصدا نجاتهم وسعادتهم، وكان صلى الله عليه وسلم يسبقهم في كل أعمالهم، ألا تراه في يوم "بدر" يترك ابنته مريضة في المدينة ويذهب إلى الحرب لا ليجلس في العريش

_ 1 تفسير الكشاف ج1 ص526. 2 سورة المائدة الآية 2. 3 سورة العصر الآية 3. 4 سورة آل عمران الآية 110. 5 سورة آل عمران الآية 104. 6 صحيح البخاري ج9 ص38 - كتاب التعبير. 7 سورة التوبة الآية 128.

الذي بناه له الصحابة خلف الصفوف، بل ليكون في الصفوف، يرمي بالحصا، ويناشد الله، وينظم الصف، حتى أشفق عليه الصديق أبو بكر رضي الله عنه فقال له: بعض مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعد، وتنتهي المعركة، ويأتيه خبر وفاة ابنته وهو عائد إلى المدينة. وكان صلى الله عليه وسلم يحاول دائما مصلحة الناس ويتصرف وفق ذلك، ومن ذلك ما ذكره صلى الله عليه وسلم: "يا سعد، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار" 1، فهو يعطي هذا إنقاذا له من النار ويترك غيره الأحب. إنه صلى الله عليه وسلم في موالاته النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قد ترك للمسلمين عموما وللدعاة على الخصوص ثروة طائلة تمدهم بالدين كله. وعلى الجملة، فإن هذه المشاركة بكل جوانبها ضرورية لمن وقف نفسه لدعوة الله حتى يأخذ الصدارة، ويتقدم الصفوف، ويكون ثقة القوم وأملهم، ويبعد عن تهمة الحاقد، وينجو من عداوات المعارضين. 2- القوة والشجاعة: وهذه صفة أخرى تساعد على الثقة والقيادة، وهي صفة تنبني على تقدير الشخص لنفسه وفهمه لواقع حياته وأتباعه لتعاليم دينه المؤكدة، فبذلك يبعد تلقائيا عن الذل والضعف، وعن الخوف والاضطراب؛ لأنه يثق في المفاهيم التالية: أولا: المؤمن يجب أن يكتسب من إيمانه الثقة ويشعر بالتفضيل والكرامة؛ لأنه بالإيمان يؤدي ما عليه ويترك ما عدا ذلك لله الذي يصرف كل شيء: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} 2.

_ 1 صحيح مسلم ج1 ص91 - كتاب الإيمان- باب تأليف قلب من يخاف على إيمانه. 2 سورة الرعد الآية 8.

ثانيا: الخلق كله بقبضة لخالق سبحانه وتعالى، وبيده وحده النفع والضرر، وكل الخلق خاضع له، وما على المؤمن إلا أن يقصر خوفه على الله، كما قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. ثالثا: الأجل والرزق محددان تماما بحيث {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون} 2، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 3، وقد ثبت أن رزق الرجل يكتب بعد نفخ الروح في المضغة كما يكتب أجله وعمله4. وما دامت هذه المفاهيم قد ثبتت عند الداعية فما عليه إلا أن يظهر العزة في كل حياته {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 5، وهي عزة ناشئة من الإحساس بالكرامة التي أولاها الله للإنسان على العموم، وناشئة من لذة الإيمان وحلاوته عند المؤمن على الخصوص، فإذا ما بعد الإنسان عن العزة فقد بعد عن الإيمان، ولا يقبل من المؤمن قط عذر إذا سار في مسلك ذليل فإنه بذلك يظلم نفسه وسوف يسأل: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 6، فلن يقبل منه أنه كان ضعيفا في بلده؛ لأن الأرض كلها لله وهي واسعة، وكان عليه أن يهاجر إلى مكان آمن فيه صيانة لكرامته وحماية لعزته التي يجب أن يتمسك بها بكل شدة، ولن ينقص من قدره شيء، وأن الحقيقة في قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 7.

_ 1 سورة آل عمران الآية 175. 2 سورة الأعراف الآية 34. 3 سورة هود الآية 6. 4 صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص192 - كتاب القدر. 5 سورة المنافقون الآية 8. 6 سورة النساء الآية 97. 7 سورة فاطر الآية 2.

وليس من العزة أن يظلم الإنسان غيره، أو يطغى عليه؛ لأن العزة خلق ممتاز يتمتع بها من يحافظ عليها لنفسه ولغيره، انطلاقا من فهمه لذاته ولدينه وللحياة. ومن مستلزمات هذه العزة أن يكون صاحبها شجاعا قويا في شخصه ورأيه؛ لتكون خيرة في ذاتها ومقبولة من كافة العقول. وقد أراد القرآن الكريم أن يبسط هذا المعنى في الأسماع والعقول فحفل به وأكثر من وصف الله بالقوة؛ ليكون ذلك إيماء إلى المؤمنين بأن يكونوا أقوياء، وكذلك وصف بالقوة جبريل ورسله والمؤمنين حتى يتضح شرف القوة ورفعتها. ومن القوة المطلوبة أن يملك الداعية القدرة على ضبط نفسه والسيطرة عليها، بل إن ذلك هو كل القوة في الواقع؛ لأن النفس خيرا وشرا تتنوع بحسب قواها، وأحسن الناس من يحكم شهوته وغضبه، فيعطي لنفسه العاقلة زمام أمره، ويتصرف بعيدا عن أي انفعال يفسد عليه وجهته مهما كان حقا. يقول ابن مسكويه*: "شبه القدماء الإنسان وحاله مع الأنفس الثلاثة بإنسان راكب دابة قوية، ويقود كلبا، فإن كان الإنسان من بينهم هو الذي يروض دابته وكلبه، فلا شك في رغد عيشه وحسن أحواله، وإن كانت البهيمة أو السبعية هي الغالبة ساءت الثلاثة"1؛ ولذلك كنت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي سأله النصيحة: "لا تغضب" 2؛ ليكون قويا بحق، فـ "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب" 3. ومن هنا يقول ابن المبارك أن المقصود من قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} هو جهاد النفس4؛ ولذلك فالعزيز هو الذي يحكم نفسه ولا يجعلها

_ * يرى ابن مسكويه أن النفس الإنسانية لها ثلاث قوى أي هي أنواع ثلاثة بهيمية "شهوية" وغضبية "سبعية" وناطقة "عاقل" وكل منها له قوته وتحاول التغلب على أختيها، ويرى أن النفس الغضبية تترقى لأنها تقبل الأدب، والبهيمية تحكم فقط لأنها لا تقبله، والإنسان يشرف بالناطقة فقط ويشارك الملائكة ويباين البهائم. 1 تهذيب الأخلاق لابن مسكويه ص55. 2 موطأ مالك ج4 ص94 - ما جاء في الغضب. 3 موطأ مالك ج4 ص95 - ما جاء في الغضب. 4 ذم الهوى ص40.

تميل بالغضب الذي يفسد على الإنسان وجهته، ويحول بينه وبين الرشاد؛ ولذا كان من أهم صفات عباد الرحمن أنهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 1. إن سيطرة العقل الهادئ يجعل الإنسان واقعيا في الموقف فيبدي الحجة، ويظهر الرأي، ويصل بالإقناع إلى ما يريد. ومن هذه القوة إعلان الرأي في ثبات لا يعرف التغيير أو التلون؛ بسبب محاباة أو تحامل؛ لأن هدفه نشر دعوته الحقة المؤيدة بالدليل، وهي محفوظة لا تتغير، ولكنها تغير وتصلح وتعلي، فإظهارها على وجهتها وبشكل مرن هو المطلوب، مهما كان الحال أو الموقف أو القوم، ولا عليه ما دام يتجرد في هدفه ويبعد عن الدعوة أي أثر شخصي محتمل، وللداعية أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أعلن كلمة الله وهو وحده وسط قوم كافرين بها ومعارضين لها، ومع ذلك لم يبال بأعمالهم، لجئوا للتهديد والوعيد، فرد عليهم قائلا لعمه: "لن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه" 2، ولجئوا إلى محاولة إغرائه فكان ينتهز فرصة قربهم منه ويدعوهم إلى الله، وقاطعوه وقومه فذهب إلى غيرهم من القبائل يدعوهم، ولم يحدث أن غير الدعوة مع تغير الظروف واختلافها، بل كان العذاب الشديد يلحق به وببعض المسلمين، ومع ذلك كان يحث عل الصبر وينتظر الأمل، ويواصل دعوته؛ لأنها الحق، ولا بد أن تعلن. يقول الزمخشري في تفسيره: "إن المعنى: إن تجتهدوا في إقامة العدل حتى لا تجوروا، وتقيموا شهادتكم لوجه الله تعالى كما أمرتم بإقامتها، ولو كانت الشهادة على أنفسكم، أو آبائكم، أو أقاربكم، ولا تمنع الشهادة بسبب فقر أو غنى"3. وعلى الجملة، فإن الداعية إذا جمع الصفات السابقة فإنه يكون قد وضع نفسه في

_ 1 سورة الفرقان الآية 63. 2 سيرة النبي ج1 ص278. 3 تفسير الكشاف ج1 ص570.

الطريق المستقيم لدعوته، وحصن نفسه بأخلاق الألفة والريادة، ولا عليه بعد ذلك إلا أن يملك أفقا يمكنه من فهم الواقع ويستطيع به عرض دعوته على وجهها السليم.

الركيزة الرابعة الملاءمة: بين الدعوة والواقع

الركيزة الرابعة: الملاءمة بين الدعوة والواقع مرت الدعوة في مكة بمراحل متعددة تدور بين السرية في الدعوة، والجهر الخاص، والجهر العام، وكان لكل مرحلة ظروفها الذي حتم صورا معينة في أساليب ووسائل الدعوة. وحين ننظر إلى الدعوة في العصر الحديث، ونتأمل واقع العالم المعاصر، نرى أنفسنا أمام مجموعة من الحقائق، أهمها: أولا: يموج العالم بموجات عديدة، ومتعارضة في المذهب، والفكر، والسلوك. فمن الناحية الفكرية والمذهبية، نرى في كل دين أقلية تلتزم به، وأكثرية تدعيه وتطبق ما يعارضه، وتكتفي بمسميات لا مضمون لها. والذين يتمسكون بدينهم منقسمون إلى جماعات مختلفة كل منها يدعي الحق لنفسه فقط، ويرى أن ما عداه باطل، ولو كان هذا الانقسام في الفروع لهذا الأمر، لكنه كثيرا ما يكون في الأصول مع أنها واحدة لا تتنوع. ثانيا: تكتفي الدول الإسلامية برموز إسلامية على أساس أنها الإسلام، فتحافظ على الشعائر الدينية؛ كالصلاة، والصوم، والحج، وتنظم الأحوال الشخصية؛ كالزواج، والطلاق، والميراث، وفق شرع الله تعالى، وتترك ما عدا ذلك لقوانين البشر التي وضعها الناس؛ لأنها تتصور أن تطبيق كافة أحكام الشريعة أمر مستحيل، أو يذهبون إلى عدم تقبل الناس لها.

ثالثا: سيطرت صورة الحياة الغربية القائمة على الفكر الوضعي على الاتجاهات الثقافية والفنية ومختلف جوانب الحياة الاجتماعية، وتقبل الجمهور ذلك وإن خالف تعاليم الإسلام مخالفة ظاهرة. رابعا: تعمل أجهزة التوجيه والتثقيف بعيدا عن قيم الإسلام غالبا؛ حيث ترى في أجهزة الإعلام الصور الخليعة، والمسلسلات الهابطة، والقصص والأفلام بمحتواها الضار؛ ولذلك أثره السيئ في التوجيه. خامسا: برزت طبقات في المجتمع الإسلامي تنسلخ عن الإسلام باسم التنوير والتجديد، وأصبح له صوت وأتباع، وهي ترحب بالفكر الوضعي، وتدافع عنه. سادسا: تمكن الغرب المسيحي القوي والغني من فرض أنماطه الحياتية على العالم الإسلامي الضعيف، ولم يجد المسلمون أمامهم إلا الخضوع للقوة التي تملك المال والصوت، وكل ما يحتاجه الضعفاء. وكل مخلص لإسلامه يجد نفسه أمام قوة ترقب عمله، وتحاول هدمه بأساليبها ودهائها. سابعا: يجد الدعاة أنفسهم تحت المراقبة الدقيقة لقوى العالم المختلفة؛ حيث تحلل كلماتهم، وتقرأ كتبهم، وتتابع حركاتهم وأعمالهم، بحيث لو رأوا خطرا في دعوتهم وعملهم، فإن التصدي لهم يأتي سريعا تحت مسميات عديدة تجعلهم في مصاف الذين يعتدون على حرية الآخرين. ثامنا: أَلِفَ العامة في المجتمع الإسلامي البعد عن تعاليم الإسلام، وجهلوا الإسلام كله، وصار علمهم بالأفلام والأغاني والأزياء والألعاب الرياضية هو اهتمامهم، وهو ثقافتهم. لقد راعني شباب وجدتهم يعرفون أسماء ومراكز اللاعبين في الأندية الأوربية وغيرها، وفي نفس الوقت لا يعرفون عن الإسلام إلا قليلا، وجدتهم فخورين بهذه المعرفة، غير عابئين بجهلهم أمور دينهم.

هذا هو الواقع.. بينما الدعوة حقيقة ربانية، حفظها الوحي، وصانتها قلوب قلة مؤمنة، وتحتاج إلى مَن يتحرك بها، ويبلغها للناس بالحسنى وبصورة محببة، وبمنهج يجعلها تفتح العقول والقلوب، بعيدا عن التصادم والعنف والعدوان. فهل يا ترى: يطبق الدعاة منهج المرحلة السرية بما فيها من التخير والانتقاء، وترك العلن، والاكتفاء بالاتصالات الفردية، حتى لا يحدث تعارض ومخالفة. أم يتبع الدعاة منهج الدعوة الجهرية الأولى بما فيها من الدعوة العلنية مع بقاء جمهور المسلمين في صمته، كل في عمله، لا يشعر بمسئوليته المباشرة تجاه الآخرين. أم نتبع منهج الجهر العام ليقوم كل مسلم بإعلان الإسلام، والدعوة إليه، وتحمل مسئولية تجاه دين الله تعالى؟ إن الأمر ليس بهذه البساطة التي يتصورها بعض الناس؛ لأنه يحتاج إلى دقة النظر، والتأمل في النتائج، وتحليل الموقف؛ لتكون الدعوة إلى الله متلائمة مع الواقع، ولتخذ الدعاة لكل حالة منهجها المناسب. فهناك حالات تحتاج إلى السرية، وأخرى يناسبها الجهر الخاص، وثالثة تحتاج إلى الجهر العام. والداعية هو صاحب القرار في ذلك.. وليكن قرار الداعية واضحا وهو يتخير الموضوع والوسيلة والأسلوب.. فمن ناحية اختيار موضوع الدعوة عليه تحديد ما يريد، وليركز على العقيدة؛ لأنها أساس الدعوة، وعليه أن يكون مع العقيدة ملتزما بقول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1.

_ 1 سورة العنكبوت الآية 46.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 1. وحين يتكلم في العقيدة، فإن من الأولى أن يبدأ بالأهم ثم المهم بعده، على ضوء ما يراه مناسبا لدينه، ولمن يدعوهم. إن غرس التوحيد في القلوب هو أساس العقيدة، وبعده يأتي إثبات الرسالة وأركان العقيدة كلها. وإذا ما اعتقد الإنسان أطاع كل ما يتفق مع عقيدته؛ لأن أساس البناء هو العقيدة. ولتكن الصورة البيانية الحسنى هي لباس العرض، وأسلوب الدعوة.. وعلى الداعية أن يدرك أن الدعوة السليمة لا تحتاج إلى السب واللعن، وليس منها العدوان، وسوء الخلق.. مع كافة المدعوين. وحين يختار الوسيلة فعليه أن يجعلها مناسبة للناس، فمع العلماء يكون الكتاب والمحاضرة والندوة.. ومع متوسطي الثقافة تكون الصحيفة والبرامج التوجيهية.. ومع العامة يكون الجدل، والحوار، والمقارنة ... وهكذا. ومع الأسلوب عليه أن يعود للقرآن الكريم يأخذ منه، فلقد كان القرآن الكريم يخاطب بأسلوبه الكفار والمنافقين والمؤمنين، ويناقش الملأ والفقراء، ويتحدث إلى الرجال والنساء، والكبار والصغار ... وهكذا. ولذلك كانت الملاءمة بين الدعوة والواقع ضرورة أساسية لنجاح الدعوة. إن العقيدة أساس البناء، وغرسها في القلوب مهمة الدعاة.. وليكن معلوما للجميع أن الشريعة تأتي تابعة للعقيدة الصحيحة بصورة تلقائية.

_ 1 سورة آل عمران الآية 64.

الركيزة الخامسة: إدراك مسئولية الدعوة

الركيزة الخامسة: إدراك مسئولية الدعوة بمراجعة تاريخ الدعوات الإلهية منذ آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم نلمس ضخامة الجهد المبذول، والمعاناة التي بذلها الأنبياء لأداء الأمانة التي تحملوها في سبيل الله تعالى. ولذلك نشير إلى ضرورة إدراك هذه الحقيقة؛ ليقوم الجميع بما يجب عليه إزاء الدعوة. إن الدعوة إلى الله تحتاج إلى إخلاص المسلمين جميعا، وخير للدعوة أن تتكاتف الأمة كلها في هذا المجال. لقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم بالدعوة، ويقوم معه كل من يدخل في الإسلام؛ ولذلك أخذت الدعوة الصورة الجماعية منذ الجهر بها، ولم يحدث مرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في اتجاه، وكان المسلمون في اتجاه آخر، ورأينا -كذلك- المسلمين وهم يدعون إلى الله في صورة تقرب الناس إليهم، وتعرفهم الإسلام برفق وهدوء، وتدعو إلى الله بالحسنى والخلق الجميل. ورأينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم الضعف والقلة يقومون بالدعوة ويضيفون للإسلام أتباعا مؤمنين صادقين، فلقد أدخل مصعب بن عمير الإسلام في كل بيوت المدينة، وعاش جعفر بن أبي طالب في الحبشة داعيا محبوبا بين غير المسلمين. وليس من فقه الدعوة أن يخاطب الناس بما ينفرهم من دين الله تعالى، فلقد علمنا الله أن نقول لأهل الكتاب {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} ونقول لهم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِين} .

وليس من فقه الدعوة أن يصطدم الدعاة مع المسئولين، عن طريق التشهير، ونشر النقد بصوت مسموع؛ لأن كثيرا من المسئولين يحتاجون إلى النصح الهادئ، والكلمة الصادقة يسمعونها بخلق الإسلام، وسلوك المؤمنين. وليس من فقه الدعوة أن يتفرق الدعاة إلى شيع وفرق؛ لأن ضرر هذا أكثر من نفعه، وكيف يتصور الدعاة أنهم ينادون للتوحيد، وهم ينقسمون حتى يتخيل الناس أن لكل جماعة دعوة، وأن لكل فريق إله. إن أصحاب الهوى والغرض أفسدوا ما بين الدعاة والحكام، فانقسم العالم الإسلامي على نفسه، وأصبح صراعه مع ذاته، وخير للإسلام أن يكون الأمر على غير هذا النمط. إن من فقه الدعوة أن يكون العلماء والأمراء معا في طريق واحد، لغاية واحدة، وبخاصة أنهم جميعا في الأمة الإسلامية يعملون لله ورسوله. وإني لعلى يقين من أن العلماء إذا تمكنوا من عرض الإسلام بصورته النقية الصحيحة، بعيدا عن التشنجات المذهبية، والعصبية الفكرية، فإنهم سيحققون به ومعه نهضة إسلامية تفيد العالم كله. إن ملامح الخطاب الديني الإسلامي يقوم على الأسس التالية: أولا: أن يكون محدد الموضوع، واضح الهدف، في إطار المشروعية الإسلامية. ثانيا: الالتزام بشرف الوسيلة، وحسن الأسلوب، وجمال الطلب. ثالثا: مراعاة حق المخاطب في الفهم، والمناقشة، وحرية اتخاذ ما يرى. رابعا: ضرورة الالتزام بالمرجعية الإسلامية بمصادرها المعروفة في كل جوانب عملية الدعوة. ولكل هذا كان إدراك مسئولية الدعوة، والوقوف على أبعاد هذه المسئولية ضرورة هامة لنجاح الدعوة إلى الله تعالى.

الركيزة السادسة: دور المرأة المسلمة في الدعوة

الركيزة السادسة: دور المرأة المسلمة في الدعوة المرأة نصف المجتمع، أكرمها الله تعالى، وجعلها من الرجل، ومعه {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فتحقق لها بالإسلام الحقوق التي كانت محرومة منها. وقد كلف الله تعالى المرأة بالإسلام، وحدد لها دورها في إطار أسرة كريمة، وفي حركة مجتمع طاهر، ولعل ما نشير إليه هنا دورها في حركة الدعوة إلى الله تعالى، فالمرأة هي أم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي أرضعته، ونشأته وأشرفت على تربيته. وهي زوجة الرسول، آمنت به، وصدقت برسالته، وأغنته بمالها، ويسرت له الطريق بأمر الله تعالى، فكانت خير عون على تبليغ الرسالة. لقد كانت خديجة رضي الله عنها بأمر الله خير معين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تتبع خبره، وتطمئن عليه، وتسعى لتعرف حقيقة ما كان يراه الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ بعثته صلى الله عليه وسلم. ولقد شاركت المرأة العربية في مكة في حركة الدعوة منذ البداية.. وها هي زوجة عمار، تتحمل الأذى في سبيل الله تعالى، وتقبل الموت راضية مرضية؛ لتصير أول شهيدة في الإسلام. وهناك عدد من السابقات إلى الإسلام، منهن من هاجر إلى الحبشة، ومنهن من هاجرت إلى المدينة، ومنهن من بقيت صامدة في مكة. وقد اشتركت امرآتان في بيعة العقبة الثانية، وبايعتا رسول الله بيعة الحرب، وصدقتا في بيعتهما، فلقد سقطت أم عمارة جريحة في غزوة أحد، وفي جسدها اثنا عشر جرحًا. وتلك إشارات تؤكد دور المرأة في حركة الدعوة إلى الله تعالى، ويجب على المسلمين تنشئة بناتهم على الإيمان الصادق، وحب الدعوة إلى الله، ومداومة الأمر

بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لتكون المرأة هي المدرسة الصالحة لتخريج جيل صالح مؤمن. والمرأة في العصر الحديث يمكنها أن تؤدي للدعوة خدمات جليلة عن طريق أبنائها وبناتها، ويمكن أن تحيط أسرتها بسياج يحميها من أي فساد في الخلق والسلوك. ويمكن للمرأة المسلمة أن تحول بيتها إلى مركز للإشعاع والخير لأولدها ولجاراتها وصديقاتها، فتسفيد بأوقات الفراغ في مدارسة فكرة دينية، أو حفظ آية قرآنية، أو قراءة حديث نبوي شريف. إن المرأة المسلمة يمكنها عن طريق الاشتراك في الجمعيات الخيرية والوطنية من تقديم الإسلام عمليا لأخواتها، وبذلك تكون سببا في تعليم الإسلام للناس. إن الفراغ عند المرأة كثير، وبدل أن يضيع في متابعة الأفلام، والمسلسلات، والجلوس الطويل أمام التليفزيون، يمكنها أن تحول بيتها إلى مدرسة صغيرة، تتلى فيه آيات الله والحكمة، وذلك فضل يوفق الله من يشاء من عباده له. إن الإسلام لم يقف حائلا أمام المرأة أبدا، فهي نصف المجتمع، وأمها وأخواتها وبناتها وصديقاتها وجيرانها في حاجة إليها. ويوم أن تقوم المرأة المسلمة بواجبها فإنها تقدم عملا عظيما للمجتمع وللناس. ولم يبخل الإسلام على المرأة بعلم أو تعليم، فطلبها العلم فريضة كطلب الرجل له، وقيامها بالتدريس والدعوة أمر مقرر في دين الله تعالى، وها هي السيدة عائشة رضي الله عنها تروي الأحاديث لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وكانت مصدر فتوى للمسلمين، ولقد شاركت في الحياة العامة والأنشطة العملية. ومن هنا نؤكد على ضرورة اشتراك المرأة المسلمة في حركة الدعوة استنباطا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحركته بالدعوة إلى الله تعالى.

الخاتمة

الخاتمة: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله. وبعد،،، فلقد انتهيت من كتابة المرحلة المكية، ووقفت بها عند بدايات الهجرة؛ لأنني أرى الهجرة بداية المرحلة المدنية. وحاولت أن أكتب السيرة النبوية بالتفصيل لأعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وأوصافه وشمائله؛ لأحقق أملًا عشته طويلًا، وعشت مع حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة وهو ينتقل بها بين القبائل والأماكن العديدة، لأرى منهجية العمل لخدمة الإسلام، ونفع الناس أجمعين. ثم كانت أهم الركائز التي استنبطتها من السيرة النبوية، والحركة بالدعوة خلال هذه الفترة. وآمل.. أن يكون كتابي هذا مفيدا في السيرة والدعوة، ومرجعا للمسلم العادي، وللدارس المثقف، والعالم المجتهد. وأعتذر عن كل تقصير وقع مني؛ لأن التقصير من لوازم أي عمل بشري.. وأسأل اله تعالى أن يتقبل هذا العمل خالصًا لوجهه سبحانه وتعالى، وأن يجعله لي في الدنيا ذكرى، وفي الآخرة نورًا وذخرًا، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.. المؤلف

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: رقم الصفحة الموضوع 7 المقدمة الفصل الأول: الواقع العالمي قبيل مجيء الإسلام 27 التمهيد المبحث الأول "العرب" 28 جغرافية بلاد العرب 32 الأوضاع السياسية والاجتماعية 41 أوضاع العرب الدينية المبحث الثاني "الروم" 56 جغرافية الدولة الرومانية 59 الأوضاع السياسية والاجتماعية للرومان 65 الأوضاع الدينية للرومان المبحث الثالث "الفرس" 71 جغرافية الفرس 72 الأوضاع السياسية والاجتماعية 75 أوضاع الفرس الدينية المبحث الرابع "الهنود" 78 الموطن الجغرافي 80 الأوضاع السياسية والاجتماعية 83 الأوضاع الدينية

رقم الصفحة الموضوع المبحث الثاني: ملازمة الواقع العالمي للحركة بالإسلام 87 1- شيوخ الضلال الديني 92 2- هوان الإنسان 93 3- سهولة التواصل 95 4- تعدد الصراع 98 5- النضح الفكري 103 6- انتظار رسول جديد الفصل الثاني: السيرة النبوية من الميلاد إلى الهجرة 109 التمهيد المبحث الأول "النسب الشريف" 127 المسألة الأولى: أصالة النسب 133 المسألة الثانية: بعد الآباء عن الشرك 144 المسألة الثالثة: صلة بني هاشم بسائر العرب المبحث الثاني "إرهاصات الميلاد" 153 الإرهاصات ومناقشة الآراء حولها المبحث الثالث 171 ميلاد اليتيم محمد صلى الله عليه وسلم المبحث الرابع 184 محمد صلى الله عليه وسلم في ديار بني سعد

رقم الصفحة الموضوع المبحث الخامس 193 شق صدره صلى الله عليه وسلم المبحث السادس 202 محمد صلى الله عليه وسلم في مرحلة الصبا 203 - عناية عبد المطلب بحفيده 206 - عناية أبي طالب بابن أخيه 208 - الرحلة الأولى إلى الشام "مقابلة بحيرى" 215 - رعي الغنم 221 - حرب الفجار 228 - حلف الفضول 233 - الرحلة الثانية إلى الشام "التجارة لخديجة" المبحث السابع 237 الزواج بخديجة رضي الله عنها المبحث الثامن 243 بناء الكعبة 254 بناء عبد الله بن الزبير للكعبة 257 الكعبة والمسجد الحرام المبحث التاسع: المقدمات العملية للبعثة النبوية 261 أولا: كثرة المبشرات 270 ثانيا: انتشار العلم بخاتم النبوة 274 ثالثا: منع الجن من الاستماع

رقم الصفحة الموضوع 281 رابعا: تكامل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم 282 1- سمو السلوك 286 2- جمال الخلقة 291 3- عظمة الخلق 297 4- حلاوة المنطق 298 5- كمال العقل 300 خامسا: تحبيب الخلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم المبحث العاشر 309 بداية الوحي 311 1- الرؤيا الصادقة 314 2- ندءات الملائكة 316 3-كلام الشجر والحجر 317 4- لقاء الملائكة 319 5- مجيء جبريل بالقرآن 324 فتور الوحي المبحث الحادي عشر: تواصل الوحي 326 صور الوحي المبحث الثاني عشر: السيرة المحمدية من الرسالة حتى الهجرة 336 تمهيد

رقم الصفحة الموضوع 336 أولا: المرحلة السرية والسابقون إلى الإسلام 339 ثانيا: صلته بأعمامه في المرحلة السرية 342 ثالثا: مرحلة الجهر بالدعوة ومواجهة المتاعب 342 1- السؤال عن صدقه صلى الله عليه وسلم 343 2- موقف أبي لهب وزوجته 344 3- السخرية والاستهزاء 346 4- بث الدعاية الكاذبة 348 5- مساومات وتخليط 349 6- الاضطهاد البدني 352 7- محاولة قتل محمد صلى الله عليه وسلم 355 8- نتائج الاضطهاد 359 9- أبو طالب يحتاط لابن أخيه 360 10- المقاطعة العامة المبحث الثالث عشر 361 عام الحزن 363 الاستعانة بغير أهل مكة 363 المحاولة الأولى 365 المحاولة الثانية المبحث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها 371 أولا: سودة بنت زمعة 374 ثانيا: عائشة بنت أبي بكر

رقم الصفحة الموضوع 376 ثالثا: أم حبيبة بنت أبي سفيان المبحث الخامس عشر: تتابع مجيء نصر الله 377 النصر الأول "إسلام عداس" 378 النصر الثاني "إسلام الجن" 379 النصر الثالث "إجارة المطعم بن عدي" 381 النصر الرابع "أضواء وسط ظلام القبائل" 381 - إسلام سويد بن الصامت رضي الله عنه 381 - إسلام إياس بن معاذ رضي الله عنه 382 - إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه 383 - إسلام الطفيل بن عمرو رضي الله عنه 384 - إسلام ضماد الأزدي رضي الله عنه 385 النصر الخامس "الإسراء والمعراج" 385 1- مفهوم الإسراء والمعراج 385 2- ثبوت الإسراء والمعراج 391 - رواة حديث الإسراء 392 - الزيادات عن رواية حديث أنس 397 - التعارض في أحاديث الإسراء 399 - فك تعارض الأحاديث 400 3- كيفية وقوع الإسراء والمعراج 400 - مناقشة الآراء 404 - التوفيق ورد الاختلاف

رقم الصفحة الموضوع 405 النصر السادس "إسلام الأنصار" 405 اللقاء الأول 407 بيعة العقبة الأولى 409 بيعة العقبة الثانية الفصل الثالث: حركة النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى 419 التمهيد 421 المبحث الأول: تحديد مفاهيم الحركة بالدعوة 421 أولا: مناهج الدعوة 423 ثانيا: المضمون الفكري للحركة 427 ثالثا: أسلوب الدعوة 436 رابعا: وسائل الدعوة 441 خامسا، وسادسا: الداعي والمدعو 442 المبحث الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة خلال المرحلة السرية 443 أولا: الدعوة إلى العقيدة 446 ثانيا: الاتصال الفردي 448 ثالثا: تخير المدعوين 449 رابعا: تجنب ضلالات القوم 450 خامسا: دعوة الأقربين 451 سادسا: إسلام الضعفاء 452 سابعا: الاكتفاء بأهل مكة ومن يأتيها

رقم الصفحة الموضوع 456 ثامنا: التخفي في العبادة والتوجيه 458 تاسعا: حمل المسلمين مسئولية الدعوة المبحث الثالث 463 الوسائل والأساليب خلال المرحلة السرية المبحث الرابع 464 المسلمون خلال المرحلة السرية المبحث الخامس 468 المرحلة الأولى للجهر بالدعوة 481 إسلام حمزة 482 إسلام عمر بن الخطاب المبحث السادس 487 مرحلة الجهر العام بالدعوة المبحث السابع: الحركة بالدعوة خلال مرحلة الجهر العام ووسائل الدعوة 489 المسألة الأولى: تنوع وسائل الدعوة 489 أولا: الاتصال بصوره المختلفة 496 ثانيا: الدعوة بالحوار والمفاوضة 499 ثالثا: الدعوة بالانتقال إلى القبائل 500 رابعا: الدعوة بمقابلة الوفود 503 خامسا: الدعوة بإرسال الرسائل

رقم الصفحة الموضوع 507 سادسا: الدعوة بالعمل والتطبيق 508 سابعا: الاستفادة من عادات المجتمع الجاهلي المسألة الثانية: أساليب الدعوة 510 أساليب البلاغة القرآنية 519 1- التصوير الحسي بالكلمات 521 2- التصوير بالتشبيه 522 3- التصوير بضرب المثل 524 4- التصوير القصصي 529 5- التشويق والإثارة 531 6- التصوير الصوتي بالترتيل 533 7- إظهار عوامل الطاعة المبحث الثامن: توافق الأسلوب والموضوع 534 في مجال العقيدة 537 في مجال العبادة 357 في مجال المعاملات المبحث التاسع: مواجهة عدوان الكفار 539 محاولات الكفار في إيقاف حركة الدعوة

رقم الصفحة الموضوع 545 مواجهة محاولات الكفار 546 أولا: تقوية إيمان المعذبين 547 ثانيا: تحرير الأرقاء 549 ثالثا: هجرة المسلمين إلى الحبشة 551 رابعا: انتهاء المقاطعة المبحث العاشر 556 استمرار الحركة بالدعوة المبحث الحادي عشر 560 المسلمون في نهاية المرحلة المكية الفصل الرابع: الركائز المستفادة من المرحلة المكية 563 تمهيد 564 الركيزة الأولى "المعرفة الشاملة للمدعوين" 570 الركيزة الثانية "دور الداعية بين الله والناس" 573 أولا: توثيق صلته بالله 580 ثانيا: توثيق ارتباطه بالناس 582 الركيزة الثالثة "صفات الدعاة" 583 أولا: صفات التكامل الذاتي 584 1- الصدق 586 2- الأمانة 586 3- الإخلاص 587 4- الذكاء

رقم الصفحة الموضوع 590 ثانيا: صفات الترابط والمودة 590 1- الحلم 592 2- التواضع 594 3- القناعة 595 4- الكرم 596 ثالثا: صفات الريادة والتوجيه 596 1- المشاركة الوجدانية 600 2- القوة والعزة 604 الركيزة الرابعة "الملاءمة بين الدعوة والواقع" 608 الركيزة الخامسة "إدراك مسئولية الدعوة" 610 الركيزة السادسة "دور المرأة المسلمة في الدعوة" 612 الخاتمة 615 فهرس الموضوعات وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

§1/1