السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي

عبد الشافى محمد عبد اللطيف

بحوث في السيرة النبوية والتأريخ الإسلامي

[بحوث في السيرة النبوية والتأريخ الإسلامي] بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد: فهذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم يحتوي على مجموعة من البحوث في السيرة النبوية المطهرة، والتاريخ والفكر الإسلامي، أعدت بصورة مركّزة وبقراءة ورؤية جديدة لموضوعاتها، بعضها نشر في مجلات علمية، وبعضها ألقي في ندوات ومؤتمرات علمية محلية ودولية. ونظرا لأنها مبعثرة في العديد من المجلات وأعمال الندوات فقد رأيت- وأرجو أن أكون على صواب- أنّ جمعها. في كتاب واحد قد يكون أكثر فائدة للعلم والمعرفة. وقد ظهرت هذه البحوث على فترات زمنية متباعدة، تزيد على ربع قرن من الزمان، وقد اقتضت طبيعة ترتيبها في هذا الكتاب ألّا نقتفي أثر ظهورها زمنيّا، فقد اختلف الترتيب هنا، وروعي فيه قرب البحوث من بعضها موضوعيّا بقدر الإمكان. وقد بدأتها هنا بالبحث الذي يحمل عنوان: «أوائل المؤلفين في السيرة النبوية» وهو آخرها ظهورا فقد نشر في العام الماضي (1426 هـ/ 2005 م) . وكان استهلالا طيبا ومباركا؛ لأنه يتحدث عن بداية التفكير في تدوين أحداث السيرة النبوية المطهرة، واهتمام الصحابة رضى الله عنهم والتابعين بها، فهي خير ما يجب أن يتدارسه المسلمون، ويعنى به الباحثون، ففيها ما ينشده المسلم طالب الكمال في الدين والدنيا، فهي المدرسة النبوية التي تخرج فيها أعظم النماذج البشرية، والجيل الفريد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فكان منهم الخليفة الراشد، والقائد الفذ، والبطل الفاتح، والسياسي الحصيف، والفقيه الكبير، والإداري القدير، والتاجر الناجح، والزارع، والصناع؛ الذين يؤمنون بأن العمل عبادة، بل كان منهم المحتطب الذي يرى في الاحتطاب عملا شريفا يرفع عنه ذل السؤال، لكل هذا- وغيره كثير- كان اهتمام المسلمين بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلم منذ عصر الصحابة والتابعين وإلى يوم الناس

هذا، وسيظل إلى أن تنتهي الحياة على هذه الأرض؛ لأنهم بهرتهم أعمال الرسول صلّى الله عليه وسلم وجهاده وقدرته الفائقة على العمل والبناء وتعمير الحياة. ففي غضون عقدين من الزمان تقريبا بلّغ الرسالة الإسلامية العالمية الخالدة وأدّى الأمانة، وأسس دولة وأنشأ حضارة، ووحّد أمة وربّاها على الخلق القويم وهيأها لتفتح معظم العالم المعمور آنئذ وتملأه عدلا ورحمة وبرّا وسماحة. فكان علينا أن ننوه بفضل وجهود العلماء الذين أسدوا لنا هذه المكرمة الجليلة، ونقلوا لنا سيرة رسولنا صلّى الله عليه وسلم موثقة غاية التوثيق، مما سيراه القارئ الكريم في ثنايا البحث. البحث الثاني: وعنوانه: «صدى الدعوة في مدن الحجاز- غير مكة- كالطائف والمدينة» وقد ألقي في الندوة العالمية الثالثة لتاريخ شبه الجزيرة العربية «عصر الرسول والخلفاء الراشدين» التي نظمتها جامعة الملك سعود بالرياض بالمملكة العربية السعودية في الفترة من (15- 21 محرم 1404 هـ/ 21- 27 أكتوبر 1983 م) . وطبع في أعمال تلك الندوة وقد عنيت في هذا البحث ببيان الحالة الدينية في شبه جزيرة العرب بصفة عامة، وفي الحجاز بصفة خاصة قبل ظهور الإسلام، ثم وضحت موقف أهل الطائف- قبيلة ثقيف- من الدعوة الإسلامية، والأسباب التي جعلتهم يقفون ذلك الموقف العدائي من الرسول صلّى الله عليه وسلم- وبصفة خاصة عندما ذهب إليهم في ديارهم- فحتى بعد أن فتحت مكة المكرمة وأسلم أهلها، ظل أهل الطائف على عنادهم ما يقرب من عام قبل أن يعلنوا إسلامهم. ثم بيّنت موقف أهل يثرب- المدينة المنورة- الأوس والخزرج من الدعوة الإسلامية، وأسباب التحول الذي حدث في موقفهم، وجعلهم يقتربون من النبي صلّى الله عليه وسلم، ويؤمنون به ويبايعونه على نصرته ويستقبلونه في بلدهم، ويضحون من أجل دعوته بأنفسهم وأموالهم، ووضّحت أثر اليهود في هذا التحول. البحث الثالث: وعنوانه: «العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر» وقد نشر في مجلة كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. العدد الرابع سنة (1400 هـ/ 1980 م) . في هذا البحث وضحت الخطوط الرئيسية لسياسة الرسول صلّى الله عليه وسلم بعد الهجرة نحو قريش، عدوه الرئيسي في تلك المرحلة، وأبرزت النشاط العسكري والسياسي الذي بذله صلّى الله عليه وسلم في تلك الفترة

القصيرة- نحو عام ونصف- وظهر لي أن هدف هذه السياسة هو محاصرة قريش التي ما فتئت تلاحق المسلمين في مهاجرهم، وتكيد لهم، وتؤلب عليهم مشركي يثرب ويهودها. أقول: محاصرة قريش لا بهدف إهلاكها؛ بل بهدف ترويضها وحملها على تغيير موقفها من الدعوة الإسلامية، فكثف من حملاته العسكرية- خرجت من المدينة فيما بين الهجرة وبدر ثمان حملات عسكرية أربع غزوات وأربع سرايا- وكان الهدف هو تحييد القبائل القاطنة في المنطقة الساحلية الواقعة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، مثل: خزاعة وجهينة وضمرة ... إلخ؛ لأن هذه القبائل كان لها بقريش علاقات وطيدة، لكن النبي صلّى الله عليه وسلم نجح في الارتباط معها بعدد من المعاهدات كان لها أثر كبير حين حان اللقاء الحاسم في بدر الكبرى. البحث الرابع: وعنوانه: «العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك» . في هذا البحث نوّهت بالعلاقات بين المسلمين والروم في العهد المكي من الدعوة الإسلامية، ووضحت أن المسلمين أظهروا نحو الروم ودّا واضحا أثناء حربهم مع الفرس وتعاطفوا معهم؛ لأنهم أهل كتاب، وأحزنهم أن الفرس كانوا منتصرين على الروم في البداية، ولكن الله سبحانه وتعالى طمأنهم في صدر سورة الروم أن النصر سيكون حليف الروم في النهاية ويومئذ سيفرح المؤمنون بنصر الله. وهذا يؤكد أن الإسلام من خلال نصوص القرآن الكريم كان يود أن تقوم بين المسلمين والروم علاقات وديّة، لا بين المسلمين والروم فحسب بل بين المسلمين وأهل الكتاب على وجه الإجمال؛ والدليل على ذلك: أن الرسول- عليه الصلاة والسلام- حين نصح بعض أصحابه أن يهاجروا من مكة فرارا من اضطهاد أهلها لهم، سألوه: إلى أين يا رسول الله؟ قال صلّى الله عليه وسلم: «إلى الحبشة» ، فسألوه مرة أخرى: ولماذا الحبشة؟ قال: «لأنها بلاد صدق وفيها ملك لا يظلم عنده أحد» وهذا الملك كما هو معروف كان مسيحيّا وهو النجاشي. فإذا أضفنا إلى ذلك الرسائل السلمية الودية التي أرسلها النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الإمبراطور هرقل، إمبراطور الروم وأكبر عاهل مسيحي على وجه الأرض في ذلك الزمان؛ تأكد لنا مرة أخرى أن الإسلام كان ينشد إقامة علاقات ود وحسن جوار مع الروم وكل أهل الكتاب، وكان من المفترض أن يحدث ذلك، لكن الذي حدث هو

العكس؛ الصدام والعداء، وسيرى القارئ الكريم من خلال هذا البحث- وغيره من البحوث- على من تقع مسؤولية ذلك الصدام وذلك العداء. البحث الخامس: وعنوانه: «الإدارة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم» ، وقد ألقي في الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، في الموسم الثقافي (1982- 1983 م) وكان ردّا على محاضرة ألقاها في نفس الموسم الأستاذ الدكتور حسين مؤنس- رحمه الله تعالى- فاجأ الحاضرين وقتها بأفكار غريبة غاية الغرابة، وشاذة غاية الشذوذ عما تعارف عليه المسلمون عبر أربعة عشر قرنا من الزمان، حيث أنكر أن يكون الرسول- عليه الصلاة والسلام- قد أقام دولة إسلامية في المدينة بعد الهجرة، وادعى أن الإسلام لا يدعو إلى إقامة دولة، وكل ما عمله الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة هو بناء مجتمع إسلامي، ولا أدري كيف يكون هناك مجتمع بدون حكومة ودولة؟!. على كل حال قوبل هذا الرأي الغريب بإنكار واستنكار شديدين من جميع الحاضرين، وتصدّى للأستاذ المحاضر الدكتور عبد العزيز صالح أستاذ التاريخ القديم بجامعة القاهرة رحمه الله وفنّد كل ما أدلى به الدكتور حسين مؤنس من آراء وحجج، ثم طلب مني أن أعد بحثا للرد على هذا فكان هذا البحث الذي أكدت فيه من خلال نصوص القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم وتصرفاته العملية أن الإسلام دين ودولة، وأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- قد أقام هذه الدولة في المدينة المنورة، وأنه كان يباشر كل مهمات رئيس الدولة، وفي غضون السنوات العشر التي أقامها في المدينة اكتملت لدولته كل مقومات الدولة وأجهزتها ومؤسساتها الدفاعية والأمنية والإدارية والإعلامية ... إلخ. وقد نشر هذا البحث في مجلد ضم المحاضرات التي ألقيت في الجمعية من (1978- 1983 م) . البحث السادس: وعنوانه: «دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم» وقد نشر في مجلة كلية العلوم الاجتماعية بالرياض- سبق ذكرها- في العدد الثاني سنة (1398 هـ- 1978 م) ، وهذا البحث يختلف في مضمونه وهدفه عن البحث السابق؛ فالبحث السابق يتحدث عن البنية الداخلية للدولة الإسلامية، وهذا البحث يتحدث عن علاقاتها الخارجية، منطلقا من أن الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، والدولة الإسلامية التي قامت على أساس الشريعة الإسلامية

لا بدّ أن تكون لها علاقات مع غيرها من الدول غير الإسلامية، وأن تكون لهذه العلاقات أسس وقواعد ثابتة، وأهم تلك الأسس والقواعد: أن علاقات المسلمين بغيرهم تقوم على السلام؛ فالسلام هو الأصل، وأن كل عهد أن اتفاق يتم بين المسلمين وغيرهم لا بدّ من الوفاء به وفاء تامّا. وسيرى القارئ من خلال هذا البحث كيف صاغت الدولة الإسلامية علاقاتها الخارجية منذ عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم. البحث السابع: وهو البحث الأول من مجموعة التاريخ وعنوانه: «قراءة تاريخية جديدة في موقف عمر بن الخطاب رضى الله عنه من الفتوحات الإسلامية» وقد ألقي في سيمنار التاريخ الإسلامي في كلية الآداب جامعة عين شمس في الموسم الثقافي لقسم التاريخ بها سنة (1993/ 1994 م) . ثم نشر في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة، العدد الثالث عشر سنة (1415 هـ/ 1995 م) . وهذا البحث كما سيرى القارئ الكريم كان ردّا على ما قاله بعض أساتذة التاريخ في ندوة لاتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة في نوفمبر سنة (1993 م) عن الفتوحات الإسلامية، وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالذات وتوجيهه لتلك الفتوحات، وأنه كان رجلا ارتجاليّا يتخذ قراراته بدون تمحيص، وبصفة خاصة في موقفه من إنشاء أسطول إسلامي يحمي شواطئ المسلمين من هجمات أعدائهم، حيث كان يجهل أمر البحر، الأمر الذي جعله يحظر إنشاء أساطيل إسلامية- هكذا فهم أستاذ التاريخ- وقد أدهشني أن بعض أساتذة التاريخ بعد كل تلك القرون يجهل أسباب وأهداف الفتوحات الإسلامية، ويتهم عمر بن الخطاب بالجهل، ولما كان هذا الرأي غريبا فقد استنكره كثيرون غيري، ثم طلب منّي أحد أساتذة التاريخ في كلية الآداب بجامعة عين شمس أن أعد بحثا لتوضيح هذه الأمور فكان هذا البحث. البحث الثامن: وعنوانه: «دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية» هذا البحث نشر في كتاب تذكاري أصدره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة سنة (1424 هـ/ 2003 م) بمناسبة مرور أربعة عشر قرنا على الفتح الإسلامي لمصر، وقد أبرزت فيه دور المصريين المسيحيين في إنشاء الأساطيل البحرية الإسلامية- عندما دعت الضرورة إلى ذلك؛ لأنهم أصحاب خبرة طويلة وعميقة في صناعة السفن الحربية، ولم يقتصر دور المصريين على صناعة السفن للأسطول المصري، بل وقع عليهم عبء بناء أساطيل الشام وشمال إفريقيا، وقد قاموا بهذا

العمل العظيم بكل اقتدار وأمانة وإخلاص؛ لأنهم وجدوا من الدولة الإسلامية كل تقدير واحترام وتسامح وسخاء في الأجور والمرتبات. البحث التاسع: وعنوانه: «الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك» ألقي هذا البحث في ندوة عقدت في رحاب جامعة الأزهر عن الإسلام في آسيا الوسطى. وفيه ألقيت الضوء على أحوال سكان تلك البلاد قبل الفتح الإسلامي لها، ثم على أسباب ودوافع ذلك الفتح، والجهود التي بذلها المسلمون في انتشار الإسلام، وكيف تحولت تلك البلاد من الوثنية إلى الإسلام، بل وتحمست له وتولت نشره فيما جاورها من بلاد- مثل الصين- وكيف رسخ الإسلام في تلك البلاد رسوخ الجبال، وأصبحت من أهم مراكز الحضارة الإسلامية، ومنها خرج أعظم علماء المسلمين في شتّى العلوم. البحث العاشر: وعنوانه: «تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين» وقد ألقي في الندوة العلمية التي عقدت في رحاب جامعة فلورنسا بإيطاليا بالاشتراك مع جامعة الأزهر (في المحرم 1418 هـ/ مايو 1997 م) تحت عنوان: «الإسلام وأوربا ثلاثة عشر قرنا من التاريخ المشترك» وجاءت محاولة من المحاولات الكثيرة التي تبذل في هذه الأيام للتقريب بين العالمين الإسلامي والمسيحي، وإزالة الجفاء وسوء الفهم لمصلحة الجميع. وقد أسهمت في تلك الندوة بهذا البحث الذي قامت فكرته الأساسية على أن العلاقات بين المسلمين والبيزنطيين لم تكن دائما علاقات حروب وصدامات على الحدود، بل قامت بينهم علاقات متنوعة من الود وتبادل المنافع والخبرات في شتّى المجالات، وتبادل الوفود والهدايا والمجاملات في كثير من المناسبات. البحث الحادي عشر: وعنوانه: «الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس» أعد هذا البحث ليلقى في المؤتمر الدولي الذي نظمته رابطة الجامعات الإسلامية بالتعاون مع معهد الفتح بدمشق، وكلية الدراسات الأندلسية بغرناطة بأسبانيا. والذي عقد في غرناطة في نهاية سنة (2003 م) تحت عنوان: «أثر الحضارة الإسلامية في الغرب ودور أسبانيا في نقلها» وهذا المؤتمر كسابقه جرى في سياق تحسين العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وبعث الصفحات المشرقة في تاريخ تلك العلاقات.

ومع أني لم أتمكن من حضور ذلك المؤتمر؛ فقد قدمت ذلك البحث للجنة المنظمة، وفيه ألقيت الضوء على الدور العظيم الذي قام به الأمويون- من خلال دولتهم في الأندلس- في نقل الحضارة الإسلامية من المشرق الإسلامي إلى الأندلس، التي نقلتها بدورها إلى بقية بلاد أوربا، التي بنت عليها نهضتها وحضارتها الحاضرة. البحث الثاني عشر: وعنوانه: «واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة» وقد ألقي في الملتقى الدولي الذي نظمه المعهد الوطني للتعليم العالي والحضارة الإسلامية في وهران بالجمهورية الجزائرية في الفترة من (2- 4 شعبان 1419 هـ/ 21- 23 نوفمبر 1998 م) تحت عنوان: «الإسلام والدراسات المستقبلية» ونشر في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة العدد السابع عشر سنة (1419 هـ/ 1999 م) . وقد أسهمت بهذا البحث في ذلك الملتقى الذي لعله الأول من نوعه في العالم العربي؛ لأن العرب لم يتنبهوا إلى أهمية الدراسات المستقبلية إلا أخيرا، بعد أن سبقهم إليها غيرهم بزمن طويل- كالعادة- فالدراسات المستقبلية تنبه الأمم والشعوب إلى ما سيحدث في المستقبل ليستعدوا له ولا يفاجؤوا؛ لئلا يربكوا، ولا جدال في أن المسلمين فوجئوا بأحداث عالمية خطيرة أثرت في حاضرهم ومستقبلهم دون أن يكونوا مستعدين لذلك فحدث لهم ما لا يخفى على أحد. وفي هذا البحث تحدثت عن واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والمشكلات التي تواجهه، وطرق حلها إذا صحت النوايا وتوفرت الإرادة لدى أهل الحكم في البلاد العربية. البحث الثالث عشر والأخير: وعنوانه: «نشأة الاستشراق وتطوره إلى نهاية الحروب الصليبية» وقد ألقي في الملتقى الدولي الذي نظمته كلية العلوم الإنسانية والحضارة الإسلامية بجامعة وهران بالجزائر في إبريل سنة (2000 م) تحت عنوان: «الدراسات الاستشراقية- الخطاب والقراءة-» . وفي هذا البحث ألقيت الضوء على مفهوم الاستشراق ونشأته، ودوره- ما له وما عليه- في تقديم الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية إلى أبناء الشعوب الغربية، ودوره في صياغة العلاقات التاريخية بين العالمين: الإسلامي والمسيحي، وكيف يمكن أن تطور تلك الدراسات وتعدل بعض مساراتها لتسهم في صياغة علاقات أفضل بين عالمين لا غنى لأحدهما

عن التعامل والتعايش مع الآخر. هذا هو مجمل محتويات البحوث التي حواها هذا الكتاب. وقبل أن أنهي حديثي أريد أن أنبه إلى أمرين: الأول: أنني سجلت هذه البحوث في هذا الكتاب كما ظهرت كلّ في حينه دون حذف أو إضافة أو تعديل؛ لتحتفظ بالروح التي كتبت بها وتعكس أجواء الندوات والمؤتمرات التي ألقيت فيها. الأمر الثاني: أن القارئ الكريم قد يجد أن بعض القضايا والأفكار قد تكررت في أكثر من بحث؛ لأن سياق كل بحث على حدة اقتضى ذلك، فقضايا مثل عالمية الإسلام وانتشاره، وعلاقات المسلمين بغيرهم، والأسس التي قامت عليها- كان من الضروري أن تتكرر، وأنا لا أرى ضررا في ذلك؛ بل قد تكون فيه فائدة إن شاء الله تعالى؛ لأن هذه القضايا لا يزال بعض الناس يجادل فيها، فالتركيز عليها يعمق مفهومها، ويزيل سوء الفهم العالق ببعض الأذهان نحوها. وبعد؛ فما أردت من نشر هذه البحوث في هذا الكتاب إلا الخير للإسلام والمسلمين، بل للبشرية جمعاء، فإن كنت قد وفقت فالحمد والمنة لله تعالى وحده، وإلا فالعفو عنده مأمول، وتسامح القرّاء مرجو، وعلى الله قصد السبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أ. د. عبد الشّافي محمّد عبد اللّطيف استاذ التّاريخ الإسلامي/ جامعة الأزهر

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلامي قراءة ورؤية جديدة أوائل المؤلفين في السيرة النبوية

البحث الأول أوائل المؤلفين في السيرة النبوية

[البحث الأول] أوائل المؤلفين في السيرة النبوية * مقدمة النبي محمد بن عبد الله- صلوات الله وسلامه عليه- هو صفوة الله من خلقه، بل هو صفوة الصفوة، فالأنبياء- عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام- هم المصطفون الأخيار، وهو إمامهم وخاتمهم. وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم» » . فهو حامل الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات، وهو اللبنة الأخيرة في صرح عقيدة التوحيد. فقد قال صلّى الله عليه وسلم: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله. إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؟» قال: «فأنا اللبنة» «2» وفي رواية أخرى: «وأنا خاتم النبيين» . ولقد وصف الله تعالى عددا من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ببعض الصفات، فقد وصف أبا الأنبياء إبراهيم عليه السّلام فقال: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم: 41] وقال عن إسماعيل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: 54] ، وفي سورة الأنبياء يصف إسحاق ويعقوب بالصلاح والخيرية فيقول سبحانه وتعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ [الأنبياء: 72: 73] ، ويصف لوطا وداود وسليمان بالعلم والحكمة فيقول: وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 74] ، ويقول سبحانه تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء: 78، 79] ، ويصف إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالصبر فيقول: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85] . وهكذا نرى الله تعالى يصف بعض أنبيائه ببعض الصفات النبيلة، لكنه في ختام السورة عندما يصف محمدا- عليه الصلاة والسلام- فإنه لا يصفه بصفة جزئية وإنما يجعله كله هداية إلهية إلى العالم، ورحمة لهذه الإنسانية «3» .

_ (1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (1/ 5) . (2) ابن حجر العسقلاني- فتح الباري شرح صحيح البخاري (6/ 158) . (3) انظر في ذلك البحث القيم الذي كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس بعنوان شخصية-

فيقول تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] . وفي موضع آخر يصفه بالصفة الجامعة لكل خصال الخير وجميع الفضائل الإنسانية، فيقول: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] . والخلق العظيم هو جوهر رسالته صلّى الله عليه وسلم فهو القائل: «بعثت لأتمم حسن الأخلاق» «1» ولقد عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخلاقيّا من طفولته إلى أن لقي ربه. فقد كان قوم ينادونه بصفة نادرة في ذلك الزمان وقبل أن يبعث: فقد نادوه وعرف بينهم «بالصادق الأمين» . وعظمة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم ليست في أنه يمتاز بمجموعة من الأخلاق الإنسانية العالية فحسب، فهو الأمين إذا ذكرت الأمانة، وهو الصادق إذا ذكر الصدق، وهو الوفي، الكريم، الزاهد، الشجاع، المتواضع، الرحيم، البار، الحكيم، الفصيح، البليغ، العابد، كان الرسول هذا كله وكان فوق هذا، فكانت أخلاقه فوق الصعاب وفوق كل الظروف والتقلبات التي تأتي بها الأيام، لقد كان قادرا على أن يلتزم الموقف الأخلاقي المناسب، مهما تكن اللحظة التاريخية حرجة وحاسمة، إنه نبي يشرع بسلوكه وينطلق من منهج واضح وليس من ردّ فعل تمليه أو تفرضه أية ضغوط أو ظروف «2» . «لقد تحدث بعض الكتاب معددا الخوارق التي صاحبت الدعوة المحمدية فقال: إن من أعظم الخوارق التي لمحمد صلّى الله عليه وسلم أخلاقه؛ فكانت في ذاتها أمرا خارقا للعادة بين بني الإنسان، فهي أعلى من أخلاق الملائكة؛ لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] .. فمحمد بين الناس الإنسان الذي تتجلى فيه الإنسانية الكاملة» «3» . وقد كانت صفحة حياته- عليه الصلاة والسلام- كما نقلت إلينا بكل دقة وتوثيق- أخلاقية إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه الله أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق العمل

_ - الرسول صلّى الله عليه وسلم في كتاب: الجزيرة العربية في عهد الرسول والخلفاء الراشدين (1/ 63- 93) . وهو مرجعنا الأساسي في تلك المقدمة. (1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (2/ 281) . (2) د. عبد الحليم عويس- المرجع السابق (ص 73) . (3) الشيخ محمد أبو زهرة- خاتم النبيين (1/ 242) .

الصالح، وأي سمو في الحياة كهذا السمو الذي جعل حياة محمد صلّى الله عليه وسلم قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها تضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به، تضحية استهدفت حياته من جرائها للموت مرات، فلم يصده عنه أن أغراه قومه وهو في الذروة منهم حسبا ونسبا بالمال والملك وكل المغريات «1» . والغريب أن هذه الإنسانية الأخلاقية قد طبقت على هذا النحو الخارق للعادة في أروع صور البساطة واليسر، فبدت- مع سموها- وكأن البساطة وعدم التقعر أو التكلف نسيجها الذي يجمع بين خيوطها المترابطة «2» . فعن عائشة رضى الله عنها قالت: «ما لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مسلما من لعنة تذكر، ولا انتقم لنفسه شيئا يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، ولا ضرب بيده شيئا قط، إلا أن يضرب في سبيل الله، ولا سئل شيئا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثما، فإنه كان أبعد الناس عنه» . عن عائشة رضى الله عنها قالت: «ما خيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه» «3» . «إن هذا النبي كان له- كما يقول كاتب نصراني- في مجال الأخلاق شؤون وشؤون، فبالرغم من مهامه الجسام وانشغالاته الكثيرة المتنوعة، وبالرغم من الغزوات والسرايا والحروب، واضطلاعه بجميع المسؤوليات وحده دون سواه، فلقد وجد الوقت الكافي ليلقي على المؤمنين- بأقواله وأفعاله- دروسا في شؤون لا تمر ببال مسؤول كبير في مثل مستواه وخطورته.. فذلك العظيم الذي كان يحاول تغيير التاريخ، ويعد شعبا يفتح الدنيا من أجل الله، ذلك الرجل وجد الوقت الكافي ليلقي على الناس دروسا في آداب المجتمع وفي أصول المجالسة وكيفية إلقاء السلام، لكأنه معلم حصر مهمته في تثقيف بضعة وعشرين تلميذا، ولم يكن له مهمة سواها» «4» . ولقد نجح محمد صلّى الله عليه وسلم نجاحا باهرا في كل عمل اضطلع به من أكبر عمل وهو تبليغ الرسالة إلى أصغر عمل قام به «5» .

_ (1) محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص 583) . (2) انظر د. عبد الحليم عويس- المرجع السابق (ص 74) . (3) صحيح البخاري (2/ 273) . طبعة دار إحياء التراث العربي. (4) د. عبد الحليم عويس- المرجع السابق (ص 74) . (5) نصري سهلب- في خطى محمد (ص 366، 367) .

فالتاريخ قد عرفنا برجال حملوا رسالات سماوية وأدوها بنجاح، ورجال بنوا أمما، ورجال آخرين أسسوا دولا، لكن التاريخ لم يحدثنا عن رجل جاء برسالة سماوية من عند الله تعالى، ثم بنى أمة، ثم أسس دولة، ونجح في كل ذلك وفي حياته وقبل موته سوى النبي العربي محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم. ولهذا جعله مايكل هارت على رأس قائمة الخالدين المائة من أبناء آدم وعلل ذلك حسب منهجه العلمي ومقاييس العظمة عنده، بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمي، وبرّز في كلا المستويين الديني والدنيوي، وأنه أسس ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظماء. «وأنه بعد مرور أربعة عشر قرنا لا زال تأثيره قويّا ومتجددا» «1» . وبالقياس نفسه يشهد لمحمد صلّى الله عليه وسلم المؤرخ العالمي الشهير ول ديورانت فيقول: «وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدا كان من أعظم عظاماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو ولهيب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحا لا يدانيه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقلّ أن نجد إنسانا غيره حقق كل ما كان يحلم به، وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى؛ بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، فقد لجأ إلى خيالهم وإلى مخاوفهم وآمالهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، كانت بلاد العرب لما بدأ الدعوة صحراء جدباء، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كلمتها، كانت عند وفاته أمة موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم دينا سهلا واضحا قويّا، وصرحا خلقيّا قوامه البساطة والعزة، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم» «2» . بعد كل ما تقدم- وهو قليل من كثير- عن شخصية الرسول الخاتم محمد بن عبد الله- عليه الصلاة والسلام- وليس عجبا أن تكون تلك الشخصية محور

_ (1) انظر: الخالدون مائة، تأليف مايكل هارت، ترجمة أنيس منصور (ص 13) . (2) د. عبد الحليم عويس- المرجع السابق (ص 89) نقلا عن قصة الحضارة (2/ 47) .

* دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم:

اهتمام كل الناس، مسلمين، وغير مسلمين على مدى تاريخه كله. وأظن أن هذا الاهتمام سيستمر ما استمرت الحياة، ولن يبلغ الكتّاب والمؤلفون مهما كتبوا وألفوا جوانب العظمة في شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم، وليس هناك أبلغ- في هذا المجال- من الكلمة التي قدّم بها فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الأسبق، كتاب حياة محمد للأستاذ الدكتور محمد حسين هيكل حيث قال: «منذ وجد الإنسان على الأرض، وهو مشوق إلى تعرف ما في الكون المحيط به سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر ضعفه وتضاءل غروره. ونبي الإسلام- صلوات الله عليه وسلامه- شبيه بالوجود. فقد جدّ العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يلتمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويلتمسون مظاهر أسماء الله جلت قدرته في عقله وخلقه وعلمه، ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى شيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة. وأمامهم جهاد طويل وبعد شاسع وطريق لا نهاية له» «1» . وندر أن نجد في التاريخ البشري رجلا عرفت حياته- الخاصة والعامة- بكل تفاصيلها ودقائقها كما عرفت ودرست حياة النبي محمد- عليه الصلاة والسلام- «فحتى قضاؤه لوطره، واغتساله بعده، وطريقة غسله، ونومه، وطريقة قضائه لحاجته واغتساله منها، كل ذلك نقله إلينا التاريخ، بطريقة موثقة، ندر أن توثق بها نصوص في التاريخ» «2» . يقول المستشرق مونتيه في وصف وضوح حياة الرسول صلّى الله عليه وسلم: «ولقد ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد، وإن ما قام به من إصلاح الأخلاق وتطهير المجتمع يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية» «3» . * دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم: ليس هناك شخصية تاريخية لقيت من اهتمام الدارسين والباحثين قديما وحديثا كما لقيت شخصية الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم وليس هناك أمة اعتنت بتاريخ نبيها- بكل

_ (1) من تقديم الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي لكتاب حياة محمد. (2) د. عبد الحليم عويس- المرجع السابق (ص 67) . (3) المرجع السابق (ص 68) .

* بداية التأليف في السيرة النبوية:

تفاصيله ودقائقه- كما اعتنت الأمة الإسلامية؛ وذلك لسببين رئيسيين: الأول: أن هذه الحياة حياة مثالية في جميع جوانبها ومستوياتها ودراستها متعة روحية وذهنية؛ لأن الإنسان يبحث دائما عن المثل الأعلى والقدوة الحسنة، لعل الله يهديه إلى أقوم طريق وأفضل سلوك، وليس هناك حياة وسيرة يمكن أن يتعلم منها الناس أعظم من حياة وسيرة النبي صلّى الله عليه وسلم وصدق الله تعالى إذ يأمرنا بالاقتداء به فيقول: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] . الثاني: أن حياة وسيرة الرسول كانت موضع اهتمام الأمة وعنايتها بأحاديثه وأفعاله ومغازيه وأيامه، وتكاد تكون كل كلمة تلفظ بها الرسول، وكل حركة وكل فعل مرصودة من المسلمين، ويحفظونها عن ظهر قلب، ومدونة في صدورهم قبل أن تدون في الكتب عند بدء حركة التدوين مع نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني. * بداية التأليف في السيرة النبوية: من سنن الله الكونية أن كل شيء يخضع للتدرج في النشأة والتكوين، يتساوى في ذلك الإنسان والحيوان، والأفكار والعلوم والفنون، فلا شيء يخلق كاملا، أو ينشأ ناضجا مستوي التكوين، وإنما يمر بمراحل زمنية متتابعة، حتى يصل إلى نضجه واستوائه وكماله، وسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم لم تشذ عن تلك القاعدة ولم تخرج عن ذلك الناموس، فنحن نعلم أن سيرة الرسول لم تدون في حياته، أعني أنه لم يكن من بين الكتّاب الذين كانوا يكتبون للرسول صلّى الله عليه وسلم الوحي وغيره- وهم كثيرون- من تخصص في تسجيل أحداث حياته صلّى الله عليه وسلم الخاصة والعامة، واستمر الحال على ذلك طوال خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة (11- 40 هـ) ويبدو أنه كان لذلك أسباب كثيرة من أهمها أن الرجال الذين عاصروا الرسول صلّى الله عليه وسلم وهم صحابته- رضوان الله عليهم جميعا- لم يكونوا في حاجة إلى تسجيل تلك الأحداث، فهم قد عايشوها وانفعلوا بها وتفاعلوا معها بدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الرسالات والدعوات الدينية؛ فكل مشهد منطبع في ذاكرتهم، وكل كلمة نطق بها الرسول حفظوها، وكل عمل من أعماله معروف لديهم تمام المعرفة وبكل التفاصيل، هذا مع ما امتازوا به من قوة الحافظة وسرعة البديهة. لم تكن الحاجة إذن تدعو لتدوين أحداث الرسول وسيرته؛ لاستغنائهم بالمشاهدة والحفظ ولا نشغالهم بالغزوات والفتوحات،

غير أنه لم يكد جيل الصحابة- وهم شهود وحفاظ السيرة- يختفي حتى ظهرت الحاجة إلى تدوين وتسجيل السيرة النبوية، والتأريخ للعهد النبوي، فجيل التابعين- وهم الذين رأوا الصحابة وعاصروهم وتعلموا منهم- لم يروا بأنفسهم الأعمال الرائعة والجهاد المجيد الذي قام به الرسول صلّى الله عليه وسلم من أجل الرسالة الإسلامية وتبليغها للناس، ولكنهم سمعوا عن ذلك من الصحابة، فبهرتهم الأعمال والمواقف والأخلاق فتاقت نفوسهم لمعرفة كل شيء بالتفصيل، ولم يفوتوا الفرصة، بل عضوا عليها بالنواجذ. وأخذوا يسألون الصحابة الذين صحبوا الرسول وضحوا معه، وشهدوا جميع مشاهده ومواقعه، ومن الأسئلة التي كانوا يسألونها- على سبيل المثال- متى وكيف كانت بيعة العقبة؟ متى كانت الهجرة إلى الحبشة؟ وكم عدد الذين هاجروا في الأولى والثانية؟ ومتى عادوا؟ وكيف كانت غزوة بدر؟ ومن الذين شهدوها؟ هذه الأسئلة وأمثالها كانت تلقى على الصحابة ويجيبون عنها، وأسلوب السؤال والجواب- كما هو المعروف- من أهم روافد العلم، خصوصا في مراحل النشأة والتكوين. بل إن القرآن الكريم حافل باستخدام أسلوب السؤال والجواب حتى في مجال العقيدة وإثباتها، وإقامة الحجة على الكافرين الجاحدين، مثل قول الله تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون 84- 87] . وكان من الطبيعي أن تكون المدينة المنورة هي أصلح بيئة للإجابة عن كل ما يتعلق بحياة الرسول وسيرته، حيث عاش معظم الصحابة الذين عايشوا أحداث الإسلام الكبرى في عهد الرسول، ونقلوها للتابعين، الذين لم يكتفوا بالتلقي والحفظ، بل بدؤوا تدوين الوقائع والأحداث كما سمعوها من الذين شاهدوها، وكانت تلك لحظة البداية، بداية التأليف في السيرة النبوية. واتسعت دائرة السؤال والجواب، ولم تعد قاصرة على المدينة وحدها، بل سارع الناس في خطى الصحابة في كل مصر حلوا به، مثل البصرة والكوفة ودمشق والفسطاط.. إلخ. ومن حسن الحظ أن من كبار التابعين الذين بدأوا التدوين في السيرة النبوية، وأصبحوا مصدرا رئيسيّا من مصادرها كانوا من أبناء كبار الصحابة الذين أخذوا العلم عن آبائهم الكرام، وهم الذين رأوا كل شيء وشاركوا بأنفسهم، بل كان من

طبقات كتاب السيرة

أوائل علماء السيرة من هم على صلة قريبة ووثيقة ببيت النبي صلّى الله عليه وسلم مثل عروة بن الزبير بن العوام، فأمه أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما وخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فتتلمذ عليها ونقل عنها أخبارا كثيرة عن حياة النبي وسيرته. وقد قسم العلماء كتاب السيرة النبوية والمؤلفين فيها إلى طبقات، والطبقة في اصطلاح المحدثين: هم جماعة تقاربوا في السن، واجتمعوا في لقاء الشيوخ. طبقات كتّاب السيرة * رجال الطبقة الأولى من كتّاب المغازي والسير: 1- أبان بن عثمان: هو ابن الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ولد في المدينة المنورة حوالي سنة عشرين للهجرة، وتوفي فيها في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان (101- 105 هـ) على أرجح الأقوال، وقد نشأ أبان في كنف أبيه، الخليفة الراشد، أحد السابقين إلى الإسلام والمبشرين بالجنة، والذي كانت تستحي منه الملائكة كما أخبر الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلم فهو من كبار الصحابة وفضلائهم، وبيته من أصلح وأطهر البيوت، في أصلح وأطهر بيئة على وجه الأرض في ذلك الزمان، وهي بيئة المدينة المنورة، في هذا الجو وتلك البيئة وذلك البيت- حيث الصلاح والتقى- نشأ أبان وتعلم، حتى أصبح من كبار فقهاء المدينة المعدودين والمشهورين. ومن أعلام رواة الحديث الشريف. فقد روى عن أبيه رضي الله عنه وغيره من كبار الصحابة. كما تتلمذ على يديه كثيرون من كبار المحدثين والفقهاء، أمثال محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري، أستاذ إمام المؤلفين في السيرة النبوية وعمدتهم محمد ابن إسحاق بن يسار المطلبي. ولقد اشتهر أبان بن عثمان بالمغازي والسير- فوق شهرته في الفقه والحديث- حتى أصبح من أساتذة هذا الفن الحائزين على ثقة العلماء فقد قال ابن سعد في الطبقات، وهو يترجم للمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، قال عنه: «كان ثقة قليل الحديث، إلا مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذها عن أبان بن عثمان» «1» . فهذا الخبر على وجازته يؤكد أستاذية أبان بن عثمان في المغازي والسير، فقد

_ (1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 179) .

2 - عروة بن الزبير:

كان الحديث والمغازي والسير من أحب الأشياء إلى أهل المدينة، ولعل ابتعاد أبان عن الاشتغال بالسياسة- باستثناء الفترة التي عمل فيها واليا على المدينة من (سنة 75) إلى (سنة 83 هـ) - في خلافة عبد الملك بن مروان- أقول: لعل ابتعاده عن السياسة- وقد عمر طويلا حيث نيف على الثمانين عاما- مكّنه من التفرغ للعلم درسا وتدريسا، وإذا كانت مؤلفاته قد ضاعت فيما ضاع أو تلف من تراث الإسلام ولم تصل إلينا؛ فقد بقيت لنا- من حسن الحظ- رواياته وآراؤه في المصادر التي وصلتنا بروايات تلاميذه. 2- عروة بن الزبير: هو الرجل الثاني من رجال الطبقة الأولى من كتاب المغازي والسير، وأبوه الزبير ابن العوام بن خويلد، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد المبشرين بالجنة، وهو حواري الرسول صلّى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وخديجة أم المؤمنين رضي الله عنها عمته، أي: عمة الزبير بن العوام، أما أم عروة فهي ذات النطاقين السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وخالته عائشة أم المؤمنين وأحب أزواج النبي إليه، وقد ولد عروة في المدينة المنورة، حوالي (سنة 26 هـ) ، على أرجح الأقوال؛ لأنه كان صغير السن عندما حدثت موقعة الجمل (سنة 36 هـ) ، ولم يشهدها فقد قال هو في نفسه: «رددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، يوم الجمل، استصغرونا» . فالبيت الذي نشأ فيه عروة ركناه: أبوه الزبير بن العوام حواري الرسول، وأمه ذات النطاقين أسماء بنت الصديق، أما أستاذته الكبرى ومعلمته فهي خالته السيدة عائشة أم المؤمنين، التي كان كثير التردد عليها والمداومة على زيارتها والتعلم منها والحديث إليها. وإذا كان عروة قد شهد- وهو صبي في العاشرة من عمره تقريبا- الفتنة الكبرى التي حلّت بالمسلمين وزلزلت كيانهم، في الشطر الثاني من خلافة عثمان بن عفان (سنة 30- 35 هـ) والتي استغرقت عهد علي بن أبي طالب كله (35- 40 هـ) فإن الله سبحانه تعالى قد تدارك الأمة الإسلامية برحمته، ووحد كلمتها في (عام 41 هـ) وهو العام الذي سماه المسلمون عام الجماعة- بعد الفتنة والفرقة- حينما تنازل

الحسن بن علي رضي الله عنهما، عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما إيثارا لمصلحة الأمة، وحقنا لدماء المسلمين، مصدقا بذلك نبوءة جده- عليه الصلاة والسلام- حيث قال عنه: «ابني هذا سيّد- يقصد الحسن- ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» «1» . ولقد استفتح معاوية رضي الله عنه عهده بالإحسان إلى أهل المدينة بصفة عامة، وإلى الصحابة وأبنائهم بصفة خاصة، وأغدق عليهم من الأموال ما أتاح لهم التفرغ للعلم والتعليم، فزخر مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم بأعداد هائلة من الفقهاء والمحدّثين والمفسرين وأصحاب السير والمغازي، وكان عروة بن الزبير فارسا من فرسان هذه الحلقات وأبرز رجالها. فتروي المصادر وكتب الطبقات أنه كان يجتمع كل ليلة، بطريقة تكاد تكون منتظمة في المسجد النبوي، بمجموعة من كبار التابعين ومن رجال الطبقة الأولى منهم، كانت تضم أخاه مصعب بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وعبد الملك ابن مروان، وعبد الرحمن بن مسور، وإبراهيم بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، ولم تكن هذه الاجتماعات سوى حلقات علمية، يدور الحديث فيها عن العلوم الإسلامية من فقه وتفسير وحديث وسير ومغاز، وكما اشتهر عروة بن الزبير بأنه أحد فقهاء المدينة السبعة الكبار- كما هو الحال بالنسبة لأبان بن عثمان- فقد اشتهر بأنه من أكابر علماء السيرة والمغازي، وكان الناس- حتى زملاؤه في الدراسة- يتجهون إليه، ليسألوه ويتعلموا منه السيرة النبوية بصفة خاصة، لقربه من بيت النبي، ولمعرفته أكثر من غيره بما كان يدور في ذلك البيت الكريم عن طريق خالته السيدة عائشة رضي الله عنها فعبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المشهور (65- 86 هـ) مع أنه كان أحد تلاميذ مدرسة المدينة المشهورين ومن فقهائها، وقد لقب بحمامة المسجد؛ لشدة ملازمته مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم، وانكبابه على حلقات العلم، وهو من زملاء عروة وأصدقائه، إلا أنه كان كثير الرجوع إليه في كل ما يتعلق بأحداث السيرة النبوية، وذلك عندما شغلته السياسة عن طلب العلم بعد أن أصبح خليفة ويبدو أن عروة قد ألف كتبا كثيرة في

_ (1) صحيح البخاري (4/ 216) .

3 - شرحبيل بن سعد:

السيرة وغيرها، فهناك خبر جدير بالتنويه، يرويه ابن سعد «1» عن هشام بن عروة أن أباه أحرق يوم الحرة- يقصد يوم وقعة الحرة المشهورة بين ثوار المدينة وجيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (سنة 63 هـ) - عدة كتب، وقد حزن كثيرا على فقدها فيما بعد، فهذا الخبر يدل على انتشار الكتابة والتأليف في ذلك الوقت المبكر من عهد المسلمين بالتأليف والتدوين العلمي. وإذا كانت مؤلفات عروة بن الزبير لم تصل إلينا، فقد حفظت لنا المصادر الباقية لدينا، الكثير من المادة العلمية والروايات التي كان مصدرها عروة ففي سيرة ابن إسحاق ومغازي الواقدي وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري روايات كثيرة عن أحداث سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم ومغازيه عن عروة بن الزبير، وقد توفي رحمه الله تعالى (سنة 94 هـ) «2» . 3- شرحبيل بن سعد: ثالث الثلاثة في الطبقة الأولى من كتّاب السيرة المدنيين؛ وهو مولى بني خطمة، نشأ في المدينة، وتلقى عن جمع من الصحابة، منهم زيد بن ثابت وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم من كبار الصحابة «3» . وروي عن سفيان بن عيينة أنه لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه، وبرهن موسى بن عقبة أن شرحبيل دوّن قوائم بأسماء المهاجرين إلى المدينة، وأسماء الرجال الذين اشتركوا في غزوتي بدر وأحد «4» . وقد امتد العمر بشرحبيل، حيث توفي (عام 123 هـ) . 4- وهب بن منبه: يعتبر وهب بن منبه من رجال الطبقة الأولى من كتّاب المغازي والسير وهو من مواليد اليمن، فقد ولد في قرية تسمى زمار بجوار صنعاء حوالي (سنة 34 هـ) . وهو من هذه الناحية- ناحية النشأة والميلاد- يختلف عن الرجال الثلاثة الذين سبق الحديث عنهم، فكلهم مدنيون، نشؤوا في مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم، ومعنى هذا أنّ

_ (1) الطبقات الكبرى (5/ 133) . (2) انظر ترجمة عروة في المصدر السابق (5/ 178- 182) . (3) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 310) وفيها ترجمة لشرحبيل بن سعد. (4) انظر كتاب: المغازي الأولى ومؤلفوها. ليوسف هوروفتس مطبعة الحلبي بالقاهرة 1369- 1949 م. ترجمة د/ حسين نصار (ص 72) .

* رجال الطبقة الثانية من كتاب المغازي والسير:

الاهتمام بالمغازي والسّير لم يعد مقصورا على أهل المدينة وحدهم، بل أصبح الاشتغال بها موضع اهتمام العلماء في كل الأقطار الإسلامية. ويختلف مؤرخو وهب بن منبه حول نسبه؛ فمنهم من يرى أنه من أصل يهودي، ومنهم من يرى- وهو الأرجح- أنه من أصل فارسي؛ أي من الفرس الذين سكنوا اليمن في فترة السيطرة الفارسية وسموا بالأبناء، ولكن الأهم من هذا كله أنه قد نشأ في أسرة مسلمة، اشتهر معظم رجالها بالعلم، وكانوا أهل ثقة عند العلماء «1» ، وقد تأثر وهب بالجو العلمي الذي كان يحيط به في أسرته، وروى عن طائفة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام بن منبه، وكان ثقة واسع العلم «2» . ويعتبر من العلماء الموسوعيين، الذين تناولوا موضوعات شتى، فقد كانت له عناية واهتمام بأحاديث أهل الكتاب الذين كثر عددهم في جنوب بلاد العرب، وهو من الثقات المعتمدين خاصة في قصص الأنبياء «3» . ويرجح أنه كتب كثيرا في المغازي والسير، مما جعل العلماء يضعونه بين رجال الطبقة الأولى من علماء هذا الفن. ويوجد في مجموعة البرديات الموجودة في مدينة هيدلبرج في ألمانيا مجلد، يقول عنه بيكر: إنه يرجح أنه يحتوي على قطعة من كتاب المغازي لوهب بن منبه، وتاريخ نسخ هذه القطعة (عام 228 هـ) . وفيها معلومات عن بيعة العقبة الكبرى، وحديث قريش في دار الندوة- الذي قرروا فيه قتل النبي صلّى الله عليه وسلم، والاستعداد للهجرة نفسها، ووصول النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة «4» . وهكذا أسهم وهب بن منبه إسهاما طيبا في إثراء حركة التأليف في المغازي والسير وعاش حياة علمية ثرية حتى توفاه الله (سنة 110 هـ) . * رجال الطبقة الثانية من كتّاب المغازي والسير: لا يعني تقسيم علماء المغازي والسير إلى طبقات- أولى وثانية وثالثة.. إلخ-

_ (1) انظر طبقات ابن سعد (5/ 543) ، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 100) وفيهما ترجمة لوهب. (2) تذكرة الحفاظ (1/ 100، 101) . (3) المغازي الأولى ومؤلفوها. مرجع سبق ذكره (ص 30، 31) . (4) انظر المرجع السابق (ص 34، 35) .

أنه لا تبدأ الطبقة الثانية إلا إذا انتهت الطبقة الأولى؛ لأنه ليس هناك حد زمني فاصل بين هذه الطبقات، فالعلم متصل، وحلقاته ممتدة ومستمرة، وأجيال العلماء متداخلة، وربما يكون الواحد منهم تلميذا وأستاذا في نفس الوقت، بل المقصود من هذا التقسيم، تمييز رجال كل مرحلة عن التي سبقتها والتي تلتها. وكلما امتد الزمن اتسعت دائرة العلم وزاد عدد العلماء وتلاميذهم؛ ولذلك سنجد في هذه الطبقة الثانية، حشدا كبيرا من علماء المغازي والسير ذوي المكانة العلمية الرفيعة، خاصة في مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم. ويكفي أن نلقي نظرة على سيرة ابن إسحاق- الذي سنخصه بحديث مفصل في هذا الكتاب لتميزه وإمامته في ميدان السيرة النبوية- والتي جاءتنا عن طريق عبد الملك بن هشام برواية زياد بن عبد الله البكائي، لنعرف مدى الحجم الذي وصل إليه عدد العلماء، وكيف كان اهتمام هذا الجيل بسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم؛ فابن إسحاق يروي مباشرة بطريق المشافهة، عن أكثر من مائة راو من علماء المدينة وكلهم يروي عنه بقوله: حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو سألت فلانا فأخبرني، فبالإضافة إلى أستاذه الأكبر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، نجده يروي عن عدد كبير من العلماء، كثيرون منهم من أسرة واحدة، مثل آل الزبير ومواليهم، فهو يروي عن هشام بن عروة بن الزبير، وعن يحيى بن عروة بن الزبير، وعن عمر بن عبد الله بن الزبير، وعن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير، وعن يزيد بن رومان مولى عروة بن الزبير، وغيره من مواليهم، ورواية ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه، أو عن الزهري عن عروة بن الزبير، لها قيمتها الكبرى من ناحية التوثيق العلمي؛ فهي مرفوعة في أغلب الأحوال إلى السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وإذا رفعت الرواية عن الثقات، عن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، إلى السيدة عائشة؛ كانت هي الصدق بعينه، كذلك يروي ابن إسحاق عن نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري، وعن أبيه إسحاق بن يسار. رجال هذه الطبقة- الثانية- من علماء المغازي والسير هم أساتذة محمد بن إسحاق وشيوخه المباشرون، ولكثرة عددهم فمن الصعب الحديث عنهم كلهم في حيز هذا الكتيب، ولذلك سنقصر الحديث على أشهرهم وأكثرهم تأثيرا في إثراء حركة التأليف في ميدان المغازي والسير، ويأتي على رأس القائمة:

1 - محمد بن مسلم بن شهاب الزهري:

1- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري «1» : ينتسب الزهري إلى بني زهرة، وهم أخوال النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو من كبار التابعين وأعلامهم، ويعتبر من أعظم مؤرخي المغازي والسير، وإليه يرجع الفضل في تأسيس مدرسة المدينة التاريخية، إلى جانب كونه من كبار الفقهاء والمحدثين. وقد رأى الزهري عشرة من الصحابة، وتتلمذ على كبار علماء التابعين وأعلامهم، ومنهم سعيد ابن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ وهؤلاء هم الذين كان الزهري يعتبرهم بحور قريش في العلم. وروى عن الزهري جماعة من العلماء الأئمة الأعلام، يأتي في مقدمتهم فقيه المدينة وعالمها الأشهر- الذي قيل عنه: لا يفتى ومالك في المدينة- مالك بن أنس الأصبحي، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وقد ذاع صيت الزهري، وأصبحت له مكانة علمية رفيعة في أوساط العلماء، فقد سئل مكحول الدمشقي: من أعلم من رأيت؟ فقال: ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب، قيل له: ثم من؟ قال: ابن شهاب كان قد حفظ علم الفقهاء السبعة- يقصد فقهاء المدينة المشهورين- وكتب عمر بن عبد العزيز- وهو خليفة- إلى سائر الأقاليم: «عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه» «2» . فعمر بن عبد العزيز- وهو من هو- لا يقول مثل ذلك الكلام عن ابن شهاب إلا إذا كان الرجل فعلا يستحق هذا الثناء من الخليفة العالم، بما بلغ من مكانة علمية. والحق أن ابن شهاب كان موضع احترام وإجلال خلفاء بني أمية؛ لأنه إلى جانب تبحره في العلوم، كان يحترم نفسه، ولم يداهن في الحق «3» . وقد امتاز محمد بن شهاب الزهري عن معاصريه بكثرة الكتابة والتدوين واقتناء الكتب. وكان إذا جلس في بيته بين كتبه اشتغل بها عن كل شيء سواها من أمور الدنيا، حتى يروى أن امرأته كانت تقول له: «إن هذه الكتب أشدّ عليّ من ثلاث ضرائر» «4» ؛ لاشتغاله بها عنها.

_ (1) انظر ترجمة الزهري في وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 177) وما بعدها، وفي تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (9/ 448) وما بعدها. (2) انظر وفيات الأعيان (4/ 177) . (3) انظر المغازي الأولى ومؤلفوها (ص 58) . (4) انظر وفيات الأعيان (4/ 177) .

وكان اهتمام الزهري بالكتابة والتدوين هو الذي مكّنه من نشر علمه، وبوّأه تلك المكانة العلمية الرفيعة التي حظي بها في أوساط العلماء، وفي بلاط الخلفاء ومجالسهم، وكان هو شديد الفخر بذلك، وروي عنه أنه كان يقول: «ما نشر أحد من الناس هذا العلم نشري، ولا بذله بذلي» . ولقد ضاع ما كتبه ودونه الزهري بنفسه، ولم يصل إلينا كما هو. ولولا ما بقي لنا من علمه مما رواه تلامذته- وبصفة خاصة أشهرهم وأنبغهم محمد بن إسحاق- لكانت خسارتنا فادحة، فإلى ابن إسحاق يرجع الفضل الأكبر في حفظ علم أستاذه الزهري، فهو الذي أوصله إلينا؛ لأنه كانت تربطه بأستاذه علاقة متينة قائمة على الحب والاحترام، ومما دل على قوة تلك العلاقة ومتانتها ورفعة مكانة ابن إسحاق عند أستاذه وثقته فيه؛ أنه كان يعتبره مرجعه الأول في كل ما يتعلق بسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم مما يحصل عليه من معلومات من طرق أخرى ليتثبّت من صحتها. فعندما زار ابن إسحاق مصر والتقى بعالمها الكبير يزيد بن أبي حبيب، وروى عنه العلم، أرسل إلى أستاذه الزهري، ليتثبت من صحة بعض الروايات وذلك من أمثال القصة التالية فقد قال ابن إسحاق نفسه: «حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، أنه وجد كتابا فيه ذكر من بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى البلدان، وملوك العرب والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم، قال- ابن إسحاق-: فبعثت به إلى محمد بن شهاب الزهري فعرفه» «1» . واسم الزهري هو الأشهر والأكثر ذكرا في سيرة ابن إسحاق، وكثيرا ما يعبر فيما يتعلق بروايته عن الزهري، بقوله: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأحيانا يقول: حدثني الزهري فقط، أو حدثني ابن شهاب، أو سألت ابن شهاب الزهري، إلى غير ذلك من التعابير. وكان للزهري- الذي توفي (سنة 124 هـ) - عدد آخر من التلاميذ غير ابن إسحاق، وإن كانوا أقل شهرة من ابن إسحاق، ومنهم موسى بن عقبة المتوفى حوالي عام (141 هـ) ، ومعمر بن راشد المتوفى حوالي (عام 154 هـ) وهما من رجال الطبقة الثالثة ومن كبار علماء المغازي والسير.

_ (1) سيرة ابن هشام (4/ 177) .

2 - عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري:

2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري «1» : من علماء الطبقة الثانية من مؤلفي المغازي والسير، وهو مدني- أي من أهل المدينة- وكان جده الأعلى عمرو بن حزم أحد صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد ولاه الرسول على نجران، وكتب له كتابا حين بعثه، أمره فيه بتقوى الله في أمره كله، ثم أمره بقبض الصدقات وتوزيعها على مستحقيها، وأن يعلمهم القرآن والسنة ويفقههم في الدين. أما جده المباشر، محمد بن عمرو فقد قيل: إن له رؤية- أي: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم- توفي (عام 63 هـ) أما أبوه أبو بكر فقد ولي قضاء المدينة المنورة أثناء ولاية عمر بن عبد العزيز عليها من (سنة 87) إلى (سنة 93 هـ) . وذلك في خلافة الوليد ابن عبد الملك ابن مروان (86- 96 هـ) . ثم أصبح واليا على المدينة في خلافة سليمان ابن عبد الملك ابن مروان (86- 99 هـ) . وخلافة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) .. وقد عرف بمقدرته الفائقة في رواية الحديث، وكان من الثقات، ولذلك عهد إليه عمر بن عبد العزيز- أثناء خلافته- بجمع أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم. يقول عنه الذهبي «2» : «أمير المدينة ثم قاضي المدينة، أحد الأئمة الأثبات وقيل: كان أعلم أهل زمانه بالقضاء» . وقال عنه الإمام مالك بن أنس: «ما رأيت مثل ابن حزم، أعظم مروءة وأتم حالا، ولا رأيت من أوتي مثل ما أوتي ولاية المدينة والقضاء والموسم» «3» وهو من شيوخ ابن إسحاق. فعبد الله بن أبي بكر نشأ إذن في بيت علم وقضاء وإمارة، وورث عن أبيه مواهبه، واختص برواية الحديث- خاصة الأحاديث المتصلة بالمغازي- وكان حجة في ذلك وهو أحد مصادر كبار علماء السيرة والمؤرخين، فقد روى عنه ابن إسحاق، ومحمد ابن عمر الواقدي، ومحمد بن سعد- كاتب الواقدي، والطبري. خاصة الروايات التي تتصل بأخبار الرسول في المدينة، ووفود القبائل إلى رسول الله- في عام الوفود- وأخبار تتعلق بحروب الردة. وكانت زوجته فاطمة بنت عمارة راوية للحديث، وكانت تروي عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، وعمرة كانت تروي

_ (1) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 314) . (2) المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسيهما. (3) المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسيهما.

3 - عاصم بن عمر بن قتادة:

عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان هو يروي عن زوجته، بل كان يسمح لها أن تحدث الغير بما عندها من أخبار عن السيرة النبوية؛ فقد أخبر الطبري عن محمد بن إسحاق أنه دخل على عبد الله بن أبي بكر- ابن حزم- فقال عبد الله لامرأته فاطمة: حدثي محمدا ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: سمعت عمرة تقول: سمعت عائشة تقول ... إلخ، ويروي الطبري عن محمد بن إسحاق- أيضا- عن عبد الله بن أبي بكر قال: كان جميع ما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه ستّا وعشرين غزوة، أول غزوة غزاها ودّان، ثم بواط.. إلخ. وعلى الجملة فقد كان عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري عظيم الأثر في كتب السير والمغازي، وكان له من بيته العظيم في الأنصار- وهو بيت علم وقضاء وإمارة- وتزوّجه من فاطمة بنت عمارة الأنصارية والتي كانت تروي عن عمرة بنت عبد الرحمن، التي تروي بدورها عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، كان له من كل ذلك ما يسر له جمع الأحاديث التي تتصل بالمغازي «1» ، وأن يصبح مصدرا كبيرا من مصادرها، وأحد أعلام الطبقة الثانية من علماء المغازي والسير. 3- عاصم بن عمر بن قتادة: يعتبر المؤرخون عاصما أحد رجال الطبقة الثانية البارزين من كتاب المغازي والسير، وجدّه قتادة بن النعمان الظفري الأنصاري كان من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشهد معه بدرا وأحدا، ويوم أحد أصيبت عينه وسقطت على وجنتيه، فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعادت أحسن عينيه وأحدّهما «2» . ولما كان قتادة أحد الصحابة المجاهدين الذين شهدوا المشاهد مع رسول الله فقد روى لابنه عمر ما شهده وشاهده بنفسه من مغاز وسير وأخبار رسول الله، ورواها عمر لابنه عاصم الذي أصبح حجة في ذلك، قال عنه محمد بن سعد: وكان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير ولتبحره فيهما فقد كلّفه الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) أن يجلس في المسجد الأموي في دمشق ليحدث الناس عن المغازي ومناقب الصحابة ففعل «3» . وكان من المصادر المهمة التي اعتمد عليها أصحاب السير

_ (1) ضحى الإسلام- أحمد أمين (2/ 324، 325) . (2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 31) . (3) انظر السيرة النبوية للشيخ محمد أبو شهبة (ص 25) .

* رجال الطبقة الثالثة من كتاب المغازي والسير:

السير والمغازي، مثل محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر الواقدي، وقد توفي عاصم (عام 120 هـ) وقيل عام سبع وعشرين ومائة. * رجال الطبقة الثالثة من كتّاب المغازي والسير: قلنا في صدر هذا البحث: إن الكتابة والتأليف في المغازي والسير خضعت لسنة التدرج والتطور، وكلّما مرّ الزمن اتسعت دائرة العلماء، ولذلك ففرسان هذه الطبقة كثيرون، ومن ثم فنحن مضطرون للحديث عن أشهرهم، مثل موسى بن عقبة، ومعمر بن راشد، حديثا موجزا، ثم نتحدث بالتفصيل عن أشهر رجال هذه الطبقة على الإطلاق وإمام هذا الفن، وهو محمد بن إسحاق؛ لأهميته وتأثيره الكبير في ذلك العلم الذي أصبح الناس فيه عيالا عليه، حسب تعبير الإمام الشافعي- رحمة الله تعالى عليه- والآن إلى الحديث عن: 1- موسى بن عقبة: هو مولى من الموالي، وكان مولى لآل الزبير، وقد مر بنا أن بيت الزّبيريين كان حافلا بعدد هائل من العلماء خاصة في ميدان المغازي والسير، مثل عروة بن الزبير وابنيه هشام ويحيى، وعمر بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن جعفر بن عبد الله بن الزبير، ويحيى بن عباد بن الزبير، وقد عرفنا الصلة التي كانت تربط الزبيريين ببيت النبي صلّى الله عليه وسلم عن طريق خالتهم السيدة عائشة رضي الله عنها مما جعلهم مصدرا موثوقا به عن أخبار سير ومغازي رسول الله، وقد استفاد مواليهم من صلتهم بهم، ومن أبرزهم عالمنا هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه، وهو موسى بن عقبة الذي كان له أخوان أكبر منه سنّا، وهما إبراهيم بن عقبة ومحمد بن عقبة، وكان الثلاثة من أبرز تلاميذ مدرسة المدينة المنورة في الفقه والحديث، وإن كان عقبة قد برز واشتهر في علم المغازي، وكان ثقة عند العلماء حتى استحق أن يقول عنه الإمام مالك بن أنس: «عليكم بمغازي ابن عقبة، وهي أصح المغازي» «1» . وقد كتب سيرة مختصرة موجزة، لم تصل إلينا كاملة، وإنما وصلتنا منها مقتطفات في طبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، ويروي موسى بن عقبة أن أحد موالى عبد الله بن عباس وهو كريب بن أبي مسلم- وضع عنده حمل بعير من

_ (1) انظر: ضحى الإسلام- أحمد أمين (2/ 327) ، والسيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة للشيخ محمد أبو شهبة (1/ 26) .

2 - معمر بن راشد:

كتب ابن عباس، مما يدل على أن التدوين قد بدأ مبكرا، غير أن معظم مدونات الفترة الأولى قد ضاعت، وقد توفي موسى بن عقبة (سنة 141 هـ) . 2- معمر بن راشد: من رجال الطبقة الثالثة البارزين من كتّاب السير والمغازي، وهو مولى من الموالي وكان من أهل الكوفة، كما يقول ابن النديم «1» ، ثم رحل إلى البصرة ثم اليمن، وظل ينتقل بين هذه البلاد، يتلقى العلم عن الشيوخ، وكان أبرز شيوخه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وكان هو من أنبل وأنجب تلاميذ الزهري- بعد ابن إسحاق- ولذلك فأكثر ما يرويه معمر عن السير والمغازي ينسبه إلى شيخه الإمام الزهري، وكان يتحلى بخلق كريم، وصفات حميدة كثيرة، يقول عنه ابن سعد: «كان معمر رجلا له حلم ومروءة ونبل في نفسه» «2» . كما كان واسع العلم بالحديث والسير والمغازي، وإن كان ابن النديم في الفهرست لم ينسب له سوى كتاب واحد في المغازي، فقد قال عنه: «معمر بن راشد من أهل الكوفة، يروي عنه عبد الرزاق، من أصحاب السير والأحداث، وله من الكتب: كتاب المغازي» «3» . وحتى هذا الكتاب لم يصل إلينا، وإنما وصلنا منه مقتطفات في الواقدي وابن سعد والبلاذري والطبري. وكانت وفاته (سنة 150 هـ) أو (152 هـ) «4» . 3- محمد بن إسحاق المطلبي «5» : إذا نحن وصلنا إلى ابن إسحاق فقد وصلنا إلى إمام الأئمة وأكبر علماء السير والمغازي على الإطلاق، وفي كل العصور، ومن عليه كان اعتماد كل من كتب في السيرة النبوية ومغازي الرسول صلّى الله عليه وسلم ممن جاؤوا بعده. فهو فارس هذا الميدان دون منازع، لقد شهد له بذلك جمع من العلماء، منهم أستاذه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، حيث قال: «من أراد المغازي فعليه

_ (1) الفهرست (ص 138) . (2) ضحى الإسلام (2/ 328) . (3) الفهرست (ص 138) . (4) ضحى الإسلام (2/ 328) . (5) انظر- فيما يتعلق بابن إسحاق وأخباره ومكانته العلمية وآراء العلماء فيه المصادر الآتية: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 321، 322) - طبعة دار صادر بيروت، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، القسم الثاني من المجلد الثالث (ص 191- 194) - دار الكتب العلمية- بيروت، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي- دار الكتاب العربي بيروت، الفهرست لابن النديم- دار المعرفة بيروت، تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 172) لسان الميزان لابن حجر (5/ 72) - مؤسسة الأعلى للمطبوعات، بيروت.

بابن إسحاق» . وقال عنه الإمام الشافعي: «من أراد التبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق» . ويقول عنه ابن خلكان وهو راوي هذه الأخبار: «وأما في المغازي والسير فلا تجهل إمامته» ، وسئل يحيى بن معين عن ابن إسحاق فقال: «قال عاصم بن عمر بن قتادة: لا يزال في الناس علم ما عاش ابن إسحاق» . وقال سفيان بن عيينة: «لا يزال في المدينة علم ما عاش هذا الغلام- يقصد ابن إسحاق-» وقال عنه الذهبي، وهو معروف بتحريه ودقته وصرامته في الحكم على الرجال: «والذي تقرر عليه العمل أن ابن إسحاق إليه المرجع في المغازي والأيام النبوية.. وكان أحد أوعية العلم، حبرا في معرفة المغازي والسير» «1» . وأقوال العلماء فيه مستفيضة، وكلها مجمعة على إمامته في المغازي والسير، لذلك رأينا أن نخصه بمزيد من التقصي والتفصيل لأخباره، حتى يعرف المسلمون علماءهم وأصحاب الفضل في إيصال أخبار وسير ومغاز وجهاد رسولهم وصحابته إليهم فمن هو ابن إسحاق. هو محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار- وقيل: يسار بن كوتان- المطلبي بالولاء، المديني؛ نسبة إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم وكان يكنّى بأبي بكر، وقيل: بأبي عبد الله، وكان جده يسار من أهل قرية عين التمر بالعراق، وقد وقع في أسر المسلمين عندما فتح خالد بن الوليد رضي الله عنه عين التمر فيما فتح من أرض العراق (سنة 12 هـ) في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (11- 13 هـ) وأرسل يسار بن خيار مع غيره من الأسرى إلى المدينة المنورة- عاصمة الدولة الإسلامية في ذلك الوقت- ولا يعرف على وجه اليقين ما إذا كانت أسرته عربية أم أعجمية، وإن كان ليس بعيدا أن تكون عربية مسيحية، وصار ولاء يسار إلى قيس بن مخرمة بن المطّلب، وقد أسلم فأعتقه مولاه، ومن ثم نسب إليهم فلقب بالمطّلبي. وكان ليسار بن خيار ثلاثة أولاد؛ أحدهم إسحاق، والد عالمنا الذي نتحدث عنه والذي طبقت شهرته الآفاق، وهو محمد بن إسحاق الذي ولد في المدينة المنورة، حوالي (عام 85 هـ) ونشأ بها، وقد سبق أن أشرنا كثيرا إلى بيئة المدينة وفضلها وصلاحها وحركتها العلمية الواسعة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم ولا ينكر أحد فضل البيئة والوسط المحيط وتأثيرهما في تنشئته الناشئة، وأي بيئة أفضل من بيئة

_ (1) انظر تذكرة الحفاظ للذهبي، ج 1، (ص 172) .

فقد أسس الفاتح عمرو بن العاص مدينة الفسطاط (سنة 21 هـ) أي: عند تمام الفتح، أسس مسجده العتيق- أو تاج الجوامع- الذي يعتبر أول مسجد يؤسس في قارة أفريقيا والذي أصبح مركزا للدراسات الإسلامية، ومدرسة من أشهر المدارس، أساتذتها هم صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم سواء الذين جاؤوا مع جيش الفتح مجاهدين، أو الذين لحقوا بهم وجاؤوا بعد تمام الفتح وطاب لهم المقام في أرض الكنانة، وعلى ضفاف النيل واستقروا فيها، وقد ازدهرت المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، وذاع صيتها، وأصبحت لها مكانة علمية رفيعة، فتاقت نفوس علماء الأقطار الآخرى إلى زيارتها وملاقاة علمائها والأخذ عنهم وإعطائهم أيضا، فالعلم أخذ وعطاء، فما من عالم كبير في المشرق- في ذلك الوقت- سواء في مكة المكرمة، أو المدينة المنورة، أو الكوفة، أو البصرة، أو دمشق، أو بغداد، إلا وتراه قد زار مصر، وتعرف على علمائها وأخذ عنهم وأعطاهم. وكان من الطبيعي أن يتطلع طالب علم نابه مثل ابن إسحاق إلى زيارة بلد مثل مصر، فشد رحاله إليها، وهو في شرخ شبابه وفي مرحلة القوة والفتوة والقدرة على السفر، والشد والترحال، وحدة الذهن والقدرة على الحفظ والاستيعاب، فقد بدأ زيارته لمصر (عام 115 هـ) ، أي: عندما كان في حوالي الثلاثين من عمره، وقد تجول في أقاليم مصر، وزار مدينة الإسكندية، التي كانت عاصمة مصر منذ أسسها الإسكندر الأكبر المقدوني، في الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد إلى الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع الميلادي، أي: أنها ظلت عاصمة مصر قرابة ألف عام، وكانت بها مدرسة علمية لها شهرة عالمية، في علوم الطب والفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء والفلسفة. فكان من الطبيعي أن يزور ابن إسحاق الإسكندرية ما دام قد حل بأرض مصر. وقد التقى بكثيرين من علماء مصر، وفي مقدمتهم عالمها الأكبر، يزيد بن أبي حبيب، وروى عنه كثيرا، وقد أشرنا فيما سبق- ونحن نتحدث عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري شيخ ابن إسحاق- إلى الوثيقة التي رواها ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، ثم عرضها على شيخه الزهري، ليتأكد من صحة المعلومات التي جاءت بها ثم التقى بعبد الله بن جعفر، والقاسم بن قزمان، وعبيد الله بن المغيرة وغيرهم، وبعد أن تزود من علم علماء مصر، وتأثر بهم وأثر فيهم، واطلع على اتجاهات المدرسة المصرية في الدراسات الإسلامية، عاد إلى المدينة ليواصل

* رحلته إلى العراق:

دراسته على أيدي أساتذته فيها. ولم يغادرها بصفة نهائية- على ما يرجح- إلا في رحلته الأخيرة إلى العراق بعد قيام الدولة العباسية (سنة 132 هـ) ، حيث عاش بقية حياته فيها. * رحلته إلى العراق: عاش ابن إسحاق في المدينة المنورة بصفة مستمرة حوالي نصف قرن، ولم يغادرها إلا للحج إلى مكة المكرمة، وزيارته لمصر سنة (115 هـ) - والتي يبدو أنها لم تطل- ويبدو أن من الأسباب التي جعلت ابن إسحاق يلزم المدينة المنورة ولم يغادرها كثيرا أن صلته لم تكن ودية مع دولة بني أمية، فلم نسمع أنه قام بزيارة لعاصمتهم دمشق، وذلك عكس أستاذه محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، الذي كان على علاقة وطيدة مع خلفاء بني أمية ومنحوه ثقتهم، خاصة أصلحهم وأعلمهم عمر بن عبد العزيز، وقد رأينا فيما سبق ثناء عمر بن عبد العزيز على الزهري. أما تلميذه ابن إسحاق فلم نسمع منه أنه اتصل بأحد من خلفاء بني أمية، ولعل موقف ابن إسحاق هذا من الدولة الأموية كان منسجما مع موقف عامة أهل المدينة الذين كانوا لا يحملون ودّا لبني أمية، ولم تنطو قلوبهم على حب لدولتهم وخلفائها ورجالها- باستثناء عمر بن عبد العزيز- الذي كان موضع حب وإعجاب وثقة جميع المسلمين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم لسلوكه القويم وصلاحه وتقواه وعدله وطهارة سيرته، أما بقية خلفاء بني أمية فلم يحظوا بحب أهل المدينة ولا رضاهم، أو قل: إن موقف أهل المدينة من خلفاء بني أمية كان أقرب إلى العداء والبغضاء منه إلى الولاء والحب والود. ولعل أهل المدينة لم ينسوا قط يوم الحرة أو موقعة الحرة التي جرت بينهم وبين جيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية (سنة 63 هـ) على إثر ثورتهم ضده التي قادها عبد الله بن حنظلة، والتي انتهت بهزيمتهم وقتل الكثيرين منهم. ونسب للجيش الأموي أعمال فظيعة إذا صحت تكون كارثة؛ لأنها تخالف مبادئ الإسلام وآداب الحرب فيه حتى مع غير المسلمين فكيف مع مسلمين يعيشون في جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على أية حال لم ينس أهل المدينة ذلك اليوم ولم تصف نفوسهم لبني أمية، وظلت ذكرى ذلك اليوم الحزين عالقة في نفوسهم، وكان ابن إسحاق واحدا منهم، شاركهم في مشاعرهم تلك وليس هذا غريبا.

خرج الناس جميعا يشيعون جنازته حتى لم يوجد في البصرة من يقيم صلاة العصر، وكذلك كانت نظرة الناس لمحمد بن سيرين وغيره من الموالي. لهذا نرى أن ما نسب لابن إسحاق في ذلك غير صحيح؛ لأنه لو كان في الولاء نقص لعاد عليه هو نفسه. أما الذي يمكن أن يكون سببا من أسباب الخلاف، فهو كثرة انتقاد ابن إسحاق لعلم مالك، فقد روي عنه أنه كان يقول: «ائتوني ببعض كتب مالك، حتى أبين عيوبه، أنا بيطار كتبه» فلما سمع مالك ذلك حنق على ابن إسحاق، وحمل عليه وسفه علمه. وقد روى الخطيب البغدادي عن أحد تلاميذ ابن إسحاق؛ وهو عبد الله بن إدريس أنه قال: قلت لمالك بن أنس- وقد ذكر المغازي-: قال ابن إسحاق: أنا بيطارها، فقال: هو قال لك: أنا بيطارها؟ نحن نفيناه من المدينة. ويضيف العلماء سببا آخر للخلاف والجفاء بين ابن إسحاق، والإمام مالك بن أنس، فيقولون: إن ابن إسحاق كان يتهم بالتشيع، فعاداه مالك بن أنس- وهو إمام من أكبر أئمة أهل السنة- من أجل ذلك «1» . وإذا كان ذلك الاتهام صحيحا فمن الجائز أن يكون أيضا وراء الجفاء وعدم المودة بين ابن إسحاق والدولة الأموية. هذا عن الخلاف- وأسبابه- بين ابن إسحاق والإمام مالك بن أنس. أما خلاف ابن إسحاق مع هشام بن عروة بن الزبير، فترجعه المصادر التي تناولته إلى أن ابن إسحاق كان يروي الحديث عن فاطمة بنت المنذر- زوج هشام بن عروة- فأغضب ذلك هشاما وأثار غيرته وحفيظته، وقال: «متى دخل عليها ومتى سمع منها؟» «2» . ويبدو أن رواية ابن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر صحيحة، أكدها سفيان الثوري حين سئل: أكان ابن إسحاق قد جالس فاطمة بنت المنذر وسمع منها؟ فقال: «أخبرني ابن إسحاق أنها حدثته وأنه دخل عليها» «3» . وهذا الخبر في حد ذاته ليس غريبا ولا مستنكرا، إنما الغريب حقّا هو غضب هشام بن عروة من ابن إسحاق، وحملته عليه بسببه، فرواية الرجال عن النساء وقعت وتقع كثيرا، ولم يستغربه أو ينكره أحد من علماء المسلمين، وقد روى الصحابة والتابعون عن أمهات المؤمنين- أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم- ولم يستنكر ذلك أحد. بل إن ابن إسحاق نفسه روى عن زوجة أستاذ آخر من أساتذته، وهي فاطمة بنت عمارة الأنصارية زوج عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، ولم ينكره ولم يعترض عليه،

_ (1) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (1/ 223، 224) . (2) انظر الفهرست للنديم (ص 136) . (3) تاريخ بغداد (1/ 221) .

* مكانة ابن إسحاق العلمية:

بل يروى أن زوجها نفسه- عبد الله بن أبي بكر- هو الذي طلب منها أن تحدّث ابن إسحاق وقال لها: «حدثي محمدا ما سمعت من عمرة بنت عبد الرحمن» فقالت له- أي لابن إسحاق- «سمعت عمرة تقول: سمعت عائشة تقول ... إلى آخر الحديث» فرواية ابن إسحاق إذا عن فاطمة بنت المنذر- زوج هشام بن عروة- ليست حدثا فريدا نادر الوقوع، بل هو أمر مألوف في تراثنا الإسلامي ولا غبار عليه. وفوق ذلك فإن فارق السن بين فاطمة بنت المنذر وبين تلميذها ابن إسحاق كبير وينتفي معه أي سبب للغيرة- التي هي شيء طبيعي في طبائع الناس لو كان لها ما يبررها- فقد ولدت فاطمة- زوج هشام- (عام 48 هـ) ، وأما ابن إسحاق فقد ولد (عام 85 هـ) كما سبق ذكره؛ فهي تكبره بسبع وثلاثين سنة. * مكانة ابن إسحاق العلمية: سبق الحديث عن مكانة ابن إسحاق العلمية وإمامته في علم المغازي والسير ولا يكاد يوجد خلاف- بل هناك إجماع- على أنه إمام ورائد في ذلك الفن، وكتابه في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم عمدة في ذلك العلم الجليل، وعليه اعتمد ومنه أخذ ونهل كل من كتب بعده في سيرة الرسول ومغازيه، وإليك آراء العلماء في مكانة ابن إسحاق، ودرجة الثقة به في الحديث الشريف عن رجال الجرح والتعديل. فمن المعلوم أن العلماء- خاصة رجال الجرح والتعديل أو من يسمّون بعلماء الرجال- يتشددون للغاية في الحكم على الرجال الذين يأخذون عنهم الحديث، أكثر من تشددهم في الحكم على رجال المغازي والسير ورواة التاريخ والأخبار؛ وذلك لأن الحديث الشريف هو المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية- بعد القرآن الكريم- وينبني عليه معرفة الحلال والحرام، وأحكام العبادات والمعاملات. لذلك وضع علماء الجرح والتعديل شروطا قاسية لرجال السند- سند الحديث- وهم سلسلة الرواة، وليس هنا مكان تفصيل ذلك. ورغم كل ذلك فإن معظم علماء الحديث يكادون يجمعون على توثيق حديث ابن إسحاق، فقد سئل يحيى بن معين- وهو من هو في علم الرجال- فقال: «كان ثقة حسن الحديث» «1» . وقال شعبة بن الحجاج: «محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث» ، وقال: «لو سوّد أحد في الحديث لسوّد ابن إسحاق» «2» .

_ (1) راجع في كل ذلك: تاريخ بغداد (1/ 218، 229) . (2) راجع في كل ذلك: تاريخ بغداد (1/ 218، 229) .

* متى ألف ابن إسحاق؟

مشاهدة مواقع الغزوات بنفسه ويتفقد الميادين التي شهدت جهاد الرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه. بل إن الاهتمام بمغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يبق مقصورا على مؤلفات علماء المغازي والسير؛ فعلماء الحديث من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهم قد ضمّنوا كتبهم أبوابا عن مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ لهذا- ربما- اكتفى محمد بن سعد بأن سمى كتاب ابن إسحاق: كتاب «المغازي» . ثم أخذت فكرة الكتابة في هذا المجال تنمو وتتطور حتى شملت حياة الرسول كلها والتأريخ للدعوة والدولة الإسلامية في عهده صلّى الله عليه وسلم وهذا ما يفهمه الناس الآن إذا تحدثوا عن السيرة النبوية. * متى ألف ابن إسحاق؟ الرواية المشهورة أن محمد بن إسحاق ألف كتابه- السيرة والمبتدأ والمغازي- في العراق بتكليف من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، فالبغدادي في تاريخ بغداد، وابن خلكان في وفيات الأعيان «1» ، وغيرهما ممن ترجموا لابن إسحاق: يروون أنه وفد على أبي جعفر المنصور في الحيرة، وذلك قبل أن يتم بناء بغداد وينتقل إليها المنصور- ولقد انتقل المنصور إلى بغداد واتخذها عاصمة لدولته (سنة 145 هـ) - وبينما كان ابن إسحاق عند المنصور، ودخل عليه محمد بن المنصور- الذي لقب بالمهدي بعد أن أصبح خليفة بعد وفاة أبيه- فقال المنصور لابن إسحاق: أتعرف هذا يا ابن إسحاق؟ قال: نعم، هذا ابن أمير المؤمنين. قال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله آدم عليه السّلام إلى يومنا هذا. فذهب فصنف له هذا الكتاب، فقال المنصور: لقد طولته يا ابن إسحاق، فاذهب فاختصره. فاختصره، فهو هذا الكتاب المختصر، وألقى الكتاب الكبير في خزانة أمير المؤمنين. معنى هذا أن سيرة ابن هشام التي بين أيدينا، والتي هي تلخيص لسيرة ابن إسحاق الأصلية، هي تلخيص التلخيص، أو مختصر المختصر، وأن الكتاب الأصلي كان كبير الحجم جدّا ولم يصل إلينا لسوء الحظ، حتى تلخيص ابن إسحاق الأصلي لم يصل إلينا كاملا حتى الآن، وإن كنا سمعنا أنهم عثروا عليه مخطوطا في المملكة المغربية ولكنهم يتكتمون أمره، وحتى الآن لا نعرف ما إذا كانوا عثروا عليه حقيقة أم لا، وإذا كانوا عثروا عليه هل نشروه أم لا، وكل ما نعرف منه هو

_ (1) انظر: تاريخ بغداد (1/ 220) ، ووفيات الأعيان (4/ 277) .

ما جاءنا عن طريق ابن هشام والذي يعرفه الناس الآن بسيرة ابن هشام والرواية السابقة عن تكليف أبي جعفر المنصور لابن إسحاق بكتابة كتاب في التاريخ من بدء الخليفة إلى وقته هي المشهورة، ومع شهرتها فإن النفس لا تطمئن إليها؛ بل يمكننا أن نقول: إن محمد بن إسحاق قد ألف كتابه، أو وضع أصوله على الأقل قبل أن يغادر المدينة المنورة إلى العراق؛ وذلك للأسباب الآتية: أولا: تنص تلك الرواية المشهورة- التي أوردها البغدادي وابن خلكان وغيرهما- على أن الخليفة أبا جعفر المنصور طلب من ابن إسحاق أن يؤلف لابنه وولي عهده- محمد المهدي- كتابا منذ خلق الله آدم إلى وقته الذي هو فيه، وذلك الوقت وإن لم يحدد بدقة، فهو بالتأكيد بعد (سنة 136 هـ) ، وهي السنة التي تولى فيها أبو جعفر المنصور الخلافة- بعد وفاة أخيه أبي العباس السفّاح- وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا توقف ابن إسحاق بالكتاب عند وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم ولم يضمنه شيئا سوى سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، إلا ما كان من حديثه عن مؤتمر السقيفة، وبيعة الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي أمور من النتائج المباشرة لوفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم. ثانيا: إن كتاب ابن إسحاق الأصلي الذي اختصره ابن هشام كان يحتوي على أخبار ما كان يرضى عنها العباسيون؛ بل كانوا يستاؤون منها، مثل مشاركة جدهم العباس بن عبد المطلب في معركة بدر في صفوف المشركين ضد النبي صلّى الله عليه وسلم ووقوعه في الأسر، وفداؤه نفسه بقدر كبير من المال، ورغم ما روي من أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال عن العباس: إنه خرج مكرها، بل نهى عن قتله- إلا أن العباسيين كانوا يستاؤون جدّا من تلك القصة- التي ذكرها ابن إسحاق في كتابه الأصلي- ونحن عرفنا ذلك من رواية العلماء الذين أخذوا عن الأصل، مثل الطبري- ولذلك حذفها ابن هشام عند تلخيصه لسيرة ابن إسحاق إرضاء للعباسيين، وتحاشى ذكرها في كتاباته كل من محمد بن عمر الواقدي، وكاتبه محمد بن سعد لنفس السبب وهو كراهية العباسيين لذكرها. لذلك لو كان ابن إسحاق قد ألف كتابه بأمر أبي جعفر المنصور لكان من المستبعد أن يذكر هذه القصة، وهو يعلم أن الخليفة يستاء من ذكرها. لذلك نرجح أن أصول الكتاب وضعت في المدينة.

أ - التاريخ الجاهلي:

في مقتطفات ليست في نص ابن هشام، وصلنا إلى الصورة التالية لمنهج ابن إسحاق: أ- التاريخ الجاهلي: وهو القسم الأول من كتاب ابن إسحاق- الذي يسميه: «المبتدأ» - الذي ينقسم إلى أربعة فصول، يتناول أولها الوحي قبل الإسلام، منذ خلق الله العالم، حتى عيسى عليه السّلام، وقد لقي هذا الفصل الحظ الأوفر من إعراض ابن هشام. ولما كان ابن إسحاق معنيّا في كل مكان بالتاريخ السنوي، أعد هذا الفصل أيضا مثل هذه الإحصاآت، وعني بروايات وهب بن منبه، وروايات ابن عباس، وأخبار الأدباء اليهود والمسيحيين، ونص الكتاب المقدس نفسه، إلى جانب رجوعه للقرآن. ويظهر فيه إلى جانب رجال الكتاب المقدس القبائل العربية، من عاد وثمود الذين أرسل الله إليهم رسله، كما يقول القرآن الكريم، لكنه يذكر أيضا طسما وجديسا؛ وهما غير مذكورتين في القرآن. ويتناول الجزء الثاني من المبتدأ الذي حفظت مادته في كتاب ابن هشام، والذي يمكن تكميله من الطبري أيضا: تاريخ اليمن في العصور الجاهلية. ويتناول الفصل الثالث من المبتدأ: القبائل العربية وعبادتها الأصنام. ويتناول الفصل الرابع: أجداد النبي صلّى الله عليه وسلم والديانات المكية. ب- المبعث: ويشمل تاريخ حياة النبي صلّى الله عليه وسلم في مكة، والهجرة، وربما شمل العام الأول من نشاطه في المدينة، ويكثر في هذا الجزء عدد الأسانيد، وجل اعتماد ابن إسحاق فيه على روايات أساتذته المدنيين التي يبرزها في نظام سنوي، وهو يقدم الأخبار الفردية بموجز حاو لمحتوياتها في الغالب، وفي هذا الجزء إلى جانب القصص التي يوردها بإسناد أو بغير إسناد، توجد وثيقة على جانب كبير من الأهمية دونها ابن إسحاق وحده، ولم يذكرها أحد من كتاب المغازي الأولين، تلك الوثيقة هي معاهدة المدينة المشهورة- التي وقعها النبي صلّى الله عليه وسلم مع قبائل المدينة- وهي المسماة ب: نظام مجتمع المدينة، ويسميها بعض الكتاب المحدثين: دستور المدينة، وكذلك يوجد بهذا الجزء من سيرة ابن إسحاق مجموعات كاملة من القوائم بأسماء الرجال، منها قائمة بأسماء المؤمنين الأولين وقائمة بأسماء المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، وقائمة بأسماء أول من أسلم من الأنصار، وقائمة بأسماء الذين اشتركوا في بيعة العقبة،

ج - المغازي:

وقائمة بأسماء المهاجرين والأنصار الذين تلقوهم في المدينة، وقائمة بأسماء المهاجرين والأنصار الذين آخى بينهم النبي صلّى الله عليه وسلم. ج- المغازي: الجزء الثالث والأخير من كتاب ابن إسحاق- والذي يسمى المغازي هو تأريخ لحياة النبي صلّى الله عليه وسلم في المدينة منذ أول يوم إلى أن لحق بالرفيق الأعلى في الثاني عشر من ربيع الأول (سنة 11 هـ) إضافة إلى بعض الأحداث التي ترتبت على وفاته صلّى الله عليه وسلم مثل: مؤتمر سقيفة بني ساعدة، الذي ناقش فيه الصحابة من المهاجرين والأنصار مسألة الخلافة، والذي انتهوا فيه إلى بيعة أبي بكر الصدّيق خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في حكم الأمة الإسلامية. ولم يكد ابن إسحاق يترك شيئا من أعمال النبي صلّى الله عليه وسلم في المدينة، بدا من تأسيس مسجده والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار- طبعا جل المؤاخاة كانت بين المهاجرين والأنصار- لكن كانت إلى جانب ذلك مؤاخاة بين مهاجر ومهاجر؛ كمؤاخاته صلّى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب، وكمؤاخاة عمه حمزة بن عبد المطلب مع مولاه زيد بن حارثة- وهم مهاجرون- إضافة إلى معاهدة المدينة، وهذه الثلاثة، بناء المسجد والمؤاخاة والمعاهدة يعتبرها المؤرخون أهم أركان وأسس الدولة الإسلامية، التي أقامها الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، ثم تنتشر في هذا الجزء من كتاب ابن إسحاق أخبار غزوات الرسول صلّى الله عليه وسلم بشكل تفصيلي وكل ما يتعلق بذلك من تشريع وأخبار وأحكام، كما تنتشر فيه أيضا أخبار النبي الشخصية خاصة أزواجه وعلاقاته بهن، وهكذا إلى أن وصل إلى مرض ووفاة النبي صلّى الله عليه وسلم. فعالج كل ذلك بتفصيل واف والقاعدة الرئيسية هنا هي وجود الإسناد، ومصادر ابن إسحاق في كل ذلك شيوخه المدنيون، وأهمهم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو. * عمرو بن حزم الأنصاري: الذي يدين له ابن إسحاق بالنظام السنوي في ترتيب الأحداث، وإضافة إلى هؤلاء الشيوخ الكبار؛ فإن ابن إسحاق أخذ كثيرا عن غيرهم، خاصة من أقارب الرجال والنساء الذين اشتركوا في الحوادث، وسمعوا منهم، وأدوا ما سمعوه لابن إسحاق وغيره، ويستخدم ابن إسحاق منهجا واضحا ومحددا في عرض غزوات الرسول صلّى الله عليه وسلم فيقدم ملخصا للمحتويات في المقدمة، ثم يتبع ذلك بخبر جماعي

* الواقدي:

قيض الله له الأستاذ وستنفيلد فقام على تحقيقه، وطبعه في مدينة جوتنجن بألمانيا (سنة 1859 م) . ومنذ أن ظهر مطبوعا عرف الناس قيمته، وتوجهت إليه أنظار الباحثين والمهتمين بسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانتشر انتشارا واسع النطاق في ربوع العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. وتوالت طبعاته بعد ذلك، فطبع في مطبعة بولاق، وظهرت له أكثر من طبعة محققة، من أهمها تلك التي حققها فضيلة الشيخ المرحوم محمد محيي الدين عبد الحميد- عميد كلية اللغة العربية الأسبق- وأحد كبار العلماء، ومن الذين لهم في مجال التحقيق باع طويل. كذلك من الطبقات المحققة تحقيقا جيدا تلك التي قام بتحقيقها الأستاذ مصطفى السقا وزملاؤه. وبعد؛ فهذا هو محمد بن إسحاق- أحد أعلام الطبقة الثالثة- بل رأس تلك الطبقة من كتّاب المغازي والسير، والرائد الأول للكتابة المنظمة المنهجية في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا هو كتابه الخالد الذي لم يسبقه أحد إلى مثله، والذي أصبح الأصل الأصيل لكل من كتب في السيرة النبوية منذئذ إلى وقتنا هذا، وسيظل هو المرجع الأساسي في علوم السيرة. ولا أظن أن هذا البحث يكتمل دون أن يتضمن تعريفا بعلمين آخرين من أعلام كتابة المغازي والسير، وهما محمد بن عمر الواقدي، وتلميذه وكاتبه محمد بن سعد. * الواقدي: هو محمد بن عمر بن واقد- الملقب بلقبه المشهور الواقدي- وهو مولى من الموالي، قيل: مولى بني هاشم، وقيل: مولى بني سهم بن أسلم. يعتبر الواقدي- عند العلماء- «1» الثاني بعد ابن إسحاق في سعة العلم بالمغازي والسير. وقد ولد الواقدي بالمدينة المنورة (سنة 130 هـ) وتوفي (سنة 207 هـ) ببغداد، ودفن في مقابر الخيزران، حسب رواية تلميذه محمد بن سعد، وقد لقي كثيرا من الشيوخ وأخذ عنهم العلم مثل معمر بن راشد، ومالك بن أنس- الإمام المشهور- وسفيان الثوري، ومن أشهر شيوخه في السير والمغازي والتاريخ أبو معشر

_ (1) انظر ضحى الإسلام (2/ 333) .

السّندي، الذي وصفة الإمام أحمد بن حنبل بأنه كان بصيرا بالمغازي «1» . وقد ألف فيها كتابا ذكره ابن النديم في الفهرست، اقتبس منه ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى في الجزء الخاص بالسيرة النبوية وكذلك الطبري. وقد استفاد الواقدي كثيرا من علم أبي معشر خاصة في المغازي والتاريخ عندما تتلمذ عليه وهو في المدينة «2» . وقد اتصل الواقدي بالخلفاء العباسيين، بدا من هارون الرشيد عن طريق علمه وسعة معلوماته عن الغزوات ومشاهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد روي أن أمير المؤمنين هارون الرشيد لما حجّ في أول سنة من خلافته (سنة 170 هـ) ، قال ليحيى بن خالد البرمكي: «ارتد لي رجلا عارفا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل عليه السّلام على النبي صلّى الله عليه وسلم. ومن أي وجه كان يأتيه، وقبور الشهداء. فسأل يحيى بن خالد عن العالم الذي تتوفر فيه تلك الصفات التي طلبها الخليفة فدله الناس على الواقدي، وذلك حسب قوله هو- أي: الواقدي- فقد قال: «كلهم دلّه عليّ، فبعث إليّ فأتيته، وذلك بعد العصر، فقال لي: يا شيخ؛ إن أمير المؤمنين- أعزه الله- يريد أن تصلي العشاء الآخرة في المسجد، وتمضي معنا إلى هذه المشاهد، فتوقفنا عليها ففعلت، ولم أدع موضعا من المواضع، ولا مشهدا من المشاهد إلا مررت بهما- يعني الخليفة هارون الرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكي- عليه، ومنحاه مالا كثيرا وطلب إليه يحيى بن خالد البرمكي- الذي كانت كلمته نافذة في الدولة العباسية كلها في ذلك الوقت- أن يصير إليه في العراق، ففعل، وتوطدت صلته به وأغدق عليه كثيرا من الأموال وأخلص هو في حبه للبرامكة، حتى أنه بعد نكبتهم المشهورة (سنة 187 هـ) كان كثير الترحم على يحيى بن خالد كلما ذكر اسمه. ورغم صلة الواقدي القوية بالبرامكة إلا أن مكانته في بلاط خلفاء بني العباس ظلت كما هي ولم ينله ضرر بسبب تلك الصلة بعد نكبتهم، بل ازدادت مكانته وثقة الخلفاء فيه إلى الحد الذي جعل المأمون يوليه القضاء في عسكر المهدي، وهي المحلة المعروفة بالرصافة في شرق بغداد. وكان المأمون كثير الإكرام له، ويداوم على رعايته، وظل في منصب القضاء حتى وفاته (سنة 207 هـ) على أرجح الأقوال.

_ (1) انظر ضحى الإسلام (2/ 333) . (2) انظر ضحى الإسلام (2/ 333) .

* محمد بن سعد:

لهم على سلامة منهجه، فجاءهم بالأحاديث الخاصة بغزوة أحد باتباع إفراد كل حديث بسنده فاستكثروا ذلك، وقالوا: ردّنا إلى الأمر الأول «1» . والخلاصة، أنه مهما كان من أمر اختلاف العلماء حول الواقدي- والناس لا يختلفون عادة إلا على الأشياء الكبيرة- فقد كان واسع العلم بالمغازي والسير، كما كان عالما بالفقه والحديث والتفسير، وكان من أكبر المصادر التي عول عليها واعتمدها كبار المؤرخين، خاصة الطبري. وقد سبق أن ابن النديم عدّ للواقدي ما يقرب من أربعين كتابا في مختلف العلوم الإسلامية، أشهرها في السير والمغازي، والفتوح، كفتوح الشام، وفتوح العراق. فرحمه الله وجزاه عن العلم خير الجزاء. * محمد بن سعد: يعتبر محمد بن سعد آخر الكتاب الكبار في المغازي والسير، وهو من مواليد البصرة (سنة 168 هـ) ، وكان من الموالي؛ فاباؤه كانوا موالي للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وقد رحل ابن سعد إلى المدينة المنورة، ثم إلى بغداد، حيث اتصل بأستاذه محمد بن عمر الواقدي، وارتبط به ارتباطا وثيقا، وكان يدوّن له كتبه وأحاديثه «2» ، ومن أجل ذلك اشتهر بأنه كاتب الواقدي، واستفاد ابن سعد من أستاذه فائدة كبرى، ومعظم كتبه التي ألفها استقاها من علمه- وليس معنى هذا أنه لم يستفد من علم غيره، فقد استفاد كثيرا من علماء آخرين سبقوا الواقدي كابن إسحاق وأبي معشر السندي، وموسى بن عقبة، وغيرهم- وكما استفاد ابن سعد من علم أستاذه، فقد كان هو نفسه صاحب فضل كبير في ترتيب علم أستاذه، وكثيرا ما كان يزيد عليه، فقد كان يكمل ما كان ينقص الواقدي من أخبار الجاهلية. وقد استعان في ذلك بعلم هشام الكلبي، الذي كان حجة في أخبار الجاهلية وقد خلف لنا ابن سعد واحدا من أهم وأشهر المصادر الإسلامية، في السير والمغازي، وأخبار الصحابة والتابعين وطبقاتهم- وهو كتاب الطبقات الكبرى، والذي وصلنا سالما- لحسن الحظ- وهو في ثمانية أجزاء، وقد خصص ابن سعد الجزأين الأول والثاني منه لسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومغازيه والأجزاء الستة الباقية خصصها لأخبار الصحابة والصاحبيات والتابعين

_ (1) انظر تاريخ بغداد (3/ 7) ، وضحى الإسلام (2/ 337) . (2) انظر الفهرست لابن النديم (ص 145) .

والتابعيات حسب مواطنهم وأمصارهم؛ فمن في مكة المكرمة، ومن في المدينة المنورة، ومن في البصرة، ومن في الكوفة، ثم رتب علماء كل مصر، حسب شهرتهم وزمانهم. وكان ابن سعد موضع ثقة المحدثين، ومدحه كثيرون منهم، فقد قال فيه الخطيب البغدادي: «محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه، فإنه يتحرى في كثير من رواياته» «1» . وإذا كان ابن سعد قد تتلمذ على أشهر علماء السير والمغازي في وقته، وارتبط اسمه واشتهر بأنه كاتبه، وهو الواقدي؛ فقد كان هو بدوره أستاذا لكثير من العلماء، من أشهرهم المؤرخ الكبير، البلاذري صاحب كتاب فتوح البلدان، وهو من أشهر وأهم الكتب في موضوعه. وقد توفي ابن سعد في بغداد (سنة 230 هـ) رحمه الله رحمة واسعة. هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم، هم أشهر وأكبر مؤرخي وكتاب المغازي والسير، طوال القرنين الأول والثاني للهجرة ومطلع القرن الثالث، ومن خلال ما مر نستطيع أن نستنتج النتائج الآتية «2» : 1- إن أكثر وأشهر كتاب السير والمغازي الأولين، كانوا من أهل من المدينة، وكان ذلك أمرا طبيعيّا؛ لأن أكثر أحداث السيرة وكل المغازي كانت في المدينة، والنبي صلّى الله عليه وسلم هو محور كل ذلك، وكان من حوله من الصحابة أعرف الناس بتلك الأخبار؛ لأنهم شهودها ومشتركون فيها، وكان يروونها ويحدثون بها ويتناقلونها في فخر واعتزاز كبيرين، وقد تلقى التابعون منهم كل ذلك بشغف كبير وسلموا كل ذلك إلى رجال التدوين الذين حفظوه بكل تفاصيله وسلموه بدورهم للأجيال التالية حتى وصل إلينا، وهو ثروة قلما حظيت بها أمة من الأمم عن تاريخ نبيها وسيرته ومغازيه، فجزاهم الله خير الجزاء، وغفر لهم، وأسكنهم فسيح جناته. 2- كانت السير والمغازي- في البداية- جزآ من الحديث يرويه الصحابة، كما يروون الأحاديث، وقد شغلت السيرة النبوية حيزا غير قليل من الأحاديث، والذين ألفوا في الأحاديث لم تخل كتبهم من ذكر ما يتعلق بحياة النبي صلّى الله عليه وسلم ومغازيه

_ (1) انظر تاريخ بغداد (5/ 321) ، انظر كذلك ضحى الإسلام (2/ 338) . (2) انظر في ذلك ضحى الإسلام (2/ 338، 339) .

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة

البحث الثاني صدى الدعوة في مدن الحجاز غير مكة - كالطائف والمدينة

[البحث الثاني] صدى الدعوة في مدن الحجاز غير مكة- كالطائف والمدينة * الحالة الدينية في الحجاز قبيل ظهور الإسلام: شبه جزيرة العرب- بصفة عامة- من أولى بقاع الأرض التي عرفت الأديان السماوية، فكل الرسالات التي عرفها تاريخ البشرية نزلت على رسل، إما نشؤوا في شبه جزيرة العرب أو على مقربة منها. ومهما حاولنا تعليل اختصاص الله سبحانه تعالى هذه البقعة من الأرض برسالات السماء وتشريفها بها، فلن نصل إلى كنه الحقيقة؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم حيث يجعل رسالته. ومع هذا فإن شبه الجزيرة العربية، كانت بصفة عامة تعيش، قبيل ظهور الإسلام، عهدا وثنيّا، فكيف يتفق هذا مع كونها مهدا للأديان السماوية، ومن أين جاءتهم الوثنية إذن؟ القصة المشهورة هي أن عمرو بن لحي الخزاعي هو أول من أدخل الوثنية إلى بلاد العرب «1» ، نقلها من الشام إلى الحجاز، ومن ثم انتقلت إلى بقية بلاد العرب «2» ، ولكن يبدو أن هذه القصة ليست حقيقة تاريخية. فمن تتبع قصص الأنبياء الذين نشؤوا في شبه الجزيرة العربية في القرآن الكريم، يتضح لنا أنها عرفت الوثنية بأشكال متعددة قبل أن تعرف رسالات السماء، فعندما تقول عاد- وهم من العرب البائدة الموغلة في القدم- لهود عليه السّلام: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود: 53] . فمعنى ذلك أنهم كانت لهم آلهة وثنية يعبدونها، وأن بلاد العرب عرفت الوثنية قبل قصة عمرو ابن لحي. ولما امتنّ الله على هذه البلاد برسالات السماء آمن بها من آمن، وظل على وثنيته من ظل إلى أن كانت رسالة إبراهيم وإسماعيل عليهم السّلام في إقليم الحجاز وعاشت زمنا طويلا. وبتطاول الزمن نسي الناس، إلا قليلا منهم، هذه الرسالات السماوية، وعادوا أدراجهم إلى الوثنية، ولم يبق من رسالات السماء في الحجاز إلا ظل باهت، ظل في عقول بعض الرجال الذين أدركوا فساد عبادة الأوثان، ومنافاتها حتى للكرامة الإنسانية «3» .

_ (1) ابن هشام- السيرة (تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (1/ 81) وما بعدها، وابن كثير- البداية والنهاية، بيروت: مكتبة المعارف) (2/ 187) . (2) لم تكن كل شبه الجزيرة العربية وثنية، فقد كانت النصرانية في نجران واليهودية في يثرب وشمال الحجاز في القرى اليهودية هناك. (3) يمثل هذا الفرق من الذين رفضوا الوثنية ولكنهم حاروا في كيفية الوصول إلى حقيقة الألوهية، ورقة-

حتى يروى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال وقد روي له بعض شعر أمية: «أمية آمن شعره وكفر قلبه» «1» ؛ لأن الرجل رغم عزوفه عن عبادة الأوثان وإيمانه بالبعث إلا أنه لم يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم حينما جاءته رسالة التوحيد؛ لأن الحسد أكل قلبه على النبي صلّى الله عليه وسلم «2» ، شأن الكثيرين- سواء في مكة أو الطائف- من الذين حسدوه صلّى الله عليه وسلم على النبوة وكانوا يرون أنفسهم أحق بها، ولكن الله تعالى رد عليهم أبلغ رد بأن النبوة هبة من الخالق يهبها لمن يشاء من عباده، فعندما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، قال: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف: 32] . «وللحسد والتنافس والتنازع في هذه النفوس البدوية من عميق الأثر ما يخطئ الإنسان إذا هو حاول الإغضاء عنه أو لم يقدره حق قدره» «3» . وقد أعمى الحسد بصائرهم عن إدراك الحقيقة، فأمية بن أبي الصلت- الذي كان يبشر في شعره بدين جديد- دفعه الحسد لأن يتخذ من النبي صلّى الله عليه وسلم موقفا معاديا، فلم يؤمن به، بل أكثر من ذلك أظهر تعاطفه مع قريش، حتى إنه حزن على قتلاها في بدر ورثاهم بشعر كثير «4» . معنى ذلك أن صدى الدعوة أخذ يتردد في الطائف منذ وقت مبكر، فالمسافة بين مكة والطائف ليست طويلة، والركبان لا تنقطع بين المدينتين لتشابك المصالح وترابط العلاقات، فكل ما يحدث في مكة- وبصفة خاصة إذا كان أمرا كالدعوة الإسلامية- لابد أن يكون له صدى في الطائف، ولكن رغم ذلك فإن المصادر لا تحدثنا عن ميل أحد من أهل الطائف إلى الإسلام من ناحية، ولم تحدثنا كذلك عن موقف عدائي إيجابي ضد النبي صلّى الله عليه وسلم قبل أن يتصل بهم في رحلته المشهورة إليهم، والتي كانت في العام العاشر للبعثة. والذي يبدو لنا أن أهل الطائف اعتبروا أمر النبي صلّى الله عليه وسلم ودعوته في مكة، أمرا داخليّا يخص قريشا وحدها، ولم يشاؤوا أن يقحموا أنفسهم في هذا الأمر، ولكن إذا جاز لنا أن نتعرف على أسباب وقوف الطائف هذا الموقف من دعوة النبي، فإن

_ (1) محمد حسين هيكل- حياة محمد، الطبعة السابعة، (القاهرة: دار القلم) (ص 75) . (2) جواد علي- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (الطبعة الأولى، بيروت: دار العلم للملايين) (9/ 753) . (3) محمد حسين هيكل- المرجع نفسه (ص 176) . (4) ابن هشام- المصدر نفسه (2/ 401) وما بعدها، جواد علي- المرجع السابق (9/ 753) .

هذا الموقف لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء مكانة قريش بين العرب من ناحية، وفي ضوء علاقات ثقيف بقريش من ناحية. فمكانة قريش الممتازة بين العرب وزعامتها ليست محل نزاع، وبناء على ذلك فإن أية قبيلة تقترب من النبي صلّى الله عليه وسلم في مرحلة الصراع بينه وبين قريش، كان يعتبر ذلك عداء مكشوفا لقريش، فإذا آمنت به وآزرته فإنها الحرب الصريحة لا محالة، ولم يكن أحد من العرب- لا ثقيف ولا غيرها- راغبا في أن يدخل مع قريش لا في عداء ولا في حرب. وقد يتميز موقف ثقيف عن غيرها من العرب في هذه الناحية بعلاقاتها القوية مع قريش، وكانت هذه العلاقات متعددة ومتنوعة، فيوجد بين مكة؛ حيث تسيطر قريش، وبين الطائف؛ حيث تسيطر ثقيف- أكثر من وجه للشبه، فإذا كانت مكة هي قلعة الوثنية في بلاد العرب؛ فإن الطائف مركز من مراكزها، وإذا كانت مكة مدينة تجارية؛ فإن الطائف مدينة تجارية زراعية صناعية، وكانت تصرف منتجاتها في مكة، وفي الأسواق الواقعة بينهما «وكان تجار مكة يجلبون من الطائف الخمور والزبيب والأدم (الجلود المدبوغة) ، وكان أهل مكة يستهلكون كثيرا من أعناب الطائف ورمانها، كما أن الثقيفيين كانوا يشاركون في قوافل مكة التجارية» «1» . وفوق ذلك فقد كانت هناك كثير من المصاهرات بين قريش وثقيف «2» وكان معظم أغنياء مكة يملكون دورا وعقارات في الطائف ويقضون الصيف بها، بل كان هناك قرشيون يعيشون في الطائف بصفة دائمة «3» . كما كانت القبيلتان تتشاوران في الأمور الخطيرة، وتتبادلان الرأي «4» . مما سبق يتضح لنا أن العلاقات والمصالح المشتركة، جمعت بين المدينتين ووحدت بين مواقفهما، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلم وعارضته قريش، بل تزعمت معارضته؛ كانت حريصة على أن تضمن ولاء أصدقائها للوقوف معها في وجه النبي صلّى الله عليه وسلم الذي رأت- لقصر نظرها- أن رسالته تهدد مصالحها، ولذلك يلمح الإنسان نوعا من توحيد المواقف. فقولهم جميعا كما يقص القرآن الكريم: وَقالُوا*

_ (1) أحمد إبراهيم الشريف- مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول، (الطبعة الثانية، القاهرة: دار الفكر العربي) (ص 147) . (2) ابن هشام- المصدر نفسه (3/ 361) . (3) ياقوت معجم البلدان (4/ 9) أحمد إبراهيم الشريف- المرجع نفسه (ص 147) . (4) ابن هشام- المرجع نفسه.

* الحالة الدينية في المدينة قبيل البعثة:

الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك، وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك» «1» . هذا هو موقف زعماء ثقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد تخلوا حتى عن أبسط مبادئ الرجولة والنخوة العربية؛ إذ لم يكفهم أنهم خيبوا أمله فيهم ولم يؤمنوا به ولم ينصروه، بل سبوه وأغروا به سفهاءهم يصيحون به ويشتمونه ويقذفونه بالحجارة. ورفضوا أن يكتموا أمره، حيث كان يخشى انعكاس الموقف على أهل مكة وشماتتهم به، لكنهم لم يكتموه بل تعمدوا إظهار موقفهم المخزي هذا، لتطمئن قريش على موقفهم معها ومعاضدتها في عدائها للنبي صلّى الله عليه وسلم وسبب له ذلك حرجا وضيقا، فلم يستطع دخول مكة إلا في جوار المطعم بن عدي، ولم يكونوا يدرون أنهم بذلك فوتوا على أنفسهم فرصة نادرة، فلو قبلوا منه ونصروه لسموا أنصارا، ولكن هذا شرف كان الله تعالى قد ادخره لقوم آخرين. ولن يمر وقت طويل حتى يهيئ الله تعالى لدينه ونبيه أنصارا ودارا آمنة في المدينة، وسيتمكن من دحر قريش وإجبارها على قبول الإسلام كارهة، بعد أن رفضته طائعة. وبعد إذعان قريش تحت قوة السلاح، سيأتي دور ثقيف. فبعد إذعان قريش لم يعد في طاقة أحد من العرب أن يقف في وجه الدعوة التي جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. وصدق الله العظيم إذ يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32، 33] . * الحالة الدينية في المدينة قبيل البعثة: المدينة المنورة؛ ذلك هو الاسم الذي أصبح أشهر الأسماء لمدينة يثرب الحجازية «2» ، بعد أن هاجر إليها كامل النور محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يسمح لنا المقام في هذا الحديث أن نخوض في تاريخ يثرب القديم، وتطورها وعناصر سكانها عبر مراحل هذا

_ (1) ابن هشام- المصدر نفسه (2/ 25، 29) ، الزخرف (32، 33) ، السهيلي- الروض الأنف (4/ 33، 35) ، عيون الأثر (1/ 134) . (2) يقول ياقوت: «ولهذه المدينة تسعة وعشرون اسما؛ وهي المدينة وطيبة وطابة، والمسكينة والعذراء ... » إلخ انظر معجم البلدان (5/ 83) .

التاريخ، خصوصا وأنه تاريخ يحوطه الغموض إلى حد كبير «1» ، وإنما يعنينا في المقام الأول هنا، هو معرفة الحالة الدينية في يثرب قبل البعثة- بإيجاز شديد- لنعرف أثر ذلك في صدى الدعوة لدى أهل يثرب. والوضع الديني في يثرب يختلف عنه في مدن الحجاز الآخرى كمكة والطائف مثلا؛ فمكة والطائف مدينتان وثنيتان، أما يثرب فقد تجاورت فيها الوثنية مع اليهودية، ولم تختلف يثرب عن مكة والطائف في الناصية الدينية فقط؛ وإنما في عناصر السكان والسيطرة كذلك، فمكة والطائف مدينتان عربيتان خالصتان، تسيطر على كل منهما قبيلة عربية واحدة. أما في يثرب فقد اختلف الوضع، فقد تجاور فيها العرب مع اليهود، وكان لهؤلاء دينهم، ولهؤلاء دينهم، بل يمكن القول: إن اختلاف الدين كان بسبب اختلاف عناصر السكان، فقد كان عرب يثرب (الأوس والخزرج) وثنيين وقد لا يختلفون في ذلك عن عرب مكة والطائف، من حيث تعلقهم بالأصنام والالتفاف حولها. أما اليهود فكانت لهم ديانتهم؛ وهي في أصلها وجوهرها ديانة توحيد، لكن اليهود الذين عاصروا الدعوة حرفوها وانحرفوا بها عن أصلها، كما أخبر بذلك القرآن الكريم (المائدة: 13، 41 على سبيل المثال) . ولعل تحريف اليهود لديانتهم والبعد بها عن جوهرها كان أحد أسباب عدم اعتناق عرب يثرب لها؛ لأنها لم تكن مقنعة لهم، بالإضافة إلى ادّعاء اليهود أنهم شعب الله المختار، وأن الله اختصهم بهذه الديانة ولم يشاؤوا أن يشاركهم غيرهم فيها؛ فلم يبذلوا أي جهد لدعوة العرب إلي دينهم. ولما كان لليهود من أثر في موقف أهل يثرب (بل مواقف كثيرين من العرب) ، من الدعوة وفي تطور هذا الموقف، فينبغي أن نعرف شيئا من أخبارهم وتطور وجودهم وعلاقاتهم بمواطنيهم من العرب إلى أن جاء الإسلام، أو بمعنى آخر ينبغي أن نعرف متى جاؤوا إلى يثرب، ومن أين جاؤوا وما هو أصلهم؟ يختلف المؤرخون حول تحديد الزمن الذي جاء فيه اليهود إلى يثرب، وإقليم الحجاز عامة، فيرى البعض أنهم جاؤوا إلى الحجاز بعد خروج موسى عليه السّلام بهم من مصر «2» ، وقبل دخولهم إلى فلسطين. ومنهم من يرى أنهم جاؤوا في عهد داود عليه السّلام. وهذه أقوال

_ (1) أحمد إبراهيم الشريف- المرجع نفسه (ص 289) . (2) انظر ياقوت- معجم البلدان (5/ 84) ، وأحمد إبراهيم الشريف- المرجع السابق (ص 305) ، وابن رسته- الأعلاق النفيسة، (طبع ليدن، 1981 م) (ص 60) .

بعيدة جدّا عن الاحتمال؛ لأن قصة مجيئهم في عهد موسى عليه السّلام أقرب إلى الأسطورة منها إلى التاريخ الصحيح؛ لأنها تحكي أنهم دخلوا الحجاز- ويثرب بصفة خاصة- مهاجمين محاربين، وهذا لا يتناسب مع جبنهم- في الفترة نفسها- عن دخول فلسطين مع موسى عليه السّلام، كما يقص علينا القرآن الكريم (المائدة: 23- 26) . فلا يعقل أن يجبنوا عن دخول فلسطين ثم يهاجموا الحجاز، خصوصا وأن القرآن يتحدث عن تيههم في صحراء سيناء قبل دخولهم فلسطين (مع يوشع بن نون) ، والقرآن الكريم هو مصدرنا الرئيس عن تاريخ اليهود في جزيرة العرب «1» ، وإنما الأقرب إلى المنطق والقبول ذلك الرأي الذي يذهب أصحابه إلى أن مجيء اليهود إلى الحجاز بدأ منذ القرن الأول بعد الميلاد، بعد أن اشتد ضغط الرومان عليهم، فهاجر بعضهم إلى الحجاز وسكنوا يثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى، وهي منطقة الواحات والوديان- الصالحة للزراعة- الواقعة بين يثرب وفلسطين «2» . وبناء على اعتماد ذلك الرأي تكون جنسية يهود الحجاز محددة بأنهم إسرائيليون، أي: ينتسبون إلى إسرائيل- وهو يعقوب عليه السّلام- لأن الآيات القرآنية التي تحدثت عنهم قد نسبتهم صراحة إلى إسرائيل دون استثناء. «وربطت بينهم وبين بني إسرائيل الأولين من لدن موسى، بل من لدن يعقوب- الذي كان إسرائيل اسمه الثاني- على ما ذكره سفر التكوين» «3» . لذلك لا عبرة بما يذهب إليه بعض المؤرخين من أن يهود يثرب كانوا عربا تهودوا «4» ، أي: اعتنقوا اليهودية. أما عرب المدينة- الأوس والخزرج- فينتمون إلى قبائل الأزد اليمنية التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب وتدهور الأحوال الاقتصادية فيها، وأرجح الأقوال أن مجيئهم إلى يثرب كان في حوالي أواخر القرن الرابع الميلادي «5» . ومعنى ذلك أن وصولهم إلى يثرب كان لاحقا على وصول اليهود إليها، الذين كانوا أصحاب النفوذ والثروة فيها، ومع ذلك فقد قبلوا سكنى العرب معهم في يثرب على مضض، وتراوحت العلاقات بينهم من الصراع إلى الحلف

_ (1) جواد علي- تاريخ العرب قبل الإسلام (6/ 513) . (2) أحمد إبراهيم الشريف، المرجع نفسه (ص 307) . (3) محمد عزة دروزة، تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم، (بيروت: المكتبة العصرية، 1389 هـ/ 1969 م) ، (ص 423) . (4) انظر تاريخ اليعقوبي (2/ 36) . (5) أحمد إبراهيم الشريف- المرجع نفسه (ص 315) ، وابن رسته (ص 64) .

* صدى الدعوة في يثرب:

والموالاة، وفي النهاية تغلب العرب وأصبح زمام الأمر بأيديهم، غير أن نقطة الضعف الرئيسة في موقف عرب يثرب من الأوس والخزرج هي التنافس والعصبية فيما بينهم، وكانت تلك هي فرصة اليهود- غالبا- الذين كانوا يحرشون بينهم ويذكون روح العصبية والتنافس حتى يصل الأمر إلى الحروب وسفك الدماء بين الإخوة، وظهر الإسلام والأمر على تلك الحال، وكانت آخر الحروب بين الأوس والخزرج، هي حرب بعاث التي وقعت قبيل الهجرة بقليل. * صدى الدعوة في يثرب: كان من الطبيعي أن ينتشر أمر الدعوة، وبصفة خاصة بعد أن جهر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين العرب عامة؛ لأنه ما إن جهر بها حتى أصبحت حديث مكة كلها. وأمر خطير كهذا لا بد أن يتردد صداه في كل بلاد العرب؛ لأنه ما من قبيلة من قبائل العرب بعدت ديارها عن مكة أو قربت، إلا كان يأتي بعض رجالها إلى مكة في موسم الحج، ومكة بلد تجاري، لها ارتباطات تجارية كانت تتعدى حدود بلاد العرب نفسها، فإليها يفد الناس لشتى الأغراض، ومنها تخرج الوفود والقوافل التجارية ومن ثم يمكن القول: إن أخبار مكة تصل إلى جميع بلاد العرب، بل خارج بلاد العرب. وكان من عادة العرب أن يجتمعوا في الموسم، كما كانوا قبل الموسم وبعده يجتمعون في الأسواق العربية الشهيرة مثل عكاظ ومجنة وذي المجاز- القريبة من مكة- والتي كانت تعتبر فوق غرضها التجاري منتديات أدبية وسياسية لتبادل المعلومات والأخبار عن أحوال العرب. وكان من الطبيعي أن يكون أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودعوته على رأس الموضوعات التي يدور حولها الجدل والنقاش وتبادل الأفكار والآراء، وتعود وفود العرب بعد الموسم إلى ديارها فيكون خبر الرسول صلّى الله عليه وسلم والرسالة أهم الأخبار التي يعودون بها. وكان من الطبيعي كذلك أن تكون يثرب من أوائل المدن العربية التي يتردد فيها صدى دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم، ويكون له دوي يختلف عن دويه في غيرها من المناطق؛ ذلك لأن لأهل يثرب علما مسبقا بها، مما كانوا يسمعونه من مواطنيهم اليهود الذين كانوا يعلمون ذلك من كتبهم المقدسة، يقول ابن إسحاق: «فلما انتشر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العرب وبلغ البلدان، ذكر بالمدينة، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين ذكر وقبل أن يذكر، من هذا الحي من الأوس والخزرج، وذلك لما كانوا يسمعون

من أحبار اليهود، وكانوا لهم حلفاء ومعهم في بلادهم» «1» . ولكن رغم ذلك فإن ما توحي به لنا المصادر- التي بين أيدينا- أن موقف أهل يثرب من الدعوة في البداية، وقبل الاتصالات التي تمت بين بعضهم وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم، تلك الاتصالات التي انتهت ببيعتي العقبة، اللتين مهدتا للهجرة، كان مشابها لموقف سائر العرب، وهو موقف الترقب والانتظار، واعتبار الأمر يخص قريشا وحدها. وكان بين أهل يثرب وأهل مكة صلات طيبة ومصاهرات. «فقد أصهر هاشم بن عبد مناف إلى بني النجار، وظل ابنه عبد المطلب على صلة وثيقة بأخواله هؤلاء، كما كان لغيره من زعماء مكة صداقات مع زعماء يثرب، فقد كان أمية بن خلف الجمحي صديقا لسعد ابن معاذ الأشهلي زعيم الأوس، كما كان العاص بن وائل السهمي وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس وغيرهم، على صلات طيبة ووثيقة بأهل يثرب» «2» . لذلك كان أهل يثرب حريصين على استمرار تلك الصلات الطيبة مع مكة، ولم يشاؤوا أن يقحموا أنفسهم في أمر كانوا يعتبرونه خاصّا بها، وكان يهمهم أن تحل مكة مشكلاتها مع المحافظة على وحدتها وصلاح ذات بينها؛ لذلك لما ترامت إليهم أخبار تصاعد موقف أهل مكة في عداوتهم للنبي صلّى الله عليه وسلم وإيذائهم له، أظهروا قلقهم وخوفهم من حدوث حرب أهلية بين أهل مكة بسبب النبي صلّى الله عليه وسلم، ودفع هذا القلق رجلا من أهل يثرب، هو أبو قيس بن الأسلت، إلى أن يحذر قريشا من مغبة التمادي في عداوتها للنبي صلّى الله عليه وسلم، وينصحها بعدم اللجوء إلى الحرب. يقول ابن إسحاق: فلما وقع ذكره- أي: رسول الله- بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف، قال أبو قيس بن الأسلت- وكان يحب قريشا وكان لهم صهرا- قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشا فيها عن الحرب، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض، ويذكر فضلهم وأحلامهم، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده، فقال: أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النّأي محزون بذلك ناصب أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب

_ (1) ابن هشام- المصدر نفسه (1/ 299، 300) . (2) أحمد إبراهيم الشريف- المرجع نفسه (ص 148) .

* صدى الدعوة لدى اليهود في يثرب:

أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية قد يهتدي بالذوائب وأنتم لهذا الناس نور وعصمة ... تؤمون والأحلام غير عوازب وأنتم إذا ما حصل الناس جوهر ... لكم سرة البطحاء شم الأرانب «1» ودلالة هذه القصيدة، أن أهل يثرب كانوا يحرصون على أن تنهي قريش عداوتها للنبي، وأن تقبل دعوته، وإذا هي فعلت فإن العرب سيتبعونها؛ لأنها إمام العرب وهاديهم «2» وخليقة بأن تسن لهم دينا يؤمنون به. ويعني ذلك أن أهل يثرب كسائر العرب كانوا يعلقون اتباعهم للنبي على إيمان قريش به ومتابعتها له، لكن موقف يثرب هذا سيتغير ويتطور، ولن تنتظر يثرب حتى تؤمن قريش بالنبي صلّى الله عليه وسلم، بل سيأخذون زمام المبادرة، وسيدعونه إلى بلدهم ويكونون هم بقيادته صلّى الله عليه وسلم الذين سيجبرون قريشا على الإذعان للدعوة بالقوة. * صدى الدعوة لدى اليهود في يثرب: اختلف صدى الدعوة لدى يهود يثرب عنه لدى عربها، فاليهود كانوا أعلم الناس بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى قبل أن يبعث؛ لأنه مذكور عندهم في كتبهم، كما يؤكد ذلك القرآن الكريم. يقول تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ.. [الأعراف: 157] . فكان المنتظر من اليهود أن يكونوا أول من يؤمن برسول الله ويصدقه ويؤازره، وكان من المفروض أن يسعوا إليه في مكة ويسبقوا العرب، لعلمهم بصدقه وصدق رسالته، وأنها آخر الرسالات، وهم أنفسهم كانوا يستفتحون على العرب بقرب ظهور الرسول، وأنهم عندما يظهر سيؤمنون به ويقاتلونهم معه قتل عاد وإرم «3» . لكن الواقع أن الذي حدث من اليهود كان عكس المنتظر تماما «4» ، فما أن علموا بظهور النبي صلّى الله عليه وسلم

_ (1) القصيدة طويلة. انظرها في ابن هشام (1/ 300- 305) . (2) ابن خالدون- المقدمة (ص 163) . (3) ابن هشام- المصدر نفسه (1/ 231) . (4) لم يكن هذا هو موقف كل اليهود، بل كان موقف الغالبية العظمى منهم، وهناك قلة قليلة جدّا آمنوا بالله ورسوله، كما تشير الآية رقم (157) من سورة الأعراف المكية، فهي صريحة بإسلام بعض اليهود في مكة وإن كان عددهم قليلا. فالآيات المكية يستلهم منها أنه لم يكن في مكة يهود كثيرون، وإنما كانوا أفرادا مستقرين أو أفرادا يترددون عليها، أو أفرادا من النوعين. انظر على سبيل المثال الأنعام: 114، يونس: 94، الرعد: 36، الإسراء: 107، 108، القصص: 52، 53، الشعراء: 196، 197، والنمل: 76 وانظر محمد عزة دروزة- المرجع نفسه (ص 404) وهامشها.

* اثر اليهود في تطور موقف عرب يثرب من الدعوة:

حتى انزعجوا ودب الحسد إلى قلوبهم بل أكلها أكلا، وتحرك فيهم الخلق والطباع القديمة الكامنة، من المكر والخديعة والخبث، وأظهروا التعالي والغطرسة والادعاء بالتفوق على سائر البشر، وآيات القرآن الكريم صريحة في أن عدم إيمان اليهود برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقه، يرجع إلى الحسد والبغي. ويكفي أن نشير إلى قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [البقرة: 89، 90] . بل لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل دفعهم الحسد والبغي وعماء البصائر إلى التورط الفاضح والمخزي في تفضيل الوثنية على الإسلام، فقد أفتوا أهل مكة بأن وثنيتهم أفضل من الإسلام. فقد روى ابن كثير في تفسيره مرفوعا إلى عكرمة قال: «جاء حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم- أي: أهل مكة-: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً «1» [النساء: 51، 52] . إذن موقف اليهود من الدعوة كان موقف الحسد والبغي والرفض، وتحريض قريش على الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتفضيل وثنيتهم على ما جاء به من التوحيد، والأكثر من ذلك أنهم كانوا يغرونهم بتوجيه أسئلة للنبي صلّى الله عليه وسلم، يصوغونها لهم هم أنفسهم، ظنّا منهم- لعنهم الله- بأنها ستعجزه وتحرجه، كما حدث منهم عندما ذهب إليهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، موفدين من قريش لسؤالهم عن النبي ورسالته «2» . هذا هو موقف اليهود من الدعوة وصداها لديهم، بغض وكفر وكيد وتحريض. * اثر اليهود في تطور موقف عرب يثرب من الدعوة: لقد هيأت المقادير ليثرب حظّا عظيما وخيرا وفيرا لم تهيئه لبلد آخر من بلاد

_ (1) تفسير ابن كثير، (طبعة الحلبي، القاهرة) (1/ 511، 513) . (2) ابن هشام- المصدر نفسه (1/ 320) .

العرب، حيث أكرمها الله وهداها إلى الإيمان به ولنصرة رسوله وإعزاز دينه وإعلاء كلمته. ولا شك أن جوار اليهود للعرب في يثرب لم يكن شرّا كله، بل كان فيه بعض الخير، فمن كثرة حديث اليهود عن الأديان والكتب المقدسة، ومن تعييرهم العرب بوثنيتهم وشركهم، فقد نبهوهم إلى هذه القضايا الروحية، وأثاروا فيهم روح التطلع والتشوق إلى ظهور النبي الذي طالما حدثوهم عنه، وأوضح دليل على ذلك استجابة عرب يثرب لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم بل ومخاطرتهم من أجلها، منذ اتصلوا به واتصل بهم مباشرة استجابة لم يلقها عند حي آخر من أحياء العرب، على كثرة ما كان يلقى من وفودهم ويعرض نفسه عليهم في المواسم وغيرها. روى ابن اسحاق قال: «حدثني عاصم بن عمر بن قتادة- عن رجال من قومه- قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام- مع رحمة الله تعالى وهداه- لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع منهم ذلك، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه، فامنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من سورة البقرة: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89] «1» . ثم كان لليهود أثر آخر- غير الأثر الروحي- في استجابة عرب يثرب لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك أن اليهود لما غلبوا على أمرهم في يثرب وتراجعت مكانتهم عما كانت عليه، وأصبحت كلمة العرب هي النافذة، لجأ اليهود إلى أسلوب الدس والوقيعة وبث الفرقة بين الأوس والخزرج لإضعافهم جميعا، وقد نجحوا في ذلك وكان دورهم في حرب بعاث واضحا، تلك الحرب التي كادت أن تقضي على الأوس والخزرج جميعا لتعود سيطرة اليهود على يثرب دون منازع، وهنا تنبه الأوس والخزرج جميعا للخطر الماحق، وسرى بينهم اتجاه لتوحيد صفوفهم وتناسي خلافاتهم، لدرجة أنهم فكروا في تنصيب ملك عليهم ليوحدهم ضد خطر اليهود، وقد رشحوا فعلا عبد الله بن أبيّ بن سلول لهذا المنصب وإذا كانت هذه الخطوة لم تتم فذلك لأن الله تعالى قد أعدهم لشيء أعظم وأفضل مما كانوا يفكرون فيه، فهم

_ (1) المصدر السابق نفسه (1/ 231) .

* صدى الدعوة في يثرب بعد اتصالاتها المباشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم:

كانوا يعدون بلدهم لتكون مقر مملكة صغيرة محدودة، فأراد الله لها أن تكون مهاجر نبيه ومنطلق رسالته وعاصمة لدولة الإسلام العالمية، فقد كانت الاتصالات المباشرة بدأت بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلم الذي فتح لهم أبواب التاريخ على مصاريعها. * صدى الدعوة في يثرب بعد اتصالاتها المباشرة بالنبي صلّى الله عليه وسلم: لقد خيبت ثقيف أمل النبي صلّى الله عليه وسلم، عندما ذهب إليهم يعرض عليهم دعوته ويلتمس منهم النصر والمؤازرة، وردوه ردّا قبيحا أثر فيه وآلمه، ولكنه لم ينل من عزيمته وإصراره على المضي قدما في تبليغ رسالته مهما كانت الصعاب، ولذلك كانت الفترة التي أعقبت رحلة الطائف من أقسى الفترات على النبي صلّى الله عليه وسلم. ولقد عبر نفسه عليه السّلام عن ذلك عندما سألته السيدة عائشة رضي الله عنها قائلة: «هل أتى عليك يوم هو أشد من يوم أحد؟» فأخبرها أن ما رآه من أهل الطائف وما سببه له ذلك الموقف كان أشد وأقسى «1» . ولقد ازدادت مناوآت قريش وأذاها للرسول صلّى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك الفترة، لموت خديجة وأبي طالب، ولكنه لم يضعف ولم يهن، وبدأ يعرض نفسه على وفود القبائل العربية التي كانت تأتي الموسم، لعله يجد من بينهم نصيرا أو معينا، بعد أن صدته وآذته قريش ولم يجد خيرا عند ثقيف، فعرض نفسه على كندة وكلب وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة وغيرهم «2» ، فلم يجد عند أحد منهم خيرا. والحقيقة أن هذه القبائل كانت ترى أنها لو تابعت محمدا فإن قريشا سوف تعتبر هذا عداء سافرا لها، ولم يكن أحد من العرب يود أن يفتح بينه وبين قريش بابا للعداء؛ وذلك لمكانة قريش من العرب، وللروابط العديدة التي كانت تربطها بها، كما أن قريشا كانت تلاحق النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لتنفّر الناس منه ولتفسد عليه أمره «3» . ولكن بينما كانت

_ (1) ابن كثير- السيرة النبوية (2/ 152) . (2) ابن هشام- المصدر نفسه (2/ 32، 33) . (3) قال ابن إسحاق: «وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبي؛ فقال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني حتى أبين عن الله ما بعثني به» قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم ... -

* التحول الكبير في موقف عرب يثرب:

الأمور تجري على هذا الوضع الصعب في مكة، وبينما كان خصوم الدعوة يظنون أنهم حاصروها وجعلوها تسير في طريق مسدود، كانت المقادير تهيئ للدعوة قوما آخرين اختارهم الله تعالى لها أنصارا ولنبيه أتباعا، فجاءت تباشير النصر من يثرب. فبينما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في المواسم- دون جدوى- كان عرب يثرب مشغولين في التحضيرات لحرب بعاث، التي كانت آخر مراحل الصراع بينهم، وقد جاء إلى مكة وفد من بني عبد الأشهل على رأسهم أبو الحيسر ابن رافع يلتمسون حلف قريش على بني عمهم الخزرج، فسمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتاهم وقال لهم: «هل لكم في خير مما جئتم إليه؟» قالوا: وما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن» . فقال أحد أعضاء الوفد، وهو إياس بن معاذ: «أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له» «1» . ولكن رئيس الوفد رده بأنهم مشغولون بغير هذا. وإذا كان هؤلاء في شغل بأمر الحرب، فقد شاء الله تعالى أن يلقى النبي صلّى الله عليه وسلم في الموسم نفسه رجالا من الخزرج، فتكلم إليهم بمثل ما تكلم به إلى الأوس؛ فشرح الله صدورهم للإسلام، وقال بعضهم لبعض: «يا قوم، والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه» . فأجابوه وصدقوه وقالوا له: «إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقوم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الذين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا وقد آمنوا وصدقوا» «2» . * التحول الكبير في موقف عرب يثرب: كان لقاء النبي صلّى الله عليه وسلم بهؤلاء الرجال الخزرجين، فتحا هائلا أمام الدعوة الخالدة، فما أن وصلوا إلى بلدهم وأخبروا قومهم بما حدث بينهم وبينه، حتى أقبلوا عليه بشعف وفشا فيهم الإسلام، فلم يبق دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودعوته، وكان صدى ذلك واسع النطاق، وكانت النتيجة أن وفدا من

_ فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، قال: قلت لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب» ، المصدر السابق نفسه (2/ 32) . (1) المصدر السابق نفسه (2/ 37) . (2) المصدر السابق نفسه (2/ 38) .

* صدى رحلة مصعب بن عمير:

اثني عشر رجلا ذهب إلى مكة في الموسم التالي، بهدف مقابلة النبي صلّى الله عليه وسلم لمعرفة المزيد عن الإسلام، والتقدم خطوات إلى الأمام. وتقابل هؤلاء الرجال مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وشرح لهم وعلمهم وفقّههم وانتهى اللقاء بما عرف في التاريخ ببيعة العقبة الأولى. ولما أزمعوا العودة إلى بلدهم، أرسل النبي صلّى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير رضى الله عنه كأول مبعوث له؛ ليعلمهم الإسلام ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين «1» . * صدى رحلة مصعب بن عمير: منذ أن عاد رجال الخزرج الذين التقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم لأول مرة إلى بلدهم، ونقلوا إلى هناك ما سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلم، بدأ الموقف في يثرب يتبدل تبدلا كاملا وانتهت مرحلة الانتظار والترقب واعتبار الأمر يخص قريشا وحدها، وبدأت مرحلة جديدة، هي مرحلة الاتصالات المباشرة بصاحب الدعوة (عليه الصلاة والسلام) ، والتفاهم معه، ومعرفة المزيد من أخبار الدعوة. ولم يكونوا يجهلون أن مجرد الاتصال بالنبي صلّى الله عليه وسلم في مكة، سوف يضعهم في مواجهة مع قريش. وخلاصة القول بدأ عرب يثرب يتهيؤون، أو قل هيأهم الله للدخول في الإسلام ولنصرة نبيه، فما أن وصل مصعب بن عمير مع رجال بيعة العقبة الأولى إلى المدينة، حتى اتخذ من منزل أسعد بن زرارة رضى الله عنه مقرّا له، وأخذ يشرح للناس ما هو الإسلام ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وأخذ أناس يقبلون عليه إقبالا عظيما. وأخذت دائرة الذين آمنوا بالله ورسوله تتسع، وكان للباقة هذا الداعية العظيم، وسعة أفقه وعلمه وإخلاصه لما يدعو إليه، كان لهذا كله أكبر الأثر في نجاحه الكبير في اجتذاب أهل يثرب إلى الإسلام، وجعله حديث كل لسان، حتى أنه في لحظات استطاع إقناع أكبر زعيمين من زعماء الأوس، وهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضى الله عنه، فتحولا من معارضين للدعوة إلى أنصار متحمسين لها، وكان لإسلامهما أكبر الأثر في إسلام الأوس بأسرها لمكانتهما منها. وهكذا نجح مصعب بن عمير في إدخال الإسلام إلى دور الأنصار؛ «فلم يبق دار من دور المدينة إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات» على حد تعبير ابن إسحاق «2» .

_ (1) المصدر السابق نفسه (2/ 39- 42) . (2) المصدر السابق نفسه (2/ 46) .

* اهل يثرب والتحدي الكبير:

* اهل يثرب والتحدي الكبير: أدى مصعب بن عمير مهمته بنجاح، وعاد إلى مكة ليزف إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه بشرى ذلك النجاح وليخبر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يثرب عقدت العزم على الوقوف معه، فهي لم تكتف بمجرد الإيمان به وأن تبقى بعيدا عن الصراع الدائر مع أهل مكة، بل إنها على استعداد لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلم، وعلى استعداد لاستقباله فيها وبذل الأنفس والأموال في الدفاع عنه وعن دعوته، وآية ذلك الوفد الكبير الذي ذهب إلى مكة عقب وصول مصعب إليها، واتفق مع النبي صلّى الله عليه وسلم على تفاصيل كل شيء فيما عرف ببيعة العقبة الثانية أو الكبرى، وأغلب الظن أن هذه البيعة كانت تتويجا للمفاوضات السرية التي دارت بين مصعب وبين زعماء الأنصار أثناء وجوده في يثرب، وأنه عاد إلى النبي بتقرير مفصل عن عزمهم نصرة النبي صلّى الله عليه وسلم، وقبوله في بلدهم مهاجرا عظيما، والذود عنه وعن دعوته، وأن الرجال الذين شهدوا العقبة الثانية كانوا على يقين مما هم مقدمون عليه، وعلى يقين كذلك من أن ما هم مقدمون عليه، سيضعهم مع قريش في مواجهة مريرة وقاسية، ولكن ما قريش وما عداوتها أمام ما فتح الله عليهم به من الخير والمجد والسيادة؟ حيث اختارهم أنصارا لدينه وذادة عن نبيه، وإذا كانت قريش قد استطاعت إلى ذلك الوقت أن تقف سدّا منيعا أمام الدعوة، وإذا كان العرب الآخرون قد جاملوها ووقفوا على الحياد، فإن يثرب قد تخلت عن هذا الموقف وسوف تحمل على عاتقها إنهاء معارضة قريش للدعوة، وسوف تقف خلف قيادة الرسول لدحر كل من يتصدى له حتى ولو كانت قريش. وآية ذلك أنه أثناء المفاوضات بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبينهم في العقبة الثانية، قال لهم العباس بن عبد المطلب- الذي لم يكن قد أسلم بعد ولكنه حضر مع النبي ليطمئن على مستقبله-: «يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هم على مثل رأينا فيه، فهو في عز ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه؛ فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم؛ فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده» . لم يخف على أهل يثرب مرمى كلام العباس بن عبد المطلب، فقالوا له على الفور: «قد سمعنا ما قلت، تكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت» ، فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام، ثم قال:

* صدى الدعوة في خيبر:

«أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم؟» . فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: «نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل للحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر» «1» . وهكذا تمت بيعة العقبة الكبري لتفتح أمام الإسلام آفاقا بعيدة، ففي الوقت الذي ظنت فيه قريش أنها سدت في وجه الرسول صلّى الله عليه وسلم كل السبل، جاءت بشائر النصر من يثرب، وهيأ الله لنبيه أنصارا وبلدا آمنا، وهيأ ليثرب التي كانت غاية ما يطمح إليه أهلها أن تكون مقرّا لمملكة صغيرة لتكون مهاجرا لنبيه ومنطلقا لدينه وعاصمة لدولة الإسلام الكبري، ومهدا لحضارة إسلامية عالمية، وصدق الله إذ يقول: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110] . * صدى الدعوة في خيبر: ما قيل عن يهود يثرب من حيث تاريخ مجيئهم إلى الحجاز، ومن حيث أصلهم، يقال عن يهود خيبر، غير أن يهود خيبر يختلف موقفهم عن يهود يثرب من الدعوة الإسلامية، فإذا كان يهود خيبر قد علموا بأمر الدعوة منذ البداية، فهذا شيء طبيعي، وإذا كانوا يتحدثون عنها ويتناقلون أخبارها وتطورها، فهذا شيء طبيعي كذلك، فالدعوة الإسلامية ليست حدثا عاديا، وإنما منذ أن ظهر أمرها وهي حديث الجزيرة العربية كلها، ولا همّ للناس إلا أن يعرفوا ماذا فعل محمد صلّى الله عليه وسلم، وماذا فعلت قريش معه؟ هذا كله شيء طبيعي ومنتظر من يهود خيبر، غير أن المصادر التي بين أيدينا لا تحدثنا عن موقف محدد ليهود خيبر من الدعوة، ولا ندري سببا لسكوت المصادر عنهم في المرحلة المكية، فهل طغى موقف يهود يثرب واهتمت به المصادر وأهملت أمر خيبر، أم أن يهود خيبر أنفسهم قد تركوا أمر التصدي للدعوة ليهود المدينة ووقفوا هم على الحياد؟ يبدو أن هذا هو الأظهر؛ لأننا لم نسمع أن خيبر قد أرسلت أحدا إلى مكة، لتحريض أهلها على النبي صلّى الله عليه وسلم كما فعل ذلك يهود المدينة كثيرا ويبدو أن موقف يهود خيبر الحيادي هذا قد استمر حتى بعد الهجرة؛ فرغم ما حدث بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين يهود المدينة، وبصفة خاصة،

_ (1) انظر تفاصيل بيعة العقبة الثانية في: ابن هشام- السابق نفسه (47) .

قينقاع، والنضير، وقريظة، وما دأبوا عليه من الغدر والمكر والخيانة، الأمر الذي اضطره إلى إجلاء بعضهم وقتل البعض الآخر، فلم نسمع أن يهود خيبر تحركوا لنصرة يهود يثرب أو الوقوف معهم. غاية ما في الأمر أنهم قبلوا بعضهم لاجئين في بلدهم، ومن هنا بدأ موقف يهود خيبر يتغير، أو قل: إن الذين لجؤوا إليهم من يهود المدينة- خاصة من بني النضير- قد أفسدوهم، وغيروهم وحولوا خيبر إلى وكر خبيث للكيد وتدبير المؤامرات والمكائد ضد الإسلام. وهنا كان لا بد من العقاب فقرر النبي صلّى الله عليه وسلم غزو خيبر، وبعد أن غزاهم وانتصر عليهم، كان رحيما معهم فلم يصنع بهم ما صنع مع يهود المدينة، بل صالحهم على نصف ثمار بلدهم، وأبقاهم فيها وأعطاهم أمانا، وهذا يدل على أنهم لم تكن لهم مواقف عدائية سابقة مع الدعوة، فقدّر لهم النبي صلّى الله عليه وسلم هذا واكتفى بتأديبهم وكسر شوكتهم «1» .

_ (1) انظر تفاصيل غزوة خيبر في: ابن هشام- المصدر نفسه (3/ 378) وما بعدها.

البحث الثالث العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الاسلامي قراءة ورؤية جديدة [البحث الثالث] العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر

العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر

العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر عندما هاجر الرسول صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، على الوضع المعروف، لم يكن من خطته أن يبدأ قريشا بالحرب إزاء ما قامت به ضد الدعوة خلال ثلاثة عشر عاما.. بل كانت هناك فترة بين الهجرة وبدر كانت بمثابة «هدنة مسلحة» ، هذه الفترة- وهي موضوع بحثنا- تؤكد لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن من خطته حرب قريش ولا تدميرها والقضاء عليها، فهو عليه السّلام- في أصل رسالته- لم يأت لتدمير قريش ولا غيرها، وإنما جاء رحمة للعالمين، ونحن نعرف من سيرته صلّى الله عليه وسلم أنه وهو في أقسى الظروف وعندما بلغ أذى قومه له غاية السوء لم يطلب ولم يتمنّ هلاكهم، وإنما رجا من الله تعالى هدايتهم إلى الصراط المستقيم، وأن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا. فقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد الله بن وهب عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من أحد؟ قال: «ما لقيت من قومك كان أشد منه، يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السّلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت. ثم ناداني ملك الجبال فسلّم عليّ ثم قال: يا محمد قد بعثني الله، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» «1» . ومن الجدير بالذكر أن الفترة التي نحاول أن نتناولها من سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم- وهي ما بين الهجرة وبدر- شهدت تحركات عسكرية؛ سرايا وغزوات، ولكن لم يصطدم المسلمون بقريش، وهذا فيما يبدو لنا كأنه كان تلويحا لقريش بالقوة، وإفهامها أن استخدام القوة ضدها لم يكن أمرا مستبعدا من جانب المسلمين، إذا هي لجّت في عنادها، فعليها أن تفكر جيدا في الأمر، وعليها أن تضع في حسابها أنها

_ (1) ابن كثير- السيرة النبوية (2/ 152، 153) .

* قريش تستمر في إلحاق الأذى بالمهاجرين:

إن لم تبتعد عن طريق الدعوة، وأن تكف عن ملاحقة المسلمين بالأذى، وإن لم ترفع أذاها عن المستضعفين من المسلمين، الذين حبستهم في مكة، وحالت بينهم وبين الهجرة إلى المدينة، فسوف يهدد الرسول تجارتها، بل مصدر عزها ومجدها وثرائها، وتفوقها على غيرها من قبائل العرب. فإن هي أفاقت لنفسها، وإلّا فلتأت الضربة القاضية. * قريش تستمر في إلحاق الأذى بالمهاجرين: لم تكتف قريش بما صنعته بالنبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمين في مكة طوال ثلاثة عشر عاما، وما أذاقتهم من الأذى والاضطهاد؛ فمن تعذيب جسدي لأصحاب النبي، إلى تجويع وحصار اقتصادي واجتماعي، إلى غير ذلك من الجرائم الوحشية التي ارتكبتها في حق الجماعة المؤمنة، بل إنها صعدت جرائمها إلى حد التامر على قتل النبي صلّى الله عليه وسلم مما اضطره أن يهاجر من مكة- أحب بلاد الله إليه- ولم تترك المسلمين في موطنهم الجديد في المدينة المنورة وقد أجبرتهم على ترك ديارهم وأموالهم يمارسون شعائر دينهم، ويدعون إلى الله في حرية وأمان، بل أخذت تلاحق المهاجرين منهم لتردهم إلى مكة وتفتنهم عن دينهم، وتضعهم في السجون، وتحرمهم من حريتهم، متجاوزة بذلك كل الأعراف والتقاليد، ولم ترع لأحد حرمة. فقد روى نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله عن أبيه عمر بن الخطاب رضى الله عنهما أنه قال- أي عمر-: «اتّعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعيّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي التّناضب «1» من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أيّنا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التّناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو ابن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فكلّماه- أي: عيّاش- وقالا: إن أمّك قد نذرت ألايمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقّ لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو قد آذى أمّك القمل

_ (1) التّناضب اسم موضع بالقرب من مكة، الأضاة: الغدير يجمع من ماء المطر، سرف موضع بين مكة والمدينة.

لا متشطت، ولو قد اشتد عليها حرّ مكة لا ستظلّت، قال: فقال: أبرّ قسم أمّي، ولي هناك مال فاخده، قال: فقلت: والله إنك لتعلم أنّي لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما؛ فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ وأناخا ليتحوّل عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن. قال ابن إسحاق: فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة أنهما حين دخلا به نهارا موثقا، ثم قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا» «1» . هذا مثل من أمثلة التنكيل والأذى الذي ألحقه القرشيّون بالمسلمين ليفتنوهم عن دينهم، وإليك قصة أخرى من قصص قريش المخزية مع المسلمين، والتي تجردت فيها من كل إنسانية، وبطل هذه القصة أبو سلمة المخزومي رضي الله عنه أوّل مهاجر من مكة إلى المدينة، بعد أن أذن الرسول صلّى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إليها، بعد بيعة العقبة الثانية، قال ابن إسحاق: فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدّته أمّ سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم، قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة ورحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلمّا رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرّق بيني وبين زوجي وبين ابني «2» .

_ (1) ابن هشام- السيرة النبوية (2/ 84، 86) ، وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 220) . (2) ابن هشام (2/ 77) .

* قريش تصادر ديار المهاجرين واموالهم:

* قريش تصادر ديار المهاجرين واموالهم: ظلّ المسلمون في مكة منذ بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم حتى الهجرة للمدينة وهم يعانون من قريش، ومن سوء معاملتها لهم، واضطهادها إيّاهم وتعذيبهم، وتجويعهم، وترويعهم، لتفتنهم عن دينهم، وهم صابرون محتسبون، ينتظرون الفرج والمخرج من عند الله مما هم فيه. وما حلّ بال ياسر وبلال وخبّاب بن الأرتّ، وصهيب مشهور ومعروف. وإذا كانت الهجرة إلى الحبشة «1» قد حلّت مشكلة بعض المسلمين، فلا زالت الغالبية منهم في مكة تعيش في ضيق، وفي عنت شديد تنتظر انكشاف المحنة، ومع أن مكّة أحب بلاد الله إليهم جميعا، إلا أن فرحتهم كانت عظيمة عندما أذن لهم الرسول الله صلّى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، وودّعوا مكة إلى حين. يقول ابن إسحاق: «فلما أذن الله تعالى له صلّى الله عليه وسلم في الحرب، وتابعه هذا الحيّ من الأنصار على الإسلام والنّصرة له ولمن اتّبعه، وأوى اليهم من المسلمين؛ أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه من المسلمين بمكة بالخروج إلى المدينة، والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال: «إن الله عزّ وجلّ قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة ينتظر إلى أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة» «2» . هكذا بدأت بشائر الفرج تأتي من يثرب- المدينة المنورة- وأصبح للمسلمين هناك إخوان يأمنون عندهم، كما أخبرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فليتوكلوا على الله، ولا يلوون على شيء في مكة كائنا ما كان. ولماذا يلوون على شيء والله تعالى يقول: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 100] ؟! لذلك ترك المسلمون ديارهم وأموالهم في مكة مهاجرين في سبيل الله، وهناك أسر بكاملها غلّقت دورها في مكة وآثرت أن تعبد الله في حرية وأمان في كنف إخوانهم الأنصار في المدينة. يقول ابن إسحاق: «وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلم يبق منهم بمكة أحد إلا مفتونا أو محبوسا، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا أهل دور مسمّون:

_ (1) انظر تفاصيل الهجرة إلى الحبشة في ابن هشام (ج 1) . وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 3) وما بعدها. (2) ابن هشام (2/ 76) .

بنو مظعون من بني جمح، وبنو جحش بن رئاب حلفاء بني أمية، وبنو البكير من بني سعد بن ليث حلفاء بني عديّ بن كعب، فإن دورهم غلّقت بمكة هجرة ليس فيها ساكن، ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي، فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنّة؟» قال: بلى، قال: «فذلك لك» «1» . وهكذا لم يكتف المشركون من قريش بطرد المسلمين من ديارهم، وإنما أوغلوا في أذاهم فأضافوا ذلك الألم النفسي الذي يعانيه الإنسان الحر عندما يعلم أن داره اغتصبت منه، وأن غيره يتصرف فيها ويبيعها، حارما له من أبسط حقوق التصرف في الملك. وهذا هو الصحابي الجليل صهيب رضي الله عنه لا يطيق صبرا على فراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يحتمل البقاء بعده في مكة، لكن المشركين لم يسمحوا له بالخروج من مكة إلا بعد أن أخذوا كل ما يملك، وقالوا له: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب رضى الله عنه: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلّون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني جعلت لكم مالي ... وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يتحوّل منها، فلما رآني قال: «يا أبا يحيى ربح البيع» فقلت: يا رسول الله ما سبقني إليك أحد وما أخبرك بذلك إلا جبريل عليه السّلام «2» . وهكذا كان صحابة محمد صلّى الله عليه وسلم، لم يكن شيء أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، ألم يقل سعد بن أبي وقاص، فاتح العراق رضي الله عنه غداة دخول المدائن عاصمة الأكاسرة، وهو يجول ببصره فيما احتواه القصر الأبيض «3» - حيث كان يحكم الطغاة المستبدون من أكاسرة الفرس- من نفائس وتحف ومتع، ألم يردد وقد أخذه العجب والدهش مما رأى قول الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 25، 29]

_ (1) ابن هشام (2/ 116، 117) . (2) ابن كثير- السيرة النبوية (2/ 223، 224) . (3) انظر د. محمد حسين هيكل- الفاروق عمر (1/ 199) .

* المهاجرون في سجون مكة:

* المهاجرون في سجون مكّة: مرّ بك ذكر قصة هشام بن العاص بن وائل السهمي وعياش بن أبي ربيعة، كما رواها صاحبهما ورفيقهما في الهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا وعرفت كيف أن الأوّل منهما- هشام بن العاص- منعه المشركون من الهجرة، وحبسوه في مكة، وفتنوه في دينه، وأن الثاني- عيّاش بن أبي ربيعة- استطاع الهجرة في رفقة عمر بن الخطاب، ولكنه لم يكد يصل إلى المدينة حتى ذهب إليه أبو جهل بن هشام، وأخوه الحرث بن هشام، واستدرجاه حتى عادا به إلى مكة مقيّدا في الأغلال ووضعوه هو وهشام بن العاص في سجن واحد. ولما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم، واطمأن به المقام في المدينة، رقّ لأصحابه الذين لا يزالون يعانون في مكة القهر والظلم والسجن، ومنهم هشام بن العاص، وعيّاش بن أبي ربيعة، فقال عليه الصلاة والسلام: «من لي بعيّاش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؟» فقال الوليد ابن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين عياش وهشام فتبعها حتى عرف موضعهما وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة «1» فوضعها تحت قيديهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه: ذا المروة، ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت؟ ثم قدم بهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة» «2» . هذه صور وأمثلة- وهي قليل من كثير- من تعامل قريش مع المسلمين، قبل الهجرة وأثنائها وبعدها. فهل كان بوسع المسلمين أن يسكتوا على هذا وأن يقفوا مكتوفي الأيدي، وأن يقبلوا هذه المهانة، كلا وألف كلا! بل لا بد من المواجهة، والمواجهة القوية الحاسمة التي تضع قريشا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تؤمن بالله الواحد الأحد، وأن محمدا عبده ورسوله، وإما القتال. ولكن قبل المواجهة لا بد من أن يعدّ الرسول صلّى الله عليه وسلم المسلمين لمواجهة قريش، العدو الرئيس للإسلام في هذه المرحلة. * الدولة الإسلامية تقوم في المدينة لتحمي الدعوة: كان الإسلام في مكة دعوة، وأصبح في المدينة- بعد الهجرة- دعوة ودولة؛

_ (1) المروة: الحجر الأبيض الصلب. (2) ابن هشام (2/ 87، 88) وانظر كذلك السيرة النبوية لابن كثير (2/ 221) .

* التحديات الكبرى أمام الدولة الوليدة:

أو بمعنى آخر أصبح الإسلام دعوة تحميها الدولة، فالدولة الإسلامية كانت- منذ وجدت- ويجب أن تبقى- سواء أكانت دولة واحدة أو أكثر من دولة- في خدمة الدعوة الإسلامية، وقائمة على أساس شريعة الله كما جاءت في كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي مكة لم تكن الظروف مواتية لقيام دولة الإسلام، أما في المدينة فقد أصبحت الظروف مواتية؛ ولذلك لم يضع الرسول صلّى الله عليه وسلم وقتا في المدينة، فقد شرع منذ الأيام الأولى في تأسيس الدولة الإسلامية. وليس من شأن هذا البحث أن يتعرض لنشأة الدولة الإسلامية، وحسبنا أن نقول: إنه أقام بين المهاجرين والأنصار المؤاخاة ونشر السلام العام وأسّس المسجد ليقوم بوظيفته الشاملة التي أرادها له الإسلام. * التحديات الكبرى أمام الدولة الوليدة: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلم قد نجح في إقامة دولة الإسلام في المدينة، على النحو الذي أشرنا ورتّب العلاقات السليمة بين سكانها جميعا، وإذا كان الله تعالى قد مكّن له ولأصحابه في هذا البلد وجعل كلمته هي العليا، فليس معنى هذا أن المتاعب قد انتهت، ولم يغب عن فكر النبي صلّى الله عليه وسلم أن هذه الدولة الوليدة تحيط بها أخطار جسيمة من كل جانب، أخطار ليس أقلّها خطر اليهود القابعين في المدينة وحولها، يحيكون المؤامرات ويبثون الشائعات، فهولاء اليهود وإن كانوا لم يقاوموا دخول الرسول صلّى الله عليه وسلم المدينة أوّل الأمر، فإن ذلك لم يكن حبّا منهم في الرسول وإيمانا بدعوته، ولكن كان عجزا، فلما استقر الرسول في المدينة، وأقام الدولة، ورأوا أمره وأمر المسلمين في صعود، وأمر دعوته يزداد انتشارا بين العرب سواء في المدينة أو خارجها، عندئذ تحركت أحقادهم ومكائدهم، ولسنا الآن بصدد الحديث غن علاقات المسلمين باليهود حتى نفصل القول فيما كان من أمر يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وحتى يهود خيبر التي أصبحت وكرا للتامر على المسلمين، وحتى نفصل القول فيما كان من أمر النبي معهم. ولقد كان المنطق يقضي بأن يطمئن اليهود في كنف المسلمين ينعمون بالأمن والحرية التي منحهم إياها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في معاهدة مكتوبة، ولكن متى كان اليهود أهل منطق سليم؟ ومتى كانوا أهل وفاء وحفظ للجميل؟ على كل حال نحن الآن بصدد العلاقات بين المسلمين وقريش؛ فقريش هي العدو الرئيس في هذه المرحلة، ولذلك أعطى النبي صلّى الله عليه وسلم لجبهة قريش الأولوية على ما عداها، وأجلّ غيرها من المسائل

ومنها مسألة اليهود، فبدون أن يحسم الموقف مع قريش لا يمكن أن تنطلق الدعوة الإسلامية إلى الآفاق العالمية، ولا يمكن أن يحسم مع أعداء الدعوة الآخرين، فيجب أن تتوجه الجهود إلى قريش؛ لأنها أقوى وأشرس أعداء الدعوة على الإطلاق في هذه المرحلة؛ لهذا كانت قريش أولا. بعد نجاح النبي صلّى الله عليه وسلم في تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، وبعد أن اطمأن به وبأصحابه المقام، اتجه ناحية مكة وقريش بالذات؛ ليس فقط لأن مكة هي أحب بلاد الله إليه، ولكن لأن عداء قريش للإسلام وموقفها الشرس منه كانت له انعكاساته السلبية على بقية القبائل في شبه الجزيرة العربية. فما دامت قريش لم تسلم ولم تذعن لله ورسوله، فإن بقية القبائل العربية- أو معظمها- سوف تحجم عن الاقتراب من الإسلام، أو بمعنى آخر سوف تكون حركة الدخول في الإسلام محدودة، وليس في هذا الكلام أية مبالغة، فقد كان واضحا أن قسما من قبائل العرب كان يحجم عن الدخول في الإسلام خوفا من قريش وسطوتها، وقسما آخر كان يجاملها لمركزها وسلطانها ومكانتها بين العرب التي هيأها لها جوارها للبيت العتيق. وكذلك لثرائها الذي حققه لها نشاطها التجاري الواسع بمقاييس عصرها. وهل يخضع الناس لغير سلطان القوة والمال في أي زمان ومكان؟ وهل لو كانت قريش أسملت وتابعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ البداية هل كان يلقى ما لقي من صدّ وإيذاء العرب الآخرين؟ ولو كانت قريش تابعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وآمنت به يوم ذهب إلى الطائف يعرض نفسه على ثقيف «1» هل كان الثقفيون يجدون الجرأة على أن يصنعوا به ما صنعوا من السخرية والاستهزاء والإيذاء؟ أم أن ثقيفا صنعوا به ما صنعوا؛ لعلمهم أن قريشا- وهم أهله وعشيرته- لن يسكتوا على ذلك قط، بل إن ذلك سيسعدهم وسيتشفّون به لدرجة أنه صلّى الله عليه وسلم لم يستطع أن يدخل مكة إلا في جوار المطعم بن عديّ «2» . بل لعل ثقيفا بالغت في إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلم والسخرية منه لعلمها أن ذلك يسعد مشركي قريش ويسرّهم. وبالفعل فرحوا كثيرا، وأخذوا يتناقلون أخبار رحلته إلى

_ (1) انظر رحلة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى ثقيف وعرض نفسه على غيرها من القبائل في سيرة ابن هشام (2/ 28) وما بعدها. وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 149) وما بعدها. (2) انظر ابن كثير- السيرة النبوية (2/ 154) .

الطائف في نشوة. وهل كان النبي صلّى الله عليه وسلم يجد من الصدّ من قبائل العرب مثل ما وجد لو خلّت قريش بينه وبين تلك القبائل يدعوها إلى الإيمان بالله الواحد الأحد؟ كلّا؛ بل كانت قريش تلاحقه وتسبقه إلى تلك القبائل، وكان أقرب الناس إليه من بني هاشم ومن أعمامه بالذات أبو لهب- عليه لعنة الله- ينفّر الناس منه ومن دعوته، قال ابن إسحاق: وحدّثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدّثه أبي؛ فقال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدّقوني، وتمنعوني حتى أبينّ عن الله ما بعثني به» قال: وخلفه رجل أحول ... فإذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قوله، وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللّات والعزّى من أعناقكم ... إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب- أبو لهب- «1» . لكل ذلك كان من الضروري معالجة موقف قريش وحسمه- إن سلما وإن حربا- حتى تنطلق الدعوة وتشقّ طريقها في شبه جزيرة العرب، ومنها إلى العالم في أرجاء الأرض. وقد يقول قائل: كان هذا في مكة، ورسول الله هناك يسفّه أحلامهم ويعيب آلهتهم، حيث كانوا يعتبرون ذلك إهانة لهم لا يمكنهم السكوت عليها، أمّا الآن وقد هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة وتركها بمن فيها وما فيها، ووجد في المدينة أنصارا آمنوا به وآزروه وأسّس دولته هناك، وقد تغير الموقف تغيرا كبيرا عما كانت عليه الحال قبل الهجرة، أفما كان الأجدر بالنبي صلّى الله عليه وسلم أن يدع قريشا وشأنها، وأن يدعو إلى دينه من موطنه الجديد، وأن يجنّد كل طاقاته لهذه الدعوة، بدلا من التربّص بقريش والاستعداد لها، ومضايقتها في تجارتها، وأن يغض النظر عما كان منها قبل الهجرة فهذه مرحلة قد انتهت؟ ويمكن أن يكون هذا الكلام صحيحا لو أن الهجرة كانت نهاية المتاعب من ناحية قريش، ولو كان نسيان طرد المسلمين من ديارهم

_ (1) ابن هشام (2/ 32) ، وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 155، 156) .

وأموالهم أمرا سهلا. أما وأنّ الهجرة ليست نهاية المتاعب من ناحية قريش- فهي نهاية مرحلة فقط وبداية مرحلة أخرى في الجهاد ضد أعداء الله- فإن هذا الكلام لا يمكن أن يكون صحيحا، وقد رأيت فيما سبق أن مشركي قريش أخذوا يلاحقون المسلمين في مهجرهم، ويردّونهم إلى مكة ويعذّبونهم، ويضعونهم في السجون. وهذا أمر لا يمكن السكوت عليه من ناحية المسلمين. وفوق ذلك فإن إخضاع قريش كان أمرا ضروريّا لتنطلق الدعوة الإسلامية انطلاقتها الكبرى إلى النّاس في مشارق الأرض ومغاربها. وتاريخ الدعوة الإسلامية، وسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم تدلّنا على أن الدعوة الإسلامية لم تنتشر في شبه جزيرة العرب، ويقبل عليها الناس إلا بعد فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وإلا بعد أن أذعنت قريش بعد أن أثخنتها الجراح على يد جند الإسلام بقيادة الرسول صلّى الله عليه وسلم عندئذ زالت العقبة الكبرى من أمام الدعوة، وأقبلت وفود العرب من جميع أرجاء شبه الجزيرة العربية معلنة إسلامها ومبايعتها للرسول صلّى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن قريشا كانت ذات مكانة كبيرة بين العرب، فهم أوسط العرب نسبا ودارا وهم أهل الحرم وقادة العرب. لذلك كان العرب جميعا ينتظرون نهاية موقف قريش من الدعوة الإسلامية حتى يقرروا موقفهم على ضوء هذه النهاية. يقول ابن إسحاق: «وإنما كانت العرب تربّص بإسلامها أمر هذا الحيّ من قريش؛ لأن قريشا كانوا إمام الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا عداوته فدخلوا في دين الله» «1» والذي يتتبّع سير الدعوة الإسلامية منذ ظهورها في مكة حتى وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم يجد مصداق المقولة السابقة، ويدرك أن قريشا هي العدو الرئيس- حينئذ- للإسلام ففي مكة كانت حركة الدعوة الإسلامية بطيئة للغاية- لا لتقصير من جانب النبي حاشا لله- ولكن لموقف قريش المعادي للدعوة. فمع إسلام طائفة من الشخصيات البارزة في مكة من مختلف البطون، مثل أبي بكر وعثمان بن عفان. وعبد الرحمن

_ (1) انظر ابن كثير البداية والنهاية (5/ 45) ، والسهيلي- الروض الأنف (7/ 377) ، وابن الأثير- الكامل في التاريخ (2/ 286) .

ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي عبيدة بن الجراح، وحمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب- رضي الله عنهم جميعا- وغيرهم من السابقين، مع إسلام هذه الشخصيات ذات المكانة الرفيعة في مكة، وذات الحسب والنسب في قريش، ومع اعتزاز الإسلام بهذه الشخصيات- خصوصا حمزة وعمر- مع كل ذلك ففي خلال ثلاثة عشر عاما في مكة- قبل الهجرة- لم يزد عدد المسلمين عن بضع عشرات من المسلمين، ضيّق عليهم مشركو قريش غاية الضيق، وآذوهم أشد الإيذاء. ولما هاجر المسلمون إلى المدينة، وأصبحوا آمنين على أنفسهم ودعوتهم، ووجدوا في الأنصار من أهل المدينة عونا وساعدا، وكرما وإيثارا، مع كل هذا ظلّت حركة الدخول في الإسلام محدودة؛ لأن العرب لا يزالون ينتظرون ويتربّصون موقف قريش من الإسلام. ففي معركة بدر الكبرى- مثلا وهي أول معركة عسكرية بين المسلمين وقريش، والتي كانت في رمضان من السنة الثانية للهجرة، كان عدد جند الله الذين قادهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في هذه المعركة أكثر قليلا من الثلاثمائة- «1» وهم معظم المسلمين عندئذ. وفي الحديبية- في ذي القعدة (سنة 6 للهجرة) - كان عدد الذين ساروا خلف الرسول صلّى الله عليه وسلم لزيارة البيت، والذين بايعوه تحت الشجرة- عندما تأزّم الموقف بينهم وبين قريش- كان عدد هؤلاء المسلمين (1400) حسب رواية أغلب المؤرخين «2» . يعني نحن الآن في العام العشرين من عمر الدعوة الإسلامية، وهذا هو عدد المسلمين. فانظر ماذا حدث بعد صلح الحديبية مع قريش؟ تضاعف عدد المسلمين عدة مرات في أقل من عامين، فقد كان عدد جيش النبي صلّى الله عليه وسلم الذي دخل به مكة عام الفتح في رمضان من السنة الثامنة عشرة آلاف مسلم «3» . فما السر في زيادة عدد المسلمين هذه الزيادة الكبيرة في هذه المدة القصيرة؟ السّرّ يكمن في موقف قريش فقد هادنت قريش الإسلام، وصالحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ووضعت الحرب معها

_ (1) انظر ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 11) وما بعدها- وكذلك ابن هشام (2/ 243) وما بعدها. (2) انظر ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 95) . (3) ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 135) .

أوزارها عشر سنين- طبقا لمعاهدة الحديبية- وذلك بعد أن أحرجتها سياسة النبي صلّى الله عليه وسلم السلمية أمام العرب، فاضطرت إلى تغيير موقفها راغمة، وتسامع العرب في شبه الجزيرة بأمر صلح الحديبية، وعلموا أن قريشا بدأت تلين كانت نتيجة ذلك ازدياد عدد الداخلين في الإسلام من العرب، هذه الزيادة التي ظهر أثرها في فتح مكة- عندما نقضت قريش صلح الحديبية- وسار النبي صلّى الله عليه وسلم أمام المسلمين- عشرة آلاف- ليؤدبها ويعلّمها الالتزام بالعهود والمعاهدات. فلما فتحت مكة، وأسلمت قريش، علم العرب جميعا بدخول النبي صلّى الله عليه وسلم مكة ظافرا منتصرا، وعلموا أن قريشا أسلمت بعد أن عفا عنها النبي وتجاوز عن سيئاتها معه. ماذا كانت النتيجة؟ جاءت وفود العرب من جميع أنحاء شبه الجزيرة معلنة إسلامها؛ حتى سمّي العام التالي لفتح مكة- العام التاسع الهجري-: عام الوفود، وقد ظهر الأثر الملموس لهذه النتيجة في عدد الجيش الذي سار خلف النبي صلّى الله عليه وسلم في العام التاسع في غزوة تبوك، فقد بلغ عدد هذا الجيش ثلاثين ألفا من المسلمين «1» . أرأيت كيف كان موقف قريش من الدعوة الإسلامية مهمّا لنجاح هذه الدعوة وانسيابها في شبه الجزيرة العربية وخارجها؟ أرأيت كيف كانت قريش عقبة رئيسية في طريق الدعوة الإسلامية؟ ولعلك تعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلم بعد أن عاد من الحديبية وبعد أن أمن جانب قريش من ناحية الجنوب، قصد توّا إلى خيبر ليصفي الحساب مع هذا الوكر من أوكار الخيانة والغدر التي كانت طابع اليهود، فقد أصبحت خيبر مركزا للتامر على الإسلام «2» بعد أن لجأ إليها فلول المطرودين من المدينة من بني قينقاع وبني النضير. وفتح الله خيبر لرسوله صلّى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك توجّه رسول الله بدعوته إلى العالم ممثلا في ملوكه وزعمائه، فكانت رسائله إلى كسرى فارس، وقيصر الروم، ونجاشي الحبشة، ومقوقس مصر، وغيرهم من الزعماء والأمراء «3» . كل هذا النشاط، سواء القضاء على نفوذ اليهود في خيبر وما جاورها من مستعمرات اليهود- في فدك وتيماء ووادي القرى- أو التوجه بالدعوة الإسلامية إلى النطاق

_ (1) ابن سعد- الطبقات (2/ 166) . (2) منتجومري وات- محمد في المدينة (ص 332) . (3) انظر رسائل النبي صلّى الله عليه وسلم لهؤلاء الملوك والأمراء في المصادر الآتية: ابن حجر- فتح الباري (1/ 32) وما بعدها، صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 107) ، محمد حميد الله- مجموعة الوثائق (ص 81) وما بعدها.

* النشاط العسكري الإسلامي قبل بدر:

العالمي، ممثلا في الرسائل التي حملها مبعوثو النبي صلّى الله عليه وسلم إلى زعماء العالم، كل ذلك لم يكن ممكنا قبل إخضاع قريش وتقييد حركتها ضد الإسلام، ورغم أنها ظنّت- بل ظنّ بعض المسلمين- أنها خرجت كاسبة من معاهدة الحديبية، ولكن في واقع الأمر كان صلح الحديبية انتصارا رائعا لدبلوماسية الرسول صلّى الله عليه وسلم وسياسته الحكيمة وبعد نظره، وقد دلّت كل وقائع التاريخ بعد ذلك على نجاح هذه السياسة النبوية، وصدق الله العظيم الذي سمى هذا الصلح: فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] . هل تعجب- بعد أن علمت ورأيت كل ذلك- من أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قد أعطى كل هذه الأهمية لقريش، وكرّس معظم جهوده لمعالجة العلاقات معها؟ حتى علاقاته بالقبائل الآخرى التي كانت تقطن المناطق الساحلية على الطريق بين مكة والمدينة- خزاعة وجهينة وغفار وضمرة وبنو مدلج وغيرهم- والتي حالفها ووادعها وعاهدها، كانت جزآ رئيسيّا من سياسته صلّى الله عليه وسلم ضد قريش ومن خطته في محاصرتها، وتضييق الخناق عليها، وأخذ طريق تجارتها لإجبارها على التخلي عن معاداتها للدعوة الإسلامية. ودراسة خطة النبي صلّى الله عليه وسلم في تلك الفترة تجاه قريش بالذات، تعتبر ذات أهمية كبيرة لدارس سيرة الرسول، وخط سير الدعوة الإسلامية، ومراحلها الرئيسية، وما تتميز به من حركية تلائم كل مرحلة، ففي مكة كانت الدعوة إلى الله بالحجة والإقناع والصبر على الأذى في سبيل الله. وفي المدينة- بعد الهجرة وقبل بدر- كانت مرحلة الاستعداد والاستكشاف والدراسة، والتلويح بالقوة أحيانا- لإعلام خصوم الدعوة الإسلامية- وقريش بالذات- أن القوة لم تكن أمرا مستبعدا عند الضرورة. فخير لها من الآن أن تذعن لله ولرسوله. ولما لم تفهم قريش، أو لم تحاول أن تفهم؛ أو قل: لم ترد أن تفهم، كانت الحرب الصريحة- منذ بدر- لتحطيم قوى البغي والعدوان والطغيان وتطهير الطريق أمام الدعوة منها، وفي كل المراحل لم تتوقف الدعوة بالحجة والإقناع؛ لأن هذا هو الأساس والقاعدة، أما الحرب فكانت الاستثناء؛ يلجأ إليه عند الضرورة، وهي لرد العدوان؛ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة 190] . * النشاط العسكري الإسلامي قبل بدر: ظلّ النبي صلّى الله عليه وسلم أكثر من ستة شهور في المدينة بعد الهجرة قبل أن يقوم بأي نشاط عسكري، ورأيت أنه كان مشغولا في تلك الفترة بتأسيس الدولة الإسلامية وترتيب

أوضاع المسلمين في موطنهم الجديد، ولكنه مع ذلك لم يغافل أمر تدريب المسلمين على فنون القتال، وحثهم على تعلم الرّمي، وأثر عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إنّ القوة الرّمي» قالها ثلاثا. وأول عمل عسكري قام به النبي صلّى الله عليه وسلم كانت السّريّة التي عقد لواءها لعمّه حمزة ابن عبد المطلب رضي الله عنه وكان ذلك في شهر رمضان من العام الأول الهجري على رأس سبعة أشهر من مهاجره- عليه الصلاة والسلام- وكان اللواء أبيض، وحمله أبو مرثد كنّاز بن الحصين الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، وبعثه رسول الله في ثلاثين رجلا من المهاجرين «وخرج حمزة يعترض لعير قريش قد جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل بن هشام، في ثلاثمائة رجل، فبلغوا سيف البحر؛ يعني ساحله، من ناحية العيص، فالتقوا حتى اصطفوا للقتال، فمشى مجديّ بن عمرو الجهيني، وكان حليفا للفريقين جميعا إلى هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، حتى حجز بينهم ولم يقتتلوا، فتوجه أبو جهل وأصحابه إلى مكة، وانصرف حمزة بن عبد المطلب في أصحابه إلى المدينة» «1» . هذه رواية ابن سعد في الطبقات عن أول لواء عقده رسول الله وأول حملة عسكرية أرسلها لتناوش قريشا وتعترض طريق تجارتها. أما ابن إسحاق فيقدّم سريّة عبيدة بن الحارث في السياق على سريّة حمزة، ولكنه يتبع ذلك بقوله: «وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين؛ وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا فشبّه ذلك على الناس» «2» . وكيفما كان الأمر، وسواء أكانت سرية حمزة أولا أم سرية عبيدة؛ فقد تتابعت السرايا والغزوات- قبل بدر- لتصل إلى أربع سرايا، وأربع غزوات قادها النبي صلّى الله عليه وسلم بنفسه، فبالإضافة إلى سريتي حمزة وعبيدة، كانت هناك سرية سعد بن أبي وقاص، في ذي القعدة من العام الأول الهجري، ثم سريّة عبد الله بن جحش في رجب من العام الثاني الهجري، وسنرجئ الحديث عن سريّة عبد الله بن جحش؛ لأنها تستحق كلمة خاصة، لما تدل عليه من تطور في العلاقات بين قريش والمسلمين، ولما ترتب عليها من نتائج جعلت الصدام العسكري بين المسلمين وقريش أصبح وشيكا ومحتما. إلى جانب هذه السرايا التي كان النبي صلّى الله عليه وسلم يرسل على رأسها أحد أصحابه، فقد

_ (1) ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 6) وانظر بقية السرايا بعدها. (2) ابن هشام (2/ 200) ، وانظر أخبار بقية السرايا والغزوات بعدها.

قاد بنفسه أربع غزوات، وأولى هذه الغزوات هي غزوة الأبواء في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مهاجره. «وحمل لواءها حمزة بن عبد المطلب وكان لواء أبيض، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وخرج في المهاجرين ليس فيهم أنصاري حتى بلغ الأبواء يعترض لعير قريش فلم يلق كيدا، وهي غزوة ودّان، وكلاهما قد ورد، وبينهما ستة أميال، وهي أول غزوة غزاها بنفسه. وفي هذه الغزوة وادع مخشيّ بن عمر الضّمري، وكان سيّدهم في زمانه، على ألا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثّروا عليه جمعا، ولا يعينوا عدوّا، وكتب بينه وبينهم كتابا. وضمرة من بني كنانة. ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة» «1» . «ثم غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بواط في ربيع الأول، من السنة الثانية للهجرة، وخرج في مائتين من أصحابه، يعترض لعير قريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بواط، وهي جبال من جبال جهينة من ناحية رضوى، وهي قريب من ذي خشب، مما يلي طريق الشام، وبين بواط والمدينة نحوا من أربعة برد فلم يلق رسول الله كيدا فرجع إلى المدينة. وفي الشهر نفسه خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم يطلب كرز بن جابر الفهريّ، الذي كان أغار على سرح المدينة، فطلبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز ابن جابر فعاد صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهذه الغزوة يطلق عليها بعض المؤرخين غزوة بدر الأولى. أما آخر غزوة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم- بنفسه قبل معركة بدر- فكانت غزوة ذي العشيرة في جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة. خرج في مائتين من أصحابه يعترض لعير قريش حين أبدأت إلى الشام، وقد جاءه الخبر بفصولها من مكة فيها أموال قريش، فبلغ ذا العشيرة، وهي لبني مدلج بناحية ينبع، وبين ينبع والمدينة تسعة برد، فوجد العير التي خرج لها قد مضت قبل ذلك بأيام، وهي العير التي خرج لها أيضا يريدها حين رجعت من الشام فساحلت البحر، وبلغ قريشا خبرها فخرجوا يمنعونها، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببدر فواقعهم وقتل منهم من قتل ... وفي

_ (1) انظر أخبار جميع هذه الغزوات والسرايا- ابن سعد- الطبقات (2/ 6) وما بعدها ابن هشام (2/ 230) وما بعدها- وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 252) وما بعدها.

* أهداف السرايا والغزوات الأولى:

هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا «1» . * أهداف السرايا والغزوات الأولى: يبدو لدارس سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم وأسلوبه في التعامل مع قريش في هذه المرحلة، أنه كان يتوخّى من هذه الغزوات والسرايا تحقيق أهداف كثيرة منها: أوّلا: تدريب المسلمين عمليّا على الطرق والمسالك والأماكن التي ستصبح- مستقبلا- ميادين فعلية للقتال، وساحات للمعارك الحاسمة مع أعداء الله من قريش وغيرها. فالرسول صلّى الله عليه وسلم من خبرته الطويلة في التعامل مع قريش أدرك أنها لن تذعن إلا لقوة قاهرة تعيدها إلى صوابها وتزيحها من طريق الدعوة. ثانيا: هذه الجهات والأماكن التي اتجهت إليها هذه الغزوات والسرايا الأولى تقع كلها على طريق القوافل الذي تسلكه قريش في طريقها إلى الشام، ولقريش صداقات وعلاقات ودية مع أغلب القبائل المقيمة في هذه الجهات، وهذه القبائل تعرف الكثير من أخبار قريش وتحركاتها، وقوة الحراسة التي تحرس عيرها، فإذا نجح النبي صلّى الله عليه وسلم في كسب ودّ هذه القبائل، وأقام معها علاقات صداقة فسوف يفوز بمعلومات دقيقة عن خطط قريش، وبالفعل حققت تلك الغزوات والسرايا نتائج طيبة في هذا السبيل، وتمكّن النبي صلّى الله عليه وسلم من إقامة علاقات ودّية بل وعقد محالفات دفاعية مع بعض القبائل، كانت لها دلالات عميقة على بعد نظر النبي صلّى الله عليه وسلم في تخطيطه لمستقبل الدعوة الإسلامية. وإليك أنموذجا من هذه المحالفات، الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلم لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأنّ لهم النّصرة على من رامهم، إلا أن يحاربوا في دين الله ... وأن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصرته أجابوه، عليهم بذلك ذمّة الله وذمّة رسوله «2» . فأنت ترى من نص هذه المعاهدة أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم ينجح فقط في تحييد هذه القبائل، والتي كانت في الأصل صديقة لقريش، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، فنجح في عقد معاهدات دفاعية معها، وسوف يكون لهذا أثر كبير في مستقبل العلاقات مع قريش. وهذه المعاهدة

_ (1) ابن سعد- الطبقات الكبرى (12/ 10) ، وابن هشام (2/ 235) ، وابن كثير- السيرة النبوية (2/ 362) . (2) السيرة الحلبية (2/ 125) .

تدلنا على شيء عظيم آخر، وهو أن كلمة المسلمين أصبحت نافذة في هذه الجهات وأن قوتهم أصبحت ظاهرة، وأصبحت القبائل في هذه النواحي تخشى قوة المسلمين وتخطب ودّهم، فبنو ضمرة وهم من القبائل المهيمنة على طريق القوافل، يبسط عليهم النبي صلّى الله عليه وسلم حمايته ويضمن لهم الأمان على أموالهم وأنفسهم. والذي يمنح الأمان هو الأقوى، الذي يستطيع أن يخيف ويؤمّن أيضا. فهذا كله يدلّنا على المدى الكبير الذي وصلت إليه قوة المسلمين في تلك الفترة. ثالثا: من الأهداف الرئيسية كذلك لتلك الغزوات والسرايا- في هذه المرحلة- تضييق الخناق على قريش، وضرب حصار اقتصادي صارم عليها، بقطع طريق تجارتها إلى الشام، فالتجارة هي مصدر حياة قريش، وأساس قوتها وازدهارها وسيادتها، وبدون التجارة لن تقوم لها قائمة، فحرمانها من نشاطها التجاري هو الموت بعينه، وهو أمر لن تحتمله قريش، ولا جدال في أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن يهدف أن يهلك قريشا ويدمّر حياتها، وإنما كان يقصد أن يلقّنها درسا قاسيا، وأن يذيقها طعم الكأس التي جرّعتها المسلمين في مكة، ألم تحاصرهم قريش اقتصاديّا؟ ألم تصادر أموالهم وديارهم؟ فعليها أن تدفع الثمن الآن، فإذا استطاع النبي صلّى الله عليه وسلم والمسلمون أن يحصلوا على شيء من أموال قريش، فهذا جزء مما أجبرتهم قريش على تركه في مكة، وما اغتصبته منهم اغتصابا، فتصدّي المسلمين لقوافل التجارة ومحاولة الحصول عليها هو أمر مشروع وعادل، ولا يماري في ذلك إلا جاهل مكابر، عدو للإسلام حاقد عليه. وقد حققت هذه التحركات العسكرية هدفا آخر نفسيّا، فقد زرعت الخوف والفزع في قلوب قريش، ولا أدل على ذلك من الأعداد الهائلة من الرجال الذين كانوا يقومون على حراسة القوافل في ذهابها وإيابها إلى الشام ومنه، فقد رأيت أن القافلة التي كان على رأسها أبو جهل بن هشام- والتي اعترض لها حمزة بن عبد المطلب- كان يرافقها ثلاثمائة من الحراس وهو أمر لم يكن مألوفا قبل الآن في حراسة القوافل التجارية. إذا فقد «استطاع المسلمون أن يبقوا قريشا على حذر؛ فحراس القوافل وقادتها يتوقّعون لقاء المسلمين في كل لحظة، يخافونهم إذا انبلج الصبح واقترب الليل، كل غبار يتطاير من وراء الأفق يظنون فيه الظنون، وكل همس في الليل يقدرون أن وراءه الموت، وهذا الاستعداد الدائم للحرب يثير الأعصاب، وهو

* سرية عبد الله بن جحش:

أشد إجهادا من القتال، وكان في هذا كسب معنوي للمسلمين» «1» . وقد نجحت سياسة الحصار الاقتصادي ضد قريش، واضطرتها إلى تغيير طريقها المعتاد، وأن تتنكّب طرقا أخرى وعرة عبر الصحراء حينا وعلى ساحل البحر حينا آخر، وفوق ما في هذا من خسارة جسيمة لقريش فهو شيء لم تألفه ولم تتعود عليه، وهو يحط من هيبتها بين العرب ويزري بمكانتها. والأخطر من ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يدعها تنعم بهذه الطرق البديلة التي ظنّتها بعيدة عن متناول المسلمين، فقد لاحقها المسلمون في كل طريق سلكته مما يدل على أن ضرب حصار اقتصادي صارم عليها كان هدفا رئيسيّا من أهداف السياسة النبوية فبعد بدر تجنّبت قريش المرور في الطريق الذي يمر بالمدينة؛ لئلا تصطدم بالمسلمين، فسلكت طريقا آخر- يمر عبر نجد إلى العراق- متجشمة بذلك متاعب كبيرة، وكانت تظن أنها أصبحت في أمان من تصدّي المسلمين لها، ولكن كانت مفاجأتها كبيرة، عندما وجدت المسلمين لها بالمرصاد. فقد علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن صفوان ابن أمية بن خلف خرج على رأس قافلة فيها أموال كثيرة، سالكا نجد إلى العراق. فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضى الله عنه على رأس مائة من الصحابة فاعترضوا طريق القافلة وأصابوها جميعها، وأفلت منهم صفوان ومن معه من أعيان القوم، وقدم زيد بالعير على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخمّسها فبلغ الخمس عشرين ألف درهم، وقسّم الرسول ما بقي على أهل السرية «2» . أمر سرية زيد هذه يخرج عن نطاق بحثنا؛ لأنها حدثث بعد بدر، لكني ذكرتها لدلالتها على سياسة الحصار الاقتصادي الذي ضربه الرسول صلّى الله عليه وسلم على قريش وستقدم لنا سرية عبد الله بن جحش دليلا آخر على هذه السياسة النبوية الحكيمة. * سرية عبد الله بن جحش: سرية عبد الله بن جحش رضى الله عنه هي آخر الحملات الصغيرة التي كان يجردها النبي قبل معركة بدر الكبرى، وقد وعدنا أن نخص هذه السرية بكلمة خاصة مفصلة؛ لما ترتب عليها من نتائج، ولطبيعتها أيضا. ونحن قد رأينا أن معظم الغزوات التي قادها النبي صلّى الله عليه وسلم بنفسه والسرايا التي أرسل أحد أصحابه- كانت وجهتها الطريق

_ (1) محمد عبد الفتاح إبراهيم- محمد القائد (ص 18، 19) . (2) ابن سعد- الطبقات الكبرى (2/ 36) .

الساحلي بين مكة والمدينة؛ بهدف تهديد الطريق التجاري الرئيسي الذي تمر منه تجارة قريش. أمّا سريّة عبد الله بن جحش، فقد شذّت عن هذه القاعدة، فقد أمرت هذه السرية باستطلاع أخبار قريش من مكان قريب جدّا من مكة- وادي نخلة بين مكة والطائف- وهو اتجاه جديد في سياسة الحصار ضد قريش، فها هو الخطر أصبح قريبا منها، وفي عقر دارها. وقد أمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش على اثني عشر في رواية ابن سعد وعلى ثمانية في رواية ابن إسحاق، وهي التي نثبتها هنا يقول ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابا، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا ... فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصّد بها قريشا وتعلّم لنا من أخبارهم» فلما نظر عبد الله في الكتاب قال: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران- أضلّ سعد بن أبي وقّاص وعتبة وابن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقيانه، فتخلّفا عليه في طلبه. ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي ... وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل المخزوميان، والحكم بن كيسان، مولى هشام بن الغيرة، فلمّا رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكّاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عمّار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في الشهر الحرام، فتردّد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعلوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي

عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله، فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما رآهم- قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فلما قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال ... فلمّا أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة: 217] . فلما نزل القرآن بهذا من الأمر فرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق- الخوف- قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- فإنّا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم» فقدم سعد وعتبة، ففداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم، فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا «1» . هذا ملخص رواية ابن إسحاق عن سريّة عبد الله بن جحش رضى الله عنه التي كانت في نهاية رجب من السنة الثانية من الهجرة. وهذه السرية كانت على جانب عظيم من الأهمية بالنسبة لعلاقات المسلمين وقريش في هذه الفترة. وقد ترتبت عليها نتائج كبيرة، وكشفت للمسلمين عن أشياء- ربما كانت خافية عنهم- وعلى رأس ذلك موقف اليهود، الذين كشفوا عن نواياهم الخبيثة في التحريض والتحريش على الحرب بين المسلمين وقريش. ولذلك أخذوا يردّدون: «عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرميّ حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب» يعني أرادوا أن يشعلوها حربا على المسلمين، ولكن عليهم وعلى

_ (1) ابن هشام (2/ 240- 242) .

جميع أعداء الله من المشركين ستدور الدوائر. وسينصر الله نبيه ويعز دينه وجنده، ويهزم الأحزاب وحده. وسرية عبد الله بن جحش كانت حملة استطلاع، وجمع معلومات، ورصد أخبار عن قريش، ولم تكن حملة قتال أو تصدّ لعير قريش؛ إذ لا يعقل أن يرسل النبي صلّى الله عليه وسلم ثمانية أو حتى اثنى عشر- حسب رواية ابن سعد- من أصحابه ليقاتلوا قريشا في عقر دارها، ولو كان النبي صلّى الله عليه وسلم يريدهم أن يقاتلوا لكان حجم الحملة أكبر من هذا بكثير؛ فالهدف إذا هو جمع المعلومات، وعندئذ كلما كان العدد أقل كانت الفرصة أكبر في تحقيق الهدف؛ لأن القدرة على الاستخفاء- وهو من لوازم جمع المعلومات والاستطلاع- تكون أكبر. والدليل على أنها ليست حملة قتال قول النبي صلّى الله عليه وسلم عند عودتهم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» والقتال إذن جاء اجتهادا من قائد الحملة ورفاقه. فقائد الحملة وهو عبد الله بن جحش لما رأى عير قريش وعليها تجارة وتوشك أن تدخل حرم مكة لعلّه ذكر ما صنع المشركون بهم حيث طردوهم من ديارهم وصادروا أموالهم، لعله ذكر ذلك فثارت في نفسه روح الثأر والانتقام من قريش وإذلالها في عقر دارها، أليس أخذ أبو سفيان بن حرب دار عبد الله بن جحش في مكة وباعها؟ إذن القتال حدث نتيجة اجتهاد شخصي من قائد الحملة، لا بأمر من الرسول صلّى الله عليه وسلم فأوامر الرسول كانت صريحة واضحة «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصّد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم» «1» ؛ فليس في الأوامر ذكر للقتال أو التعرض لقوافل قريش. ولكن المستشرقين مولعون بتشويه التاريخ الإسلامي، وتلفيق الروايات وتفسيرها تفسيرا خاصّا ليصلوا إلى ما يريدون من معلومات ليرتبوا عليها النتائج التي تعجبهم وتتفق مع مخططاتهم العدائية للإسلام؛ فها هو منتجومري وات- صاحب كتاب محمد في المدينة- يحاول أن يوحي لقارئه، وهو قارئ غربي أوربي معلوماته عن الإسلام وتاريخه ضئيلة إن لم تكن معدومة، ولذلك فإن هذا القارئ معذور إذا وقع فريسة للمعلومات الخاطئة التي يقدمها من يسمّون أنفسهم مستشرقين عن الإسلام- يحاول منتجومري أن يوحي لقارئه الغربي بأن المسلمين كانوا قطاع طرق، ويفسّر بعض الكلمات تفسيرا غربيا وكأنه يعرف أسرار اللغة العربية وما تدل عليه مفرداتها

_ (1) ابن هشام (2/ 239) .

أكثر من أهلها، فيقول: «كان الشيء الأساسي في أوامر محمد المختومة إلى عبد الله بن جحش، أن يذهب إلى نخلة، وينصب كمينا لقافلة قرشية، والشيء الثاني أن يرفع تقريرا لمحمد، وهذه إضافة لاحقة تحاول أن تجعل كلمة- ترصّدوا- بمعنى «راقبوا» بدلا من «ينصب كمينا» وهكذا ترفع المسؤولية عن محمد بسبب أي معركة دموية، ومما لا شك فيه أن محمدا أمر بالقيام بهذه المهمة، مع علمه بأنها ربما تؤدي إلى سقوط القتلى من رجاله أو من رجال أعدائه» «1» . هذا كلام منتجومري وات. ونحن بادئ ذي بدء لا نعتبر التعرض لقوافل قريش من قبل المسلمين تهمة ندفعها، بل إن هذا حقهم، وهو العدل بعينه قصاصا من قريش التي صادرت أموالهم وديارهم وحرياتهم، وقد خرج النبي صلّى الله عليه وسلم بنفسه يعترض لعير قريش أكثر من مرة كما رأيت، كذلك أمر أصحابه بالتعرض لها فليس في ذلك عيب، بل هو واجب عليهم؛ فالمسلم مطالب برفع الظلم أينما وكيفما كان، ومن باب أولى فعلى المسلم الحقّ أن يحارب الظلم الواقع عليه هو نفسه. ولكن الذي نلاحظه أن هذا المستشرق يحاول أن يفهم اللغة العربية بطريقة تغاير ما تدل عليه مفرداتها، وبغير الطريقة التي يفهمها بها أهلها. فكلمة- ترصّدوا- يفهمها الخواجة بمعنى «ينصب كمينا» لا أدري كيف؟ ويجد من نفسه الجرأة على القول: إن هذه إضافة لاحقة تحاول أن تجعل كلمة ترصّدوا بمعنى «راقبوا» بدلا من «ينصب كمينا» وهكذا ترفع المسؤولية عن محمد ... إلخ. ولم يقل لنا الأستاذ- وات-: متى أضيفت هذه الإضافة؟ وممّن كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخشى المساءلة؟ أمن المشركين أم من هذا المستشرق الذي جاء في آخر الزمان يفسر تاريخ الإسلام على هواه؟ ويمضي هذا المستشرق في ترهاته فيقول: «ومما لا شك فيه أن محمدا أمر بالقيام بهذه المهمة، مع علمه بأنها ربما تؤدي إلى سقوط القتلى من رجاله أو من رجال أعدائه» الرسول صلّى الله عليه وسلم- وهو الصادق المعصوم- يقول لأصحابه: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» والأستاذ- وات- يحاول أن يوحي كما لو أن في الأمر خديعة أو تغرير بالمسلمين، وتهرب من جانب النبي- حاشا لله- من المسؤولية. وهذا بهتان عظيم، وافتراء على الحقيقة، وليّ للنصوص وتحريف

_ (1) منتجومري وات- محمد في المدينة (ص 12) .

لمعناها. هذا هو فهم المستشرقين للتاريخ الإسلامي، وتدخلاتهم لتفسير النصوص وتقديمها لقارئهم الغربي مشوهة محرّفة، وقد نجحوا في إقامة حائط كبير بين القارئ الغربي وبين حقيقة الإسلام، ولو كان لدى هؤلاء المؤرخين الأوربيين قدر من النزاهة وحرية التفكير- كما يزعمون ويدعون- لاختلف موقف القارئ العادي في أوربا من الإسلام عنه اليوم، فليس سرّا أن القارئ الأوربي الآن يميل إلى تصديق أية أخبار مشوهة عن الإسلام؛ لأن المفكرين الغربيين- الذين أجرموا في حق القارئ الغربي نفسه- يقدمون له الإسلام كدين للخرافات والأساطير، طبعا نحن نقول هذا الكلام؛ لأنه ينطبق على الغالبية المطلقة من المستشرقين، الذين يعجزون عن فهم اللغة العربية التي يقرؤون بها تاريخ الإسلام، فيفسرون النصوص بالطريقة التي تعجبهم، وهذا لا يمنع أن هناك قلة من المستشرقين تحاول الإنصاف ولكل قاعدة شواذ. لعلي أطلت الوقوف عند كلام منتجومري وات، ولكن العذر أن الإنسان يشعر بالأسف الشديد عندما يقرأ لهؤلاء الناس، أقول: إلى متى ندع- نحن المسلمين- أمر ديننا لهؤلاء يمرحون فيه ويصولون ويجولون؟ ولماذا لا يتصدى علماء الإسلام للكتابة في تاريخ الإسلام بلغات أجنبية ليقدموا الإسلام للقارئ الأجنبي كما هو لا كما يريده المستشرقون وإذا عجزنا عن هذا، فهل نعجز عن تناول هذه المؤلفات- ومعظمها مترجم في لغتنا العربية- بالنقد والتفنيد وتبيان ما فيها من أباطيل؟!. على كلّ دعنا الآن من هذا كله ونعود لعبد الله بن جحش رضى الله عنه لنؤكد القول بأن سريته كانت سرية معلومات، لا سرية قتال أو تعرض لقوافل، وقد أحيط أمرها بسرّية تامة- حسب الطاقة- كالشأن دائما في مثل هذه المهمات. فالأوامر أعطيت لقائد الحملة مختومة ليظل أمرها سرّا بينه وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم وبين من كتب الكتاب من كتاب الرسول صلّى الله عليه وسلم ثم سلوك الحملة لطريق يتجه نحو الشرق- نحو نجد- وكان هدفها الجنوب، وكان القصد من ذلك أن تبتعد عن عيون قريش وجواسيسها، الذين لا شك في وجودهم، وقد تعودت قريش أن تقابل المسلمين في الشمال والغرب ولم تتصور أن يأتوها من الشرق، كل هذا أدعى إلى أن تنجح الحملة في مهمتها، وتعود إلى المدينة سالمة. قلنا: إن قائد الحملة اجتهد في الموضوع مخالفا بذلك تعليمات الرسول صلّى الله عليه وسلم واستولى على القافلة وقتل أحد رجالها- عمرو بن الحضرمي- وأسر اثنان- عثمان بن

عبد الله والحكم بن كيسان- ولما كان هذا كله حدث في آخر شهر رجب، ولما كان الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالقتال، فقد أوقف التصرف في القضية كلها حتى يحسم الله تعالى الموقف بوحي من عنده. لم يطل الانتظار، فقد نزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217] . وكانت قريش قد حاولت أن تستغل الحادثة في الإساءة إلى سمعة النبي صلّى الله عليه وسلم بين العرب- الذين يعظمون الأشهر الحرم- ولكن الله تعالى يرد عليهم بما معناه أن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن من الذي يتساءل عن الحرمات وعن الأشهر الحرم وعما يحل فيها ويحرم؟ قريش التي انتهكت كل الحرمات، وأخرجت المسلمين من الحرم وهم أهله، وصدوهم عن المسجد الحرام، وعن سبيل الله وكل ذلك أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، كذلك فتنة المسلم عن دينه، ومحاولة إعادته إلى الكفر أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة: 217] أي: لن يكفوا عن محاولاتهم لفتنة المسلمين عن دينهم فهم كما يقول ابن إسحاق: «مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين» . فلما حسم القرآن الكريم الموقف على هذا النحو، ورفع الحرج عن المسلمين الذين قاموا بهذا العمل، واعتبر عملهم أمرا مشروعا لا جناح عليهم فيه، تصرف الرسول صلّى الله عليه وسلم في الغنائم فخمسها- خمس لله وللرسول إلخ- والأربعة الأخماس لأصحاب السرية، وانتهى الموقف. ولكن من الممكن أن نعتبر أن سرية عبد الله بن حجش كانت مقدمة لغزوة بدر الكبرى، التي سماها الله فرقانا؛ لأنها فرقت بين عهدين وتاريخين وفرقت بين الحق والباطل، ووجهت تاريخ الإنسانية كلها وجهة جديدة، ألم يستغل أبو جهل- عليه لعنة الله- مقتل عمرو بن الحضرمي في تحريض قريش على القتال في بدر فمن المعروف أن روح الكف عن القتال كادت تسري في زعماء قريش، وكادوا يرجعون إلى مكة دون قتال، إذ إن القتال أصبح لا مبرر له- وقد نجت عيرهم- من وجهة نظر بعضهم، وقصة عتبة بن ربيعة وتحريضه الناس على الرجوع إلى مكة دون قتال قصة معروفة ومشهورة، حتى يروى أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قال: «إن يكن عند القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» يقصد عتبة بن ربيعة، فقد كان يركب جملا أحمر. ولكن دعوة عتبة بن ربيعة ذهبت أدراج الرياح تحت صيحات دعاة الحرب من أمثال أبي جهل- لعنة الله- فقد بعث إلى عامر بن

الحضرمي، وأثار فيه جذوة الثأر لمقتل أخيه- عمرو بن الخضرمي- «فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه!! وا عمراه!! فحميت الحرب وحقب أمر الناس «1» واستوسقوا على ما هم عليه من الشر، فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة» «2» وهكذا استغلت هذه الحادثة في إشعال أول معركة بين المسلمين والمشركين، وهي معركة بدر الكبرى. وخلاصة القول: إن سرية عبد الله بن جحش كانت نهاية مرحلة، هي المرحلة التي بدأت مع الهجرة، وهي مرحلة الدراسة والاستعداد والتدريب على القتال، وجمع المعلومات والأخبار عن قريش، واستطلاع الطرق والمسالك التي تسلكها، وإقامة محالفات وصداقات مع القبائل ذات الشأن في منطقة الساحل التي تطرقها قريش، لإحكام حلقة الحصار عليها، لإجبارها على الإذعان والتسليم. وكما رأينا فقد كان الطابع العام للسياسة النبوية تجاه قريش في هذه المرحلة التلويح بالقوة، وإفهامها أنها ليست مستبعدة عند اللزوم، فلما جاءت سرية عبد الله ابن جحش آذنت بنهاية المرحلة السابقة وبداية مرحلة جديدة، هي مرحلة الحرب الصريحة المكشوفة مع قريش التي بدأت ببدر الكبرى، ولم تنته حتى أذعنت قريش، ودخل رسول الله مكة ظافرا منتصرا في رمضان من العام الثامن للهجرة.

_ (1) حقب أمر الناس أي: اشتدّ، واستوسقوا أي: اجتمعوا. (2) ابن هشام (2/ 264) .

البحث الرابع العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الاسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث الرابع] العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك

* تمهيد:

العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك * تمهيد: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وبعد؛ عندما ظهر الإسلام في مطلع القرن السابع الميلادي، كان هناك دولتان كبيرتان تقتسمان الزعامة على العالم المعروف يومئذ، وهما دولتا الفرس والروم. فقد كان الروم يبسطون سلطانهم على الشام ومصر- منذ قرون عديدة- وبذلك يطوقون شبه الجزيرة العربية- مهد الإسلام- من الشمال والشمال الغربي، وكان الفرس يبسطون سلطانهم على اليمن والعراق، وبذلك يطوقون شبه الجزيرة العربية من الجنوب والشرق. وقد ظهر الإسلام في الوقت الذي كانت الحرب فيه مشتعلة بين الفرس والروم فالعداء بن الدولتين قديم ومزمن. وفي أثناء هذا الصراع الأخير بينهما تغلب الفرس على الروم في البداية، وقهروهم واكتسحوا أهم وأغنى ولاياتهم في الشرق، وهي الشام ومصر، ووصلوا في زحفهم إلى مدينة الإسكندرية عام 619 م «1» . وقد ألحق الفرس بالروم إهانة كبيرة عندما استولوا على فلسطين- مهد المسيحية- ونقلوا الصليب المقدس إلى بلادهم- كان كل ذلك يجري «إبّان احتدام الجدل حول العقيدة بين المسلمين السابقين إلى الإسلام في مكة والمشركين، ولما كان الروم في ذلك الوقت أهل كتاب، دينهم النصرانية وكان الفرس غير موحدين دينهم المجوسية فقد وجه المشركون من أهل مكة في الحادث فرصة لاستعلاء عقيدة الشرك على عقيدة التوحيد، وفألا حسنا لانتصار ملة الكفر على ملة الإيمان» «2» . ومعنى هذا أن العرب في شبه الجزيرة العربية، والمسلمين والمشركين على السواء كانوا على علم بما يدور حولهم بين الدولتين الكبيرتين. وكان المشركون فرحين بانتصار الفرس على الروم، وفي نفس الوقت كان المسلمون يحبون أن ينتصر الروم على الفرس، ودخل المسلمون في نقاش وجدل حول هذه القضية، ولمن تكون

_ (1) د. عبد القادر أحمد اليوسف- الإمبراطورية البيزنطية (ص 94) . (2) سيد قطب- في ظلال القرآن (21/ 22) .

الغلبة في النهاية. فحسم القرآن الكريم الأمر في سورة من سوره المكيّة التي سميت باسم سورة الروم فقال تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم: 1- 5] . جاءت هذه الآيات الكريمة «تبشر بغلبة أهل الكتاب من الروم في بضع سنين غلبة يفرح لها المؤمنون الذين يودون انتصار ملة الإيمان من كل دين» «1» . وقد تحقق ما تنبأ به القرآن الكريم، وكان حتما أن يتحقق ما أنبأ به العليم الخبير فمع بداية العقد الثالث من القرن السابع الميلادي، بدأ تيار الحرب يتجه ليسير لصالح الروم، وأحرزوا انتصارات كبيرة على الفرس، وطردوهم من مصر والشام، في أقل من ست سنوات (622- 627 م) ولا حقوهم في بلادهم ذاتها «وفتحت معركة نينوي (سنة 627 م) في العراق، التي اندحر فيها الفرس الطريق أمام البيزنطيين- الروم- للزحف على بلاد فارس «2» » . وهنا نلاحظ وجود توافق أو اتفاق بين أحداث تاريخية كبيرة فهل كان هذا التوافق مجرد مصادفات؛ أو أنه يسير وفق قوانين كونية وتدبير خفي لا يعمله إلا علام الغيوب وحده سبحانه وتعالى؟!!. فقد بعث النبي محمد صلّى الله عليه وسلم (سنة 610 م) . وهي نفس السنة التي اعتلى فيها هرقل عرش الإمبراطورية البيزنطية، وأخذ يهيئ الدولة لحرب الفرس وبدأ هجومه عليهم (عام 622 م) وهو نفس العام الذي هاجر فيه النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وتمكن هرقل من هزيمة الفرس- كما أسلفنا- ووقّع معهم (سنة 628 م) معاهدة صلح استعاد بمقتضاها كل المناطق التي استولوا عليها، ثم استرد الصليب المقدس «3» وعاد هرقل من جولته مع الفرس منتصرا، قاصدا بيت المقدس ليرد الصليب المقدس إلى مكانه، ويحج إلى القدس شكرا لله على انتصاره على الفرس. وهنا جاءته رسالة من النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، يدعوه فيها إلى الإسلام، وكان ذلك بعد

_ (1) سيد قطب- في ظلال القرآن (21/ 22) . (2) د. عبد القادر أحمد اليوسف- الإمبراطورية البيزنطية (ص 95) ، وانظر كذلك سانت موسى- ميلاد العصور الوسطى (ص 233) . (3) الإمبراطورية البيزنطية د. عبد القادر أحمد اليوسف (ص 95) .

* المسلمون قبل اتصالهم بالروم:

صلح الحديبية الذي كان في نهاية العام السادس الهجري. فهل توافق كل هذه الحوادث الكبيرة والخطيرة، والتي غيرت مجرى التاريخ العالمي كله، وأثرت في مصير البشرية، ووجهته وجهة جديدة، هل كان هذا التوافق مجرد مصادفات، أو أن في الأمر تدبيرا إلهيّا يريده الله ولا ندرك نحن أبعاده؟ ... الله وحده هو الذي يعلم حقيقة ذلك. على كل حال كان من حسن الحظ- كما أسلفنا- أن الإسلام ظهر وقوي واشتد عوده ومضى على ظهوره ما يقرب من عشرين عاما، قبل أن يتنبه الفرس والروم كلاهما لخطورة ما حدث، ولم يقدروا أبعاده، ولم يستطيعوا أن يفهموا أن دينا جديدا قد نزل، وأن دولة جديدة قامت على أساس هذا الدين. وأن العرب- الذين كانوا يحتقرونهم بالأمس- سوف يخرجون من جزيرتهم تحت راية هذا الدين. وسوف يدعونهم للدخول في دينهم، فإن أجابوا فهم إخوانهم؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن رفضوا وقاوموا الدين وصدوا الناس عنه؛ فسوف يحاربونهم ويقهرونهم جميعا، وينتزعون منهم سيادة العالم، وسوف يخلصون الشعوب من نير حكمهم واستغلالهم، ويوجهون مصيرها وجهة صالحة نافعة، ويخرجونها من ضلالات الوثنية والشرك بالله إلى توحيده توحيدا خالصا من كل شائبة، وسوف يقيمون العلاقات الإنسانية على أسس فاضلة ومثل عليا. فلما بدأ الفرس والروم جميعا. يدركون أن الإسلام خطر على سلطانهم، وأرادوا مقاومته كان الوقت متأخرا جدّا بالنسبة لهم. ففي خلال هذه السنوات التي انشغل فيها الفرس بالروم والروم بالفرس، استطاع النبي صلّى الله عليه وسلم أن ينشر الإسلام في شبه الجزيرة العربية. وأن يؤسس دولة الإسلام الفتية. وأن يخرج بالإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى العالم، فالإسلام لم يأت للعرب وحدهم، وإنما لكل الجنس البشري، وهنا بدأت العلاقات بين المسلمين والروم. * المسلمون قبل اتصالهم بالروم: في الفترة المكية من حياة الإسلام، كان النبي صلّى الله عليه وسلم مشغولا بأمر قريش ودعوتها إلى الإسلام، ومقاومتها للإسلام. فلم يكن ممكنا ولا منطقيّا أن يخاطب العالم الخارجي ويدعوه للإسلام، قبل أن يسلم أهل مكة وهم أهله وعشيرته الأقربون. ولم يحدث اتصال- في تلك الفترة- بأمم أخرى غير العرب، سوى ذلك الاتصال

الذي حدث مع الحبشة عند هجرة المسلمين إليها في العام الخامس من البعثة النبوية «1» . كذلك في السنين الأولى بعد الهجرة، لم تتهيأ الفرصة أمام النبي صلّى الله عليه وسلم للاتصال بالعالم الخارجي؛ لأنه كان أمامه مهمات شاقة كان لا بد أن ينجزها قبل أن يخاطب العالم، ليبلغ رسالته للناس جميعا. كان أمامه أمر بناء الدولة الإسلامية وإرساء دعائمها، وكانت أمامه قريش، التي لا زالت مصرة على مقاومة الدعوة وصد الناس عنها. والحقيقة أن موقف قريش من الإسلام كان في غاية الخطورة؛ لأن بقية العرب كانوا يتربصون بإسلامهم أمر قريش؛ لأن قريشا كانوا أئمة العرب وأهل البيت الحرام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك. ولذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعطي لأمر قريش الأولوية على سواه. «فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله ... » «2» . وكان أمام النبي صلّى الله عليه وسلم مشكلة اليهود، وتامرهم على الإسلام والمسلمين، وكيدهم لهم. وقصة اليهود مع الإسلام منذ ظهورة قصة طويلة، فمنذ هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بدأت فصول هذه القصة التي لم تنته بين الإسلام واليهود حتى الآن. وعند هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة عاهد اليهود واعتبرهم مواطنين في دولة الإسلام، وضمن لهم حرية عقيدتهم وشعائرهم الدينية وأحسن معاملتهم «3» . ولكنهم لم يحسنوا هذه المعاملة؛ لما جبلوا عليه من لؤم الطبع والمكر والخيانة؛ فهم شر الدواب الذين ينقضون عهدهم في كل مرة، ولا يرعون عهدا ولا وعدا. فبعد الانتصار الرائع للرسول صلّى الله عليه وسلم على قريش في غزوة بدر الكبرى، في رمضان من السنة الثانية للهجرة، تحركت أحقاد يهود بني قينقاع وحزنوا على هزيمة قريش، وأظهروا استياءهم لانتصار المسلمين، وأخذوا يتحرشون بهم، ولم يراعوا ما بينهم وبين المسلمين من عهود، فنقضوها ونكثوا بها، فأجلاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن المدينة «4» .

_ (1) انظر قصة الهجرة إلى الحبشة في ابن هشام (1/ 343) وما بعدها. (2) البداية والنهاية- ابن كثير (5/ 40) وانظر كذلك الروض الأنف- السهيلي (7/ 357) ، والكامل ابن الأثير (2/ 286) . (3) راجع نصوص معاهدة المدينة- ابن هشام (2/ 119) وما بعدها، محمد حميد الله- الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (ص 41) وما بعدها، وحياة محمد. د. هيكل (ص 225) وما بعدها. (4) انظر في أمر بني قينقاع سيرة ابن هشام (2/ 426) . وابن كثير- البداية والنهاية (4/ 3، 4) .

ثم جاء دور بني النضير بعد غزوة أحد في العام الهجري الثالث، وتامرهم لقتل النبي صلّى الله عليه وسلم، مما جعل طردهم من المدينة أمرا ضروريّا؛ جزاء هذا المكر الخبيث، وتخليص عاصمة الإسلام من هذا الميكروب اللعين «1» . ولكن بني النضير لم يتعظوا بما حل بهم، فقد استمروا في التامر ضد الرسول والمسلمين، ولعبوا دورا خطيرا في تأليب قريش وحلفائها لمهاجمة المدينة فيما عرف بغزوة الأحزاب في نهاية العام الخامس للهجرة، كما تولى زعيمهم حيىّ بن أخطب أمر تأليب بني قريظة وحملهم على نقض عهودهم مع النبي صلّى الله عليه وسلم، والانضمام إلى قريش والأحزاب في محاولة استئصال المسلمين، وأوقعهم في ارتكاب الخيانة العظمى ضد الدولة الإسلامية في وقت الحرب. الأمر الذي جعل لزاما على النبي صلّى الله عليه وسلم أن يعاقبهم العقاب العادل، فلم يكد الأحزاب يرجعون خائبين، حيث ردهم الله تعالى بغيظهم لم ينالوا خيرا، حتى تحرك الرسول بسرعة وحاصر يهود بني قريظة وقضى عليهم «2» . ولكن دسائس اليهود وأحقادهم لم تنته بطرد بني قينقاع وبني النضير من المدينة، واستئصال بني قريظة، بل استمروا في التامر من خيبر «3» وغيرها من المستعمرات اليهودية في شمال المدينة، الأمر الذي كان يشكل عقبة كبيرة في طريق انطلاق الدعوة الإسلامية، وكان وجود اليهود في خيبر وما جاورها من واحات يهودية في شمال المدينة بينها وبين الشام، يعد خطرا على الدعوة الإسلامية التي لا بد أن تسلك هذا الطريق لتخرج إلى العالم. ولذلك لم يكد الرسول صلّى الله عليه وسلم يعود من الحديبية في نهاية العام السادس للهجرة حتى تحرك لحصار اليهود في خيبر، والقضاء على أخطر وكر من أوكار الخيانة والغدر ضد الإسلام في شبه الجزيرة العربية. داهم الرسول صلّى الله عليه وسلم اليهود في خيبر، وصاح الصيحة التي زلزلت الأرض تحت أقدامهم: «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» «4» بدأت المعارك في خيبر شرسة، ولكن تحت ضربات جند الله القوية، أخذت حصون خيبر المنيعة تتساقط في أيدي المسلمين بما فيها ومن فيها، وأذعنوا واستسلموا وطلبوا الصلح، هنا يقدم لنا

_ (1) انظر في أمر بني النضير ابن هشام (2/ 191) وانظر كذلك ابن كثير (4/ 74) . (2) انظر في أمر بني قريظة ابن هشام (3/ 252) وانظر كذلك محمد أحمد باشميل- غزوة مؤتة (ص 7، 8) ومنتجومري وات- محمد في المدينة (ص 324) . ود. هيكل- حياة محمد (ص 32) وما بعدها. (3) منتجومري وات- محمد في المدينة (ص 332) . (4) ابن هشام (3/ 380) .

* اتصال المسلمين بالروم:

النبي صلّى الله عليه وسلم مثلا رائعا في العفو والتسامح والإنسانية، فقد كان قادرا على إبادتهم نهائيّا ومحوهم من الوجود. ولكنه لم يأت ليدمر ويبيد الناس، وإنما جاء هاديا ورحمة للعالمين، ومعلما للدنيا كلها. ولم يكن ليهدف إلا لإزالة العقبات من أمام الدعوة الإسلامية حتى تشق طريقها للناس في حرية وأمان. فقبل مصالحتهم وأبقاهم في أرضهم وديارهم، ولم يصنع أحد قبل النبي صلّى الله عليه وسلم، ولا بعده مثل هذا الصنيع مع عدو ماكر خبيث، فلو أن أي قائد آخر وقف مثل هذا الموقف، لما كنا ننتظر منه سوى القضاء عليهم قضاء تامّا، ولكنه الرحمة المهداة للبشرية كلها. انتهى أمر اليهود في خيبر على هذا النحو، كما انتهى أمر اليهود الآخرين في المستعمرات اليهودية القريبة الآخرى في فدك وتيماء ووادي القرى على نحو مشابه وخضعوا لمثل ما خضع له يهود خيبر «1» ، ولكنهم دائما تحت المراقبة الحذرة من جانب المسلمين. * اتصال المسلمين بالروم: في بداية العام السابع للهجرة، بدأت تتهيأ للرسول صلّى الله عليه وسلم الفرصة للخروج بالدعوة الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية. فبمعاهدة الحديبية أمن جانب قريش، وبفتح خيبر أخضع اليهود لسلطانه، ولم يعد يخشاهم، وفكر في الدعوة والعالم.. فقام بإيفاد مبعوثيه إلى معظم زعماء العالم المعروف يومئذ، يحملون رسائله التي يعرض عليهم فيها الإسلام، والدخول في دين الله الحق. فأرسل إلى كسرى فارس، وإمبراطور الروم، ونجاشي الحبشة، وإلى المقوقس في مصر، وإلى أمراء العرب في شمال وجنوب وشرق شبه الجزيرة العربية «2» . والذي يهمنا هنا ونحن بصدد العلاقات بين المسلمين والروم هو أمر رسالته إلى هرقل- إمبراطور الروم- تلك الرسالة التي تعتبر أول اتصال رسمي بين الإسلام والعالم المسيحي، وأن هذه الرسالة وما ترتب عليها من آثار أو أعقبها من نتائج أثرت ولا تزال تؤثر في تاريخ العالم. فإن الروم الذين كانوا يمثلون العالم المسيحي يومئذ، لم

_ (1) ابن الأثير- الكامل (2/ 222) . (2) انظر في موضوع رسائل النبي إلى الملوك والأمراء المصادر الآتية: ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 32) وما بعدها. وصحيح مسلم بشرح النووي (12/ 107) ، وتاريخ اليعقوبي (2/ 77) . ابن الأثير- الكامل (2/ 145) . ومحمد حميد الله- مجموعة الوثائق السياسية (ص 81) وما بعدها. وأحمد زكي صفوت- جمهرة رسائل العرب (1/ 32) وما بعدها. ود. هيكل- حياة محمد (ص 383) وما بعدها.

يقبلوا الإسلام كدين جاء خاتما للأديان السماوية، وعامّا للبشرية كلها. بل قاوموه وحاولوا إبادته، وهو لما يزل وليدا بعد. إن موقف الروم هذا بعد وصول رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل. جعل الرسول صلّى الله عليه وسلم يعطي لجبهة الحدود بين شبه الجزيرة العربية وبين الشام- التي كانت تحت حكم الروم- الأولوية على ما عداها. ويهتم بأمرها غاية الاهتمام. والواقع أن الرسول صلّى الله عليه وسلم لم يكن غافلا عن الجهة الشمالية فهي منفذ أساسي يسلكها الإسلام إلى العالم ولا بد من تأمين هذا الطريق وإزالة كل عقبة تعترض سير الدعوة الإسلامية وكشف ما يكنه الناس في هذه الجهات للإسلام. فإذا هداهم الله وقبلوا الدين وآمنوا به. فهذا ما يريده الرسول، وما جاء من أجله وإذا قاوموه ورفضوه وصرفوا الناس عنه، فلا بد من أن يجبرهم على إخلاء السبيل أمامه، ولذلك نرى الرسول صلّى الله عليه وسلم يقوم بنفسه بغزو دومة الجندل «1» في مطلع العام الخامس الهجري «2» . ودومة الجندل واحة كبيرة من الواحات الواقعة على الحدود ما بين الحجاز والشام. وسبب هذه الغزوة أن أهل دومة الجندل كانوا يغيرون على القوافل التجارية التي كانت تسلك هذا الطريق إلى الشام. ولكنهم لما علموا بمسير الرسول صلّى الله عليه وسلم تولاهم الفزع وهربوا، وغنم الرسول إبلهم وأغنامهم وعاد إلى المدينة. وتوالت سرايا الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى هذه الجهات الشمالية، لفرض هيبة الإسلام، وإرهاب أعداء الله، وإنذارهم بأن يخلوا بين الدعوة الإسلامية وبين الناس. فكانت سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب سنة ست من الهجرة «3» . ثم سرية عبد الرحمن بن عوف في شعبان من نفس السنة إلى دومة الجندل. يقول ابن سعد: «فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان رأسهم وكان نصرانيّا، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية» «4» . فأنت ترى أن عين الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت مفتوحة على هذه الجهة، يراقب كل التحركات فيها، كما فتح عليها عيون أصحابه، ولفتهم إلى خطورتها، ولقد

_ (1) دومة الجندل ... على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول. انظر: ياقوت- معجم البلدان (2/ 487) . (2) ابن سعد- الطبقات (2/ 62) ، وابن الأثير- الكامل (2/ 177) . (3) ابن سعد- الطبقات (2/ 89) ، ابن الأثير (2/ 208) . (4) ابن سعد- (2/ 89) ، وابن الأثير (2/ 209) .

جاءت الأحداث بعد هذا مصدقة لنظرة الرسول صلّى الله عليه وسلم. فبعد سنوات قليلة سوف يسلك المسلمون هذا الطريق لقهر الروم- أصحاب السلطان عليها- في خلافة الصديق رضي الله عنه فلا بد أن تكون هذه المناطق خالصة لهم، ولا بد أن يهزوا نفوذ الروم ويقضوا على هيبتهم فيها. نعود إلى قصة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل. وصلت رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل- إمبراطور الروم- حملها له دحية بن خليفة الكلبي وكان نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فأني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين «1» . وقُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» . فماذا كان ردّ هرقل على هذه الرسالة التي جاءته من نبيّ الإسلام، يدعوه فيها وقومه إلى دين الله الحق، دعوة سلمية بالحكمة والموعظة الحسنة، خالية من أي تهديد بالحرب، أو استخدام القوة؟ تذكر بعض مصادرنا التاريخية أن هرقل استقبل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم استقبالا حسنا، بل مال إلى الإسلام، ولكنه لما عرض ذلك على رجال الدين المسيحي رفضوا وعارضوه بقوة «2» ، فردّ على النبي صلّى الله عليه وسلم ردّا مهذبا واعتذر عن عدم قبول الإسلام؛ بسبب موقف رجال الدين المسيحي الذين لم يكن في استطاعته إغضابهم. وبعض مصادرنا التاريخية الآخرى لا تشير إلى رد هرقل على رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم. ونستطيع أن نقول: إن تطور العلاقات بين المسلمين والروم بعد وصول رسالة النبي إلى هرقل يدل على أن الروم قد أخذوا جانب عداء الإسلام ومقاومته. والذي يبدو لنا أن هرقل لم يحفل كثيرا برسالة النبي ولم يقدر خطورتها، فهو كان عائدا- عندما تسلم الرسالة- من حربه مع الفرس، تلك الحرب التي أشرنا إليها والتي انتصر فيها على فارس انتصارا ساحقا؛ لذلك لم يكن يتصور أن ما يحدث في

_ (1) الأريسيين- وجاء مكانها في بعض الروايات الأكاريين- أو الفلاحين- ويبدو أن المقصود بها هنا رعايا هرقل الروم وغيرهم. (2) تاريخ اليعقوبي (2/ 77) .

* المقدمات التي أدت إلى غزوة مؤتة:

شبه الجزيرة العربية يمكن أن يشكل خطورة على إمبراطوريته المترامية الأطراف. وعلى كل حال فمنذ بداية العام السابع الهجري بدأت العلاقات بين المسلمين والروم تتطور متصاعدة على طريق المواجهة العسكرية، فبدأ الروم بتأليب القبائل وتحريضها، إلى الاشتراك معها في غزوة مؤتة في حرب المسلمين وبهذا يكون الروم قد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين. * المقدمات التي أدّت إلى غزوة مؤتة: أشرنا فيما سبق إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلم، بدأ يعطي عناية بالغة إلى جبهة حدود الدولة الإسلامية مع الشام- حيث يسيطر الروم- منذ بداية العام الخامس الهجري، حيث غزا بنفسه دومة الجندل، ثم أغزى زيد بن حارثة وادي القرى ثم أغزى عبد الرحمن ابن عوف دومة الجندل ثانية، وذلك لإظهار هيبة الإسلام في هذه الجهات ثم لإنذار القبائل العربية فيها، بأن التعرض للمسلمين بأي أمر لن يمر دون عقاب. ولكن يبدو أن هذه القبائل لم تفهم، أو لم ترد أن تفهم ذلك فدأبت على الاعتداء على المسلمين وبصفة خاصة على قوافل التجار المسلمين التي تمر بهم، ولم يسلم منهم حتى رسل النبي صلّى الله عليه وسلم، فبينما كان دحية بن خليفة الكلبي عائدا من عند هرقل- بعد أن سلمه رسالة النبي- تعرض له بعض من قبائل جذام، وأغاروا عليه، وأخذوا كل شيء معه «1» . ثم بلغت هذه الاعتداآت قمتها في هذا العمل الغادر الدنيء وهو قتل الحارث بن عمير الأزدي، مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أمير بصرى، وإليك رواية ابن سعد عن هذا الحادث: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحارث بن عمير إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فقتله، ولم يقتل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، رسول غيره، فاشتد ذلك عليه- أي: على النبي- وندب الناس فأسرعوا وعسكروا بالجرف، وهم ثلاثة آلاف.. وأوصاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا، وإلا استعانوا بالله وقاتلوهم.. فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو، فجمع أكثر من مائة ألف وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون معان من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرقل قد نزل ماب من أرض البلقاء

_ (1) ابن الأثير- الكامل (2/ 207) .

* تدخل الروم في مؤتة إعلان حرب على الإسلام:

في مائة ألف من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام» «1» . الأمر إذن ليس أمر اعتداآت عفوية متفرقة، على الإسلام والمسلمين، وإنما هو أخطر من ذلك بكثير، هو تحالف ضخم بين القبائل العربية وبين الروم ضد دولة الإسلام الوليدة، وضد الدعوة الإسلامية والتصدي لها ومقاومتها، وهو ما لم يمكن السكوت عليه من جانب المسلمين ولذلك كانت مؤتة وكان ما تلاها من أحداث وتطورات بين المسلمين والروم. * تدخل الروم في مؤتة إعلان حرب على الإسلام: لما وقعت حادثة اغتيال مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم، الحارث بن عمير الأزدي، كان لا بد من عقاب من قام بهذا العمل الغادر؛ لأن دماء الرسل والسفراء والمبعوثين مصانه في كل عرف وفي كل زمان ومكان، فإذا اعتدى أحد على مبعوث من مبعوثي النبي بهذا الشكل الدنيء؛ فإن هذا يعتبر إهانة بالغة للإسلام والمسلمين، وإذا لم يرد المسلمون على هذا العدوان؛ فإن هذا في أقل تقدير سيطمع فيهم أعداءهم ويجرئهم على تكرار هذا الفعل مرات عديدة، خصوصا في هذه المناطق التي لا غنى للمسلمين عن المرور فيها، دعاة أو تجارا أو مجاهدين أو مبعوثين لذلك كان الرد والعقاب أمرا مشروعا، فندب النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين للقيام بهذه المهمة وأمرهم أن يقصدوا إلى المكان الذي استشهد فيه الحارث بن عمير رضى الله عنه وقبل القتال أمرهم النبي أن يدعوا الناس إلى الإسلام فإن أجابوا، فعندئذ يكونون قد اعتذروا عن فعلتهم وكفروا عن ذنبهم، فلا داعي لقتالهم. أما إذا رفضوا الإسلام، فإنهم بهذا يؤكدون إصرارهم على عدائهم للإسلام ومقاومته، وعندئذ كانت أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلم لجنوده بأن يستعينوا الله عليهم ويقاتلوهم. وكانت المهمة على هذا النحو محدودة تحديدا دقيقا. فهي مهمة تأديبية. لتأديب شرحبيل بن عمرو الغساني ومن ظاهره على هذه الجريمة، ولم يرد فيها ذكر للروم إطلاقا، بل ربما لم يرد في ذهن النبي صلّى الله عليه وسلم أن الروم سوف يتصدون للمسلمين بهذه الأعداد الهائلة. فنحن نعرف من حذر النبي وحيطته أنه لو فكر في الروم وتصور أن يدخلوا مع المسلمين في حرب لاستعد لذلك استعدادا أكبر ولكانت الحملة على نطاق واسع، فالروم دولة قوية وإمكانياتها هائلة،

_ (1) ابن سعد- الطبقات (2/ 128، 129) وانظر سيد قطب- في ظلال القرآن (10/ 183) .

وهي قد انتصرت على دولة ندّ لها وهي دولة الفرس التي كانت تنازعها زعامة العالم المعروف حينئذ، فلو قدر النبي أن المسلمين سوف يضطرون لحرب الروم لأمدهم بإمدادات أكبر. على كل حال توجهت حملة مؤتة إلى وجهتها وعلى رأسها القواد الثلاثة الذين عينهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، فلما وصلت الحملة وعلم قوادها أن الروم جمعوا جموعهم لحربهم «أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإمّا أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة» «1» . أي: إن المسلمين قدروا خطورة الموقف وتدارسوه، ولولا غلبة حماسة عبد الله ابن رواحة عليهم لربما اختلف الموقف واختلفت النتيجة. أو لو أرسلوا إلى النبي لكان من الممكن أن يمدهم بالرجال، أو يرى رأيا فيه نجاحهم وانتصارهم، ولكن قدر الله وما شاء فعل. سرت كلمات عبد الله بن رواحة في روح الجند وحمستهم للقتال خصوصا عندما قال: «يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين، فانطلقوا فما هي إلا إحدى الحسنيين، فقال الناس: صدق والله، وساروا» . بدأت حرب عاتية شرسة بين جيشين ليس بينهما أدنى تكافؤ، فماذا يصنع ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف من الروم والعرب الذين ينضوون تحت سلطانهم، وقاتل جند الله- كما هو العهد بهم- قتالا مجيدا، واستشهد قوادهم الثلاثة على التوالي، ثم آلت القيادة إلى عبقري الحرب، سيف الله خالد بن الوليد رضى الله عنه الذي نظر إلى الموقف نظرة ثاقبة، وقدر بفطرته العسكرية، وحرصه على المسلمين أن الاستمرار في الحرب أمر خطر قد يؤدي ببقية المسلمين، ورأى أن الحكمة تتطلب منه أن ينقذ المسلمين من الهلاك فوضع خطته البارعة للانسحاب وانسحب بمن بقي من المسلمين وعاد إلى المدينة حيث استقبلهم الناس مظهرين استياءهم من موقفهم، وعيروهم وقالوا لهم: «يافرار فررتم في سبيل الله» وكان تقدير الناس أنهم فروا من المعركة ولم

_ (1) انظر عن غزوة مؤتة المصادر الآتية: ابن هشام (2/ 420) ، الروض الأنف- السهيلي (2/ 12) وما بعدها. ابن سعد- الطبقات (2/ 128) وما بعدها. ابن الأثير- الكامل (2/ 235) .

* من مؤتة إلى تبوك:

يكن هذا صحيحا، فالفرار لم يكن من خلق المسلمين الصادقين أبدا ولن يكون. ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم قدر موقفهم ورفع معنوياتهم وقال: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» . وهكذا أصبح جليّا أن الروم قد أعلنوها حربا شعواء على الإسلام ودولته. ولكن المسلمين سوف يلقنونهم درسا قاسيا، وسوف يرغمون هرقل على أن يغادر الشام وإلى الأبد. وقلبه يقطر دما وهو يقول: «وداعا يا سوريا وداعا لا لقاء بعده» . * من مؤتة إلى تبوك: رأينا ما قد صنع الروم بالمسلمين في مؤتة، حيث حاولوا استئصالهم، لولا لطف الله، الذي ألهم خالد بن الوليد بخطة الانسحاب. وقلنا لك: إن تدخل الروم في مؤتة على هذا الشكل يعتبر إعلان حرب من جانبهم على الإسلام والمسلمين. وما داموا قد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين، فإن جهادهم ورد عدوانهم أصبح واجبا على المسلمين وقيادتهم. وقد فتحت مؤتة عيون المسلمين أكثر فأكثر على خطر الروم. وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم دائم الرصد لأخبارهم وكل تحركاتهم، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لتأديبهم ولينسيهم وساوس الشيطان. ولم يكن مناسبا أن يغزو النبي صلّى الله عليه وسلم الروم قبل أن تذعن قريش للإسلام، صحيح أن بين النبي وبين قريش هدنة بسبب صلح الحديبية، ولكن لا يدرى ماذا تصنع قريش إذا علمت أن الرسول صلّى الله عليه وسلم انشغل في حرب مع الروم؟ فقد تنتهز الفرصة وتنقض على المدينة، وعندئذ يقع المسلمون بين عدوّين خطيرين. لذلك آثر النبي أن يؤجل الاشتباك مع الروم والذي- أصبح واجبا محتما- إلى ما بعد تصفية الحساب مع قريش. خصوصا وأن قريشا عندما علمت بهزيمة المسلمين في مؤتة أمام الروم، فرحت جدّا، وظنت أن في ذلك القضاء على المسلمين، فما دام الروم قد وجهوا أنظارهم إلى المسلمين، ورصدوا لهم هذه الأعداد الهائلة، فإنهم سوف يريحونها من الإسلام هكذا ظنت قريش وهكذا فكرت، ولكن خاب تفكيرها وساء ظنها: حمل هذا التفكير السقيم وهذا الظن السيئ قريشا على نقض معاهدة الحديبية- التي أشرنا إليها- استخفافا بأمر المسلمين بعد مؤتة، ولتعيد الأمور كما كانت عليه قبل عهد الحديبية «1» ، ولم تكن تدري أن ذلك سوف يؤدي إلى أن تفتح مكة أبوابها للنبي صلّى الله عليه وسلم.

_ (1) انظر د. هيكل- حياة محمد (ص 412) .

كان من بنود صلح الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، فلما كانت مؤتة، وخيّل إلى قريش أن المسلمين قد قضي عليهم، فلما اعتدت بنو بكر على خزاعة- وهم حلفاء النبي- نصرتهم قريش ولم تراع صلح الحديبية، وبهذا تكون قد نقضت المعاهدة نقضا صريحا. ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلم ليقبل من قريش هذا العبث بالعهود، خصوصا في هذا الجو النفسي الذي شاع بعد مؤتة. والنبي من ناحيته وفيّ لقريش تماما بكل التزاماته نحوها، وطبقا لما نص عليه صلح الحديبية، حتى أنه لم ينصر بعض المسلمين الذين كانت تعذبهم قريش؛ لأنه التزم بذلك، وأكبر مثل على ذلك، قصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو قصة أبي بصير. ومع ذلك تنقض قريش العهد بهذه البساطة، أليس ذلك استخفافا بالمسلمين؟! لذلك عزم النبي صلّى الله عليه وسلم على غزو قريش، وتلقينها درسا في احترام العهود. ولم تقو قريش على مواجهة النبي، ففتحت مكة أبوابها وأذعنت قريش لأمر الله ورسوله. وضرب الرسول لهم أروع الأمثلة في العفو والتسامح، فنسي ما صنعوه معه طوال عشرين عاما. فلما دخل البيت العتيق، وقريش كلها في قبضته، قال لهم: «ماذا تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» . فتحت مكة في العشرين من رمضان في العام الثامن الهجري، وأسلمت قريش وبعد أسبوعين من فتح مكة، علم النبي في أثنائها أن هوازن تعد العدة للهجوم على المسلمين، فقرر أن يباغتهم قبل أن يباغتوه فحدثت موقعة حنين وهزمت هوازن وحلفاؤها من ثقيف ثم حاصر النبي الطائف لإخضاع ثقيف التي تحصنت فيها، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم رفع الحصار عن الطائف؛ لأنه كان على يقين أنه بعد فتح مكة وإسلام قريش، فلن تقو أية قبيلة عربية على حربه، وأن ثقيف آتية إليه طال الزمن أو قصر، ولقد استشار النبي نوفل بن معاوية الدئلي في المقام على حصار ثقيف فقال له: «يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فأذّن بالرحيل» «2» .

_ (1) ابن الأثير- الكامل (2/ 252) . (2) ابن الأثير- الكامل (2/ 267) .

* الأسباب المباشرة لغزوة تبوك:

وبعد أن قسم النبي غنائم حنين على أصحابه عاد إلى المدينة مظفرا في شهر ذي الحجة ليتابع الموقف في الشمال مع الروم، وهنا جاءته الأخبار بأن الروم يستعدون للهجوم على ديار الإسلام، فكانت غزوة تبوك في رجب من العام التاسع للهجرة. * الأسباب المباشرة لغزوة تبوك: السبب المباشر لغزوة تبوك يرويه ابن سعد في الطبقات على النحو التالي فيقول: «بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فندب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وذلك في حر شديد» «1» . كان النبي إذن يرصد كل تحركات الروم وحلفائهم من العرب في هذه الجبهة الخطرة من جبهات العداء للإسلام، فجاءته الأرصاد بأن الروم بدؤوا يتحركون ضد المسلمين، فأعلن عن غزوهم؛ لأنه ما كان ممكنا أن ينتظر حتى يهاجموه في المدينة. هذا هو السبب المباشر لغزوة تبوك. أما الأسباب الحقيقية الكامنة فهي أن الروم منذ أعلنوا الحرب على المسلمين في مؤتة صراحة، وحاولوا إبادتهم، فإنهم فتحوا بأنفسهم باب الحرب بينهم وبين المسلمين، وكان قتالهم واجبا على المسلمين لرد العدوان، والدفاع عن العقيدة والنفس؛ لأن الله يأمرهم بذلك فيقول تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190] . فحتى لو لم يتحركوا تحركا مباشرا لوجب قتالهم؛ لأنهم بدؤوا بتحريض العرب ضد الإسلام. ثم حاربوهم صراحة في مؤتة، وهذا إصرار منهم على مقاومة الإسلام والعدوان على المسلمين. وجاء الإذن الصريح بقتالهم في السورة التي صاحبت غزوة تبوك، وهي سورة التوبة. «وهذه السورة من أواخر ما نزل من القرآن- إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن- ومن ثم تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض..» «2» .

_ (1) راجع عن غزوة تبوك المصادر الآتية: ابن سعد- الطبقات (2/ 165) ، الطبري- تاريخ الأمم والملوك (3/ 142) ، وابن كثير- البداية والنهاية (5/ 2) ، وابن الأثير- الكامل (2/ 276، 277) . (2) سيد قطب- في ظلال القرآن (2/ 81) .

وأزالت كل حرج عن المسلمين في علاقتهم مع كل الأمم، خصوصا مع أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى. ونحن الآن في العام التاسع الهجري، وأوشك النبي صلّى الله عليه وسلم أن يودع الأمة الوداع الأخير، وأن يلتحق بالرفيق الأعلى، فلا بد أن يوضح لأمته معالم طريق المستقبل، وأن يرسم لهم أسلوب عملهم في نشر عقيدتهم، والدفاع عنها ضد أعدائها. لذلك جاءت هذه الآيات لتحدد الشكل النهائي والحاسم في علاقات المسلمين بأهل الكتاب، والروم من أهل الكتاب؛ لأنهم مسيحيون، أو يزعمون أنهم على دين المسيح. فقال تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] . وقد بينت الآية بيانا واضحا لماذا يقاتل المسلمون أهل الكتاب: أولا: لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ثانيا: لأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله. ثالثا: لأنهم لا يدينون دين الحق. هذا إذن الحكم النهائي الذي يحدد العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب- يهود نصارى- «والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس، أساس إعطاء الجزية، وفي هذه الحالة تقرر لهم حقوق الذمي المعاهد، ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين، فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين. إنهم لا يكرهون على اعتناق الإسلام عقيدة، فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس، هذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية، ثم لطبيعة المنهج الحركي للإسلام من الناحية الآخرى. وطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة، قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من

عبادة البشر للبشر أية عقبات مادية من قوة الدولة ومن نظام الحكم» «1» . في ضوء هذا التحديد النهائي لشكل العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب وفي ضوء ما علمناه من تحركات الروم- وهم يزعمون بأنهم مسيحيون- ضد الإسلام ينبغي أن ننظر إلى تحرك النبي صلّى الله عليه وسلم لغزوهم في تبوك، ثم ينبغي أن ننظر أيضا إلى تطور العلاقات بين المسلمين وبينهم بعد عهد الرسول؛ «في عهد الخلفاء الراشدين، وما تلاه من عهود» . أصبح الروم عقبة في طريق الإسلام، رفضوه دينا وعقيدة، وقاوموه ليصدوا الناس عنه؛ فوجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، فإذا أعطوا الجزية، فهذا يعتبر دليلا على الاستسلام والخضوع وإلقاء السلاح وعندئذ يكف عنهم المسلمون. في ضوء هذا كله، وبعد وصول الأخبار إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بتحرك الروم ضد الإسلام والمسلمين، بدأ العدة لمواجهتهم فيما سماه المؤرخون المسلمون بغزوة تبوك «2» . وقد اختلف الإعداد لهذه الغزوة كما اختلف الأسلوب فيها عما سبقها من غزوات. ففي الغزوات السابقة كان الرسول صلّى الله عليه وسلم إذا أراد غزو جهة ما ورّى بغيرها ليباغت أعداءه ويأخذهم على غرة، هذا ما يعبر عنه العسكريون المعاصرون بأسلوب الإخفاء والمفاجأة. أما في غزوة تبوك فإنه أعلن عن وجهته في صراحة لخطورة العدو وبعد الشقة وهذا ما يقوله كبار المؤرخين المسلمين عن الأسلوب النبوي الكريم. يروي الطبري في تاريخه فيقول: «وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنّى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بيّنها للناس؛ لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له؛ ليتأهب الناس لذلك أهبته، وأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه يريد الروم» «3» . إذن هذه غزوة لها خطرها وشأنها في مستقبل الإسلام والمسلمين، لذلك لا بد أن يسير إليها المسلمون وهم على بينة من أمرهم. استنفر النبي صلّى الله عليه وسلم المسلمين وأمرهم

_ (1) سيد قطب- في ظلال القرآن (10/ 170) . (2) يقول ياقوت عن تبوك: «تبوك بالفتح ثم الضم وواو ساكنة وكاف، موضع بين وادي القرى والشام ... وبين تبوك والمدينة اثنتا عشرة مرحلة» معجم البلدان (2/ 14، 15) . وتبوك الآن مدينة كبيرة في شمال المملكة العربية السعودية. (3) الطبري (3/ 142) ، وانظر ابن سعد (2/ 165) ، وابن كثير (5/ 2) ، وابن الأثير (2/ 276، 277) .

بالتأهب، وحث أهل اليسار على المساعدة في تجهيز الجيش، فأسرع الصحابة الأجلاء إلى تلبية طلب الرسول صلّى الله عليه وسلم، وظهر إيثارهم للدعوة والعقيدة على كل شيء سواها، وأنهم على استعداد للتضحية من أجل الدعوة لا بأنفسهم فحسب، ولكن بأموالهم أيضا، وكانوا بحق هم الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. أنفق أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعا، وأنفق غيرهم، وكان أعظمهم نفقة عثمان بن عفان رضي الله عنه «1» . فسر النبي بذلك ودعا لهم جميعا بخير، كما خص عثمان بدعاء لسخائه الكبير. وتسارع أهل الصدق والدين والإخلاص كل يقدم ما يقدر عليه، وتجمع تحت قيادة النبي صلّى الله عليه وسلم أكبر جيش يتجمع له منذ بدأ جهاده العظيم من أجل العقيدة ونشر الدين كان عدد الجيش حوالي ثلاثين ألفا. وصل النبي صلّى الله عليه وسلم تبوك بعد رحلة شاقة وعسيرة فالمسافة طويلة- بين المدينة المنورة وتبوك حوالي سبعمائة كيلومتر- والطريق صعب، ولكن كل شيء في سبيل الله يهون، ومتى كان تحقيق الأهداف النبيلة أمرا سهلا؟ وهل هناك شيء أنبل وأعظم من إرساء دعائم عقيدة التوحيد، ونشر العدل والرحمة بين بني البشر؟. وصل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى تبوك ليجد الروم قد انسحبوا إلى داخل الشام، ولم يجرؤوا لا هم ولا حلفاؤهم من العرب على لقاء النبي صلّى الله عليه وسلم «2» ؛ لما أصابهم من الخوف والفزع من نتائج الصدام العسكري مع جيش يقوده أعظم القواد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام. فماذا كان موقف النبي من هذا الجيش المنسحب الفار من الميدان؟ هذا الجيش الذي حارب المسلمين بضراوة قبل عام واحد في مؤتة، وكاد يستأصلهم لولا عناية الله الذي ألهم خالد بن الوليد بوضع خطة لانسحابهم إلى المدينة. هذا الجيش الذي يفر أمام الرسول، هو نفسه الجيش الذي كان يقوده هرقل بنفسه وانتصر به على الفرس انتصاره الحاسم قبل سنتين اثنتين. ولكنها هيبة النبوة التي أفزعت هذا الجيش وألقت الرعب في قلوب جنوده. لو أن أي قائد آخر كان في موقف النبي صلّى الله عليه وسلم، ماذا كان سيصنع؟ لا بد أنه كان سينتهز هذه الفرصة، ويلاحق جيش عدوه المنسحب ويقضي عليه. ولكن

_ (1) ابن الأثير (2/ 277) . (2) ابن الأثير (2/ 281) .

* ماذا صنع النبي في تبوك؟

النبي صلّى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، لم يكن يهدف إلى الحرب من أجل الحرب ولم يكن القتال في حد ذاته هدفا من أهدافه، وإنما هو وسيلة لإزالة العقبات من أمام الدعوة الإسلامية، فإذا انسحب الروم من ميدان المعركة؛ فلا داعي إذن لملاحقتهم وتتبعهم، وإن عادوا عدنا، وعلى الباغي تدور الدوائر. * ماذا صنع النبي في تبوك؟ بعد أن انسحب الروم من أمام النبي صلّى الله عليه وسلم، عسكر بجيشه في تبوك بضع عشرة ليلة، فماذا صنع في هذه الأيام القصيرة التي قضاها هناك؟ لقد انسحبت الروم تهيبا من لقاء الرسول. فيجب أن يقضي على نفوذهم أيضا، وأن يزيل ما بقي لهم من هيبة عند سكان هذه المنطقة. وهم أهل أيلة وأذرح والجرباء ودومة الجندل «1» . ولكن كيف؟ سكان هذه الواحات كانوا يخضعون للروم بصورة أو بأخرى، وينفذون سياستهم، والروم قد انسحبوا من الميدان، وهذه الواحات ستكون على أكبر قدر من الأهمية بالنسبة للمسلمين في صدامهم القادم والأكيد مع الروم، فسوف تكون هذه المناطق ممرات لجحافل المسلمين، ويجب أن يؤمنوا هذا الطريق ويخضعوه لسلطانهم، ويقضوا على كل أثر لسلطان الروم على هذه المناطق. الروم قد انسحبوا من الميدان، ولو كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يهدف إلى فرض الإسلام على الناس بقوة السلاح كما يزعم أعداء الإسلام، لما كان أسهل من ذلك بالنسبة لهذه المجموعات الصغيرة والضعيفة من سكان أيلة وأذرح والجرباء ودومة الجندل؛ لأنهم لم يكن في مقدورهم أن يرفضوا أو يقاوموا بعد أن انسحب أكبر جيش على وجه الأرض في ذلك الوقت أمام المسلمين. ولكن فرض الإسلام بالقوة أمر غير وارد؛ لأنه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] لذلك لما جاء وفد أيلة وعلى رأسه يحنّة بن رؤبة «2» إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يبدون استعدادهم لقبول شروطه رحب بهم، وأفهمهم أنهم إن لم يقبلوا الإسلام عقيدة فلن يكرهوا على ذلك، بل من حقهم أن يظلوا على

_ (1) أيلة: بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم- البحر الأحمر- مما يلي الشام. أذرح: وهو اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. الجرباء: موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام، قرب جبال السراة من ناحية الحجاز. راجع معجم البلدان لياقوت. عن أيلة (1/ 292) - وعن أذرح (1/ 129) وعن الجرباء (1/ 118) . أما دومة الجندل فقد سبق تعريفها. (2) انظر ابن الأثير (2/ 280) .

* نتائج غزوة تبوك:

عقيدتهم بشرط أن يدفعوا الجزية كدليل على الخضوع وعدم المقاومة للإسلام: فقبلوا ووافقوا على دفع الجزية، وعاهدهم النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمنهم على عقائدهم وأرواحهم وممتلكاتهم، وهذا هو نص المعاهدة التي أعطاها لأهل أيلة: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله، ومحمد رسول الله، ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله، وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» «1» . وحذا أهل أذرح والجرباء حذو أهل أيلة، فعاملهم النبي صلّى الله عليه وسلم نفس المعاملة وكتب أمان مماثلة لأمان أهل أيلة «2» . أما دومة الجندل، فاستسلم أميرها أكيدر بن الملك الكندي بعد غارة خاطفة شنها عليه خالد بن الوليد، وقدم به على النبي صلّى الله عليه وسلم «فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله» «3» . رتب النبي صلّى الله عليه وسلم إذن أوضاع منطقة الحدود الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية. ومهد الطريق الذي سوف يسلكه المسلمون في خلافة الصديق لقهر الروم، وطردهم نهائيّا وإلى الأبد من المنطقة. وبسط عليها هيبة الإسلام، ومكن لنفوذ المسلمين فيها، كما أجهز على هيبة الروم عند سكان المنطقة، وعاد إلى المدينة بجيشه العظيم تحفّه رعاية الله وتحرسه عنايته، ليواصل مسيرته من أجل تثبيت دعائم الإسلام. * نتائج غزوة تبوك: لقد كانت غزوة تبوك ذات أثر كبير في حياة الأمة الإسلامية ومستقبلها، ولم تكن نتائجها محدودة بزمانها ومكانها، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن غزوة تبوك التي حدثت في شهر رجب من العام التاسع الهجري، كانت نقطة البداية في علاقات الأمة الإسلامية بأوربا المسيحية تلك العلاقات التي لا زالت قائمة ومستمرة في صور متعددة، فمن تتبّع مقدماتها وسيرها وما وصلت إليه، نستطيع أن نقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلم أراد منها أن يحدد للأمة الإسلامية عدوّا رئيسيّا من أعدائها، وهم الروم، ونحن

_ (1) ابن هشام (4/ 181) وابن الأثير (2/ 280) . (2) المصدر السابق الجزء والصفحة نفسيهما. (3) المصدر السابق الجزء والصفحة نفسيهما.

دائما نستخدم لفظ الروم الذي استخدمه القرآن الكريم للتعبير عما يسميه المؤرخون الدولة الرومانية الشرقية. تلك الدولة التي كانت تمثل أوربا كلها في تلك الأزمان، فبعد التجارب التي مر بها المسلمون مع الروم قبيل غزوة تبوك، والتي وضحت لهم أنهم لن يتركوا الإسلام يشق طريقه إلى العالم في أمن وسلام- كان واضحا أن الصدام العسكري معهم أمر لا مفر منه طال الزمن أم قصر، وعلى كل حال لم يطل الزمن كثيرا على بداية هذا الصدام، فبعد ما يقرب من ثلاثة أعوام بعد تبوك بدأ هذا الصدام في عهد الصديق رضي الله عنه، وفي عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طرد الروم نهائيّا من الشام ومصر، ولم تنس أوربا مطلقا وطوال تاريخها وحتى الآن هذا الذي حدث في عهد الخلفاء الراشدين، واعتبرت أن هزيمة الروم أمام المسلمين هزيمة لها كلها، ولم تكن الحروب الصليبية- بعد ما يقرب من خمسة قرون من هذا التاريخ- والتي عبأت فيها أوربا كل قواها لغزو الشرق الإسلامي، لم تكن هذه الحروب إلا رد فعل أوربا للانتقام من المسلمين وهزيمتهم كما هزموا هم الروم قبل قرون. وإذا كانت الحروب الصليبية قد حققت أهدافها في البداية لأسباب تتعلق بالعالم الإسلامي نفسه، وما كان عليه من الضعف والتفكك. إلا أن الصليبيين طردوا في النهاية- بعد وجود استمر قرنين كاملين من نهاية القرن الحادي عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي- إلا أن عداء أوربا للإسلام والمسلمين لم ينته بانتهاء العدوان الصليبي على الشرق الإسلامي، بل إن أوربا عادت من الشرق الإسلامي مهزومة وخائبة، لتشن حربا صليبية أخرى ضد الوجود الإسلامي في أسبانيا، وصبت كل أحقادها وثاراتها على المسلمين هناك، وأجبرت بعضهم على التنصر، ومن رفض التنصر قتل. وأبيد بسبب ذلك ملايين المسلمين في شراسة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، ومن استطاع الهرب من المسلمين والنجاة من وحشية الصليبيين الأوربيين وعبر المضيق إلى شمال أفريقيا، لاحقه الأسبان والبرتغاليون، وبدأت أوربا عمليتها في تطويق العالم الإسلامي من الخلف في بداية عهد الاستعمار الأوربي الحديث للعالم. ووصل الأسبان والبرتغاليون إلى شواطئ شبه الجزيرة العربية وتبعهم الإنجليز والفرنسيون، كل هذا بمباركة الكنيسة الكاثوليكية في روما بزعامة البابا، وإن الذي يدرس رسائل البابوات المتعاقبة، لرواد السطو الاستعماري الأوربي من الأسبان والبرتغاليين وغيرهم على الشرق الإسلامي، من يدرس هذه الرسائل يجدها تفيض بالحقد على الإسلام والمسلمين، فهي تنص في صراحة أن البابا يوصي

بل يأمر جنود المسيح بإبادة المسلمين أينما وحيثما كانوا؛ فالسطو الاستعماري الأوربي على الشرق الإسلامي الذي بدأ من عهد الكشوف الجغرافية كان بتأييد الكنيسة والبابا. ألست معي في أن العلاقات بين أوربا والإسلام بدأت في مؤتة وتبوك ولا زالت مستمرة؟ عداء وحقد من جانب أوربا على الإسلام والمسلمين وعلى كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، ألم تقرأ أن الجنرال اللنبي- القائد الإنجليزي- قال عند ما دخل فلسطين في أثناء الحرب العالمية الأولى: «الآن انتهت الحروب الصليبية» . وأن زميله الجنرال الفرنساوي غورو عند ما دخل دمشق زار قبر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وقال متشفيا: «ها قد عدنا يا صلاح الدين» هل يقرأ المسلمون تاريخهم جيدا؟ وهل يعرفون عدوهم من صديقهم؟ ليتهم يفعلون. هذا ولم تقف نتائج غزوة تبوك عند هذا، لم تقف عند لفت النبي صلّى الله عليه وسلم نظر المسلمين لفتا قويّا إلى عدو من أعدائهم الرئيسيين، بل هو عدوهم الرئيسي ولم تقف عند حد تمهيد الطريق الرئيسي الذي سوف يسلكونه في مواجهتهم للعالم، حاملين راية دينهم، بل إنها كانت ذات أثر عظيم في حياة المسلمين أنفسهم ونزلت من أجلها سورة القرآن الكريم، وهي سورة التوبة. تلك السورة التي حددت بشكل قاطع وأخير العلاقات بين الأمة الإسلامية وسائر الأمم في الأرض سواء من المشركين أو من أهل الكتب السماوية. «كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة، وكل طبقة من طبقاته ووصف واقع هذا المجتمع بجملته وواقع كل طائفة منه وصفا دقيقا مصورا بليغا» «1» . فكما كان في هذا المجتمع المسلم، الصفوة من المسلمين الذين باعوا أرواحهم لله، وجاهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم. وقال الله تعالى عنهم: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 88، 89] . كان هناك طائفة من المسلمين، الذين وإن لم يشك في إيمانهم، لكن قعدت بهم عزيمتهم عن الجهاد في سبيل الله، فأنبهم الله على هذا القعود، وحثهم على الجهاد في سبيله، وناداهم بوصف الإيمان، ليثير هممهم وعزائمهم. فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ

_ (1) سيد قطب- في ظلال القرآن (10/ 81) .

أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة: 38، 39] . إلى جانب هؤلاء الذين قعدوا عن الجهاد وهم قادرون عليه، كان هناك بعض الصفوة الذين تاقت أنفسهم للجهاد وعز عليهم أن يجاهد الرسول والذين معه، ولا يشتركون في الجهاد، ولكنهم لا يجدون ما يحملون عليه فذهبوا إلى الرسول يستعينونه على الجهاد فاعتذر لهم بأنه لا يجد ما يعينهم به، هؤلاء هم الذين قال الله عنهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ [التوبة: 92] . إلى جانب هذه النوعيات من المسلمين الذين وضحت السورة مواقفهم ومواقعهم، وأعطت لكل ذي حق حقه؛ كان المجتمع المسلم- عند غزوة تبوك- زاخرا بمجموعات من المنافقين، الذين كانوا يتسترون تحت إظهار الإسلام، ولكن نياتهم تنطوي على الحقد عليه، وكانوا يظنون أن أمرهم يخفى على الله ورسوله، فكشفتهم السورة، وفضحت مواقفهم. لذلك كان من الأسماء التي عرفت بها سورة التوبة اسم الفاضحة «1» . من هؤلاء المنافقين من اعتذر لرسول الله عن الجهاد بأعذار كاذبة، فضحها الله تعالى ولم يقبلها، وقال عنهم: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 94] . ومن المنافقين من لم يكتف بالقعود عن الجهاد والتخلف عن رسول الله، بل أخذ يثبط الآخرين عن الجهاد، ويحرضهم على القعود والتخلف ويحببه إليهم ويبث الأكاذيب والأراجيف في صفوف المسلمين. وهؤلاء الذين قال الله تعالى عنهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81] . وهكذا كما حددت سورة التوبة علاقات الأمة المسلمة بغيرها من الأمم تحديدا نهائيّا، حددت وبينت موقف وموقع كل مجموعة من المجموعات التي تنتسب إلى الإسلام، حتى يكون رسول الله على بينة من أمر الأمة على اختلاف اتجاهاتها ونواياها.

_ (1) د. كامل سلامة- العلاقات الدولية في الإسلام (ص 12) .

ولما كانت سورة التوبة- التي نزلت بمناسبة غزوة تبوك- هي آخر سور القرآن نزولا- كما يرى بعض المفسرين- ولما بينت وحددت العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب، كذلك حددت تحديدا نهائيّا العلاقات بين المجتمع المسلم والمشركين عامة في شبه جزيرة العرب وأعلنت في مطلعها البراءة منهم ومن عهودهم، وأجلتهم أربعة أشهر، يختارون خلالها لأنفسهم، إما أن يدخلوا في دين الله، وإما أن يقاتلوا، وهذا هو الشكل النهائي للعلاقات معهم. وهذا الحكم خاص بمشركي العرب؛ فليس أمامهم سوى خيار من اثنين: إما الإسلام، وإما القتال. ألست معي إذن في أن غزوة تبوك، ونزول سورة التوبة بسببها وما تضمنته من أحكام نهائية في علاقات المسلمين بغيرهم كانت ذات أثر كبير في علاقاتهم مع الروم ومع المشركين ومع غيرهم من أمم الأرض، كما كانت ذات أثر في حياة الأمة الإسلامية ذاتها؟ هذا اجتهاد شخصي ووجهة نظر ذاتية، فإن كان صوابا فالفضل والمنة لله تعالى، وإن كان خطأ فحسب المرء أن يجتهد وهو على كل حال مكفول الأجر عند من لا يضيع عنده شيء. والحمد لله أولا وأخيرا، وبه التوفيق ومنه السداد.

البحث الخامس الإدارة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث الخامس] الإدارة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم

* المقصود بالإدارة هنا:

الإدارة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم * المقصود بالإدارة هنا: إدارة الدولة، أو بمعنى آخر جهاز الحكم الذي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدير الدولة الإسلامية من خلاله؛ لأن الإدارة بمفهومها الحديث المعقد وتنوع أجهزتها واختصاصاتها هي من مستحدثات العصور الحديثة، وهي كعلم له قواعده وأصوله المقررة لم تعرف تقريبا على نطاق واسع في العالم إلا بعد قيام الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر، تلك الثورة التي أحدثت تحولا هائلا وخطيرا في الإنتاج الصناعي، بل وفي تاريخ العالم كله، وعلاقات دوله وشعوبه. وكان من الطبيعي أن تؤدي الثورة الصناعية إلى قيام الشركات والمؤسسات الصناعية الضخمة التي أصبحت تضم أعدادا هائلة من العاملين، سواء في الإنتاج أو تسويقه، وكان من الطبيعي أن يؤدي هذا الواقع الجديد في ميدان الإنتاج الصناعي إلى ضرورة التفكير في كيفية إدارة هذه المؤسسات العملاقة إدارة تضمن انتظام العمل في مختلف جوانبه، وهنا بدأت تظهر نواة علوم الإدارة الحديثة وقواعدها، وبدأت تنشأ المؤسسات العلمية لتعليم «أصول الإدارة» . أما في العصور الوسطى- التي ظهر فيها الإسلام- فلم يكن فيها شيء من هذا، فلم تكن هناك مؤسسات صناعية كبرى، ولم يكن هناك معاهد لتعليم الإدارة، وإنما كانت الإدارة في ذلك الوقت موهبة شخصية أكثر منها علم، فكانت في جملتها إدارة حكومية. وكان رجال الإدارة البارزون يكتسبون الخبرة الإدارية في المجال العملي في ميادين العمل المختلفة. إذن فالإدارة التي نحن بصدد الحديث عنها هي إدارة الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد الهجرة. * طبيعة الدعوة الإسلامية: ولما كانت الدولة الإسلامية قد قامت على أساس الرسالة الإسلامية فينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة الدعوة الإسلامية؛ لأن ذلك يعيننا على فهم طبيعة الدولة الإسلامية، وفهم أهدافها العليا. فالرسالة الإسلامية من حيث طبيعتها رسالة عالمية، أي: لم تأت لفريق دون فريق

ولا لأمة دون أمة من الناس، ولا لمكان دون مكان، ولا لزمان دون زمان؛ بل هي عالمية الزمان والمكان وموجهة للجنس البشري كله. وتلك الطبيعة تحددها نصوص القرآن الكريم بشكل قاطع في نصوص قطعية الدلالة. منها قول الله تعالى- مخاطبا النبي صلّى الله عليه وسلم-: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ، ومنها قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] ، ومنها قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ، ومنها قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير 27- 29] ، ومنها قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] إلى غير ذلك من الآيات التي توضح أن رسالة الإسلام موجهة إلى الجنس البشري كله. كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ما أمر بالجهر بالدعوة طبقا لأمر الله له بقوله: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر 94] جمع وجوه قريش وزعماءها وأعلن لهم رسالته، وكان مما قاله لهم: «إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة» . والرسالة الإسلامية من هذه الناحية تختلف عن الرسالات السماوية التي سبقتها، فتلك الرسالات كانت محدودة الزمان والمكان والبيئة، بمعنى أن كل رسول كان يرسل إلى قوم معينين في زمان معين أيضا، لذلك نجد أكثر من رسول متزامنين ومتجاورين كذلك، كما هو الحال بالنسبة لإبراهيم ولوط- عليهما الصلاة والسلام- فقد كان إبراهيم في فلسطين ولوط في الأردن. والقرآن الكريم في إخباره لنا بتلك الرسالات وضح لنا طبيعتها فيقول عن نوح عليه السّلام: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] ، وعن إبراهيم عليه السّلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ [الشعراء: 69، 70] ، وعن هود عليه السّلام: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف: 65] ، وعن صالح عليه السّلام: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 72] وعن موسى عليه السّلام: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف: 5] ، وعن عيسى عليه السّلام- وهو آخر الأنبياء قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام-: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، وهكذا لا نجد رسالة سماوية وجهت إلى الجنس البشري عامة سوى رسالة الإسلام.

وغني عن البيان أن هذا لا يقلل من شأن الرسل السابقين- حاشا لله- ولا من شأن رسالاتهم؛ لأن طبيعة رسالاتهم وضع اقتضاه تطور الجنس البشري وتدرجه العقلي، وكل منهم أدي دوره وكان لبنة صالحة في بناء صرح عقيدة التوحيد، فلما نضجت البشرية واكتمل رشدها وأصبحت مهيئة لتقبل وفهم رسالة عالمية في مبادئها وأهدافها؛ جاءت هذه الرسالة على يد خاتم الأنبياء محمد- عليه الصلاة والسلام، الذي صور موقع رسالته من رسالات السماء أدق تصوير فيما يرويه البخاري عنه حيث قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟» قال: «فأنا اللبنة» «1» . ولا يظن أحد أن معنى عالمية الإسلام أنه يجب على المسلمين أن يحملوا سلاحهم لفرض الإسلام على الناس بالقوة- كما يدعي أعداء الإسلام- فهذا أمر غير وارد بنصوص القرآن الكريم: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] والمتأمل لنصوص القرآن الكريم يعلم أنها توضح أن حمل الناس على اعتناق دين واحد أمر يكاد يكون مستحيلا؛ يقول الله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] ، ويقول تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] إذا فهمنا هذا أدركنا أن معنى عالمية الإسلام أنه دين يلائم كل الناس من كل جنس ولون وأنه دين مفتوح لكل البشر وطريق الدخول إليه كلمة يقولها الإنسان فيصبح بعدها مسلما له كل الحقوق وعليه كل الوجبات مثل بقية المسلمين مهما كان جنسه أو لونه تلك الكلمة هي: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» فهو ليس دين الصفوة المختارة كما يدعي اليهود ولكنه دين كل الناس، وسبيل دعوة الناس إليه في الظروف العادية حددها القرآن الكريم للنبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] . هذا عن طبيعة الرسالة الإسلامية، فماذا عن طبيعة الدولة الإسلامية؟

_ (1) ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 158) المطبعة السلفية- القاهرة بدون تاريخ.

* قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:

* قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم: كما امتازت الرسالة الإسلامية عن غيرها من الرسالات بأنها عالمية- كما وضحنا- امتازت كذلك بأنها دين ودولة، أي: إنها عقيدة دينية تنبثق منها شريعة يقوم على هذه الشريعة نظام اجتماعي كامل، يحقق- لو طبق تطبيقا سليما- سعادة البشر في الدنيا والآخرة. ونصوص القرآن واضحة وقطعية الدلالة في ذلك المجال أيضا. فكما حمل القرآن الكريم النبي صلّى الله عليه وسلم مسؤولية تبليغ الرسالة للناس طبقا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ؛ فقد حمله كذلك مسؤولية الحكم بين المسلمين طبقا لمبادئ وأصول هذه الرسالة. يقول الله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [المائدة: 49] ، ويقول: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105] ، ويقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] ، أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50] ، هذه النصوص القاطعة الواضحة لا نظن أنها تحتاج إلى كثير من الشرح والنقاش لنفهم منها أن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان مأمورا بأن يكون حاكما للمسلمين وأن المسلمين لا يكونون مسلمين حقّا إلا إذا ارتضوه حاكما لهم، إن الإسلام كما هو عقيدة وعبادة فهو نظام حكم، ما دام الإسلام نظام حكم فلا بد من أن توضح الوسائل اللازمة لتطبيقه في واقع الحياة. ودراسة عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة ستوضح لنا أنه صلّى الله عليه وسلم قد أرسى قواعد الدولة المنظمة كأحسن ما يكون التنظيم، والحكومة التي ألفها الرسول صلّى الله عليه وسلم لإدارة هذه الدولة كانت ملائمة لعصره، ووافية بحاجيات المجتمع الذي كان يحكمه. ولا يصح أن نلتمس في ولايات هذا العصر ومصطلحاته مماثلا أو مشابها لما كان في عهد الرسول. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الحسبة في الإسلام: «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في مدينته النبوية يتولى جميع ما يتعلق بولاة الأمور، يولي في

الأماكن البعيدة ... ويؤمر على السرايا، ويبعث على الأموال الزكوية السعاة فيأخذونها ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها.. وكان يستوفي الحساب على العمال يحاسبهم على المستخرج والمصروف» «1» . بل إن الذي يتأمل المصادر القديمة الموثوق بها ويدقق في النصوص يتضح له أن التفكير في أمر الحكم والدولة والنظام السياسي كان موجودا عند الرسول إلى جانب الدعوة الدينية منذ البداية ووقت أن كان في مكة، فقد ذكر الطبري- أن مشيخة قريش وسرواتهم دخلوا على أبي طالب فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فانصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه. قال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسرواتهم وقد سألوك النصف أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك. قال: «أي عم، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟» قال: وإلام تدعوهم؟ قال: «ادعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» . قال: فقال أبو جهل من بين القوم: ما هي وأبيك؟ لنعطينكها وعشرا أمثالها. قال: «تقول: لا إله إلا الله» . قال: فنفروا وقالوا: سلنا غير هذه، فقال: «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها» . قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابا» «2» . ومما يسترعي الانتباه أن بعض العرب قد فطن إلى ما نفرت منه قريش، وقدر أن هذه الرسالة سوف تتمخض عن دولة. فقد روى ابن إسحاق عن ابن شهاب الزهري أن النبي صلّى الله عليه وسلم عند ما كان يعرض نفسه على القبائل العربية عله يجد نصيرا يؤمن به. «أتى- النبي صلّى الله عليه وسلم- بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له: بحيرة بن فراس: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك» «3» . وذكر ابن إسحاق قصة قدوم عدي بن حاتم الطائي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأكرمه النبي صلّى الله عليه وسلم وأجلسه على وسادته وجلس هو على الأرض. ثم قال: «لعلك يا عدي إنما يمنعك

_ (1) الحسبة في الإسلام لابن تيمية (ص 20) (2) الطبري (2/ 324) . (3) سيرة ابن هشام (2/ 33) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم- أي من فقر المسلمين- فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ... » «1» . على أية حال فهم النبي صلّى الله عليه وسلم رسالته، وأن إنشاء دولة على أساسها أمر أصيل فيها، فما أن هاجر من مكة إلى المدينة حتى شرع على الفور في تأسيس الدولة لتحمي الدعوة وتنظم المجتمع. وقد يقول قائل: لماذا لم يبدأ منذ البداية في تأسيس الدولة في مكة؟ والرد على ذلك: أن ذلك لم يكن ممكنا في مكة؛ لأن الوضع لم يكن مهيئا، فمكة قد ناصبت الرسالة وصاحبها العداء منذ البداية بل سدت في وجهه كل الطرق ليبلغها، لغيرهم من الناس، فلم يكن ممكنا ولا منطقيّا الحديث عن قيام الدولة في مكة، أما في المدينة فأصبح الوضع مختلفا تماما والمناخ غير المناخ والناس غير الناس. فأهل المدينة أبدوا استعدادهم- بمحض إرادتهم- لقبول الرسالة والإيمان بها والدفاع عنها وعن صاحبها مهما كان الثمن. لذلك لم يضيّع الرسول صلّى الله عليه وسلم وقتا في المدينة، بل بدأ على الفور في وضع لبنات الكيان الجديد، وخطا في ذلك خطوات عملية منها: أولا: بناء المسجد النبوي في المدينة «2» الذي لم يكن فقط مسجدا للصلاة؛ بل كان مركزا للدعوة ومقرّا للحكم، وليس في هذه العبارة غرابة أو مبالغة، فكما كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يتلقى الوحي فيه ويبلغه للناس ويشرح ويفسر ويعلم أصول الرسالة، كان كذلك يقضي ويحكم، وفيه يعلم الصحابة- رضوان الله عليهم- أمور الدين وأمور الدنيا ويدربهم على فنون الحكم والقيادة والإدارة، ويعدهم للدور الخطير الذي سيقومون به في الدولة وفي تاريخ العالم. ومن المسجد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعقد

_ (1) سيرة ابن هشام (4/ 249) . (2) سيرة ابن هشام (2/ 114) ، وابن كثير- البداية والنهاية (3/ 219) مكتبة المعارف- بيروت- لبنان (سنة 1980 م) ، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص 220) دار المعارف بالقاهرة الطبعة الثانية عشرة.

ألوية الحروب للقادة، ويبعث منه رسله وسفراءه لملوك وأمراء العالم، ويستقبل الوفود. باختصار فقد كان المسجد مقرّا لنشر الدعوة ومركزا لإدارة الدولة. ثانيا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد لا يتصور البعض أن هذه كانت خطوة هامة في إقامة كيان الدولة الإسلامية، فالمهاجرون والأنصار هم نواة المجتمع الجديد فتوثيق العلاقات بينهم أمر ضروري، خصوصا وأن الأساس الذي قامت عليه المؤاخاة أساس جديد لم يألفه العرب أو يعرفوه من قبل بل هو من ثمرات الرسالة الإسلامية، فقد قامت المؤاخاة على أساس العقيدة، والعقيدة وحدها، وهذا مؤشر في غاية الأهمية إلى أن الأمة التي يريد الإسلام إنشاءها لن يعترف فيها بأية رابطة تقوم على العصبية أو العنصرية القومية أو الجنسية، فالرابطة الوحيدة التي يقيم لها الإسلام وزنا هي رابطة العقيدة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وقد ضرب النبي صلّى الله عليه وسلم مثلا عمليّا على ذلك، حين آخى بين عمه حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة مولاه «1» ، وهذا كله جديد في بيئة تقدس الأحساب والأنساب وتؤمن بالعصبية. ثالثا: معاهدة المدينة، أو الكتاب الذي كتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينه وبين اليهود. فبعد أن آخى الرسول صلّى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، واطمأن إلى موقفهم وسلامة جبهتهم التفت إلى المدينة ككل، فأراد أن يضع لها نظاما أو أساسا ثابتا يحدد العلاقات والحقوق والواجبات بين سكانها جميعا، مسلمين وغير مسلمين، فقد كان يقيم في المدينة اليهود، فما وضعهم في الدولة الجديدة، فاليهود قبل الهجرة كانوا يتقاسمون الزعامة في المدينة مع الأوس والخزرج، بل أحيانا كانوا يتغلبون عليهم، والآن فالوضع قد اختلف، بل تغيّر تغيّرا كاملا، فالأوس والخزرج قد آمنوا بالله ورسوله، وأسلموا زمامهم للنبي صلّى الله عليه وسلم أما اليهود فلم يؤمنوا ولم يقبلوا الرسالة، بل فضلوا البقاء على دينهم، فلا بد من تحديد موقفهم في الدولة الجديدة بشكل واضح وبنصوص صريحة يرجع إليها عند الضرورة؛ فكانت معاهدة المدينة التي تعطينا دليلا آخر على عالمية الإسلام كرسالة وعالميته كدولة، وطبيعته التنظيمية. فقد نظمت تلك المعاهدة كافة الحقوق والواجبات والالتزامات بين سكان المدينة جميعا، المقيمين فيها من قبل والمهاجرين الوافدين إليها، واعتبرتهم جميعا سواء في

_ (1) انظر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار- سيرة ابن هشام (2/ 123) ، ابن سعد- الطبقات الكبرى (1/ 2/ 1) وما بعدها. دار صادر بيروت، ود. هيكل- حياة محمد (ص 223) .

الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية، فهم جميعا مواطنون وإن اختلفت عقيدتهم. وهاك أبرز النقاط التي وردت في هذه المعاهدة كما رواها ابن إسحاق «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي صلّى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس» وهذا إعلان صريح للأساس العقدي للدولة الجديدة، وباب الولوج إليها هو الإيمان بالله ويستوي في الانتماء إليها أهل مكة وأهل يثرب وغيرهم ممن تابع وجاهد ... على هذا الأساس تمارس الدولة سيادتها وسلطتها العليا في الداخل والخارج. وجاء فيها، وهو في غاية الأهمية: «وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم ... وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف» ... إلخ وعددت سائر المجموعات اليهودية في المدينة ثم أضافت: «وإنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد» . هذا ليس تقييدا لحريتهم، وإنما هو إجراء وقائي اقتضته ظروف نشأة الدولة؛ خوفا من عمليات التجسس ونقل المعلومات إلى الأعداء وخلافه. وعلى كل حال؛ فليس من هدفنا في هذا الموضوع الإطالة في شرح نصوص المعاهدة، فهذا موضوع آخر، وإنما يعنينا منها هنا أنها كانت خطوة هامة وأساسية في إعلان ميلاد دولة الإسلام بقيادة النبي صلّى الله عليه وسلم باعتراف جميع أطرافها، ومنهم اليهود، ذلك بنص صريح هو: «وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عزّ وجلّ، وإلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره» «1» . والخلاصة فإن هذه الوثيقة السياسية كانت فتحا جديدا في الحياة السياسية- كما يقول الدكتور هيكل- «2» فقد قررت حرية العقيدة وحرية الرأي وحرية المدينة وحرية الحياة والمال. كما حددت أعداء الدولة بصراحة فمنعت إجارة قريش ومن نصرها. بهذا الشكل، وبهذه الخطوات العملية، وبناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومعاهدة المدينة؛ قامت الدولة الإسلامية في المدينة.

_ (1) راجع نص المعاهدة في سيرة ابن هشام (2/ 119، 123) . (2) حياة محمد (ص 241) .

ومن الجدير بالذكر أن المسلمين عند ما فكروا في بدء التاريخ الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب اختاروا الهجرة من بين المقترحات الآخرى، هذا يدل على أنهم نظروا إلى بدء قيام الدولة الإسلامية «1» أو تمام الدين والدولة في الدعوة الإسلامية ولقد كان اختيار الهجرة للتقويم اختيارا موفقا؛ فهي في الحق استهلال لتاريخ جديد وإعلان لقيام دولة جديدة، ولو اختير مولد الرسول- مثلا لهذا التقويم- كما حدث بالنسبة لميلاد المسيح عليه السّلام في التقويم الميلادي، لما كان في الاستهلال بالمولد غير دلالة عاطفية فحسب، في حين أننا نجد في الهجرة وما ترتب عليها من نتائج تشخيصا إيجابيّا أقوى دلالة؛ لأنه يبرز الكيان الفكري والعملي للدعوة الإسلامية في صورة حية واقعية ملموسة ومحسوسة، والهجرة من هذه الوجهة أقوى دلالة من بدء الدعوة ونزول الوحي أيضا؛ فإن الدعوة قد بدأت بين الأقربين ثم أخذ نطاقها يتسع على مراحل، في حين أن الهجرة كانت حدثا هامّا قامت على أثرها دولة شعرت بها بلاد العرب من بعد «2» . كانت الهجرة إذن هي التي هيأت الظروف لقيام الدولة الإسلامية التي قامت عالمية منذ البداية «3» ؛ عالمية في وثائق تأسيسها، وفي أصولها ومبادئها، وكذلك في عناصر تركيبها السكاني؛ فكما ضمت العرب من قريش ويثرب واليهود ضمت سلمان الفارسي وصهيبا الرومي وبلالا الحبشي «4» ، ولعل هؤلاء كانوا رموزا لأممهم وشعوبهم التي سيدخل معظمها ضمن دولة الإسلام بعد سنوات قلائل. وقد أعفى الإسلام في بناء دولته- الكبرى- على روابط العنصرية والقومية فأهدرها؛ توسعا في ربط الإنسانية، وأهدر الإخاء القبلي والإقليمي، وأقام مقامه الإخاء البشري «5» .

_ (1) د. محمد فتحي عثمان- دولة الفكرة التي أقامها رسول الإسلام عقب الهجرة (ص 6) مكتبة وهبة- القاهرة. (2) المرجع السابق، الصفحة نفسها. (3) د. محمد البهي: الدين والدولة من توجيه القرآن الكريم (ص 490) دار الفكر- بيروت (سنة 1971 م) . (4) دولة الفكرة (ص 61) . (5) صادق عرجون- نظام الحكم في الإسلام (ص 30) مكتبة وهبة- القاهرة.

* أول رئيس للدولة الإسلامية:

* أول رئيس للدولة الإسلامية: قامت الدولة الإسلامية بشكل علمي، وكان أول رئيس لها- بطبيعة الحال- هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما نصت على ذلك معاهدة المدينة «1» ، وقد باشر رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه المهمة طوال حياته «فأقام الحدود. ونفذ القضاء، وقضى في الحقوق المدنية والجنائية، وجبى المال من مواضعه الشرعية، ووزعه على مستحقيه وفي مرافقه القانونية، وعقد المعاهدات وأعلن الحرب، وعقد الصلح، وكان في جميع ذلك مؤيدا من الله تعالى، فإذا نزلت الحادثة بالأمة ولم يرد فيها وحي من الله اجتهد فيه صلّى الله عليه وسلم وشاور أصحابه من شهد منهم من أهل العلم والرأي وكانوا تارة يجمعون على رأي فيعمل به، وتارة يختلفون فيعمل برأي بعضهم، ويترك رأي البعض الآخر مجتهدا في ترجيح رأي على رأي» «2» . والوقائع التي اجتهد فيها الرسول صلّى الله عليه وسلم وشاور أصحابه كثيرة، كما حدث في غزوة بدر وأحد والأحزاب، وأكثر من ذلك كان يشاور أصحابه فيمن يصلح للإمارة، كما حدث عند ما شاور أبا بكر رضي الله عنه في تولية أمير على الطائف بعد إسلام ثقيف، فأشار عليه أبو بكر بتولية عثمان بن أبي العاصي، وقال له: «يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام فيهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن. فعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمشورة أبي بكر وولاه» «3» . ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الرئيس الأعلى الذي يحكم الدولة الإسلامية التي تضم المسلمين واليهود، فقد كان يحكم بين المسلمين فيما بينهم، وقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأحكامه بين المسلمين في الحدود وغيرها أكثر من أن يأتي عليها الحصر، ولمن شاء أن يرجع إلى كتب الحديث والفقه، ففيها تفاصيل كثيرة عن القضايا التي قضى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد جمع ابن القيم في كتابه «زاد المعاد» أقضية رسول الله في الجزء الثالث والرابع، فليرجع إليه كذلك من شاء. وكان يقضي صلّى الله عليه وسلم بين المسلمين واليهود، ومن صور قضائه بينهم ما يرويه مسلم في صحيحه، عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج: أن عبد الله بن سهل بن زيد

_ (1) سيرة ابن هشام (2/ 123) . (2) صادق عرجون- المصدر السابق (ص 54) . (3) الطبري (3/ 99) .

* هيئة الحكومة النبوية:

ومحيصة بن مسعود بن زيد خرجا حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك، ثم إذا محيصة يجد عبد الله مقتولا، فدفنه، ثم أقبل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو وحويصة ابن مسعود وعبد الرحمن بن سهل ... فذكروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل فقال لهم: «أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون صاحبكم، أو قاتلكم؟» ، قالوا: كيف نحلف ولم نشهد؟ قال: «فتبرؤكم يهود بخمسين يمينا» ، قالوا: كيف نقبل إيمان قوم كفار؟ فلما رأى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم عقله «1» . أي: دفع لهم ديته. كذلك كان يقضي صلّى الله عليه وسلم بين اليهود أنفسهم، ومن صور قضائه بينهم ما ثبت في الصحيحين أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا وامرأة زنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟» قالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأمروا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد أن فيها الرجم، فأمر بهما صلّى الله عليه وسلم فرجما «2» . وكانت في بعض الأحيان ترفع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قضايا قضى فيها بعض الولاة أو القضاة ولم يعجب الناس حكمهم، فقد ذكر الإمام أحمد والبزار وغيرهما أن قوما احتفروا بئرا باليمن، فسقط فيها رجل فتعلق باخر والثاني بالثالث والرابع فسقطوا جميعا فماتوا، فارتفع أولياؤهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: اجمعوا من حفر البئر من الناس، فقضى للأول بربع الدية؛ لأنه هلك فوقه ثلاثة، والثاني بثلثها؛ لأنه هلك فوقه اثنان، والثالث بنصفها؛ لأنه هلك فوقه واحد، وللرابع بالدية تامة، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم العام القابل، فقصوا عليه القصة، فقال: «هو ما قضى بينكم» «3» . * هيئة الحكومة النبوية: كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يقوم بمهمة الحكم إلى جانب قيامه بتبليغ وأعباء الرسالة، لذلك كان لا بد أن يكون هناك من يعاونه في أمر الحكم؛ لأن مشاكل الدولة- في دور تأسيسها- كثيرة، وقضايا الناس ومصالحهم لا تقف عند حد، فاقتضت

_ (1) صحيح مسلم بشرح النووي (11/ 146، 147) المطبعة المصرية ومكتبها. القاهرة بدون تاريخ، وابن القيم زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 200، 201) لم يذكر مكان الطبع ولا التاريخ. (2) زاد المعاد (3/ 207) . (3) المصدر السابق (3/ 201) .

* صاحب السر:

الظروف أن يستعين الرسول صلّى الله عليه وسلم في إدارة الدولة بأصحابه الذين كانوا كلهم مجندين لخدمة الدعوة والدولة، وقد تشكلت منهم هيئة حكومته، قد اختص بعضهم بملازمة الرسول حتى أطلق عليهم اسم الوزراء، فقد صرح ابن العربي في سراج المريدين والأحكام بتحسين حديث فيه أن أبا بكر وعمر وزراء النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل الأرض. وفي القوانين لابن جزي في حق عمر: وكان هو وأبو بكر وزيرين لرسول الله صلّى الله عليه وسلم في حياته، ولا شك أن حالها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يعطي إلا ذلك، وبما وصلاه من هذه الرتبة، استخلفهما المسلمون بعده. وأخرج الحاكم في المستدرك قال: كان أبو بكر من النبي صلّى الله عليه وسلم مكان الوزير، فكان يشاوره في أموره كلها. ويروى عنه صلّى الله عليه وسلم قوله: «وزيري من أهل الأرض أبو بكر وعمر» «1» . وكان بعض العرب الذين يعرفون شيئا عن نظام الحكم عند الفرس والروم يطلقون على أبي بكر وعمر وصف وزيري محمد. * صاحب السر: وكان حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقد صرح الخطيب في تاريخ بغداد أن حذيفة بن اليمان كان صاحبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ووقع تسميته بذلك في سنن النسائي في قصة ذهاب علقمة إلى الشام ولقائه في دمشق لأبي الدرداء «2» ، فإن أبا الدرداء قال: أليس فيكم صاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه غيره، وقال ابن الأثير في أسد الغابة: حذيفة صاحب سر رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المنافقين، لم يعلمهم أحد إلا حذيفة أعلمه بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم «3» . * صاحب الشرطة: وكان قيس بن سعد بن عبادة صاحب شرطته- أي أمير الشرطة- فقد روى البخاري عن أنس بن مالك قال: «إن قيس بن سعد كان بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير» «4» .

_ (1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ- ظافر القاسمي (1/ 47) . (2) نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، للشيخ عبد الحي الكتاني دار الكاتب العربي- بيروت بدون تاريخ (1/ 17) - وسنشير إلى هذا الكتاب اختصارا باسم نظام الحكومة النبوية. (3) المصدر السابق (1/ 20) . (4) المصدر السابق (1/ 20) .

* حراس الرسول صلى الله عليه وسلم:

* حراس الرسول صلّى الله عليه وسلم: وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم حراس، منهم «سعد بن زيد الأنصاري، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعد بن معاذ، ومحمد بن مسلمة، وأبو أيوب الأنصاري، وبلال، وزكوان بن عبد قيس، وعباس بن بشير» «1» . * حراس المدينة أو شرطة المدينة: ومنهم من كان يقوم على حراسة المدينة ليلا، مثل «سعد بن أبي وقاص، وبديل ابن ورقاء، وأوس بن ثابت، وأوس بن عرابة، ورافع بن خديج «2» » . * المنفذون للحدود بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم: ومنهم من كان يقوم بتنفيذ أحكام الحدود بين يديه صلّى الله عليه وسلم من قتل ورجم وجلد وقطع يد إلخ مثل «علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة والزبير بن العوام وعاصم بن ثابت وبلال» «3» وهذه رتبة من أشرف الرتب؛ لأنها تتعلق بأشرف الأشياء وهي الأبدان. وكان يوجد في المدينة سجن للرجال وآخر للنساء ممن يرتكبون جرائم تستحق السجن وهذا في الأمور التي لا توجب الحد «4» ، وأحيانا كان يوضع فيها من ينتظر تنفيذ الحكم. * حجّاب الرسول صلّى الله عليه وسلم: وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم حجّاب يقفون على بابه ليستأذنوا للناس في الدخول عليه، منهم «أنس بن مالك ورباح الأسود- مولاه- وأبو أنسة- مولاه- وعبد الله بن زغب الإيادي» «5» وقد جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «جاء

_ (1) عيون الأثر في فنون المغازي والسير لابن الناس (2/ 296) منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت. الطبعة الثانية (1400 هـ- 1980 م) ، والعقد الفريد لابن عبد ربه (5/ 254) . مكتبة النهضة المصرية القاهرة الطبعة الثانية (1962 م) ، ونظام الحكومة النبوية (1/ 356) . (2) تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية لأبي الحسن الخزاعي التلمساني (ص 303) طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. القاهرة (1401 هـ- 1980 م) . وسنشير إليه اختصارا بعد الآن باسم كتاب تخريج الدلالات، ونظام الحكومة النبوية (1/ 293) . (3) عيون الأثر (2/ 296) ، ونظام الحكومة النبوية (1/ 313) . (4) تخريج الدلالات السمعية (ص 312، 313) . (5) العقد الفريد لابن عبد ربه (4/ 254) ، الطبري (3/ 171) ، نظام الحكومة النبوية (1/ 293) .

* حاملوا خاتم الرسول صلى الله عليه وسلم:

أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجد الناس جلسوا ببابه ولم يؤذن لهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له» «1» وهذا الحديث صريح الدلالة في أنه كان للرسول صلّى الله عليه وسلم حجّاب يستأذنون للناس في الدخول عليه. * حاملوا خاتم الرسول صلّى الله عليه وسلم: وكان للرسول صلّى الله عليه وسلم خاتما اتخذه لختم الرسائل للملوك والأمراء؛ لأنه لما عزم على إرسال كتبه إليهم بعد عودته من صلح الحديبية وكتب لهرقل قالوا: يا رسول الله إن الأعاجم لا تقبل الرسائل إلا أن تكون مختومة؛ فاتخذ خاتما من فضة نقشه: «محمد رسول الله» لختم الرسائل، وكان حنظلة بن الربيع بن صيفي والحارث بن عوف المري حاملي خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا غاب أحدهما ناب عنه الآخر، وظل خلفاء الرسول صلّى الله عليه وسلم يستعملون هذا الخاتم في ختم الرسائل حتى سقط من يد الخليفة عثمان بن عفان في بئر أريس، والقصة مشهورة. وكان هناك من يقوم باستقبال الوفود والاستئذان لها على الرسول صلّى الله عليه وسلم وتعليمهم كيف يحيونه وكيف يتحدثون إليه- وهو ما يطلق عليه الآن بنظام البروتوكول- وقد عنون صاحب كتاب «نظام الحكومة النبوية» لهذا الموضوع بقوله: فصل «في الرجل يعلم الوفد كيف يحيون المصطفى صلّى الله عليه وسلم» وكان أشهر من يقوم بهذه المهمة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقد ذكر ابن إسحاق قصة قدوم وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلم في رمضان (سنة 9 هـ) . فعند وصولهم إلى المدينة التقوا بالمغيرة بن شبعة- وهو ثقفي مثلهم- فأخبر المغيرة أبا بكر رضي الله عنه بقدومهم، فدخل أبو بكر على الرسول وأعلمه بأمرهم واستأذن لهم، وخرج إليهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلّى الله عليه وسلم «2» . * بيت الضيافة: وكان في المدينة بيت للضيافة، كانت تنزل فيه الوفود القادمة على الرسول صلّى الله عليه وسلم وكان هناك من يقوم على خدمتهم وإطعامهم. وكان من هؤلاء بلال وثوبان موالي رسول الله وكانت الدار التي اتخذت للضيافة منزلا لامرأة من الأنصار اسمها رملة بنت الحارث ويبدو أنها كانت واسعة؛ لأن ابن إسحاق ذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم

_ (1) نظام الحكومة النبوية (1/ 21) . (2) سيرة ابن هشام (4/ 196) ، نظام الحكومة النبوية (1/ 39) .

* مراقبة الأسواق:

حبس فيها بني قريظة قبل قتلهم وكانوا أكثر من ستمائة رجل بأسرهم «1» . * مراقبة الأسواق: ومن الأمور المهمة التي كان يعنى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مراقبة الأسواق. والإشراف على حركة البيع والشراء وكل ما يتعلق بالأمور التجارية، لضمان سلامة المعاملات وليحصل كل إنسان على ما يحتاج دون أن يتعرض لغش أو تدليس، وقد ذكر صاحب السيرة الحلبية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولى عمر بن الخطاب على سوق المدينة، وتولية عمر على هذا العمل يدل على جسامته وأهميته. ثم وبعد فتح مكة (سنة 8 هـ) ولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعيد بن العاص على سوقها «2» للإشراف على الحركة التجارية. ولما كان النبي صلّى الله عليه وسلم قد ولى عتاب بن أسيد على مكة بعد فتحها، فتولية سعيد بن العاص أمر السوق، يدل على أنه بجانب الولاية العامة كانت هناك ولايات نوعية متخصصة بناحية محددة يتولاها آخرون. فبجانب الوالي كان هناك القاضي وجامع الصدقات، أي: المختص بالشؤون المالية، ولأهمية الأسواق والحركة التجارية في حياة الناس، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يقوم أحيانا بمراقبة سوق المدينة بنفسه، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام- أي: قمح- فأدخل يده فيها فنالت بللا، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» فقال: أصابته السماء يا رسول الله- أي: أصابه المطر- قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس منا» «3» . وهذا النوع من الإدارة الإسلامية في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم أصبح أساسا لما عرف بعد ذلك بنظام الحسبة، أو بولاية الحسبة والذي يتولاها كان يعرف بالمحتسب. * جهاز جمع المعلومات «المخابرات» : وكان للنبي صلّى الله عليه وسلم جهاز دقيق لجمع المعلومات عن الأعداء- وهو ما يقابل جهاز المخابرات فى الدول الحديثة- وممن كان يقوم بهذه المهمة بسبسة بن عمرو الجهني الذي كلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن يذهب إلى بدر لجمع المعلومات عن قريش قبيل

_ (1) تخريج الدلالات (ص 667) . (2) السيرة الحلبية (3/ 354) ، نظام الحكومة النبوية (1/ 287) ، وتخريج الدلالات السمعية (ص 299) . (3) صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 109) .

* كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم:

المعركة، وكذلك طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد اللذان أرسلهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى طريق الشام يتحسسان الأخبار عن قافلة أبي سفيان.. ومنهم حذيفة بن اليمان الذي قام بجمع المعلومات عن الأحزاب في غزوة الخندق. وبسر بن سفيان الخزاعي الذي كان مختصّا بجمع المعلومات عن قريش. وعبد الله بن أبي حدرد الأسلمي الذي أمد الرسول بالمعلومات عن عزم هوازن على مهاجمته في حنين ثم قام بنفس الدور العباس بن عبد المطلب، فقد كان عين رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أهل مكة يمده بكل تحركاتهم هذه، وهو الذي أخبره بمسيرهم في غزوة أحد، وكذلك في غزوة الأحزاب، مما مكن الرسول صلّى الله عليه وسلم من حفر الخندق قبل وصولهم إلى المدينة، وكان المسلمون يتقوون به في مكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكتب إليه رسول الله: «إن مقامك بمكة خير» ، فلذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بدر: «من لقي منكم العباس فلا يقتله فإنما أخرج كرها» «1» . وهكذا كان هذا الجهاز خطيرا وفعالا ويرصد تحركات أعداء الدعوة والدولة على جميع الجبهات، وقد أمد هذا الجهاز النبي صلّى الله عليه وسلم بالمعلومات عن تحركات الروم في الشمال؛ مما كان سببا فى غزوة تبوك. * كتّاب الرسول صلّى الله عليه وسلم: كان للنبي صلّى الله عليه وسلم جهاز كبير من الكتاب، وصل عددهم إلى أكثر من أربعين كاتبا، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير بن العوام، وخالد وإبان ابنا سعيد بن العاص، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم، وثابت بن قيس بن شماس، وحنظلة ابن أبي عامر الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، والمغيرة بن شعبة، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي، وعمرو بن العاص، وجهم بن أبي الصلت، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم «2» . وكان بعض هؤلاء الكتاب يكتبون الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعضهم يكتب في

_ (1) تخريج الدلالات السمعية (ص 473) . (2) تخريج الدلالات السمعية (ص 157) وما بعدها- نظام الحكومة النبوية (1/ 115) وما بعدها. والإسلام والحضارة العربية تأليف محمد كرد علي (2/ 97) مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر الطبعة الثالثة. القاهرة (1968 م) . ونظام الحكم في الشريعة والتاريخ تأليف ظافر القاسمي (1/ 48) - الطبعة الأولى- دار النفائس بيروت (1394 هـ- 1974 م) .

* جهاز الإعلام:

الشؤون العامة للدولة، إما إضافة إلى كتابته الوحي، أو اختصارا على الكتابة في الأمور الآخرى. فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه من المختصين بكتابة العهود وعقود الصلح، وهو الذي كتب وثيقة صلح الحديبية. وكان معيقيب بن أبي فاطمة، وكعب بن عمرو بن زيد الأنصاري يكتبان المغانم، وكان يقال للأخير: صاحب المغانم. وحذيفة بن اليمان كان يكتب خرص تمر الحجاز. والعلاء بن عتبة وعبد الله بن الأرقم يكتبان بين الناس في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وكان عبد الله بن الأرقم يجيب الملوك عن رسول الله. والزبير بن العوام وجهم بن أبي الصلت يكتبان أموال الصدقات والمغيرة بن شعبة يكتب المداينات والمعاملات. وكان زيد بن ثابت الأنصاري- إضافة إلى كتابة الوحي- مترجم رسول الله؛ لأنه كان يعرف عددا من اللغات منها الفارسية والعبرية «1» . * جهاز الإعلام: وكذلك كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عدد من الشعراء والخطباء الذين يدافعون عنه وعن دعوته ودولته ضد من كانوا يهاجمونه من شعراء مكة وغيرها كعبد الله بن الزبعرى الذي كان يهاجم الرسول ودعوته بقصائد قاسية فكان شعراء الرسول صلّى الله عليه وسلم يتصدون للرد عليه، ومن شعراء الرسول البارزين: حسان بن ثابت الأنصاري، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، ومن خطبائه: ثابت بن قيس «2» . ومما هو معروف أن الشعر والخطابة كانا وسيلة الإعلام الرئيسية في ذلك الوقت. هذا بإيجاز هو الجهاز الحكومي الذي كان يعاون الرسول صلّى الله عليه وسلم في إدارة الدولة

_ (1) وانظر عن تنوع اختصاصات كتاب الرسول صلّى الله عليه وسلم- المصادر السابقة. (2) انظر قصة وفد بني تميم- الطبري (3/ 116، 117) عند ما جاؤوا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم يفاخرون بشاعرهم الزبرقان بن بدر، وخطيبهم عطارد بن حاجب فلما فرغ شاعرهم وخطيبهم أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بشاعره حسان بن ثابت وخطيبه ثابت بن قيس أن يردا عليهما، فلما فرغ حسان بن ثابت وكان آخر المتحدثين، قال زعيمهم الأفرع بن حابس «إن هذا الرجل لمؤتى. لخطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، فلما فرغ القوم أسلموا» ، وجوزهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم.

* خلفاء الرسول على المدينة أثناء غيابه عنها في غزو أو غيره:

ونحيل من يريد الاستزادة عن هذا- بالإضافة إلى كتب الحديث والفقه والسير والمغازي والتاريخ والأدب- إلى كتابين رئيسيين: الكتاب الأول: كتاب تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية، لأبي الحسن الخزاعي المتوفى (سنة 789 هـ) . والذي طبعه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة (سنة 1980 م) . والكتاب الثاني: هو نظام الحكومة النبوية المسمى بالتراتيب الإدارية، لكاتب مغربي هو الشيخ عبد الحي الكتاني، والكتاب مطبوع في دار الكتاب العربي في بيروت بلبنان بدون تاريخ. * خلفاء الرسول على المدينة أثناء غيابه عنها في غزو أو غيره: عند ما كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يكون موجودا في المدينة فهو المشرف الأعلى على الأمور كلها وهو الذي يوزع الأعمال على الصحابة- رضوان الله عليهم- كل في مجاله. وعند ما كان يغيب عنها ولو ليوم واحد، فإنه كان ينيب أحد أصحابه عنه ليتولى إدارة الأمور حتى يرجع، ففي غزوة أحد التي دارت معاركها بالقرب من المدينة فإنه عهد بأمر المدينة لابن أم مكتوم. وباستعراض الأسماء التي كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يعهد إليها بأمر المدينة أثناء غيابه نجد أنه قلما كان يولي النيابة عنه لشخص واحد أكثر من مرة، ونستنتج من ذلك أنه ربما كان يقصد أن يتيح الفرصة لأكثر من شخص للتدريب والممارسة العملية في مباشرة الحكم والإدارة ليكون هناك العدد الكافي للاضطلاع بحكم الولايات فيما بعد عند اتساع الدولة وهو أمر لم يطل انتظاره. فمثلا عند خروج الرسول صلّى الله عليه وسلم في غزوة الأبواء- ودان- في ربيع الأول (سنة 2 هـ) استخلف على المدينة سعد بن عبادة «1» . وفي غزوة بواط في نفس الشهر استخلف سعد بن معاذ «2» . وفي خروجه لمطاردة كرز بن جابر الفهري في نفس الشهر استخلف زيد بن حارثة «3» . وفي غزوة ذات العشيرة استخلف أبا سلمة بن عبد الأسد «4» .

_ (1) الطبري (1/ 407) . (2) الطبري (1/ 407) . (3) الطبري (2/ 407) . (4) الطبري (2/ 408) .

* اتساع نفوذ الدولة الإسلامية:

وفي غزوة بدر الكبرى من رمضان (سنة 2 هـ) . استخلف أبا لبابة بشير بن عبد المنذر «1» . وفي غزوة خيبر استخلف سباع بن عرفطة الغفاري «2» . وفي فتح مكة استخلف أبا رهم حصين بن خلف الغفاري «3» . وفي غزوة تبوك استخلف محمد بن مسلمة الأنصاري. * اتساع نفوذ الدولة الإسلامية: بعد أن أقام الرسول صلّى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية في المدينة- على النحو الذي بيناه- بقي نفوذها مقصورا- تقريبا- على المدينة وما حولها، وإن تجاوز ذلك فبعقد محالفات وصداقات مع بعض القبائل القاطنة على الطريق بين مكة والمدينة، وذلك لجذب هذه القبائل إلى صفه، أو على الأقل تحييدها في الصراع بينه وبين قريش، التي كانت عدوه الرئيسي، والتي وجه إليها كل نشاطه العسكري في تلك الفترة ليجبرها على التخلي عن عداوتها للإسلام، ويمثل ذلك النوع من المحالفات، تلك المحالفة التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع بني ضمرة، الذين كانوا من أهم القبائل القاطنة في تلك الجهة. وبالنظر إلى الكتاب الذي كتبه لهم رسول الله «4» نجد أنه ينص على تأمينهم على أنفسهم وأموالهم وأن لهم النصرة على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصرته أجابوه، فهي إذن معاهدة دفاع مشترك بينهم وبين الرسول صلّى الله عليه وسلم ويوضح لنا هذا الكتاب أو هذه المعاهدة، أن النبي صلّى الله عليه وسلم نجح في أن يجذب إلى صفه القبائل التي كانت في الأصل صديقة لقريش وتمدها بالمعلومات عن تحركات المسلمين. ويوضح لنا كذلك امتداد نفوذ النبي صلّى الله عليه وسلم وسلطانه، فكونه يضمن لبني ضمرة تأمين أنفسهم وأموالهم يدل على أنه أصبح الأقوى نفوذا وأن قوته معترف بها. وظل النبي صلّى الله عليه وسلم يعمل في هذا الاتجاه، يقاوم قريشا ويتصدى لها، وفي نفس الوقت يعمل جاهدا في نشر الدعوة وتوسيع نطاق نفوذ الدولة لحماية الدعوة، ولكن

_ (1) الطبري (2/ 478) . (2) الطبري (3/ 9) . (3) الطبري (3/ 50) . (4) سيرة ابن هشام (2/ 235) ، والسيرة النبوية لابن كثير (2/ 362) .

* اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية:

التقدم في هذا الاتجاه ظل بطيئا إلى عام الحديبية. فقد كانت الحديبية نقطة تحول كبرى في تاريخ الدعوة والدولة معا، فبعد الحديبية انفتح الطريق أمام انتشار الدعوة وامتداد الدولة وذلك بفضل بعد نظر الرسول صلّى الله عليه وسلم ومهارته السياسية الفائقة ففي شهر ذي القعدة من العام السادس الهجري أعلن الرسول عن عزمه للخروج معتمرا مسالما لا محاربا، وخرج بالفعل في ألف وأربعمائة من أصحابه، ولعله أراد أن يختبر نوايا قريش فلعلها راجعت موقفها من الدعوة- خصوصا بعد الهزائم العسكرية التي منيت بها- وتفتح معه صفحة جديدة، فها هو يمد يده إليها فماذا هي صانعة، وصل الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى الحديبية بالقرب من مكة وواتته الأخبار بعزم قريش على منعه من دخوله مكة، واتصلت بينه وبينهم المفاوضات- التي لا نريد أن نقف عندها طويلا الآن- وانتهت إلى ما عرف بصلح الحديبية، والذي كان من أهم بنوده وأعظمها أثرا على مستقبل الدعوة والدولة ذلك البند الذي نص على هدنة أو فترة سلام بين الفريقين مدتها عشرة أعوام. وقبل الرسول هذه المعاهدة- رغم المعارضة الشديدة من بعض أصحابه- واستثمرها بنجاح فائق ظهر أثره، واضحا بعد فترة وجيزة. ذلك أنه ما إن استقر في المدينة بعد عودته من الحديبية حتى شرع في تنفيذ خطة واسعة النطاق لتبليغ الدعوة إلى جميع مناطق شبه الجزيرة العربية وإلى الدول الأجنبية المجاورة. ففي شهر المحرم من العام السابع الهجري أرسل ستة سفراء دفعة واحدة، إلى كسرى فارس وهرقل- إمبراطور الروم- والمقوقس في مصر، ونجاشي الحبشة، وأمير غسان بالشام، وزعيم بني حنيفة في اليمامة «1» . * اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية: والذي يهمنا من أمر هذه الرسائل الآن، هو أمر رسالته إلى كسرى فارس؛ فقد كانت هذه الرسالة وما ترتب عليها من رد فعل مفتاح إسلام أهل اليمن، ودخولهم

_ (1) انظر رسائل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء المعاصرين له في ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 32) وما بعدها (8/ 127) ، وصحيح مسلم- بشرح النووي (12/ 107، 108) ، وتاريخ اليعقوبي (3/ 67) وما بعدها، وابن الأثير الكامل في التاريخ (2/ 145) ، والسيرة الحلبية (3/ 244) وما بعدها، ومحمد حميد الله- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة (ص 81) وما بعدها، وأحمد زكي صفوت- جمهرة رسائل العرب (1/ 32) وما بعدها، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص 383) وما بعدها.

ضمن نفوذ الدولة الإسلامية. والذي حمل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز بن هرمز، هو عبد الله بن حذافة السهمي، فلما أوصل إليه الرسالة، وقرئت عليه استبد به الغضب والغرور وقال: يكتب إليّ وهو عبدي- يقصد النبي صلّى الله عليه وسلم- وطرد عبد الله بن حذافة- مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم- من المدائن، ثم أرسل كتابا إلى باذان- عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به «1» . فامتثل باذان لأمر سيده، وأرسل قائدين من قواده هما خرخسرو وبابويه ومعهما عدد من الجنود، وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره فخرجا حتى قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكلمه بابويه فقال: إن شاهنشاه- ملك الملوك كسرى- قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت، فهو من قد علمت، فهو مهلك، ومهلك قومك، ومخرب بلادك، فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ارجعا حتى تأتياني غدا» وأتى رسول الله الخبر من السماء وأن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، فدعاهما فأخبرهما، فقالا له: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب هذا عنك ونخبر الملك؟ قال: «نعم، أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى ... وقولا له: إن أسلمت أعطيت ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء» «2» . أوصل رسولا باذان رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إليه ثم جاءته الأخبار من فارس تصدق ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وسلم، فلم يلبث باذان أن أراد الله به خيرا وشرح صدره للإسلام، وأرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وفدا برئاسة فيرزز الديلمي بإعلان إسلامه وإسلام الأبناء من أهل اليمن «3» . وأقره النبي صلّى الله عليه وسلم على حكم المناطق التي كان يتولاها تحت الإدارة الفارسية، والتي يبدو أنها كانت قاصرة على منطقة صنعاء وما حولها؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلم ولى ولاة آخرين على بقية مناطق اليمن التي تتابع دخولها في الإسلام، وكانت سياسة النبي صلّى الله عليه وسلم أن يولي على كل قوم زعيما منهم. وكيفما كان الأمر فإن باذان كان

_ (1) انظر نص كتاب النبي صلّى الله عليه وسلم إلى كسرى في الطبري (2/ 654، 655) . (2) المصدر السابق (2/ 656) . (3) المصدر السابق (2/ 656) .

* ولاية مكة:

أول ملوك العجم الذين أسلموا وولاه النبي صلّى الله عليه وسلم الحكم باسم الإسلام «1» ، وهذا أبلغ دليل على عالمية الإسلام وسماحته وارتفاعه فوق القوميات والعصبيات فرجل أعجمي وأجنبي عن البلاد يسلم فلا مانع إطلاقا من أن يحكم تحت راية الإسلام. ومن ولاة اليمن معاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وعمرو بن حزم الأنصاري، ومر تنظيم حكم اليمن وتقسيم مناطقه بمراحل حيث أصبح بعد حجة الوداع على النحو التالي: 1- مخلاف صنعاء وعليه شهر بن باذان. 2- مخلاف حضر موت وعليه زياد بن لبيد البياضي. 3- مخلاف الجند- عاصمة حمير- وعليه معاذ بن جبل وكان له الإشراف على بقية المخاليف وتجمع عنده الأموال ليرسلها إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة. 4- مخلاف تهامة وعليه الطاهر بن أبي هالة «2» . * ولاية مكة: رأينا في الصفحات السابقة كيف وصلت الدعوة الإسلامية إلى اليمن، وأصبحت جزآ من الدولة الإسلامية، يحكمها ولاة من قبل النبي صلّى الله عليه وسلم وتوافد عليها الصحابة قضاة ومعلمين. وفي العام الثامن الهجري وفي شهر رمضان توجه النبي صلّى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها، ويقول الطبري: إن النبي صلّى الله عليه وسلم ترك فيها أبا بكر رضي الله عنه ليدبر الأوضاع بعد الفتح ويعلم الناس، ثم تولى ولاية مكة عتاب بن أسيد وظل واليا عليها حتى وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم «3» ، وفرض الرسول صلّى الله عليه وسلم لعتاب درهما واحدا في اليوم كراتب، وكان عتاب يقول: أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله درهما كل يوم فليست لي حاجة إلى أحد، وهذا الراتب من أول ما وضع من الرواتب للعمال «4» .

_ (1) انظر اليمن في صدر الإسلام، رسالة ما جستير لعبد الرحمن عبد الواحد محمد (ص 113) - نقلا عن الاستيعاب لابن عبد البر (3/ 365) ، وابن حجر في الإصابة (3/ 630) ، وابن سعد في الطبقات (5/ 533) ، والرازي- تاريخ مدينة صنعاء (ص 75) . (2) انظر البلاذري- فتوح البلدان (1/ 82) وما بعدها، والقلقشندي- صبح الأعشى في صناعة الإنشا (5/ 26) . (3) الطبري (2/ 82) ، سيرة ابن هشام (4/ 69) ، البلاذري (2/ 46) . (4) الإسلام والحضارة العربية محمد كرد علي (2/ 99) .

* ولاية الطائف:

وهكذا أسلمت مكة- بعد مقاومتها العتيدة للإسلام- وأصبحت ولاية إسلامية وقد سبقت الإشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلم عين سعيد بن العاص لمراقبة سوقها بعد الفتح. * ولاية الطائف: في شهر رمضان من العام التاسع الهجري قدوم ثقيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد عودته من تبوك، وذلك بعد ما يقرب من عام من حصار الطائف وفكه عنها، وأعلنوا إسلامهم فلما أسلموا كتب لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا، وأمّر عليهم عثمان ابن أبي العاص، بعد أن شاور فيه أبا بكر رضي الله عنه فقال له أبو بكر: إني قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن. * إسلام البحرين: بعد فتح مكة أرسل النبي صلّى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي أمير البحرين وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فأسلم ورد على رسول الله بكتاب، جاء فيه: «أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه، وفي أرضي مجوس ويهود فأحدث إلى في ذلك أمرك. فرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلم بكتاب جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله «1» ، أما بعد: فإني أذكرك الله عز وجلّ فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، فإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية» «2» . بهذا الشكل دخل أهل البحرين الإسلام وأبقى الرسول صلّى الله عليه وسلم أميرهم المنذر بن ساوي يحكمهم نيابة عنه، وبقي العلاء بن الحضرمي معه قاضيا ومعلما وجامعا للصدقات.

_ (1) الطبري (3/ 99) ، وسيرة ابن هشام (4/ 697) ، والبلاذري (1/ 70) . (2) عيون الأثر (2/ 339) ، والبلاذري (1/ 95) .

* إسلام اهل عمان:

* إسلام اهل عمان: ثم أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد- أو عباد- ابني الجلندي ملكي عمان، يدعوهما للإسلام، وأرسل إليهما معه كتابا هذا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعباد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين. وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما» «1» . أوصل عمرو بن العاص كتاب النبي إليهما وبعد مناقشات طويلة استطاع إقناعهما فأسلما وأسلم قومهما بإسلامهما، وبقيا يحكمان بلدهما وبقي عمرو بن العاص ليجمع الصدقات ويحكم، ويقضي بين الناس، وقال عنهما: «وصدقا النبي صلّى الله عليه وسلم وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا عونا لي على من خالفني» «2» . وهكذا في فترة وجيزة بعد صلح الحديبية، انتشرت الدعوة الإسلامية، وامتد نفوذ الدولة من اليمن إلى عمان والبحرين بالإضافة إلى مكة والطائف وأصبح على كل هذه المناطق ولاة من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلم وإلى جانبهم قضاة ومعلمون وجباة. وبعد عودة رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في رمضان من السنة التاسعة للهجرة أقبلت عليه الوفود من سائر أنحاء الجزيرة العربية «3» معلنة إسلامها وبيعتها، وقبولها الدخول تحت سيادة الدولة، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلم يعين عليهم الأمراء والقضاء وجامعي الصدقات «4» . بحيث يمكننا القول: إن الجزيرة العربية بأسرها انتظمتها وحدة دينية وسياسية تحت زعامة النبي صلّى الله عليه وسلم لأول مرة في تاريخها. وبوفاة النبي صلّى الله عليه وسلم انتهت مهمته كرسول وانقطع الوحي؛ لأنه خاتم الأنبياء،

_ (1) عيون الأثر (2/ 339) ، والبلاذري (1/ 92) . (2) عيون الأثر (2/ 342) . (3) الطبري (3/ 130) وما بعدها، وسيرة ابن هشام (4/ 222) وما بعدها. (4) الطبري (3/ 147) .

وبقيت مهمته كرئيس للدولة الإسلامية، وكان لا بد لهذه المهمة من يشغلها، وقد أعطى الصحابة- رضوان الله عليهم- هذه القضية ما تستحقه من اهتمام وبرهنوا على إحساس عميق بالمسؤولية فحسموا أمر من يخلف النبي صلّى الله عليه وسلم في زعامة الدولة، في نفس اليوم الذي توفي فيه- على أرجح الروايات- وبويع أبو بكر الصديق خليفة وزعيما للأمة، بما يشبه الإجماع، وكان تعليق أحد الصحابة على هذه البيعة المباركة بهذه السرعة- وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل- قال: «لقد كرهنا أن نبيت ليلة واحدة بعد وفاة نبينا بدون إمام» . وبعد؛ فهذه لمحة موجزة عن دولة الإسلام وإدارتها وجهاز حكمها في عهد رسول الله ولمن يريد المزيد من التفصيلات عن الموضوع فليرجع إلى المصادر التي تحدثت عن نظام الحكم في الإسلام قديما وحديثا، وهي أكثر من أن يأتي عليها الحصر، فمن المصادر القديمة: كتاب «الأحكام السلطانية» لأبي يعلى، وكتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي، «والفخري في الآداب السلطانية» لابن طباطبا، «والوزراء والكتاب» للجهشياري، «ومقدمة ابن خالدون» ، وكتاب «تخريج الدلالات السمعية» لأبي الحسن الخزاعي- وقد سبقت الإشارة إليه- وكتابا «السياسة الشرعية» و «الحسبة في الإسلام» لابن تيمية. ومن الكتب الحديثة: «كتاب الحكومة النبوية» لعبد الحي الكتابي الذي سبقت الإشارة إليه أيضا، وكتاب «نظام الحكم في الشريعة والتاريخ» لظافر القاسمي، وكتاب «نظام الحكم في الإسلام» للشيخ صادق عرجون، وكتاب «دولة الإسلام والعالم» للدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي، ترجمة الدكتور فتحي عثمان، وكتاب «دولة الفكرة التي أقامها رسول الله عقب الهجرة» للدكتور محمد فتحي عثمان، وكتاب «النظم الإسلامية» للدكتور صبحي الصالح، وكتاب «النظم الإسلامية» للدكتورين حسن إبراهيم حسن وعلى إبراهيم حسن، وكتاب «النظم الإسلامية» للدكتور إبراهيم أحمد العدوي، وكتاب «الدين والدولة من توجيه القرآن» للدكتور محمد البهي ... إلخ.

البحث لسادس دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث لسادس] دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم

دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم إلى عالمنا المعاصر، ذلك العالم المضطرب، المتوتر الأعصاب، المكدود الذهن الذي تسوده الحروب والقلاقل والفقر في كثير من أجزائه. إلى هذا العالم الذي يحاول الأقوياء فيه السيطرة على الضعفاء وإذلالهم وتسخيرهم لمصالحهم، بل أكثر من هذا؛ فإن هؤلاء السادة الأقوياء الأغنياء بدلا من أن يعملوا على استقرار العلاقات بين الدول صغيرها وكبيرها على قاعدة المساواة والعدل، راحوا يشعلون الحروب بين الدول الصغيرة الفقيرة، ويحرضونها على بعضها، ليضمنوا بسط سيطرتهم عليها من ناحية، ومن ناحية ثانية ليروجوا لتجارة السلاح الذي يصنعونه، حتى تمتلئ خزائنهم بالمال الحرام، الذي يأتي من أقوات الشعوب المقهورة، والتي هي في حاجة إلى طعام وليس إلى سلاح، والأمثلة كثيرة وماثلة أمام أعيننا. إلى هذا العالم الذي يسود علاقاته الدولية المكر والخداع والنفاق والغدر، بسبب غياب الوازع الديني والأخلاقي عن ضمائر ساسته وزعمائه الكبار، الذين يقررون مصائره، والذين لا يتورعون عن أن يدوسوا بأقدامهم كل عهد وميثاق قطعوه على أنفسهم، إذا كان ذلك يعود عليهم بمصلحة مادية؛ لأنهم تركوا الدين وشرائع الله وراء ظهورهم. إلى هذا العالم المضطرب المكدود أهدي هذا البحث «دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم» ليعرف هذا العالم كيف قامت العلاقات الدولية في الإسلام على أسس متينة من السلام والمساواة والعدل وصيانة العهود والمواثيق. وكيف رعت وصانت هذه العلاقات حقوق الإنسان وكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، واستهدفت حياة يسودها الحب والتعاون من أجل خير الجميع وسعادة الجميع. لعل الناس يهتدون، ويعودون إلى تحكيم شريعة الله سبحانه وتعالى في سلوكهم وعلاقاتهم وكل شؤون حياتهم إذا كانوا يريدون الخلاص مما هم فيه من بلاء وشقاء، وأن يعم بينهم الحب والتعاون والإخاء. وقد تناول البحث الموضوعات الآتية: قيام دولة الإسلام في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم- الإسلام دين عالمي- السلام أساس العلاقات الدولية في الإسلام- الحرب المشروعة في الإسلام- آدب الحرب في الإسلام- مبادئ القانون الدولي في الإسلام- الإسلام

* قيام دولة الإسلام: * في عهد النبي:

يحترم مبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم- معاهدة الحديبية في ميزان العلاقات الدولية- الإسلام والعالم- خاتمة البحث. هذا وبالله التوفيق. * قيام دولة الإسلام: * في عهد النبي: الإسلام دين ودولة؛ أو بمعنى آخر الإسلام عقيدة إلهية تنبثق منها شريعة، يقوم على مبادئ هذه الشريعة نظام اجتماعي كامل وفاضل، يحقق سعادة البشر جميعا في الدنيا والآخرة. تلك حقيقة لا ينكرها إلا مكابر يجهل حقيقة الإسلام، أو متعصب أعمى التعصب- ضد الإسلام- بصره وبصيرته. فالتاريخ قد عرفنا برجال جاؤوا برسالات سماوية، ورجال بنوا أمما، ورجال آخرين أسّسوا دولا. لكن التاريخ لم يحدثنا عن رجل واحد جاء برسالة من عند الله، ثم بنى أمة، ثم أسس دولة، سوى النبي العربي محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلم، فقد كان محمد رسولا من عند الله للبشرية كلها؛ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] . وهو مكلف بتبليغ رسالته للناس؛ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] والقرآن الكريم كما حمّل النبي عليه الصلاة والسلام مسؤولية تبليغ الرسالة، فقد حمّله كذلك مسؤولية الحكم بين المسلمين، طبقا لمبادئ هذه الرسالة؛ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ... [المائدة: 49] . وصفة الإيمان تنتفي عن المؤمنين إذا لم يحكموا الرسول في أمورهم؛ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] . وبناء على هذا يمكننا أن نقول: إن مهمة تأسيس دولة إسلامية يقوم نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي على أسس شريعة الإسلام، هي مهمة أساسية من مهمات الرسول- عليه الصلاة والسلام- وقد اضطلع بهذه المهمة، فأسس الدولة الإسلامية- في المدينة المنورة بعد الهجرة مباشرة- وكان هو- عليه الصلاة والسلام- قائد المسلمين وإمامهم، ينفذ الشريعة بينهم، ويرعى مصالحهم ويحدد لهم علاقاتهم فيما بينهم. ويحدد لهم علاقاتهم بغيرهم من الأمم الآخرى على أسس ومبادئ

ثابتة، والمبادئ التي تقوم على أساس علاقات الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم هي مبادئ عالمية؛ ذلك بأن طابع الدولة الإسلامية له ما للدعوة الإسلامية من اعتبار إنساني عام حدّده مصدر الرسالة الإسلامية وهو القرآن الكريم في قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ؛ فالدعوة الإسلامية للناس جميعا. ولذلك ففكرة الدولة في الإسلام هي فكرة عالمية، ومبادئ علاقاتها الدولية هي مبادئ عالمية كذلك «1» . وينبغي أن نشير هنا إلى أن هذه هي أول مرة في تاريخ الأديان تقوم دولة ذات صبغة عالمية في مبادئها وأهدافها على أساس عقيدة وشريعة سماوية «2» . وهذه ميزة امتاز بها الإسلام، وهي ميزة ناشئة عن طبيعته كدين، وناشئة أيضا عن ظروف نشأته التاريخية، وفي كلا الأمرين يختلف الإسلام عن المسيحية مثلا. فالمسيحية- من حيث طبيعتها كدين- تعتبر رسالة إصلاحية، وجاءت لإصلاح الديانة اليهودية، وتخليصها من البدع والخرافات والأساطير التي أضافها إليها اليهود، والتي أحالتها طقوسا جامدة، لا حياة فيها ولا روح، فاليهود حرّفوا الكلم عن مواضعه كما سجّل عليهم القرآن الكريم هذا العبث: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [المائدة: 13] . من أجل ذلك جاء السيد المسيح عليه السّلام برسالته ليصحح الديانة اليهودية، ويعيد لها صفاءها الأول، كما جاء بها موسى عليه السّلام وليهدي خراف بني إسرائيل الضالة. وروي عنه قوله: «ما جئت لأنقض الناموس، بل لأصححه» . أما طبيعة الإسلام كدين فلم تكن كذلك؛ فلم يأت الإسلام لإجراء تصحيح جزئي في ديانة سابقة، وإنما جاء الإسلام لهدم كل انحراف عقدي أو أخلاقي أو سلوكي، سواء في شبه الجزيرة العربية، أو في أي مكان آخر من العالم يصل إليه، وليقيم عقيدة عالمية للبشرية كلها؛ هي عقيدة التوحيد الخالص لله وحده سبحانه وتعالى، وعبادته دون سواه، ومعها شريعة خاتمة لكل الشرائع، وشاملة لكل شؤون الدنيا والآخرة.

_ (1) د. محمد البهي- الدين والدولة، من توجيه القرآن الكريم (ص 490) . (2) حسن خالد- الشهيد في الإسلام (ص 33) .

وهناك فارق آخر بين الإسلام والمسيحية من حيث النشأة التاريخية لكل منهما فالمسيحية كما هو معروف، نشأت في فلسطين، حيث ولد السيد المسيح عليه السّلام، وفلسطين يومئذ مستعمرة رومانية، والدولة الرومانية كانت في تلك الأزمان دولة كبيرة وعتيدة. دولة لها نظامها الاجتماعي الخاص بها، ولها قوانينها الراسخة، والتي كانت مبعث فخرها- لا تزال القوانين الرومانية تعتبر ينبوعا لمعظم القوانين في أوربا- فلم تكن الدولة الرومانية لتسمح للسيد المسيح عليه السّلام أن ينازعها سلطانها، وأن يقيم في ولاية من ولاياتها دولة ومجتمعا يخالف نظامها وقوانينها. ولقد أدرك السيد المسيح نفسه هذا الوضع فلم يحاول أن يقحم نفسه ورسالته في هذا الميدان، ولم يسع لإقامة دولة مسيحية على أساس الديانة المسيحية، ونقلت الكتب المتداولة في أيدي المسيحيين الآن عنه قوله: «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر» «1» . ويعني هذا أن المسيحية قصرت جهودها على العمل في ميدان الروح والوجدان، وقد نجحت المسيحية في رسالتها الروحية، قبل أن ينحرف بها أتباعها- كما انحرف اليهود من قبل بديانتهم- ويحمّلوها ما ليس من طبيعتها، وما فوق طاقتها، وهذا موضوع طويل وليس مكانه في هذا البحث. وإنما كل ما نريد أن نوضحه أن النشأة التاريخية للإسلام تختلف عن النشأة التاريخية للمسيحية، وأن هذا كان له تأثير كبير على نشأة الدولة الإسلامية ذاتها. فالإسلام نشأ في إقليم الحجاز في شبه الجزيرة العربية، حيث ولد محمد صلّى الله عليه وسلم، وتلقّى رسالته، وهذه المنطقة التي ولد فيها النبي صلّى الله عليه وسلم، ونشأ فيها الإسلام، كانت مستقلة تماما عن أي نفوذ أجنبي، فلا سلطان عليها لا لملك ولا لإمبراطور، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فلم تكن بالمنطقة نظم أو قوانين كتلك التي كانت سائدة في فلسطين- المستعمرة الرومانية- عند نشأة المسيحية. وكانت تلك فرصة طيبة للإسلام لكي يقيم المجتمع والدولة والنظام الذي يريده، على أساس الشريعة التي أنزلها الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، دون تدخل من أية قوة خارجية أو إعاقة من أي نظام أو قانون داخلي، ولم يكن مضطرّا لقصر عمله على ميدان الروح والوجدان «2» ؛ بل عمل في ميدان الروح والوجدان، وعمل في واقع الحياة وفي كل ميدان من ميادينها الفسيحة. وكان من حيث طبيعته العالمية، ومن حيث نشأته التاريخية مهيئا لإقامة دولة إسلامية ذات

_ (1) إنجيل متى- الإصحاح الثاني والعشرين- الآية (ص 21) . (2) سيد قطب- العدالة الاجتماعية في الإسلام (ص 4) وما بعدها.

صبغة عالمية. ولقد قامت الدولة الإسلامية بعد هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب- المدينة المنورة بعد الهجرة- مباشرة، فمنذ اللحظة الأولى بدأ الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة في إرساء دعائم دولة الإسلام وصياغة المجتمع الإسلامي وقد خطا صلّى الله عليه وسلم في هذا المجال خطوات عملية وسريعة من أهمها: أولا: بناء المسجد النبوي في المدينة «1» ، وكان هذا هو أول عمل قام به النبي صلّى الله عليه وسلم بعد الهجرة. وقد عمل في بنائه بنفسه مع أصحابه، وحول المسجد أقيمت مساكن الرسول صلّى الله عليه وسلم. وكان بناء المسجد النبوي بسيطا بساطة تعبر عن بساطة الإسلام نفسه وعزوفه عن البذخ والترف. ولكن هذا المسجد البسيط العظيم قام بالدور الرئيسي في حياة الإسلام والدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. فلم يقتصر مسجد الرسول على إقامة الصلوات فيه، وإنما أصبح مركز النشاط الإسلامي كله، فهو مهبط الوحي، يتلقاه النبي فيه ويبلغه للناس، وفيه كان النبي صلّى الله عليه وسلم يعلم الصحابة- رضوان الله عليهم- أمور الدين والدنيا ويدربهم على فنون الحكم والقيادة والإدارة، ويعدّهم للدور العظيم الذي ينتظرهم لقيادة العالم، ونشر الدين، وحماية العقيدة، وبناء دولة الإسلام وتطويرها على أساس شريعة الله. وكان المسجد مركز حكومة النبي صلّى الله عليه وسلم، فيه يقضي ويحكم بين الناس في المنازعات، وفيه يعقد الألوية والرايات لقواد حملاته العسكرية، ويعقد عهود الولاية للعمال على المناطق التي تدخل في تبعية الدولة الإسلامية. وفيه كان يستقبل الوفود الأجنبية، ومنه يرسل مبعوثيه كذلك، وحاملي رسائله إلى الأمراء والملوك والأباطرة المعاصرين، وفيه كان صلّى الله عليه وسلم يناقش مشاكل المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية مع أصحابه بروح المعلم العظيم والقائد العظيم. وباختصار شديد ففي هذا المسجد البسيط اتخذت أعظم القرارات التي غيرت وجه التاريخ، وبدلت مصائر العالم، ومنه خرجت شعلة النور التي أضاءت جنبات الأرض، فلا غرو إذن إذا اعتبرنا بناء مسجد المدينة من أهم ركائز قيام الدولة الإسلامية. ثانيا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار. تلك المؤاخاة التي قامت على أساس العقيدة الإسلامية، والتي ربطت بينهم بهذا الرباط الوثيق، وجعلتهم أمة متميزة بخصائصها الإسلامية، وكانت في نفس الوقت دليلا عمليّا واضحا على طبيعة

_ (1) انظر: بناء مسجد الرسول في ابن هشام، السيرة النبوية، القسم الأول (ص 496) ، وابن كثير- البداية والنهاية (3/ 219) ، ود. محمد حسين هيكل- حياة محمد (ص 220) .

الإسلام العالمية. ذلك الدين الذي لا يقيم أي وزن لآية رابطة تقوم على العصبية القبلية أو القومية أو الجنسية، فالرابطة الوحيدة التي يعترف بها الإسلام هي رابطة العقيدة؛ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... [الحجرات: 10] . فهي الرابطة التي تحقق المساواة الكاملة بين البشر. ولقد ضرب النبي صلّى الله عليه وسلم أروع الأمثلة العملية على ذلك، فقد آخى بين عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ومولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه «1» ، وبهذه المؤاخاة أصبح المسلمون أمة واحدة، متميزة بخصائصها الدينية في مواجهة المجموعات الآخرى في المدينة، ومنهم اليهود. ثالثا: معاهدة المدينة. فبعد أن نظم الرسول صلّى الله عليه وسلم العلاقات بين المسلمين على النحو السابق، كان لا بد من تنظيم العلاقات بين المسلمين وبين بقية سكان المدينة، ولا بد من تحديد الحقوق والواجبات لكل طرف؛ حتى يعرف كل إنسان ما له وما عليه، وهنا يقدم لنا الرسول صلّى الله عليه وسلم أنموذجا آخر، على عالمية الإسلام وشمول مبادئه، وطبيعته التنظيمية، ذلك الأنموذج الذي تمثل في المعاهدة التي عقدها الرسول مع اليهود وغيرهم من سكان المدينة، تلك المعاهدة التي تعتبر أدق وأوفى المعاهدات في التاريخ، والتي أصبحت الأساس الدستوري لقيام الدولة الإسلامية في المدينة بقيادة النبي صلّى الله عليه وسلم، باعتراف جميع الأطراف التي اشتركت فيها ووقعت عليها. ولقد نظمت معاهدة المدينة كافة الحقوق والواجبات والالتزامات بين سكان المدينة جميعا، باعتبارهم مواطنين في الدولة الجديدة، مع اختلاف العقيدة، حيث اعتبرت المعاهدة اليهود طرفا فيها، واعتبرتهم مواطنين في المدينة، ومع ذلك ضمنت لهم حرية عقائدهم وشعائر دينهم، والمحافظة على ممتلكاتهم، وعلى كل حال لا نريد أن نطيل في شرح تفاصيل معاهدة المدينة في هذا البحث، وإنما يهمنا منها أمر واحد، وهو أنها كانت إعلانا بميلاد دولة الإسلام بقيادة النبي صلّى الله عليه وسلم، وباعتراف جميع أطرافها بما فيهم اليهود، وقد جاء هذا الاعتراف في نص صريح في المعاهدة. «وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ... » «2» . بهذا الشكل تم إعلان قيام

_ (1) انظر موضوع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في ابن هشام، القسم الأول (ص 504) وما بعدها. وابن سعد- الطبقات الكبرى (1/ 2/ 1) وما بعدها، د. هيكل- حياة محمد (ص 223) . (2) راجع نص معاهدة المدينة في ابن هشام، القسم الأول (ص 501) وما بعدها، ومحمد حميد الله- الوثائق السياسية للعهد النبوي (ص 41) وما بعدها، ود. هيكل- حياة محمد (ص 225) وما بعدها.

دولة الإسلام بالمدينة. وكانت بداية باهرة، ففي تلك المدينة الصغيرة قامت الحكومة الإسلامية، التي أرست دعائم الحق والعدل والمساواة بين البشر جميعا. وبعد أن وضع النبي صلّى الله عليه وسلم أسس الإسلام في المدينة المنورة، استمر يؤدي المهمتين الأساسيتين اللتين اضطلع بهما: الأولى: مهمة تلقي الوحي وتبليغه للناس. والثانية: تطبيق الشريعة وتنفيذ أحكامها، وقيادة الأمة الإسلامية ورعاية مصالحها ورسم مستقبلها وعلاقاتها الخارجية. ولما التحق النبي صلّى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، كان معنى هذا انتهاء المهمة الأولى. أما المهمة الثانية، وهي قيادة الأمة الإسلامية؛ فقد أصبحت شاغرة، وكان لا بد من شغلها، ولقد أدرك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم ضرورة أن يختاروا- وعلى وجه السرعة- من يخلف النبي في قيادة الأمة، في ذلك الظرف العصيب الذي أعقب وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم، وبدا اهتمامهم بهذه القضية من إعطائهم إياها الأولوية على كل شيء سواها، حتى على دفن جسد النبي الطاهر- عليه الصلاة والسلام- وكرهوا أن يبيتوا ليلة واحدة بدون إمام «1» . وكان هذا يمثل قمة الإحساس بالمسؤولية من جانب الصحابة- رضوان الله عليهم- والذي يتابع مناقشاتهم الجادة التي جرت في سقيفة بني ساعدة «2» يدرك مدى فهمهم العميق لطبيعة دينهم التنظيمية، وإخلاصهم النيّة في محاولة اختيار أفضلهم وأرجحهم عقلا لتولي هذا المنصب الخطير، منصب خلافة النبي في قيادة الأمة الإسلامية، ويعجب ببعد نظرهم، وحسمهم للأمور؛ إذ لم ينته اليوم الأول على وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم حتى كان الله قد وفقهم إلى اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه لتولي منصب الخلافة. فكان خير خلف لخير سلف، قاد الأمة بتجرد ومهارة فائقة في معالجة مشاكلها الداخلية والخارجية. ثم أسلم الراية لابن الخطاب العظيم، الذي تابع المسيرة الخالدة. وقفز بالدولة قفزة هائلة في جميع الميادين، ودلل على القدرة العقلية العربية على القيادة والتنظيم السياسي والإداري، وأخذت دولة الإسلام تتطور حتى أصبحت أعظم دولة

_ (1) راجع د. ضياء الدين الريس- الإسلام والخلافة في العصر الحديث (ص 205) وما بعدها ثم انظر آراء الفقهاء في وجوب تنصيب إمام للمسلمين، يطبق الشريعة ويرعى مصالح الأمة في الأحكام السلطانية للماوردي (ص 5) وما بعدها. (2) انظر تفاصيل ما جرى في سقيفة بني ساعدة في الطبري (3/ 199) وما بعدها، وابن حجر- فتح الباري (7/ 30) وما بعدها، وابن الأثير (2/ 220) .

* الإسلام دين عالمي:

في عالم العصور الوسطى؛ لأنها أسست على أرقى المبادئ الأخلاقية والمثل العليا، وناهيك بدولة تقوم على أساس عقيدة وشريعة إلهية. * الإسلام دين عالمي: الإسلام هو خاتمة رسالات الله سبحانه وتعالى إلى البشرية كلها، فليس بعد القرآن الكريم كتاب سماوي، وليس بعد محمد صلّى الله عليه وسلم رسول؛ يقول تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ... [الأحزاب: 40] . ولقد صور النبي صلّى الله عليه وسلم موقع رسالة الإسلام من رسالات السماء على الوجه الآتي: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلّا وضعت هذه اللبنة؟» قال: «فأنا اللبنة» «1» . والإسلام هو دين الله الحق؛ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] . وهو الدين الذي هتفت به ألسنة الأنبياء جميعا- عليهم الصلاة والسلام- من لدن نوح إلى عيسى ابن مريم؛ فنوح قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 72] ، وإبراهيم عليه السّلام يقول: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] ، ويعقوب يوصي بنيه قائلا: يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132] ، ويوسف يناجي ربه قائلا: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101] ، وموسى يقول لقومه: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84] ، والحواريون يجيبون المسيح قائلين: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] . وهكذا، فما من نبي إلا ولهج لسانه بكلمة الإسلام الخالدة؛ لأن مهمتهم واحدة وأساس دعوتهم واحد؛ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... [الشورى: 13] . وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا كانت رسالات الأنبياء السابقين محدودة الزمان والمكان والبيئة، وكانت رسالة خاتمهم محمد- عليه الصلاة والسلام- عامة لكل الجنس البشري في كل زمان ومكان؟ أما كون رسالات الأنبياء السابقين كانت محدودة الزمان والمكان والبيئة؛ فهذه حقيقة تاريخية. فنوح وهود وصالح وإبراهيم

_ (1) ابن حجر العسقلاني- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (6/ 158) .

وموسى عليهم السّلام كان كل منهم مرسلا إلى قومه فقط، بنص القرآن الكريم «1» . وأما كون رسالة محمد- عليه الصلاة والسلام- عامة لكل الجنس البشري؛ فهذه أيضا حقيقة بنص القرآن الكريم بقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ، قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] . أما الإجابة عن السؤال المتقدم ذكره؛ فإننا نقول: إن ذلك شيء طبيعي، اقتضته طبيعة التطور البشري، منذ أن خلق الله البشر حتى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم. ولتقريب الموضوع إلى الأذهان فإنه لا مانع من أن نشبه البشرية بطفل أخذ ينمو ويكبر، ويمر بالمراحل التي لا بد أن يمر بها، حتى ينضج ويكتمل نموه الجسدي والعقلي، وإذا جاز لنا ذلك، فلا مانع أيضا من أن نشبه الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بأطباء «2» مع احتفاظنا للأنبياء جميعا- عليهم الصلاة والسلام- بمقامهم السامي أخذ كل واحد منهم يصف للبشرية- التي شبهناها بالطفل في نموه- الغذاء الذي يناسب كل مرحلة من مراحل نموها، حتى جاء خاتم الأنبياء محمد- عليه الصلاة والسلام- وقد نضجت البشرية، واكتمل عقلها وأصبحت مستعدة لتقبل رسالة عالمية، تصلح مبادئها وتشريعاتها أساسا لحياة فاضلة لكل البشرية في الدنيا، وتضمن سعادتها في الآخرة، دون تفرقة بين جنس وجنس، أو بين أمة وأمة، بل مساواة مطلقة، في الحقوق والواجبات، ولا تفاضل بين إنسان وآخر إلا على أساس التقوى والعمل الصالح، يقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ... [الحجرات: 13] . وتؤكد أعمال الرسول وأقواله معنى المساواة التامة بين الناس جميعا، ولم يكتف الإسلام في هذه الناحية- كشأنه دائما في كل تشريعاته ومبادئه- بوضع القواعد النظرية فقط، وإنما طبق هذه المبادئ تطبيقا عمليّا في واقع الحياة بصورة مثالية، لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم، فلقد كان هناك رجال حول الرسول صلّى الله عليه وسلم، وكانوا موضع حبه وتكريمه، مع أنهم لم يكونوا عربا، بل كان بعضهم في الأصل رقيقا، فسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، كانت منزلتهم عند الرسول لا تقل عن منزلة كبار الصحابة من أشراف

_ (1) راجع الآيات الآتية: سورة نوح الآية (1) ، سورة الأنبياء الآية (52) ، سورة الأعراف الآيتان (65، 73) ، سورة الصف الآيتان (5، 6) . (2) د. محمد عبد الله دراز- الدين (ص 186) .

العرب، ناهيك عن حبه لمولاه زيد بن حارثة وابنه أسامة الذي كان معروفا بحبّ رسول الله وابن حبّه. لهذا لا يقلل من شأن الأنبياء السابقين- عليهم الصلاة والسلام- أن تكون رسالاتهم محدودة؛ لأن هذا وضع اقتضاه تطور البشرية، وكل منهم أدى دوره، وكان لبنة في صرح بناء عقيدة التوحيد، حتى جاء الوقت الملائم لوضع اللبنة الأخيرة، فكانت رسالة محمد- عليه الصلاة والسلام- وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال آخر- وهو سؤال قديم متجدد- هو: إذا كانت رسالة محمد صلّى الله عليه وسلم عالمية لكل الجنس البشري، فما هو السبيل لحمل الناس كافة على اعتناق هذه الرسالة والإيمان بها؟ والإجابة على السؤال نجدها في القرآن الكريم، حيث حدد لصاحب الرسالة- عليه الصلاة والسلام- الأسلوب الذي ينبغي عليه أن يتبعه في الدعوة إلى دينه، حيث يقول: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. [النحل: 125] . وينبه القرآن الكريم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى عدم اللجوء إلى القوة لإكراه أحد على اعتناق الإسلام، وذلك في نص صريح: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.. [البقر: 256] . ويلفت القرآن الكريم نظر النبي إلى أن حمل الناس كافة على اعتناق دين واحد قد يكون أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا، فيقول تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] ، ويقول: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يونس: 104] . وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أن هاهنا تناقضا؛ إذ بينما نقول: إن رسالة الإسلام عالمية، نعترف بأن حمل الناس كافة على اعتناق دين واحد هو أمر صعب، كما تشير الآيات السابقة، ولكن بشيء من الإمعان والبعد عن الجدل العقيم والتعصب، نجد ألا تناقض هناك على الإطلاق؛ لأن معنى عالمية الإسلام- كما نفهمها نحن المسلمين- أن رسالة الإسلام مفتوحة لكل البشر دون أية قيود، أو عوائق، وليست ديانة مغلقة، أو مقصورة على فئة بعينها كما يدعي اليهود أن ديانتهم خاصة بهم وحدهم، خصهم الله بها دون سائر البشر. أما نحن المسلمين فلا ندعي ذلك، بل نؤمن- ويشرفنا- أن رسالتنا عالمية، وديننا شامل ومفتوح أمام جميع الناس، من كل جنس ولون، فكل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهو مسلم له كل الحقوق وعليه كل الواجبات التي على المسلمين.

* السلام أساس العلاقات الدولية في الإسلام:

هذا هو ببساطة معنى عالمية الإسلام، كما نفهمها نحن المسلمين، وواجبنا أن ندعو الناس إلى اعتناق ديننا؛ لأنه دين الله الحق، وسبيلنا إلى ذلك هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، كما علمنا القرآن الكريم، ورسولنا العظيم، ولسنا نرى أن السبيل إلى ذلك هو القوة والسيف، كما يزعم أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم. وسوف نرجئ مناقشة مزاعم المستشرقين وغيرهم من أعداء الإسلام، وشبهاتهم التي أثاروها حول انتشار الإسلام بالقوة إلى نهاية البحث، بعد أن نوضح موقف الإسلام- دولة وشريعة- من قضايا السلام والحرب، والقانون الدولي وغير ذلك من الموضوعات التي سيتناولها البحث، فعندئذ قد تكون الصورة أوضح ويكون القارئ الكريم قد أخذ فكرة أشمل عن الموضوع. * السلام أساس العلاقات الدولية في الإسلام: السلام والإسلام مشتقان من مادة واحدة، والسلام اسم من أسماء الحق سبحانه وتعالى، والجنة اسمها دار السلام، وتحية الملائكة للمؤمنين في الجنة حين يلقونهم هي السلام، وتحية أهل الجنة في الجنة هي السلام، وتحية المسلم للمسلم حين يتلاقيان هي السلام، والسلام والإسلام يلتقيان في توفير الأمن والطمأنينة والسكينة للنفوس المؤمنة. والإسلام دين الرحمة والعدل والسلام، ورسول الإسلام هو رسول الرحمة والسلام، أرسله ربه رحمة للعالمين، وجعله بالمؤمنين رؤوفا رحيما. لذلك كان طبيعيّا أن ينادي الإسلام بالسلام، وكان طبيعيّا كذلك أن ينطلق في صياغة علاقاته الدولية مع الأمم الآخرى من مبدأ السلام. ونقصد بالعلاقات الدولية في دولة الإسلام في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم تلك العلاقات التي نشأت بين الأمة الإسلامية وبين أية مجموعة أخرى غير مسلمة، أنّى كان موقعها وموقفها. ولذلك تعتبر علاقات النبي صلّى الله عليه وسلم مع قريش- قبل فتح مكة- من هذا الباب؛ لأن قريشا كانت حينئذ مشركة ومعادية للإسلام، شنت عليه حربا شعواء استمرت ما يقرب من عشرين عاما. والأسس التي قامت عليها علاقات النبي صلّى الله عليه وسلم مع قريش- قبل فتح مكة- هي تقريبا نفس الأسس التي قامت عليها علاقات المسلمين الدولية مع الفرس والروم وغيرهم. وكانت علاقة المسلمين الدولية بغيرهم تقوم على تقديم السلام من جانب المسلمين واعتباره الأصل في العلاقات الدولية، واعتبار الحرب ضرورة لا يلجأ إليها إلا عند مقتضياتها، ويجب حصرها في نطاق هذه

المقتضيات وحدها. وسنبين مقتضيات الحرب في الإسلام في صفحات تالية في هذا البحث إن شاء الله. وآيات القرآن الكريم قاطعة الدلالة على أن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم من الأمم هو السلام، وكذلك أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلم وأعماله وسيرته. فمن الآيات الكريمة الدالة على ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208] ، فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء: 96] ، وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النساء: 94] ، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال: 61] ، لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] . هذه الآيات تعود بالحرب إذا نشبت إلى الأصل الطبيعي في العلاقات وهو السلم، ولو كان الأمر على العكس لما دعي المسلمون إلى التزام جانب السلام إن جنح إليه غيرهم، وأظهروا حسن نواياهم، ولو لم يكن منهم إيمان بالإسلام، وحينئذ فعلى المسلمين قبول السلم بكل ضروبه وأشكاله. وعلى هذا النحو كانت أقوال النبي صلّى الله عليه وسلم وأفعاله وسيرته في الحروب والمسالمات، فظل الرسول صلّى الله عليه وسلم يدعو إلى دين الله في مكة ثلاث عشرة سنة حتى يتقرر الأصل في السلام، واستأنف الدعوة السلمية في المدينة، ولولا تجدد بعض المشاكل والمنازعات، ولولا بغي المشركين لاستمرت السلم. وقد قال صلّى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم: «أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ... » «1» فالرسول ينهى عن الرغبة في الحرب وتمنيها حتى مع العدو، ويسأل الله أن يديم نعمة السلم «2» . وهكذا يتضح لنا- بما لا يدع مجالا للشك- أن القاعدة في العلاقات الدولية في دولة الإسلام هي السلم، وأن الحرب هي الاستثناء، وسنقدم- بإذن الله- في ثنايا هذا البحث الأدلة العملية على هذا الموقف الأصيل للإسلام في ميدان علاقاته الدولية.

_ (1) د. وهبه الزحيلي- آثار الحرب في الفقه الإسلامي (ص 134) - نقلا عن منتخب كنز العمال من مسند أحمد (2/ 323) . (2) د. وهبه الزحيلي- المرجع السابق (ص 134) .

* الحرب المشروعة في الإسلام:

* الحرب المشروعة في الإسلام: بيّنّا في الصفحات السابقة أن السلام هو الأصل والقاعدة في علاقات الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم، وأن الحرب هي الاستثناء، أو هي الضرورة التي لا يلجأ إليها إلا عند مقتضياتها المشروعة، كما يجب حصرها في نطاق هذه المقتضيات دون التوسع فيها، فالحرب في حد ذاتها ليست غاية؛ إنما هي وسيلة لتحقيق أسمى الغايات وهو السلام، ونريد الآن أن نبيّن مقتضيات الحرب المشروعة في الإسلام. فالإسلام بما أنه عقيدة عالمية، ورسالة إلهية تحمل الخير والسعادة لكل البشر على وجه الأرض؛ فقد كان من المتوقع أن يقاومه ويصد الناس عنه أشرار الأرض وطغاتها. فالتاريخ يدلنا على أنه لم تسلم دعوة دينية من مقاومة الأشرار والطغاة لها، ووقوفهم بكل قوة في طريقها. وقد واجه الإسلام هذا الموقف، فقد وقفت قريش بكل جبروتها وطغيانها موقف العداء السافر للإسلام ورسول الإسلام، وظل الرسول صلّى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يحاول جهده وبكل وسيلة أن يثني قريشا عن طريق الإسلام فلم تستجب، وأخيرا تامرت على حياته وأجبرته وأصحابه على أن يهاجروا من مكة إلى يثرب- المدينة المنورة- وكان هذا غاية الظلم والاضطهاد من جانب قريش، ولم تكتف بهذا بل استمرت في أساليبها الاستفزازية للمسلمين في مهاجرهم الجديد؛ لذلك لم يكن أمام المسلمين إلا أن يواجهوا القوة بالقوة؛ لأن الدعوة بالحسنى هنا لا تجدي وليس هذا مكانها، فما دام الطغاة قد صموا آذانهم عن سماع الحق فلا بد من معاملتهم بأسلوب آخر يضع حدّا لغطرستهم وجبروتهم والواقع أن الإسلام كان يتوقع هذا الموقف من قريش وغيرها، وكان يتوقع أنه قد يضطر لاستخدام القوة لإزالة العقبات من طريقه، إلا أنه مع كل هذا ظل دائما ينظر إلى الحرب على أنها ضرورة، ولم يبحها إلا عند مقتضياتها المشروعة. ومقتضيات الحرب أو مسوغاتها المشروعة في نظر الإسلام لا تخرج عن واحدة من ثلاث حالات «1» . الحالة الأولى: الدفاع عن النفس ، كما تصورها الآية الكريمة: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ

_ (1) انظر: سيد قطب- السلام العالمي والإسلام (ص 74) ، وسيد سابق- عناصر القوة في الإسلام (ص 210، 211) ود. دراز- دراسات إسلامية (ص 142) ، ود. محمد البهي- الدين والدولة (ص 478) ، والدكتور وهبه الزحيلي- آثار الحرب في الفقه الإسلامي (ص 93، 94) .

الحالة الثانية: الدفاع عن المظلومين

يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190] ، والدفاع عن النفس عمل مشروع، أقرته كافة الشرائع السماوية، كما كفلته القوانين الوضعية. الحالة الثانية: الدفاع عن المظلومين ، وهذا واجب على المسلمين، كما يفهم من هذه الآية الكريمة: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النساء: 75] ، وهذا عمل إنساني في الدرجة الأولى. فنصرة المظلومين هدف أساسي من أهداف الإسلام. الحالة الثالثة: الدفاع عن حرية نشر العقيدة ، وهذا هو واجب أصحاب العقيدة، كما تحثهم عليه الآية الكريمة: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال: 39] ، ونقول: الدفاع عن حرية نشر العقيدة، لا لنشر العقيدة؛ لأن العقيدة في حد ذاتها لا تحتاج إلى القوة لنشرها إذا خلت الطريق أمامها من العوائق، وإذا ابتعد الطغاة عنها وتركوها تشق طريقها إلى قلوب خلق الله في حرية وأمان. هذه هي الحالات التي يسوغ فيها الإسلام الحرب، ويعتبرها عملا مشروعا. والله سبحانه وتعالى لم يأذن للمسلمين بالقتال إلا بعد أن تعرضوا للظلم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: 39، 40] والتعبير في الآية الكريمة بالفعل المضارع يُقاتَلُونَ- مبنيّا للمجهول- ذو دلالة كبيرة مقصودة، فهو يدل على أن المسلمين تعرضوا فعلا للظلم وعندئذ كان لا بد من رفع الظلم عنهم ولا سبيل إلى ذلك أمام طغيان أعدائهم إلا حمل السلاح لرد العدوان. وحتى وهم في حالة الدفاع عن النفس فإن القرآن الكريم يذكرهم بألا ينسوا أن القاعدة الأساسية في علاقاتهم بالآخرين هي السلام، وإذا اضطروا للحرب فيجب حصرها في نطاق دواعيها فقط، أي: لرد العدوان دون زيادة من جانبهم، أو محاولة لتوسيع نطاقها. وفي كل الحالات يجب عليهم مراعاة تقوى الله سبحانه وتعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة: 194] . وفوق هذا فإن الله سبحانه وتعالى- الذي يعلم دخائل النفوس البشرية- ينبه المسلمين إلى ناحية هامة؛ وهي ناحية شعورية نفسية، فقد يضايقهم تصرف شاذ وظالم من

* آداب الحرب في الإسلام:

أعدائهم، وقد يحملهم هذا الشعور على التفكير في العدوان على هؤلاء الأعداء، وعندئذ يطالبهم الله تعالى بضبط النفس وكفها عن العدوان: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة: 2] . هل هناك ما هو أروع من هذا السلوك في تنفير المسلمين من الحرب، ودعوتهم إلى كظم غيظهم وحصر الحرب في أضيق نطاق. وحتى في حالة الحرب فإن القائد المسلم مدعو من الله سبحانه وتعالى إلى تفاديها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإذا لاحت أمامه فرصة ولو ضئيلة لتحاشي الحرب، وتحقيق السلام- ولو بشيء من التضحية- فيجب عليه ألا يدع هذه الفرصة تفلت من يده. وهذا هو موقف الرسول صلّى الله عليه وسلم عام الحديبية- كما سنبين فيما بعد- يعتبر أوضح برهان على نظرة الإسلام إلى الحرب. فإذا أبدى العدو أيّ ميل إلى السلام؛ فعلى القائد المسلم أن يستجيب: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال: 62] . ومجيء هذه الآية الكريمة مباشرة بعد الآية التي تدعو المسلمين إلى الاستعداد العسكري القوي المؤثر الذي يرهب الأعداء، وهي قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60] ؛ يدل على أن الاستعداد العسكري لا يعني بالضرورة الحرب، بل قد تؤتي القوة ثمرتها دون أن تستخدم، أو قد يرهبها العدو ويلقي سلاحه ويجنح إلى السلام، ويكفي الله المؤمنين شر القتال. هذا هو موقف الإسلام من الحرب، فهي ضرورة ويجب أن تقف عند مقتضياتها المشروعة، ويجب أن تبتعد عن أساليب التدمير، وهذا يدعونا إلى معرفة آداب الحرب في الإسلام. * آداب الحرب في الإسلام: ما نقصده باداب الحرب في الإسلام هو: مجموعة القواعد والمبادئ والتقاليد العسكرية التي أرساها الإسلام وطبقها النبي صلّى الله عليه وسلم، وكانت نصائحه ووصاياه دائما لقواد حملاته الحربية تدور في نطاقها، وهي تقاليد ومبادئ إنسانية في أهدافها، الغرض منها تخفيف ويلات الحرب على المقاتلين أنفسهم، فيحتم الإسلام على المسلمين الاعتناء بجرحى أعدائهم ومداواتهم وإطعامهم، ويحرم بطبيعة الحال الإجهاز عليهم أو إيذائهم بأي شكل من الأشكال. كما يطلب الإسلام من المسلمين تجنيب المدنيين شرور الحرب وأخطارها. فالإسلام مع اعترافه بالحرب

الدفاعية، واعتبارها حربا مشروعة. إلا أنه ميز تمييزا واضحا بين المقاتلين وغير المقاتلين. فواجب الجيش المسلم الاتجاه بقوته لتحطيم مقاومة المقاتلين فعلا في ميدان القتال. أما من لم يباشر القتال بنفسه من الأعداء فليس لنا أن نقتله أو نتعرض له. وتعاليم النبي صلّى الله عليه وسلم واضحة في هذا الشأن؛ «فالأطفال والشيوخ والنساء والمرضى والمعتوهون، بل حتى الفلاحون في حرثهم، والرهبان في معابدهم، كل أولئك معصومون بحصانة القانون من أخطار الحرب» «1» . وبلغ السموّ الإسلامي إلى درجة أن الإسلام لا يحرص على تجنيب المدنيين من الأعداء ويلات الحرب فحسب؛ بل حرص على تجنيبهم مجرد الألم النفسي. فلقد مر بلال مؤذن الرسول صلّى الله عليه وسلم بامرأتين من نساء اليهود يوم خيبر على عدد من قتلى قومهما، فتألمتا لذلك، فلما علم النبي صلّى الله عليه وسلم بما صنع بلال وبّخه على ذلك وقال له: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما» «2» . والإسلام لا يحرص على سلامة أرواح غير المقاتلين من الأعداء فحسب، بل يوصي المقاتلين المسلمين بعدم التعرض للأهداف المدنية، وينهاهم عن التدمير والهدم والتحريق؛ لأن الإسلام جاء ليا بني الحياة ويعمرها، ولم يجيء ليهدم ويدمر. وحتى وهو في ميدان القتال لا ينسى أبدا تلك الأهداف النبيلة، وها هي ذي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليزيد بن أبي سفيان، وهو متوجه إلى ميدان القتال: « ... إنك ستلقى أقواما زعموا أنهم قد فرغوا أنفسهم لله في الصوامع فذرهم وما فرغوا أنفسهم له ... ولا تقتلن مولودا، ولا امرأة، ولا شيخا كبيرا، ولا تعقرن شجرا بدا ثمره ولا تحرقن نخلا، ولا تقطعن كرما، ولا تذبحن بقرة ولا ما سوى ذلك من المواشي إلا لأكل» «3» . ومن تعليمات النبي صلّى الله عليه وسلم المتكررة، والتي أخذت صفة التواتر لقواده العسكريين، الالتزام بالنظام وحسن السلوك، وعدم اللجوء إلى أساليب السلب والنهب- التي كانت عادة الجيوش الغازية في تلك الأزمان بل في كل زمان- وعدم التمثيل بجثث القتلى، ولقد كان النبي نفسه- عليه الصلاة والسلام- مضرب المثل في الالتزام بهذه المبادئ والآداب العسكرية، وفي المسلك الإنساني في ميادين القتال. روى

_ (1) انظر: د. دراز- دراسات إسلامية (ص 143) ، وانظر: صحيح الإمام مسلم (12/ 48، 49) فهناك تجد عدة أحاديث نبوية تنهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ.. إلخ. (2) ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 336) . (3) محمد بن الحسن الشيباني- كتاب السير الكبير (1/ 431) .

أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: إن ناسا من اليهود يوم خيبر جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بعد تمام العهود. فقالوا: إن حظائر لنا وقع فيها أصحابك فأخذوا منها بقلا أو ثوما، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فنادى في الناس: إن رسول الله يقول: «لا أحلّ لكم شيئا من أموال المعاهدين إلا بحق» «1» . ولم تقف مثالية الإسلام ورسوله عند هذا الحد في آداب الحرب، بل وصلت إلى أن المسلمين كانوا إذا غنموا غنائم من الأعداء وكان فيها شيء له أهمية خاصة لهم، وطلبوه ردّه المسلمون عليهم. وقد صنع ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، فقد كان من بين ما غنم المسلمون حين غزوا خيبر عدة صحائف من التوراة، وقد طلب اليهود من النبي أن يسلمهم إياها، فأمر صلّى الله عليه وسلم بتسليمها لهم. «ولم يصنع صنيع الرومان حين فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، ولا هو صنع صنيع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوارة» «2» . ليس هذا فحسب، بل إن الإسلام حرص على حماية أرواح الأسرى من الأعداء ولم يبح حتى استرقاقهم- خلافا لما يظن بعض الناس «3» - وإنما أباح التشريع الإسلامي للقائد المسلم أن يتصرف في أسرى الأعداء بأحد طريقين، إما أن يمن عليهم بالحرية دون مقابل، وإما أن يقبل منهم الفدية ممثلة في مال يدفعونه أو عمل يؤدونه للمسلمين. وذلك كما صنع الرسول صلّى الله عليه وسلم مع أسرى المشركين في بدر، فمن كان له مال أخذ منه الفداء مالا، ومن لم يكن له ماله كلفه بأداء عمل مثل تعليم عدد من أولاد المسلمين القراءة والكتابة. صحيح أن الله تعالى عاتب نبيّه على فداء أسرى بدر كما جاء في سورة الأنفال في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] ؛ لأن الموقف كان يومئذ يقتضي قتل أسرى المشركين لكسر شوكتهم، وإزاحتهم من أمام الدعوة الإسلامية. أما بعد أن

_ (1) المصدر السابق (1/ 133) . (2) د. هيكل- حياة محمد (ص 350) . (3) لا ننكر أن المسلمين كانوا يسترقون بعض الأسرى في بعض الأحيان، وذلك كان من قبيل معاملة الأعداء بالمثل؛ لأنهم كانوا يسترقون أسرى المسلمين، ولا ننكر أنهم كانوا في بعض الأحيان يقتلون بعض الأسرى، ولكن ليس لأنهم أسرى؛ وإنما من أجل جرائم خاصة خطيرة ارتكبوها في حق المسلمين. وذلك كأمر الرسول بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث من أسرى بدر. وتاريخهما في إيذاء الرسول والمسلمين معروف.

* مبادئ القانون الدولي في الإسلام:

قوي الإسلام وأصبحت كلمة الله هي العليا، فلم يعد هناك مبرر لقتل الأسرى في الأحوال العادية. وذلك كما يفهم من آية سورة محمد وهي قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] فبيّنت أن الإمام مخير في الأسرى بين المن عليهم بالحرية دون مقابل، وبين الفداء بعمل أو مال، أو مبادلة أسير مسلم من الأعداء، ولم تشر الآية إلى إباحة قتل الأسرى أو استرقاقهم. وبلغت رحمة المسلمين بأسرى الأعداء أنهم كانوا إذا وقعت في أيديهم أسرة بكاملها لا يفرقون بين أفرادها. بل يجمعونهم ليعيشوا معا. أين هذا السلوك الإنساني في معاملة أسرى الحرب، من المصير المؤلم الذي يلاقيه أسرى الحروب في العصر الحديث الذي يدعى أهله أنهم متحضرون؟! وأين آداب الحرب في الإسلام من هذه الأعمال الهمجية التي صاحبت الحروب الاستعمارية الأوربية؟ تلك الأعمال التي كانت تأتي على الأخضر واليابس، ولا تفرق بين هدف عسكري وآخر مدني، ولم ينج من ويلاتها شيخ كبير ولا طفل صغير ولا امرأة، ولا زالت بشائع الحرب العالمية الثانية ماثلة أمام أعيننا باثارها التدميرية، خصوصا في هيروشيما ونجازاكي. ولكن تلك حروب استعمارية دفع إليها الحقد والتنافس والصراع بين الدول الأوربية على تقسيم المستعمرات ومناطق النفوذ، والاستيلاء على المواد الخام والأسواق، وامتصاص دماء الشعوب. أما الحرب المشروعة من وجهة نظر الإسلام فهي بريئة من كل تلك الشرور؛ لأنها حرب لها هدف إنساني، فلا يمكن أن تعمل على إبادة الإنسانية؛ لأن الإسلام ضد الحرب التي تشن بهدف التوسع والاستغلال والحصول على مناطق النفوذ ... إلخ. ونختم هذا الموضوع بالآية الكريمة التالية: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] . ومعناها واضح، وهو أن الذين يعملون من أجل الاستعلاء في الأرض ليس لهم نصيب في الآخرة. * مبادئ القانون الدولي في الإسلام: مبادئ القانون الدولي العام، هي تلك القواعد والمبادئ والتقاليد التي تنظم علاقات الدول في حالتي السلم والحرب. وتأتي تلك المبادئ إما نتيجة لمعاهدات واتفاقيات دولية، أو نتيجة عرف دولي تعارفت عليه دول العالم، أو بناء على أقوال

واجتهادات ونظريات فقهاء القانون الدولي في العالم. وعلماء التشريع وفقهاء القانون في الغرب يعتقدون أن مبادئ القانون الدولي العام بهذه المثابة من الأفكار الحديثة، التي ابتدعتها أوربا في العصور الأخيرة. ونحن نوافق هؤلاء العلماء على اعتقادهم هذا. «ويلوح لنا أنه غير قابل للمناقشة والجدل ما دمنا نبعد بموضوعه عن محيط التاريخ الإسلامي فالنظام الدولي في الحقيقة لم يكن معروفا خارج هذا المحيط» «1» ؛ لأن الإسلام كان سبّاقا في وضع تشريع قانون دولي عام، تقوم على أساسه علاقات الأمم والشعوب، ولم يكن الإسلام معنيّا بوضع مبادئ لقانون دولي عام من الناحية النظرية فحسب، وإنما طبق هذه المبادئ تطبيقا عمليّا، وراعاها مراعاة كاملة في علاقاته الدولية مع الأمم الآخرى. أما القانون الدولي العام الذي يفاخر به فقهاء الغرب، فإنه كان في معظم الأحيان حبرا على ورق، ولم يحقق المساواة بين الشعوب في الحقوق والواجبات؛ لأن منطلقه لم يكن أخلاقيّا من ناحية، ومن ناحية ثانية فهو تشريع وضعي ناقص لا يفي بحاجات الإنسان، ومن ناحية ثالثة فكثيرون من واضعيه من فقهاء الغرب كانت تغلب عليهم النظرة العنصرية. «ألم يقل استيورات ميل: باستحالة تطبيق القانون على الشعوب الهمجية؟ أو لم يحدّد لوريمير على وجه الأرض مناطق ثلاثا تخضع كل منها لقانون مختلف؟ فالعالم المتمدن يجب أن يتمتع في نظره بحقوق سياسية كاملة، والعالم نصف المتمدن يكفي أن يتمتع بحقوق سياسية جزئية، بينما الشعوب غير المتحضرة ليس لها إلا حقوق عرفية لا تحمل إلزاما قانونيّا، وجاء ميثاق عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى فأقر هذا التقسيم وأكسبه سلطة القانون» «2» وجلس الحلفاء المنتصرون في هذه الحرب حول موائد المفاوضات في مؤتمرات الصلح، ليقرروا مصير العالم بعد الحرب- حسب زعمهم- ولكنهم في الواقع جلسوا ليقسموا العالم فيما بينهم إلى مناطق نفوذ، ولما كان أسلوب الاستعمار العسكري القديم لم يعد مقبولا بعد الحرب، راح الحلفاء يبتدعون فكرة جديدة لبسط نفوذهم على الشعوب الضعيفة؛ وهي فكرة الانتداب والحماية، وكان هذا خداعا دوليّا ليس له نظير، فلقد ناقض الحلفاء أنفسهم، وضربوا بشعاراتهم التي رفعوها أثناء الحرب- عن إعطاء الشعوب

_ (1) د. دراز- دراسات إسلامية (ص 140) . (2) د. دراز- المرجع السابق (ص 141) .

حق تقرير مصيرها، كما جاء في مبادئ ويلسون الأربعة عشر الشهيرة- عرض الحائط، وكانت بدعة الانتداب والحماية أسوأ من الاستعمار القديم، فالشعوب التي وضعت تحت الانتداب والحماية لم تشعر أنها تخلصت من الاستعمار، بل إن بعض الشعوب ضاع استقلالها وكل حقوقها. والمثل الصارخ على ذلك هو شعب فلسطين العربي، فقد وضعت فلسطين العربية تحت الانتداب البريطاني، وكانت مهمة بريطانيا التي حددها صك الانتداب- الذي أقرته عصبة الأمم- أن تدرب شعب فلسطين العربي على شؤون الحكم والسياسة والإدارة، ثم ترد إليه بلده ليحكمها بنفسه، فماذا حدث؟ مارست بريطانيا أثناء انتدابها على فلسطين أبشع أنواع الاستعمار، ولما آن لها لترحل سلمت فلسطين لعصابات الصهاينة الذين جمعتهم من شتات الأرض. هذا هو فهم أوربا لمبادئ القانون الدولي العام. ثم دارت الأيام وأشعلت أوربا نار الحرب العالمية الثانية، وبعدها تشكلت الجمعية العامة للأمم المتحدة. فماذا صنعت وماذا أضافت من حلول لمشاكل العالم؟ «أليس روح التفريق وعدم المساواة لا يزال مسيطرا على عقول السادة الذين يتحكمون في مصير الإنسانية» «1» . إذا كانت هذه هي نظرة علماء أوربا وسياستها إلى القانون الدولي العام وحقوق الشعوب، فماذا ننتظر من شعوب أوربا نفسها؟ التي لا زالت روح الاستعلاء والغرور تسيطر على عقول أبنائها وتجعلهم ينظرون إلى الشعوب الآخرى خارج القارة الأوربية على أنها أقل منهم في كل شيء. ولذلك لا نبالغ إذا قلنا: إن كل من يريد أن يظفر بتشريع دولي ذي صبغة عالمية حقيقية وإنسانية، يصون حقوق جميع الشعوب على قدم المساواة، فلن يجد هذا التشريع خارج دائرة التشريع الإسلامي في مجال العلاقات الدولية. فالإسلام لا يعرف التفرقة بين الشعوب، فليس هناك- من وجهة نظر الإسلام- شعوب متحضرة وأخرى غير متحضرة أو ناقصة التحضر، بل جميع الناس سواسية كأسنان المشط كلهم لآدم وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] . هذه هي نظرة الإسلام للأمم والشعوب، ولم يحدثنا التاريخ أن الإسلام كان يعتبر أن شعبا من الشعوب التي دخلت في حكمة محمية من المحميات، أو مستعمرة من المستعمرات، أو أن القانون الإسلامي كان يفرق بين إنسان وإنسان،

_ (1) المرجع السابق (ص 141) .

بل إن التاريخ يحدثنا أن الشعوب التي انضوت تحت الحكم الإسلامي نعمت بنوع من الحرية والعدل والتسامح لم تعرفه طوال تاريخها، وهذه شهادة مؤرخ أوربي لا يمكن أن يتهم بأنه متحيز للإسلام، يقول توماس آرنولد: «أما ولايات الدولة البيزنطية التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم فقد وجدت أنها تنعم بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة ... فقد سمح لهم أن يؤدوا شعائر دينهم دون أن يتعرض لهم أحد» «1» . نظرة الإسلام إذن إلى العلاقات الدولية نظرة إنسانية عالمية، لحمتها المساواة وسداها السلام والعدل. ذكرنا آنفا أن من الأسس التي تقوم عليها مبادئ القانون الدولي العام؛ المعاهدات والاتفاقيات التي تحدد العلاقات بين الدول في حالتي السلم والحرب. وأهم من المعاهدات والمواثيق نفسها الوفاء بها ورعايتها، والالتزام بحدودها؛ لأن معظم الكوارث التي حلّت بالعالم لم تأت في الواقع من ناحية غياب العهود والمواثيق التي تنظم علاقات الدول، ولكن أتت من ناحية نكث ساسة الدول وزعمائها بالمعاهدات ونقضها والتنكر لها إذا تعارضت مع مصالحهم الذاتية «2» . وهنا يبرز لنا الإسلام سامقا وشامخا في رعايته لعهوده ومواثيقه، وحرصه على الوفاء بها حرصا لم يسبق له مثيل في أي تشريع آخر، مهما كان في الوفاء بالعهد من أضرار مادية أو معنوية تعود على المسلمين؛ ذلك لأن الوفاء بالعهد والميثاق، في مجال العلاقات الدولية من وجهة نظر الإسلام ليس مبدأ أخلاقيّا فحسب، بل هو واجب ديني، أي: عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، ويثاب المسلم على فعله، ويعاقب على تركه؛ فالعهد الذي يرتبط به المسلم مع غيره لا يرتبط به مع الناس فحسب، بل هو مسؤول عنه أمام الله، والله كفيل المسلم، وشهيد على عهوده ومواثيقه والتزاماته تجاه الآخرين. ولقد شدد القرآن الكريم تشديدا بالغا على مبدأ الوفاء بالعهد، وآيات القرآن الكريم التي تشير إلى ذلك أكثر من أن تحصى هنا وعند ما يقول الله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34] فهو ينبه المسلمين إلى ضرورة الوفاء بالعهد على إطلاقه أيّا كان ومع أيّ كان، وفي جميع الأحوال والظروف. فإذا ارتبط المسلم بعهد وألزم نفسه

_ (1) توماس آرنولد، الدعوة إلى السلام (ص 74) . (2) قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 م كانت هناك معاهدة عدم اعتداء بين روسيا الشيوعية وآلمانيا النازية، فماذا كان مصير هذه المعاهدة؟

به فليس له أن ينقضه بأي حال؛ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [النحل: 91] . وقد عظم الله تعالى الوفاء بالعهد، وجعل المؤمنين به هم وحدهم أصحاب العقول؛ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ [الرعد: 19، 20] . أما الذين ينقضون عهودهم ولا يحترمونها، فهم- في نظر الإسلام- منبوذون من ساحة الإنسانية: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ [الأنفال: 55- 56] . وليست هناك حالة تبيح للمسلم نقض العهد من طرف واحد، حتى ولو كان في الاستمرار في الوفاء به ضرر محقق يلحق المسلمين. وهل هناك ضرر أعظم من أن تتعرض فئة مسلمة لعدوان دولة أجنبية فتطلب من الدولة الإسلامية أن تعينها وتنصرها، ولكن الدولة الإسلامية لا تستطيع أن تفعل ذلك، إذا كانت قد ارتبطت مع هذه الدولة الأجنبية بعهد سابق، فنقض العهد في هذه الحالة محظور بتاتا على المسلمين، بنص القرآن الكريم: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [الأنفال: 72] . وهاك مثلا عمليّا، قد يوضح ما سبق: كان من شروط صلح الحديبية الذي تم بين النبي صلّى الله عليه وسلم وقريش أن من جاء إلى النبي من مسلمي قريش عليه أن يرده عليهم. وأثناء توقيع الصلح جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، يطلب حمايته من ظلم قريش، ولكن أباه- الذي كان ممثل قريش في أمر الصلح- احتج على ذلك، وقال: إن العهد تم ويجب الوفاء به، فماذا كان موقف النبي صلّى الله عليه وسلم، وماذا قال لأبي جندل، وهو يصيح بأعلي صوته: يا معشر المسلمين أؤرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟! قال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم» «1» . يا لله! فهل عرف تاريخ البشرية وفاء بالعهد مثل هذا الوفاء. مسلمون مستضعفون «2» ، يتعرضون لظلم الأعداء

_ (1) ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 318) . (2) لم يكن أبو جندل وحده، بل كان معه فئة كبيرة من مسلمي مكة الذين اعتذر لهم النبي بمثل ما-

* الإسلام يحترم مبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم:

ويستغيثون برسول الإسلام نفسه، ولكنه صلّى الله عليه وسلم يعتذر لهم، لالتزامه مع الأعداء بعهد ولا يصح في دينه نقض العهد. ولم يكن حرص النبي صلّى الله عليه وسلم على وفاء المسلمين بعهودهم بأقل من حرصه على الوفاء بعهوده الشخصية وإليك الحادثة الآتية: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: وما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلّا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفنّ إلى المدينة ولا نقاتلنّ معه، فأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر. فقال: «انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم» «1» . «ثم يمضي الإسلام في طريقه العلوي، مع الشرف والكرامة والأخلاق، فلا يبيح الغدر حتى وهو يخشى خيانة الآخرين، فلا بد أن يعلنهم بالعداوة، ويجاهرهم بالحرب، وينبذ إليهم عهدهم في وضح النهار، ولا يبيتهم بالغدر وهم منه على أمان؛ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ [الأنفال: 58] «2» . أما إذا التزم الأعداء بالعهد مع المسلمين فيجب على المسلمين الالتزام بالعهد وإتمامه إلى مداه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 4] . وهكذا وهكذا، صور وأمثلة كثيرة لوفاء الإسلام والمسلمين بالعهد، وفي مقدمتهم معلم الإنسانية ورسول الرحمة والسلام عليه الصلاة والسلام. * الإسلام يحترم مبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم: هناك ناحية أخرى مهمة، في مجال العلاقات الدولية، أولاها الإسلام عنايته، وكان للمسلمين فيها تقليد إنساني؛ تلك هي ناحية احترام المبعوثين السياسيين وحاملي رسائل الأعداء. إذ من المسلم به أن تبادل الرسل والرسائل أمر لا بد منه في أية علاقات دولية. وغني عن القول أن وجود بعثات سياسية دائمة تقيم بصفة مستمرة لكل دولة لدى الدول الآخرى أمر لم يكن معروفا في العلاقات الدولية في الزمان الذي نتحدث عنه. فذلك أمر لم تعرفه العلاقات الدولية إلا في القرون

_ اعتذر لأبي جندل، عند ما طلبوا حمايته مثل أبي بصير. (1) صحيح الإمام مسلم (12/ 144) . (2) انظر سيد قطب- السلام العالمي والإسلام (ص 194) .

الأخيرة، وعلى أكثر تقدير منذ القرن السابع عشر الميلادي. أما تبادل الرسل وحاملي الرسائل فكان يتم في الزمن الذي نتحدث عنه، بل بعده بكثير، في المناسبات، وعند ما تكون هناك ضرورة. وقد مارس النبي صلّى الله عليه وسلم، هذا اللون من العلاقات الدولية بنوعية؛ أي: إنه صلّى الله عليه وسلم أرسل من عنده رسلا كثيرين، وفي مناسبات عديدة، إلى عدد من ملوك وأمراء العالم، كما استقبل في مسجده في المدينة، العديد من الرسل والمبعوثين وحاملي الرسائل. فكيف كان يعاملهم؟ وقائع التاريخ تدلنا على أن النبي صلّى الله عليه وسلم، كان يعامل رسل الأعداء والأصدقاء على حد سواء معاملة واحدة، وهي الاحترام والتكريم، والذي يهمنا هنا هو معاملة النبي لرسل الأعداء بصفة خاصة؛ لأن هذا أوقع في تصوير موقف الإسلام من هذه الناحية المهمة من نواحي العلاقات الدولية. كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يستقبل رسل الأعداء برحابة صدر، ويستمع إليهم في اهتمام، ثم يمنحهم الأمن على أرواحهم، ويعطيهم الحصانة التي تخولهم حق العودة إلى أوطانهم سالمين ومتى شاؤوا، مهما كانت خطورة الرسائل التي يحملونها. وإليك بعض الأمثلة العملية على ذلك ومنها؛ معاملة الرسول صلّى الله عليه وسلم لرسولي كسرى أبرويز الثاني ملك الفرس. فقد أرسل- بعد صلح الحديبية- عددا من الرسائل إلى ملوك ورؤساء وأمراء العالم المعاصرين، يدعوهم إلى الإسلام- كما سيرد ذكره قريبا- وكان من بين هذه الرسائل رسالة إلى كسرى، ومع أن الرسالة كانت عبارة عن دعوة سلمية للدخول في الإسلام، وفي أسلوب مهذب رفيع، خالية من العنف أو التهديد بالحرب، إلا أن كسرى عند ما قرئت عليه الرسالة استشاط غضبا، وأخذته العزة بالإثم، ومزّق الرسالة، ولم يكتف بهذا، بل أرسل إلى باذان- عامله على اليمن التي كانت تحت سلطان الفرس آنذاك- يأمره أن يرسل إلى هذا العربي- يقصد النبي صلّى الله عليه وسلم- من يقبض عليه، ويحضره مقيدا في السلاسل، ليمثل أمام كسرى، ليعاقبه على جرأته في مخاطبته بهذا الشكل، إذ كيف يجرؤ ويتطاول إلى هذا المقام، ويخاطب ملك الملوك. وأذعن باذان لأوامر سيده وأرسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم رسولين من عنده ليبلغه بقرار كسرى الغريب الذي يدل على الغرور والغطرسة وعماء البصيرة. وحضر الرسولان وأفضيا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بمضمون مهمتهما. فماذا حدث؟ وماذا كان موقف النبي من مبعوثين جاآه

مأمورين بالقبض عليه، وأخذه بالقوة ليحاكم أمام سيدهم؟ هل اعتقلهما أو أمر بقتلهما؟ أبدا، لم يحدث شيء من هذا، وإنما رد عليهما ردّا جميلا، وفي هدوء أخبرهما أن ملكهم هذا المتجبر قد هلك، وعلى يد ابنه بالذات حيث ثار عليه وقتله، وكلفهما بأن يحملا منه رسالة إلى باذان يدعوه فيها إلى الإسلام، فإن هو قبل وأسلم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم سيقره على عمله كحاكم لليمن باسم الإسلام، وقد شرح الله صدر باذان للإسلام فأسلم وأصبح يحكم اليمن باسم النبي صلّى الله عليه وسلم. أرأيت كيف عامل النبي مبعوثي عدوه وعدو الله كسرى. فأعطاهما الأمان ولم يمسهما بسوء. وإليك مثلا آخر، يعتبر من أروع الأمثلة على ذلك. وهو صنيع النبي صلّى الله عليه وسلم مع مبعوثي مسيلمة الكذاب، اللذين جاآه يحملان إليه مزاعم مسيلمة بأنه أشرك معه في الرسالة. فمع خطورة القضية التي جاآه من أجلها، ومع شذوذ مطلبهما إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يمسهما بسوء؛ لأنهما رسولان. وكان رسولا مسيلمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، هما ابن النواجة، وابن آثال، وكان معهما رسالة من مسيلمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، نصها كالآتي: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك. أما بعد؛ فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون» «1» فلما سمع الرسول صلّى الله عليه وسلم نص الرسالة قال: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» «2» . ثم كتب إلى مسيلمة رسالة هذا نصها: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد؛ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» «3» هذه هي معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لمبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم؛ احترام وصيانة وأمن لأرواحهم، مهما كان من خطورة الموقف الذي يتباحثون من أجله، ومهما بدا منهم من الوقاحة والبذاءة. بل أكثر من ذلك؛ فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان في كثير من الأحيان يتبسط مع الرسل والمبعوثين، ويهداهم بعض الهدايا، ويخلع عليهم بعض الخلع، وهذا من فرط سماحته وكرمه صلّى الله عليه وسلم.

_ (1) ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 600) . (2) ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 600) . (3) ابن هشام- المصدر السابق (ص 601) .

* معاهدة الحديبية في ميزان العلاقات الدولية:

* معاهدة الحديبية في ميزان العلاقات الدولية: تقف معاهدة الحديبية التي وقّعت بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين قريش، دليلا شامخا على ميل المسلمين إلى السلام، وعلى أن السلام هو الأصل في علاقات المسلمين بالآخرين. فما هي قصة هذه المعاهدة؟ منذ بدء الدعوة الإسلامية وقريش تعادي النبي صلّى الله عليه وسلم عداء سافرا ووحشيّا، استمر ما يقرب من عشرين عاما، وبعد ست سنوات من الهجرة قضاها النبي وأصحابه في جهاد مستمر، ضد المشركين من العرب تارة، وضد اليهود ومؤامراتهم وخياناتهم تارة أخرى، وفي أثناء ذلك كان الإسلام يزداد منعة وانتشارا وقوة، مما جعل النبي صلّى الله عليه وسلم يفكر أنه ربما تكون قريش قد اقتنعت بخطئها وعجزها عن مقاومة الإسلام، فقرر أن يعطيها فرصة إما لتدخل فيما دخل الناس فيه وتعتنق الإسلام، وإما أن تكف عن حربه ومقاومته وعن صد الناس عنه فأعلن صلّى الله عليه وسلم في ذي القعدة من العام السادس الهجري عن عزمه على زيارة مكة هو وأصحابه، زيارة سليمة لتأدية شعائر العمرة، وهي تجربة لقريش، فإن هي خلت بينه وبين زيارة البيت الحرام، فقد يكون ذلك مؤشرا طيبا لتراجعها، ولبداية علاقات سلمية معها، وعندئذ يمكن أن يتفرغ النبي صلّى الله عليه وسلم لتبليغ دعوته خارج شبه الجزيرة العربية. ودعا القبائل العربية المجاورة للمدينة، والتي لا تزال على شركها لتشاركه وأصحابه زيارة البيت الحرام، ليدلل أكثر وأكثر على رغبته في السلام. ومن ناحية أخرى حرص النبي على أن يأخذ معه أكبر عدد من المسلمين؛ لأن احتمال أن تضطره قريش إلى الدخول معها في معركة كان احتمالا واردا، فهو يعرف غدرها وغرورها، فخرج من المدينة ومعه نحو ألف وأربعمائة من أصحابه مقدمين الهدي أمامهم، كدليل على أنهم جاؤوا معتمرين حاجين، ولم يجيؤوا مقاتلين «1» . وما أن علمت قريش بعزم النبي صلّى الله عليه وسلم، حتى أعلنت عن موقفها العدائي، وهو منع النبي من دخول مكة، مهما كلفها ذلك، واستنفرت جيشا كبيرا جعلت على قيادته خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل. وكان هذا موقفا ظالما مصرّا على العداء والحرب. فكيف تمنع قريش النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه من زيارة البيت الحرام،

_ (1) في كل ما يتعلق بقصة الحديبية راجع: ابن هشام، القسم الثاني (ص 308) وما بعدها، ابن حجر- فتح الباري (7/ 349) وما بعدها، د. هيكل- حياة محمد (ص 363) وما بعدها.

الذي هو مباح للعرب جميعا، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم كان مصرّا على تنفيذ خطة السلام التي التزمها منذ خروجه من المدينة، فقرر ألا يعطيها فرصة لاستفزازه والدخول معها في معركة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. فما أن سمع بموقفها حتى قال: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإلم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة» وليتحاشى الاحتكاك بجيش قريش سلك طريقا صعبا، تجشم فيه هو وأصحابه متاعب كبيرة حتي وصلوا إلى الحديبية. وليدلل على صدق نواياه فقد أطلق سراح مجموعة من جيش قريش، وقعت أسرى في أيدي المسلمين، حينما حاولوا الإغارة على معسكر النبي. ولكن كل ذلك لم يجد أمام نزعة قريش العدوانية. حتى بعد أن عادت إليها كل وفودها التي أرسلتها إلى النبي، مؤكدة لها أنه ما جاء مقاتلا بل زائرا للبيت يسوق الهدي أمامه. ولكنها أصرت على موقفها، وعلّلت ذلك بعلة سخيفة؛ وهي خوفها من ضياع هيبتها وسمعتها أمام العرب. ولكن كل هذا لم يثن عزم النبي صلّى الله عليه وسلم عن المضي في شوط السلام إلى نهايته وعبر عن ذلك بقوله: «والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألون بها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» وأرسل إلى قريش عثمان بن عفان رضي الله عنه، ليفاوضها، وطالت إقامة عثمان في مكة أكثر مما ينبغي، حتى أشيع أنه قتل، وعندئذ كان لا بد من أن يتغير الموقف، فإذا كانت قريش قد غدرت برجل مسلم مسالم في الشهر الحرام فإن النبي صلّى الله عليه وسلم لن يترك مكانه حتى يلقنهم درسا كالذي أخذوه في بدر. وكان المسلمون قد امتلأت قلوبهم غيظا من صلف قريش وغرورها. فأسرعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يبايعونه على بذل أرواحهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته. وكان موقفهم رائعا باركته السماء وزكاه الحق تبارك وتعالى في القرآن الكريم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح: 18] والحق أن القتال كان أحب يومئذ للمسلمين لا لأنهم يهوون القتال لذاته، ولكن لرد عدوان قريش، التي لم تكتف بطردهم من ديارهم، بل وتصرّ على حرمانهم من زيارة البيت، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يفقد الأمل في الوصول إلى خطة سلام. فما أن تبيّن أن خبر اغتيال عثمان غير صحيح، حتى عاد إلى أسلوب المفاوضات من جديد، واتصلت المباحثات بين الفريقين. وانتدبت قريش سهيل بن عمرو ليفاوض النبي باسمها، ولكن على أساس شروط

قاسية. ونظر النبي صلّى الله عليه وسلم ببصيرته الملهمة إلى الموقف من جميع جوانبه. ورأى أن مسؤوليته كقائد للمسلمين تفرض عليه أن يحقن دماءهم ما وجد إلى ذلك سبيلا. وعظمة هذا الموقف أنه لم يكن موقف الضعيف الذي يذعن لعدوه استسلاما لمطالبه، ولكنه كان موقف القوي الذي يبحث عن السلام. وقبل شروط قريش، ووقعت معاهدة الحديبية وكان أهم شروطها كالآتي: أولا: وضع الحرب بين الفريقين لمدة عشر سنين. ثانيا: أن يرجع النبي وأصحابه عامهم هذا دون أن يدخلوا مكة، فإذا كان العام القادم دخلوها لمدة ثلاثة أيام بدون سلاح إلا السيوف في قرابها. ثالثا: من أراد من القبائل العربية أن يدخل في حلف النبي وعهده دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل فيه. رابعا: من أتى النبي من قريش من غير إذن وليه رده عليهم، أما من جاء قريشا من عند النبي فلا يردونه عليه. وكان هذا الشرط الأخير أقسى ما في المعاهدة على قلوب المسلمين، واعتبروه مذلة لهم، حتى أن بعضهم- مثل عمر الخطاب رضي الله عنه- لم يستطع أن يكتم معارضته. ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم هدّأهم، وأظهر من الصبر وسعة الأفق ما لم يسبق له مثيل أمام غرور ممثل قريش، الذي أصر على حذف «بسم الله الرحمن الرحيم» من صدر المعاهدة، وعلى أن يكتب اسم النبي مجردا من صفة النبوة، وقبل النبي صلّى الله عليه وسلم كل ذلك، وهي تضحيات جسيمة. ولكن تحقيق السلام يستحق التضحيات الجسام. ولقد أظهرت الظروف فيما بعد أن كل الذي تألم له المسلمون كان في مصلحتهم وكانت المكاسب التي حصل عليها الإسلام نتيجة صلح الحديبية أروع من أية مكاسب تأتي نتيجة أية معركة عسكرية. وذلك بفضل بعد نظر القائد العظيم- عليه الصلاة والسلام- ولقد كانت الحديبية بداية الفتح الأعظم ونزلت بعدها سورة الفتح تبشر المسلمين بالفتح المبين، ولم يكد يمضي عامان على صلح الحديبية، حتى تضاعف عدد المسلمين عدة مرات. فعدد المسلمين الذين شهدوا الحديبية كان ألفا وأربعمائة، أما الذين ساروا خلف النبي لفتح مكة (سنة 8 هـ) فكانوا عشرة آلاف مسلم كما أن الإسلام خلال هذين العامين استطاع أن يخرج إلى النطاق العالمي.

* الإسلام والعالم:

وانقلبت مكاسب قريش- أو التي ظنتها مكاسب- خسارة كبرى عليها ومكسبا رائعا للإسلام. وبصفة خاصة الشرط الأخير من شروط المعاهدة الذي اعتبرته قريش مكسبا ضخما، ولكنها هي نفسها التي طلبت من النبي تنازلها عن هذا الشرط. فقد جاء أحد مسلمي مكة وهو أبو بصير إلى النبي بعد الحديبية، وطلبت قريش- رده إليها طبقا لشروط المعاهدة، فرده إليهم صاحب الوفاء النادر بالعهد. وقال لأبي بصير: «اصبر واحتسب، وسوف يجعل الله لك ولمن معك فرجا ومخرجا» ولكن أبا بصير استطاع الإفلات من مندوبي قريش، ولجأ إلى ساحل البحر الأحمر، والتف حوله نحو سبعين من مسلمي مكة الفارّين من ظلم قريش. وصمموا على الانتقام من قريش، وقطعوا عليها طريق تجارتها إلى الشام، مما جعلها تتوسل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم أن يضم هؤلاء المسلمين إليه، وأنها تنازلت عن الشرط الخاص بهم في المعاهدة. هذه هي معاهدة الحديبية، ألست معي في أنها دليل قاطع على أن السلم هو هدف المسلمين الأسمى، وأنه أصل العلاقات الدولية في دولة الإسلام؟ * الإسلام والعالم: عرفنا فيما سبق أن الإسلام دين عالمي، وعرفنا معنى هذه العالمية، وعرفنا أن رسول الإسلام صلّى الله عليه وسلم مكلف بتبليغ رسالته إلى الناس كافة. وعرفنا ما هو الأسلوب الذي حدّده القرآن الكريم للنبي في مجال الدعوة إلى دينه في الأحوال الطبيعية ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] . وكان النبي صلّى الله عليه وسلم ينتظر الفرصة المواتية ليخرج بالدعوة الإسلامية من نطاق الجزيرة العربية إلى النطاق العالمي. وقد جاءت هذه الفرصة بعد صلح الحديبية- الآنف ذكره- فنتيجة لهذا الصلح، أصبح النبي صلّى الله عليه وسلم آمنا من ناحية قريش، أقوى أعدائه، كما أنه تخلص من خطر اليهود ومكرهم وكيدهم، بفتح خيبر. وعلى الجملة؛ فمع بداية العام السابع الهجري ساد شبه الجزيرة العربية جو من الهدوء النسبي مكن النبي صلّى الله عليه وسلم من توجيه دعوته الخالدة إلى أكبر عدد ممكن من ملوك وزعماء العالم المعاصرين. فأعد عددا من جلة صحابته- رضوان الله عليهم- وحملهم رسائل إلى هرقل- عاهل الروم- وكسرى- عاهل الفرس- والنجاشي- عاهل الحبشة- والمقوقس- حاكم مصر- كما أرسل إلى عدد من أمراء العرب في شبه الجزيرة العربية، مثل أمراء البحرين وعمان واليمن، بالإضافة إلى أمراء الغساسنة

بالشام «1» . ولا نستطيع في هذا البحث أن نناقش كل رسالة على حدة- بطبيعة الحال- ويكفي أن نلقي الضوء على بعض رسائل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى الملوك خارج شبه الجزيرة العربية. فهذه الرسائل تعتبر نقطة تحول كبيرة في تاريخ ومستقبل الإسلام، ونقطة البداية في علاقات الإسلام بالعالم، وعلى أساس هذه الرسائل، وعلى ضوء ردود الفعل عنها عند من أرسلت إليهم من الملوك، تشكلت علاقات المسلمين الدولية مع الأمم الآخرى. وسوف نكتفي هنا- لضيق المكان- بذكر واحدة من هذه الرسائل، كأنموذج لها جميعا. وهي كافية لإلقاء الضوء على موضوعنا الأساسي في هذا البحث، وهو علاقات المسلمين الدولية، وسنعرف من خلال ملابسات الرسالة ونتائجها أن السلام كان هو أصل العلاقات الدولية في الإسلام. ونلفت النظر إلى أن الرسائل كلها متشابهة تقريبا في صياغتها ومضمونها والرسالة التي نقدمها هنا هي رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل- إمبراطور الروم- ونصها كما جاء في أوثق المصادر الإسلامية كالآتي: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيّين «2» . قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ «3» . هذا هو نص رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل. وهي كما ترى دعوة سلمية إلى الإسلام من رسول الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يرد في الرسالة أي تهديد بالحرب أو استخدام القوة لإجبار الآخرين على اعتناق الإسلام، لا تصريحا ولا تلميحا؛ بل بدأت الرسالة بالسلام، ومن منطلق السلام الذي هو القاعدة الأساسية لعلاقات الإسلام بالأمم الآخرى. إلا إذا رفض الطرف الآخر السلام، وأصر على موقف عدائي. فعندئذ يصبح للإسلام موقف آخر يتناسب مع مواقف الآخرين. فماذا كان رد هرقل وغيره على رسائل النبي صلّى الله عليه وسلم؟ وما هي النتائج التي ترتبت على هذه الردود؟

_ (1) انظر في موضوع رسائل النبي إلى الملوك والرؤساء: ابن حجر- فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 32) وما بعدها، (8/ 172) وصحيح مسلم بشرح النووي (12/ 107، 108) . (2) الأريسيين- وجاء مكانها في بعض الروايات الأكارين أو الفلاحين- ويبدو أن المقصود بالكلمة رعايا هرقل. (3) راجع نص الرسالة في المصادر المذكورة آنفا.

بالنسبة لهرقل؛ تفيد مصادرنا الإسلامية أنه رد على الرسالة ردّا جميلا «1» . بل وتذهب بعض المصادر إلى أنه مال إلى الإسلام، إلا أن الروم لم يطاوعوه على ذلك، مما جعله يعتذر للنبي صلّى الله عليه وسلم عن عدم قبول الإسلام، بسبب موقف رجال الدين المسيحي، أما غالبية مصادرنا الإسلامية فلا تشير مطلقا إلى رد هرقل. وتطور العلاقات بين المسلمين والروم في آخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين يجعلنا نميل إلى ما أخذت به غالبية المصادر، وهو عدم ورود ردّ من هرقل إلى النبي. فهرقل عند ما وصلته رسالة النبي كان عائدا لتوّه من حربه مع الفرس تلك الحرب التي انتصر فيها عليهم انتصارا ساحقا، ويبدو أنه كان عائدا معتدّا بنفسه وبما حققه من إعادة الصليب الأكبر إلى بيت المقدس، ومن رده الاعتبار إلى بيزنطة التي كان الفرس قد مرغوا أنفها في التراب، يبدو أن هرقل كان مزهوّا بهذا كله. فلما جاءته رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم- وكان بالشام وقتها كما تذكر بعض المصادر- وهو على هذه الحالة لم يهتم بها ولم يرد عليها. ودلّت تصرفاته وسلوكه في الفترة التالية لوصول الرسالة على أنه في البداية- ربما- لم يقدر خطورة الرسالة ولا صاحبها ولا الدعوة التي دعاه إليها. فلما تنبه إلى خطورة الموقف، وأدرك أن الإسلام قد أصبح قوة ضخمة، وتصور أنه أصبح خطرا على ملكه، وأراد أن يقاومه كان الوقت متأخرا جدّا. فلم يعد في مقدور أحد- كائنا من كان- أن ينال من الإسلام أو يوقف زحفه. والسؤال هنا هو: إذا كانت رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل سلمية، وخالية من التهديد بالحرب، لا حالا ولا مستقبلا؛ حيث لم يقل النبي صلّى الله عليه وسلم لهرقل: إذا لم تسلم أقاتلك أو سأقاتلك- إذا كان الأمر كذلك فمن المسؤول إذن عن الحروب التي نشبت بين المسلمين والروم سواء في حياة الرسول أو بعد وفاته؟ المسؤولية هنا- وبدون تعصب أو تحيز- تقع كاملة على هرقل والروم معه؛ فهم الذين بدؤوا بالعدوان ضد المسلمين؛ إليك الوقائع الآتية: في العام الثامن للهجرة أرسل النبي صلّى الله عليه وسلم، سرية مؤتة- الشهيرة- والتي كانت مكونة من ثلاثة آلاف جندي مسلم- لتأديب القبائل العربية القاطنة في مناطق التخوم بين بلاد العرب والشام، على جرائم وحماقات ارتكبوها في حق المسلمين،

_ (1) انظر تاريخ اليعقوبي (2/ 67) .

ولم يكن ممكنا السكوت عليها، بل كان لا بد من إشعارهم بهيبة الإسلام وأنه لا يستباح حماه. فقد قتل في هذه المناطق خمسة عشر رجلا من الصحابة كانوا يدعون إلى الإسلام، كما قتل الحارث بن عمير، مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أمير بصرى الخاضع لسلطان الروم، وكانت هذه كلها جرائم خطيرة استوجبت العقاب «1» . مما جعل النبي يجهز سرية مؤتة لتحقيق هذا الهدف، فماذا حدث؟ لقد توجهت الحملة إلى وجهتها، لأداء مهمتها المحدودة، وعلى رأسها قواد ثلاثة عقد لهم النبي بالتتابع، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن راوحة. وما أن وصلت السريّة إلى مناطق الحدود- وفي حسبانها أنها ستواجه بعض القبائل العربية- حتي وجدت أن هرقل قد حشد لها عشرات الألوف من جند الروم. وفوجئ قواد الحملة المسلمون بهذا الموقف الذي لم يكن في الحسبان، وعقدوا مجلسا حربيّا لتدارس الموقف على ضوء هذا الواقع، وبرزت عدة اقتراحات؛ منها أن يعودوا إلى المدينة ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلم ليقرر ما يراه ومنها أن يعسكروا في موقعهم، ويطلبوا من الرسول مددا. وأخيرا تحدث أحد قواد الحملة وهو عبد الله بن رواحة، فقال: «يا قوم؛ نحن لا نقاتل بقوة ولا بكثرة، ولكن بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، وما نريد إلا إحدى الحسنيين، الظهور أو الشهادة» سرت كلمات ابن رواحة في نفوس المسلمين وارتفعت روحهم المعنوية وصمموا على القتال. ودارت المعركة- قرب مؤتة- بين الثلاثة آلاف مسلم وبين قوات الروم الضخمة ومن يدور في فلكها من القبائل العربية، وبطبيعة الحال لم تكن القوتان متكافئتين، وكانت معركة ضارية استشهد فيها عدد من جند الله وقوادهم الثلاثة. وهنا كان من الضروري تغيير خطة المسلمين لمواجهة هذا الموقف الخطير. وتسلم القيادة عبقري الحرب- سيف الله- خالد بن الوليد، الذي قدر الموقف العسكري تقديرا دقيقا يدل على بعد نظره العسكري واعتقد أن واجبه كقائد للمسلمين يحتم عليه أن يضع خطة للانسحاب، وقد نجح ابن الوليد نجاحا باهرا في إنقاذ من بقي من جيش المسلمين وهذا الموضوع وحده يحتاج إلى بحث خاص، والمهم هنا هو العبرة والدرس الذي استفاده المسلمون من موقعة مؤتة، فأكثر ما كان يتميز به أسلافنا العظام أنهم كانوا يستفيدون من كل موقف، ولا يتركون حادثة تمر دون أن يكون لهم عندها وقفة

_ (1) د. هيكل- حياة محمد (ص 404، 405) .

طويلة يتأملون فيها سير الأحداث ونتائجها، يضعون خططهم مستقبلا على ضوء ذلك كله- ليتنا نقرأ تاريخهم جيدا ونتعلم منهم- كان الدرس الذي خرج به المسلمون من مؤتة هو أن الروم هم عدوهم الرئيسي في هذه الجهات. وأنهم قد أعلنوا عليهم الحرب، ولن يتركوهم يدعون إلى دينهم في سلام وأمان وحرية، بل ربما يهاجمون الإسلام في بلاد العرب نفسها. هذه واحدة. ثم ماذا بعد؟ مضى العام الثامن للهجرة، وضمّد المسلمون جراحهم، وقدر النبي صلّى الله عليه وسلم ظروفهم فواساهم وعزّاهم ورفع روحهم المعنوية وطمأنهم وبشرهم. وجاء العام التاسع للهجرة، وعندئذ تجمعت لدى النبي صلّى الله عليه وسلم أخبار أن الروم- لم يكتفوا بما حدث في مؤتة- قد حشدوا قواتهم على الحدود الشمالية لمهاجمة المسلمين في عقر دارهم، وكان الوقت عسيرا وقاسيا، ولكن الموقف خطير للغاية ولا يحتمل الأنتظار، وعلى الفور وبمسؤولية القائد العظيم استطاع النبي صلّى الله عليه وسلم أن يجمع ثلاثين ألفا من المسلمين، وكان هذا أكبر جيش يقوده النبي في حياته، وقد سمي جيش العسرة؛ لأن الوقت كان عصيبا حقّا، ولكن مهما تكن الصعوبات، فإذا كان الروم قد غرهم غرورهم وينوون فعلا استباحة حمى الإسلام، فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم لا بد أن يلقنهم درسا لن ينسوه أبدا وسينسيهم وساوس الشيطان. وصلت جحافل المسلمين بقيادة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى تبوك «1» . وأخذ القائد العظيم يرتب قواته، ويدرس الموقف، ويبث عيونه ليأتوه بالأخبار حتى تكون كل خطواته مدروسة بعناية تامة، وتجمعت لديه معلومات بأن جيش الروم قد انسحب من الميدان، لتخوفه من نتائج الصدام العسكري مع المسلمين. فماذا كان موقف النبي صلّى الله عليه وسلم من هذا الجيش المنسحب الفار من الميدان؟ هذا الجيش الذي حارب المسلمين بضراوة قبل عام واحد في مؤتة، وكاد يستأصلهم لولا عناية الله، الذي ألهم خالد بن الوليد بوضع خطة لانسحابهم إلى المدينة، لو أن أي قائد آخر كان في موقف النبي صلّى الله عليه وسلم ماذا كان سيصنع. لا بد أنه كان سينتهز هذه الفرصة ويلاحق جيش عدوه المنسحب ويقضي عليه. ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يفعل هذا. ومرة أخرى يقدم لنا الدليل تلو الدليل على أن الإسلام دين السلام، وليس دين حرب وسفك دماء- كما يدعي أعداء الإسلام- إذ لو كان الإسلام دين حرب، ولو كان رسول الإسلام متعطشا للدماء، ولو كان

_ (1) انظر- ابن هشام- السيرة النبوية (ص 515) وما بعدها.

من منهجه أن يحمل الناس على اعتناق دينه بالقوة؛ لما كان أسهل عليه من هذا الموقف بالذات؛ لأن الجيش الفار من الميدان- وهو جيش هرقل- لن يصمد طويلا أمام جيش المسلمين، بل إن هزيمته ستكون محققة. ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم اعتبر انسحاب جيوش الروم من ميدان المعركة كافيا كدليل على ميلهم إلى السلام- وإن كان انسحابهم خوفا من الهزيمة- لذلك لم يلاحقهم، ولم يرم إلى القضاء عليهم؛ لأن هذا ليس هدفه. أليس هذا دليلا كافيا على أن أصل العلاقات الدولية في الإسلام هو السلام؟!. وإليك دليلا آخر على أنه ليس من أهداف الإسلام إجبار الآخرين على اعتناقه بالقوة؛ فبعد أن علم الرسول بانسحاب الروم إلى داخل الشام، وقرر عدم ملاحقتهم، عسكر في منطقة تبوك عدة أيام عقد خلالها عدة معاهدات، مع عدد من أمراء المنطقة، ورؤساء المجموعات الصغيرة فيها، الذين لم يبدؤوا المسلمين بالعداء، أمنهم هم وأتباعهم على عقائدهم وأرواحهم وأموالهم. وهاك نموذجا على ذلك وهو عهد الأمان الذي أعطاه النبي صلّى الله عليه وسلم ليحنّة بن رؤبة صاحب أيلة، نصه كالآتي: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله، ومحمد رسول الله، ليحنة ابن رؤبة، وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، أهل اليمن، وأهل البحر؛ فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» «1» قل لي بربك: هل الذي يصنع هذا الصنيع، مع هذه المجموعات الصغيرة الضعيفة، ويعطيها الأمان والحرية، ويبسط عليها حمايته؛ يقال عنه: إنه متعطش للدماء؟! وهل كان صعبا على النبي وهو يقود هذا الجيش الضخم، والذي خرج ليواجه به أكبر جيوش العالم وقتئذ- وهو جيش الروم- الذي انسحب من الميدان جبنا وهلعا، هل كان صعبا عليه أن يجبر يحنّة وأهل أيلة وأمثالهم على اعتناق الإسلام، لو كان ذلك هدفه؟! وهل كان في مقدورهم أن يقاوموا أو يمتنعوا؟ لكنها دعاوى الزور والبهتان من أعداء الإسلام الذين لا يبرحون أن يرددوا تلك التفاهات، ويدعون أن الإسلام دين حرب انتشر بالسيف. فالنبي صلّى الله عليه وسلم لم يقاتل أهل أيلة، ولم يهددهم أو يرهبهم، بل أمنهم على

_ (1) انظر: ابن هشام- القسم الثاني (ص 525) - ومحمد حميد الله- مجموعة الوثائق السياسية (ص 89) ، ود. هيكل- حياة محمد (ص 459) .

عقائدهم وأرواحهم وممتلكاتهم، وأكثر من ذلك تبسط في معاملة صاحب أيلة وأهداه «رداء من نسج اليمن، وأحاطه بكل صنوف الرعاية» «1» . بعد أن رتب النبي صلّى الله عليه وسلم أوضاع منطقة الحدود الشمالية الغربية لشبه الجزيرة العربية في ضوء تحركات الروم وسياستهم، عاد إلى المدينة بجيشه العظيم. ولم تمر حوداث تبوك بدون فائدة، ولكن استخلص المسلمون منها دروسا مفيدة، أفادتهم كثيرا في مستقبلهم، وفتحت عيونهم أكثر وأكثر على مكامن الخطر الذي ينتظرهم في مسيرتهم المقدسة. وتيقنوا أن الروم على حدودهم الشمالية هم أخطر أعدائهم وأعداء دينهم. فلا بد من الاستعداد لمواجهة الموقف واحتمالاته. وصدقت توقعات المسلمين. حين أخذت علاقاتهم مع الروم- الذين أعلنوها حربا سافرة على الإسلام والمسلمين- تتطور على طريق المواجهة العسكرية، حتى وضع الخلفاء الراشدون حدّا لغرور الروم وصلفهم، وأنزلوا هذا الجالس على عرش بيزنطة من عليائه، وطردوه من الشام إلى غير رجعة. فغادرها وقلبه يقطر دما، ولسانه يقول: «سلاما عليك يا سوريا سلاما لا لقاء بعده ونعم البلد أنت للعدو» هذا عن العلاقات بين المسلمين والروم. أيلام المسلمون أن حملوا السلاح دفاعا عن أنفسهم أمام عدوان الروم؟!. فماذا عن العلاقات بين المسلمين والدولة الكبرى الآخرى في عالم يومئذ؛ وهي الإمبراطورية الفارسية؟ الواقع أن كسرى فارس كان أكثر غرورا وغطرسة من هرقل. فعندما وصلته رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم؛ استشاط غضبا ومزق الرسالة، بل أكثر من ذلك طلب أن يقبضوا له على النبي ليحاكمه- وقد سبقت الإشارة إلى تلك الحادثة- ولما علم النبي بذلك الموقف المغرور من كسرى دعا عليه قائلا: «مزق الله ملكه» وقد استجاب الله دعاء رسوله، فقد قامت ثورة ضد كسرى، والمدهش أن ابنه هو الذي ثار عليه وقتله، ولكن موقف الفرس لم يتغير تجاه الإسلام نتيجة موت كسرى أبرويز الثاني الذي كان موقفه بمثابة إعلان الحرب على الإسلام. وكما أخذ الروم موقف العداء من المسلمين، وحشدوا قواتهم على الحدود لتهديد المسلمين، وحرضوا القبائل العربية المنضوية تحت نفوذهم ضد المسلمين، فقد أخذ الفرس الموقف على الحدود الشرقية، وظهر ذلك واضحا في أثناء حروب الردة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وكما تطورت العلاقات مع الروم، تطورت كذلك مع الفرس على

_ (1) د. هيكل- حياة محمد (ص 459) .

طريق المواجهة، إلى أن وضع الخلفاء الراشدون حدّا لغطرسة أكاسرة الفرس، وأزالوا سلطانهم من الوجود. ورفعوا راية الإسلام على كل بلاد فارس، وخلصوا البلاد والعباد من ظلم الأكاسرة، وجعلوا شعوب المنطقة تنعم بالحرية والعدل والمساواة في ظل الإسلام ولأول مرة في تاريخها. مرة أخرى: هل يلام المسلمون إذا حملوا السلاح للدفاع عن حرية نشر عقيدتهم وعن أنفسهم وأرضهم أمام عدوان الفرس؟ ولم يكن المسلمون راغبين في حرب الفرس ولكنهم أجبروا على ذلك. ولقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «وددت لو أن بيننا وبين الفرس جبلا من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم» . وبعد؛ فإذا كان هناك من لا يزال يتشكك في أن الفرس والروم هم الذين أجبروا المسلمين على اللجوء إلى القوة لحسم الموقف؛ فإننا نسأله هذا السؤال: لماذا لم يحارب المسلمون الحبشة كما حاربوا الروم والفرس، مع أن إمبراطور الحبشة تلقى رسالة من النبي مماثلة للرسائل التي أرسلت إلى هرقل وكسرى. فلو كان المسلمون يهدفون إلى إدخال الناس في دينهم بالقوة، لكان حرب الحبشة أسهل عليهم بكثير من حرب الفرس والروم؛ لأن الحبشة لم تكن لديها قوة الفرس والروم. وعبور قوات من بلاد العرب إلى الحبشة لم يكن صعبا، فقد سبق للأحباش أنفسهم أن عبروا البحر بقواتهم وغزو اليمن، بل وصلت قواتهم إلى مشارف مكة نفسها في عام الفيل المشهور الذي ولد فيه النبي صلّى الله عليه وسلم، كما أنّ المسلمين عبروا البحر إلى الحبشة مرتين في هجرتهم إليها قبل الهجرة إلى المدينة. نجيب نحن على السؤال المتقدم، فنقول: إن المسلمين لم يحاربوا الحبشة؛ لأن الحبشة لم تعلن عليهم الحرب، ولم تعتد عليهم أو تبدأهم بعدوان. بل بالعكس كان للحبشة وملكها موقف إنساني عظيم من المسلمين عندما هاجروا إليها بناء على تعليمات النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد مدح النبي الحبشة وسماها بلاد صدق. ومدح ملكها وقال عنه: «إنه ملك عادل لا يظلم أحد عنده» وقد كان ملك الحبشة عند حسن ظن النبي به، فقد آوى المسلمين وأكرمهم، وظلوا في كنفه خمسة عشر عاما. وفوق ذلك فإن النجاشي رد على رسالة النبي إليه ردّا غاية في الأدب والتواضع لدرجة أن ذهب بعض المؤرخين المسلمين إلى أنه أسلم. ولكن حتى بصرف النظر عن قصة إسلامه. فقد كان موقفه وموقف بلاده من المسلمين وديّا، وحفظ المسلمون لهم جميلهم، وحافظوا على علاقات حسن الجوار معهم. ويروى أن

الرسول أوصى المسلمين بذلك وأنه قال: «اتركوا الأحباش ما تركوكم» «1» وهكذا لم يبدأ المسلمون الحبشة بالعداء ولم يغزوها، لأنها لم تعتد عليهم.

_ (1) السيرة الحلبية (3/ 248) .

* خاتمة البحث:

* خاتمة البحث: الموضوع الرئيسي الذي حاولنا معالجته في هذا البحث؛ هو العلاقات الدولية لدولة الإسلام في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد رأينا أن تلك العلاقات كانت تقوم على أساس السلام مع الآخرين، كما تؤيد ذلك كل الأدلة والنصوص الموثوق بها، كما تؤيده وقائع التاريخ التي استشهدنا بها كثيرا في ثنايا البحث. وظهر لنا أن الإسلام لم يعمد إلى الحرب ليجبر الناس على اعتناقه، ولم يبدأ أحدا بعدوان قط. وعندما أباح الإسلام الحرب، أباحها للدفاع عن النفس، أو عن حرية نشر العقيدة، أو الدفاع عن المظلومين في الأرض. وحصر الإسلام الحرب في نطاق هذه الضرورات وحدها، ونفر من التوسع فيها؛ لأن الحرب ليست هدفا وإنما هي وسيلة لتحقيق هدف وهو إقامة السلام على الأرض، وتحقيق المساواة الكاملة بين بني البشر، ولتكون كلمة الله هي العليا، وشريعته هي الغالبة، وإذا سادت شريعة الله وحكمت تصرفات البشر، وقبلوها راضين، فلن يكون هناك مبرر للحرب على الإطلاق من وجهة نظر الإسلام. وبرغم وضوح الأدلة على أن السلام هو الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام، وأن الحرب كانت استثناء دعت إليه الضرورة. إلا أن أعداء الإسلام والحاقدين عليه من المستشرقين وغيرهم، ما برحوا يروجون لفكرة سيطرت على عقولهم نتيجة لجهلهم لطبيعة الإسلام، ولمعنى كلمة الجهاد في الإسلام من ناحية ولتعصبهم ضد الإسلام كدين وحضارة من ناحية ثانية. هذه الفكرة هي أن الإسلام انتشر بالسيف، وأنه دين دموي، وأنه يدعو أتباعه دائما إلى حمل السلاح لإجبار الناس جميعا على اعتناقه بالقوة. وهذا هو نص كلام واحد من المستشرقين الذين يذهبون إلى هذا الرأي الخبيث؛ يقول كارل بروكلمان: «يتحتم على المسلم أن يعلن غير المسلمين بالعداوة حيث وجدهم؛ لأن محاربة غير المسلمين واجب ديني» «1» . ولا ندري من أين جاء بروكلمان بهذه الحتمية، ونصوص القرآن الكريم واضحة أمامنا في النهي عن عدم الإكراه في الدين- كما قدمنا- ولا يكون القتال واجبا دينيّا على المسلم، إلا في حالة الدفاع عن النفس أو حرية العقيدة أو عن المظلومين في الأرض. أما من لم يبدأ المسلمين بعداء فليسوا

_ (1) كارل بروكلمان- تاريخ الشعوب الإسلامية (ص 78) . وانظر كذلك- فان فلوتن- السيادة العربية في عهد بني أمية (ص 5) وما بعدها.

مطالبين بقتاله، بل بالعكس مطالبون بالكف عنه؛ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء: 90] . ولكنه التعصب المقيت ضد الإسلام الذي دأب عليه المستشرقون، بقصد تشويه الإسلام، وتصويره بأنه دين يدعو إلى سفك الدماء. وهؤلاء المستشرقون لم يفهموا ظاهرة انتشار الإسلام على حقيقتها، ولم يفهموا أسبابها؛ التي من أولها وأهمها بساطة الإسلام نفسه وملاءمته لفطرة الإنسان. في كل زمان ومكان، ولما لم يفهموا ذلك، وأفزعهم الانتشار الهائل والسريع للإسلام في أرجاء العالم، راحوا يروجون أنه انتشر بالسيف، وليس أبعد عن الحقيقة والواقع من هذه الفكرة. فالإسلام- كما تدل وقائع التاريخ- كان ينتشر ويتضاعف معتنقوه أوقات السلم أكثر وأسرع مما كان ينتشر في أوقات الحرب. فمن المعروف تاريخيّا أن عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) كان عهد سلام؛ إذ توقفت فيه الحروب تقريبا وبأمر الخليفة نفسه، وكان من أول قراراته التي أصدرها قراره بفك الحصار الذي كان المسلمون قد ضربوه على مدينة القسطنطينية وأن يعود الجيش الإسلامي إلى الديار الإسلامية «1» . وكان عهده عهد حل كل المشكلات سواء الداخلية أو الخارجية بطريق سلمي. ومع ذلك فقد شهد هذا العهد القصير إقبالا على الإسلام بصورة لم يسبق لها مثيل «2» ، واعتنقه الناس لبساطته وسمو مبادئه، خصوصا من أهل الكتاب، لدرجة أن بعض الولاة اشتكى للخليفة من أن إقبال الناس على اعتناق الإسلام قد أضر ببيت المال، لرفع الجزية عمن أسلموا. وطلب بعض الولاة من الخليفة أن تبقى الجزية مفروضة عليهم بعد إسلامهم. لكن الخليفة الصالح الذي كان يفهم روح الإسلام قال صائحا: قبح الله رأيكم، إن الله أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا. ثم ليخبرنا هؤلاء المستشرقون أي جيش إسلامي ذهب إلى جنوب شرقي آسيا لينشر الإسلام هناك؟ وكيف أصبحت أمة كأندونيسيا- التي يزيد عددها الآن عن عدد الأمة العربية تقريبا- مسلمة؟ إن الإسلام بدأ يدخل إلى أندونيسيا وغيرها من بلاد جنوب شرقي آسيا منذ القرن الثاني عشر الميلادي، أي في وقت كانت فيه القوة العسكرية الإسلامية قد زالت أو ضعفت ولم يصبح لها أي تأثير، وكان وصول الإسلام إلى هذه البلاد النائية عن طريق التجار الذين كانوا يتنقلون بين الموانئ

_ (1) انظر: الطبري (8/ 130) . (2) انظر: د. حسن إبراهيم حسن- تاريخ الإسلام السياسي (1/ 335) .

العربية وموانئ هذه البلاد كما يشهد بذلك بعض المؤرخين الأوربيين أنفسهم «1» . ثم ليخبرنا بروكلمان وأمثاله كيف وصل الإسلام إلى أفريقيا، حيث توجد دول أفريقية بكاملها أو بغالبية سكانها على الأقل مسلمة الآن مثل نيجيريا والسنغال وغيرها. ولندع باحثا أوربيّا آخر ليقول لنا: كيف وصل الإسلام إلى أفريقيا. يقول سبنسر ترمنجهام: «وأما في غرب أفريقيا فإن انتشار الإسلام يرجع في المقام الأول إلى التجارة والدعوة له بواسطة التجار الأفارقة» «2» . هل تبقى بعد ذلك للتهم التي يزعمها ويلصقها بالإسلام أعداؤه أية قيمة؟ أما آن للباحثين الغربيين أن يكفوا عن مهاجمة الإسلام، وأن يحترموا عقولهم بل وأن يحترموا عقول قرائهم في هذا العصر الذي يزعمون أنه عصر حرية الفكر. أغلب الظن أن أغلب المستشرقين لم يستطيعوا التحرر من التعصب ضد الإسلام. وجريا على قاعدة أن لكل قاعدة شواذ، فلم نعدم بعض المنصفين من الغربيين الذين فاهوا بالحقيقة وأعلنوها. ونختم هذه الخاتمة بكلمة لواحد من هؤلاء الغربيين المنصفين. وهي كلمة لها قيمتها في هذا المجال؛ لأنها صادرة عن باحث لا يمكن أن يكون متحيزا للإسلام أو متحمسا لترويج مبادئه والدعوة له. ولكنها الحقيقة ظهرت له ناصعة، فأجبرته على أن يعلنها. يقول توماس آرنولد: «وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق» «3» . وإذا كنا استشهدنا أكثر من مرة بكلام آرنولد وغيره من الغربيين المنصفين فليس ذلك لأن الأدلة في تراثنا قليلة أو غير كافية على صدق رأينا؛ ولكن لئلا ننسى من يقول كلمة حق في حقنا، وليعرفوا أننا لسنا متعصبين مثلهم؛ لأن ديننا هو دين التسامح وعرفان الجميل. وبعد؛ فهذه لمحة عن دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم. أرجو أن أكون قد وفقت في عرضها. فإن صح هذا فالحمد لله أولا وأخيرا، وإن تكن

_ (1) انظر توماس آرنولد- الدعوة إلى الإسلام (ص 316) . (2) سبنسر ترمنجهام- الإسلام في شرق إفريقيا (ص 111) . (3) توماس آرنولد- الدعوة إلى الإسلام (ص 88) .

الآخرى فبحسب الإنسان أن يحاول وأن يجتهد وعلى الله التوفيق وبه المعونة، والكمال لله وحده. هذا ولا يزال الموضوع محتاجا إلى أبحاث كثيرة تستقصي جوانبه المتعددة، ندعو الله تعالى أن يوفق أهل العلم للقيام بها، وعلى الله قصد السبيل.

البحث السابع قراءة تاريخية جديدة في موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الفتوحات الإسلامية

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث السابع] قراءة تاريخية جديدة في موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الفتوحات الإسلامية

قراءة تاريخية جديدة لموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الفتوحات الإسلامية في شهر نوفمبر (1993 م) عقد اتحاد المؤرخين العرب ندوة في مقره بمدينة نصر عن الحضارة الإسلامية وعالم البحار، وفي أثناء إلقاء البحوث والمناقشات تطرق الحديث إلى إنشاء الأسطول الحربي الإسلامي، ومعارضة عمر بن الخطاب في البداية بشدة لهذا الموضوع، عند ما عرض عليه والي الشام- معاوية بن أبي سفيان- الأمر طالبا الإذن منه في إنشاء قوة بحرية إسلامية تدافع عن سواحل المسلمين في الشام ومصر ضد هجمات الأسطول البيزنطي، خاصة من قاعدته القريبة من شواطئ الشام في جزيرة قبرص التي قال عنها معاوية: إن الناس في حمص يسمعون نباح كلابها وصياح دجاجها «1» . وجاء رفض الخليفة عمر بدافع حرصه على سلامة المسلمين وعدم الزج بهم في ميدان خطر كهذا قبل أن يستعدوا له تمام الاستعداد؛ إذ كانت له تجربتان سابقتان في التعامل مع البحر، كلاهما لم تنجح وسنعود إلى الحديث عنهما قريبا. ولكن الذي نريد أن نوضحه هنا- والذي كان دافعنا إلى كتابة هذا البحث- أن أحد أساتذة التاريخ علق على موقف عمر من إنشاء أسطول إسلامي ورفضه الحاسم، قائلا: إن عمر بن الخطاب كان يجهل أمر البحر ولا يعرف شيئا عنه؛ لأنه رجل نشأ في الصحراء وكان يخاف من ركوب البحر ولذلك استشار عمرو بن العاص في هذه المسألة، وطلب منه أن يصف له البحر، فجاء وصف عمرو بن العاص للبحر مؤكدا لمخاوف عمر بن الخطاب، فقد كتب إليه قائلا: «يا أمير المؤمنين، إني رأيت خلقا عظيما يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، وإنما هم كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق» «2» . عند ذلك صمم عمر بعد أن قرأ هذا الوصف على الرفض. فكيف يجهل عمر بن الخطاب البحر وأحواله، وهو الذي أمر بحفر قناة تصل النيل بالبحر الأحمر، لتسير فيها السفن محملة بالميرة إلى أهل الحجاز، فقد كتب إلى عمرو بن العاص: «إن الله فتح على المسلمين مصر، وهي كثيرة الخير والطعام، وقد ألقي في روعي- لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم- أن أحفر

_ (1) تاريخ الطبري (4/ 258) . (2) تاريخ الطبري (4/ 259) .

خليجا من نيلها حتي يسيل في البحر فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد، ولا نبلغ معه ما نريد، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم.. انطلق يا عمرو بعزيمة مني حتى تجد في ذلك، ولا يأتي عليك الحول حتى تفرغ منه، إن شاء الله «1» . هذا هو عمر بن الخطاب يأمر بحفر قناة لوصل النيل بالبحر الأحمر سميت خليج أمير المؤمنين لتسهيل عملية النقل والتجارة بين مصر والجزيرة العربية، فهو لا يجهل البحر ولكن هناك فرقا بين استخدام البحر للتجارة وبين الحروب البحرية ومخاطرها على المسلمين، والتي كان عمر يخشاها عليهم، عند ما سمعت هذا الكلام أحسست بالدهشة، بل بالانزعاج الشديد؛ إذ كيف يوصف عمر بن الخطاب، من أحد أساتذة التاريخ، وبهذه «البساطة» بأنه يجهل أمر البحر؛ لأنه نشأ في الصحراء. أو ليست هذه الصحراء شبه جزيرة تحيط بها المياه من ثلاث جهات: البحر الأحمر من الغرب، والخليج من الشرق، وبحر العرب من الجنوب، وقد تبين لي من خلال المناقشات أنه ليس عمر بن الخطاب الذي يجهل أمر البحر، وإنما بعض أساتذة التاريخ- مع الأسف الشديد- هم الذين يجهلون تاريخ عمر بن الخطاب وأسلوبه في إدارة الدولة الإسلامية بصفة عامة، وإدارة دفة الفتوحات الإسلامية بصفة خاصة، ويجهلون أن قرارات عمر بن الخطاب لم تكن ارتجالية، بل كانت مبنية على أسس موضوعية، وبعد استشارة كبار الصحابة، وفي هذه النقطة بالذات له مبرراته القوية، كما سنشرح فيما بعد. فإذا كان هناك من يستحق أن يوصم بالجهل فهو من يصف عمر بن الخطاب بالجهل، ولكي نعرف موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات بصفة عامة، ومن إنشاء أسطول بحري إسلامي يغزو المسلمون به في البحار بصفة خاصة، ينبغي أن نلم ببعض النقاط: أولا: إن حركة الفتوحات الإسلامية تعد واحدة من الأحداث العالمية الكبرى في التاريخ البشري، بل هي أخطر وأعظم حركة فتوحات في كل ذلك التاريخ، وذلك لما أحدثته من تغييرات وتأثيرات عميقة، على رقعة واسعة من الأرض امتدت على طول وعرض قارات العالم القديم: آسيا وأفريقيا وأوربا.

_ (1) حسن المحاضرة للسيوطي (1/ 157، 158) طبعة (1) دار إحياء الكتب العربية (1967 م) .

وقد شملت تلك التأثيرات الأحوال الدينية والسياسية واللغوية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وهي لا تزال مستمرة وفي زيادة مطردة. ومن هذه الناحية- ناحية التأثيرات العميقة والمستمرة في العالم- فإن الفتوحات الإسلامية إذا قورنت بحركات فتوحات عسكرية سابقة عليها، كفتوحات الإسكندر الأكبر المقدوني، التي سبقتها بنحو ألف سنة، أو جاءت بعدها، كغزوات المغول التي تلتها بستة قرون تقريبا، فإن هذه المقارنة تظهر عظمة الفتوحات الإسلامية. أما فتوحات الإسكندر وإمبراطوريته التي شادها في الشرق، فلم يكد يختفي من الحياة حتى تمزقت أوصال تلك الإمبراطورية وأخذت تضمحل شيئا فشيئا إلى أن أصبحت ذكرى من ذكريات التاريخ. وأما غزوات المغول؛ فإنها في حد ذاتها تقدم أكبر وأقوى البراهين على عظمة الفتوحات الإسلامية وخلودها؛ لأن هذه الغزوة المغولية البربرية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل في وحشيتها وهمجيتها، والتي دمرت معظم العالم الإسلامي في الشرق بما كان له من حضارة زاهرة، ولم يوقف زحفها المدمر، ويحمي بقية العالم منها سوى الوقفة الباسلة والشجاعة التي وقفها الجيش المصري بقيادة السلطان قطز وقائده الظاهر بيبرس، حين ألحقوا بالمغول أول هزيمة ساحقة تحل بهم منذ ظهورهم في مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وكانت تلك الملحمة الإسلامية الرائعة في عين جالوت في شهر رمضان المبارك (عام 658 هـ- 1260 م) هذه الغزوة المغولية البربرية كان يمكن أن ينساها التاريخ، أو يذكرها ككابوس عابر فظيع ألم بالإنسانية في مسيرتها الطويلة، ومضى إلى سبيله، كان يمكن أن يحدث ذلك لولا أن الله سبحانه وتعالى قد أدرك برحمته الواسعة هذه الجموع الهمجية وهداها، فأسلم أغلب المغول، وطواهم الإسلام تحت جناحه، وأظلهم بحضارته، وحولهم من قوة غاشمة مدمرة إلى قوة خيرة، ومن أعداء مهاجمين إلى أتباع مدافعين ومشاركين في صنع الحضارة الإسلامية وشادوا حضارة ارتبطت باسمهم في الهند وإيران وأفغانستان. وهذه الظاهرة المغولية عكست نظرية ابن خالدون، أو هي ربما الاستثناء الوحيد من تلك النظرية التي ذهب إليها؛ وهي أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، فالغالب- وهم المغول- هو الذي قلد المغلوب- وهو هنا المسلمين- بل لم يقلده فقط؛ إنما اعتنق دينه وخضع لسيادته، واستظل بحضارته وأسهم في إثرائها وهذه هي

عبقرية الإسلام الخالدة والباقية على الزمن. فكل أرض وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، انتشر فيها الإسلام واللغة العربية والثقافة الإسلامية، وشكلت العالم الإسلامي، ولم يتراجع الإسلام عن أية منطقة، سوى الأندلس، وعند ما تراجع الإسلام عن الأندلس، لأسباب ليس هنا مجال شرحها، عوض ذلك أضعاف أضعافها في مناطق أخرى في آسيا وأفريقيا، وبدون أية حروب أو معارك بل عن طريق الدعاة والتجار المسلمين. ثانيا: إن هذه الحركة- الفتوحات الإسلامية- الكبيرة والخطيرة لم تدرس حتى الآن دراسة شاملة من الناحية العسكرية البحتة، مع أن المسلمين خاضوا معارك عسكرية كبيرة وحاسمة، ضد الدولتين العالميتين في ذلك الوقت- فارس والروم- فأجنادين واليرموك على جبهة الروم، والقادسية ونهاوند على الجبهة الفارسية، كانت من المعارك الخطيرة في التاريخ العسكري العالمي. وكانت معارك حاسمة في التاريخ البشري بدون شك، فالعالم الذي كان قبل تلك المعارك لم يعد هو العالم بعدها؛ بل تغير تغيرا جذريّا في كل شيء، بل معركة واحدة هي معركة نهاوند أزال انتصار المسلمين فيها إمبراطورية الفرس من الوجود، وقد سمى الطبري تلك المعركة فتح الفتوح، وقال عن الفرس بعدها: لم تقم لها قائمة، ولم تجتمع لهم كلمة «1» . وكثير من القادة العسكريين المسلمين أمثال خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، عمرو بن العاص، وأبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان، والنعمان بن مقرن ... وغيرهم برعوا في وضع الخطط العسكرية وفي تنفيذها ببراعة هائلة، وحققوا انتصارات مدوية، وأظهروا مواهب عسكرية فذة، وكان من حقهم أن يدرسوا وتدرس معاركهم وانتصاراتهم بأقلام كتاب عسكريين مسلمين، حتى تعرف الأجيال الحاضرة والقادمة الجهود الكبيرة التي بذلها هؤلاء القادة العظام، لتقدر جهادهم حق قدره حتى تمتلئ بالأمل ولا تفقد ثقتها في نفسها وفي أمتها، وتؤمن بأن الأمة التي أنجبت هؤلاء القادة الأفذاذ، لهي قادرة على إنجاب أمثالهم يردون لها اعتبارها وكرامتها التي ديست في التراب الآن من شذاذ الآفاق. ولكن للأسف الشديد فإن تاريخ هؤلاء القادة الكبار، بل التاريخ العسكري

_ (1) تاريخ الطبري (4/ 116) .

الإسلامي كله يعتبر حتى الآن غير معروف بالقدر اللازم الكافي، فليس هناك مؤلف واحد شامل- فيما أعلم- عن التاريخ العسكري الإسلامي وضعه رجل حرب مسلم، وخبير عسكري متمرس، يكون قد قام بدراسة ميدانية كاملة لميادين الحروب التي خاضها المسلمون- خاصة في فتوحاتهم الأولى- واصفا أشهر المعارك على الأقل، وموازنا بين خطط وتكتيك وأداء القادة العسكريين المسلمين؛ وبين خطط أعدائهم الذين واجهوهم ومدى مطابقتها لقواعد وأصول ومبادئ الحرب ومن انتصر؟ وهل كان يستحق الانتصار؟ ومن هزم؟ وهل كان يستحق أن يهزم؟ ليس هناك مؤلف واحد شامل بهذه المثابة «1» . والكتاب الوحيد اليتيم، الذي يستحق صاحبه أسمى آيات الشكر والعرفان هو ذلك الكتاب الذي ألفه الجنرال الباكستاني أغا إبراهيم أكرم عن بطل أبطال الفتوحات الإسلامية- أو كما يسميه هو: «سيد الحروب» - خالد بن الوليد، وهو دراسة عسكرية بحتة عن الأعمال الحربية التي قام بها أو شارك فيها خالد بن الوليد، منذ غزوات أحد والخندق- حيث كان لا يزال مشركا- مرورا بأمجاده العسكرية منذ أسلم، بدا من غزوة مؤتة وانسحابه الرائع والمشرف بقواته سليمة. ذلك الانسحاب الذي سماه الرسول صلّى الله عليه وسلم فتحا. وسمى خالدا سيف الله حين نعى القواد الثلاثة الذين استشهدوا في المعركة على التوالي، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة- رضي الله عنهم جميعا- بعد أن نعاهم الرسول في المدينة، قال: «ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله؛ خالد بن الوليد» «2» . ثم دوره في حروب الردة وقضائه عليها وفتوحاته الأولى في العراق وانتصاراته على جيوش الفرس ثم دوره الفذ ضد الروم في معارك الشام، خاصة معركة اليرموك

_ (1) نعم توجد بعض الكتابات المحدودة في المجال العسكري ولكنها كتابات عامة، مثل كتاب اللواء محمد جمال الدين محفوظ «القيادة بإدارة الحرب من توجيهات الإسلام» وكتابات محمد فرج «فن إدارة المعركة في الحرب الإسلامية» وغيرها مثل كتابات اللواء «محمود شيت خطاب. عن قادة الفتح الإسلامي في المشرق والمغرب، كما توجد مؤلفات أخرى عن الفتوحات مثل فتح العرب لمصر، للمؤلف الإنجليزي الفرد يتلر، وفتح العرب لآسيا الوسطى لهاملتون جب، وفتح العرب للمغرب، للدكتور حسين مؤنس، وهذه المؤلفات على أهميتها تناولت الفتوحات تناولا سياسيّا أكثر منه عسكريّا وتبقى الحاجة ماسة لمزيد من المؤلفات ذات الطابع العسكرى والتي يجب أن يقوم بها عسكريون مسلمون خبراء في الاستراتيجية وتخطيط المعارك. (2) الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 238) .

وطردهم منها إلى الأبد ولقد زار الخبير العسكري المسلم جميع المواقع التي حارب فيها خالد بن الوليد على الطبيعة «1» ، وكلفه ذلك جهودا ومتاعب كبيرة، حيث تعلم اللغة العربية حتى يستطيع قراءة المصادر العربية، وزار ست دول عربية هي: سوريا ولبنان والأردن والعراق والكويت والمملكة العربية السعودية (1968- 1969 م) . ومشى على كل الأرض التي حارب عليها سيف الله خالد بن الوليد، ورسم (29) خريطة عسكرية للمواقع، ودرس بشكل تفصيلي حركة الجيوش المتحاربة في ميادين القتال الحقيقية، ولقد أزالت تلك الدراسة العلمية القيامة كثيرا من الغموض الذي كان يكتنف الفتوحات الإسلامية، من حيث ترتيب المعارك ترتيبا تاريخيّا وحدد خط سير لرحلة خالد بن الوليد الخطرة من العراق إلى الشام يختلف عما ذهب إليه كثير من المؤرخين المسلمين، وهو الطريق الذي بدأ من الحيرة وانتهى بسوي مارّا بقراقر واستبعد أن يكون خالد قد مر بدومة الجندل في هذه الرحلة لأسباب فنية «2» . والرجل في الحقيقة لم يدع أنه حسم تلك المسألة نهائيّا، وإنما قال: إن هذا هو أقرب الحلول إلى المنطق وسير الحوادث. أما المسألة التي حسمها فهي الموقع الذي دارت فيه معركة اليرموك، فقد قال: إن ميدانها هو السهل الواقع شرقي نهر اليرموك وذلك لاعتبارات عسكرية. والخلاصة أن هذا الكتاب هو أفضل كتاب تحدث عن الفتوحات الإسلامية التي تمت على يد سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهو طبعا لم يتناول كل الفتوحات، ويبقى المجال مفتوحا لمزيد من الدراسات العسكرية الجادة عن بقية قادة الفتوحات الإسلامية، وأمجادهم العسكرية، مثل قتيبة بن مسلم، وفتوحاته في بلاد ما وراء النهر- والتي تسمى الآن آسيا الوسطى الإسلامية- ومحمد بن القاسم الثقفي وفتوحاته في إقليم السند، وعقبة بن نافع وموسى بن نصير وطارق بن زياد وغيرهم من قادة الفتوحات الإسلامية في المغرب والأندلس. ثالثا: إن الدارس للفتوحات الإسلامية في مصادرها الأصلية، وهي كتب

_ (1) باستثناء المواقع التي تقع في فلسطين المحتلة. (2) انظر الخريطة (رقم 15) (ص 240) من الكتاب المذكور وعنوانه، خالد بن الوليد (سنة 1969 م) وترجمه إلى العربية إسماعيل كشميرى (سنة 1974 م) وهو من مطبوعات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.

الفتوح، مثل «فتوح الشام» للواقدي، المتوفى (سنة 207 هـ) . «وفتوح الشام» لمحمد بن عبد الله الأزدي، المتوفى (سنة 231 هـ) . «وفتوح مصر والمغرب والأندلس» لابن عبد الحكم المتوفى (257 هـ) «وفتوح البلدان» للبلاذري المتوفى (سنة 279 هـ) وكتاب «الفتوح» لابن أعثم الكوفي (سنة 320) هـ وغيرها من كتب التاريخ العام، مثل «تاريخ الطبري» المتوفى (سنة 310 هـ) ، «والكامل» لابن الأثير المتوفى «سنة 630 هـ» ، «والبداية والنهاية» لابن كثير المتوفى «سنة 774 هـ» ، الدارس للفتوحات في هذه المؤلفات يخرج بانطباع مهم، وهو أن المسلمين عند ما اضطروا للصدام مع الفرس والروم في وقت واحد، في حروب طاحنة منذ مطلع خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لم تكن لديهم نية مبيتة للاشتباك العسكري مع هذه الدول الكبيرة ذات الجيوش الجرارة، وإنما أجبرتهم تلك الدول على خوض المعارك ضدها إجبارا، بمحاولتها خنقهم والقضاء عليهم في داخل الجزيرة العربية نفسها وأيدي الفرس والروم في حروب الردة وتأليب العرب على دولة الخلافة لم تكن خافية، ومثال واحد يكفي للدلالة على ذلك؛ وهو حالة سجاح بنت الحارث اليربوعية التميمية، التي ادعت النبوة، وخرجت من العراق تقود جيشا لقتال المسلمين بلغ عدده أربعين ألف رجل، فيكف يعقل أن تستطيع سجاح فعل هذا وتخرج من بلد كان تحت السيطرة الفارسية دون أن يكون الفرس أنفسهم من وراء ذلك تأييدا وتشجيعا وتحريضا. وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الفرس والروم جميعا حاولوا القضاء على العرب بالعرب كما كانت تلك عادتهم من قبل، فلما لم تنجح تلك المحاولة دخلوا الميدان بشكل سافر، فكان لا بد من الصدام، ولم يكن في وسع المسلمين أن يسكتوا ويقفوا مكتوفي الأيدي، حتى يدهمهم الفرس والروم ويأخذوهم على غرة. ولقد بدأت الصدامات الأولى مع الفرس في العراق، عند ما كان أحد القادة المسلمين وهو المثنى بن حارثة الشيباني يطارد المرتدين، فهذه المنطقة هي التي جاءت منها سجاح بنت الحارث، وحينما كان المثنى يحارب المرتدين تكالبت عليه الجيوش الفارسية، الأمر الذي جعله يستنجد بالخليفة أبي بكر الصديق، الذي أدرك خطورة الموقف، وعواقب تدخل الفرس في المعارك، فأرسل إلى العراق أعظم قادته العسكريين سيف الله خالد بن الوليد، الذي استطاع بمهارته العسكرية أن يفتح نصف العراق الجنوبي في بضعة شهور. أما الصدام مع الروم فقد بدأ عندما

استدرجوا خالد بن سعيد بن العاص الذي كان قد أمّره أبو بكر على أحد الجيوش أثناء حروب الردة، وأمره أن يعسكر في منطقة تيماء، شمال الحجاز، على طريق الشام، وقال له: لا تقاتل إلا إذا قوتلت، ولكن الروم استدرجوه، وغرروا به واشتبكوا معه، وتظاهروا بالتقهقر أمامه داخل الشام، ثم انقضوا عليه وأوقعوا بجيشه هزيمة منكرة. مما أغضب الخليفة عليه أشد الغضب ولم تكن هذه أول مرة يعتدي فيها الروم على المسلمين، فقد سبق أن اعتدوا على المسلمين في غزوة مؤتة وكادوا يهزمونهم لولا مهارة خالد بن الوليد الذي استطاع أن ينسحب انسحابا مشرفا بقواته، وهذه الاشتباكات الأولى مع الفرس والروم وإن خاضها المسلمون مضطرين وبدون تخطيط مسبق، إلا أنها كانت ذات فائدة كبيرة؛ فقد أظهرت النوايا العدوانية لكل من الفرس والروم ضد المسلمين وجعلت الخليفة يعد ويستعد في الوقت المناسب، لذلك يقول الطبري: إنه رغم غضب أبي بكر من خالد بن سعيد، إلا أنه اهتاج للشام وعناه أمره «1» . وجهز للشام أربعة جيوش في وقت واحد، جيش تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، ووجهته حمص في شمال الشام، والثاني تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، في وسط الشام، والثالث تحت قيادة شرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، والرابع تحت قيادة عمرو بن العاص ووجهته فلسطين، وهكذا بدأت الحروب تدور مع الفرس والروم في وقت واحد وكانوا هم البادئين بالعدوان. رابعا: إن حركة الفتوحات الإسلامية في سرعتها ونجاحها، الباهر ونتائجها العظيمة قد حيرت المؤرخين، خاصة المستشرقين فذهبوا في تفسيرها وتحليل دوافعها مذاهب شتى، وأرجعوا مجمل أسبابها إلى الجوع والقحط الذي دفع العرب إلى الخروج من شبه الجزيرة العربية وغزو البلاد التي غزوها، أي: إن السبب الرئيسي لتلك الفتوحات كان اقتصاديّا من وجهة نظرهم. وليس هناك قول أبعد عن الحقيقة من هذا القول، لا لأننا نستبعد تماما العامل الاقتصادي؛ ولكن لأن الحقيقة أن هذا العامل كان عاملا ثانويّا، ومعظم الجنود والقادة الذين صنعوا تلك الأمجاد، لم يكونوا يفكرون في بطونهم، كما يدعي بعض المستشرقين، ومن لف لفهم من كتاب العرب، وإنما كانوا يدافعون عن عقيدتهم وعن حرية نشرها، أي: إنهم كانوا يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا،

_ (1) تاريخ الطبري (3/ 389) .

وإذا جاءت الغنائم بعد ذلك فمرحبا بها وسهلا، والمؤرخون المسلمون أنفسهم لم ينكروا أن بعض الجنود كانت تحركهم دوافع اقتصادية فقد قال البلاذري لما استنفر أبو بكر العرب ودعاهم للاشتراك في الدفاع عن العقيدة ضد المعتدين- الفرس والروم- قال: «فتسارع الناس إليه من بين محتسب وطامع» «1» والعبارة أوضح من أن تحتاج إلى تفسير. والخليفة العظيم رحب بالجميع، المحتسب؛ وهو الذي جاء مجاهدا في سبيل الله، والطامع الذي جاء يبغي الغنيمة، ولم يحظر على الطامعين الاشتراك في المعارك بل أكثر من هذا؛ فإن الخلفاء كانوا يتجاوبون مع هذه التطلعات من البعض إلى الأعمال الدنيوية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع قبيلة بجيلة، عند ما انتدبهم إلى الاشتراك في معركة القادسية في العراق، وهم كانوا يودون الذهاب إلى الشام، ولكن عمر قال لهم: بل العراق؛ لأن الشام في كفاية، ولما وجد منهم تباطؤا وعدهم بحافز مادي إضافي فوق نصيبهم الشرعي من الغنائم. كما يقول البلاذري «وكانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية» «2» وكثير من القادة كانوا يحفزون جنودهم في المواقع ويحرضونهم على القتال بالحافز المادي، فقد قال خالد بن الوليد لجنوده في العراق: «ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب، وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عزّ وجلّ ولم يكن إلا المعاش؛ لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف، ونكون أولى به ونولي الجوع والإقلال من تولاه، ممن اثاقل عما أنتم عليه» «3» . بل أكثر من هذا كله، يروي أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قد قال في غزوة حنين، وكان الموقف فيها صعبا وعصيبا-: «من قتل قتيلا فله سلبه» «4» ؛ لتحريض المسلمين على القتال بحافز مادي. فالحافز المادي إذن لم يكن مستبعدا، لكنه لم يكن الهدف الأول من الفتوحات، ولو كان الجوع هو السبب الأول الذي دفع العرب إلى هذه الفتوحات؛ لكان يكفيهم منطقة صغيرة من الشام، أو العراق؛ لأن عدد الذين قاموا بالفتوحات؛ كان بضع عشرات من الألوف، ولم يكونوا في حاجة إلى فتح كل تلك البلاد

_ (1) البلاذري- فتوح البلدان (ص 158) . (2) فتوح البلدان (ص 328) . (3) تاريخ الطبري (3/ 354) . (4) مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر بن عاشور (ص 29) ، وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 265) .

* موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات

لإشباع بطونهم كما يزعم أعداء الإسلام. * موقف عمر بن الخطاب من الفتوحات بعد توضيح هذه الملاحظات أو النقاط التي كانت ضرورية لبيان موقف الخليفة عمر بن الخطاب من الفتوحات، الذي دعانا إلى إعادة قراءته وتقديمه للناس ما أشرنا إليه في البداية؛ وهو اتهامه من بعض أساتذة التاريخ بالجهل بأمر البحر، والتردد في قرار الفتح. كان عمر بن الخطاب أقرب الصحابة رضي الله عنهم جميعا إلى أبي بكر وأبرز المشاركين في القرار السياسي، وعلى علم تام بكل شيء من أمور الدولة وبأدق التفاصيل، وكان متفقا تماما مع أبي بكر في ضرورة حرب الروم حربا وقائية، أو القيام بالهجوم الذي هو أفضل وسائل الدفاع- كما يقول العسكريون في كل زمان ومكان- بل فكر فيها ربما قبل أن يفكر فيها الخليفة أبو بكر نفسه، أو في الوقت نفسه، فقد قال لأبي بكر عند ما دعاه للاشتراك في الاجتماع الذي قرر فيه غزو الشام: «والله ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قد والله أردت لقاءك لهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون حتى ذكرته الآن، فقد أصبت أصاب الله بك سبل الرشاد» «1» . ولما آلت إليه الأمور بعد وفاة الصديق، كانت رحى الحرب دائرة، والجيوش الإسلامية مشتبكة في معارك كبيرة على الجبهتين الفارسية والرومية، فواجه الموقف بكل وعي وعزم وتصميم ورجولة فائقة قل نظيرها في التاريخ. ومضى بالفتوحات إلى نهاية محددة أو فلنقل: إلى حدود جغرافية يمكن الدفاع عنها؛ ففي الشام واصلت الجيوش الإسلامية فتوحاتها إلى حدوده الشمالية حتى سلسلة جبال طوروس التي تفصله عن آسيا الصغرى، وغربا حتى سواحل البحر الأبيض المتوسط، وشرقا حتى حدوده مع العراق حيث التقت بقوات الفتح الإسلامي هناك، والحد الجنوبي للشام هو الجزيرة العربية، كما هو معروف. وتم فتح مصر، بل تجاوزتها جيوش الفتح إلى طرابلس الغرب، وهنا كانت وقفة عمر الحاسمة بضرورة التوقف، والاكتفاء بفتح مصر «2» ، التي كان فتحها ضرورة عسكرية لتأمين الفتوحات الإسلامية في الشام، ولم يكن ممكنا ولا مقبولا، لا من

_ (1) انظر فتوح الشام لمحمد بن عبد الله الأزدي (ص 2) . (2) ابن عبد الحكم وفتوح مصر (ص 172، 173) .

الخليفة عمر نفسه، ولا من قائد فتح مصر عمرو بن العاص؛ تجاهل أهمية مصر العسكرية والوقف دونها، ولو حدث ذلك لانتقدهما العسكريون وخطؤوهما. وفي العراق استقر الفاتح العظيم سعد بن أبي وقاص في المدائن عاصمة الأكاسرة من آل ساسان، بعد انتصاره الرائع عليهم في موقعة القادسية العظيمة، وهنا تصور عمر رضي الله عنه أن الخطر قد زال عن الدولة الإسلامية، باندحار جيوش الفرس والروم، ومن ثم فليس هناك داع للاستمرار في المعارك؛ فهذه البلاد التي فتحت بتلك السرعة، وإن انتزعت من الفرس والروم؛ فهي ليست بلادهم، فهي أرض عربية، ومعظم سكانها عرب، والفرس غرباء على العراق ومحتلون له، والروم غرباء على الشام ومحتلون له أيضا، ومشاعر السكان لم تكن ودية في العراق للفرس ولا في الشام للروم؛ لأسباب كثيرة. وفي ضوء ذلك يمكن أن نفسر ونفهم مقولة الإمبراطور هرقل اليائسة وهو يغادر أنطاكيا بعد انكسار جيوشه وهزيمتها الساحقة؛ خاصة في معركة اليرموك الخالدة فقد قال- والألم يعتصر قلبه على جهوده الضائعة التي بذلها في استرداد هذه البلاد من الفرس قبل سنوات قليلة-: «عليك يا سوريا السلام؛ ونعم البلد هذا للعدو» «1» . هذه رواية البلاذري لمقولة هرقل. أما بتلر فقد ذكرها بصيغة أخرى في كتابه «فتح العرب لمصر» ؛ نقلا عن المصادر البيزنطية، ولكنها تؤدي ذات المعنى؛ يقول بتلر: وعرف الإمبراطور أن بقاءه بالشام قد أصبح لا غناء فيه فرحل عنها- أنطاكيا- إلى القسطنطينية في البحر، في شهر سبتمبر (سنة 636 م) ، وقال إذ هو راحل: «وداعا يا بلاد الشام؛ وداعا ما أطول أمده» «2» ويقول بتلر معلقا على مقولة هرقل: «وكأننا بها تحمل ما كان يدور في نفسه من أن مجده الغابر ونصره الباهر قد انتهيا بعد الخذلان والعار، وأنه إذ يقولها ليودع عزه وبطولته» «3» . فلماذا قال هرقل هذه المقولة اليائسة التي تعبر عن فقدان الأمل نهائيّا في استرداد بلاد الشام من أيدي المسلمين؛ مع أن هذه البلاد ذاتها كان الفرس قد استولوا عليها؛ ثم استردها منهم هو نفسه منذ سنوات قليلة (622- 628 م) ؟ ليس هناك من تفسير معقول ومقبول لذلك

_ (1) فتوح البلدان (ص 142) . (2) بتلر- فتح العرب لمصر (ص 173) . (3) بتلر- فتح العرب لمصر (ص 173) .

سوى أن العاهل البيزنطي الكبير قد أدرك أن صلة القرابة بين العرب القاطنين في الشام من قبل، والعرب الفاتحين القادمين من الجزيرة العربية ستعمل عملها في استقرار الفتح الإسلامي في الشام، خاصة بعد أن يعرف عرب الشام ما يحمله لهم الإسلام من عزة وكرامة وبعد أن يتبينوا أن حركة الفتوحات الإسلامية قد حررتهم من السيطرة البيزنطية التي كانوا يبغضونها لأسباب كثيرة دينية وغير دينية، ومن ثم سيكون صعبا على الروم استرداد تلك البلاد. وربما يكون هذا هو ما فهمه الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، ورتب خططه المستقبلية على أساسه، فالمسلمون إذا عملوا على نشر الإسلام بين إخوانهم عرب الشام، ووضحوا لهم ما يحمله لهم من قيم العدل والحرية والمساواة فهنا يمكن أن تسهم قرابة الدم في استقرار للفتح والحكم الإسلامي، وعندئذ لن يحتاج المسلمون إلى فتوحات أو توسعات جديدة؛ لأن الإسلام ليس في حاجة إلى قوة عسكرية لينتشر، ولكنه دين ينتشر بقوة مبادئه وسماحته، فالقوة لا تستطيع أن تفرض الدين أبدا على القلوب والله تعالى يقول: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ولو كان استخدام القوة لنشر الإسلام واردا لكان في إمكان المسلمين- وقد انتصروا في كل المعارك انتصارات حاسمة- أن يجعلوا كل الشعوب المفتوحة مسلمة ولكن هذا لم يحدث، وإنما كل الذين أسلموا في تلك البلاد أسلموا طواعية، دون إجبار أو إكراه، ونتحدى أي مؤرخ أن يدلنا على حادثة واحدة أجبر فيها المسلمون أحدا على اعتناق الإسلام بالقوة. ويعرف الناس جميعا أن الإسلام قد انتشر في بلاد بعيدة جدّا عن موطنه الأصلي مثل جنوب شرق آسيا، لا عن طريق القوة، فلم يذهب جندي واحد إلى بلد مثل أندونيسيا لينشر الإسلام فيها؛ بل انتشر الإسلام هناك عن طريق التجار المسلمين الذين كانوا يذهبون بتجارتهم ويتعاملون بالصدق والأمانة، ثم يؤدون فروض ربهم من صلاة وصيام، وكان الناس يسألونهم عما يفعلون، فيشرحون لهم حقائق ومبادئ وشرائع الإسلام فأقبل الناس على اعتناقه طواعية وتحولت أندونيسيا بكاملها إلى الإسلام، وعدد شعبها الآن يقترب من عدد الأمة العربية مجتمعة؛ قل ذلك عن بقية البلاد في جنوب شرق آسيا، وفي أفريقيا شرقا وغربا، ونحن هنا نريد مثلا لا استقصاء وحصرا؛ لعل الذين يدّعون أن الإسلام انتشر بالسيف يكفون عن ترديد تلك الفرية. نعود إلى سياق الحديث السابق- بعد هذا الاستطراد الذي كان ضروريّا- فنلفت النظر إلى أن صلة القرابة بين عرب الجزيرة العربية الفاتحين، والعرب القاطنين

في كل من العراق والشام، لم تحدث تأثيرها في استقرار الفتوحات الإسلامية إلا بعد انتهاء المعارك، أما أثناء احتدامها فكانوا كلهم- تقريبا- مع الأعداء، فمن الواضح أن البيزنطيين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بالجيش البيزنطي وحده، بل كان عدد كبير من العرب يقاتل معهم، فقد قاتلوا معهم في معارك وادي عربة، وفي أجنادين، ودمشق، بل يقول إدوارد جيبون: إن جيش الروم في اليرموك كان يتكون من مائة وأربعين ألفا، كان منهم ستون ألفا من العرب، بقيادة جبلة بن الأبهم «1» . بل كانت تعليمات هرقل لجبلة أن يكون هو وقومه في المقدمة لمواجهة الجيوش الإسلامية، فقد قال له: كونوا في المقدمة فإن هلاك كل شيء بجنسه ولا يقطع الحديد إلا الحديد «2» . إذن كان عرب العراق عونا للفرس، وعرب الشام عونا للروم ضد المسلمين، بل يمكننا القول: إن عداء عرب الشام للإسلام والمسلمين منذ البداية كان من الأسباب المباشرة للصدام بين المسلمين والبيزنطيين. ولذلك فليس صحيحا ما ذهب إليه بعض الكتاب، مثل فيليب حتى من أن عرب الشام كانوا عونا للعرب الفاتحين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث قال: إن الفتح الإسلامي كان حركة قومية، وأن الفوز فيه كان للقومية العربية لا للدين الإسلامي «3» ، أرأيت شططا في القول أبعد من هذا؟ فهل كان المسلمون الفاتحون يفكرون في القومية العربية آنذاك؟ سبحانك ربي هذا بهتان عظيم، وكل هذه الأقوال هدفها تقليل الجهد الذي بذله المسلمون في الفتوحات الإسلامية. على كل حال ما يهمنا من شرح أوضاع العرب في الشام والعراق وموقفهم من الإسلام قبل وأثناء وبعد الفتوحات، هو أن نفهم موقف الخليفة عمر بن الخطاب من تلك الفتوحات الذي هو هدفنا من هذا البحث؛ لأن هذا الموقف في حد ذاته من أقوى الأدلة على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وأن الحرب لم تكن هدفا من أهداف الإسلام والمسلمين؛ وإنما كان وسيلة ضرورية لإزالة العوائق والسدود التي أقامها الفرس والروم ضد الإسلام، فلو زالت تلك العوائق لم يعد هناك مبرر للحرب أبدا،

_ (1) نقلا عن كتاب خالد بن الوليد لأغا إبراهيم أكرم (ص 433) . (2) فتوح الشام للواقدي (1/ 152) . (3) فيليب حتى- تاريخ العرب (ص 197) نقلا عن حركة الفتوحات الإسلامية للدكتور شكري فيصل (ص 45) .

وهذا ما تصوره عمر بن الخطاب عند ما أصدر أوامره الحاسمة للقادة المسلمين بعدم مواصلة الحروب، فقد قال لسعد بن أبي وقاص- بعد انتصاره العظيم في معركة القادسية، واستقراره في المدائن عاصمة الفرس عند ما طلب الإذن بالاستمرار في الفتوحات-: «لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد- أي: أرض العراق- إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال» «1» هذا موقف الخليفة في وضوح وحسم، رجل يعرف ما يريد ويقدر مسؤوليته عن سلامة المسلمين، التي هي عنده أفضل من الغنائم. وفي هذا السياق كان رفضه الحاسم أيضا أن يستمر عمرو بن العاص في الفتوحات في الشمال الأفريقي، وكان قد وصل إلى طرابلس الغرب- كما أشرنا آنفا- وأمره بالعودة إلى مصر. ثم كان رفضه الأشد حسما لطلب معاوية بن أبي سفيان وإلى الشام بالبدء في إنشاء أسطول لحماية شواطئ المسلمين في الشام ومصر من هجمات الأسطول البيزنطي؛ لأن الخليفة لم يكن يرى ضرورة لذلك في ذلك الوقت، ولم يقبل كل المبررات التي ساقها معاوية بشأن جزيرة قبرص وما كانت تمثله من تهديد خطير للمسلمين في الشام، وقال قولته الخالدة ردّا على مبررات معاوية: «والله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوت الروم» «2» . هذا هو الخليفة العظيم الذي يحرص على سلامة الرجال، ويخاف عليهم من الخطر فموقفه إذن موقف رجل يعلم ويدرك تماما خطورة هذه الأمور، ويرى من واجبه الحفاظ على سلامة الرجال، وليس جهلا منه بأمر البحر، فهو قد مر بتجربتين بشأن الغزو في البحر، كلتاها انتهت بكارثة بالنسبة للمسلمين، ولعل ذلك كان له أثر في موقفه من نزول المسلمين إلى البحر، فقد كان يرى أن الوقت لا زال مبكرا، والاستعدادات لم تكن كافية، وكان يريد أن يترك ذلك للمستقبل حيث يستعد المسلمون للنزول إلى هذا الميدان الخطير استعدادا جيدا. أما التجربتان اللتان مر بهما المسلمون بشأن الغزو في البحر فقد كانت الأولى هي غزوة العلاء بن الحضرمي لفارس من جزيرة البحرين، وبدون علم الخليفة، وكان

_ (1) تاريخ الطبري (4/ 28) . (2) تاريخ الطبري (4/ 259) .

ذلك (سنة 17 هـ) «1» ، فقد أراد العلاء بهذه المبادرة- ولا نريد أن نقول: المغامرة- أن يسطر نصرا مثل انتصارات سعد بن أبي وقاص، فإذا كان سعد قد فتح المدائن عاصمة آل ساسان، فلماذا لا يفتح هو مدينة اصطخر، وهي ليست أقل من المدائن في الأهمية؟. وعلى كل حال هذه منافسة شريفة بين الرجال ولا بأس بها، غير أن الخطورة فيما قام به العلاء أنه قام به دون علم أو إذن الخليفة، خاصة وأنه عرض المسلمين لكارثة، فقد مكر بهم الفرس وأحاطوا بهم بعد أن تركوهم ينزلون شواطئهم، وكادوا يفنونهم عن آخرهم لولا أن عمر بن الخطاب تدارك الأمر بسرعة وأنقذهم بنجدة سريعة من جند المسلمين الذين كانوا يرابطون في جنوب العراق، بقيادة عتبة ابن غزوان. وكان جزاء العلاء بن الحضرمي على تلك المخالفة العزل من ولاية البحرين، وتكليفه بأثقل الأمور إليه- حسب تعبير ابن الأثير- وهو أن يعمل تحت قيادة سعد ابن أبي وقاص «2» . التجربة الثانية حدثت (سنة 20 هـ) ، حيث كانت قوة من جيش الحبشة قد غزت سواحل اليمن من البحر؛ فأرسل عمر بن الخطاب حملة بحرية لتأديب الحبشة بقيادة علقمة بن مجزز المدلجي غير أن تلك الحملة هزمت وتحطمت مراكبهم، وأضيفت تجربة أخرى فاشلة إلى تجربة العلاء؛ لذلك الى عمر بن الخطاب على نفسه ألا يحمل أحدا في البحر أبدا «3» . ويبدو أن الحبشة- رغم العلاقات الطيبة التي كانت تربطها بالمسلمين منذ أيام الرسول صلّى الله عليه وسلم قد أصبحت ولأسباب لا نعرفها مصدر قلق للمسلمين؛ لدرجة أن الخلفاء الراشدين كانوا يحسبون حسابها في خططهم الحربية يروي البلاذري أنه عند ما قرر عمر بن الخطاب أن يخوض معركة نهاوند ضد الفرس، الذين نقضوا كل عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين، وأجبروا الخليفة على تغيير موقفه السابق بشأن عدم الاستمرار في الفتوحات، وبعد أن استشار المسلمين في ذلك خاصة وأن التقارير أخذت تتوالى عليه من العراق بأن الفرس قد تجمعوا حول الإمبراطور يزدجرد الثالث،

_ (1) الكامل في التاريخ لابن الأثير (2/ 538، 539) . (2) الطبري (4/ 81) . (3) المصدر السابق (4/ 112) .

وأنهم جمعوا جموعهم في نهاوند استعدادا للانقضاض على المسلمين في العراق؛ عندئذ أدرك عمر أن الانتظار قد يكون ضارّا جدّا بالمسلمين، وأن الجمود عند الموقف السابق قد يكون كارثة فقرر أن يكون زمام المبادرة بيده، ولم يتردد لحظة واحدة في مواجهة الفرس، وجهز لذلك جيشا كبيرا. لأن جولة جديدة من القتال ضد الفرس أصبحت ضرورة عسكرية حتى يعودوا إلى صوابهم؛ فأخذ يستشير الصحابة فيما ينبغي عمله لمواجهة هذا الموقف الخطير، فأشاروا عليه بأن يغزو أهل الشام من شامهم وأهل اليمن من يمنهم؛ يعني يحرك قوات من الشام وأخرى من اليمن للاشتراك في معركة نهاوند، لكن الخليفة الحصيف الحذر قال: أخاف إن أخليت الشام من الجنود أن تعود الروم إليها، وإن أخليت اليمن من الجنود أخاف أن تغلب الحبشة على ما يليها منها «1» . ولذلك حرك قوات من الكوفة والبصرة، وترك قوات الشام واليمن مرابطة حيث هي لحماية البلاد والعباد فهذه هي عظمة القيادة المسؤولة، المهم أن الحبشة أصبحت عامل ضغط خارجي ضد المسلمين، وكلما واتتهم الفرصة كانوا يغيرون على شواطئ اليمن والحجاز، فقد حدث ذلك منهم في عهد عمر، وعهد عثمان بن عفان الذي اضطر أن يشحن السواحل بالرجال والسلاح لصد هجمات الأحباش «2» . كانت هناك إذن أخطار خارجية تهدد الدولة الإسلامية، خاصة من جانب بيزنطة وكان على الخليفة العظيم أن يحسب لهذه الأخطار حسابها، ولذلك كانت وقفته الحاسمة من استمرار الفتوحات برّا وبحرا. والنظر إلى البلاد المفتوحة ومشاكلها وإداراتها إدارة سليمة، ونشر الإسلام والتمكين له في البلاد عن طريق المعاملة الحسنة والإدارة الحسنة والقدوة الحسنة، فهذه هي مهمة المسلمين الأساسية، وهذا ما كان عمر بن الخطاب يهدف إلى تحقيقه من عدم استمرار الفتوحات، وكان يعرف يقينا أنه بعد أن ينجح المسلمون في تثبيت أقدامهم في البلاد المفتوحة ويضربون للناس المثل العملي على سمو الإسلام ومبادئه وعدله وما يحمل لهم من عزة وكرامة وحرية، فإن الناس عندئذ سوف يقبلون على الإسلام من تلقاء أنفسهم، فمن ذا الذي يرفض العدل والحرية والمساواة

_ (1) انظر فتوح البلدان للبلاذري (ص 300) . (2) ابن أعثم الكوفي كتاب الفتوح (2/ 116، 117) .

والعزة والكرامة؟!. فعمر بن الخطاب عند ما عارض قادته في الاستمرار في الفتوحات كان يتصرف كرجل دولة مسؤول، يعرف تماما ماذا يريد وماذا يقدر عليه، ولم يكن مرتجلا لسياسته ولا مترددا- حاشا لله- كما تظهره بعض الروايات المتهاوية، مثل رواية استشارته لعمرو بن العاص عن البحر والسؤال عن أحواله، ومثل تردده في فتح مصر من البداية، والقصة الضعيفة التي تقول: إنه أرسل لعمرو بن العاص رسالة، وقال له فيها: إذا وصلك كتابي هذا قبل أن تدخل أرض مصر فارجع ولا تدخلها وإن وصلك وقد دخلت فلا ترجع. وأن عمرو وصله الكتاب قبل أن يصل إلى حدود مصر، ولكنه لرغبته القوية في فتح مصر لم يفتح الكتاب إلا بعد أن تجاوز العريش ودخل في أرض مصر. وأشهد على ذلك لئلا يعاقبه الخليفة على مخالفة أوامره. هذه الرواية وأمثالها تدخل في باب الحكايات؛ لأن فتح مصر ليس أمرا سهلا حتى يؤخذ بهذه البساطة، بل عملا كبيرا وكان ضرورة عسكرية لتأمين الفتوحات في الشام. وترك مصر في أيدي الروم وقد انسحب إليها بقايا الجيش البيزنطي المنهزم في فلسطين يكون خطرا على المسلمين. ولو لم يفتحوا مصر لكانوا قد ارتكبوا خطأ كبيرا؛ وهم أعقل وأحصف من أن يقعوا في مثل هذا الخطأ الجسيم. ولذلك فتح مصر تم باتفاق تام بين الخليفة عمر بن الخطاب وقائده العبقري عمرو ابن العاص، بل إن ابن عبد الحكم يروي عن الليث بعد سعد أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر عمرو بن العاص بالتوجه إلى مصر لفتحها، وكتب له: «أن اندب الناس إلى السير معك إلى مصر؛ فمن خف معك فسر به» «1» . وهذه الرواية تتفق مع تفكير عمر بن الخطاب ورؤيته للفتوحات؛ وتتفق أيضا مع سير الأحداث ويقبلها العقل، أما الرواية التي أشرنا إليها منذ قليل؛ فيجب رفضها تماما. وإذا كان علماء الحديث لا يقبلون الحديث الذي يخالف متنه مقررات الشريعة الإسلامية ومقاصدها العليا؛ فنحن بالقياس نرفض روايات التاريخ التي لا تتفق مع العقل والمنطق وسياق الحوادث والنظرة الكلية للأمور. ملاحظة أخيرة نسجلها ونحن في ختام هذا البحث؛ هي أننا نلفت نظر كل من يتحدث أو يكتب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن يأخذ في الاعتبار الظروف التي

_ (1) فتوح مصر (ص 57) .

كان يعيشها الرجل؛ ففي الوقت الذي كان يصارع دولتين كبيرتين؛ بل أكبر دول عصرهما؛ وهما فارس والروم؛ وقد وفقه الله إلى القضاء على أولاهما ووضع حدّا لغطرستها وعتوها وجبروتها على العباد، وحجم الثانية وأخذ منها أعز مستعمراتها في الشرق وأغناها الشام ومصر، وأشرف باقتدار على الحروب، ولم يستطع أي باحث أن يخطئه في قرار من قراراته الكثيرة، وفي الوقت نفسه كان يكمل بناء وتأسيس الدولة الإسلامية العظيمة، التي أرساها الرسول صلّى الله عليه وسلم وتابعه في تأسيسها الصديق رضي الله عنه، ويرسي دعائم مؤسساتها السياسية والإدارية، حتى تركها أقوى وأعظم دولة في عالمها كل ذلك في عشر سنين من عمر الزمن. لقد كان عمر عبقريّا لم يفر فري أحد؛ كما أخبر بذلك الصادق المعصوم صلّى الله عليه وسلم ومن يريد أن يعرف عبقرية عمر السياسية والإدارية فليرجع إلى السفر الضخم القيم الذي ألفه الأستاذ الدكتور/ سليمان الطهاوي عن عمر بن الخطاب. وعنوانه «عمر ابن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة- دراسة مقارنة» «1» .

_ (1) ويقع الكتاب في (512) صفحة من القطع الكبير، نشر دار الفكر العربي.

البحث الثامن دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية من كتاب"مصر والإسلام"

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث الثامن] دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية من كتاب «مصر والإسلام»

* تمهيد:

دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية من كتاب مصر والإسلام * تمهيد: عند ما خطا عمرو بن العاص خطواته الأولى على أرض مصر فاتحا في نهاية (عام 18 هـ/ 639 م) كانت مصر آنذاك مستعمرة بيزنطية، وكان الاستعمار البيزنطي لمصر هو الحلقة الأخيرة من سلسلة الاستعمار الأجنبي لها، الذي دام نحو اثني عشر قرنا من الزمان؛ فقد احتلها الفرس في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، ودام احتلالهم لها زهاء قرنين؛ أي: إلى الثلث الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، حيث غزاها الإسكندر المقدوني في (سنة 332 قبل الميلاد) إلى (سنة 30 قبل الميلاد) ، وبعد وفاة الإسكندر حكمها البطالمة من (سنة 322 قبل الميلاد) ، ثم خلفهم الرومان ثم البيزنطيون إلى أن جاء عمرو بن العاص وفتحها وخلصها من ظلم البيزنطيين وجبروتهم. ولا يتسع المقام هنا للحديث عن مظالم الحكم الروماني البيزنطي لمصر، وسيجد القارئ الكثير من الحديث عن هذا الحكم ومساوئه في غير هذا البحث من هذا الكتاب التذكاري الذي ينشره المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمناسبة مرور أربعة عشر قرنا على الفتح الإسلامي لمصر. فعمرو بن العاص إذن قد خلّص مصر وحرّر أهلها من حكم بيزنطي بغيض كانوا هم يكرهونه أشد الكره، ولذلك رحّبوا بالفتح الإسلامي لبلادهم، كما تؤكد ذلك المصادر والمراجع قديمها وحديثها «1» ، ونظروا إلى العرب الفاتحين على أنهم محررون لهم، وهذا هو الذي جعل مهمة عمرو بن العاص سهلة إلى حد كبير؛ لأن معاركه في مصر وعلى أرضها لم تكن مع شعب مصر ذاته، وإنما مع قوة احتلال بيزنطي مكروه إلى أبعد حدود الكره من ذلك الشعب، وكان عمرو بن العاص يعرف ذلك حق المعرفة، ولذلك جاء إلى مصر على رأس قوة صغيرة نسبيّا- أربعة آلاف جندي في البداية، ثم تزايد العدد إلى أن وصل إلى اثني عشر ألفا-

_ (1) ابن عبد الحكم- فتوح مصر وأخبارها. تحقيق محمد صبيح (ص 49) . وانظر كتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف توماس آرنولد، ترجمة د. حسن إبراهيم حسن وآخرين (ص 123) .

قابل بهذا الجيش الصغير جيوش البيزنطيين التي كانت مرابطة في مصر وقوامها مائة ألف جندي «1» . عدا الفلول التي انهزمت في الشام ولجأت إلى مصر، وانتصر على كل هذه الأعداد الكبيرة؛ لأنها فقدت روح القتال، وهبطت معنوياتها إلى الحضيض، ولم تستطع الصمود في أية معركة أمام الجيش الإسلامي، بدا من حصار الفرما وسقوطها، ومرورا بمعارك بلبيس وأم دنين وعين شمس، وحصن بابليون، ثم معاركه في الدلتا حتى فتح الإسكندرية (سنة 21 هـ/ 642 م) واستغرق هذا الفتح نحو ثلاث سنوات «2» . وكان أسهل فتح حققه العرب في بلد من البلاد، بسبب ترحيب المصريين بهم ومساعدتهم لهم، وقد كانوا عند حسن ظن المصريين بهم، فأحسنوا معاملتهم واحترموا عقيدتهم، ووفروا لهم حرية الدين التي افتقدوها في العهد البيزنطي، وأعادوا لهم رأس كنيستهم؛ البطريرك بنيامين، الذي كان مطاردا ومحكوما عليه بالإعدام من السلطات البيزنطية، لكن عمرو بن العاص لم يعده إلى كنيسته معززا مكرّما فقط؛ وإنما جعله من أقرب المقربين إليه، بل مستشاره في شؤون مصر الإدارية والمالية. كيف نشأت فكرة فتح مصر في ذهن عمرو بن العاص، وما هي البواعث والدوافع الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي جعلته يقتنع بضرورة فتحها وضمها للدولة الإسلامية وطرد البيزنطيين منها، وكيف نجح في إقناع الخليفة عمر بن الخطاب بفكرته حتى وافقه عليها، وكيف كانت وقائع ذلك الفتح العظيم ونتائجه؟ كل ذلك تجيب عنه أبحاث أخرى في هذا الكتاب. أما هذا البحث فقد خصص لموضوع محدد؛ وهو دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية وبناء الأساطيل الحربية، لا لمصر وحدها، بل لبلاد الشام وبلاد المغرب العربي الإسلامي؛ لأن مصر أصبحت منذ الفتح الإسلامي هي حصن الإسلام ورباطه في جناحه الغربي، أي حارسة أرضه والذائدة عن حياضه؛ وهذا أمر قد أخبر عنه النبي صلّى الله عليه وسلم قبل الفتح بسنوات؛ فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر؛ فاتخذوا فيها جندا كثيفا. فذلك

_ (1) ابن عبد الحكم- المصدر السابق (ص 56) . (2) انظر عن هذه المعارك تاريخ الطبري (4/ 104) وما بعدها. وانظر حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول للدكتور شكري فيصل (ص 118) وما بعدها.

الجند خير أجناد الأرض» فقال أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: «لأنهم وأزواجهم في رباط إلى اليوم القيامة» «1» . فكلما ألمّ بالإسلام خطر داهم كانت مصر هي المنقذ، قد تكرر ذلك كثيرا، فمصر هي التي تصدّت للصليبيين، وضربتهم ضربتها القاضية في حطين، على أرض فلسطين، على أيدي البطل العظيم؛ صلاح الدين الأيوبي (سنة 583 هـ/ 1187 م) «2» ثم تابع حكام مصر بعده، سواء من أسرته أو من المماليك محاصرة الصليبيين ومطاردتهم، حتى طهّروا منهم أرض المشرق الإسلامي في نهاية المطاف. ومصر هي التي تصدّت للهجمة المغولية المتوحشة، التي داهمت العالم الإسلامي من المشرق، واكتسحته اكتساحا، وأحدثت فيه من المجازر الوحشية ما لم يعرفه العالم قبل ذلك قط، وأعملت التخريب والتدمير في مدنه العامرة، بدا من سمرقند وبخارى إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وبعدها مدن الشام العامرة، ولم يستطع أحد أن يوقف هذا السيل الوحشي المدمر إلا جيش مصر، في عين جالوت، على أرض فلسطين أيضا بقيادة السلطان قطز والقائد الفذ الظاهر بيبرس (سنة 658 هـ/ 1260 م) «3» . ومصر هي التي تصدّت وتتصدّى للهجمة الصهيونية المعاصرة، المدعومة بكل جبروت أمريكا وأوروبا العسكري والسياسي، ورغم ذلك فقد قطع جيش مصر البطل الذراع الصهيونية وقهر جيشها الذي قيل عنه: إنه لا يقهر. فمصر إذا بموقعها الاستراتيجي الفريد، ورصيدها الحضاري العظيم، وشعبها الحي المكافح والمتسامح في نفس الوقت، مصر بهذا كله لها دور ومكانة لا تستطيع أبدا أن تتخلى عن هذا الدور في الدفاع عن الإسلام؛ لأن هذا هو ما عناه الرسول صلّى الله عليه وسلم عند ما أوصى أصحابه أن يتخذوا فيها جندا كثيفا بعد الفتح، ليرابط فيها حارسا للإسلام ومدافعا عنه ضد كل من يحاول الاعتداء على مشرقه أو مغربه، وقول الرسول هذا عن مصر يدل على أنه كان واثقا كل الثقة من ذلك الفتح قبل وقوعه بسنوات؛ حتى المقوقس نفسه الذي كان يحكم مصر، والذي كتب إليه النبي صلّى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، مع أنه لم يسلم وضنّ بملكه، وهذا تعبيره هو نفسه، حيث قال لحاطب بن أبي بلتعة-

_ (1) السيوطي- حسن المحاضرة (1/ 14، 15) طبعة الحلبي، القاهرة. (2) د. سعيد عبد الفتاح عاشور- الحركة الصليبية (2/ 625) وما بعدها. (3) ابن كثير- البداية والنهاية (13/ 220) وما بعدها.

* بداية التفكير في إنشاء قوة بحرية إسلامية:

حامل رسالة النبي إليه، وبعد أن ذكر أشياء من صفات النبي صلّى الله عليه وسلم-: «القبط لا يطاوعوني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضن بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده، حتى تظهر على من ههنا، فارجع إلى صاحبك. فقد أمرت له بهدايا وجاريتين؛ أختين، وبغلة من مراكبي ... إلخ» «1» . فالمقوقس يعترف بصريح العبارة أن فتح المسلمين لمصر أمر محتم ولا مناص منه، والمسألة مسألة وقت، لا أكثر، ومع ذلك رفض الإسلام ضنّا بملكه الدنيوي، وهذا هو ما علق به النبي صلّى الله عليه وسلم على موقفه هذا عندما عاد إليه سفيره حاطب بن أبي بلتعة وقصّ عليه القصة، فقد قال: «ضنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه» «2» . وخلاصة القول في فتح العرب لمصر أنهم حرّروا شعبها من استعباد البيزنطيين وظلمهم، وعمّروا البلاد بعد أن خرّبها البيزنطيون، حتى الكنائس والأديرة التي دمروها أصلحها الفاتح العظيم؛ عمرو بن العاص، ومنح المصريين الذين بقوا على نصرانيتهم حرية دينية لم يعرفوها طوال تاريخهم المسيحي كله «3» . * بداية التفكير في إنشاء قوة بحرية إسلامية: أول من أدرك ضرورة امتلاك المسلمين قوة بحرية تحمي شواطئهم في مصر والشام، ضد هجمات الأساطيل البيزنطية هو أمير الشام؛ معاوية بن أبي سفيان «4» . والذي جعل معاوية يدرك هذا ويفكر فيه تجربته العملية أثناء فتح سواحل الشام، ومدنه الحصينة التي لم تكن مجرد موانئ بحرية، بل كانت ترسانات حربية بيزنطية، من طرسوس شمالا حتى غزة جنوبا، فقد عانى معاوية عناء شديدا في فتح تلك الموانى، التي كانت تأتيها الإمدادت تباعا من القسطنطينية، وغيرها من جزر البحر الأبيض المتوسط؛ التي كانت كلها تحت حكم البيزنطيين- العدو الأول والأخطر للمسلمين آنذاك- ولما أتم معاوية فتح مدن سواحل الشام كلها أدرك ببصيرة عسكرية نافذة، ووعي سياسي كبير أنه بدون أن يمتلك المسلمون قوة بحرية فعالة تحمي تلك الشواطئ

_ (1) ابن سيد الناس- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (2/ 338) . (2) ابن سيد الناس- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (2/ 338) . (3) الدعوة إلى الإسلام، مرجع سابق (ص 123) . (4) د. إبراهيم أحمد العدوي- الأساطيل العربية في البحر الأبيض المتوسط، مكتبة نهضة مصر (ص 7) .

* معارضة عمر بن الخطاب لمشروع معاوية:

من هجمات الأساطيل البيزنطية التي كانت تسيطر سيطرة كاملة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، الذي كان يدعى بحر الروم، بدون امتلاك المسلمين قوة بحرية فإن كل الجهود التي بذلوها في فتح الشام وشواطئه قد تذهب أدراج الرياح. * معارضة عمر بن الخطاب لمشروع معاوية: اقتنع معاوية- ومعه كل الحق- بفكرته، وعرضها على الخليفة عمر بن الخطاب وشرح له أهميتها، وجسّم له الخطر البيزنطي تجسيما مخيفا، وقال له عن جزيرة قبرص بالذات- والتي كانت قاعدة بحرية بيزنطية متقدمة في مواجهة شواطئ الشام-: «يا أمير المؤمنين إن أهل حمص يسمعون نباح كلابها وصياح دجاجها» «1» . معنى هذا أنها قريبة جدّا من شواطئنا وتستطيع الأساطيل البيزنطية أن تهاجمنا في أي وقت، وفي أسرع وقت، وتفعل بنا ما تشاء. ولكن على الرغم من كل هذا فقد رفض عمر الفكرة رفضا قاطعا، ولم يتزحزح عن موقفه قط، وربما مما زاده إصرارا على الرفض ما جاء من عمرو بن العاص في وصف البحر، عند ما استطلع رأيه في الأمر، كما تروي مصادر التاريخ «2» فقد جاء وصف عمرو بن العاص للبحر مخيفا ومفزعا فزاد من مخاوف عمر بن الخطاب على المسلمين من أهوال البحر وأخطاره، لذلك رد على معاوية بقوله: «والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا، وتالله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوته الروم، فإياك أن تعرض لي وقد تقدمت إليك» «3» . استقر رأي عمر بن الخطاب على رفض مشروع معاوية رفضا قاطعا؛ ولا يظنّن أحد أنه لم يكن مدركا للخطر الذي كان يدركه معاوية، بل كان يحكمه حرصه الشديد على أرواح المسلمين وسلامتهم، ومسؤوليته عنهم التي تحتم عليه أن يجنبهم أهوال البحر وأخطاره، لذلك كان قوله لمعاوية: «لمسلم واحد أحب إليّ مما حوته الروم» ثم أمر آخر كان عمر مقتنعا به في قرارة نفسه؛ وهو أن العرب كانوا يومئذ يفتقرون إلى الخبرة البحرية الكافية التي تمكنهم من بناء أساطيل بحرية يستطيعون بها منازلة الأساطيل البيزنطية العتيدة ذات الخبرة البحرية الطويلة، فالوقت من وجهة نظر عمر لم يحن بعد لنزول المسلمين إلى البحر محاربين، وسيأتي- في المستقبل لا

_ (1) تاريخ الطبري (4/ 258) . (2) تاريخ الطبري (4/ 258) . (3) المصدر السابق (4/ 259) .

* التجربة الأولى:

محالة- الوقت الذي تتوفر لهم فيه الخبرة وعندها فلا مانع. وعمر بن الخطاب كان في إصراره على رفض مشروع معاوية مدفوعا بتجربتين فاشلتين للمسلمين في الغزو في البحر، وهذا الفشل في كلتا التجربتين قوّى عنده يقينه بأن الوقت لا زال مبكرا على نزول المسلمين البحر. * التجربة الأولى: تلك التي قام بها العلاء بن الحضرمي، الذي كان عاملا لعمر بن الخطاب على البحرين، حين غزا فارس من البحر بقوة بحرية دون إذن من عمر بن الخطاب، وتقدم إلى مدينة اصطخر- برسو بوليس- وأراد أن يحقق نصرا فذّا يكون له دويّ، ينافس به سعد بن أبي وقاص، بطل القادسية، وفاتح العراق؛ ولكنه تعرض لكارثة، فقد حاصره الفرس، بعد أن نزل إلى البر، وقطعوا عليه خط الرجعة، وكاد يهلك هو ومن معه من الجنود، ولم تنقذه إلا قوة سريعة جاءته من العراق بقيادة عتبة بن غزوان، بأمر من عمر بن الخطاب، لما علم بما صنعه العلاء وما عرض نفسه وجنوده من البلاء «1» ، ولم يفلت العلاء من عقاب عمر بن الخطاب على تسرعه وتعريضه المسلمين لهذا الخطر فقد عزله من إمارة البحرين، وكلفه بأثقل الأمور عليه حسب تعبير ابن الأثير «2» ؛ حيث جعله تحت قيادة سعد بن أبي وقاص. كانت هذه التجربة ماثلة في ذهن عمر بن الخطاب، عند ما عرض عليه معاوية مشروعه، ولذلك كان مما قاله له: «فإياك أن تعرض لي- أي تفاتحني في الأمر مرة أخرى- وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء، ولم أتقدم إليه في مثل ذلك» «3» . * التجربة الفاشلة الثانية: إنه في (سنة 20 هـ/ 640 م) هاجمت قوة بحرية من الحبشة شواطئ اليمن والحجاز، فأرسل عمر بن الخطاب حملة بحرية لتأديبهم بقيادة علقمة بن مجزز، إلا أن هذه الحملة منيت بخسارة فادحة، وغرقت السفن كلها «4» . فبسبب هذه الكوارث المتتابعة كان تصميم عمر بن الخطاب على عدم خوض غمار البحار في ذلك الوقت المبكر.

_ (1) ابن الأثير- الكامل في التاريخ (2/ 538، 539) . (2) ابن الأثير- الكامل في التاريخ (2/ 538، 539) . (3) تاريخ الطبري (4/ 259) . (4) المصدر السابق (4/ 112) .

* معاوية ينجح في أخذ موافقة عثمان بن عفان:

* معاوية ينجح في أخذ موافقة عثمان بن عفان: ظل عمر بن الخطاب ثابتا على موقفه المعارض بشدة للبدء في بناء أسطول بحري عسكري إسلامي إلى أن لقي ربه؛ رضي الله عنه، وظل معاوية ثابتا على رأيه في ضرورة البدء فورا في إنشاء هذا الأسطول. فلما توفي عمر وآلت الخلافة إلى عثمان بن عفّان في نهاية (سنة 23 هـ) جدّد معاوية مطالبته بالبدء في إنشاء الأسطول، وفاتح عثمان في الأمر، لكن عثمان لم يستجب له بسهولة، بل قال له: «قد شهدت ما رد عليك به عمر رحمه الله، حين استأمرته في غزو البحر» «1» أي: إن عثمان كان يعرف رأي عمر في القضية، وهو ليس أقل من عمر حرصا عل سلامة المسلمين. غير أن معاوية لم ييأس؛ بل واصل إلحاحه على عثمان حتى ظفر منه بالموافقة المشروطة في نهاية المطاف، وهي أن يستعد للأمر استعدادا جيدا، وألا يكره أحدا من المسلمين على الغزو في البحر، وأن يكون هو نفسه على رأس الغزاة، ومعه امرأته، فقد قال له: «فإن ركبت البحر ومعك امرأتك، فاركبه مأذونا لك، وإلا فلا» «2» وهذا الشرط الذي أكد عليه الخليفة عثمان بن عفان، وهو أن يأخذ معاوية امرأته معه عند ما يغزو في البحر كان يقصد منه أنه إذا أخذ معه امرأته فإنه سوف يستبسل في القتال، حفاظا على عرضه. وهذه عادة عربية قديمة، فقد كان اصطحابهم لزوجاتهم في القتال بمثابة دافع إضافي للاستبسال في القتال؛ وذلك من شدة حرص العربي على عرضه، فإذا أدرك أن عرضه معرض للخطر فإنه عندئذ يفضل الموت على الحياة. على كل حال ظفر معاوية أخيرا بموافقة الخليفة على البدء في إنشاء أسطول إسلامي. فبدأ على الفور، وفي غضون سنوات قليلة ظهر الأسطول الإسلامي، وأصبح للمسلمين قوة بحرية هائلة، حققت أمجادا وانتصارات باهرة. * الارتباط الأمني بين مصر والشام: إذا كانت الدعوة إلى بناء قوة بحرية إسلامية جاءت من معاوية بن أبي سفيان، أمير الشام إلا أن الدور الأهم في بناء تلك القوة اضطلعت به مصر، ومعاوية نفسه

_ (1) البلاذري- فتوح البلدان (ص 181) . (2) البلاذري- فتوح البلدان (ص 181) .

كان يعرف أنه بدون التعاون بين الشام ومصر؛ فلن يكتب لمشروعه أن يرى النور ويصبح حقيقة واقعة، والشام ومصر آنئذ أجزاء من الدولة الإسلامية، والتعاون بينهما لن تكون أمامه عوائق. لا سيما في ظل حكم أميرين من طراز معاوية أمير الشام، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، أمير مصر، وكانت نتيجة ذلك التعاون عظيمة وباهرة، فقد نشأت قوة بحرية إسلامية هائلة، أثبتت وجودها بسرعة فائقة، وحققت انتصارات باهرة على البيزنطيين، وانتزعت منهم جزيرة قبرص (سنة 33 هـ) «1» وحققت عليهم انتصارا حاسما في موقعة ذات الصواري (سنة 34 هـ) . وأخذ الأسطول الإسلامي ينتزع السيادة على البحر الأبيض المتوسط من البيزنطيين، ونجح في ذلك حتى غدا ذلك البحر بحرا إسلاميّا لعدة قرون تالية. وقصة التعاون بين الشام ومصر تؤكد الارتباط القوي بين أمن مصر وأمن الشام، فأية قوة تمتلك مصر لا تكون آمنة إذا كانت الشام في يد قوة معادية، وهذه حقيقة اكتشفها الفراعنة منذ وقت مبكر، وأول من أدركها الفرعون تحتمس الثالث عند ما طارد الحيثيين وانتصر عليهم في معركة مجدو (سنة 1479 م) ، فإنه رفع العلم المصري عند شط الفرات في أقصى شمال شرق الشام، وقال هذه حدود مصر الشرقية «2» . وكذلك الحال بالنسبة للشام، لن تكون آمنة إذا كانت مصر في يد قوة معادية، وليس سرّا أن عمرو بن العاص عند ما فكر في فتح مصر كان يرمي من وراء ذلك إلى تأمين الوجود الإسلامي في الشام، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. وطوال مراحل التاريخ الإسلامي أدرك حكام المسلمين ضرورة الوحدة بين الشام ومصر. فعند ما حدث الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان- أمير الشام- كان أول ما فكر فيه هذا الأخير هو ضم مصر إلى دولته. وكان نجاحه في ذلك مفتاح نجاحه في الوصول إلى الخلافة، وبناء دولة أموية أصبح لها في التاريخ الإسلامي شأن كبير، وكذلك الحال عند ما تعرضت الدولة الأموية للزوال بعد وفاة يزيد بن معاوية (سنة 64 هـ) وكادت تضيع، وعندئذ ظهر مروان بن الحكم بن

_ (1) غزا معاوية جزيرة قبرص بقوة بحرية شامية مصرية مشتركة (سنة 28 هـ) ، ومع أنه انتصر وامتلك الجزيرة إلا أنه انسحب منها بشروط، فلما أخل أهل قبرص بالشروط غزاها مرة أخرى (سنة 33 هـ) وضمها إلى الدولة الإسلامية، ونقل إليها اثني عشر ألف أسرة من الشام، أسكنهم فيها وبنى لهم المساجد والأسواق ... إلخ. (2) د. شكري فيصل- حركة الفتح الإسلامي في القرن الأول (ص 110) .

أبي العاص، واستطاع أن يلم شمل الأمويين من جديد، فبايعوه بالخلافة، واستهل عهده بالإنتصار على أنصار عبد الله بن الزبير في معركة مرج راهط الشهيرة «1» ، واستطاع استعادة الشام، كان أول ما فكر فيه بعد ذلك هو ضم مصر إلى الشام، انطلاقا من فهم استراتيجي سليم، وهو أنه إذا نجح في ضم مصر إلى الشام فلن تستطيع قوة أن تقف في طريقه وهذا ما حدث بالضبط، فبعد أن نجح في استرداد مصر من عبد الله بن الزبير، كان ذلك مفتاح نجاح خليفته وابنه عبد الملك في دحر قوات عبد الله بن الزبير، بل دحر كل خصومه في العراق وبلاد فارس والحجاز، وإعادة توحيد الدولة الإسلامية (سنة 73 هـ) . حتى وصفه المؤرخون بأنه المؤسس الثاني للدولة الأموية. وهكذا أخذت هذه التجارب تؤكد أن التحام الشام ومصر في دولة واحدة يجعلها قوة كبيرة ذات تأثير خطير على مجريات الأمور في الشرق كله. فصلاح الدين الأيوبي نجح في الانتصار على الصليبيين في حطين وما بعدها؛ لأنه تمكن من توحيد مصر والشام تحت حكمه، وكان بدوره مدركا لأهمية ذلك، ولم يبدأ عمله ضد الصليبيين إلا بعد أن تمكن من ضم الشام إلى دولته، وعلى خطاه سار المماليك في مقاومة الصليبيين والمغول، وانتصروا عليهم، وطهروا أرض الإسلام منهم. وأعداء الأمة العربية والإسلامية يدركون ذلك جيدا فعندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا في (22 فبراير سنة 1958 م) فيما عرف بالجمهورية العربية المتحدة؛ وعندئذ أدركت القوى الاستعمارية الغربية أن الخطر أصبح وشيكا على صنيعتهم إسرائيل التي زرعوها في بلادنا وخططوا لبقائها. وقالوا: إن إسرائيل أصبحت بين كسارة البندق؛ سوريا من الشمال ومصر من الجنوب. لذلك لم يهدأ لكل القوى المعادية للعروبة والإسلام بال إلا بعد أن تمكنوا بكل الوسائل من فصل سوريا عن مصر في (28 سبتمبر سنة 1961 م) . هذه هي عبر التاريخ ودروسه عن الارتباط الأمني الوثيق بين الشام ومصر. فالبيزنطيون أنفسهم كانوا مدركين لأهمية الارتباط بين الشام ومصر، وهما تحت حكمهم، خاصة في الشؤون البحرية «فكان التقسيم الإداري للدولة البيزنطية قبل ظهور الإسلام يجمع بين الشام ومصر في العمليات البحرية، ويقضي بتعبئة أساطيلهما معا لإخضاع العناصر التي تشق عصا الطاعة على السلطات البيزنطية، في

_ (1) تاريخ الطبري (5/ 535) وما بعدها.

* دور الصناعة في مصر وأثرها في إنشاء الأساطيل الإسلامية

أي بلد من البلاد التابعة لها في حوض البحر الأبيض المتوسط، وفضلا عن ذلك ربطت العوامل الطبيعية بين مصر والشام في الشؤون البحرية، وجعلت كلّا منهما لا تستغني عن الآخرى.. ولكن في ظل الإسلام انتظمت العلاقات بينهما على أساس التعاون لما فيه نصرة الإسلام، ولا سيما أمام عدوهم المشترك من البيزنطيين» «1» . * دور الصناعة في مصر وأثرها في إنشاء الأساطيل الإسلامية كانت مصر مركزا من مراكز صناعة السفن الحربية أثناء الحكم البيزنطي لها، ولأهلها خبرة طويلة في هذا الميدان، ومن المراكز الهامة: دار الصناعة في الإسكندرية ودمياط ورشيد وتنيس والقلزم- السويس- ودار الصناعة اسم للمكان المعد لإنشاء السفن، والعرب هم أول من استعمل هذه التسمية، وعنهم أخذها الأوربيون بعد اتصالهم بهم في الأندلس، وأثناء الحروب الصليبية في الشرق. فأطلق الإيطاليون على دار الصناعة اسم DARSENA ,ARSENALE: وأطلق عليها الأسبانARSENAL. هذه الدور المخصصة لصناعة السفن، والتي كانت منتشرة في مصر على شواطئ البحرين- الأحمر والأبيض المتوسط- هي التي اضطلعت بمهمة بناء الأساطيل البحرية الإسلامية، لا في مصر وحدها؛ بل في مصر والشام وبلاد المغرب، وكانت هذه الدور تمثل كنزا ثمينا للعرب المسلمين وهم بصدد بناء قوة بحرية تنازل الأساطيل البيزنطية العتيدة في البحر الأبيض المتوسط. وقد عوضت الخبرات المصرية في هذا الميدان ما كان يفتقر إليه العرب في مطلع عهدهم. فالعرب وإن كانوا يفتقرون إلى الخبرة اللازمة لبناء السفن الحربية فإنهم كانوا يمتلكون الشجاعة والواقعية للاعتراف بذلك، وفي الوقت نفسه كان لديهم الاستعداد للتعلم من الآخرين كل ما هم في حاجة إليه. وقد تعلموا من أبناء البلاد المفتوحة كثيرا من الأشياء التي لم يكونوا يجيدونها، وأبناء البلاد المفتوحة أنفسهم أقبلوا على خدمة العرب الفاتحين بكل ما أوتوا من قوة نتيجة لسياسة التسامح والعدل وإطلاق الحريات، وبصفة خاصة الحرية الدينية التي نعموا بها تحت الحكم العربي. يقول ابن خالدون في هذا الصدد: «فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم، وصارت أمم البحر خولا لهم «2» ، وتحت أيديهم، وتقرّب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ

_ (1) د. إبراهيم العدوي- مصر الإسلامية (ص 245، 246) . (2) خولا لهم أي: في خدمتهم، أخذها ابن خالدون من حديث الرسول صلّى الله عليه وسلم الذي يقول فيه عن الرقيق: «إخوانكم خولكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فإن كلفتموهم فأعينوهم» .

* دار الصناعة في الإسكندرية:

صناعته، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما، وتكررت ممارستهم البحر وثقافته، واستخدموا بصراء بها، فتاقت نفوسهم إلى الجهاد فيه، وأنشؤوا فيه السفن والشواني، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأمطوها العساكر المقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى حافته» «1» . كانت مصر أول بلد استفاد العرب الفاتحون من خبرته في بناء أساطيلهم البحرية «2» ولم يدخر أبناء مصر- من أسلم منهم ومن بقي على مسيحيته- وسعا في تقديم خبرتهم للعرب الفاتحين، وفي التفاني في خدمتهم لما رأوه منهم من تسامح وحسن معاملة. * دار الصناعة في الإسكندرية: كانت الإسكندرية عاصمة مصر منذ أنشأها الإسكندر الأكبر المقدوني (سنة 332 ق. م) إلى الفتح الإسلامي لمصر. وكانت من أكبر دور صناعة السفن لا الحربية فقط، بل التجارية أيضا؛ لأنها كانت من أكبر أسواق العالم، وأكثر ثغوره ازدحاما وحركة في تجارة القمح والكتان والورق والزجاج، وغير ذلك من منتجات البلاد الزراعية والصناعية. وكان تصدير هذه المنتجات يحتاج إلى أسطول من المراكب التجارية لنقلها إلى شتى موانئ البحرين الأحمر والأبيض المتوسط. وإلى جانب المراكب التجارية كانت مصر تصنع السفن الحربية للدولة البيزنطية، التي كان بعضها يسع ألف رجل، وهي السفن التي كانت تشبه ما يطلق عليه البوارج في العصر الحاضر، وهناك سفن كان حجمها أصغر، تسع الواحدة منها مائة رجل، ويمكن تسمية ذلك النوع الصغير بالطرادات «3» . كان من الطبيعي وقد انعقد عزم العرب على بناء أساطيلهم البحرية أن يهتموا بالقائم من دور الصناعة، وبصفة خاصة في مصر، وكان من الطبيعي أن تكون مدينة الإسكندرية من أوائل المدن البحرية التي يولونها عنايتهم، خصوصا وأنها معرضة أكثر من غيرها لهجمات الأساطيل البيزنطية، فالبيزنطيون لم يرفعوا عيونهم

_ (1) مقدمة ابن خالدون (2/ 690) . تحقيق د. علي عبد الواحد وافي. (2) د. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية في البحر الأبيض المتوسط (ص 17، 18) . (3) د. سعاد ماهر- البحرية في مصر الإسلامية (ص 73، 74) .

عنها منذ أن فتحها العرب، ولم يفقدوا الأمل في استعادتها منهم، كما نجحوا في استعادتها من الفرس من قبل. ومما زاد من عناية العرب الفاتحين بالإسكندرية تعرضها لهجوم بحري بيزنطي خطير بعد فتحها، مما يدل على إصرار البيزنطيين على استردادها. ففي سنة (25 هـ/ 645 م) هاجم أسطول بيزنطي ضخم مدينة الإسكندرية واستطاع أن يستولي عليها بمساعدة من بقي فيها من الروم، الذين أبقاهم المسلمون ومنحوهم الحرية والأمان، ولكنهم لم يحفطوا هذا كله، بل غدروا وتعاونوا مع الأسطول البيزنطي، وسهلوا له الاستيلاء على الإسكندرية، ولم يقنع قائد الأسطول البيزنطي مانويل بالاستيلاء على الإسكندرية، بل سار بقواته جنوبا إلى حصن بابليون لاستعادة مصر كلها. الأمر الذي جعل الخليفة عثمان بن عفان يعهد إلى عمرو بن العاص- فاتح مصر والذي كان قد طلب إعفاءه من ولايتها- بمهمة طرد الروم منها ثانية. ولم يتردد القائد الكبير والفاتح العظيم في القيام بواجبه، وقد نجح في طرد الروم من مصر كلها مرة أخرى وإلى الأبد «1» . هذه الحادثة قوت عزيمة المسلمين وأقنعتهم بضرورة الإسراع في بناء قوتهم البحرية الذاتية، وأكدت أن معاوية بن أبي سفيان كان على حق، وكان رجلا بعيد النظر حين فكّر في بناء الأساطيل البحرية الإسلامية، وإصراره على تنفيذ مشروعه، مهما كانت العقبات والمعارضات. كانت الإسكندرية إذن من أوائل الموانئ المصرية التي أحيا فيها العرب الفاتحون صناعة بناء السفن، ولم تصبح مركزا من أهم مراكز صناعة السفن الحربية فحسب، بل أصبحت قاعدة لانطلاق الأساطيل المصرية في العصر الإسلامي لغزو بلاد الروم نفسها. ولم تكن تمد الأسطول المصري وحده بالسفن اللازمة، بل كانت تبني فيها السفن اللازمة للأسطول الشامي، بناء على طلب معاوية بن أبي سفيان «2» الذي أصبح خليفة منذ سنة (41 هـ/ 660 م) وأصبح صاحب القرار، وليس في حاجة إلى استئذان أحد، ومن هنا كانت انطلاقة المسلمين البحرية. ويتضح من أوراق البردي العربية، والتي اكتشفت بالصدفة في كوم شقاو- أفروديتو- من أعمال محافظة أسيوط، يتضح من هذه الأوراق أن الإسكندرية

_ (1) ابن عبد الحكم- فتوح مصر (ص 117، 118) . (2) تاريخ البحرية المصرية- تأليف لفيف من أساتذة جامعة الإسكندرية (ص 342) .

أصبحت مركزا هامّا لصناعة السفن بعد الفتح الإسلامي بسنوات قلائل، وأن الأساطيل كانت تخرج منها للغزو، ففي إحدى البرديات يطلب والي مصر قرة بن شريك (90- 96 هـ/ 708- 714 م) من باسيليوس، حاكم كوم شقاو إرسال الزبد من أجل المقاتلين بالأسطول الهجومي المصري إلى تيودور الجسال الذي كان يقود الأسطول في الإسكندرية، وكان مسيحيّا على ما هو ظاهر من اسمه. وتحتوي بردية أخرى على طلب عاجل، يطلب فيه الوالي ملاحين وعمالا مهرة للعمل في أسطول الإسكندرية. إضافة إلى المعلومات الوفيرة التي زودتنا بها برديات كوم شقاو عن دار صناعة السفن بالإسكندرية، فإننا نجد حشدا كذلك من المعلومات عن الموضوع نفسه في كتب الجغرافيين والمؤرخين والرحالة المسلمين، فقد تحدث هؤلاء بإطناب- أحيانا- عن الإسكندرية ودار صناعتها ومكانتها الكبيرة في نشاط الأساطيل الإسلامية، وتزويدها بكل ما تحتاج. كما تحدثوا عن منارتها- إحدى عجائب الدنيا- التي كانت لا تزال موجودة عند الفتح الإسلامي، واستمرت بعده تؤدي رسالتها في خدمة الأغراض البحرية، كما وصفوا مرآتها التي كانت تعلوها، وقالوا: إنها كانت تستخدم في رؤية العدو من بعد إذا قدم من بلاد الروم، وفي خطط المقريزي «1» كثير من هذه المعلومات. وقد ذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو- الذي زار الإسكندرية في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر فيما بين سنتي (439- 442 هـ/ 1047- 1050 م) - أن منارة الإسكندرية كانت لا تزال موجودة تؤدي رسالتها عند زيارته للإسكندرية، ومن قوله في ذلك الشأن: وفي الإسكندرية منارة كانت قائمة وأنا هناك، وقد كان فوقها مرآة محرقة، فلما جاءت سفينة رومية من القسطنطينية أصابتها نار من هذه الحرّاقة فأحرقتها «2» . وتتجلى أهمية قاعدة الإسكندرية في أن لها ميناءين عظيمين، يتسع كل منهما لعدد كبير من السفن، فضلا عن هدوء المياه في هذين الميناءين، بسبب وقوع جزيرة تدعى جزيرة فاروس شمالي الإسكندرية، وتمتد إلى حوالي ثلاثة أميال،

_ (1) (1/ 51) وما بعدها. (2) نقلا عن تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 342، 343) .

* دور صناعة السفن في رشيد ودمياط وتنيس:

بحيث تقلّل من تلاطم أمواج البحر على الشاطئ، وقد اتصلت تلك الجزيرة بمدينة الإسكندرية منذ نشأتها بجسر عظيم أتاح لها مرسى آمنا للسفن حين تعصف الأنواء بمياه البحر «1» . ومنذ أتم العرب فتح مصر أصبحت الإسكندرية موضع اهتمامهم، وأقاموا فيها أكبر قاعدة بحرية على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. * دور صناعة السفن في رشيد ودمياط وتنيس: رشيد مدينة مصرية قديمة تقع على مصب النيل الغربي وهو الفرع المعروف باسمها؛ فرع رشيد، والذي يلتقي فيه النيل بالبحر الأبيض المتوسط، وعن طريقه تصل السفن القادمة من البحر إلى النيل والعكس، وبعد الفتح الإسلامي لمصر أصبحت رشيد أحد المراكز البحرية المهمة، وكان يديرها موظف مسيحي، كما كان الحال في الإسكندرية. وتمدنا أوراق البردي العربية بمعلومات وفيرة عن دار صناعة السفن في رشيد، وعن دورها في الجهاد البحري، وتشير إحدى البرديات إلى الإمدادات المطلوبة للمقاتلين على السفن، وتوضح أثمان السلع المرسلة إلى حاكمها المسيحي بافنتوثيوس PAPHNTUTHISandcamelikeAnd Z2z. أما دمياط فتقع على مصب الفرع الشرقي للنيل والمنسوب إليها، وأوراق البردي حافلة بالمعلومات عن دار صناعة السفن إليها في العصر الإسلامي، وتشير إحدى تلك البرديات إلى كمية الإمدادات والمواد التموينية من الدقيق والخبز والبقول والزيت والخل والملح، اللازمة لعشرين بحّارا من العاملين بالأسطول الهجومي للشرق، والمرابط في دمياط «3» . وقد اهتم الخلفاء المسلمون بدمياط ودار صناعتها اهتماما كبيرا، وأولوها عناية فائقة؛ لأنها كانت معرضة دائما لهجمات الأساطيل البيزنطية. يقول المقريزي عن دمياط «4» : «إنها ظلت بيد المسلمين منذ الفتح الأول على يد عمرو بن العاص، إلى أن نزل عليها الروم سنة تسعين من الهجرة، فأسروا خالد

_ (1) د. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية (ص 135) . (2) تاريخ البحرية المصرية (ص 344) . (3) المرجع السابق (ص 344) . بمساعدة من بقي فيها من الروم، الذين أبقاهم المسلمون ومنحوهم الحرية والأمان، ولكنهم لم يحفطوا هذا كله، بل غدروا وتعاونوا مع الأسطول البيزنطي، وسهلوا له الاستيلاء على الإسكندرية، ولم يقنع قائد الأسطول البيزنطي مانويل بالاستيلاء على الإسكندرية، بل سار بقواته جنوبا إلى حصن بابليون لاستعادة مصر كلها. الأمر الذي جعل الخليفة عثمان بن عفان يعهد إلى عمرو بن العاص- فاتح مصر والذي كان قد طلب إعفاءه من ولايتها- بمهمة طرد الروم منها ثانية. ولم يتردد القائد الكبير والفاتح العظيم في القيام بواجبه، وقد نجح في طرد الروم من مصر كلها مرة أخرى وإلى الأبد «1» . هذه الحادثة قوت عزيمة المسلمين وأقنعتهم بضرورة الإسراع في بناء قوتهم البحرية الذاتية، وأكدت أن معاوية بن أبي سفيان كان على حق، وكان رجلا بعيد النظر حين فكّر في بناء الأساطيل البحرية الإسلامية، وإصراره على تنفيذ مشروعه، مهما كانت العقبات والمعارضات. كانت الإسكندرية إذن من أوائل الموانئ المصرية التي أحيا فيها العرب الفاتحون صناعة بناء السفن، ولم تصبح مركزا من أهم مراكز صناعة السفن الحربية فحسب، بل أصبحت قاعدة لانطلاق الأساطيل المصرية في العصر الإسلامي لغزو بلاد الروم نفسها. ولم تكن تمد الأسطول المصري وحده بالسفن اللازمة، بل كانت تبني فيها السفن اللازمة للأسطول الشامي، بناء على طلب معاوية بن أبي سفيان «2» الذي أصبح خليفة منذ سنة (41 هـ/ 660 م) وأصبح صاحب القرار، وليس في حاجة إلى استئذان أحد، ومن هنا كانت انطلاقة المسلمين البحرية. ويتضح من أوراق البردي العربية، والتي اكتشفت بالصدفة في كوم شقاو- أفروديتو- من أعمال محافظة أسيوط، يتضح من هذه الأوراق أن الإسكندرية

أصبحت مركزا هامّا لصناعة السفن بعد الفتح الإسلامي بسنوات قلائل، وأن الأساطيل كانت تخرج منها للغزو، ففي إحدى البرديات يطلب والي مصر قرة بن شريك (90- 96 هـ/ 708- 714 م) من باسيليوس، حاكم كوم شقاو إرسال الزبد من أجل المقاتلين بالأسطول الهجومي المصري إلى تيودور الجسال الذي كان يقود الأسطول في الإسكندرية، وكان مسيحيّا على ما هو ظاهر من اسمه. وتحتوي بردية أخرى على طلب عاجل، يطلب فيه الوالي ملاحين وعمالا مهرة للعمل في أسطول الإسكندرية. إضافة إلى المعلومات الوفيرة التي زودتنا بها برديات كوم شقاو عن دار صناعة السفن بالإسكندرية، فإننا نجد حشدا كذلك من المعلومات عن الموضوع نفسه في كتب الجغرافيين والمؤرخين والرحالة المسلمين، فقد تحدث هؤلاء بإطناب- أحيانا- عن الإسكندرية ودار صناعتها ومكانتها الكبيرة في نشاط الأساطيل الإسلامية، وتزويدها بكل ما تحتاج. كما تحدثوا عن منارتها- إحدى عجائب الدنيا- التي كانت لا تزال موجودة عند الفتح الإسلامي، واستمرت بعده تؤدي رسالتها في خدمة الأغراض البحرية، كما وصفوا مرآتها التي كانت تعلوها، وقالوا: إنها كانت تستخدم في رؤية العدو من بعد إذا قدم من بلاد الروم، وفي خطط المقريزي «1» كثير من هذه المعلومات. وقد ذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو- الذي زار الإسكندرية في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر فيما بين سنتي (439- 442 هـ/ 1047- 1050 م) - أن منارة الإسكندرية كانت لا تزال موجودة تؤدي رسالتها عند زيارته للإسكندرية، ومن قوله في ذلك الشأن: وفي الإسكندرية منارة كانت قائمة وأنا هناك، وقد كان فوقها مرآة محرقة، فلما جاءت سفينة رومية من القسطنطينية أصابتها نار من هذه الحرّاقة فأحرقتها «2» . وتتجلى أهمية قاعدة الإسكندرية في أن لها ميناءين عظيمين، يتسع كل منهما لعدد كبير من السفن، فضلا عن هدوء المياه في هذين الميناءين، بسبب وقوع جزيرة تدعى جزيرة فاروس شمالي الإسكندرية، وتمتد إلى حوالي ثلاثة أميال،

_ (1) (1/ 51) وما بعدها. (2) نقلا عن تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 342، 343) .

بحيث تقلّل من تلاطم أمواج البحر على الشاطئ، وقد اتصلت تلك الجزيرة بمدينة الإسكندرية منذ نشأتها بجسر عظيم أتاح لها مرسى آمنا للسفن حين تعصف الأنواء بمياه البحر «1» . ومنذ أتم العرب فتح مصر أصبحت الإسكندرية موضع اهتمامهم، وأقاموا فيها أكبر قاعدة بحرية على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. * دور صناعة السفن في رشيد ودمياط وتنيس: رشيد مدينة مصرية قديمة تقع على مصب النيل الغربي وهو الفرع المعروف باسمها؛ فرع رشيد، والذي يلتقي فيه النيل بالبحر الأبيض المتوسط، وعن طريقه تصل السفن القادمة من البحر إلى النيل والعكس، وبعد الفتح الإسلامي لمصر أصبحت رشيد أحد المراكز البحرية المهمة، وكان يديرها موظف مسيحي، كما كان الحال في الإسكندرية. وتمدنا أوراق البردي العربية بمعلومات وفيرة عن دار صناعة السفن في رشيد، وعن دورها في الجهاد البحري، وتشير إحدى البرديات إلى الإمدادات المطلوبة للمقاتلين على السفن، وتوضح أثمان السلع المرسلة إلى حاكمها المسيحي بافنتوثيوس .z2Z dnAekilemacdnaSIHTUTNHPAP أما دمياط فتقع على مصب الفرع الشرقي للنيل والمنسوب إليها، وأوراق البردي حافلة بالمعلومات عن دار صناعة السفن إليها في العصر الإسلامي، وتشير إحدى تلك البرديات إلى كمية الإمدادات والمواد التموينية من الدقيق والخبز والبقول والزيت والخل والملح، اللازمة لعشرين بحّارا من العاملين بالأسطول الهجومي للشرق، والمرابط في دمياط «3» . وقد اهتم الخلفاء المسلمون بدمياط ودار صناعتها اهتماما كبيرا، وأولوها عناية فائقة؛ لأنها كانت معرضة دائما لهجمات الأساطيل البيزنطية. يقول المقريزي عن دمياط «4» : «إنها ظلت بيد المسلمين منذ الفتح الأول على يد عمرو بن العاص، إلى أن نزل عليها الروم سنة تسعين من الهجرة، فأسروا خالد

_ (1) د. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية (ص 135) . (2) تاريخ البحرية المصرية (ص 344) . (3) المرجع السابق (ص 344) . (4) الخطط (1/ 214) .

ابن كيسان، وكان على البحر- أي: قائد الأسطول- هناك وسيروه إلى ملك الروم، فأنفذه إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك من أجل الهدنة التي كانت بينه وبين الروم، فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك (105- 125 هـ/ 723- 742 م) نزل الروم دمياط في ثلاثمائة وستين مركبا، فقتلوا وسبوا، وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة» . ثم يوالي المقريزي حديثه، فيقول: «وكانت الفتنة بين الأخوين؛ محمد الأمين وعبد الله المأمون، وكانت الفتن بأرض مصر، فطمع الروم في البلاد، ونزلوا دمياط، في أعوام بضع ومائتين، ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين، المتوكل على الله (232- 247 هـ/ 846- 861 م) وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق، نزل الروم دمياط يوم عرفة؛ سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فملكوها وما فيها، وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال وأهل الذمة، فنفر إليهم عنبسة بن إسحاق، يوم النحر في جيشه، ونفر كثير من الناس إليهم، فلم يدركوهم، ومضى الروم إلى تنيس، فأمر المتوكل ببناء حصن دمياط.. ثم يوالي المقريزي حديثه عن هجمات الروم المتوالية في السنوات التالية، مما جعل ولاة الأمر، سواء الخلفاء العباسيون وولاة مصر في عهودهم، أو حتى حكام مصر في عهود الاستقلال مثل الطولونيين والإخشيديين- يوالون الاهتمام بدمياط وتحصينها، يقول المقريزي: «وكان بدمياط دار لصناعة السفن يديرها أهل الخبرة في هذا الفن» «1» . أما تنيس فيقول عنها ياقوت الحموي «2» : جزيرة في بحر مصر، قريبة من البر، ما بين الفرما ودمياط، والفرما في شرقيها.. ويقول: «إنها كانت أجمل من دمياط.. ولما فتحت مصر في سنة عشرين من الهجرة كانت تنيس حينئذ خصاصا من القصب، وكان بها الروم، وقاتلوا أصحاب عمرو بن العاص، وقتل بها جماعة من المسلمين، وقبورهم معروفة بقبور الشهداء، عند الرمل فوق مسجد غازي، وكان بتنيس ميناء يسمى أشتوم، يستقبل السفن القادمة من سوريا والمغرب، ويذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو أن ألف سفينة كانت ترسو هناك. ويذكر ابن حوقل أنها كانت من أهم الجزر التي اعتمدت كلية على السفن في اتصالاتها، وقد دهش لبراعة الملاحة البحرية فيها «3» .

_ (1) المصدر السابق، (1/ 214) . (2) معجم البلدان (2/ 51) وما بعدها. (3) نقلا عن تاريخ البحرية المصرية مرجع سابق (ص 346) .

* دار صناعة السفن بالقلزم - السويس -:

* دار صناعة السفن بالقلزم- السويس-: كانت القلزم التي تقع على الطرف الشمالي للبحر الأحمر دارا لصناعة السفن منذ العصر الفرعوني، واستمرت تؤدي هذا الدور بعد الفتح الإسلامي، بل ازدادت أهميتها؛ نظرا لأنها تمثل حلقة وصل بين البحر الأبيض المتوسط والبحار الشرقية. خصوصا بعد أن أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بحفر الخليج الذي نسب إليه، لربط النيل بالبحر الأحمر؛ لتسهيل حركة السفر والتجارة بين مصر والمدينة المنورة عاصمة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت «1» . وقد ازدهرت صناعة السفن الحربية في القلزم- السويس- بعد الفتح الإسلامي- وأيضا هنا تمدنا أوراق البردي العربية بمعلومات وفيرة عن ازدهار دار صناعتها، وذلك من خلال المراسلات التي دارت بين أمير مصر قرة بن شريك (90- 96 هـ/ 708- 714 م) وبين حاكم إقليم كوم شقاو، وهو مسيحي يسمى باسل، أو باسيليوس، في هذه المراسلات التي سجلتها مجموعة أوراق بردي كوم شقاو يطلب الأمير من حاكم الإقليم توفير العمال المهرة للعمل في بناء السفن في ميناء القلزم، وكذلك يطلب منه الأموال المفروضة على ذلك الإقليم لتحقيق نفس الغرض، وهكذا يتضح من الإشارات العديدة التي وردت في تلك البرديات أن القلزم كانت مركزا بحريّا هامّا تحت إدارة موظف عربي يدعى محمد بن أبي جيلية، وبعض البرديات تحتوي على قوائم بالأشياء المطلوبة من إقليم كوم شقاو، من نقود وبحارة لسفن الأسطول بالقلزم. * دار صناعة السفن بجزيرة الروضة: تقع جزيرة الروضة في وسط النيل، غربي حصن بابليون، وأحيانا يطلق عليها الجزيرة فقط، لشهرتها إذا سمع المتكلم اسم الجزيرة عرف أنها هي، وأحيانا كانت تضاف إلى مصر. وتذكر مصادر التاريخ «2» أن دار صناعتها أنشئت في عهد والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري (47- 62 هـ/ 667- 681 م) من قبل الخليفة معاوية بن أبي سفيان. وقد بدأ العمل في دار صناعتها سنة (54 هـ/ 674 م) «3» أي في السنة التالية

_ (1) ابن عبد الحكم- فتوح مصر (ص 112) . (2) تاريخ البحرية المصرية (ص 346) . (3) د. سعاد ماهر- البحرية في مصر الإسلامية (ص 313) .

لإغارة قام بها الروم على مدينة البرلس. وإنشاء دار لصناعة السفن في جزيرة الروضة عدا الدور التي سبق الحديث عنها في الإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس والقلزم مما يدل على الحاجة إلى مزيد من السفن اللازمة للأسطول البحري الإسلامي، وبصفة خاصة في مصر؛ لأن ذلك التاريخ يواكب بعث حركة الفتوحات في شمال أفريقيا، وهي مناطق ساحلية وحاجتها إلى سفن لنقل الخيول والمعدات حاجة ماسة وكذلك لحماية تلك الشواطئ من هجمات الروم، وكان إنتاج دار صناعة السفن بالجزيرة ذا أهمية كبيرة؛ لأنها كانت تنتج أنواعا كبيرة، مثل الشواني، ولم تكن جزيرة الروضة مجرد دار لصناعة السفن وإنما كانت قاعدة بحرية عسكرية، أي فيها قوات بحرية مستعدة للقتال إذا دعا داعي الجهاد، ويصف المقريزي اهتمام الأمراء بأمر دار صناعة جزيرة الروضة، والقوات المرابطة فيها، فيقول: «وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البر، وانتدب الأمراء لها الرماة، فاجتهد الناس بمصر في تعليم أولادهم الرماية، وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القادة العارفون بمحاربة العدو، وكان لا ينزل في رجال الأسطول غشيم ولا جاهل بأمور الحرب؛ هذا وللناس إذ ذاك رغبة في جهاد أعداء الله وإقامة دينه، لا جرم أن كان لخدام الأسطول حرمة ومكانة، ولكل واحد من الناس رغبة في أن يعد من جملتهم، فيسعى بالوسائل حتى يستقر فيه، وكان من غزو الأسطول بلاد العدو ما قد شحنت به كتب التاريخ «1» . وتمدنا برديات كوم شقاو بمعلومات إضافية عن طلب والي مصر، قرة بن شريك من حاكم كوم شقاو إمداد دار الصناعة بالجزيرة بالعمال المهرة في صناعة السفن، فتشير إحدى البرديات إلى أوامر بتصنيع مسامير وطلب حدادين ونجارين وقلافين، لإصلاح وبناء وتنظيف السفن، وتشير بردية أخرى إلى طلب أخشاب وسلاسل نحاسية وحبال ووسائد ووبر- شعر- وأقمشة مطلوبة من أجل بناء السفن، كل هذا يدل على اتساع نطاق العمل في جزيرة الروضة، فهي دار لصناعة السفن وصيانتها، وهي ثكنات عسكرية بحرية مقاتلة، كما أنها كانت قلعة قوية لوجود حصن بابليون شرقيها، وكانت تقوم بحماية الملاحة النهرية في النيل «2» . هذه المعلومات المهمة التي أمدتنا بها برديات كوم شقاو، التي اكتشفت

_ (1) الخطط (2/ 191) . (2) تاريخ البحرية المصرية، مرجع سابق (ص 349) .

* المصريون يبنون أساطيل الشام:

بالصدفة، وحديثها كله عن كوم شقاو وحده، والذي يبدو أنه كان من الأقاليم المشهورة في كل ما يتعلق بصناعة السفن، من تجارة وعمال مهرة، وأدوات صناعة من الأخشاب إلى المسامير والحبال.. إلخ. ولم يكن هو الإقليم الوحيد بطبيعة الحال، لكن حظه كان أحسن من غيره لاكتشاف بردياته، التي ألقت الضوء على ما كان يقدمه لصناعة السفن، وربما تكشف لنا الأيام عن أوراق بردي أخرى في أماكن أخرى تلقي الضوء على مناطق عديدة غير كوم شقاو كانت تمد الأساطيل بحاجتها من العمال المهرة وأدوات الصناعة، فتعدد الأساطيل، وتعدد دور الصناعة وتباعدها يقتضي الكثير من المراكز التي تمدها بحاجياتها من العمال والأدوات. فقبل أن ينتهي القرن الهجري الأول كان المسلمون قد امتلكوا ثلاثة أساطيل بحرية كبرى: الأسطول الشامي، والأسطول المغربي- وسيأتي الحديث عنهما وشيكا- والأسطول المصري، وهو أكبرها وأكثرها أهمية، كما كان أمير البحرية المصرية هو القائد العام لجميع هذه الأساطيل «1» ، وكثيرا ما اشترك الأسطولان الشامي والمصري في عمليات عسكرية واحدة، كما حدث في غزو جزيرة قبرص سنة (28 هـ/ 648 م) . وفي غزوة ذات الصواري الشهيرة سنة (34 هـ/ 654 م) وكان قائدها العام، الذي قاد القوات المشتركة من الأسطولين الشامي والمصري، هو أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح «2» ، وعلاوة على هذه الأساطيل الثلاثة الكبرى كانت هناك قوة بحرية أصغر حجما في البحر الأحمر لحراسته، وكانت تحت قيادة قائد الأسطول المصري، والجهد الأكبر والفضل الأول في بناء كل الأساطيل يرجع إلى أهل مصر. * المصريون يبنون أساطيل الشام: ذكرنا من قبل أن أول من أدرك حاجة المسلمين إلى امتلاك قوة بحرية لحماية شواطئ المسلمين في الشام ومصر، للارتباط الأمني الوثيق بين الإقليمين، ودعا إلى ذلك بقوة وإصرار، هو أمير الشام، معاوية بن أبي سفيان، غير أن دعوته اصطدمت بمعارضة قوية ممن بيده القرار، وهو الخليفة عمر بن الخطاب، ولكن على الرغم من

_ (1) د. سعاد ماهر- البحرية في مصر الإسلامية، مرجع سابق (ص 87) . (2) د. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية (ص 39) ، د. حسين مؤنس- تاريخ المسلمين في البحر المتوسط (ص 60، 61) .

ذلك فإن معاوية لم ييأس، بل انتظر إلى أن لقي عمر بن الخطاب ربه، ففاتح الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الذي عارض هو بدوره متأثرا بمعارضة عمر بن الخطاب، إلا أن معاوية نجح في النهاية بإقناعه وظفر بموافقته وبدأ على الفور في إنشاء قوة بحرية هائلة ظهر أثرها واضحا بعد سنوات قلائل من البداية، في غزوة جزيرة قبرص والاستيلاء عليها وفي الانتصار على أساطيل الروم، في أول وأكبر معركة بحرية دارت بينهم وبين المسلمين على شواطئ مصر الغربية، وهي معركة ذات الصواري، التي غيرت تاريخ البحر المتوسط، وجعلته بحر المسلمين، وكان قائد المعركة هو أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح- كما مر ذكره. ومعاوية عند ما نهض بهذا المشروع العظيم، الذي يرجع الفضل إليه وحده في قيامه كان يعوّل في المقام الأول على أهل مصر، وعلى دور صناعة السفن في مصر، ولم يجد أية صعوبة في تعاون المصريين معه؛ لأن الشام ومصر كانتا ولايتين من ولايات الدولة الإسلامية الواحدة من ناحية، ومن ناحية ثانية فقد كان التفاهم قائما على أفضل ما يكون بينه وبين والي مصر، عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان كلا الرجلين يدرك تمام الإدراك أهمية الارتباط الأمني الوثيق بين الشام ومصر. ولم يقتصر دور المصريين على إمداد الأسطول الشامي بالسفن التي يحتاجها، والتي يتم تصنيعها على أرض مصر، وفي دور صناعتها، بل إن العمال المهرة المصريين ذهبوا إلى هناك إلى الموانئ الشامية التي أنشأها معاوية الذي أصبح أمير المؤمنين، والقرار بيده وحده، فقد أمر بإنشاء دار صناعة في عكا على أثر غارة بيزنطية ضخمة على شواطئ الشام سنة (49 هـ/ 669 م) . وتدل أوراق البردي المصرية، على أن العمال المصريين قد أسهموا إسهاما كبيرا في بناء السفن في ميناء عكا، وكانوا أيضا من إقليم كوم شقاو «1» الذي مر ذكره كثيرا، ولقد توسع معاوية في صناعة السفن في الموانئ السورية، مثل صور وصيدا واللاذقية وطرطوس، اعتمادا على الأيدي المصرية العاملة في هذا الميدان؛ لأنه كان يفكر في مشروع كبير يحتاج إلى أعداد هائلة من السفن الحربية ذات الأحجام المختلفة، ذلك المشروع الذي كان معاوية يفكر فيه هو غزوة مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، العدو الأول والأكبر والأخطر للمسلمين في ذلك الوقت، فقد كان معاوية

_ (1) تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 357) .

* دور المصريين في إنشاء أسطول المغرب العربي:

يريد الاستيلاء على هذه المدينة العتيدة، وكان على قناعة تامة أنه إذا استطاع الاستيلاء عليها فإن الدولة البيزنطية نفسها سوف تسقط وتنتهي، لأن العواصم للدول بمثابة مركز الأعصاب للإنسان، ولقد كان متأثرا في ذلك بما حدث للدولة الفارسية، فعند ما نجح المسلمون في الإستيلاء على عاصمتها المدائن، انهارت مقاومة الفرس بعدها، وفتح المسلمون كل بلادهم وزالت الدولة الفارسية العتيدة والتي كانت تنافس الروم في زعامة العالم يومئذ، ولم يعد لها وجود. لذلك كرس معاوية جهوده وحشد أساطيله، وغزا عاصمة القياصرة أكثر من مرة سنة (49- 50 هـ/ 669- 670 م) . ومرة أخرى استمر غزوه وحصاره لها نحو سبع سنوات «1» (54- 60 هـ/ 674- 680 م) ، وقد اشترك الأسطول المصري مع الأسطول الشامي في هذا الغزو بعدد هائل من المراكب، نحو ثلاثمائة مركب من المراكب الكبيرة، المزودة بالات القذف التي تتكون من المجانيق وآلات رمي الحجارة «2» . وهكذا أدى التعاون الوثيق بين مصر والشام في ميدان بناء الأساطيل البحرية إلى بروز قوة بحرية، لم تنجح في حماية شواطئهما من هجمات الروم فحسب، بل أصبحت خطرا على عاصمتهم- القسطنطينية- نفسها، وإذا كان معاوية لم ينجح في فتح القسطنطينية لأسباب كثيرة يطول شرحها، فإنه قد ينجح في جعل الدولة البيزنطية العتيدة تقف موقف الدفاع عن كيانها وعن عاصمتها، كما أن نظرية معاوية كانت سليمة تماما، فإن ما قدره وجعله هدفه قد تحقق بعده بنحو ثمانية قرون، فعندما نجح السلطان العثماني محمد الفاتح في فتح القسطنطينية والاستيلاء عليها سنة (857 هـ/ 1453 م) سقطت الدولة البيزنطية على الفور وانتهت من الوجود، وأصبحت عاصمة القياصرة عاصمة للدولة العثمانية. * دور المصريين في إنشاء أسطول المغرب العربي: تأخر فتح المغرب العربي وأخذ وقتا طويلا، حيث استغرق نحو سبعين عاما من الزمان، وأسباب ذلك كثيرة «3» ؛ منها انشغال الدولة الإسلامية بالفتن والحروب

_ (1) تاريخ الطبري (5/ 232/ 293) . (2) د. سعاد ماهر- البحرية في مصر الإسلامية- مرجع سابق (ص 75) . (3) من أهم الأسباب كذلك أن سكان المغرب العربي، الذين يشيع إطلاق كلمة البربر عليهم وهي تسمية لا يرتاحون إليها هم؛ لأن الرومان هم الذين كانوا قد أطلقوها عليهم، أما هم فيرتاحون إلى تسميتهم بالأمازيغ، أي الأحرار بلغتهم. هؤلاء الأمازيغ لديهم عزة وأنفة واعتزاز بكرامتهم لا يقل عما-

الأهلية، أثناء الفتنة الأولى التي اندلعت بين المسلمين منذ منتصف خلافة عثمان بن عفان نحو سنة (30 هـ) . والتي تفاقمت وراح ضحيتها الخليفة نفسه، ثم استمرت لتستغرق كل عهد علي بن أبي طالب (36- 40 هـ) ، والذي خاض مع خصومه معركتين مشؤومتين: في الجمل سنة (36 هـ) ، وصفين سنة (37 هـ) ، راح ضحيتهما عشرات الألوف من المسلمين، وفي النهاية فقد الخليفة عليّ نفسه حياته على يد أحد متطرفي الخوارج- عبد الرحمن بن ملجم- ولما اجتمع شمل الأمة على خليفة واحد؛ هو معاوية بن أبي سفيان سنة (41 هـ) ، السنة التي سماها المؤرخون: عام الجماعة. وبعد أن تمكن معاوية من الأمر بدأ يستأنف الفتوحات في شمال إفريقيا خاصة، للقضاء على الوجود البيزنطي فيه قضاء تاما، وقد حقق بعض النجاح في ذلك، خصوصا عند ما عهد بقيادة الفتوحات في هذه الجبهة لقائد من كبار القادة الفاتحين؛ عقبة بن نافع، الذي أسس مدينة القيروان (50- 55 هـ) لتكون قاعدة ثابتة للمجاهدين ينطلقون منها ثم يعودون إليها، لأنه رأي أن خطوط إمداداتهم من مصر كانت طويلة. وتوالى على المنطقة عدد من القادة العظام بعد عقبة؛ مثل أبي المهاجر دينار (55- 62 هـ) ، ثم عقبة ثانية (62- 63 هـ) ، ثم زهير بن قيس البلوي (63- 69 هـ) وفي هذه الأثناء داهمت المسلمين الفتنة الثانية التي اندلعت بعد موت الخليفة يزيد بن معاوية سنة (64 هـ) والتي استمرت نحو عشر سنين، ولم تنته إلا بقضاء عبد الملك ابن مروان على أكبر وأخطر خصومه السياسيين، عبد الله بن الزبير سنة (73 هـ) . وأعاد عبد الملك الوحدة إلى الدولة الإسلامية، وسمى المؤرخون هذا العام بعام الجماعة الثاني. عندئذ بدأ عبد الملك في إعادة الحياة إلى حركة الفتوحات الإسلامية في شمال إفريقيا، وعهد بالأمر إلى قائد عظيم، من سلالة الغساسنة وهو حسان بن النعمان «1» ،

_ لدى العرب، وعند ما طرق العرب بلادهم فاتحين لم يفهموا في البداية ماذا يريد منهم هؤلاء العرب؟ وظنوهم مستعمرين جددا يريدون الاستيلاء على بلادهم، فقاوموهم بضراوة شديدة، والمتاعب التي صادفها العرب في فتح شمال أفريقيا لم يصادفوا مثلها في أي مكان آخر. غير أن هؤلاء الأمازيغ عند ما بدؤوا يفهمون الإسلام وأهدافه، وما يحمله لهم من خير وعدل وتسامح ومساواة سارعوا لا إلى الإيمان به فحسب، بل إلى الجهاد في سبيله. فمن المعروف أن الجيوش التي فتحت الأندلس كانت الغالبية العظمى منها من هؤلاء الأمازيغ، سكان الشمال الإفريقي. (1) ابن الأثير- الكامل في التاريخ (4/ 369) .

الذي لقب بالشيخ الأمين، وقد استطاع حسان فتح معظم الشمال الإفريقي في غضون نحو عشر سنوات (74- 85 هـ/ 693- 704 م) وعمل على تنظيم البلاد ووضع الأسس الإدارية لها، وأسس مدينة جديدة، هي مدينة تونس، وأحس بحاجته إلى أسطول بحري مستقل يواجه به هجمات الأساطيل البيزنطية بدلا من الاعتماد على الأساطيل المصرية المرابطة في قاعدتي برقة والإسكندرية لطول المسافة ونحن نعرف أن برقة منذ فتحها عمرو بن العاص سنة (21 هـ/ 641 م) أصبحت هي القاعدة الحصينة التي تلجأ إليها القوات الإسلامية العاملة في شمال إفريقيا عند الضرورة، وكانت عندئذ تحت إدارة والي مصر، وظلت كذلك إلى قيام الدولة الفاطمية في تونس سنة (296 هـ/ 909 م) فيكون من الطبيعي أن تكون فيها قاعدة بحرية تعتمد اعتمادا كليّا على دور صناعة السفن في مصر؛ لأن كثيرا من الغزوات التي انطلقت لغزو جزر البحر الأبيض المتوسط كانت تنطلق منها. ثم رأى حسان بن النعمان إنشاء قاعدة بحرية خاصة بشمال إفريقيا، فأنشأ قاعدة تونس البحرية بعد أن دمر مدينة قرطاجنة التي كانت عاصمة شمال إفريقيا تحت الحكم البيزنطي، وطرد البيزنطيين نهائيّا من كل الشمال الإفريقي. ولقد كان الرجل بعيد النظر، ويتمتع برؤية استراتيجية عظيمة، وإحساس بالمسؤولية كبير، فقد أيقن أن الاحتفاظ بالانتصارات التي حققها على البيزنطيين والبربر معا، في المغربين الأدنى والأوسط- تونس والجزائر الحاليتان- يتطلب إنشاء قاعدة بحرية حصينة، ودار صناعة لصناعة السفن ومستلزماتها، وأن الآوان قد حان ليعتمد شمال إفريقيا على قواعده وأساطيله الخاصة في الدفاع عن نفسه لطول خطوط مواصلاته مع القواعد التي كان يعتمد عليها في الإسكندرية وبرقة. ولعل حسان بن النعمان، وهو قائد ذو بصيرة عسكرية ورؤية سياسية واضحة، كان يستشرف المستقبل، ويرى بعين المؤمن وحدسه ما تم على يد خليفته في قيادة الفتوحات في المغرب؛ القائد العظيم موسى بن نصير، وقائده الفذ العبقري طارق ابن زياد، ومن جاء بعدهما، من فتح الأندلس، والجزائر الغربية في البحر الأبيض المتوسط. وأن ذلك كله لن يتم إلا إذا كان للمسلمين قوة بحرية فعالة في غرب البحر الأبيض المتوسط. عند ما فكر حسان بن النعمان في إقامة صرح عسكري بحري إسلامي للجناح الغربي من الدولة الإسلامية، كان يعلم أنه بدون الخبرات

المصرية فلن تقوم لمشروعه قائمة، وكان على يقين في الوقت نفسه أن هذه الخبرات ستكون في متناول يده؛ لأن الهدف الذي يسعى لتحقيقه يهم الدولة الإسلامية التي كان يحكمها آنئذ خليفة من فحول الخلفاء وأفذاذهم على مدى التاريخ الإسلامي كله؛ وهو عبد الملك بن مروان، الذي لم يتردد في تلبية كل ما طلبه حسان بن النعمان لإقامة ترسانة بحرية عظيمة في تونس. ولإحساس حسان بأهمية الأمر فقد أرسل أربعين رجلا من أشراف العرب إلى الخليفة يشرحون له حقائق الموقف، وأهمية المشروع الذي ينوي حسان القيام به، ومدى حاجته إلى المهندسين والعمال المصريين لبدء العمل. وبعد أن سمع عبد الملك بن مروان من وفد حسان أصدر تعليماته على الفور إلى أخيه عبد العزيز بن مروان أمير مصر بأن يوجه دون إبطاء ألف رجل من المهندسين والبحارة والعمال المهرة المصريين بأسرهم للعمل في دار الصناعة في تونس، وتحت إدارة أميرها حسان بن النعمان، وكانت تعليمات الخليفة لأخيه الأمير أن يوفر لكل هؤلاء كل ما يحتاجون إليه في عملهم وفي معاشهم وأن يحسن عونهم، وهذا العدد- ألف رجل بأسرهم- هو أكبر عدد نقرأ أنه خرج من مصر إلى مثل هذا العمل في مكان آخر «1» . وكتب عبد الملك بن مروان إلى حسان بن النعمان بأن يحسن استقبالهم ومعاملتهم، وأن يوفر لهم الراحة الكافية، ليتفرغوا تفرغا كاملا لعملهم وإتقانه على أحسن وجه. وأن تكون دار الصناعة المزمع إقامتها قوة وعدة للمسلمين إلى آخر الدهر، وأن يصنع بها المراكب للجهاد ضد الروم في البر والبحر؛ لإشغالهم عن مهاجمة القيروان وغيرها من شواطئ المسلمين. وقد أحسن حسان بن النعمان استقبال المصريين، ووفر لهم كل ما يلزمهم لعملهم ومعاشهم. وبعد أن ترك حسان بن النعمان الميدان لغيره، ليواصل مسيرته في الإعمار وتنظيم البلاد، وتقوية دفاعاتها، واصل خلفاؤه رعايتهم وعنايتهم بدار الصناعة في تونس، وإمدادها بكل ما تحتاج من عمال وبحارة، حتى أصبحت مركزا بحريّا مهمّا على

_ (1) تاريخ البحرية المصرية (ص 365) ، د. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية (ص 141، 142) .

الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، حمته من هجمات الأساطيل البيزنطية وليس هذا فحسب، بل أصبحت قاعدة انطلقت منها الغزوات البحرية الإسلامية، التي غزت معظم جزر البحر الأبيض المتوسط الغربي. وكانت قمة الانتصارات فتح جزيرة صقلية بدا من سنة (212 هـ/ 827 م) ، حيث انطلقت الأساطيل من تونس بقيادة الفقيه المشهور أسد بن الفرات. كل هذا لم يكن ممكنا بدون أبناء مصر من المهندسين والعمال المهرة، الذين بذلوا علمهم وخبرتهم بكل إخلاص في بناء الأساطيل الإسلامية في المشرق والمغرب. والخلاصة: إن العرب بعد أن أتموا فتح الشام تقدموا لفتح مصر؛ وكان ذلك ضرورة لتأمين فتوحاتهم ووجودهم في الشام، وأنهم عندما فتحوها لم ينتزعوها من أهلها، بل الحقيقة أنهم أعادوها إلى أهلها من قبضة الروم، وحرروهم من الظلم والاستعباد، وكان المصريون الذين عاصروا الفتح يعلمون ذلك حق العلم، ولذلك كان تعاونهم مع الفاتحين وتقديم المساعدات لهم من أهم أسباب سرعة الفتح وسهولته، وأن تعاون المصريين مع العرب الفاتحين ضد الروم من الأمور التي أخبر بها النبي صلّى الله عليه وسلم عندما كان أمر فتح مصر في علم الغيب؛ فقد أخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في دلائل النبوة، بسند صحيح، عن أم سلمة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أوصى عند وفاته، فقال: «الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله» «1» وفي رواية أخرى: «استوصوا بالقبط خيرا، فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم» «2» . ولقد كان المسلمون عند حسن ظن المصريين بهم، فقد عاملوهم أكرم وأحسن معاملة، ومنحوهم حرية لم ينعموا بها من قبل، وبصفة خاصة حرية العقيدة، فلم يجبروهم على اعتناق الإسلام، ولو كان الإجبار على اعتناق الإسلام واردا لما بقي مسيحي واحد على أرض مصر؛ ويجب أن يعرف الناس أن الفتح الإسلامي شرف لكل أبناء مصر؛ لأن من أسلم منهم أسلم بحريته، ومن بقي مسيحيّا بقي معززا مكرما، مصونة كل حقوقه. ولم يتدخل المسلمون في شؤون عقيدتهم قط، وقد أشرنا من قبل إلى عودة

_ (1) السيوطي- حسن المحاضرة (1/ 12) ، وابن عبد الحكم- فتوح مصر (ص 14) . (2) المصدران السابقان على نفس الترتيب (1/ 13) ، و (ص 4) .

البطريرك بنيامين من منفاه إلى كرسي كنيسته بأمر الفاتح العظيم عمرو بن العاص، الذي أصبح صديقا حميما لرأس الكنيسة المصرية، وكان يستشيره في كل شؤون مصر المالية والإدارية. كما قام العرب الفاتحون بحركة إعمار واسعة النطاق على كل أرض مصر، لتعمير ما خربته الحروب الكثيرة التي دارت بين الفرس والروم على أرض مصر، وما خربه الروم أنفسهم انتقاما من أهل مصر، المخالفين لهم في المذهب الديني، حتى الكنائس والأديرة نالتها يد التعمير، كما أدرك المسلمون قيمة وصايا الرسول صلّى الله عليه وسلم بأهل مصر، وشهادته لهم بأنهم «خير أجناد الأرض؛ لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة» ؛ فاتخذوا في مصر جندا كثيفا، وجيشا كبيرا مرابطا دفاعا عن أرض الإسلام في مشرقه ومغربه. ودفاع مصر عن الإسلام عقيدة وأرضا وحضارة، حقيقة لا ينكرها إلا جاحد أعمى التعصب بصره وبصيرته. ولقد استثمر المسلمون كل إمكانات مصر وخبرة أهلها في بناء السفن وأقبل المصريون على العمل في العديد من دور صناعة السفن التي سبق الحديث عنها في القلزم والإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس وجزيرة الروضة، كما لم يترددوا في العمل في موانئ الشام وموانئ المغرب، بكل عزم وإخلاص، لحسن الرعاية وجميل المعاملة التي كانوا يلقونها من الأمراء المسلمين، وقد كان من المسيحيين أنفسهم قادة لبعض هذه القواعد العسكرية، كما سبقت الإشارة. وكانت النتيجة بروز بحرية إسلامية قوية غاية في القوة، وانتشرت الأساطيل البحرية الإسلامية في شرق وجنوب وغرب البحر الأبيض المتوسط، ولم تصبح الأساطيل الإسلامية ندّا للأساطيل البيزنطية فحسب. بل تفوقت عليها وانتزعت منها السيادة على البحر الأبيض المتوسط، ويعد المؤرخون معركة ذات الصواري، التي دارت بين الأساطيل الإسلامية بقيادة أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعلى شواطئ مصر الغربية سنة (34 هـ/ 655 م) وبين الأساطيل البيزنطية بقيادة الإمبراطور قنسطانز الثاني- يعدون هذه المعركة فاصلة في التاريخ البحري في مطلع العصور الوسطى؛ فقد قررت مصير البحر الأبيض المتوسط لمصلحة المسلمين، ولعدة قرون قادمة «1» ، فالنصر العظيم الذي حققه الأسطول الإسلامي الناشئ على

_ (1) راجع عن هذه المعركة الفاصلة: تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 286) وما بعدها، ود. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية (ص 36) وما بعدها، ود. حسين مؤنس- تاريخ المسلمين-

الأساطيل البيزنطية العتيدة. كان مفاجأة مذهلة للإمبراطور البيزنطي، الذي لم يكن يساوره أي شك في انتصار أساطيله، ومن ثم العودة إلى استرداد مصر والشام من المسلمين، ولكن الهزيمة القاسية التي لحقت به، جعلته يقلع نهائيّا عن فكرة استرداد مصر والشام، والتسليم بالأمر الواقع؛ ولذلك عاد من الهزيمة لا ليستقر في عاصمته العتيدة- القسطنطينية بل ذهب إلى جزيرة صقلية المواجهة لإفريقية- تونس- عله ينجح في حماية شمال إفريقيا، بعد أن فقد الأمل في العودة إلى مصر والشام، ولكن حتى هذا الأمل ضاع من الإمبراطور التعس الذي لقي مصرعه في تلك الجزيرة اغتيالا، ثم تابع المسلمون فتح الشمال الإفريقي كله، وأخرجوا الروم منه أذلاء، كما أخرجوهم من الشام ومصر. وانطلقت الأساطيل الإسلامية تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، وتفتح جزره في الشرق والجنوب والغرب محققة السيادة الإسلامية على ذلك البحر. ولا نبالغ إذا قلنا: إن كل ذلك لم يكن ممكنا بدون فتح مصر، وتعاون أهلها مع الفاتحين المسلمين، وتقديم خبرتهم في بناء الأساطيل الإسلامية.

_ في البحر المتوسط (ص 60) وما بعدها.

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك

البحث التاسع الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك

[البحث التاسع] الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك * تمهيد: الحديث عن الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر يقتضي الإلمام- ولو بإيجاز شديد- بفكرة عامة عن طبيعة الفتح الإسلامي- وبفتح إيران- بلاد فارس- بصفة خاصة؛ لأن كتائب الفتح الإسلامي التي انطلقت لفتح بلاد ما وراء النهر، قد انطلقت من إقليم خراسان- شمال شرق إيران- الذي أصبح القاعدة الرئيسية لفتح ما وراء النهر، ولعب في فتحها الدور الذي لعبته البصرة والكوفة في فتح إيران، والدور الذي لعبته مصر في فتح المغرب العربي، والدور الذي لعبه المغرب العربي في فتح الأندلس، والفتوحات الإسلامية الكبرى، التي تمت في القرن الهجري الأول- والتي امتدت من شبه جزيرة أيبريا- الأندلس- في الغرب، إلى حدود الصين في الشرق، ومن بحر قزوين في الشمال إلى المحيط الهندي في الجنوب- هذه الفتوحات تمت على مرحلتين رئيسيتين، كل مرحلة استمرت نحو عشر سنوات، الأولى بدأت عام (12 هـ) في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستمرت طوال خلافة عمر بن الخطاب (13- 23 هـ) رضي الله عنه، وخلال هذه الفترة، فتحت العراق وكل بلاد فارس والشام ومصر، بل تجاوزت الفتوحات حدود مصر غربا ووصلت إلى حدود تونس الحالية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمرحلة الثانية، هي فترة خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان (من سنة 86 إلى سنة 96 هـ) ، وفيها استكمل المسلمون فتح شمال إفريقيا حتى المحيط الأطلسي، ثم عبروا مضيق جبل طارق وفتحوا الأندلس، وفي المشرق فتحوا أقاليم ما وراء النهر- وهو موضوع بحثنا- ثم فتحوا إقليم السند- وهو الإقليم الشمالي الغربي من شبه القارة الهندية. والمتأمل لحركة الفتوحات الإسلامية هذه، منذ انطلاقتها الأولى- خارج شبه الجزيرة العربية- في عهد الصديق رضي الله عنه، وعبر تطوراتها وتصاعد موجاتها وحتى بلغت قمتها في عهد الوليد بن عبد الملك يلاحظ- إن كان منصفا- أنه لم يكن للمسلمين خطة أو برنامج معد سلفا للفتح خارج شبه جزيرة العرب، والصدام عسكريّا مع الآخرين؛ لأن غاية المسلمين الأولى، بل واجبهم الأساسي هو نشر الإسلام، وهذا لا يتطلب أعمالا حربية لأن الإيمان مقره القلوب، والقلوب

* المسلمون والفرس:

لا يستطيع أحد أن يفرض عليها شيئا بالقوة. وكل ما كان يطلبه المسلمون من الآخرين- خاصة جيرانهم الفرس والروم- أن يفسحوا لهم الطريق، ليدعوا الناس إلى دينهم- بدن عوائق وموانع- بالحكمة والموعظة الحسنة كما أمرهم ربهم، ولكن الفرس والروم أبوا ذلك، وحملوا المسلمين حملا على حمل السيف واللجوء إلى القوة لإزاحتهم من طريق الدعوة، فالحروب الإسلامية لم تكن لنشر الإسلام وإنما كانت لتحقيق الحرية لنشر الإسلام، ولو كانت الحروب لنشر الإسلام، وحمل الناس على اعتناقه بالقوة؛ لما بقي فرد واحد غير مسلم في كل بقاع الأرض التي وصلتها الجيوش الإسلامية، ولكن هذا لم يحدث وبقي أناس كثيرون غير مسلمين- وإلى الآن- في تلك البلاد وهذا دليل على أن الحروب لم تكن لنشر الإسلام وإنما لحماية الدعوة من الطغاة المتجبرين. والذي يتأمل سياسة الرسول صلّى الله عليه وسلم في هذا المجال يجدها قائمة على تأمين شبه الجزيرة العربية، قاعدة الإسلام ومرتكزه ومنطقه- من أي عدوان خارجي- انظر على سبيل المثال أهداف غزوة مؤتة وتبوك وبعث أسامة بن زيد- ثم دعوة الناس خارج شبه جزيرة العرب إلى الإسلام بالحسنى والكلمة الطيبة، وتمثل ذلك في الرسائل التي أرسلها- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الملوك والأباطرة والأمراء ومنهم كسرى أيزويز الثاني- ملك الفرس- وكانت كلها رسائل سلمية ولم ترد فيها كلمة واحدة عن الحرب أو التهديد بها. * المسلمون والفرس: تجمع المصادر على أن كسرى أيزويز الثاني مزّق رسالة النبي- علوّا واستكبارا- بل طلب من باذان نائبه على حكم اليمن أن يقبض له على النبي ليقتله، عقابا له على جرأته، ومخاطبة ملك الملوك ودعوته إلى الإيمان بالله ورسوله، والنبي لم يزد عند سماعه بذلك على أن قال: «مزّق الله ملكه» «1» . لا يشك عاقل في أن هذا الموقف من جانب ملك فارس عدائي للغاية، وسوف يتطور ويتصاعد العداء أكثر وأكثر، وتجلى ذلك في موقف الفرس من حروب الردة، وتحريضهم للقبائل العربية الخاضعة لنفوذهم في منطقة الخليج على الردة والتمرد على

_ (1) انظر تاريخ الطبري (2/ 654) .

حكومة الخلافة في المدينة المنورة، مما أدى إلى الاشتباك العسكري بين المجاهدين المسلمين الذين كانوا يلاحقون المرتدين على ساحل الخليج العربي شمالا بقيادة المثنى ابن حارثة الشيباني، وبين الفرس؛ ذلك الاشتباك الذي تطور ليصبح صداما شاملا لم يتوقف إلا بعد فتح إيران كلها وإدخالها تحت السيادة الإسلامية، ولا يستطيع منصف أن يلوم المسلمين على ذلك، فلم يكونوا البادئين بالعدوان، فبعد الاشتباكات الأولى أدرك المثنى أن الفرس ألقوا بكل ثقلهم في المعارك- دون أن يكونوا مقصودين، فلم يكن يدور بفكر المثنى أن يحارب دولة كبيرة كفارس- بما معه من قوات صغيرة- فطلب مددا من المدينة لصدّ عدوانهم، وأدرك الخليفة الأول، أبو بكر الصديق رضي الله عنه- ببصيرته النافذة- دقة الموقف، فدفع إلى الجبهة بأعظم وأمهر قواده خالد بن الوليد، ليلقن الفرس درسا لم يلقنهم إياه أحد من قبل، وفي شهور قليلة من عام (12 هـ) فتح القائد المظفر نصف العراق الجنوبي وسحق ما به من قوات الفرس سحقا، واستقر في الحيرة عاصمة المناذرة، بناء على تعليمات الخليفة، وانتظارا لأوامره، وبعد قليل تطورت الأمور على الجبهة الغربية- بين المسلمين والروم- مما اضطر الخليفة أن يأمر خالدا بالتحرك ببعض القوات العاملة معه في العراق إلى الشام لكسر شوكة الروم، ولينسيهم وساوس الشيطان- على حد قول أبي بكر الصديق- فجاء خالد وحطم جيش الروم تحطيما- كما هو معروف- في معركة اليرموك سنة (13 هـ) وبضربة واحدة فتح الطريق أمام المسلمين لفتح الشام ومصر وما تلاها غربا مما لا مجال لذكره هنا، فهدفنا هنا الحديث عن فتح فارس الذي مهّد لفتح بلاد ما وراء النهر. بعد تحرك خالد من العراق إلى الشام، ومعاركه الخالدة هناك، كان أبو بكر قد توفي سنة (13 هـ) وتولى الخلافة الفاروق عمر بن الخطاب فرمى الجبهة الفارسية ببطل آخر من أبطال الفتح الإسلامي العظماء، الأسد في عرينه- سعد بن أبي وقاص- الذي وصل إلى القادسية وأرسل وفدا إلى بلاط فارس في المدائن يعرض عليهم الإسلام وإذا أبوا فالجزية، وإذا أبوا فالقتال لإزاحتهم من طريق الدعوة ولكنهم أبوا إلا القتال، فكان لهم ما أرادوا، واشتبك الجيشان في القادسية وانتصر جند الله انتصارا عظيما، وهزم الجيش الفارسي هزيمة منكرة «1» وسقط قائده رستم- أعظم قادة الفرس- صريعا في المعركة، وتابع الفاتح الكبير بطل القادسية سعد بن

_ (1) انظر البلاذري- فتوح البلدان (ص 315) .

أبي وقاص زحفه إلى المدائن- عاصمة الأكاسرة- فدخلها يقود جحافل النصر في مشهد مهيب ونادر من مشاهد التاريخ، فها هو سعد بن أبي وقاص- أحد أبناء الصحراء- يدخل القصر الأبيض فاتحا ويجلس في نفس الإيوان الذي مزّق فيه كسرى أبروز الثاني رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم علوّا واستكبارا وقد حقق الله دعوة النبي فمزّق ملكه. صلى سعد صلاة الشكر لله على هذا الفتح المبين في إيوان كسرى، وتلا قول الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 25- 29] . أما آخر الأكاسرة الفرس، بل آخر كسرى في التاريخ، وهو يزدجرد الثالث فقد فرّ مذعورا كالفأر- وقد كان قبل شهور فقط يزأر كالأسد- تاركا عاصمة ملكه في قبضة الفاتحين المسلمين. وأما سعد فقد أرسل بشائر النصر والغنائم إلى عمر بن الخطاب في المدينة المنورة، وطلب منه أن يأذن له بمواصلة فتح بلاد فارس ولكن عمر رفض، وقال لسعد: «لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال» «1» هذا الموقف من الخليفة يدل بوضوح على أن المسلمين ليسوا دعاة حرب، ولم يكن من خططهم نشر الإسلام بالقوة أو الاستيلاء على بلاد الناس بحد السيف والذي يتأمل كلام عمر وتصرفاته يستطيع أن يخرج بانطباع أن الخليفة قد تكونت في ذهنه فكرة محددة، وهي أن يقف بالفتوحات عند حدود العراق والشام، وأن يحاول تنظيم تلك المناطق ويطبق فيها منهج الإسلام والعدل والحرية بكل معانيها، ليدرك الناس أن المسلمين ما جاؤوا ليستولوا على بلادهم، بل جاؤوا ليخلصوهم من الظلم والاستعباد، وإذا تحقق ذلك فإن الناس في البلاد الآخرى المجاورة سوف يأتون من تلقاء أنفسهم، فمن ذا الذي يرفض العدل والمساواة والحرية؟ هذا ما استقر عليه رأي عمر بعد القادسية، ولعله توقع أن الفرس بعد الهزائم المريرة المتلاحقة التي منوا بها على أيدي المسلمين سوف يكفّون عن الحرب ويتركون المسلمين وشأنهم، خصوصا وأن المناطق التي فتحها المسلمون إلى الآن- وهي العراق- مناطق عربية وسكانها عرب، والفرس كانوا أجانب مستعمرين. ولكن ما توقعه عمر بن الخطاب لم يحدث بل حدث عكسه تماما، فقد دأب الفرس- خاصة أهل الأهواز- على التمرد ونقض المعاهدات التي منحها لهم المسلمون، وضمنوا لهم بمقتضاها حرية

_ (1) انظر تاريخ الطبري (4/ 28) .

* ردة الفرس بعد وفاة عمر بن الخطاب:

عقائدهم والمحافظة على أرواحهم وأحوالهم، كما تجمعت لدى عمر أخبار ومعلومات وفيرة عن اجتماع الفرس حول يزدجرد الثالث في نهاوند «1» وهم يعدون العدة لمهاجمة المسلمين، فلم يكن أمام عمر من بد سوى أخذ زمام المبادرة فأرسل إلى نهاوند جيشا بقيادة النعمان بن مقرن الذي مزّق جيش الفرس تمزيقا في معركة سماها المؤرخون فتح الفتوح «2» . وقال عنها الطبري: «لم تقم للفرس بعدها قائمة ولم تجتمع لهم كلمة» . فر يزدجرد الثالث بعد اندحار جيشه في نهاوند، وأمر عمر ابن الخطاب الجيوش الإسلامية بالانسياح في بلاد فارس فاستسلمت جميعها دون مقاومة تذكر؛ لأن روح الفرس المعنوية قد تدهورت ووصلت إلى الحضيض، وفي خلال عام واحد وهو العام الأخير من خلافة عمر بن الخطاب كانت كل مملكة آل ساسان في قبضة المسلمين، وتحت سيادتهم. * ردة الفرس بعد وفاة عمر بن الخطاب: في نهاية عام (23) اغتالت يد مجوسي غادر وحاقد- وهو أبو لؤلؤة فيروز- أعدل الحكام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهدأت حركة الفتوحات على كل الجبهات تقريبا. بل إن بعض البلاد التي لم تكن قد فهمت طبيعة الإسلام، وما يحمله لها من خير وعزة وكرامة- قد حاولت التمرد والردة والثورة على الحكم الإسلامي، وكانت بلاد فارس في طليعة البلاد التي عمتها حركات الارتداد والثورة، وحدث فيها ما يشبه حركة الردة بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فقد ظن الفرس أن غياب عمر- لا تنس أن الذي اغتال عمر رجل فارسي- وهو المحرك الرئيسي للفتوحات قد يوفر لهم فرصة لطرد المسلمين من بلادهم، ولكن حساباتهم كانت خاطئة- كالعادة- فإذا كان عمر هو المحرك الرئيسي للفتوحات- ولا ينكر دوره وفضله- فإن من شغل مكان القيادة في الأمة الإسلامية- وهو عثمان بن عفّان رضي الله عنه- أثبت أنه على مستوى المسؤولية، فلم يفرط في الإنجاز العظيم الذي حققه عمر، وكلف ولاته على البصرة- أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عامر- وعلى الكوفة- سعد بن أبي وقاص والوليد بن عقبة- على التتابع بالتصدي لحركات التمرد الفارسي وقمعها، وقد قام هؤلاء الرجال بالمهمة خير قيام، وتمّ إخضاع جميع الأقاليم مرة

_ (1) انظر البلاذري- فتوح البلدان (ص 371) . (2) انظر تفاصيل ما دار في نهاوند وما سبقها وما لحقها في الطبري (4/ 116) ، وما بعدها.

* سياسة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما تجاه البلاد المفتوحة:

أخرى، ثم حدثت الفتنة بين المسلمين في الشطر الثاني من خلافة عثمان (30- 35 هـ) واستمرت طوال خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه (35- 40 هـ) فألقت بظلالها القاتمة على حركة الفتوحات، وكان قصارى جهد عليّ رضي الله عنه أن يحافظ على الفتوحات التي تمت وقد نجح في ذلك- رغم الظروف الصعبة التي كان يكابدها داخليّا- ولم يترك المسلمون شبرا من الأرض التي فتحوها. * سياسة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما تجاه البلاد المفتوحة: بعد اغتيال علي بن أبي طالب رضي الله عنه على يد شقي من أشقياء الخوارج- هو عبد الرحمن بن ملجم- في رمضان سنة (40 هـ) ، وصلح الحسن بن علي مع معاوية استتب الأمر للأخير وأصبح خليفة للمسلمين بما يشبه الإجماع سنة (41 هـ) وهو العام الذي سماه المسلمون عام الجماعة، وقد استبشروا خيرا بخلافة معاوية وبانتهاء فترة الفتن والحروب الأهلية، وكان معاوية يتمتع بصفات كثيرة من صفات رجال الدولة الكبار من الحلم وبعد النظر والدهاء والكرم وسعة الأفق، وقد التف المسلمون حوله وطالت خلافته (41- 60 هـ) وكان ينتظر منه أن يستأنف حركة الفتوحات الإسلامية ولكنه لم يفعل، أو بمعنى أصح لم يشهد عهده فتوحات على نطاق واسع، وانتهج سياسة أخرى دلت الأيام وحوادث التاريخ على أنها كانت سياسة حكيمة، كانت تلك السياسة تقوم على تثبيت الفتوحات الإسلامية، وتهيئة البلاد المفتوحة لقبول الإسلام عقيدة وشريعة فقد أدرك معاوية يثاقب نظره أن البلاد التي فتحت في عهد الخلفاء الراشدين قد فتحت بسرعة فائقة، وأن الشعوب لم تتعرف على الإسلام بعد، ومن حقها أن تأخذ فرصتها للتعرف عليه، ومن واجب المسلمين أن يقوموا بمهمة تعريف هذه الشعوب بالإسلام، وشرح تعاليمه ومبادئه وأهدافه، وأن المسلمين ليسوا مستعمرين كالفرس والروم، وإنما جاؤوا ومعهم رسالة توحيد خالصة، تفيض عدلا ورحمة وبرّا بالناس، وقد نهض معاوية رضي الله عنه بهذه المهمة الجليلة وقام بها خير قام، وتدعيما لهذه السياسة وتحقيقا لأهدافها فقد أصدر تعليماته للولاة بتهجير الأسر العربية وإسكانها في البلاد المفتوحة- خاصة بلاد فارس- حتى يكون اختلاط العرب المسلمين أصحاب الرسالة وأكثر الناس فهما لها ومسؤولية عن نشرها سبيلا إلى ازدياد معرفة الفرس بالإسلام فنقل زياد بن أبي سفيان- والي العراق (45- 53 هـ) - خمسين ألف أسرة عربية بعيالهم من

* بلاد ما وراء النهر قبيل الفتح الإسلامي:

البصرة والكوفة إلى خراسان «1» ، كان لهم أكبر الأثر في إقبال الفرس على الإسلام في حرية تامة ودون إكراه «2» . لم تتغير سياسة معاوية طوال العهد الأموي، وأثمرات ثمارا طيبة وتحولت غالبية الشعب الفارسي إلى الإسلام، بل إن إقبال الفرس على اعتناق الإسلام بكثرة هائلة خلق للولاة الأمويين مشكلة مالية، فقد تناقصت الجزية بإعفاء المسلمين الجدد منها- كما تقضي بذلك تعاليم الإسلام- هنا وقع الولاة في خطأ فاحش حيث أداهم حرصهم على جباية الأموال إلى إبقاء الجزية على المسلمين الجدد، وهو الأمر الذي بقي إلى أن ألغاه عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) فأمر برفع الجزية عن المسلمين الجدد، وصاح في الولاة صحيته المشهورة قائلا: «قبّح الله رأيكم، إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم هاديا ولم يبعثه جابيا» «3» . المهم أن معاوية آثر نشر الإسلام والتمكين له في البلاد المفتوحة- خاصة بلاد فارس- على فتح مزيد من الأرض، ولقد أثبتت الأيام ووقائع التاريخ صحة وسلامة تلك السياسة وأصبحت بلاد فارس كلها إسلامية، وستقوم بدور رئيسي ورائد في فتح بلاد ما رواء النهر. * بلاد ما وراء النهر قبيل الفتح الإسلامي: بلاد ما وراء النهر؛ تعبير أطلقه الجغرافيون والمؤرخون المسلمون على المنطقة المحصورة بين نهري، جيحون- آموداريا- في الجنوب، وسيحون- سرداريا- في الشمال، وتقع تلك البلاد في شمال شرق الدولة الفارسية القديمة، وسكانها من العنصر التركي الذي انحدر إليها من الشرق منذ القرن السادس الميلادي وكونوا لهم عدة ممالك مستقلة فيها. وأهم مصدر حديث يمدنا بمعلومات قيمة عن سكان ما وراء النهر، هو دراسة المؤرخ الروسي الأستاذ/ بارتولد المتخصص في تاريخ الترك في آسيا الوسطى، والذي اعتمد بدوره على آثار أرخون، التي يعتبرها أهم مصدر في الكشف عن ظهور الترك في آسيا الوسطى، يقول عنها: «ومن الآثار التي تهم صاحب الدراسات التركية، وتهم المؤرخ أيضا آثار أرخون، وهي تخلد أقدم ذكر للسان التركي، وقد اكتشفت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وهي أهم

_ (1) انظر البلاذري- فتوح البلدان (ص 507) . (2) توماس آرنولد- الدعوة إلى الإسلام (ص 238) . (3) انظر ابن عبد الحكم- فتوح مصر (ص 107) .

آثار تركية أنشأها الترك أنفسهم عن تاريخهم، فأصحاب هذه الآثار قد سموا أنفسهم لأول مرة في التاريخ بالترك. وهم قوم قد ظهروا في القرن السادس الميلادي واستولوا في زمن قصير على مساحات من حدود الصين إلى حدود إيران وبيزنطية» «1» . وقد ذهب الأستاذ بارتولد إلى أن سكان ما وراء النهر من أصل تركي وليسوا خليطا من الأتراك والإيرانيين كما يرى الدكتور شكري فيصل «2» . ومن الكتب الحديثة ذات القيامة أيضا في دراسة هذه المنطقة وسكانها وفتحها وانتشار الإسلام فيها كتاب الأستاذ الدكتور/ حسن أحمد محمود، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة وعنوانه: «الإسلام في آسيا الوسطى، بين الفتحين العربي والتركي» هذا بالإضافة إلى المصادر القديمة تاريخية وجغرافية وكتب الرحلات.. إلخ. ويرى الأستاذ بارتولد أن سكان ما وراء النهر وإن كانوا قد تأثروا بالثقافة الإيرانية لتفوقها الحضاري، إلا أن الدولة الساسانية لم تستطع أن تفرض نفوذها السياسي عليهم؛ لانشغالها الدائم بصراعها مع الدولة البيزنطية «3» ، وكان هذا الوضع مفيدا لسكان ما وراء النهر؛ حيث مكنهم من إقامة عدة ممالك مستقلة في الفترة السابقة على الفتح الإسلامي، وكانت تلك الممالك كالآتي: 1- مملكة طخارستان، وكانت أهم تلك الممالك وتقع على جانبي نهر جيحون وعاصمتها مدينة بلخ، التي نسب إليها نهر جيحون، حيث كان يطلق عليه نهر بلخ «4» . 2- مملكة الختل، وهي أول مملكة وراء نهر جيحون، وقصبتها مدينة هلبك «5» . 3- مملكة صغانيان، وهي ولاية عظيمة وقصبتها صغانيان أيضا «6» . 4- مملكة الصغد، وقصبتها مدينة سمرقند، ويقال: هما صغدان، صغد سمرقند، وصغد بخارى «7» .

_ (1) انظر بارتولد: تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 2، 3) وانظر أيضا د/ حسن أحمد محمود الإسلام في آسيا الوسطى (ص 135) وما بعدها. (2) حركة الفتح الإسلامي (ص 192) . (3) بارتولد- تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 40) . (4) المسعودي- مروج الذهب (1/ 101) . (5) ياقوت الحموي- معجم البلدان (2/ 346) . (6) ياقوت (3/ 408، 409) . (7) ياقوت (3/ 409) .

5- مملكة خوارزم، وقصبتها مدينة الجرحانية «1» . هذه هي أقاليم ما وراء النهر التي فتحها المسلمون في عهد الخليفة الأموي الوليد ابن عبد الملك بن مروان (86- 96 هـ) بقيادة البطل الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي إضافة إلى عدة أقاليم شرقي نهر سيحون، وهي فرعانة والشاش وأشروسنة، ولقد مضى قتيبة في فتوحاته حتى وصل إلى منطقة كاشغر ملامسا الصين فكيف كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية لهذه البلاد عند ما فتحها المسلمون؟ تفيد الدراسات الحديثة لهذه المنطقة ومن أهمها كتاب «تاريخ بخارى» للباحث المجري أرمينيوس فامبري، وكتاب «تاريخ الترك في آسيا الوسطى» لبارتولد- الذي سبقت الإشارة إليه- وكذلك كتاب الدكتور حسن أحمد محمود «الإسلام في آسيا الوسطى» ، تفيد هذه الدراسات أن تلك البلاد لم تكن مستقرة سياسيّا وكانت المنازعات بينها تكاد تكون مستمرة وقد شكل هذا الوضع خطرا على الوجود الإسلامي في خراسان، وينبغي ألا ننسى أن سكان بلاد ما وراء النهر كانوا قد عبروا نهر جيحون لمقاتلة المسلمين مع يزدجرد الثالث كسرى فارس، قبل مقتله سنة (31 هـ) في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه «2» . وهذا يعني أن لهم ماضيا عدائيّا تجاه الإسلام والمسلمين الذين قرروا وضع حد لهذه الفوضى الضاربة في هذه البلاد، وضمها للدولة الإسلامية قبل أن يستفحل خطرها، خاصة وأن هذه الممالك التركية كانت المنازعات بينها مستمرة وعلاقاتها مضطربة، ويكفي أن نشير هنا إلى تلخيص الأستاذ جب في كتابه «غزوات العرب في آسيا الوسطى» للوضع السياسي في هذه المنطقة، حيث يقول: كانت الولايات في هذه المنطقة تعترف بالخان سيدا لها، وتدفع له الجزية، وكانت إمارة صغديان مقسمة إلى ولايات صغيرة مستقلة تقوم بينها معاهدات مرنة، وكان أقوى ما يصل بينها من رباط إنما هو تجارة الحرير مع الصين، وأهم مراكزها سمرقند، وبيكند وكش، وكانت سمرقند أوفرها حظّا من النجاح في عالم التجارة، ومنها كانت ترسل البعوث التجارية إلى بلاد الصين، أما المشتغلون بالزراعة فكانوا كلهم من الجنس الآري، وقد ارتبطت الولايات فيما بينهما- عدا ذلك- برباط ثان؛ وهو سيادة أسرة معينة فيها على جميع الأسر الآخرى، ولكنه لم يكن رباطا وثيقا وكل

_ (1) ياقوت (2/ 395) . (2) انظر ابن الأثير الكامل في التاريخ (3/ 119) وما بعدها.

* المراحل التمهيدية لفتح بلاد ما وراء النهر:

شيء في هذه الأوضاع الاجتماعية والتفكك السياسي في حياة هذه الولايات كان في صالح الفتح العربي «1» . * المراحل التمهيدية لفتح بلاد ما وراء النهر: المرحلة الحاسمة لفتح أقاليم ما وراء النهر جاءت على يد الفاتح البطل قتيبة بن مسلم الباهلي، ففي غضون عشر سنوات (86- 96 هـ) بسط السيادة الإسلامية على كل البلاد «2» ، ويمكن أن يقال: إن قتيبة كان رجلا حسن الحظ، حيث قدّر له أن يجني ثمار مراحل طويلة من الغزوات التي طرقت بلاد ما وراء النهر عبر عشرات السنين وثمار أعمال رجال وقادة عظاماء سبقوه إلى هذه البلاد ودوّخوها وعبّدوا له الطريق فمنذ خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41- 60 هـ) بدأ المسلمون يجتازون نهر جيحون منطلقين من خراسان، ولم يكن ينقطع غزوهم وعبورهم النهر، الذي أخذ يتكرر كل عام تقريبا بقصد التعرف على البلاد وطرقها وطبيعتها ومناخها وسكانها والتجرؤ عليها، ويمكننا القول: إن هذا الاجتياز وذلك الغزو كان عملا من أعمال الاستطلاع وجمع المعلومات، وشغل البلاد بالدفاع عن نفسها أكثر منه فتحا منظما بقصد الاستقرار؛ لأن الفتح المنظم كان يتطلّب ظروفا لم تكن متوفرة للدولة الإسلامية في تلك الفترة، فمن ناحية عاشت الدولة الإسلامية مرحلة من الفتن والحروب الأهلية منذ مطلع خلافة يزيد بن معاوية (60- 64 هـ) وحتى قرب نهاية خلافة عبد الملك بن مروان (65- 86 هـ) . ومن ناحية ثانية لم يكن ممكنا الإقدام على تنفيد مشروع كبير كفتح بلاد ما وراء النهر قبل أن تستقيم للمسلمين الأمور في خراسان وطخارستان، التي لم يستقر أمرها إلا على يدي قتيبة بن مسلم. فالفتور الذي كان يصيب المسلمين في خراسان، والخلافات القبلية التي كانت تعصف بهم وعصيانهم للأمراء وقسوة الأمراء عليهم، كل ذلك كان شديد الأثر في حركة الفتح في بلاد ما وراء النهر، وهو أثر سلبي بطبيعة الحال. وإذا توفر لخراسان ولاة أكفاء لهم من الحزم والعزم والتصميم ما يضبط البلاد

_ (1) انظر الدكتور شكري فيصل- حركة الفتح الإسلامي (ص 209) نقلا عن كتاب جب «غزوات العرب في آسيا الوسطى» . (2) أرمينيوس فامبري- تاريخ بخارى (ص 61) .

ويشيع الاستقرار- كما كان زياد وابنه عبيد الله- فإن ذلك كان كفيلا بأن يتيح للحملات على بلاد ما وراء النهر مجالات من السعة والتقدم «1» . ولدينا طائفة من الروايات التاريخية، كما جاء في فتوح البلدان للبلاذري «2» حول الذين عبروا النهر- جيحون- عبد الله بن عامر، والحكم بن عمرو الغفاري، الذي كان أول من عبر النهر، وسعيد بن عثمان بن عفان «3» ، وكان أول من قطعه، وسلم بن زياد، وكانت امرأته أول عربية عبر بها النهر، هذه الروايات قد يبدو فيها التناقض؛ لأن كل واحد من أبطالها قيل عنه: إنه الأول في عبور نهر جيحون وبالتأمل يمكن أن يزول التناقض، إذا تصورنا أنه لا مانع من أن يكون كل واحد منهم عبر من جبهة غير الجبهة التي عبر منها الآخرون، وعلى هذا يكون كل واحد هو الأول في العبور من الجبهة التي عبر منها، وسواء أصح هذا التصور أم لا؛ فإن الحقيقة التي تستخلص من كل تلك الروايات واحدة لا تتغير، وهي أن خطوات المسلمين الأولى إلى بلاد ما وراء النهر كانت خطوات تمهيدية. ولعل زياد بن أبي سفيان أول من فطن إلى أن فتح ما وراء النهر لا يمكن قبل استقرار الأوضاع في خراسان «4» ، فأقدم على خطوة مهمة كانت بعيدة المدى والمرمى في حياة خراسان، حيث نقل خمسين ألف أسرة عربية من البصرة والكوفة وأسكنها خراسان «5» . ومن الطبيعي أن يكون زياد قد تشاور في هذا مع الخليفة معاوية بن أبي سفيان؛ لأنه من غير المعقول أن يقدم على عمل كبير كهذا دون علم الخليفة، وهكذا يمكننا أن نقول في ثقة: إن أسس فتح بلاد ما وراء النهر قد بدأها زياد وتابعها بعده ابنه عبيد الله، الذي وفق في عبور نهر جيحون ودخول بخارى، وبعد أن أخضع مدينة بيكند الغنية ومركز التجارة «6» ومنها سار إلى بخارى محملا بالغنائم يسير في ركابه أربعة آلاف أسير «7» وكان ذلك سنة (53 هـ) . وقد استنجدت الملكة خاتون ملكة بخارى بجيرانها الترك الذين حاولوا إنقاذ المدينة، ولما

_ (1) شكري فيصل- حركة الفتح الإسلامي (ص 210) . (2) (ص 408- 413) . (3) زين الأخبار أبو سعيد الكرديزي- (1/ 173) ترجمة الدكتورة عفاف السيد زيدان. (4) أرمينيوس فامبري- تاريخ بخارى (ص 57) . (5) البلاذري- فتوح البلدان (ص 410) . (6) تاريخ بخارى (ص 57) . (7) زين الأخبار (1/ 172) .

* فتوحات قتيبة بن مسلم فيما وراء النهر:

لم يكن عبيد الله عازما هذه المرة على الاستقرار فقد قبل أن يأخذ الجزية من الملكة- ألف ألف درهم- والتي دفعتها طائعة إنقاذا لبلادها «1» . وعاد إلى مرو. ولكن الحملات لم تنقطع أبدا على بلاد ما وراء النهر فقد واصل خلفه سعيد بن عثمان بن عفان حملاته على بخارى «2» وغيرها من بلاد ما وراء النهر، ثم تصاعدت الحملات على يد المهلب بن أبي صفرة، والي خراسان من قبل الحجاج الثقفي (78- 83 هـ) . ثم على يدي ولديه يزيد بن المهلب والمفضّل (83- 85) وقد بدأ المهلب غزواته في بلاد ما وراء النهر سنة (80 هـ) ، حيث يقول ابن الأثير: وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ، ونزل على كشّ وأقام بها سنتين «3» ولما توفي المهلب سنة (83 هـ) خلفه ابنه يزيد على ولاية خراسان، فواصل غزو ما وراء النهر ثم واصل أخوه المفضل الغزو أيضا إلى أن عزله الحجاج بدوره وأسند ولاية خراسان إلى الرجل الذي شاءت له الأقدار أن يخطو الخطوة الحاسمة في فتح بلاد ما وراء النهر وأن يرتبط فتح هذه البلاد باسمه، ذلك الرجل هو قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي استثمر جهود كل القادة الكبار الذين سبقوه، وحرثوا له البلاد، ومهدوا له الطريق ابتداء من عبد الله بن عامر، ومرورا بزياد بن أبي سفيان وابنه عبيد الله، وسعيد بن عثمان بن عفان، والمهلب بن أبي صفرة وأولاده. * فتوحات قتيبة بن مسلم فيما وراء النهر: ولي قتيبة خراسان من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي- والي العراق والمشرق كله- وكان ذلك سنة (85 هـ) على الأرجح، بعد عزل المفضّل بن المهلب. وكان اختيار الحجاج لقتيبة لولاية خراسان اختيارا موفقا وجاء في موعده فقد كان الرجل من الأبطال الشجعان، ذوي الحزم والدهاء والغناء، ويعتبر بحق من كبار القادة الفاتحين الذين أنجبتهم الأمة العربية وعرفهم التاريخ الإسلامي. ففي خلال نحو عشر سنوات (86- 96) فتح أقاليم شاسعة في آسيا الوسطى، وهدى الله على يديه خلقا كثيرا، فأسلموا ودانوا لله عزّ وجلّ «4» . وقد شرف الله تعالى قتيبة بحمل راية الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر في وقت ملائم تماما، فقد استفاد من جهود كل من سبقوه، وكان يعتمد- بعد

_ (1) تاريخ بخارى (ص 58) . (2) تاريخ بخارى (ص 58) . (3) الكامل في التاريخ (4/ 453) . (4) ابن كثير- البداية والنهاية (9/ 167) .

الله تعالى- على والي العراق العظيم الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي اختاره لهذه المهمة الجليلة، ووضع ثقته فيه، ولم يقصر في إمداده بالرجال والعتاد والرأي والمشورة، كما كان من حسن حظ قتيبة أن ولايته على خراسان واضطلاعه بقيادة الفتوحات في بلاد ما وراء النهر قد جاءت في وقت ملائم تماما، حيث كانت الدولة الأموية تغلبت على جميع مناوئيها، واستقرت أمورها واستردت عافيتها، في خلافة الوليد بن عبد الملك (86- 96 هـ) فاجتمعت لقتيبة شجاعة القائد وإقدامه وعزم الوالي وتصميمه، وقوة الدولة واستقرارها، فكانت أمجاده وأعماله الرائعة في ما وراء النهر. ولقد برهن قتيبة بن مسلم على أنه لم يكن قائدا عسكريّا فذّا وفاتحا عظيما فحسب، بل أنه كان رجل إدارة وتنظيم وسياسة من الطراز الأول وأنه كان يعرف طبيعة المهمة التي أو كلت إليه، كما أنه كان يعرف كل شيء عن خراسان- القاعدة التي ستنطلق منها الغزوات- والتي كانت رياح الخلافات والعصبيات العربية قد هبّت عليها؛ من جراء التنافس على الولاية والمناصب الآخرى بين أبناء القبائل العربية- خاصة اليمن وقيس- فكان على قتيبة- قبل أن يمضي إلى تنفيذ مشروعه الكبير لفتح ما وراء النهر- أن ينسي العرب خلافاتهم ويجعلهم يرتفعون فوق العصبيات، ويذكّرهم برسالتهم السامية التي أكرمهم الله بها وشرفهم بحملها، وأن يعدهم نفسيّا لاستئناف الجهاد في سبيل الله. فما أن وصل خراسان حتى اجتمع برؤساء القبائل وأعيان الناس، وخطب فيهم خطبة بليغة، كان لها أبلغ الأثر في جمع الكلمة والتوجه للجهاد في سبيل الله بدلا من ضياع الوقت والجهد في المنازعات والخلافات القبلية التي لا طائل من ورائها. وكان مما قاله قتيبة في خطبته تلك، مخاطبا زعماء القبائل: «إن الله أحلكم هذا المحل ليعز بكم دينه، ويذبّ بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقما- أي: ذلّا- ووعد نبيه صلّى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 32] ، ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده، فقال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا

* خطوات الفتح ومراحله:

كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة: 120- 121] ثم أخبر عمن يقتل في سبيل الله أنه حي مرزوق، فقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] ؛ فتنجزوا موعود ربكم، ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم، وإياكم والهوينى» «1» . بهذه الخطبة البليغة ذكر قتيبة العرب برسالتهم ومسؤوليتهم عنها وأهاب بهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل المشقات في سبيل الله، كما فعل أسلافهم من قبل، حتى يفوزوا مثلهم بسعادة الدنيا والآخرة. وكما نجح قتيبة في توحيد صفوف العرب في خراسان تحت راية الجهاد في سبيل الله، فقد نجح في كسب ثقة الخراسانيين وودّهم، حيث قرّبهم إليه وأسند إليهم الوظائف الإدارية، وضمن بذلك تعاونهم معه، وكان كل ذلك مقدمة ضرورية وسليمة لتحقيق هدفه الكبير، وهو فتح بلاد ما وراء النهر. * خطوات الفتح ومراحله: استغرق فتح بلاد ما وراء النهر نحو عشر سنوات (86- 96 هـ) ومر عبر أربع مراحل رئيسية؛ نوجزها فيما يلي: المرحلة الأولى: استغرقت عاما واحدا تقريبا (86- 87 هـ) ، وفيه أخضع قتيبة إقليم طخارستان، ذلك الإقليم الكبير الذي يقع على ضفتي نهر جيحون، والذي يبدو أن أوضاعه لم تستقر تماما للمسلمين طوال السنين الماضية، منذ فتحه الأحنف بن قيس في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه «2» . فكان على قتيبة أن يخضع ذلك الإقليم للسيادة الإسلامية قبل عبور النهر وفيما يروي البلاذري والطبري «3» فإن قتيبة بعد أن استتبت له الأمور في خراسان استخلف عليها إياس بن عبد الله بن عمر، وسار هو على رأس قواته إلى طخارستان، فلما بلغ الطالقان تلقاه دهاقون بلخ وعظاماؤها، فساروا معه، فلما

_ (1) الطبري (6/ 424) . (2) انظر الطبري (4/ 313) . (3) الطبري (6/ 424) والبلاذري (ص 516، 517) .

المرحلة الثانية (87 - 90 هـ) :

قطع النهر تلقاه تيش الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب فدعاه إلى بلاده، وأتى ملك كفتان بهدايا وأموال، ودعاه- أيضا- إلى بلاده، فمضى مع تيش إلى الصغانيان فسلمه بلاده، ثم جاء غستاسبان ملك أخرون وشومان، وهما من طخارستان، فصالحه على فدية أدّاها إليه فقبلها قتيبة ورضي ثم انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم. يفهم من رواية الطبري والبلاذري كليهما أنه أصبح لقتيبة هيبة عظيمة في تلك البلاد وأن طخارستان خضعت له دون قتال، وأن ملوك وأمراء بلاد ما وراء النهر هرعوا إليه يقدمون الهدايا وفروض الطاعة ويدعونه إلى بلادهم ويسلمونها إليه، ولكن الطبري نفسه يروي رواية أخرى- وإن كانت بصيغة المبني للمجهول- يفهم منها أن قتيبة لقي حربا، فهو يقول: «وقيل: إن قتيبة أقام قبل أن يقطع النهر في هذه السنة- (86 هـ) - على بلخ؛ لأن بعضها كان منتقضا عليه فحارب أهلها، ثم إن أهل بلخ صالحوا من غد اليوم الذي حاربهم فيه قتيبة» «1» ، وعلى كل حال لا يبدو الخلاف كبيرا بين الروايتين؛ لأن أهل بلخ لم يكونوا ملحّين في حربهم قتيبة، بدليل أنهم صالحوه من غد اليوم الذي حاربوا فيه، والنتيجة أن طخارستان خضعت طوعا، أو صلحا بعد قتال يسير، وأن قتيبة اطمأن إلى أوضاعها، وبدأ يتأهب لبدأ جهاده الكبير فيما وراء النهر. المرحلة الثانية (87- 90 هـ) : بدأ قتيبة أولى خطواته لفتح ما وراء النهر سنة (87 هـ) «2» ، فعبر النهر واتجه إلى مدينة بيكند- وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر- والتي كان المسلمون قد غزوها مرارا كثيرة- قبل قتيبة- فلما نزل بغفوتهم- على حد تعبير الطبري- استنصروا الصغد، واستنجدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير وأخذوا بالطريق، فلم ينفذ لقتيبة رسول، ولم يصل إليه رسول، ولم يجر له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأشفق الحجاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار، وهم يقتتلون كل يوم، فكانت بين الناس مشاولة- القتال بالرماح- ثم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مأخذها وأنزل الله على المسلمين الصبر فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم فانهزموا يريدون المدينة، واتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول، فتفرقوا وركبهم المسلمون قتلا

_ (1) الطبري (6/ 425) . (2) أبو سعيد الكرديزي، زين الأخبار (1/ 179) .

المرحلة الثالثة (90 - 93 هـ) :

وأسرا كيف شاؤوا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة- وهو قليل- فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم واستعمل عليها رجلا من بني قتيبة «1» . هذا هو تلخيص الطبري لمعركة الاستيلاء على مدينة بيكند، التي لم يلبث أهلها أن نقضوا الصلح، وقتيبة منهم على خمسة فراسخ، مما اضطره أن يرجع إليهم وأن يقتل من كان بها، وأن يغنم غنائم كثيرة، قوي بها أمر المسلمين واشتروا السلاح والخيل وتنافسوا في حسن الهيئة- على حد تعبير الطبري- «2» ثم عاد قتيبة إلى مرو ليستريح ليبدأ مرحلة جديدة من جهاده، فواصل حملاته على إقليم بخارى، ففي سنة (88 هـ) ترك أخاه بشارا على مرو، وعبر هو النهر ففتح نو مشكت ودامثنة- من أعمال بخارى- صلحا، بناء على طلب ورغبة أهلها «3» . ولكنهم لم يكونوا صادقين في طلب الصلح، بل كانت قلوبهم تنطوي على الخديعة والمكر، فقد فاجؤوا قتيبة بتجمع هائل من الأمم المجاورة- فرغانة والصغد- يقوده ابن أخت ملك الصين، مما يدل على أن الأمم في تلك البلاد قد تداعت وتحالفت على المسلمين وأن الصين قد ألقت بثقلها في المعركة لكن الله نصر جنده- على حد تعبير الطبري- «4» . وفي العام التالي (89 هـ) استأنف قتيبة غزوه، الذي كان يقوم به في فصل الصيف- لقسوة الشتاء في تلك البلاد- وهذه السنة قصد بخارى، بناء على تعليمات وأوامر من الحجاج، فلقيه في طريقه جمع من أهل كش ونسف فظفر بهم، ومضى إلى بخارى فتصدى له ملكها- وردان خداه- فلم يستطع الاستيلاء عليها، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجاج بخبره، فطلب منه أن يصورها له، فبعث إليه بصورتها، فنصحه وأمره وعرّفه الموضع الذي يأتيها منه، فسار إليها ثانية سنة (90 هـ) ، وفتحها بعد معركة انتصر فيها على جمع كبير من الصغد والترك الذين كان ملكها قد استعان بهم، وبهذا توج قتيبة أعماله في هذه المرحلة بفتح بخاري التي سيكون لها في تاريخ الإسلام والمسلمين شأن عظيم. المرحلة الثالثة (90- 93 هـ) : في هذه المرحلة التي استغرقت ثلاث سنوات كسابقتها استطاع قتيبة أن يبسط

_ (1) الطبري (6/ 430) وابن الأثير- الكامل في التاريخ (4/ 528) . (2) المصدر السابق (6/ 432) . (3) الطبري (6/ 436) . (4) المصدر السابق (6/ 436) .

السيادة الإسلامية على كل ما وراء نهر جيحون، وتوج ذلك بفتح مدينة سمرقند أعظم مدائن الإقليم، وكان طرخون ملك الصغد قد أرسل إلى قتيبة بعد انتصاره في معركة بخارى سنة (90 هـ) يطلب الصلح فأجابه وصالحه ورجع إلى مرو «1» . لكن الملك نقض الصلح- الذي كان هو الداعي إليه- وامتنع عن دفع الجزية التي كان قد التزم بها، مما جعل قتيبة يغضب، ويقرر أن يضع حدّا لهذا العبث، وأن يلقّن هذا الملك الغادر درسا لن ينساه وليكون عبرة لغيره، فجهّز أخاه عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألف مقاتل وسيره أمامه، ثم تبعه هو في أهل خوارزم وبخارى، وضرب الحصار على المدينة وقال: «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ؛ تيمّنا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم عند ما حاصر خيبر. فلما رأى أهل سمرقند عزمه على فتح المدينة بالقوة كتبوا إلى ملوك الشاش وفرغانة يستغيثون بهم، وقالوا لهم محرضين: إن العرب إذا ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم «2» ، فاستجاب هؤلاء الملوك، واختاروا عددا من أهل النجدة والبأس من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال، ووضعوا إليهم خطة لمفاجأة معسكر المسلمين- أثناء انشغالهم بحصار سمرقند- ولكن قتيبة لم يكن بالقائد الذي يؤخذ على غرة، ولم يغب عن فكره حدوث مثل هذه المفاجات، فعلم بخبر هذا التجمع، وفاجأهم قبل أن يفاجئوه، بفرقة من جيشه بقيادة أخيه صالح ابن مسلم، فهزمهم وبدد شملهم وقتلهم ولم يفلت منهم إلا الشريد «3» ، وغنم المسلمون أمتعتهم وأسلحتهم، وتدهورت معنويات الصغد بعد أن رأوا هزيمة أهل فرغانة والشاش، وهذا النصر قوى من عزيمة المسلمين ورفع معنوياتهم، وقرر قتيبة تشديد الحصار على سمرقند، ونصب عليها المنجنيق، وأحدث بها ثلمة وصاح كالأسد الهصور: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان؟ إني والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية، فلما أصبح أمر الناس بالجد في القتال، فقاتلوهم واشتد القتال، ولما رأى أهلها أن هزيمتهم أصبحت حتمية طلبوا الصلح، فصالحهم قتيبة على ألفي ألف مثقال ومائتي ألف كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، وأن يخلوا المدينة فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيدخلها ويا بني فيها

_ (1) الطبري (6/ 445) . (2) المصدر السابق (6/ 473) . (3) الطبري المصدر السابق (6/ 474) .

المرحلة الرابعة (93 - 96 هـ) :

مسجدا يخطب ويخرج «1» ، وبالفعل دخل المدينة وحطم ما بها من أصنام ولم يعبأ بتخويفه منها، حيث قال له أحدهم: لا تتعرض لهذه الأصنام فإن بها أصناما من أحرقها أهلكته، فقال: أنا أحرقها بيدي. فأمر بإشعال النار، وكبر ثم أحرقها، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال «2» . وهكذا بسط قتيبة السيادة الإسلامية على كل أقاليم ما وراء النهر ثم عاد إلى مرو ليستريح ويريح جنده استعدادا لجولته الأخيرة التي سيفتتح فيها المناطق السيحونية. المرحلة الرابعة (93- 96 هـ) : رأينا في الصفحات السابقة اشتراك أهل فرغانة والشاش في حرب المسلمين إلى جانب الصغد الذين حرضوهم على المسلمين وخوفوهم منهم وقالوا لهم: إن العرب إن هزمونا عادوا عليكم واستولوا على بلادكم، الأمر الذي جعل من الحتم على قائد حصيف مثل قتيبة ألا ينتظر حتى يهاهجموه، فقرر أن يكون زمام المبادرة بيده دائما، ففي سنة (94 هـ) عبر نهر سيحون ولأول مرة، ومعه قوات هائلة منها أربعة وعشرون ألفا من أهل بخارى وكش وخوارزم، فوجه قسما منهم إلى الشاش وتوجه هو على القسم الآخر إلى فرغانة «3» ، فخاض معركة شرسة حول مدينة خجندة ويبدو أن نتيجة المعركة لم تكن حاسمة؛ لأن قتيبة توجه إلى كاشان قبل أن يحسم أمر خجندة، وهناك أتاه جنوده الذين كان أرسلهم إلى الشاش، ومن الواضح أنه لقي مقاومة عنيفة من الترك مما جعله يطلب مددا من الحجاج الذي لم يتوان عن إمداده بقوات من العراق، بل أمر محمد بن القاسم الثقفي أن يوجه إليه أيضا مددا من السند فاحتياج قتيبة إلى إمدادات من العراق والسند فوق ما معه من قوات كبيرة يعكس المقاومة الشرسة التي لقيها في أقاليم سيحون، وأنه كقائد عسكري ممتاز لم يشأ أن يخوض معهم المعارك الحاسمة إلا بعد أن يضمن التفوق عليهم حتى يتحقق له النصر «4» ، وقد نجحت خطط قتيبة وفتح أقاليم الشاش وفرغانة سنة (95 هـ) ، ومن حسن حظ قتيبة، بل من حسن حظ الإسلام أن تمكن قتيبة من تحقيق هذا الإنجاز الهائل ومكّن لدين الله في تلك البلاد، قبيل موت الحجاج، الذي توفي في

_ (1) نفسه (6/ 475) . (2) الطبري (6/ 476) وابن الأثير (4/ 573) . (3) أبو سعيد الكرديزي- زين الأخبار (1/ 179) . (4) الطبري (6/ 486- 492) .

* موقف الخليفة الوليد من قتيبة:

هذه السنة- سنة (95 هـ) - وقد أثر موت الحجاج في قتيبة تأثيرا كبيرا، فهو الذي كان يقف خلفه يشد من أزره بكل عزم وتصميم وأهم من هذا كله الثقة الكبيرة بين الرجلين والتي هي من أهم عوامل النجاح، يقول الكرديزي: «وحينما سمع قتيبة بموت الحجاج اغتم غمّا شديدا» «1» . ولقد حزن قتيبة حزنا عميقا على موت قائده الكبير الحجاج، وتمثّل بهذين البيتين من الشعر؛ فقال: لعمري لنعم الفتى من آل جعفر ... بحوران أمسى أعلقته الحبائل فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل * موقف الخليفة الوليد من قتيبة: بعد أن أتم قتيبة فتح أقاليم الشاش وفرغانة عاد إلى مرو- عاصمة خراسان- وقد ترك هناك حاميات لحفظ النظام، وانتظر ما تأتي به الأيام بعد موت الحجاج، ولقد كان الخليفة الوليد بن عبد الملك يعرف طبيعة العلاقة بين الحجاج وقتيبة، ويعرف قدر الرجلين، وأن الثقة المتبادلة بينهما والتعاون كانت له ثمار طيبة وكان في مصلحة الإسلام والمسلمين، بل مصلحة الدولة، وإذا كان الحجّاج قد مات فليحاول الخليفة الاحتفاظ بقتيبة ليواصل جهاده وجهوده في خدمة الإسلام ولذلك كتب له يزكيه ويشجعه «2» ، وكان مما قال له: «قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك، وصانع بك الذي يجب لك، فأتم مغازيك وانتظر ثواب ربك، ولا تغيّب عن أمير المؤمنين كتبك، كأني انظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه» «3» . أحدثت هذه الرسالة أثرا طيبا في نفس قتيبة، وأعطته دفعة قوية من العزم والتصميم، فعاوده نشاطه ورغبته في الغزو والجهاد فخرج من مرو ليواصل فتوحاته، حيث وصل إلى كاشغر، التي يقول عنها الطبري: إنها أدنى مدائن الصين ويلخص الطبري أعمال قتيبة في هذه المرحلة الأخيرة من مراحل جهاده في سبيل الله فيقول: «وأوغل قتيبة حتى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث رجلا من

_ (1) زين الأخبار- مصدر سابق (1/ 179) . (2) زين الأخبار (1/ 179) . (3) الطبري (6/ 492) .

أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم» «1» . اختار قتيبة عشرة- وقيل: اثني عشر- من خيرة رجاله، برئاسة هبيرة بن المشمرج الكلابي، وأرسلهم إلى ملك الصين، ويقص الطبري خبر تلك السفارة الإسلامية إلى بلاط ملك الصين في حديث طويل، ونكتفي منه بما انتهى إليه الحوار، حيث قال ملك الصين للوفد المسلم في أسلوب تغلب عليه نبرة التهديد: انصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف عن بلادنا، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه فرد عليه رئيس الوفد، في شجاعة وعزة المؤمن: أيها الملك كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون، وكيف يكون حريصا من خلّف الدنيا وراءه قادرا عليها وغزاك في بلادك، وأما تخويفك إيانا فإن لنا آجالا إذا حضرت وأكرمها الله بالقتل فلسنا نكرههه ولا نخافه «2» . أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه، وأيقن أنه أمام قوم لا يجدي معهم التهديد ولا الوعيد، فاعتدل في كلامه، وقال لهبيرة في نبرة جديدة غير نبرة التعالي الأولى: فما الذي يرضي صاحبكم؟ قال هبيرة: إنه حلف ألا ينصرف عن بلادكم حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم، ويعطى- أي: يأخذ منكم- الجزية. قال الملك: فإنا نخرجه من يمينه، فنبعث إليه ترابا من أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها، ثم دعا بصحاف من ذهب وملأها ترابا، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء الملوك، ثم أجاز الوفد جوائز حسنة، فعادوا إلى قتيبة، فرضي وقبل الجزية وختم الغلمان، ووطئ التراب «3» . اكتفى قتيبة بهذا من ملك الصين، ويبدو أن الذي حمله على التساهل وقبول الحل الوسط الذي عرضه الملك ما حدث في داخل الدولة الإسلامية فقد توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة (96 هـ) ، ولم تكن علاقة قتيبة على ما يرام مع الخليفة الجديد سليمان بن عبد الملك «4» (96- 99 هـ) لذلك لم ير أنه من المناسب أن يتوغل فاتحا في بلاد الصين وهو لا يحس بالأمان من ورائه. وعلى كل حال حسب هذا الرجل العظيم والفاتح الكبير أنه في غضون عشر

_ (1) تاريخ الطبري (6/ 500- 503) . (2) الطبري (6/ 501- 503) . (3) المصدر نفسه (6/ 503) . (4) انظر زين الأخبار- مصدر سابق (1/ 179) .

* بلاد ما وراء النهر بعد قتيبة:

سنوات فتح بلادا شاسعة فيما وراء النهر، ثم عبر نهر سيحون وفتح الشاش وفرغانة وأشر وسنة وكاشغر، كما أرهب ملك الصين وحمله على دفع الجزية. وسيبقى اسم قتيبة بن مسلم الباهلي من الأسماء المضيئة في التاريخ الإسلامي، فقد أضاف للعالم الإسلامي إضافة رائعة، ووجه مدنا كبخارى وسمرقند وغيرها لتكون مراكز مشرقة للحضارة الإسلامية في وسط آسيا. * بلاد ما وراء النهر بعد قتيبة: توقفت فتوحات قتيبة عند مقاطعة كاشغر، ملامسا بذلك حدود الصين، ولم تسمح التطورات التي حدثت في الدولة الأموية بعد موت الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة (96 هـ) باستمرار الفتوحات؛ لأن الفاتح البطل نفسه قتيبة قد قتل «1» في حركة شغب وسوء فهم من الجند- لا مجال لتفسيرها- هنا ولكن الدولة الأموية وإن كانت لم تواصل حركة الفتوحات إلا أنها لم تفرط في الإنجازات التي حققها قتيبة في تلك البلاد، بل كرست جهودها فيما تبقى لها من أيام في تثبيت الفتوحات والسيادة الإسلامية، وتهيئة البلاد لقبول الإسلام عقيدة وفكرا وثقافة، وقد اقتدى خلفاء بني أمية في هذا المجال- خاصة سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك- بعمل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في بلاد فارس- وقد أشرنا إلى ذلك من قبل- وكما نجحت سياسة معاوية وتحولت إيران بشكل تدريجي وسريع إلى الإسلام، بل أصبحت بلاد فارس من أول المدافعين عن الإسلام، وأصبحت قاعدة الانطلاقة الكبرى التي قادها في بلاد ما وراء النهر. فقد نجحت كذلك جهود الأمويين الأواخر- رغم ما صادف دولتهم من مشكلات كبيرة- كان أخطرها الدعوة العباسية- أقول رغم ذلك نجح الأمويون في معركة تثبيت الفتوحات في بلاد ما وراء النهر، والتمكين للنفوذ الإسلامي، وتهيئة البلاد لقبول الإسلام عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا، وأصبحت بلاد ما وراء النهر بدورها مدافعة بحماس عن الإسلام وعاملة على نشره بين الأتراك الشرقيين ولم تكن تلك المهمة سهلة؛ بل كانت أصعب من مهمة الفتح ذاتها، وكانت بعيدة الأثر في تاريخ الإسلام بصفة عامة، وتاريخ أواسط آسيا بصفة خاصة ولقد أخلصت بلاد ما وراء النهر للإسلام كل الإخلاص وغدت جزآ من أهم أجزائه، غيرة عليه

_ (1) المصدر السابق (1/ 180) .

وتمسكا به، فمنذ أن أدخل قتيبة بن مسلم الباهلي الإسلام في هذه البلاد، وهو صامد وثابت كالجبل الأشم، رغم المحن والخطوب الهائلة التي تعرض لها عبر تاريخه الطويل هناك، والتي كان آخرها محنة السيطرة الشيوعية- والتي استمرت نحو ثلاثة أرباع القرن- والتي بذلت كل جهودها وأساليبها الوحشية والهمجية في القمع والتنكيل بالمسلمين لزعزعة الإسلام، وهز مكانته بل محوه من البلاد ولكنها- بحمد الله وفضله- فشلت، وذهبت الشيوعية إلى سلة قمامة التاريخ، وبقي الإسلام وسيبقى بإذن الله تعالى إلى قيام الساعة وصدق الله العظيم حيث يقول: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] . ولقد عبر أحد علماء المسلمين من تلك البلاد- والذي حضر احتفال مصر بليلة القدر ويوم الدعاة في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة (1412 هـ) - عن فرحتهم بزوال الكابوس الشيوعي بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] . نعود إلى جهود الأمويين التي بذلوها للتمكين للإسلام في تلك البلاد- والتي لم تأخذ حقها من الدراسة والتنويه حتى الآن- فقد واجهوا الموقف بكل تعقيداته ومشاكله برجولة وإقدام، ولعل تذكّر طبيعة تلك البلاد وما كانت عليه أحوالها السياسية والاجتماعية يرينا إلى أي مدى كان الموقف صعبا، ولقد قاومت تلك البلاد الفاتحين المسلمين بضراوة، وكانت تلك المقاومة نابعة من عدم فهمهم لطبيعة الإسلام وما يحمله لهم من خير وسعادة وعزة وكرامة. ولكنهم بعد أن عرفوا قيمة الإسلام وأهدافه غيروا موقفهم من العداء الشديد إلى الحماس الشديد للإسلام، ومن خير ما يصور هذا التغيير ما يقرره المؤرخ والمستشرق المجري أرمينيوس فامبري في كتابه «تاريخ بخارى» ؛ حيث يقول: «إن بخارى التي قاومت العرب في البداية مقاومة عنيفة، قد فتحت لهم أبوابها لتستقبلهم ومعهم تعاليم نبيهم، تلك التعاليم التي قوبلت في البداية بمعارضة شديدة، ثم أقبل القوم من بعد عليها في غيرة شديدة، حتى لترى الإسلام- الذي أخذ شأنه اليوم يضعف في جبهات آسيا الآخرى- وقد غدا في بخارى اليوم- (1873 م) - على الصورة التي كان عليها أيام الخلفاء الراشدين» «1» . هذه شهادة مؤرخ باحث أوربي على التحول الهائل الذي أحدثه الإسلام في بلاد

_ (1) تاريخ بخارى (ص 67) .

ما وراء النهر، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخها، بل ولا في تاريخ غيرها، فلم يحدث أن غيرت أمم بأكملها عقائدها وتحولت إلى دين جديد كما تحول سكان ما وراء النهر، تاركين عقائدهم القديمة، وقد تم ذلك التحول بحرية كاملة ويؤيد الباحث الروسي بارتولد ما يراه فامبري حيث يقول عن الموضوع: «ولكن الانضمام إلى عالم الإسلام المتمدين لم يكن ممكنا لهؤلاء البدو إلا إذا دخلوا في الإسلام من حيث هو دين، ومن العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام بين الترك، خاصة امتاز بها الإسلام على سائر الأديان العالمية، فعلى الرغم من أن أتباع البوذية وأتباع المسيحية أكثر عددا من المسلمين، فإن الإسلام دين عالمي بمعنى الكلمة، أي: إنه ليس مقصورا على جنس أو قومية، ولئن كانت بعض الديانات قد بذّت الإسلام في هذه الناحية فإن توفيقها كان مؤقتا، ولم تستطع الحصول على نتائج دائمة كالتي أحرزها الإسلام، فالديانة المانوية مثلا كانت في وقت ما دينا عالميّا وكان أتباعها متشرين في أماكن تمتد من جنوب فرنسا إلى الصين، ولكن هذه الخاصية لم تمنع المانوية من الاضمحلال الكامل، وقد بدأت البوذية نشاطها في الغرب فانتشرت هنالك، ولكنها في نهاية الأمر ظلت دينا للشعوب المتحضرة في شرق آسيا فقط. ثم يمضي بارتولد في سوق الأدلة والأمثلة على تفوق الإسلام على كل الأديان فيقول: وفي التاريخ أمثلة كثيرة كثيرة لأمم بوذية ومسيحية، تركت ديانتها ودخلت في الإسلام، ولكننا لا نجد أمة إسلامية واحدة تخلّت عن دينها ودخلت في البوذية أو المسيحية «1» . على كل حال واجه الأمويون الأواخر مشاكل جمّة في بلاد ما وراء النهر، كان أبرزها طموحات الأمراء الأتراك الذين أبقاهم الأمويون يحكمون بلادهم تحت السيادة الإسلامية، وكان معظم هؤلاء تربطهم بالدولة الأموية معاهدات نظمت العلاقات بين الطرفين، وبصفة خاصة التعاون العسكري والمالي، ولكن هؤلاء الأمراء كانوا يحاولون القفز فوق تلك المعاهدات مستغلين فترات الضعف والاضطراب التي كانت تمر بها الدولة الأموية في آخر أيامها التي امتلأت بحوادث الصراع بين الأمراء الأتراك الثائرين والعمال الأمويين، ومن أمثلة ذلك ثورة أمير فرغانة- بعد وفاة قتيبة- ومحاولة استرداد نفوذه القديم وثورات بخارى وسمرقند، لكن الدولة الأموية لم تتهاون في مواجهة تلك الثورات وقمعها، ونجحت في إخضاع أغلب الأمراء، الذين بدؤوا يدخلون في الإسلام خاصة في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز- الذي دعاهم

_ (1) بارتولد- تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 70، 71) .

* العباسيون وبلاد ما وراء النهر:

للدخول في الإسلام- وبعده، وبدؤوا يتأقلمون مع الوضع الجديد ويتالفون مع العرب «1» ، بل بدؤوا يدافعون عن الإسلام بحماس ضد الأتراك الشرقيين، الذين توالت إغارتهم على بلاد ما وراء النهر حتى أخذوا يشكلون خطرا على الدولة الأموية التي تصدّت لذلك الخطر بجراءة وجسارة، وقام الولاة الأمويون مثل الجراح ابن عبد الله الحكمي، وعبد الله بن معمر اليشكري، الذي تابع الغزو في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد ونسب إليه أنه هم بغزو الصين نفسها. وظلت الدولة الأموية والأتراك الشرقيين في صراع يتبادلون النصر والهزيمة حتى تغلبت كفة الدولة الأموية على يد الوالي الشجاع أسد بن عبد الله القسري (117- 121 هـ) ونصر بن سيار (121- 129 هـ) الذي حظي بمكانة في تاريخ الجهاد الإسلامي في تلك البلاد لا تقل عن مكانة قتيبة بن مسلم، فهو الذي حمى بلاد ما وراء النهر من خطر الأتراك الشرقيين «2» . وخلاصة القول: أن فتح بلاد ما وراء النهر وتثبيت ذلك الفتح وتهيئتها لقبول الإسلام، عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا يعتبر من أهم منجزات العصر الأموي. * العباسيون وبلاد ما وراء النهر: ظل الأمويون يخوضون معارك تثبيت الفتوحات الإسلامية فيما وراء النهر، وحمايتها من خطر الأتراك الشرقيين إلى آخر أيامهم، فلما سقطت دولتهم سنة (132 هـ) وقامت الدولة العباسية واصلت- تلك الأخيرة- السياسية نفسها بل إن العباسيين واجهوا خطرا جديدا، وهو الخطر الصيني، فقد رنت الصين إلى السيطرة لا على الأتراك الشرقيين فحسب، بل على بلاد ما وراء النهر ذاتها، ولم تكن الأطماع الصينية تقف عند حد السيطرة السياسية، وإنما كانت ترمي إلى الاستيلاء على طرق التجارة التي تعبرها القوافل من الشرق الأقصى إلى بلاد ما وراء النهر ثم إلى موانئ البحرين الأسود والأبيض المتوسط ثم إلى أوربا، وهذه المطامع الصينية جعلت الصدام مع الدولة العباسية أمرا محتما. وبالفعل التقى الجيشان الصيني والعباسي في معركة طالاس سنة (134 هـ/ 752 م) والتي انتصر فيها الجيش العباسي انتصارا عظيما، كان أعظم الانتصارات

_ (1) د. حسن أحمد محمود- الإسلام في آسيا الوسطى (ص 150، 151) . (2) المرجع السابق (ص 152، 153) .

العربية في وسط آسيا «1» وبعد هزيمتهم تراجع الصينيون، بل كان أثر الهزيمة شديدا عليهم إلى درجة أنهم تقاعسوا عن نصرة أمير أشرو سنة عند ما استغاث بهم ضد المسلمين، وكان هذا يعني أن العباسيين قد نجحوا في إبعاد الصين عن المعركة، وبات على الأتراك الشرقيين أن يواجهوا العرب معتمدين على أنفسهم وكان هذا فوق طاقتهم؛ لأن العباسيين أولوا المنطقة عناية كبيرة، وواصلوا جهودهم في صد العدوان إلى أن زال خطر الأتراك الشرقيين، وانتشر الأمن على الحدود، وارتفع شأن الحكومة الإسلامية في عيون الناس، مما مكّن للإسلام أن يمضي قدما في طريق الانتشار والنجاح، وقد واكبت السياسة العباسية هذا التطور، وشجعت الأتراك على اعتناق الإسلام بالإكثار من استخدامهم في الإدارة بل في الجيش نفسه، والحق أن العباسيين اقتدوا في ذلك بالأمويين، الذين سبق أن استخدموا غير المسلمين في الجيش، فجاء العباسيون وتوسعوا في هذا المجال، فقد أنشأ الفضل بن يحيى البرمكي- في عهد هارون الرشيد- فرقة كبيرة في خراسان من الأتراك الغربيين، بلغ عدد أفرادها خمسين ألف مقاتل بعث منهم عشرين ألفا إلى بغداد، وأطلق عليهم اسم الفرقة العباسية واشترك في قوات علي بن عبسي رجال من الصغد، وكان جيش طاهر بن الحسين يضم سبعمائة من الخوارزمية، والجديد في الأمر هنا هو استخدام الجنود الأتراك في بغداد نفسها. كما استن الخليفة المأمون (198- 218 هـ) سنّة جديدة، حيث دعا كثيرين من زعماء الأتراك إلى الدخول في خدمته في بغداد ومنحهم الصلات والعطايا، وألحق كثيرا من فرسانهم بالحرس الخليفي «2» . وفي عهد الخليفة المعتصم (218- 277 هـ) وضح أن الإسلام قد تمكن في بلاد ما وراء النهر، ورسخت أقدامه، حتى أن الأتراك الغربيين أنفسهم قد أصبحوا مادة الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام ونشره بين الأتراك الشرقيين، يقول البلاذري: «والمعتصم بالله جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر، من الصغد والفراغنة وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم ببابه، وغلب الإسلام على ما هناك، وصار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك ففتح مواضع لم يصل إليها أحد من قبله» «3» .

_ (1) المرجع السابق (ص 157) . (2) المرجع السابق (ص 162، 163) . (3) فتوح البلدان (ص 431) .

* انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر:

وهكذا مضى العباسيون قدما في تنفيذ السياسة التي رسمها الأمويون لأسلمة بلاد ما وراء النهر، وحققوا نجاحات هائلة، وسارت الثقافة الإسلامية في ركاب الإسلام، وتوطدت أركانها بين أهل البلاد ولم تعد ثقافة الوافدين، وبدأ أهل البلاد يتعلمون اللغة العربية، وإذا كانت المراكز الثقافية فيما وراء النهر- خاصة في بخارى وسمرقند- لم تبرز وتحدد معالمها إلا في عهد الطاهر بين (205- 259 هـ/ 820- 873 م) والسامانيين (261- 389 هـ/ 874- 999 م) إلا أن الخطوات الأولى التي أدت إلى ذلك التطور قد بدأت في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي. ومن أراد أن يعرف الجهود التي بذلها أهل ما وراء النهر وإسهاماتهم في الثقافة الإسلامية ويقدر كل ذلك حق قدره فما عليه إلا أن يرجع إلى كتب طبقات العلماء، مثل طبقات الأطباء، والحفاظ، والفقهاء، والمفسرين، والمحدثين، والنحاة، واللغويين، والشعراء ... إلخ ومما لا شك فيه أن بروز علماء كبار من أهل تلك البلاد من أمثال الإمام البخاري- لا على مستوى بلاد ما وراء النهر فحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي- لم يتم بين عشية وضحاها بل لا بد أن يكون هذا الجيل من العلماء مسبوقا بأجيال كثيرة مهدت له الطريق «1» . * انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر: تمهيد: قبل الحديث عن انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر، يجدر بنا أن نقول كلمة موجزة عن طبيعة الدعوة الإسلامية والعوامل التي مكنت للإسلام من الانتشار والقبول في جميع الأقطار التي فتحت بصفة عامة، وفي بلاد ما وراء النهر بصفة خاصة. أما عن طبيعة الدعوة الإسلامية وماهيتها فهي طبيعة عالمية، والدين الإسلامي دين عالمي بمعنى الكلمة «2» ؛ فقد جاءت الرسالة الإسلامية للجنس البشري كله، وليس لشعب دون شعب، ولا لأمة دون أمة، وهذه الحقيقة نصت عليها آي الذكر الحكيم في وضوح مثل قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ، إلى غير ذلك من الآيات

_ (1) د. حسن أحمد محمود- المرجع السابق (ص 163، 164) . (2) انظر بارتولد- تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 70) .

القرآنية الكريمة التي تقرر عالمية الإسلام، وأنه الرسالة الخاتمة لرسالات السماء، فليس بعد القرآن الكريم كتاب سماوي، وليس بعد محمد رسول؛ ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] . ومن أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم التي تقرر تلك الحقيقة قوله: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: ما أجمل هذه البيت لولا هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» «1» . بناء على تلك النصوص الكريمة يتبين لنا أن طبيعة الرسالة الإسلامية تختلف عن طبيعة الرسالات السماوية التي سبقتها، فتلك الرسالات كانت محدودة الزمان ومحدودة المكان ومحدودة البيئة البشرية، لذلك نجد أكثر من رسول متعاصرين ومتجاورين، كما كان الحال بالنسبة لإبراهيم ولوط عليهما السّلام، وهذا بطبيعة الحال لا يقلل من شأن الرسالات السابقة- حاشا لله- لأن محدوديتها أمر اقتضاه تطور الجنس البشري في مدارج الكمال العقلي، وكل رسالة جاءت في موعدها، وكل رسول أدى دوره وكان لبنة صالحة في صرح عقيدة التوحيد إلى أن جاء الوقت الملائم وأصبحت البشرية مستعدة لقبول الرسالة العالمية الخاتمة فكانت رسالة الإسلام على يد خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله. وقد يتبادر إلى بعض الأذهان أن معنى عالمية الإسلام أنه يجب أن يكون كل الناس مسلمين، وأنه يجب على المسلمين حمل السيف دائما لإجبار الناس على اعتناق الإسلام. وهذا ليس مقصودا، بل معنى عالمية الإسلام- بكل بساطة ووضوح- أنه دين مفتوح لكل البشر، من جميع الأجناس، دون قيود أو حدود، وليس دينا خاصّا بشعب مختار، وأنه دين الفطرة الذي يلائم كل الناس، في كل زمان ومكان ليسره وسهولته فأي إنسان يريد أن يكون مسلما، فليس مطلوبا منه إلا أن يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، وبعدها يصبح مسلما له حقوق المسلمين وعليه واجباتهم. ومن ناحية أخرى فإن حمل الناس جميعا على اعتناق دين واحد أمر لم يحدث

_ (1) ابن حجر العسقلاني- فتح الباري (6/ 158) .

في الواقع في كل التاريخ البشري، بل إن نصوص القرآن الكريم تبين لنا في جلاء أن حمل الناس جميعا على اعتناق دين واحد أمر صعب بل يكاد يكون مستحيلا. انظر على سبيل المثال إلى قوله تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] ، وقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] ، وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] . فمعنى عالمية الإسلام إذا أنه دين مفتوح لكل البشر وملائم لفطر كل الناس، والدعوة إليه لا تكون بالسيف- كما يدعي خصومه- بل بالحكمة والموعظة الحسنة كما يقول الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ، ولا يستطيع أي إنسان أن يدلنا على مثل واحد أجبر المسلمون فيه أحدا على اعتناق الإسلام بالقوة في أي زمن وعلى أية أرض. وإنما الثابت تاريخيّا والذي يؤكده الباحثون الغربيون «1» - قبل المسلمين- أن الذين اعتنقوا الإسلام في كل زمان وفي كل أرض، اعتنقوه عن قناعة وحرية مطلقة، ولو كانت القوة هي وسيلة الإسلام للانتشار لما بقي إنسان واحد في كل البلاد المفتوحة على دين غير دين الإسلام. وهناك مجموعة من العوامل شجعت الناس على اعتناق الإسلام، إضافة إلى طبيعته العالمية نوجزها فيما يلي: 1- المعاملة السمحة الكريمة التي عامل بها الفاتحون المسلمون أبناء البلاد المفتوحة، واحترام آدميتهم وكرامتهم، ولقد تجلت تلك المعاملة لا في نصوص المعاهدات التي نظمت العلاقات بين المسلمين الفاتحين وبين أبناء البلاد المفتوحة الذين فضلوا البقاء على أديانهم فحسب، بل في الوفاء من جانب المسلمين بتلك المعاهدات والالتزام بها بأمانة وشرف. فلم يحمل الظفر والنصر المسلمين على البطر والتكبر والتجبر على أبناء البلاد المفتوحة وإهانتهم وإذلالهم، بل بالعكس كانوا كرماء معهم- حتى مع الذين

_ (1) انظر على سبيل المثال الكتب الآتية: الدعوة إلى الإسلام، لمؤلفه توماس آرنولد، تاريخ الترك في آسيا الوسطى- لمؤلفه بارتولد، تاريخ بخارى، لمؤلفه أرمينيوس فامبري، وكلهم باحثون أوربيون؛ لتقف على مدى سماحة الإسلام والمسلمين في معاملة أهالي البلاد المفتوحة وأثر تلك السماحة في انتشار الإسلام.

قاوموهم بعنف- فبعد إلقاء السلاح، كان التسامح هو طابع السلوك الإسلامي العام مع المغلوبين، ونتحدى أن يكون التاريخ البشري قد سجل في صفحاته حالة واحدة تفوق فيها غير المسلمين من الغالبين على المسلمين، وكانوا أكثر تسامحا منهم، بل حتى ساووهم في التسامح والإنسانية مع المغلوبين الذين أصبحوا تحت السيادة الإسلامية، ووفاء المسلمين بالمعاهدات- نصّا وروحا- أصبح من الحقائق التاريخية التي لا يجادل فيه باحث منصف لدرجة أنه لما خالف أحد القادة الفاتحين هذه القاعدة وشذ عليها، سجل التاريخ الإسلامي تلك الحالة الوحيدة، وأزال خليفة المسلمين تلك المخالفة؛ والحالة هي حالة قتيبة بن مسلم، عند ما دخل سمرقند على شروط معينة، ولكنه لما دخلها لم يف بالشروط، فلما جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ) رفع إليه أهل سمرقند شكواهم، وقالوا: إن قتيبة دخل مدينتهم على وعد بالخروج منها، ولكنه لم يف بوعده، أي: غدر بهم، فكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على بلاد ما وراء النهر أن ينصب لهم قاضيا ينظر في شكواهم، فإن قضى بإخراج المسلمين من المدينة أخرجوا منها، فأقام لهم الوالي القاضي حاضر بن جميع، الذي نظر في القضية، ورأى أن الحق مع أهل سمرقند- المغلوبين- فحكم بإخراج المسلمين من المدينة على أن ينابذوهم على سواء، ولكن أهل سمرقند- وقد أذهلهم هذا السلوك الإسلامي الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري- كرهوا الحرب وأقروا المسلمين على الإقامة في مدينتهم «1» . هذا هو الإسلام، وذلك هو سلوك المسلمين وهذا المثل الوحيد- الذي خالف فيه قتيبة ما اتفق عليه مع أهل سمرقند- وسط كل تلك الحروب المتواصلة والأحداث المتلاحقة، وكثرة الانتقاض ونكث العهود من أهل تلك البلاد، يدل على أن المبدأ الأصيل هو التزام المسلمين بالوفاء بالعهود، وأن السلطة الإسلامية العليا- الخلافة- كانت ساهرة على حفظ وصيانة المعاهدات، وتصحيح أي خطأ قد يحدث من أي عامل في أي مكان. فعلى سبيل المثال عند ما أخطأ بعض العمال- لما تزايد إقبال الناس على اعتناق الإسلام، وأدى ذلك إلى تناقص الجزية- وظلوا يأخذون الجزية من المسلمين الجدد، مؤثرين الجباية على الهداية، مخالفين بذلك قواعد الإسلام، وعندئذ لم يحتمل ضمير

_ (1) انظر تفاصيل القصة في فتوح البلدان للبلاذري (ص 519) .

الأمة الإسلامية هذا الخطأ الجسيم، المخالف لمبادئ الإسلام التي تمنع أخذ الجزية من المسلم «1» وسخط المسلمون العرب- قبل غيرهم- على هؤلاء العمال الذين ارتكبوا هذا الخطأ، ورفعوا الأمر إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي غضب غضبا شديدا على هؤلاء العمال وأمرهم على الفور برفع الجزية عمن يسلم، وصاح صيحته المشهورة «قبّح الله رأيكم، فإن الله قد بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا» «2» . والأمثلة في هذا المجال كثيرة، وخلاصة القول: أن معاملة المسلمين الكريمة وسماحتهم مع أبناء البلاد المفتوحة كانت من أهم عوامل جذبهم إلى الإسلام. 2- العامل الثاني الذي كان له أثر كبير في انتشار الإسلام في البلاد المفتوحة هو إشراك أبناء البلاد في إدارة بلادهم، فالفاتحون المسلمون لم يصنعوا صنيع الحكومات السابقة عليهم، ويحرموا أبناء البلاد من إدارة بلادهم. فالمسلمون لم يحتفظوا إلا بعدد قليل جدّا من المناصب، مثل الإمارة وقيادة الجيش والقضاء- وكان ذلك ضروريّا- وما عدا ذلك من الوظائف فقد كان متاحا لأبناء البلاد المفتوحة الذين بقوا على أديانهم، ووصل عدد كبير منهم إلى أعلى المناصب الإدارية التي كانوا محرومين منها في عهود ما قبل الحكم الإسلامي، وكانت حكومة الخلافة الإسلامية تضع ثقتها في أهل الأمانة منهم دون أية حساسية. ويكفي أن نقدم على ذلك مثلا واحدا من العصر الأموي، حيث بقي ديوان الخراج المركزي في دمشق عاصمة الخلافة- وهو أهم دواوين الدولة- تحت رئاسة أسرة مسيحية، وهي أسرة سرجون بن منصور الرومي، طوال عهود الخلفاء: معاوية ابن أبي سفيان وابنه يزيد، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك، وكان ديوان خراج العراق في الفترة ذاتها تحت رئاسة رجل فارسي، هو زادان فروخ «3» ، ولم يكن سرجون بن منصور- وهو مسيحي- رئيسا لديوان لخراج عاصمة الخلافة فقط، وإنما كان مستشارا سياسيّا للخليفة معاوية بن أبي سفيان «4» . وقد توسع الأمويون في استخدام أبناء البلاد المفتوحة في الإدارة مما أشعرهم بالأمان والاطمئنان إلى الحكم الإسلامي وجعلهم يقبلون على اعتناق الإسلام بملء

_ (1) انظر كتاب الخراج لأبي يوسف (ص 254) . (2) انظر فتوح مصر لابن عبد الحكم (ص 107) . (3) انظر فتوح البلدان للبلاذري (ص 368) . (4) انظر تاريخ خليفة بن خياط (ص 228) ، والطبري (5/ 330- 348) .

إرادتهم الحرة. عرفنا فيما سبق من صفحات هذا البحث أن بلاد ما وراء النهر قد فتحت في نهاية القرن الهجري الأول، في خلافه الوليد بن عبد الملك (86- 96 هـ) وأن ما تبقى من عهد الدولة الأموية بعد ذلك- سقطت سنة (132 هـ) - كان جهودا متواصلة لتثبيت الفتوحات وتأمين بلاد ما وراء النهر من غارات الأتراك الشرقيين. وعلى الرغم من أن أقاليم ما وراء النهر فتحت متأخرة، بل كانت من آخر الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي، وعلى الرغم من مقاومة أهلها مقاومة عنيفة، إلا أن أهل تلك البلاد سرعان ما بدؤوا يفكرون في الإسلام؛ دين الفاتحين، وسرعان ما أدركوا أنه دعوة خالصة لتوحيد الله سبحانه وتعالى، وأنه دين سمح عادل رحيم، من مبادئه الأصيلة المساواة بين الناس جميعا، وأنه دين العزة والكرامة ومن الطبيعي أن يكونوا قد قارنوا- ولو داخل نفوسهم- بين الإسلام وبين الأديان الوثنية التي كانت تنتشر بينهم، فجاءت المقارنة في صالح الإسلام، خاصة عند ما رأوا الفاتحين يحطمون الأصنام بأيديهم ويحتقرونها. عندئذ زالت عنهم الغشاوة التي كانت تغطي عقولهم، وأدركوا أن تلك الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر، وأنه من السخف عبادتها، فأمام أعينهم أحرق قتيبة بن مسلم الأصنام في سمرقند ولم يصبه أي أذى مما كانوا يخوفونه منه، كان لتلك الحادثة أثر كبير في إقبال الناس على الإسلام «1» ، فإن قتيبة عند ما سار بعدها لفتح إقليم الشاش خلف نهر سيحون كان جيشه يضم عشرين ألفا من أهل بخارى وكش ونسف وهؤلاء كانوا قد قاوموا المسلمين في البداية مقاومة عنيفة ولكنهم سرعان ما حدث التحول الخطير في حياتهم حيث هداهم الله إلى الإسلام فأصبحوا من جنده المخلصين المدافعين عنه بحماس. ومرة أخرى نستشهد بكلام المؤرخ المجري فامبري حيث يقول: «ولقد غزا المسلمون بخارى ثلاث مرات من قبل ونشروا دينهم بها ولكن أهلها كانوا يرتدون إلى عقيدتهم القديمة عقب رحيل الغزاة عنهم في كل مرة وها هي تفتح أبوابها للمرة الرابعة لتستقبل الفاتحين ومعهم تعاليم نبيهم، تلك التعاليم التي قوبلت أول الأمر بمعارضة شديدة، ثم أقبل القوم من بعد ذلك عليها في غيرة شديدة، حتى لترى

_ (1) انظر فتوح البلدان للبلاذري (ص 518) .

الإسلام- الذي أخذ شأنه اليوم يضعف في جهات آسيا الآخرى- وقد غدا في بخارى اليوم (1873 م) على الصورة التي كانت عليها أيام الخلفاء الراشدين» «1» بل إن لدينا من الشواهد ما يحملنا على الاعتقاد بأن كثيرين من أبناء ما وراء النهر قد اعتنقوا الإسلام في وقت مبكر، وحتى قبل استقرار الفتوحات في بلادهم، ففي الغزوات التمهيدية التي كانت تتوالى قبل فتوحات قتيبة كان الغزاة المسلمون يعودون إلى خراسان ومعهم أعداد كبيرة من أسرى بلاد ما وراء النهر، وكانوا يقسمونهم فيما بينهم وكانوا يعايشونهم ويعاملونهم معاملة حسنة فعملت تلك المعاملة عملها في جذب كثير منهم إلى الإسلام، ففي غزوة واحدة عاد عبيد الله بن زياد بأعداد كبيرة من أسرى بخارى قد بلغ عددهم أربعة آلاف أسير، وقدم بهم البصرة، وفرض لهم العطاء «2» . كل الشواهد إذن تدل على أن خطى الإسلام قد اطردت في بلاد ما وراء النهر وأخذت تترسخ مع خطوات الفتح الأولى، وكان الفاتحون المسلمون يشجعون الناس على اعتناق الإسلام بالقدوة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتلك هي مهمة الفاتحين الأولى التي كانوا يعطونها الاعتبار الأول، فما من مدينة فتحها قتيبة بن مسلم إلا بنى فيها المساجد وترك فيها الدعاة ينشرون الإسلام ويفقهون الناس فيه «3» . وأقبل الناس على اعتناق الإسلام على نطاق واسع ولا أدل ذلك من مشكلة الجزية التي برزت على السطح كنتيجة من نتائج زيادة المقبلين على الإسلام من أبناء البلاد المفتوحة، حيث أبقى عمال بني أمية الجزية على المسلمين الجدد الذين تزايد عددهم وأدى إلى تناقص الجزية ونضوب الأموال، وهو الأمر الذي أزعج المسلمين العرب وأثار سخطهم على العمال ورفعوا الأمر إلى عمر بن عبد العزيز الذي أمر على الفور برفع الجزية عن كل من يسلم من أبناء البلاد المفتوحة كما ذكرنا من قبل، ولقد أدت سياسة عمر بن عبد العزيز، في رفع الجزية عن المسلمين- وهي السياسة السليمة التي يقررها الإسلام- أدت إلى زيادة انتشار الإسلام، خاصة وأن سمعة عمر الطيبة قد ذاعت وانتشرت في كل البلاد، ولم تقتصر سياسة عمر على رفع الجزية عن المسلمين الجدد بل إنه أوقف الحروب، بعد أن رأى أنها اتسعت أكثر من اللازم- بل كان يريد سحب الجيوش الإسلامية من بعض البلاد ومنها بلاد ما وراء

_ (1) تاريخ بخارى (ص 67) . (2) البلاذري فتوح (ص 507) . (3) المصدر السابق (ص 518) .

النهر، وبدلا من إرسال الجيوش والجنود إلى البلاد المفتوحة أخذ يرسل الدعاة ينشرون الإسلام ويعلمون الناس أصوله وقواعده وأرسل إلى الملوك والأمراء رسائل يدعوهم فيها إلى الإسلام وقد استجاب كثيرون منهم «1» . والحق أن عهد عمر بن عبد العزيز القصير (99- 101 هـ) قد شهد- لعدله وسمعته الطيبة- إقبالا على الإسلام في كل البلاد المفتوحة، ومنها بلاد ما وراء النهر ولقد سبق أن ذكرنا موقفه من أهل سمرقند الذين شكوا إليه غدر قتيبة وكيف أنصفهم؛ مما كان له أكبر الأثر عليهم وزاد من إقبالهم على الإسلام. ولقد استمرت السياسة الأموية بعد عمر بن عبد العزيز، في الدعوة إلى الإسلام في بلاد ما وراء النهر، فقد عهد الخليفة هشام بن عبد الملك (105- 125 هـ) بولاية خراسان إلى أشرس بن عبد الله السلمي، الذي سماه الناس: الكامل؛ لفضله وصلاحه «2» . ويقول عنه الطبري: فلما استقر في خراسان عزم على توجيه الدعاة إلى ما وراء النهر يدعون الناس إلى الإسلام، فقال لخاصته: أبغوني رجلا له ورع وفضل أوجهه إلى من وراء النهر فيدعوهم إلى الإسلام، فأشاروا عليه بأبي الصيداء، صالح بن طريف «3» . فاستدعاه وعرض عليه القيام بتلك المهمة، ولكن أبا الصيداء اشترط على الوالي ألا تؤخذ الجزية ممن يسلم فقبل الوالي هذا الشرط، فقال أبو الصيداء لأصحابه: «فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم» «4» . يفهم من كلام الرجل الصالح أبي الصيداء، وتشدده، واشتراطه على الوالي بصراحة رفع الجزية عمن يسلمون، يفهم من هذا أن الولاة الأمويين بعد عمر بن عبد العزيز قد عادوا إلى سياستهم الخاطئة والضارة معا، وهي أخذ الجزية ممن كانوا يسلمون. على كل حال ذهب أبو الصيداء إلى بلاد ما وراء النهر، وأخذ يدعو أهل سمرقند وما حولها إلى الإسلام- وكان شرطه الذي اشترطه على الوالي، وهو رفع الجزية عمن يسلمون قد ذاع أمره- فسارع الناس إلى الإسلام «5» ، وأثمرات دعوته لدرجة اصطدامها مرة أخرى بمشكلة الجزية، فقد هال العمال كثرة إقبال الناس على

_ (1) انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (5/ 54) . (2) انظر زين الأخبار، لأبي سعيد الكرديزي- مصدر سابق (1/ 185) . (3) الطبري (7/ 52) . (4) المصدر السابق (7/ 54) . (5) الطبري (7/ 55) .

اعتناق الإسلام وتناقص الجزية، فعادوا- لقصر نظرهم وجهلهم وتفضيل الجباية على الهداية- إلى السياسة القديمة الخاطئة وفرضوا الجزية على المسلمين الجدد، وهو الأمر الذي لم يقبله الداعية الكبير أبو الصيداء ولم يحتمله ضميره، ويبدو أن الرجل كان يتوقع حدوث مثل هذا، بدليل أنه اشترط على الوالي أشرس بن عبد الله صراحة رفع الجزية عن من يسلمون، ولقد ساءه نكوص الوالي عن شرطه واستجابته لحجة العمال الذين تذرعوا بتناقص الأموال والإضرار ببيت المال نتيجة لرفع الجزية عن المسلمين الجدد. ودليل آخر على توقع أبي الصيداء حدوث مثل هذا أنه كان قال لعدد من أصدقائه المخلصين لدينهم عند ما عرض عليه الوالي أشرس بن عبد الله القيام بمهمة الدعوة إلى الإسلام في بلاد ما وراء النهر، قال لهم: «فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم» «1» الآن جاء أوان وفائهم- بعد أن نكص الوالي وعماله- فاجتمع بهم أبو الصيداء وتعاهدوا على مقاومة إجراآت العمال ولو بالقوة، وقوّت حركة أبي الصيداء وحماسه وغيرته على الدين هو وأصدقاؤه، من عزم مسلمي ما وراء النهر، فلم يرضخوا لإجراآت العمال، وأبوا دفع الجزية بعد أن أكرمهم الله تعالى بالإسلام، واستمروا في إصرارهم على عدم دفعها إلى أن جاء نصر بن سيار واليا على خراسان في أواخر عهد هشام بن عبد الملك «2» سنة (120 هـ) واستمر إلى قيام الثورة العباسية سنة (129 هـ) فصحت عزيمته على تصحيح الأمر، وعبر بنفسه إلى بلاد ما وراء النهر وأعلن في حشد كبير رفع الجزية عمن أسلموا، وكان لذلك أثر طيب للغاية عند الناس وأسرعوا إلى اعتناق الإسلام، ويقول الطبري: «فما كانت الجمعة التالية- يعني الجمعة التالية للتي أعلن فيها قراره- حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم» «3» وهذا العدد الهائل من المسلمين ظلوا يدفعون الجزية ولم يرجعوا عن دينهم، وهذا يدل على رسوخ الإسلام في قلوبهم، ولنا أن نتوقع أن أعدادا كبيرة تكون قد أقبلت على الإسلام بعد قرار الوالي نصر بن سيار. وخلاصة القول: أن حركة انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر قد اتسع نطاقها

_ (1) (7/ 54) . (2) انظر: زين الأخبار، لأبي سعيد الكرديزي- مصدر سابق (1/ 187) . (3) (7/ 173) .

* العباسيون وانتشار الإسلام فيما وراء النهر:

ومضت في طريقها بثبات وخطى حثيثة رغم المعوقات التي كانت تأتي للأسف غالبا من جانب بعض الولاة الذين كانوا يعنون بالجباية أكثر من الهداية، والأمر الجدير بالملاحظة والتنويه، والذي يسعد الباحث المسلم أن الضمير الجمعي للمسلمين هناك لم يستسلم لإجراآت الولاة وقاومها بقوة وأجبرهم على مراجعة أنفسهم وتصحيح الخطأ، وهذا شيء جميل، فالإسلام هو الذي علّم الناس كيف يدافعون عن حقوقهم. ويبدو لي أن استياء مسلمي ما وراء النهر من دفع الجزية ليس راجعا إلى كونها عبئا ماليّا، ولكن لإحساسهم بالمهانة من دفعها وهم مسلمون، وبعد أن علمهم فقهاء المسلمون أنه لا جزية على مسلم. * العباسيون وانتشار الإسلام فيما وراء النهر: رأينا فيما سبق من هذا البحث أن العباسيين- منذ قامت دولتهم سنة (132 هـ) - واصلوا سياسة الدولة الأموية في تثبيت الفتوحات فيما وراء النهر، بل التصدي لخطر الأتراك الشرقيين، ثم لخطر الصين عند ما ظهر، ومعنى هذا أن تغيير الحكومة الإسلامية، وانتقال الخلافة من الأسرة الأموية إلى الأسرة العباسية لم يغير من السياسة العامة للدولة الإسلامية، وهي تثبيت الفتوحات وعدم التفريط في أي إنجاز تحقق في البلاد المفتوحة وتهيئتها لقبول الإسلام عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا، في حرية تامة. ومن الجدير بالذكر والتنويه أن العباسيين مضوا خطوات أبعد مما فعل الأمويون أنفسهم في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا- وليس هذا اتهاما للأمويين بالتقصير وإنما تطور الظروف ساعد العباسيين وكان مواتيا لهم أكثر- أي: إنهم لم يقفوا عند مجرد مواصلة جهود الأمويين في الحفاظ على الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، وإخضاع الأتراك الشرقيين للسيادة، والتصدي للخطر الصيني وإيقافه عند حده، بل مضوا بحركة انتشار الإسلام قدما إلى الأمام، وأعطوا بلاد ما وراء النهر عناية كبيرة ولم ينسوا أنها أسهمت بنصيب كبير في قيام دولتهم، وكانت تربة صالحة لنمو بذور دعوتهم، ولم يكن ذلك ممكنا لو لم تكن أقدام الإسلام قد رسخت في تلك البلاد منذ العصر الأموي، فالدعوة العباسية رفعت شعارات إسلامية وقامت على مرتكزات إسلامية من أهمها شعار المساواة بين المسلمين، من العرب وغيرهم، وهذا كان شعارا جذابا لأهل خراسان وما وراء النهر الذين كانوا يحسون أنهم يعاملون معاملة أقل من معاملة المسلمين من العرب.

ووجد أهل البلاد المتطلعون إلى مزيد من النفوذ والسلطان في الدعوة الجديدة ما يحقق آمالهم واستطاع أبو مسلم- الخراساني- أن يجتذب الدهاقين والفلاحين إلى دعوته «1» ، وأن يعبئ الجماهير في خراسان وما وراء النهر تحت رايته- لحساب العباسيين- ونجح في ذلك نجاحا كبيرا وضرب الضربة الأولى في إسقاط الدولة الأموية. فلما قامت الدولة العباسية كان عليها أن تفي بوعودها وتحقق شعاراتها وتثبت أنها عند حسن ظن الناس، وإلا كان رد الفعل عنيفا وخطيرا. والحق أن العباسيين بذلوا جهودا كبيرة في هذا المجال، وحاولوا محاولات جادة لتحقيق الشعارات التي رفعوها، ومكافأة الذين ساعدوهم في إقامة دولتهم ومنهم أهالي ما وراء النهر، وكان من وسائل ذلك توسعهم في استخدامهم في الإدارة وفي الجيش، وقد وضحت هذه الظاهرة منذ عهد المأمون وازدادت بروزا في عهد المعتصم وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. وكانت كل تلك الإجراآت تصب في مجرى تعميق الإسلام عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا في بلاد ما وراء النهر، وسيزداد الإسلام رسوخا في البلاد مع مضي السنين خاصة تحت حكم الأسر التي حظيت بنوع من الاستقلال عن الخلافة العباسية كالأسرة الطاهرية (204- 259 هـ) والأسرة السامانية (261- 389 هـ) . والتي كان ظهورها في حد ذاته جزآ من السياسة العباسية ومكافأة الذين أخلصوا للخلافة ولم يتمردوا عليها، وكان ظهور هذه الأسر بالفعل دفعة قوية للإسلام في بلاد ما وراء النهر، فقد واصل الطاهريون السياسة التي وضع أسسها الأمويون، وعمقها العباسيون، وهي سياسة التمكين للإسلام في الداخل ودرء الأخطار الخارجية، بل يمكن القول: إن الطاهريين كانوا أكثر إدراكا للخطر الذي هدد البلاد من الأتراك الشرقيين «2» . والذي مكن الطاهريين من القيام بدورهم الكبير في التمكين للإسلام في بلاد ما وراء النهر وفاؤهم للخلافة العباسية واحتفاظهم بعلاقات ودية قوية معها، فلم يبددوا طاقاتهم وطاقاتها في التمرد ومحاولة الاستقلال الكامل عنها- كما فعل الصفاريون مثلا- بل حافظوا على الود واحترام الخلفاء إلى آخر عهدهم، والخلافة

_ (1) د. حسن أحمد محمود- الإسلام في آسيا الوسطى (ص 155) . (2) المرجع السابق (ص 167) .

نفسها حفظت لهم ذلك الموقف ووقفت معهم في صراعهم مع الصفاريين «1» . وإذا كان الطاهريون قد قاموا بدور كبير ومهم في التمكين للإسلام والثقافة الإسلامية فيما وراء النهر، فإن السامانيين كان دورهم أكبر وأعظم أثرا فرغم أن كلا الأسرتين من أصل فارسي، إلا أن السامانيين كان دورهم فيما وراء النهر أعظم؛ لأن الطاهريين حكموا ما وراء النهر من خراسان، فقد كانت عاصمة دولتهم نيسابور، أما السامانيون فقد حكموا خراسان من وراء النهر فقد كانت عاصمتهم مدينة بخارى، لذلك كان من الطبيعي أن يكون اهتمامهم بما وراء النهر أعظم- لأنه مقر حكمهم ومركز دولتهم- ففي عهد السامانيين وضحت ثمار الجهود التي بذلها العرب في رفع مكانة الإسلام هناك طيلة قرنين من الزمان تقريبا، وأحرزت الحركة الإسلامية نجاحها المرجو، فثبت الإسلام في قلوب الأتراك الغربيين، بل أخذ ينتشر بين الأتراك الشرقيين، ودخلت الأمة التركية في الإسلام «2» وقامت بدورها الكبير في عالم الإسلام. والحق أن الأمراء السامانيين لم يعملوا على تثبيت أركان الإسلام في بلاد ما وراء النهر فحسب، بل أولوا عنايتهم واهتمامهم للعلوم الإسلامية، فازدهرت الحضارة الإسلامية في عهدهم، وكانت عاصمتهم- بخارى- منارة من منارات العلم في العالم الإسلامي، وقد مدحهم الرحالة المسلمون الذين زاروا البلاد في عهدهم ومنهم المقدسي الذي قال عنهم: إنهم أحسن الملوك سيرة وإجلالا للعلم والعلماء، ولم تكن عنايتهم بالعلوم الدينية فقط، وإنما بالعلوم الطبيعية والأدبية، فنبغ في عهدهم الرودكي- أول شاعر غنائي فارسي- وفي عهد الأمير منصور بن نوح ترجم إلى الفارسية كتاب «تاريخ الأمم والملوك للطبري» ، من العلماء الذين لمعوا ونبغوا في عهدهم الفيلسوف والطبيب الشيخ الرئيس علي بن سينا. تحدثنا حتى الآن عن الجهود الرسمية- جهود الحكومات الإسلامية في نشر الإسلام في بلاد ما وراء النهر- ابتداء من الأمويين، ومرورا بالعباسيين، ثم الطاهريين والسامانيين، ولم نتحدث عن الجهود غير الرسمية، التي قام بها أفراد أو جماعات كعمل تطوعي لنشر الإسلام، مثل الصوفية، يقول بار تولد: «وكان

_ (1) عصام عبد الرؤوف- تاريخ الإسلام في جنوب غرب آسيا (ص 17) . (2) انظر د. حسن أحمد محمود- الإسلام في آسيا الوسطى، مرجع سبق ذكره (ص 169) .

ظهور التبشير الفردي الإسلامي- سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه- مرتبطا بالتصوف الإسلامي فيحكى دائما في مناقب الصوفية أنهم استطاعوا إدخال كثيرين من الكفار في الإسلام وكان هؤلاء الصوفية يذهبون إلى الصحارى لإدخال الأتراك في الإسلام، وقد ظلوا حتى وقت قريب أكثر توفيقا من العلماء الذين درسوا في المدارس» «1» ويرى بارتولد أن توفيق الدعاة المسلمين ونجاحهم في نشر الإسلام بين الأتراك كان يعتمد على حقيقة راسخة وهي تفوق الإسلام على الديانات الآخرى من ناحية، فهو يقول: «ومن عوامل انتشار الإسلام بين الأتراك خاصة امتاز بها الإسلام على سائر الأديان العالمية، فعلى الرغم من أن أتباع البوذية وأتباع المسيحية أكثر عددا من المسلمين فإن الإسلام دين عالمي بمعنى الكلمة، أي ليس مقصورا على جنس أو مدينة، ولئن كانت بعض الديانات قد بذت الإسلام في هذه الناحية فإن توفيقها كان مؤقتا، ولم تستطع الحصول على نتائج دائمة كالإسلام» «2» وكان توفيق الدعاة ونجاحهم في الدعوة إلى الإسلام يعتمد كذلك على تفوق العالم الإسلامي ماديّا ومعنويّا على كل البلاد المتمدينة «3» ، من ناحية ثانية، إن تفوق العالم الإسلامي في كل مجالات الحياة جذب إليه أناسا آخرين، خارج بلاد ما وراء النهر، وأظن أن بلغار الفولجا يصلحون مثالا على ذلك، فقد اعتنقوا الإسلام طواعية، دون أن يصل إليهم سلطان المسلمين السياسي، ففي سنة (921 م) ، وفد على الخليفة المقتدر بالله العباسي في بغداد سفراء من البلغار، الذين اهتدوا إلى الإسلام، وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض العسكريين المتخصصين في بناء القلاع والاستحكامات، وكذلك بعض العلماء لتدريس الإسلام وكان بين البعثة التي أرسلها الخليفة ابن فضلان، الذي وصف الرحلة من بغداد إلى بلاد البلغار، ثم العودة إلى بغداد- فيما عرف برحلة ابن فضلان- مرورا ببلاد الخزر...... والظاهر أن ابن فضلان كان هو المكلف بتعليم البلغار تعاليم الإسلام «4» . ويستنتج الأستاذ بارتولد من رحلة ابن فضلان هذه أن اتصال بلغار الفولجا بالعالم الإسلامي قد تم عن طريق الولايات الإسلامية التابعة للخوارزميين والسامانيين؛ لأن

_ (1) تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 69) . (2) المرجع السابق (ص 70) . (3) المرجع السابق (ص 70) . (4) المرجع السابق (ص 65) .

الرحلة انطلقت من بغداد إلى حوض الفولجا مارة ببخارى وخوارزم، ولو لم تكن صلة البلغار بهذه الولايات الإسلامية قديمة؛ لكان الأولى أن تسلك الرحلة الطريق الأقصر إلى حوض الفولجا، وهو الطريق الذي يمر عبر قافقاسيا «1» . هذا يدل بوضوح على رسوخ الإسلام في بلاد ما وراء النهر، وأنه أفاض على ما حولها من بلاد بطريق سهل وفي حرية تامة لعالمية الإسلام من ناحية، وتفوق العالم الإسلامي ماديّا ومعنويّا من ناحية ثانية. ومن الجهود غير الرسمية التي تستحق التنويه في نشر الإسلام بين الترك، جهود التجار المسلمين الذين كانوا يجوبون الطرق التجارية التي تخترق تلك البلاد، إلى جانب تجارتهم كانوا يقومون بدور الدعاة إلى الله تعالى «2» ، وكانوا لبساطتهم في الدعوة ولغتهم السهلة وصدقهم وأمانتهم وحسن معاملتهم للناس أكثر تأثيرا من الدعاة الرسميين في جذبهم للإسلام، ومما يسر للتجار المسلمين مهمتهم تلك العلاقات الطيبة التي قامت بين الدولة الأموية وإمبراطورية الصين، فقد ذكر توماس آرنولد «3» نقلا عن المصادر الصينية أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أرسل في (108 هـ/ 726 م) سفيرا اسمه سليمان، إلى إمبراطور الصين هزوان كنج، ومع أن آرنولد لم يحدثنا عن طبيعة هذه السفارة ولا عن مهمتها، إلا أنها تدل على حسن العلاقة بين الدولة الأموية وإمبراطورية الصين- وسبق أن ذكرنا ما حدث من اتصال بين الفريقين أثناء فتوحات قتيبة ووصوله إلى كاشغر وسفارته إلى ملك الصين- تلك العلاقة التي تطورت إلى أفضل مع العباسيين- بعد الصدام الذي حدث بين الفريقين في معركة طالاس، التي سبقت الإشارة إليها سنة (752 م) . فيذكر آرنولد أن إمبراطور الصين سوتسونج- وهو ابن الإمبراطور السابق- قد استغاث بالخليفة العباسي أبي جعفر المنصور ضد ثورة قامت عليه سنة (139 هـ/ 756 م) فأغاثه المنصور بفرقة من الجيش الإسلامي، التي لم تعد إلى بلادها بعد القضاء على الثورة، بل بقي الجنود المسلمون في الصين وتزوجوا وعاشوا هناك «4» ، والذي نقصده من الحديث عن حسن العلاقات بين المسلمين والصين أن الطرق التجارية

_ (1) المرجع السابق (ص 66) . (2) د. حسن أحمد محمد- مرجع سابق (ص 155) . (3) الدعوة إلى الإسلام (ص 332، 333) . (4) المرجع السابق (ص 333) .

أصبحت آمنة للتجار المسلمين يجوبونها مطمئنين يمارسون التجارة والدعوة إلى الإسلام في الوقت نفسه. وخلاصه القول- في هذا البحث المتواضع- أن الإسلام منذ أن أدخله قتيبة بن مسلم الباهلي إلى بلاد ما وراء النهر- في نهاية القرن الأول الهجري- وهو يشق طريقة في ثبات وثقة، ويزداد رسوخا يوما بعد يوم بين السكان وأصبحت تلك البلاد العزيزة جزآ رئيسيّا من العالم الإسلامي تأثرت به وبتاريخه وأثرت فيه تأثيرا عظيما، وازدهرت فيها الثقافة الإسلامية، وخرجت للعالم الإسلامي عددا كبيرا من الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمؤرخين والأطباء والفلاسفة، وأصبحت مدن كبخارى وسمرقند من أعظم وأشهر المراكز الحضارية في العالم الإسلامي. ولا أدل على رسوخ الإسلام في تلك البلاد من صموده وتمسك الناس به على مدى القرون الماضية، رغم المحن والخطوب الهائلة التي مرت بها، والتي كان آخرها محنة وقوعها تحت براثن الحكم الشيوعي الملحد، منذ بداية هذا القرن، ذلك الحكم الذي مارس كل الأساليب الوحشية والهمجية للقضاء على الإسلام ومحوه من تلك البلاد، ولكنه فشل فشلا ذريعا- كما فشلت كل المحاولات السابقة- وأخيرا أذن الله تعالى بانقشاع الغمة وزوال المحنة فاندحرت الشيوعية وخرت صريعة بالسكتة القلبية، وأذهب الله تعالى عن بلاد ما وراء النهر الحزن والغم والهم وعادت بلادهم إلى حظيرة العالم الإسلامي لتستأنف دورها الحضاري العظيم وصدق الله العظيم الذي تكفل بحفظ دينه حيث يقول تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ، والذي تكفل بإزهاق الباطل وإحقاق الحق، ووعد وعده الحق بنصر المؤمنين فقال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] .

البحث العاشر تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث العاشر] تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين

* مقدمة:

تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين «1» * مقدمة: ما أحوج عالمنا المعاصر، الذي يموج بالفتن والاضطرابات والحروب الإقليمية، والذي تنتشر المجاعات والأوبئة في كثير من أجزائه، خاصة فيما يسمى بالعالم الثالث، بل وبعض ما كان يسمى بالعالم الثاني، ما أحوج هذا العالم إلى أن تسوده روح الأخوة الإنسانية والتسامح، ونبذ التعصب، وإلى أن تشيع فيه روح الإيثار بدل الأثرة والأنانية، وأن يحل مشكلاته بالحوار والتفاهم، بدل الحروب المدمرة، التي تستنزف موارده، خاصة في الدول الفقيرة، وأن تخصص نفقات تلك الحروب لإطعام الجائعين، الذين يقتلهم الجوع، وعلاج المرضى الذين تفتك بهم الأوبئة والأمراض، وكل أولئك وهؤلاء يعدون بمئات الملايين من البشر. وليس هناك ما يمكن أن يسهم إسهاما إيجابيّا في تحقيق تلك الغايات الإنسانية النبيلة سوى مبادئ الأديان السماوية السمحة، التي تحض على الأخوة الإنسانية، وتقوية الروابط بين الإنسان وأخيه الإنسان، من حيث هو إنسان، بصرف النظر عن دينه ولغته وجنسه. فلا شك أن بين الأديان السماوية- اليهودية والمسيحية والإسلام- قدرا مشتركا من الأصول المتفق عليها فيما يتعلق بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، أقصد أصول الأديان ونصوصها المقدسة، لا التفسيرات التي تجنح إلى التعصب والتمييز العنصري والديني وبث الفرقة بين أبناء آدم. وليس أنجع في تحقيق كل ذلك من الندوات واللقاآت التي تجمع بين أبناء تلك الديانات، وإجراء حوار أخوي إنساني متسامح، وبعث الصفحات المشرقة في تاريخ علاقاتهم، لتنمية روح التسامح والأخوة الإنسانية، والتغاضي عما حدث في الماضي البعيد من حروب وصراعات، والتخلص من نزعة الثأر والانتقام، فالتسامح هو أعظم ما أهدته الأديان السماوية للبشرية.

_ (1) ألقي هذا البحث في الندوة العلمية التي عقدت في رحاب جامعة فلورنسا بإيطاليا، بالاشتراك مع جامعة الأزهر في شهر المحرم (1418 هـ/ مايو 1997 م) تحت عنوان «الإسلام وأوربا ثلاثة عشر قرنا من التاريخ المشترك» .

* العلاقات الإسلامية البيزنطية في عهد النبي والخلفاء الراشدين:

وإسهاما مني في هذه الندوة الطيبة التي تعقد في رحاب جامعة فلورنسا بإيطاليا، بالاشتراك مع جامعة الأزهر بمصر، فإني أتقدم بهذا البحث المتواضع عن زاوية من زوايا العلاقات المتنوعة بين المسلمين والبيزنطيين، زاوية لم تسلط عليها الأضواء بشكل كاف حتى الآن، وهي زاوية تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين، فإن دراسة هذه الزاوية من زوايا علاقات الدولتين الكبيرتين، قد تكشف لنا عن أشياء لم تكن معروفة من قبل، وعن أن تلك العلاقات لم تكن دائما عدائية تسودها الحروب والمنازعات، بل عرفت تلك العلاقات أوقات صفاء كثيرة وحسن حوار، وجنوحا إلى السلام والتعايش السلمي، وتبادل المنافع، في شتى الميادين، العلمية والتجارية، بل والعمرانية، وليتنا على الجانبين- الإسلامي والغربي- في هذا العصر نعنى ببعث تلك الصفحات المشرقة في العلاقات الإسلامية البيزنطية، لنمحو من الأذهان فكرة أن العداء كان الطابع العام والدائم لتلك العلاقات الإسلامية البيزنطية، وحتى نهيئ للأجيال المعاصرة واللاحقة الأجواء الثقافية والنفسية للعيش معا على كوكب واحد بروح إنسانية متسامحة. * العلاقات الإسلامية البيزنطية في عهد النبي والخلفاء الراشدين: بدأت تلك العلاقات بشكل رسمي منذ أرسل الرسول صلّى الله عليه وسلم رسالة إلى الإمبراطور هرقل، في مطلع العام السابع الهجري (628 م) ، يدعوه إلى الإسلام، وكانت دعوة سلمية؛ لا تتضمن أية إشارة إلى استخدام القوة لإجباره- هو أو غيره- على اعتناق الإسلام؛ لأن القرآن الكريم واضح في هذه القضية، ونصوصه صريحة في عدم إكراه الناس على الدخول في الإسلام، يقول الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] وكان نص الرسالة كما ورد في أوثق المصادر الإسلامية على النحو التالي: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين «1» . قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» «2» .

_ (1) الأريسيين وجاء مكانها في روايات أخرى الأكاريين، يبدو أن المقصود منها رعايا الإمبراطور هرقل. (2) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/ 32) .

وهذه الرسالة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق، إنما يكفي أن نقول: إن الإسلام قد أقام علاقات المسلمين بغيرهم- وبصفة خاصة أهل الكتاب- اليهود والنصارى- على أسس وقواعد ثابتة يمكن تلخيصها فيما يأتي: 1- أن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم من الأمم هو السلام، وأن الحرب هي الاستثناء الذي لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى. فالإسلام دين السلام، واسمه نفسه مشتق من السلام، بل إن الإسلام ينظر إلى الحرب على أنها من إغواء الشيطان، ولذلك يدعو المسلمين جميعا إلى تجنبها والدخول في السلام، بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208] كما يأمر الإسلام المسلمين بالجنوح إلى السلام إذا جنح الأعداء، بقول الله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال: 61] ، وحتى في أثناء الحرب إذا كف العدو عن القتال فيجب أن يكف عنه المسلمون فورا، ويقول تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء: 90] . والنصوص في هذا الباب في القرآن والسنة لا حصر لها. 2- الأصل الثاني الذي تقوم عليه علاقات المسلمين بغيرهم؛ هو النظر إلى الناس جميعا على أنهم أمة واحدة، ومن أب واحد وأم واحدة، دون تفرقة على أساس الجنس أو اللون أو اللغة، وقد صرح القرآن الكريم بهذه الوحدة الإنسانية في أصل الخلقة في كثير من آياته منها قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وكذلك صرحت السنة النبوية بذلك في أحاديث تفوق الحصر. 3- الأصل أو الأساس الثالث الذي أقام عليه الإسلام علاقات المسلمين بغيرهم، هو الوفاء بالعهود والمواثيق التي تنظم تلك العلاقات، وهذه قضية أكد عليها الإسلام تأكيدا شديدا، ولم يبح للمسلمين تحت أي ظرف من الظروف نقض معاهداتهم مع غيرهم أو نكثهم بها، حتى ولو لحقهم ضرر من التمسك بها؛ لأن أي ضرر- مهما كان- أخف من نقض العهد وما يترتب عليه من فقدان الثقة بين الأمم والشعوب؛ لأن معظم الحروب والكوارث التي تحدث بين الدول والأمم والشعوب لا تحدث لعدم وجود معاهدات- فما أكثر المعاهدات- ولكن تأتي من

عدم احترامها ونقضها عند أول فرصة يتصور القوي أنه قادر على فرض إرادته على الضعيف، أما الإسلام فلا يفعل ذلك أبدا؛ لأن العهد الذي يرتبط به المسلم مع غيره لا يرتبط به مع البشر فقط، إنما مع خالقه سبحانه وتعالى، فهو مسؤول عنه أمام الله، والله كفيله على ذلك وشهيد، يقول تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل: 91] فالالتزام بالعهد من وجهة نظر الإسلام في مجال العلاقات الدولية ليس مبدأ أخلاقيّا فحسب، إنما هو واجب ديني يلتزم به المسلم حتى لو أصابه من جراء ذلك الضرر، وهل هناك ضرر أكبر من أن تتعرض فئة مسلمة لعدوان دولة أجنبية، فتطلب تلك الفئة من الدولة الإسلامية أن تعينها وتنصرها، ولكن الدولة الإسلامية لا تستطيع أن تفعل ذلك، لا لشيء إلا أنها قد ارتبطت مع تلك الدولة الأجنبية بعهد سابق، ويقول الله تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ [الأنفال: 72] . لا نريد أن نسترسل في إيراد النصوص فهي كثيرة في هذا الباب، والواقع العملي في عهد الرسول وخلفائه يؤكد ذلك ويدعمه. ومع ذلك فقد بدأت الحروب على نطاق واسع- بعد وفاة الرسول- بين المسلمين والبيزنطيين، واستطاع المسلمون أن يفتحوا الشام ومصر، وبدأت جيوشهم التوغل في شمال أفريقيا، فما السبب في ذلك؟ الأمر المؤكد أن الإمبراطور هرقل لم يقبل دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم للدخول في الإسلام، والأمر المؤكد كذلك أن النبي لم يتخذ أي إجراء كرد فعل لرفض هرقل الدخول في الإسلام، هو وقومه. والشيء المؤكد- مرة ثالثة- أن البيزنطيين اعتدوا على المسلمين فيما عرف بغزوة مؤتة سنة (8 هـ/ 629 م) اعتداء سافرا دون مبرر وقد عدّ هذا العدوان بمثابة إعلان حرب على الإسلام والمسلمين، وهذا هو السبب الرئيسي في نشوب الحرب بين الفريقين؛ لأن عدوان الروم تكرر كثيرا بعد ذلك، بل حاولوا الاعتداء على المسلمين داخل شبه الجزيرة العربية، مما جعل الرسول صلّى الله عليه وسلم يغزوهم بنفسه فيما عرف بغزوة تبوك سنة (9 هـ/ 630 م) ولما انسحبوا أمامه هاربين إلى داخل الشام لم يلاحقهم لإلحاق الهزيمة بهم. بل بقي في تبوك ولم يتجاوز حدود شبه جزيرة العرب، ولم يدخل

* العلاقات الإسلامية البيزنطية في العهدين الأموي والعباسي:

الشام، ليبرهن لهم على أنه لا يريد حربهم أبدا. بل كل ما يريده منهم أن يتركوا المسلمين يدعون إلى دينهم في حرية وأمان، ولكنهم لم يكونوا مستعدين نفسيّا لذلك، فهم كانوا منتصرين على الفرس آنذاك، وكانوا يعدون أنفسهم أسياد العالم، بعد أن قضوا على قوة منافسهم الوحيد على تلك السيادة، ولذلك تكرر اعتداؤهم على المسلمين في مطلع خلافة أبي بكر الصديق، بل قضوا على جيش بكامله من جيوش المسلمين التي كانت تقاتل المرتدين، بقيادة خالد بن سعيد بن العاص، ومن هنا بدأت الحرب، ولم تتوقف إلا عند جبال طوروس في شمال الشام، واستمرت الجيوش الإسلامية في فتح مصر وشمال أفريقيا، والقصة كلها معروفة، ولقد رأيت أن أنوه بتلك البداية للعلاقات الإسلامية البيزنطية، لنعرف موقف كل طرف ودوره ومسؤوليته، ورأيت أن هذا قد يكون مفيدا ونحن نحاول الكشف عن الجوانب المضيئة في تلك العلاقات، لنستفيد من تجارب التاريخ، بخيرها وشرها وحلوها ومرها. * العلاقات الإسلامية البيزنطية في العهدين الأموي والعباسي: استمرت الحروب متقطعة بين المسلمين والبيزنطيين بعد عصر الخلفاء الراشدين، لكن مع نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي بدا واضحا أن الطرفين كليهما قد اقتنعا بأنه من الأفضل لهما ترتيب علاقاتهما على أساس الاحترام المتبادل ورعاية حقوق كل منهما لدى الآخر، ذلك أن تجارب الماضي قد علمتهم أن التعايش السلمي وتبادل المنافع أفضل كثيرا من الحروب وسفك الدماء. والدليل على ذلك أن العلاقات بين أكبر دولتين في ذلك الزمان قد زخرت بكل أنواع النشاط الدبلوماسي الذي لا يقل عما تراعيه الدول في علاقاتها في وقتنا الحاضر، ومما يجدر التنويه عنه أن المسلمين والبيزنطيين قد أرسوا في تلك العصور الوسطى كثيرا من الأسس والقواعد والتقاليد الدبلوماسية الحقة في العلاقات الدولية، وتمثل ذلك في طريقة عقد معاهدات الصلح، وتبادل الوفود والمراسلات والهدايا، والبعثات العلمية، وحتى المجاملات كان لها مكان بارز في تاريخ العلاقات بين الدولتين، فكثيرا ما وصلت بعثات دبلوماسية ووفود من عاصمة إحدى الدولتين إلى عاصمة الدولة الآخرى للتهنئة بحدث كبير، كتولية خليفة أو إمبراطور، على سبيل المثال، كما كانت الدولتان تتعاونان في مجال المشاريع العمرانية، والتأثيرات المتبادلة

* تبادل الوفود لعقد معاهدات الصلح:

في هذا المجال تملأ المصادر التاريخية، الإسلامية والبيزنطية على السواء. * تبادل الوفود لعقد معاهدات الصلح: من المعروف أنه في تلك العصور التي نتحدث عنها لم يكن هناك تمثيل دبلوماسي دائم بين الدول، أي لم تكن هناك بعثات دبلوماسية لها مقرات دائمة- سفارات أو قنصليات- وإنما كانت الدول تتبادل الوفود والبعثات عند الحاجة، وكذلك كان الحال بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية فقد قامت علاقاتهما على أسس راسخة، وتقاليد ثابتة، من حيث اختيار السفراء والمبعوثين، من ذوي الثقافة العالية والكفاءة واللباقة وقوة الشخصية والقدرة على التأثير، إلى جانب الفطنة والذكاء وقوة الحافظة، ومن حيث نظام استقبالهم على قدر مكانتهم في بلدهم- وتسهيل مهماتهم- ورعاية حقوقهم، وتوفير الحصانة لهم وضمان عودتهم إلى بلادهم سالمين «1» . وكانت المهمات الرئيسية لتبادل الوفود والبعثات الرسمية بين الدولتين- الإسلامية والبيزنطية- التفاوض من أجل عقد معاهدات الصلح أو تبادل الأسرى، وكانت تأتي بعثات من كلا الجانبين إلى الآخر لمجرد المجاملة. ولقد عرف تاريخ العلاقات الإسلامية البيزنطية تبادل الوفود منذ وقت مبكر، فقد عرفنا أن الرسول صلّى الله عليه وسلم قد أرسل وفدا يحمل رسالته إلى هرقل وكان رئيس ذلك الوفد الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي والمصادر وتتحدث عن أكثر من رسالة من النبي إلى هرقل، كما أن الطبري يحدثنا عن وفد أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الإمبراطور هرقل وكان يحمل بعض الهدايا «2» لكن أول معاهدة صلح تحدثنا عنها المصادر تلك التي أبرمها معهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة (60 هـ/ 680 م) ، في آخر سنة من حياته، وكانت مدتها ثلاثين عاما «3» ؛ الأمر الذي يدل على الرغبة في استمرار السلام، فالدولتان اللتان تعقدان معاهدة صلح مداها ثلاثون عاما لا يمكن أن تكونا راغبتين في الحرب.

_ (1) راجع في ذلك كتاب (رسل الملوك) لابن الفراء- تحقيق د. صلاح الدين المنجد- القاهرة سنة (1947 م) . (2) سنشير إلى هذا الوفد فيما بعد عند الحديث عن تبادل الهدايا. (3) د. محمد فتحي عثمان- الحدود الإسلامية البيزنطية (1/ 394) . دار الكتاب العربي القاهرة سنة (1966 م) .

وكما يدل على اهتمام الدولة البيزنطية بأمر تلك المعاهدة أنها اختارت لرياسة الوفد الذي أرسلته إلى عاصمة الخلافة الأموية- دمشق- للتفاوض بشأنها رجلا من أشهر الدبلوماسيين في البلاط البيزنطي، ويدعى يوحنا، الذي كان شخصية مرموقة حظيت بالاحترام والتقدير في البلاط الأموي، فقد حضر إلى دمشق ولقي الخليفة معاوية، وفاوضه في عدة جلسات، وحضرها كبار أبناء البيت الأموي، وكبار رجال الدولة، وقد أبدى رئيس الوفد البيزنطي من حسن التخاطب واللباقة واللياقة والإجلال للخلافة الأموية- ما أكسبه احترام الخليفة معاوية نفسه، وجعله ينجح في عقد المعاهدة المنوه عنها آنفا «1» . ومما يدل على جو العلاقات بين الدولتين في ذلك الوقت وما كان يسوده من ميل إلى السلام أنهما حكمتا جزيرة قبرص حكما مشتركا، يقول ابن حوقل: «كانت قبرص بينهم نصف للمسلمين، ونصف للنصرانية، وكان للمسلمين فيها أمير وحاكم» «2» . وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (65- 89 هـ/ 685- 705 م) نقض الروم معاهدتهم مع معاوية، فجددها عبد الملك «3» مما يدل على الرغبة في استمرار حالة السلام بين الدولتين. ولقد بلغت العلاقات الإسلامية البيزنطية أفضل حالاتها في العصر الأموي، في خلافة عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ/ 707- 720 م) ، ومعاصره الإمبراطور ليون الإيسوري (717- 741 م) . فالخليفة عمر كان رجلا صالحا يكره الحرب والعنف بطبعه، فأوقف الحروب على الحدود الإسلامية البيزنطية، بل أمر برفع الحصار الذي كان يفرضه الجيش الإسلامي على القسطنطينية- عاصمة الدولة البيزنطية- وأمر بعودة ذلك الجيش إلى الشام، واهتم بأمر الأسرى المسلمين الذين كانوا في أيدي البيزنطيين، فأرسل إلى القسطنطينية وفدا من أجل التفاوض لافتدائهم، وعودتهم إلى بلادهم. ولقد كان الاحترام والإعجاب متبادلين بين الخليفة والإمبراطور على المستوى الشخصي، فقد روى مؤلف سيرة عمر بن عبد العزيز «4» ، أنه عند ما مرض الخليفة

_ (1) د. السيد الباز العريني- الدولة البيزنطية (ص 133) . ودار النهضة العربية القاهرة سنة (1960 م) . (2) المسالك والممالك (ص 160) . (3) البلاذري- فتوح البلدان (ص 64) . (4) ابن عبد الحكم- سيرة عمر بن عبد العزيز (ص 118) .

عمر، علم بذلك الإمبراطور ليون وأرسل إليه أحد أطباء القصر الإمبراطوري ليعالجه، ومما يدل على حسن العلاقات أن ذلك الطبيب كان قسيسا، أي من رجال الدين المسيحي، وقد وصل الطبيب القسيس فعلا إلى دمشق «1» . ويبدو أن العلاقات الودية بين عمر بن عبد العزيز والإمبراطور ليون قد شجعت الخليفة التقي الصالح على دعوة الإمبراطور إلى الإسلام حيث أرسل إليه وفدا يحمل رسالة بهذا الغرض. وبطبيعة الحال لم يقبل الإمبراطور دعوة الخليفة ونصيحته، ولكنها لم تؤثر سلبيّا على علاقاتهما، فقد استمرت ودية، على خير ما يرام، وظل الإمبراطور على إعجابه بالخليفة المسلم واحترامه إلى وفاته، فقد روى المسعودي، أن عمر بن عبد العزيز بعث وفدا إلى ملك الروم، في أمر من مصالح المسلمين وحق يدعوه إليه ... فتلقاهم بجميل، وأجابهم بأحسن الجواب، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غد غزاة أتاهم رسوله، فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضح التاج عن رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها، كأنه في مصيبة، فقال: «هل تدرون لم دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: إن صاحب مسلحتي التي تلي العرب جاء في كتابه في هذا الوقت إن ملك العرب، الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بكوا، فقال: لا تبكوا له، وابكوا لأنفسكم ما بدا لكم، فإنه خرج إلى خير مما خلف، قد كان يخاف أن يدع طاعة الله في الدنيا، فلم يكن الله ليجمع عليه مخافة الدنيا ومخافة الآخرة، ولقد بلغني من بره وفضله وصدقه، ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى، لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره ظاهرا وباطنا، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحدا، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي قد ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكني عجبت من هذا الذي صارت الدنيا تحت قدميه فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلا» «2» . هذه أجمل صورة للعلاقات الإسلامية البيزنطية، تحمل أكثر من دلالة، ولها

_ (1) المصدر السابق الصفحة نفسها وانظر مقال ماريوس كانار بعنوان «ملاحظات على هامش العلاقات بين العرب والروم» مجلة الدراسات الاستشراقية، المجلد الأول (ص 98- 119) (1956 م) . (2) مروج الذهب (3/ 195) طبع دار الفكر- بيروت. بدون تاريخ.

أكثر من معنى. والواقع أن العلاقات استمرت بدون مشكلات كبيرة ولا اشتباكات خطيرة على الحدود إلى نهاية العصر الأموي (132- 750 هـ) . فلما قامت الدولة العباسية تجددت الاشتباكات الحدودية، والذي بدأ هم البيزنطيون؛ ظنّا منهم أن الدولة العباسية غير قادرة على حماية الحدود الإسلامية لانشغالها بالتمكين لنفسها، ولكن ظنهم لم يكن في محله؛ فسرعان ما وجدوا الجيوش الإسلامية لهم بالمرصاد، مما جعلهم يجنحون إلى السلام من جديد، ومرة أخرى أقام المسلمون الدليل على رغبتهم في السلام، مع أنهم كانوا الأقوى في ذلك الوقت، وأول معاهدة سلام بين الدولتين في العصر العباسي تحدثنا عنها المصادر تلك التي عقدها معهم هارون ابن الخليفة المهدي في عهد أبيه (158- 169 هـ/ 774- 785 م) مع الإمبراطورة إيريني، والتي يقول عنها الطبري: «فجرت بينها وبين هارون بن المهدي الرسل والسفراء، في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه، فأجابته إلى ما سأل ... ووجهت معه رسولا إلى المهدي، بما بذلت.... وكتبوا الهدنة إلى ثلاث سنوات وسلمت الأسارى» «1» . ولما تولى هارون الخلافة بعد أخيه الهادي، وتلقب بالرشيد (170- 193 هـ/ 787- 809 م) نقض إمبراطور الروم نقفور المعاهدة التي وقعتها سلفه، بل هدد الرشيد بالحرب إن لم يعد له الجزية التي أخذها منها، مما جعل الرشيد يغزوه بنفسه، ليثبت حالة السلم على الحدود، وهنا أدرك الإمبراطور خطأه، واعتذر وتعهد بدفع أكثر مما كانت الإمبراطورة إيريني، فعادت حالة السلام بين الدولتين وتقرر الصلح كما ذكر الطبري «2» . والذي يستخلص من كل ذلك أن الدولة الإسلامية لم يكن من خططها غزو أراضي الدولة البيزنطية والاستيلاء عليها، بل كان هدفها المحافظة على حدودها، ومنع تغيير تلك الحدود لمصلحة البيزنطيين، ولو كان المسلمون يبغون الغزو لكان ذلك ممكنا على الأقل في عهد الرشيد؛ لأنهم كانوا الأقوى، وفي عهد الخليفة المأمون (198- 218 هـ/ 813- 833 م) توترت العلاقات إلى حد ما بين

_ (1) تاريخ الطبري (6/ 152، 153) . (2) المصدر السابق (8/ 321) .

الدولتين، إلا أنهما سرعان ما عادتا إلى التفاوض وإجراء الصلح وحل المشكلات بالحوار والتفاهم. وتبودلت الوفود والرسائل بين المأمون ومعاصره الإمبراطور تيوفيلوس، وكان الأخير هو الذي بدأ برسالة إلى المأمون بطلب عقد مصالحة، إلا أنه خلط فيها بين اللين والشدة والود والتهديد، وهو أسلوب مألوف في المناورات السياسية بين الدول، قال تيوفيلوس في رسالته إلى المأمون: ... أما بعد فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد عليهما بالضرر، ولست حريّا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظّا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن أخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيا إلى المسألة، راغبا في فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد منا لكل واحد وليّا وحزبا مع اتصال المرافق، والفسح في المتاجرة، وفك المستأسر، وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر «1» ، ولا أزخرف لك في القول، فإني لخائض إليك غمارها، وآخذ عليك أسدادها، شانّ عليك خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة. والسلام «2» . هذا هو نص رسالة الإمبراطور البيزنطي إلى الخليفة المأمون الذي رد عليها بقوله بعد المقدمة: «أما بعد، فقد وصلني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة، مما استعطفت به من شرح المتاجر واتصال المرافق، وفك الأسارى، ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من أعمال التؤدة، والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وإلا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في استصلاح ما أوثره في معتقبه، لجعلت كتاب جوابك خيلا تحمل رجالا من أهل البأس والنجدة والبصيرة، ينازعونكم عن ثكلكم، ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الأمداد، وأبلغ لهم كافيا من العدة والعتاد، هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة، من مخوف معرتهم عليكم، موعدهم إحدى الحسنيين، عاجل غلبة أو كريم منقلب، غير أني رأيت أن أتقدم إليك بالموعظة، التي يثبت الله بها عليك الحجة من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية، والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول، والإغراق في الصفة، والسلام على

_ (1) يقصد بقوله: «فلا أدب لك في الخمر» : لا أبالغ في التزلف إليك والتقرب منك. (2) تاريخ الطبري (8/ 629) .

من اتبع الهدى «1» . هاتان الرسالتان المتبادلتان بين الخليفة المأمون والإمبراطور تيوفيلوس من الوثائق المهمة في تاريخ العلاقات الإسلامية البيزنطية «2» ؛ لأنهما تضمنتا كثيرا من العبارات التي تحض على المسالمة وتجنب الحروب، وتمهيد السبل لاتصال التجارة والمرافق، وفك الأسرى ... إلخ. وهذه العبارات لم تأت في الرسالتين جزافا، بل إن كلّا من العاهلين الكبيرين كان يعني ما يقول، مما يدل على الرغبة القوية في السلام- رغم ما في الرسالتين من نغمات التهديد- بل أكثر من ذلك فإننا لو تأملنا قول الإمبراطور للخليفة: «ونكون كل واحد لكل واحد وليّا وحزبا» لأدركنا أنه يهدف إلى أكثر من المسألة والتعاون، فهو يقترح التحالف والصداقة بين الدولتين، ولذلك ليس صائبا قول الأستاذ فازيليف «إن دعوة المأمون تيوفيلوس إلى الدخول في الإسلام لم تكن حرية أن تؤدي إلى سلام بين الملكين» «3» ؛ لأن دعوة الخليفة المسلم للإمبراطور البيزنطي إلى الدخول في الإسلام لم تكن دعوة جبرية، وإنما تلك الدعوة إلى الإسلام أصبحت من التقاليد الإسلامية الراسخة، منذ أرسل الرسول صلّى الله عليه وسلم رسائله في العام السابع الهجري إلى ملوك ورؤساء وأمراء العالم يدعوهم فيها إلى الدخول في الإسلام، لذلك درج الخلفاء على هذه السنة النبوية في دعوة نظرائهم من الملوك للدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولذلك كانت عبارة المأمون إلى الإمبراطور هي: «غير أني رأيت أن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية» فدعوة سلمية كهذه لم يكن لها أن تمنع قيام السلام بين دولتين راغبتين في السلام والتعايش السلمي وقد سبق أن ذكرنا أن الخليفة الأموي، عمر بن عبد العزيز أرسل رسالة مماثلة إلى معاصره، الإمبراطور البيزنطي ليون الثالث الإيسوري، يدعوه إلى الدخول في الإسلام، ولم يغضب الإمبراطور من تلك الرسالة- ولم يسلم طبعا- واستمرت العلاقات سلمية بل ودية بينهما، كما سبق وأن أشرنا.

_ (1) المصدر السابق (8/ 629، 630) . (2) تبادل الخليفة والإمبراطور رسائل كثيرة غير هاتين الرسالتين، في مناسبات كثيرة. (3) فازيليف: العرب والروم، الترجمة العربية (ص 109) .

* الوفود والبعثات العلمية:

على كل حال فإن سجل تاريخ العلاقات الإسلامية البيزنطية يزخر بأمثال تلك الرسائل التي كان الخلفاء والأباطرة يتبادلونها في شتى المناسبات، مما يدل على حيوية تلك العلاقات وتنوعها. * الوفود والبعثات العلمية: لا أظن أننا في حاجة هنا إلى تأكيد اهتمام الإسلام بالعلم بشتى فروعه وأنواعه، وحث المسلمين على تعلمه من أي إنسان وفي أي مكان، ومن مأثوراتنا الإسلامية في ذلك المجال- وهي كثيرة-: «اطلبوا العلم ولو في الصين» وهو قول أريد به حث المسلم على طلب العلم مهما كلفه ذلك من جهد، ومهما بعدت المسافات، ومن مأثوراتنا كذلك: «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ولا يضره من أي وعاء خرجت» ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم اللغات الأجنبية، مما يعدّ إشارة لها دلالة في توجيه المسلمين إلى الرحلة في طلب العلم غير المتيسر في بلادهم والبحث عنه في أي مكان، ومن ثم كانت الرحلة في طلب العلم من أبرز روافد الحضارة الإسلامية، ولقد شغف المسلمون بالعلم شغفا يدعو إلى الإعجاب، وبذلوا من أجله المال والوقت والجهد ومن حسن حظ المسلمين أنهم أصبحوا ورثة الحضارة العالمية التي خلفتها القرون والأجيال السابقة على ظهور الإسلام، حيث أصبحت كل مراكز تلك الحضارة المنتشرة في البلاد التي فتحها المسلمون؛ العراق وفارس والشام ومصر وشمال أفريقيا والأندلس وغيرها- أصبحت كل تلك المراكز في أيدي المسلمين. فصانوها وحفظوها وعربوها، أي ترجموها إلى لغتهم، واستفادوا منها استفادة عظيمة وأضافوا إليها من عبقريتهم وإبتكاراتهم ما جعل شعلة الحضارة العالمية متقدة وضاءة حتى تسلمتها منهم أوربا وصنعت الحضارة الحديثة. ولقد أقبل المسلمون على هذا التراث الحضاري منذ وقت مبكر، ففي العصر الأموي ترجمت عدة كتب في الطب والكيمياء، في عهد عمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ/ 718- 720 م) وهشام بن عبد الملك (105- 125 هـ/ 723- 743 م) . بل قبل ذلك كان الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (ت نحو 85 هـ) قد وهب حياته للعلم، وأغرم بترجمة كتب الكيمياء إلى اللغة العربية، ترجمها له أحد علماء مدرسة الإسكندرية، ولم يستنكف ذلك الأمير الأموي التلمذة على أيدي الأساتذة غير المسلمين، وما فعله خالد بن يزيد، وما حدث بعده في العصر الأموي كان

البداية؛ فلما قامت الدولة العباسية زاد الاهتمام بالعلوم غير الإسلامية بحكم التطور، وحدثت وثبة علمية من أعظم الوثبات في تاريخ الأمم والحضارات، فأنشأ الخليفة هارون الرشيد بيت الحكمة في بغداد، وهي أول أكاديمية علمية- فيما نظن- تعنى بالعلوم والترجمة، وقد حشد لها الرشيد ومن أتى بعده من الخلفاء جمعا من أعظم العلماء النابهين في ترجمة الكتب، وكان جلهم من السريان المسيحيين «1» ، وجد الخلفاء العباسيون في البحث عن المخطوطات الإغريقية في شتى العلوم في كل مكان استطاعوا الوصول إليه، ومن أجل هذا أوفدوا الوفود والبعثات العلمية إلى الدولة البيزنطية للحصول على الكتب وإحضارها إلى بيت الحكمة وترجمتها، ولم يكتفوا بما حصلوا عليه من المراكز العلمية التي أصبحت تحت أيديهم، بل دأب الخلفاء على إيفاد البعثات لطلب الكتب من الأباطرة البيزنطيين، فقد أرسل الخليفة أبو جعفر المنصور (136- 158 هـ/ 758- 774 م) إلى الإمبراطور البيزنطي يطلب كتبا يونانية، فأجابه الإمبراطور إلى طلبه وأرسل إليه كتبا كان منها كتاب إقليدس «أصول الهندسة» «2» . ومن أهم البعثات العلمية التي ذهبت من بغداد إلى البلاد البيزنطية للبحث عن الكتب تلك التي رأسها قسطا بن لوقا، الذي يقول عنه القفطي: «قسطا بن لوقا فيلسوف شامي نصراني في أيام العباسيين، دخل بلاد الروم، وحصل من تصانيفهم الكثير، وعاد إلى الشام، واستدعي إلى بغداد ليترجم كتبا يستخرجها من لسان يونان إلى لسان العرب، وعاصر يعقوب الكندي، وكان قسطا متحققا بعلم العدد والهندسة والنجوم والمنطق والعلوم الطبيعية، ماهرا في صناعة الطب» «3» . ولقد بلغت حركة البحث عن الكتب اليونانية وإيفاد البعثات إلى الدولة البيزنطية من أجل الحصول عليها أوجها في عهد الخليفة المأمون، الذي كان نسيج وحده في حب العلم والثقافة بعامة، والثقافة اليونانية بخاصة، وإذا كان المثل الشائع يقول: «الناس على دين ملوكهم» فلقد صدق هذا المثل على الخليفة المأمون حيث تأثر به الناس في تطلعه للعلم وسرت عدواه فيهم، أفرادا وجماعات، وانكبوا على العلم

_ (1) د. إبراهيم العدوي الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم، مكتبة الأنجلو المصرية- الطبعة الثانية- القاهرة 1958 م (ص 168) . (2) ابن خالدون- المقدمة (بتحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي) (ص 1124) . (3) ابن القفطي- تاريخ الحكماء (ص 262) .

يحصلونه ويدرسون مما أثمر حضارة إسلامية زاهرة، يقول صاعد الأندلسي: «ثم لمّا أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم- المأمون- تمم ما بدأه جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، واستخرجه من معادنه، بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فداخل ملوك الروم، وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطوطاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة، فاستخار لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعلمها» «1» . وإذا كانت الأمم التي تريد أن تنهض في وقتنا الحاضر وتلحق بركب الدول المتقدمة وتسعى في الوصول إلى تحصيل العلم والمعرفة بشتى الطرق، ومنها إيفاد البعثات من أبنائها إلى الدول الأكثر تقدما لتحصيل العلم، ومنها أيضا دعوة كبار الأساتذة الأجانب لإلقاء المحاضرات والدروس على أبنائها كأساتذة دائمين أو زائرين في جامعاتها، فإن هذا هو ما فعله المسلمون بالضبط في بناء نهضتهم العلمية، فقد أرسلوا البعثات والوفود للتعلم وجمع الكتب، ثم استقدموا كبار الأساتذة للتدريس في بغداد. يقول ابن النديم في الفهرست: «إن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات يسأل الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجاب ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة، منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة، وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما جاؤوا إليه أمرهم بنقله» «2» أي: ترجمته إلى اللغة العربية. وتعددت وفود وبعثات المأمون إلى البلاد البيزنطية للبحث عن الكتب «3» ومن أعظم الأمثلة الدالة على التعاون في المجال العلمي بين المسلمين والبيزنطيين. وعلى تطلع المسلمين إلى المعرفة ما فعله المأمون من أجل استقدام العلماء البيزنطيين إلى بغداد، وذلك مثل محاولته استقدام أشهر عالم فلك ورياضيات بيزنطي في عهده

_ (1) أحمد بن صاعد الأندلسي- طبقات الأمم (ص 76) . (2) الفهرست (ص 243) . (3) انظر أحمد أمين- ضحى الإسلام (2/ 63) ، مطبعة الاعتماد بالقاهرة سنة (1933 م) .

* التعاون بين الدولتين في المجالات العمرانية:

هو المعروف بليون الفلكي الرومي، حيث دخل في مفاوضات مع الإمبراطور تيوفيلوس بهذا الشأن، ونجح في مسعاه، يقول الأستاذ فازيليف: «ونحن نعرف ما كان من مفاوضات متكررة دخل فيها الإمبراطور تيوفيلوس والمأمون أكثر من مرة، في أمير ليون العالم الرومي المهندس الفلكي، وكان هذا الخليفة المتنور يتوق إلى رؤية ليون ولو لوقت محدود، ليستفيد من علمه الواسع في الرياضيات ... ومن الشيق أن نلاحظ رغم هذه الحروب المتصلة أن علاقة العرب الشرقيين والروم فيما عدا الحرب لم تتميز قط بصفة الخصومة، بل كانت أقرب إلى التواد وقد نستطيع أن نتخذ دليلا على ذلك من حملة إفسوس العلمية التي عرضت لها آنفا، والتي كانت مختلطة رومية وعربية، ومن مثول ليون الفلكي الرومي في بلاط بغداد، والواقع أن بيزنطة كانت تحتفظ للعرب بمكان الصدارة بين جيرانها» «1» . لا يمكن في هذا البحث القصير أن نأتي على ذكر الوفود والبعثات التي تبادلها الخلفاء والأباطرة فهذا موضوع كبير ويحتاج إلى دراسات أكاديمية كثيرة. وإنما قصدنا من هذه النماذج التي قدمناها أن نبرهن للناس على أن علاقات المسلمين والبيزنطيين لم تكن عدائية قائمة على الحروب والصراع بل كانت حياة إنسانية بكل ما تعني هذه العبارة فيها العداء والخصام، وفيها الود والسلام وتبادل المنافع. وكان للمجاملات مكان واسع في علاقات الدولتين، حيث كانت تأتي الوفود من إحداهما إلى الآخرى للتهنئة بحدث سعيد، كتولية خليفة أو إمبراطور، فعندما تم بناء بغداد في عهد أبي جعفر المنصور أرسلت الدولة البيزنطية وفدا للتهنئة برئاسة أحد البطارقة، فاستقبل الوفد في بغداد استقبالا لائقا، أمر المنصور وزيره الربيع بن يونس أن يطوف بالوفد ربوع المدينة الجديدة ويشرح له معالمها «2» والطريف أن البطريق كانت له عدة ملاحظات أبداها للخليفة الذي اهتم بها وعمل ببعضها «3» . * التعاون بين الدولتين في المجالات العمرانية: لم تكن الدولة البيزنطية ترسل وفودها إلى عاصمة الخلافة الإسلامية للتهنئة بإنجاز

_ (1) فازيليف العرب والروم (ص 19) مرجع سابق. (2) كان من التقاليد المعمول بها في استقبال الوفود الزائرة بين الدولتين أن الوفد عند ما يصل إلى الحدود يكون في انتظاره وفد على مستواه يستقبله ويصحبه إلى قصر الضيافة ويكون في صحبته طوال إقامته. (3) انظر عن هذه السفارة: تاريخ الطبري (7/ 653) ، وابن الفراء رسل الملوك (ص 39) .

* تبادل الهدايا بين الخلفاء والأباطرة:

المشروعات العمرانية فحسب كما حدث بعد تمام بناء بغداد، وإنما كانت تشارك في تلك المشاريع بالخبرة الفنية ومواد البناء، بل بالأموال، مما يدل على حسن العلاقات والود المتبادل، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما حدث في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86- 96 هـ/ 705- 715 م) حيث عزم على تجديد المسجد النبوي في المدينة المنورة، وبناء المسجد الأموي بدمشق، وعندئذ طلب من إمبراطور الروم- كما يروي الطبري «1» - أن يعينه في ذلك، فبعث إليه مائة ألف مثقال ذهب، ومائة عامل، وأربعين حملا من الفسيفساء، فبعث الوليد كل ذلك إلى والي المدينة، ابن عمه عمر بن عبد العزيز، الذي أشرف على تجديد وتجميل المسجد النبوي. كذلك فعل الوليد عند بناء مسجد دمشق، فأمده الإمبراطور بالفنيين ومواد البناء والزخرفة والأموال، وهذه صورة مشرقة للتعاون بين الدولتين وقيمة هذا التعاون المعنوية تفوق قيمته المادية بكثير، فاشتراك المال البيزنطي، والعمال والخبرة الفنية البيزنطية في مشاريع عمرانية إسلامية عمل عظيم، وعند ما تكون هذه المشاريع دور عبادة، أي مساجد، تكون الدلالة أعظم على حسن العلاقات وما يسودها من تسامح بين أكبر دولتين في ذلك الزمان، إحداهما إسلامية والآخرى مسيحية. * تبادل الهدايا بين الخلفاء والأباطرة: تبادل الهدايا بين رؤساء الدول في المناسبات تقليد قديم، وقد عرفته الدولة الإسلامية منذ قيامها في عصر النبوة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يهدي إلى الوفود التي تأتي إليه ويتقبل الهدايا من رؤساء الدول، فقد أهدى إليه المقوقس- حاكم مصر- كثيرا من الهدايا «2» منها جاريتان، هما مارية القبطية التي تسرى بها النبي، وأنجب منها ابنه إبراهيم، وأختها سيرين، التي أهداها إلى شاعره حسان بن ثابت، وكان يحث أصحابه على التهادي فيما بينهم، ومن أقواله في ذلك: «تهادوا تحابوا فإن الهدية تفتح الباب المصمت، وتسل سخيمة القلب» ويروى أنه كان من آخر نصائحه لأصحابه قوله: «أجيزوا الوفد بمثل ما كنت أجيزهم به» يعني أعطوا الوفود التي تأتي إليكم هدايا كما كنت أفعل، وهذا التوجيه موجه لمن يلي الأمر بعده؛ أي: إلى

_ (1) تاريخ الطبري (6/ 436) - والبلاذري- فتوح البلدان (ص 21) . (2) السيوطي- حسن المحاضرة (1/ 48) - طبع القاهرة- سنة (1321 هـ) .

الخليفة رئيس الدولة. وقد درج الخلفاء على هذا التقليد وحافظوا عليه، بل من الطريف أن زوجات الخلفاء كن يبعثن الهدايا إلى زوجات الأباطرة، فقد روى الطبري «1» أن عمر بن الخطاب أرسل وفدا إلى القسطنطينية، إلى الإمبراطور هرقل، في أمر يخص العلاقات بين الدولتين، فبعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب التي كانت زوجا لعمر إلى زوجة الإمبراطور بعض الهدايا منها الطيب، وأشياء تخص النساء، سماها الطبري «أخفاش من أخفاش النساء» دسته إلى الوفد وأمرت بتسليمه إليها، فلما وصلت هدايا أم كلثوم إلى زوجة الإمبراطور فرحت بها، وجمعت زوجات كبار رجال الدولة، وأعطتهن منها وقالت لهن: أشرن علي في هدية جاءتني من بنت نبي العرب وزوجة أميرهم، فأشرن عليها أن تكون هديتها إلى أم كلثوم غالية وثمينة، فبعثت إليها بهدايا كثيرة، وكان فيها عقد فاخر، من الأحجار الكريمة، فلما عاد الوفد الإسلامي إلى عمر بن الخطاب، ورأى العقد سأل عنه، فأخبروه الخبر، فدعا الناس إلى صلاة جامعة في مسجد الرسول، وخاطبهم قائلا: «لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري، قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم، فأهدت لها امرأة ملك الروم. فقال قائلون: هو لها بالذي لها- يعني هدية بهدية- وليست امرأة الملك بذمة لك فتصانع، ولا تحت يدك فتتقيك، فقال: لكن الرسول رسول المسلمين، والبريد بريدهم ... فأمر برده- العقد- إلى بيت المال، ورد عليها- أم كلثوم- بقدر نفقتها» «2» أي: إن عمر رأى أن الخيول التي حملت الهدايا ملك للدولة، والرجال الذين أوصلوها موظفين في الدولة، ولا ينبغي أن تستخدمهم زوجته في أغراض شخصية، ولذلك صادر العقد، ووضعه في بيت المال، وعوضها عن قيمة هداياها، التي كانت بسيطة يسيرة، ودلالة هذه القصة على نزاهة الخليفة وأهل بيته عن المال العام جلية ظاهرة، وهي أيضا دلالة على أن الإسلام يحبذ العلاقات الودية بين المسلمين وجيرانهم، ولا يمانع في تبادل الهدايا معهم. ومن الجدير بالذكر في هذه القصة أن الخليفة العظيم عمر بن الخطاب لم يتعرض إلى ما قامت به زوجته من الاتصال بزوجة الإمبراطور، وتبادل الهدايا معها- ولم

_ (1) تاريخ الطبري (4/ 260) ، وكانت هناك مراسلات عديدة بين عمر بن الخطاب والإمبراطور هرقل راجعها في المصدر نفسه. (2) تاريخ الطبري (4/ 260) .

يعترض عليه- وإنما كانت تصرفه برد الهدايا الثمينة إلى بيت المال، لفرط حساسيته نحو المال العام. إن سجل العلاقات بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية حافل بأخبار تبادل الهدايا بين الخلفاء والأباطرة، فلم يكن وفد يحضر من إحدى عاصمتي الدولتين إلى الآخري دون أن يحمل معه الهدايا والطرف التي تليق بشخص الخليفة إن كانت قادمة من القسطنطينية، وبشخص الإمبراطور إن كانت آتية من عاصمة الخلافة، وكان من التقاليد المتبعة أن الوفد عند ما يصل إلى الحدود يستقبل استقبالا لائقا من قبل وفد من البلد المضيف، ويكرمهم وبصحبهم إلى مقابلة الخليفة أو الإمبراطور إن كان ذلك ضروريّا، وقبل ذلك يلقنهم الآداب والتقاليد التي يجب أن تراعى عند مقابلة رئيس الدولة «1» . وليس بالوسع في هذا البحث استقصاء كل الأخبار المتعلقة بتبادل الهدايا بين الخلفاء والأباطرة، ولذلك نقتصر على ذكر نماذج منها تكفي للدلالة على حسن العلاقات بين الدولتين، وجنوحهما إلى السلام وحسن الجوار، على الرغم مما بينهما من خلافات. من تلك النماذج ما حدث بين الخليفة العباسي هارون الرشيد، ومعاصره الإمبراطور البيزنطي نقفور، اللذين بدأت علاقاتهما بداية سيئة وتبادلا الرسائل ذات اللهجة الشديدة، بل وصل الأمر إلى حد الاشتباك المسلح- على الحدود- كما سبقت الإشارة- لكنهما سرعان ما جنحا إلى السلم، ودخلت علاقاتهما في دور سلمي، وتبادلا الرسائل الودية ذات اللهجة الهادئة، كما تبادلا الهدايا، وأخذت الوفود تترى بينهما وكانت وفودا على مستوى عال، وكان من تلك الوفود وقد أتى من قبل الإمبراطور إلى الرشيد يحمل رسالة وبعض الطلبات الشخصية وقد لباها الرشيد كلها. يقول الطبري: «وكتب نقفور مع بطريقين من عظاماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة «2» كتابا، نسخته لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم، سلام عليكم، أما بعد: أيها الملك إن لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينة يسيرة؛ أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد

_ (1) د. إبراهيم العدوي- الأمويون والبيزنطيون (ص 285) . طبع القاهرة (1963 م) . (2) كانت هذه الجارية قد وقعت أسيرة في أيدي المسلمين عند ما غزا الرشيد هرقلة وكانت مخطوبة لابن الإمبراطور.

خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفني بحاجتي فعلت، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. واستهداه أيضا- أي: طلب منه- طيبا وسرداقا من سرداقاته فأمر الرشيد بطلب الجارية فأحضرت، وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلا فيه، وبعث إليه بما سأل من العطور، وبعث إليه من التمور والأخبصة والزبيب والترياق. فسلّم ذلك كله إليه رسل الرشيد، فأعطاهم نقفور وقر دراهم إسلامية، على برذون كميت كان مبلغه خمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج، ومائتي ثوب بزيون، واثني عشر بازيا، وأربعة كلاب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين» «1» . هذا أنموذج رائع على حسن العلاقات بين الخليفة والإمبراطور، فتبادل الرسائل الودية والهدايا والطرف بينهما، بعد التوتر الذي ساد علاقاتهما في البداية دليل ناصع على رغبة كل منهما في السلام، وفتح صفحة جديدة من العلاقات الودية وحسن الجوار، ومن اللافت للنظر أن: 1- رسالة الإمبراطور على الرغم من قصرها كانت ودية وقد بدأها بالسلام، وهذه تحية المسلمين بعضهم لبعض، وهذا أمر له دلالته، ولم يكتب اعتباطا، بل يستشف منه الاحترام والتقدير للخليفة. 2- أن الخليفة استقبل الوفد الإمبراطوري استقبالا يليق بمقام مرسله، وأجاب كل طلباته، بل زاد عليها من التحف والطرف العربية. 3- وزيادة في التكريم وإظهار الود نحو الإمبراطور، أمر هارون الرشيد بتزيين الجارية وجلوسها في جناحه الخاص الذي يجلس فيه قبل سفرها إلى خطيبها، ابن الإمبراطور، وهذه لفتة كريمة تستحق التنويه. 4- وفوق هذا كله فإن هارون الرشيد لم يرسل الجارية والهدايا وطلبات الإمبراطور مع الوفد الذي حضر من القسطنطينية، وإنما تصرف تصرفا يليق بالملوك، فقد أرسل كل هذا مع وفد خاص من قبله. 5- أن الوفد الإسلامي عند ما وصل إلى القسطنطينية استقبله الإمبراطور على الفور، وأظهر سروره بإجابة الخليفة لمطالبه وحملهم بالهدايا العظيمة التي مر ذكرها. ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة أن سجلات البروتوكول البيزنطي حافلة

_ (1) تاريخ الطبري (8/ 321) ، وابن الأثير- الكامل في التاريخ (6/ 134) .

بالمعلومات والأدلة على أن أباطرة بيزنطة كانوا يضعون الوفود الإسلامية ومبعوثي الخلفاء في مرتبة أعلى من جميع الوفود الأجنبية التي كانت تأتي لمقابلتهم «1» . وهناك أنموذج آخر من نماذج حسن العلاقات بين الدولتين، وجنوح العاهلين الكبيرين إلى السلام، ونختم به هذا البحث، وذلك هو ما حدث بين الخليفة المأمون ابن الرشيد وبين الإمبراطور تيوفيلوس، فقد بدأت صفحة علاقاتهما عدائية، كما هو الحال بالنسبة للرشيد ونقفور، ولكن سرعان ما جنحا إلى السلام، وحسن الجوار، وقد سبق أن ذكرنا بعض الرسائل التي تبادلاها لتحقيق تلك الأهداف والآن نشير إلى وفد حضر من قبل الإمبراطور إلى بغداد محملا بالهدايا إلى الخليفة المأمون. لقد كان الوفد رفيع المستوى، رأسه أحد رجال البلاط البيزنطيين البارزين ويدعى يوحنا، ومما يلفت النظر أنه قيل: إن من بين أسباب حضور ذلك الوفد إلى بغداد إعلام الخليفة المأمون بارتقاء تيوفيلوس عرش الإمبراطورية «2» ، وهذا في حد ذاته دليل واضح على الميل إلى توطيد العلاقات بين أكبر حاكمين في العالم في زمانهما. وقيل: إن من بين أهداف الوفد أنه كان مكلفا من الإمبراطور شخصيّا بالاطلاع على المنشات والقصور التي بناها العباسيون في بغداد، ورسم نماذج لها لبناء مثلها في القسطنطينية؛ لأن الإمبراطور نفسه كان معجبا بالحضارة الإسلامية بصفة عامة والفنون المعمارية الإسلامية بصفة خاصة، وقد قام المبعوث الإمبراطوري بهذه المهمة، يقول أكبر مؤرخي الإمبراطورية الرومانية جيبون: «وقد سمح اقتصاد الإمبراطور تيوفيلوس بحال أكثر حرية وسعة في الترف والبهاء الداخلي، وقدم سفير مقرّب، كان قد أدهش العباسيين بكبريائه وكرمه وقدم بعد عودته أنموذجا لقصر كان خليفة بغداد قد شيده حديثا على شواطئ نهر دجلة، فحوكي الأنموذج في التوّ، وزيد عليه» «3» . وهذا برهان على تأثير الحضارة الإسلامية في الحضارة البيزنطية في فنون العمارة بعد أن كان المسلمون هم الذين يأخذون نماذج من الفنون المعمارية البيزنطية ويتأثرون بها، ولا ضير من ذلك على أي من الحضارتين، فالأخذ والإعطاء، والتأثير والتأثر

_ (1) فازيليف- العرب والروم (ص 19) - مرجع سابق. (2) د. محمد فتحي عثمان- الحدود الإسلامية البيزنطية (2/ 398) مرجع سابق، وفازيليف- العرب والروم، مرجع سابق هامش (ص 93) . (3) جيبون- اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها (3/ 111) .

من سمات الحضارات الإنسانية الحية. ومن الطريف أيضا أنه قيل: إن المبعوث الإمبراطوري كان مكلفا من الإمبراطور شخصيّا بمهمة سرية في بغداد، وهي الاتصال بالقائد البيزنطي مانويل، الذي كان قد هرب إلى بغداد في وقت سابق ووعده بالعفو عنه إن عاد إلى القسطنطينية، ويبدو أن المبعوث الإمبراطوري قد نجح في تلك المهمة السرية، حيث عاد مانويل فعلا إلى بيزنطة هكذا كانت الوفود والبعثات لا تكف عن التردد بين أكبر عاصمتين لأكبر دولتين في العصور الوسطى، بغداد والقسطنطينية محملة بالهدايا والطرف من هنا وهناك، وفي ختام هذا البحث أرجو أن أكون قد وفقت في إلقاء بعض الضوء على صفحة من العلاقات بين المسلمين والبيزنطيين، لا زالت في حاجة إلى مواصلة البحث والتنقيب للعثور على المزيد من الاتصالات والمبادلات في الميادين السلمية بين الطرفين، لتزيل من الأذهان تلك الأفكار التي ترسبت فيها، بأن علاقات الدولتين كانت كلها حروبا وسفك دماء وتعصبا، ولا شك في أن إبراز تلك الجوانب الطيبة من العلاقات الودية وحسن الجوار والجنوح إلى التعايش السلمي، وجو التسامح الذي كان يسود في كثير من الأحيان، لا شك أن كل ذلك يسهم في صياغة علاقات حسنة بين الشرق الغرب في عصرنا الحاضر، نحن أحوج ما نكون إليها، فلا أحد يجني الخير من العداء والتعصب، بل الخير كل الخير للإنسانية كلها في التسامح وتبادل المنافع وإشاعة روح الود والتعاطف بين أبناء آدم، وهذه كلها أمور تحثنا عليها أدياننا السماوية. كما لا يفوتني أن أقدم الشكر وافرا وجزيلا لجامعتي فلورنسا والأزهر على عقد هذه الندوة ونرجوهما المزيد. وعلى الله قصد السبيل ومنه العون والتأييد.

البحث الحادي عشر الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث الحادي عشر] الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس

ملخص البحث

الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس ملخص البحث المعنون: «الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى أسبانيا» الذي سيقدم إلى المؤتمر الدولي الذي تنظمه رابطة الجامعات الإسلامية بالتعاون مع معهد الفتح الإسلامي بدمشق وكلية الدراسات الأندلسية بغرناطة، والذي سيعقد في أسبانيا في صيف سنة (2003 م) تحت عنوان: «أثر الحضارة العربية الإسلامية في الغرب ودور أسبانيا في نقلها» . قبل أن أقدم ملخصا لبحثي الذي سأتقدم به إلى ذلك المؤتمر أود أن أعبر عن إحساس بالسعادة الغامرة حين دعيت للإسهام في ذلك المؤتمر العلمي المهم لأسباب كثيرة، أهمها أن انعقاد هذا المؤتمر يجيء في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى أن نبعث من جديد صفحات طيبة من قصة العلاقات الطويلة والمتشابكة والمعقدة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، ولقد عرفت تلك العلاقات كثيرا من المواجهات العنيفة، وعرفت كذلك كثيرا من أوجه التعاون بصفة خاصة في الميدان العلمي، ومن مصلحة الطرفين الآن بعث وتزكية أوجه التعاون، وعلى الأخص صفحات إسهامات الحضارة العربية الإسلامية في إخراج أوربا من عصورها الوسطى المظلمة وتهيئتها لعصر النهضة، ولقد كانت «الأندلس» - أسبانيا والبرتغال- بلا جدال أهم حلقات الوصل والمعابر التي سلكتها الحضارة العربية الإسلامية إلى أوربا. ومما يزيد من أهمية ذلك المؤتمر أنه يجيء في وقت يمر فيه العالم بظروف صعبة للغاية بل لا أبالغ إذا قلت: إن العالم لم يمر طوال تاريخه بظروف أقسى وأصعب من تلك الظروف التي يمر بها الآن ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين حيث تسيطر الأنانية والكراهية والأحقاد واستقواء الأقوياء على الضعفاء، وحيث تشن الحروب غير المشروعة وغير المبررة تارة بحجة تحرير الشعوب من حكامها الطغاة الظلمة، وتارة أخرى بحجة المحافظة على حقوق الإنسان، غير أن الأهداف الحقيقية الكامنة وراء تلك الحروب، وهي السيطرة على ثروات الشعوب والهيمنة وبسط النفوذ أظهر من أن تخفى على أحد. في هذه الفترة العصيبة من تاريخ العالم ترتفع صيحات عجيبة وغريبة بنظريات أعجب وأغرب، مثل نظرية أو مقولة «صراع الحضارات» وليس في أدبيات التاريخ

البشري أكذب من هذه المقولة، لسبب بسيط، وهو أن كلمتي صراع وحضارة تتناقضان تمام التناقض، والمسافة بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ لأن الحضارة تسامح وحب وعطاء، وكلها مفردات بعيدة كل البعد عن الصراع، فالإنسان المتحضر حضارة حقيقية لا يعرف إلا الحب والتسامح فإذا كان قويّا أخذ بيد الضعيف ورفع عنه الظلم، وإذا كان غنيّا عطف على الفقير وأعانه على أمره، وكذلك تفعل الدول القوية إذا كانت متحضرة حضارة حقيقية. أما الصراع فلا يمكن أن يكون بين حضارات، وإنما يحدث الصراع من أجل السيطرة والهيمنة وفرض الإرادة ومن أجل المطامع الاقتصادية ... إلخ. ولقد شهد التاريخ صراعات ومصادمات عنيفة بين مسلمين ومسلمين، وهم أبناء حضارة واحدة، وحدث الشيء نفسه بين مسيحيين ومسيحيين وهم أبناء حضارة واحدة. فالحربان العالميتان الأولى (1914- 1918 م) والثانية (1939- 1945 م) اشتعلتا على الأرض الأوربية في أقل من ربع قرن والذين أشعلوها أبناء حضارة واحدة. بل إن المصالح الاقتصادية والأهداف السياسية كانت تتغلب حتى على الدين فرأينا تحالفا وتعاونا يقوم بين دولة مسيحية ودولة مسلمة ضد دولة مسيحية ودولة مسلمة أخرى، كما حدث بين الأمويين في الأندلس والبيزنطيين في القسطنطينية ضد العباسيين في بغداد ودولة الفرنجة في الغرب وما حدث بين الأخيرتين من تحالف وتعاون ضد الأمويين والعباسيين وكل هذه التحالفات وراءها مصالح اقتصادية وسياسية، لا أريد أن أطيل أكثر من هذا بين يدي ملخص البحث، لأني لم أرد إلا التنويه بأهمية ذلك المؤتمر الذي يعد من وجهة نظري- تحية واجبة للحضارة العربية الإسلامية- وهي تستحقها لدورها العظيم في خدمة الحضارة الإنسانية بصفة عامة، والحضارة الأوربية بصفة خاصة. كما أحب أن أنوه بأن أعظم هدية قدمتها الحضارة العربية الإسلامية للبشرية هي التسامح، فالتسامح الذي تحلى به المسلمون الفاتحون الأقوياء مع الشعوب المغلوبة لا نظير له باعتراف كثير من الباحثين المنصفين من الأوربيين أنفسهم، الذين نذكر منهم على سبيل المثال السير «توماس أرنولد» في كتابه «الدعوة إلى الإسلام» ، والعلامة «جوستاف لوبون» في كتابه «حضارة العرب» ، والدكتورة «سيجريد هونكه» في كتابتها «شمس العرب تسطع على الغرب» . فقد أظهر هؤلاء العلماء كيف كان تسامح المسلمين الفاتحين مع المغلوبين وتركوا لهم الحرية الكاملة في مجال العقيدة وحافظوا على أرواحهم وممتلكاتهم وكرامتهم،

والتسامح من جانب المسلمين مع غير المسلمين ليس منحة وامتنانا وإنما هي أوامر إلهية؛ لأن الحضارة العربية الإسلامية حضارة إيمان، أي: تؤمن بالله ورسله وكتبه ولا يتسع المجال في هذه العجالة لإيراد الآيات والأحاديث النبوية التي تأمر المسلمين أمرا جازما بالإحسان والتسامح مع غير المسلمين. هذا المؤتمر جاء في وقته عساه أن يذكرنا بجوانب العطاء الحضاري ويعلمنا أن الحضارة حب وتسامح واحترام وتبادل منافع في كل مجالات الحياة وليست صراعا وقهرا. أعتذر عن الإطالة وأقدم نبذة عن أهم الموضوعات التي تناولتها في بحثي وهي كالآتي: أولا: أعطيت فكرة عن الدور الذي قام به «بنو أمية» في التاريخ العالمي، وكيف كونوا دولتهم ووطدوا أركانها وطوروا أجهزتها السياسية والإدارية وأشاعوا جوّا من التسامح مع أبناء البلاد التي فتحوها، وأشركوهم في إدارة بلادهم، مما جعل الكثيرين منهم يعتنقون الإسلام عن طواعية واختيار، وكان الحديث عن دور «بني أمية» في التاريخ ضروريّا- من وجهة نظري- لمعرفة الشجرة التي انبثق منها الفرع الذي أقام الدولة الأموية الأندلسية، وهو «عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان» ، الذي قام بمغامرة شبه أسطورية- غير مسبوقة في التاريخ- وتخطى الأهوال والصعاب وحط على أرض الأندلس ليقيم دولة عظيمة استمرت ما يقرب من ثلاثة قرون (138- 422 هـ/ 756- 1031 م) . ولقد كانت تلك القرون باعتراف معظم الباحثين من أعظم عصور التاريخ الأندلسي. ثانيا: نوهت عن دور الأمويين في المحافظة على التراث الحضاري الإنساني الذي وجدوه في البلاد التي فتحوها، فكما هو معروف فتح الأمويون مناطق شاسعة من العالم القديم في آسيا وإفريقيا وأوربا، وامتدت دولتهم من حدود الصين شرقا إلى الأندلس- شبه جزيرة أيبريا- غربا، ومن آسيا الوسطى شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا. وهذه المناطق كانت تحتوي على التراث الحضاري للأمم القديمة، مثل الصينيين والهنود والفرس وأهل العراق وأهل الشام ومصر، فضلا عن التراث العظيم للحضارتين الإغريقية والرومانية، فلقد حافظ الأمويون على هذا التراث الإنساني العظيم محافظة المحب العارف بقيمته، واستمرت مراكز العلم والفكر تؤدي دورها

تحت الحكم الأموي وبتشجيع من الخلفاء والأمراء، فبقيت مدارس الإسكندرية وأنطاكية ودمشق والرها ونصيبين وحران وجنديسابور ... إلخ، تعمل كما كانت بل أكثر، وكان الأمويون يدخرون ذلك التراث ليوم يجيء بحيث يكونون فيه قادرين على ترجمته إلى اللغة العربية، ولكن سقوط دولتهم مبكرا ودون توقع حال دون ذلك، وكان شرف ترجمة ذلك التراث كما هو معروف من نصيب العباسيين، ورغم قصر مدة حكم الدولة الأموية فقد كانت لهم محاولات في الترجمة مبكرة ومبشرة وواعدة أشرت إليها في ثنايا البحث. ثالثا: اقتضى هذا البحث حديثا موجزا عن الفتح الإسلامي للأندلس لبيان المسرح الذي أدى عليه الأمويون دورهم الحضاري العظيم، ونوهت بسياستهم التي خلقت الجو المناسب لنمو وازدهار الحضارة العربية الإسلامية على أرض الأندلس. رابعا: تحدثت- بإيجاز- عن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وكيف تألقت علوم كثيرة عربية إسلامية كالفقه والتفسير والحديث واللغة العربية وآدابها والتاريخ والجغرافيا، وهذه علوم أسسها العرب المسلمون منذ بداية الفتح، فقد كانت جيوش الفتح تضم كثيرا من التابعين وهم فقهاء في الشريعة الإسلامية وعلومها، ثم تألقت علوم الطب والرياضيات ... إلخ. وفي خلال ثلاثة القرون التي حكم فيها الأمويون الأندلس كانت هي البقعة الوحيدة المضيئة في غرب أوربا، وعاشت عصرها الذهبي، وكانت المدن الأندلسية أعمر المدن في القارة الأوربية من أقصاها إلى أقصاها فكثير من الباحثين يقولون: إن سكان قرطبة- عاصمة الأمويين- كانوا يفوقون المليون مواطن، وهذا في القرن الرابع الهجري- العاشر الميلادي- لم يتأت لمدينة في العالم ولا حتى بغداد نفسها. وكانت شوارع قرطبة وغيرها من كبريات المدن الأندلسية مبلطة وتضاء بالمصابيح ليلا وترش بالمياه نهارا، وكان بها سبعون مكتبة عامة؛ لأن الولع باقتناء الكتب لم يكن وقفا على العلماء، بل كان ولعا عامّا، ويتحدث المؤرخون عن أن محلّا واحدا من محلات نسخ الكتب كان يعمل به مائة وسبعون فتاة في نسخ الكتب، وهذا شيء مذهل حقّا ويعني أن التعليم كان للجنسين، الرجال والنساء، وكانت مكتبة الخليفة الحكم المستنصر (350- 366 هـ/ 961- 976 م) تضم ستمائة ألف كتاب، وأنه قرأ

كثيرا من هذه الكتب وعلق عليها بخط يده، تتواتر المصادر في أخبارها أنه إلى قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة ومالقة وغيرها من المدن الأندلسية في عصر بني أمية كانت تتجه وفود طلاب العلم من بعض البلاد الأوربية للتزود بالعلوم، وتتجه وفود العواهل الأوربيين في طلب الأدوية أو أدوات الترف والزينة، وحتى أدوات الموسيقى والغناء. وكان الأغنياء في البلاد الأوربية المجاورة يفاخرون بما يقتنونه من المنسوجات والمصنوعات المعدنية الأندلسية التي لا يجدون مثلها في بلادهم. والحديث في ذلك الميدان يطول وسيجد القارئ تفصيلات أكثر في البحث. خامسا: كان من الضروري التنويه بالدور الخطير الذي قام به الأمويون في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية على أرض الأندلس ونقلها إلى بقية دول أوربا. فالمصادر التي أرخت للأمراء والخلفاء الأمويين الأندلسيين أجمعت على أن معظمهم كانوا واسعي الثقافة محبين للعلم والعلماء، والناس على دين ملوكهم، فلولا تشجيع الأمويين للحركة العلمية في الأندلس لما بلغت ما بلغته من ازدهار وتوهج، ومما هو جدير بالذكر أن الأمويين في الأندلس رغم انفصالهم السياسي عن الدولة العباسية في المشرق بل رغم العداء الذي استمر بينهم إلى النهاية إلا أنهم لم ينفصلوا عن المشرق حضاريّا، بل كانوا يعدون أنفسهم لمنافسة خلفاء بغداد في مجال الاحتفاء بالعلم والعلماء ولقد اجتهدوا في أن يجعلوا عاصمتهم قرطبة ندّا لبغداد في النظافة والمرافق العامة. ولقد كان الأمويون في الأندلس متابعين جيدين للحركة العلمية في المشرق بصفة عامة وفي بغداد بصفة خاصة، وكان لهم وكلاء مقيمون إقامة دائمة في المشرق للاطلاع على كل جديد وإرساله إلى قرطبة وكثير من مؤلفات المشرقيين كانت تعرف طريقها إلى قرطبة قبل أن تقرأ في بغداد نفسها، ومشهورة قصة كتاب «الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني» الذي وصل إلى الخليفة الحكم المستنصر في قرطبة ودفع فيه ألف دينار ذهبا قبل أن يطلع عليه أحد في موطنه الأصلي في بغداد. وهذا العاهل الأندلسي كان مولعا بجمع الكتب حتى من قبل أن يلي الخلافة، وتروي المصادر أنه جمع من الكتب وحده ما يضاهي ما جمعه خلفاء بني العباس مجتمعين. ولقد حذت الطبقة الأرستقراطية في قرطبة وغيرها حذو عاهلها العالم في جمع الكتب في قصورها، بل يقال: لا يكاد يخلو بيت في قرطبة من مكتبة

* بنو أمية في التاريخ:

خاصة، ومما يلفت النظر أيضا في هذا المجال أن قنوات الأمويين الثقافية لم تكن مفتوحة على الشرق الإسلامي فقط. بل فتحوا قنوات مع الدولة البيزنطية التي عرف أباطرتها ولع الأمويين بالمخطوطات اليونانية القديمة فكانت أعظم هدية يقدمها العاهل البيزنطي في القسطنطينية إلى العاهل الأموي في قرطبة هي صناديق الكتب والمخطوطات اليونانية القديمة، ومن الأمثلة على ذلك الهدية الثمينة التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي «قسطنطين السابع» إلى الخليفة الأموي «عبد الرحمن الثالث» وكان منها كتابان، أحدهما كتاب «الأدوية المفردة» ل «ديسقوريدس» وكان باللغة اليونانية، والثاني الكتاب المعروف ب «التواريخ السبعة» ل «أورسيوس» وهو باللغة اللاتينية. أظن أن هذا القدر يكفي في هذا الملخص وسيجد القارئ الكريم كثيرا من التفصيلات عن هذه الموضوعات في ثنايا البحث كاملا إن شاء الله تعالى. ولا يسعني في ختام هذا الموجز إلا أن أتقدم بجزيل الشكر وعظيم التقدير لرابطة الجامعات الإسلامية ومعهد الفتح الإسلامي في دمشق وكلية الدراسات الأندلسية بغرناطة على التكرم بدعوتي للإسهام في هذا المؤتمر الهام، والله ولي التوفيق. * بنو أمية في التاريخ: ينتسب الأمويون إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فهم أبناء عمومة بني هاشم، الجد الثاني للنبي محمد- عليه الصلاة والسلام- فهم جميعا يلتقون في عبد مناف، فهم عرب أقحاح، ومن أصرح العرب نسبا وأعلاهم شرفا في الجاهلية والإسلام. ولقد قامت الدولة الأموية على يد مؤسسها معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف عام (41 هـ/ 661 م) وهو العام الذي أطلق عليه المؤرخون عام الجماعة؛ لأنه جاء بعد ما يقرب من عقد من الزمان من الفتن والمحن والحروب الأهلية الطاحنة في الجمل وصفين، فكأن هذا الوصف جاء يحمل استبشارا بالمستقبل وتعلقت الآمال بالخليفة الجديد ليضمد جراح الأمة ويعيد لها وحدتها وانسجامها، وقد كان عند حسن الظن به، فالمؤرخون يكادون يجمعون على أن معاوية كان رجلا عظيما، سياسيّا من الطراز الأول ومن بناة الدول الكبار، يتحلى بكل الصفات اللازمة لرجل الدولة، من حسن السياسة وتأليف القلوب

والتسامح والكرم «1» ... إلخ وكانت النتيجة أنه جلس على سدة الحكم ما يقرب من عشرين عاما أشاع خلالها الأمن والاطمئنان في ربوع الدولة، وجعلها دولة قوية متماسكة يهابها الأعداء ويرجو نفعها الأصدقاء. استمرت الدولة الأموية في الحكم في الشرق إحدى وتسعين سنة هجرية (41- 132 هـ/ 661 م- 750 م) تولى الحكم خلال هذه المدة من بني أمية أربعة عشر خليفة، أولهم معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة، وآخرهم مروان بن محمد بن مروان (127- 132 هـ/ 745- 750 م) . وكان من هؤلاء الخلفاء رجال عظاماء، سهروا على رعاية شؤون الدولة ومد حدودها وحماية تلك الحدود، وكان لديهم إحساس عميق بالمسؤولية، مثل معاوية بن أبي سفيان (41- 60 هـ/ 661- 680 م) وعبد الملك بن مروان (65- 86 هـ/ 685- 705 م) والوليد بن عبد الملك (86- 96 هـ/ 705- 715 م) وسليمان ابن عبد الملك (96- 99 هـ/ 715- 718 م) وعمر بن عبد العزيز (99- 101 هـ/ 718- 720 م) وهشام بن عبد الملك (105- 125 هـ/ 724- 743 م) . وكان منهم رجال صغار- في الحقيقة لا يستحقون وصف الرجال- لأنهم لم يكونوا أكفاء لإدارة دولة اتسعت رقعتها وامتدت حدودها من الصين شرقا إلى جنوب غرب أوربا غربا، ومن آسيا الوسطى شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا، ومن هؤلاء يزيد بن عبد الملك (101- 105 هـ/ 720- 724 م) وابنه الوليد بن يزيد (125- 126 هـ/ 743- 744 م) وابنا عمه يزيد بن الوليد (126- 127 هـ/ 744- 745 م) وإبراهيم بن الوليد (127 هـ/ 745 م) فقد أسهم هؤلاء بعجزهم السياسي والإداري في سقوط الدولة إلى جانب المشكلات الكثيرة والخطيرة التي تكالبت عليها، وعلى الرغم من أن الخليفة الأموي الأخير مروان بن محمد بن مروان (127- 132 هـ/ 745- 750 م) كان رجلا يعد من الكبار إلا أنه لم يستطع أن يوقف التدهور الذي أدى بالدولة إلى السقوط؛ لأن المشكلات كانت أكبر منه، وليس هنا مجال شرح الأسباب.

_ (1) انظر ترجمة معاوية في المصادر الآتية: ابن سعد- الطبقات الكبرى طبعة دار صارت بيروت (3/ 32) ، مصعب الزبيري- نسب قريش، دار المعارف، القاهرة، (1976 م) (ص 134) ، ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق د. محمد إبراهيم البنا وآخرين، دار الشعب، القاهرة (1970 م) ، (5/ 209) .

ومع أن هذا البحث ليس معنيّا بالتأريخ للدولة الأموية الأم في المشرق، إلا أنني رأيت أنه من الضروري أن تقال كلمة عن تلك الدولة، لنتعرف على أصل الشجرة التي انبثق منها الفرع الذي شاد الدولة الأموية في الأندلس، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، ولنتعرف على الدور العظيم الذي قام به الأمويون في الشرق في الحفاظ على التراث الحضاري العالمي وصيانته، وهو التراث الذي نهلت منه الحضارة العربية الإسلامية في الشرق والغرب على السواء. عند ما أسس معاوية الدولة الأموية سنة (41 هـ/ 661 م) . واتخذ من دمشق عاصمة لها، كانت تتكون من شبه جزيرة العرب بكاملها، والعراق وكل أراضي الدولة الساسانية القديمة والشام ومصر، بل امتد نفوذها إلى تونس الحالية، وقبل نهاية القرن الهجري الأول أوصل الأمويون حدودها إلى الصين شرقا وإلى شبه جزيرة إيبيريا غربا. فقد أكملوا فتح الشمال الأفريقي كله حتى المحيط الأطلسي، ثم عبروا مضيق جبل طارق وفتحوا الأندلس- شبه جزيرة إيبيريا- بل فتحوا جزآ لا بأس به من جنوب فرنسا، ثم فتحوا آسيا الوسطى، أو ما سماه المسلمون بلاد ما وراء النهر، ثم فتحوا إقليم السند في شبه القارة الهندية، وهو فتح لا يزال بعض المؤرخين في حيرة من أمره وفي ارتباك شديد في تفسير أسبابه وسرعته. ولكن الأمر الذي يكاد يجمع عليه المؤرخون المنصفون في الشرق والغرب أن هذا الفتح لم يكن فتحا عسكريّا للسيطرة على الشعوب ونهب خيراتها وتدمير منشاتها بل كان فتحا دينيّا ولغويّا وثقافيّا، حيث بدأ الإسلام واللغة العربية ينتشران في البلاد المفتوحة بخطى حثيثة، والذي يدرس تاريخ البلاد التي فتحها المسلمون في قارات العالم القديم- آسيا وإفريقيا وأوربا- بحياد وإنصاف ونبذ للتعصب والحقد، يدرك الفرق بين ما كانت عليه تلك البلاد قبل الفتح من تخلف وما أصبحت فيه بعد الفتح من تقدم وازدهار ورقي حضاري غير مسبوق، ويدرك أن مجمل الأوضاع الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد المفتوحة قد تغيرت إلى الأحسن والأفضل وأن شعوب تلك البلاد شعرت بالأمن والاطمئنان، والكرامة الإنسانية. ولا بأس من التذكير هنا بشهادة بعض أبناء البلاد التي فتحها المسلمون في العصر الأموي لمعرفة الفرق بين ما كانت عليه وما صارت إليه تحت الحكم العربي الإسلامي.

يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي عن السند قبل أن يدخلها الإسلام «1» : «كانت هذه البقعة من الأرض وما جاورها من البلدان تعيش في عزلة عن العالم يحكمها ولاة يعتبرون أنفسهم آلهة على الأرض، والناس كانوا يكفرون بين أيديهم ويقدسونهم كتقديس العبد لربه، وكانت الأرض وخيراتها ملكا لهم، والناس عبيد عندهم يفعلون ما شاؤوا ويحكمون بما أرادوا، الرقاب تحت سيوفهم، والأعراض رهينة شهواتهم، الضعيف المكافح كان أذل من الحيوان، ولم يكن الشرف إلا بالوراثة، أما من ناحية العقيدة فلم تكن هناك ديانة واحدة، بل ديانات متفرقة، ليس فيما بينها رابط جامع، وكل ما في الأمر أنهم كانوا يعتزون بطقوس وتقاليد ورثوها من آبائهم، وتمسكوا بها جهلا وغرورا. إن دخول الإسلام بلاد السند وبلاد الهند كان فاتحة عصر جديد، عصر علم ونور، وحضارة وثقافة ... » ثم يقول: «لم يكن العرب المسلمون من طراز أولئك الغزاة، الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها، واعتبروها بقرة حلوبا، أو ناقة ركوبا، يحلبون ضرعها، ويركبون ظهرها ويجزون صوفها، ثم يتركونها هزيلة عجفاء. ولا يعتبرون أنفسهم إلا كالإسفنج يتشرب الثروة من مكان ويصبها في مكان آخر، كما كان شأن الإنجليز في الهند، وفرنسا في الجزائر والمغرب الأقصى، وإيطاليا في طرابلس وبرقة، وهولندا في أندونيسيا. بل وهب العرب البلاد التي فتحوها أفضل ما عندهم، من عقيدة ورسالة وأخلاق وسجايا، ومقدرة وكفاية، وتنظيم وإدارة، أقبلوا عليها بالعقل النابغ والشعور الرقيق، والذوق الرفيع، والقلب الولوع، واليد الحاذقة الصنّاع، فنقلوها من طور البداوة إلى طور الحضارة، ومن عهد الطفولة إلى عهد الشباب الغض؛ فأمنت بعد خوف، واستقرت بعد اضطراب، وأخذت الأرض زخرفها، وبلغت المدنية أوجها، وتحولت الصحاري الموحشة والأرض القاحلة إلى مدن زاخرة وأرض خصبة، وتحولت الغابات إلى حدائق ذات بهجة، والأشجار البرية إلى أشجار مثمرة مدنية، ونشأت علوم لا علم بها للأولين، وفنون وأساليب في الحضارة لا عهد لهم بها في الماضي، وانتشرت التجارة وازدهرت الزراعة، فكأنما ولدت هذه البلاد في العهد الإسلامي ميلادا جديدا ولبست ثوبا قشيبا..» ا. هـ. هذه شهادة واحد من أبناء الطرف الشرقي للدولة الإسلامية، وإليك شهادة

_ (1) من تقديمه لكتاب الدكتور عبد الله الطرازي- موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية لبلاد السند والبنجاب- عالم المعرفة، جدة (1403 هـ) (1/ 6، 7) .

واحد من أبناء الطرف الغربي وهو العلامة المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون الذي يوضح الفرق بين الأندلس- أسبانيا- قبل وبعد الفتح الإسلامي فيقول «1» : «كانت أسبانيا النصرانية ذات رخاء قليل وثقافة لا تلائم غير الأجلاف في زمن ملوك القوط، ولم يكد العرب يتمّون فتح أسبانيا حتى بدؤوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خراب المدن، ويقيموا أفخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الآخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين وينشؤون الجامعات، التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمنا طويلا، وأخذت حضارة العرب تنهض منذ ارتقاء عبد الرحمن الداخل- (138- 172 هـ/ 756- 788 م) - إلى العرش على الخصوص، أي منذ انفصال أسبانيا ... في سنة (138- 756 م) فغدت قرطبة بالحقيقة أرقى مدن العالم القديم مدة ثلاثة قرون ... وكانت دارا للعلوم والفنون والصناعة والتجارة، وتستطيع أن تقابلها بعواصم دول أوربة العظمى الحديثة» ا. هـ. هناك عشرات الشهادات لباحثين غربيين يعترفون بفضل العرب والإسلام وحضارته لا على أوربا وحدها، بل على العالم بأسره ويكفي أن يقرأ الإنسان كتاب جوستاف لوبون «حضارة العرب» أو كتاب آدم متز «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» ، أو كتاب توماس أرنولد «الدعوة إلى السلام» أو كتاب سيجريد هونكه «شمس العرب تسطع على الغرب» ليعرف الحقيقة الساطعة، والخلاصة أن الأمويين لم يكونوا فاتحين ورجال إدارة وسياسة بارعين فحسب، بل كانوا صناع حضارة بكل ما تعني الكلمة، كما أن عصرهم هو العصر الوحيد في التاريخ الإسلامي كله الذي كانت كلمة الدولة الإسلامية والعالم الإسلامي تؤدي معنى واحدا، أو بمعنى آخر كان العالم الإسلامي كله من حدود الصين إلى أسبانيا دولة واحدة يرأسها رجل واحد يحكمها من عاصمة واحدة- هي دمشق- جيش واحد وسياسة واحدة. وقانون واحد- مع مراعاة خصوصيات الشعوب المفتوحة مراعاة كاملة- بل على الرغم من قصر مدة حكم الدولة الأموية نسبيّا- أقل من قرن- إلا أن التسامح وحسن السياسة، والمعاملة الطيبة لأبناء الشعوب المفتوحة، وإشراكهم في حكم بلادهم ورعاية العهود والمواثيق معهم رعاية كاملة، والوفاء بها، كل ذلك

_ (1) حضارة العرب- ترجمة عادل زعيتر- نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة سنة (2000 م) ، (ص 273- 275) .

* الأمويون والحضارة الإنسانية:

أدى إلى خلق مناخ صحي وهيأ الجو لأبناء البلاد المفتوحة للإقبال على اعتناق الإسلام «1» . بل أدى إلى تناسق في السلوك الأخلاقي وفي العادات والتقاليد في جميع البلاد المفتوحة وأصبح هناك عالم إسلامي واحد. يقول الأستاذ جاك- ريسلر «2» -: «في عصر الأمويين، في القرنين السابع والثامن الميلاديين- الأول والثاني الهجريين- وعلى الرغم من تنوع الأجناس والشعوب التي تشكل الإسلام، كان المسلمون، يبينون سلفا عن خصائص متشابهة، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يفرق بين حضر وبدو، أغنياء وفقراء، كانوا يسلكون تقريبا مسلكا واحدا، ذلك أن أية عقيدة تقوم على أسس ثابتة، وتحدث ردود فعل مماثلة عند أقوام متفاوتة. وقد وضع القرآن قواعد التصرفات اليومية للناس، وخلق الجو المعنوي للحياة، حتى تغلغل شيئا فشيئا في الأفكار، فانتهى بتشكيل متناسق للعقليات والأخلاق، كما كان تأثير الدين عظيما بسبب انتشار اللغة وبسبب نتائج السياسة الخارجية المشتركة وكذلك بسبب نظام اجتماعي معمم» ا. هـ. هذا ما يمكن أن يقال بإيجار شديد عن الدولة الأموية في الشرق كتوطئة أو تمهيد لمعرفة الدور العظيم الذي قام به الفرع الأموي الذي أقام الدولة الأموية في أسبانيا- الأندلس أو شبه جزيرة إيبيريا- في النهضة الحضارية الهائلة التي قامت على تلك الأرض، ثم أفاضت على بقية دول أوربا وكانت من أهم روافد الحضارة التي قامت عليها النهضة الأوربية نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة. * الأمويون والحضارة الإنسانية: يعرف مؤرخو الحضارة العربية الإسلامية جهود العباسيين في ترجمة التراث العلمي العظيم الذي خلفه الأقدمون في كل اللغات التي كتب بها ذلك التراث، مثل اللغة الهندية والفارسية والسريانية والعبرية واليونانية واللاتينية ... إلخ يعرف مؤرخو الحضارة العربية الإسلامية ذلك الجهد العظيم للعباسيين ويشيدون به؛ لأنه إنقاذ للحضارة الإنسانية وحفظ لها من الضياع، فلولا ترجمة هذا التراث إلى اللغة العربية لضاع على الإنسانية كنز حضاري لا يعوض، واختفت علوم كثيرة مثل

_ (1) يراجع في ذلك كتاب توماس أرنولد- الدعوة إلى السلام، ترجمة د/ حسن إبراهيم حسن وآخرين، طبعة دار النهضة المصرية (1970 م) ، فهو أوفى المراجع العلمية في هذا الموضوع. (2) الحضارة العربية (ص 50) ترجمة غنيم عبدون- الدار المصرية- للتأليف والترجمة.

الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والفلك والرياضيات والفلسفة ... إلخ تقول الدكتورة سيجريد هونكه «1» : «إن ما قام به العرب لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم، وإن حضارة قد هوت وتحطمت، وكانت على وشك الفناء أمام أعين خالقيها، الذين صار لهم الآن هدف آخر يسعون إليه، ولا يمت لهذا العالم بصلة، فما بقي من هذه الحضارة يجب أن تشكر عليه البشرية اليوم العرب وحبهم للعلم» ا. هـ. ولقد أخذ العباسيون حقهم من الاعتراف والإشادة بعملهم العظيم في خدمة الحضارة الإنسانية بما ترجموا وبما ابتكر العلماء وأضافوا وبما صححوا من أخطاء السابقين ونقحوا، غير أن الأمويين لم يأخذوا حقهم في هذا المجال إلى الآن؛ لأن ما قاموا به من الحفاظ على التراث الحضاري الإنساني القديم وصيانته من الضياع لا يقل أبدا عما قام به العباسيون. لقد فتح الأمويون مناطق كثيرة في قارات العالم القديم- آسيا وإفريقيا وأوربا- وامتدت دولتهم من حدود الصين شرقا إلى شبه جزيرة أيبيريا غربا ومن آسيا الوسطى شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا- كما سبقت الإشارة- وهذه المساحة الشاسعة من الأرض كانت تحتوي على الكنوز الحضارية التي تركتها الأمم القديمة، مثل الهنود والصينيين والفرس واليونانيين والرومان والمصريين ... إلخ. فماذا صنع الأمويون بهذا التراث الحضاري العظيم خلال ما يقرب من قرن من الزمان؟ لقد حافظوا عليه وصانوه صيانة كاملة فلم تمتد إليه يد التخريب والتدمير، ولم يسجل التاريخ حادثة واحدة أقدم فيها المسلمون خلال العصر الأموي على المساس عمدا بأي أثر حضاري «2» ، رغم كثرة الحروب سواء مع غير المسلمين أو مع الثائرين عليهم من المسلمين الشيعة والخوارج والطامعين في الحكم من أمثال المختار بن أبي عبيد الثقفي وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ويزيد بن

_ (1) شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، نشر دار الجيل. بيروت، الطبعة الثامنة (1413 هـ- 1993 م) ، (ص 377) . (2) وليس صحيحا ما تدعيه الدكتورة متليدة لوبث سرانو، التي أرخت للعصر القوطي في سلسلة تاريخ أسبانيا من أن العرب دمروا كل المكتبات القوطية فاختفت المخطوطات لأن معظم من أرخوا لأسبانيا أجمعوا على أنها كانت في وضع حضاري متواضع إلى أبعد الحدود، ولم يكن هناك مكتبات يعتد بها ولم يشر أحد يوثق به إلى أن العرب عند فتحهم لأسبانيا دمروا أو أحرقوا أية مكتبات. انظر د. الطاهر أحمد مكي بحث بعنوان حضارة الإسلام في الأندلس، مجلة الهلال (عدد يونيو 1976 م) (ص 92- 99) .

المهلب بن أبي صفرة وغيرهم ... إلخ. والحروب عادة تكون مصحوبة بعمليات هدم وتدمير وإحراق وسلب ونهب، أما حروب المسلمين في العصر الأموي فقد برئت من هذا كله، وكانت حروبا نظيفة؛ لأن المسلمين قرؤوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتوجيهاته في عدم المساس بالأهداف المدنية على إطلاقها، فقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن هدم المباني العامرة وحرق الزروع والأشجار؛ لأن الإسلام جاء ليعمّر الحياة لا ليهدمها ويدمرها. ولقد كان المسلمون يعون الإشارات التي كانت تصدر من النبي صلّى الله عليه وسلم في هذا المجال ويعملون بها، فعند ما فتح النبي صلّى الله عليه وسلم خيبر، كان ضمن الغنائم بعض صحائف من التوراة وقد طلب اليهود استثناءها من الغنائم التي حصل عليها المسلمون الفاتحون وتسليمها لهم لأهميتها عندهم، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتسليمها لهم، وهذا غاية الاحترام لتراث الآخرين حتى ولو كانوا مغلوبين. ولقد كان الأمويون يعرفون قيمة العلوم القديمة- ولقد ترجمت في عهدهم بعض العلوم الطبية- كما سنشير إلى ذلك فيما بعد. ولكن وسائلهم لم تكن كافية للقيام بعملية ترجمة في كل العلوم على نطاق واسع، وسنعرف الأسباب بعد قليل، لكن الذي نؤكد عليه هنا أنهم يعرفون أن دينهم هو دين العلم والمدنية؛ لأن أول الآيات التي نزلت في القرآن الكريم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانت أمرا صريحا بالقراءة؛ قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1- 5] ، ولقد أقسم الحق تبارك وتعالى بالقلم، فقال تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ [القلم: 1] ، وأقسم بالكتاب فقال تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ [الطور: 1، 2] ؛ وهذا أعظم تكريم لوسائل العلم. أما الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على العلم، وترفع من شأنه وشأن العلماء فهي أكثر من الحصر «1» . لكل هذا حافظ الأمويون على ذلك التراث العلمي العظيم الذي كان منتشرا في دولتهم من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وبصفة خاصة في مواطن الحضارات القديمة، مثل مصر والشام وبين النهرين- العراق- وبلاد فارس ... إلخ.

_ (1) يكفي أن يطالع الإنسان في هذا ما جاء في كتب الحديث الصحيحة مثل صحيحي البخاري ومسلم في كتاب العلم.

فالعلم القديم لم ينقطع من هذه البلاد تحت الحكم الأموي، وبقي العلماء يعلمون، والتلاميذ يتعلمون تحت رعاية الخلفاء والأمراء وبفضل سخائهم معهم «1» ، وعند ما نتذكر مدنا كمدينة جندي سابور في إقليم خوزستان في بلاد فارس وكيف بقيت الحركة العلمية فيها حية، وبصفة خاصة في العلوم الطبية، وأنها أصبحت في العصر العباسي مركزا طبيّا هائلا، ولا يتسع المقام هنا لذكر سلسلة الأطباء الذين تخرجوا في هذه المدينة، وعند ما نتذكر مدينة كحران في إقليم الجزيرة في العراق والعلماء الذين برزوا فيها في عصر الترجمة في العصر العباسي في علوم الفلك والرياضيات، وعند ما نتذكر مدينة الإسكندرية «2» وعلماءها الذين كانوا من أول من قام بالترجمة في العصر الأموي لواحد من أمراء البيت الأموي نفسه، وهو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وكذلك كان الحال في بقية المدن في الشام والعراق وفارس، مثل أنطاكية والرها ونصيبين إلخ. وعند ما نعرف أن الأديرة المسيحية في مصر والشام والعراق كانت مراكز علمية وبها مكتبات لم تكن قاصرة على علوم اللاهوت باعتبار الأديرة قامت أصلا للعبادة، ولكن إلى جانب علوم اللاهوت كانت توجد في كل دير مكتبة فيها الكثير من الكتب التي تحتوي على علوم مدنية «3» . وبقيت هي الآخرى تمارس عملها في حرية كاملة دون أي تضييق. عند ما نعرف ذلك كله- وهو قليل من كثير- ندرك قيمة العمل الذي قام به الأمويون في حفظ التراث البشري وتسليمه للعباسيين الذين قاموا بترجمته إلى اللغة العربية. ولكن لا بد أن نعرف لماذا لم يقم الأمويون بعملية ترجمة على نطاق واسع؟.

_ (1) انظر ابن أبي أصيبعة- عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار الثقافة، بيروت، (1979 م) ، (2/ 3) وما بعدها، وانظر أحمد أمين- فجر الإسلام، مكتبة نهضة مصر- الطبعة الحادية عشرة (1975 م) ، (ص 165، 166) . وانظر دي لاسي أوليري- الفكر العربي ومركزه في التاريخ، ترجمة إسماعيل البيطار- نشر دار الكتب اللبناني- بيروت (1982 م) ، (ص 62) . (2) راجع عن أطباء الإسكندرية الذين استمروا في عملهم تحت الحكم الأموي وكان لهم إسهاماتهم في ترجمة الطب اليوناني إلى اللغة العربية في أواخر العصر الأموي. ابن أبي أصبيعة المصدر السابق، (2/ 3) وما بعدها. ثم راجع كتاب ابن النديم- الفهرست، طبعة دار المعرفة بيروت، الذي ألفه في نهاية القرن الرابع الهجري. وهو معجم علمي فريد وليس له مثيل في وقته في العالم كله ومنه نعرف كيف أن حركة العلم لم تنقطع، وظلت كل المدارس تؤدي دورها في ظل الخلافة الأموية. (3) ولم يحدث قط أن شكا أحد من أهل هذه الأديرة من تدخل الدولة في شؤونهم ولا في ماذا يدرسون من علوم بل كانت لهم الحرية كاملة في كل ما يعملون ويدرسون.

أولا: كان الأمويون مشغولين بالفتوحات وتثبيت أركان الدولة وتوطيد أجهزتها ومؤسساتها المدنية والسياسية والإدارية وهذا كله كان يحتاج إلى جهد كبير فكان من الحكمة أن يعطوا الأولوية لهذا العمل، وهو عمل شاق ويحتاج إلى وقت طويل. ثانيا: هذه العلوم الكثيرة التي تركها الأقدمون مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفلسفة تحتاج إلى استعداد كبير وإلى كتيبة كبيرة بل كتائب من المترجمين، وهذا لم يكن ميسرا للأمويين، لدرجة أنهم أبقوا على بعض اللغات الأجنبية مستخدمة في أهم أجهزة الدولة، وهي دواوين الخراج التي كانت تمثل وزارة الخزانة للدولة فقد بقيت اللغة الفارسية مستخدمة في ديوان الخراج في العراق وبلاد فارس وبقيت اللغة اليونانية مستخدمة في ديوان الخراج في مصر والشام وكانت تلك ضرورة تعامل معها الأمويون بذكاء وتسامح وسعة أفق ولكنهم أخذوا يستعدون ويعدّون الرجال الذين سينهضون بترجمة هذه الدواوين ونقلها إلى اللغة العربية واستغرق ذلك عشرات السنين، ولم تبدأ عملية التعريب إلا في منتصف خلافة عبد الملك بن مروان «1» نحو سنة (74 هـ- 693 م) واستغرقت نحو نصف قرن؛ لأن آخر ديوان تم تعريبه كان ديوان خراسان (129 هـ- 746 م) فإذا كان تعريب الدواوين- وهي رغم أهميتها تعد محدودة- احتاج إلى هذا الوقت الطويل، فإن تعريب العلوم وهي كثيرة ومتنوعة لا بد أنه يحتاج إلى وقت أطول، ولو بقيت الدولة الأموية وعاشت فترة أطول لبدأت عملية ترجمة العلوم ربما في وقت أبكر من الوقت الذي بدأ فيه العباسيون عملية الترجمة؛ لأن كثيرين من الذين اضطلعوا بعبء الترجمة في العصر العباسي كانوا من الذين تعلموا اللغة العربية في العصر الأموي، فكثير من الموظفين غير العرب الذين كانوا يعملون في دواوين الخراج اضطروا لتعلم اللغة العربية عند ما عربت هذه الدواوين ليستمروا في عملهم، وهذا أدى إلى ذيوع اللغة العربية وانتشارها على نطاق واسع بين أبناء البلاد المفتوحة وهذا التطور الحضاري الكبير كان في مصلحة حركة الترجمة الواسعة النطاق للعلوم النقلية والفلسفية التي شهدها العصر العباسي. خلاصة القول: أن الأمويين لم تكن تنقصهم الهمة ولا كانوا غافلين عن أهمية ترجمة تلك العلوم إلى العربية ولكن فقط كانت تنقصهم الوسائل وكانوا يحتاجون

_ (1) ابن النديم- الفهرست (ص 338، 339) .

* الأمويون والترجمة:

إلى الوقت، وحسبهم أنهم حافظوا على هذا التراث البشري محافظة تامة وفي الوقت نفسه كانت لهم محاولات أولية في الترجمة «1» . * الأمويون والترجمة: قبل أن ننوه بدور الأمويين في ترجمة العلوم غير العربية الإسلامية لا بد من التنويه بدورهم في العلوم العربية الإسلامية؛ لأن الحركة العلمية التي بدأت منذ عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم وفي مسجده وحمل لواءها بعده الصحابة والتابعون، وأخذت في الازدهار في العصر الأموي، بدأت تتبلور وتتميز كل العلوم العربية الإسلامية وتصبح لها مدارس مستقلة، فبعد أن كان الصحابي أو التابعي يجلس في المسجد- سواء المسجد الحرام بمكة المكرمة أو مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم أو مسجد الكوفة أو البصرة أو دمشق أو الفسطاط- ليعلم الناس ويتحدث في المجلس الواحد في علوم كثيرة كالتفسير والحديث والفقه واللغة العربية وآدابها ... إلخ؛ بدأت في أواخر العصر الأموي تنفصل هذه العلوم ويصبح هناك علماء للفقه وآخرون للتفسير وغيرهم للحديث ... إلخ. فمثلا اثنان من علماء أهل السنة في الفقه وهما الإمام أبو حنيفة النعمان (80- 150 هـ/ 699- 767 م) وإمام دار الهجرة مالك بن أنس (93- 179 هـ/ 711- 795 م) ولدا وتكونا علميّا وأصبحا علمين من علماء الإسلام في الفقه في العصر الأموي وقس على ذلك في بقية العلوم العربية والإسلامية. ومما يذكر للأمويين بكل التقدير- خلفائهم وأمرائهم- أنهم لم يتدخلوا في تلك الحركة العلمية ولم يسجل التاريخ أن عالما في أي علم من العلوم ضيق عليه وسجن من أجل علمه، فقد تمتع العلماء بحرية كاملة في بحوثهم وعلومهم «2» . هذا بإيجاز شديد هو دور الأمويين في الحركة العلمية العربية الإسلامية وليس هنا مقام الحديث عن ذلك تفصيلا. أما فيما يتعلق بترجمة العلوم الأجنبية، مثل الطب والفلك والكيمياء ... إلخ. فقد بدأت في أواخر العصر الأموي بداية متواضعة للأسباب التي سبق ذكرها، وأول علم اهتم به الأمويون هو علم الطب الذي لا يستغني عنه الناس في كل زمان ومكان

_ (1) انظر محمد كرد علي- الإسلام والحضارة العربية، الطبعة الثالثة، القاهرة (1968 م) ، (1/ 173) . (2) راجع أحمد أمين- فجر الإسلام، فقد أرخ للحركة العلمية في العصر الأموي.

لعلاج أبدانهم، ولقد ظهر في العصر الأموي كثير من الأطباء، وكان معظمهم نصارى، ومن أوائلهم ابن أثال، الذي كان طبيبا خاصّا للخليفة الأموي الأول، معاوية بن أبي سفيان، والذي يقول عنه ابن أبي أصيبعة «1» : «كان طبيبا متقدما، من الأطباء المتميزين في دمشق، نصراني المذهب، ولما ملك معاوية بن أبي سفيان دمشق اصطفاه لنفسه وأحسن إليه، وكان كثير الافتقاد له والاعتقاد فيه، والمحادثة معه ليلا ونهارا، وكان ابن أثال خبيرا في الأدوية المفردة والمركبة وقواها» ا. هـ. ومن الأطباء الذين اتصلوا بخلفاء بني أمية وخدموهم عبد الملك بن أبجر الكناني، وكان من الأطباء المشهورين في مدينة الإسكندرية، ولما فتحت مصر استمرت مدرسة الإسكندرية تؤدي دورها في العلوم بصفة عامة وفي الطب بصفة خاصة تحت الحكم الأموي- كما سبقت الإشارة- وقد أسلم الطبيب عبد الملك ابن أبجر على يد عمر بن عبد العزيز قبل أن يصبح خليفة فلما أفضت إليه الخلافة نقل بعض الأطباء من الإسكندرية إلى التدريس في أنطاكية وحران ومنهم عبد الملك ابن أبجر الذي أصبح طبيبه الخاص «2» . ومن الأطباء الذين برزوا في الدولة الأموية وترجموا بعض كتب الطب ماسرجويه اليهودي. يقول القفطي في اخبار الحكماء «3» : «أن ماسرجويه الطبيب البصري كان إسرائيليّا في زمن عمر بن عبد العزيز، وربما قيل في اسمه: ماسرجيس وكان عالما بالطب، وتولى لعمر بن عبد العزيز ترجمة كتاب أهرن القس في الطب «4» ، وهو كناش فاضل من أفضل الكنانيش القديمة. وقال ابن جلجل الأندلسي: ماسرجويه كان سريانيّا يهودي المذهب وهو الذي تولى في أيام مروان في الدولة المروانية تفسير كتاب (أهرن القس بن أعين) إلى العربية ووجده عمر بن عبد العزيز في خزائن الكتب فأمر بإخراجه ووضعه في مصلاه واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين لينتفع به فلما تم له ذلك في أربعين يوما أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم» ا. هـ. إذن بدأت بذور حركة الترجمة إلى اللغة العربية- وبصفة خاصة الطب- في

_ (1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء (2/ 24) . (2) عيون الأنباء في طبقات الأطباء (2/ 24) . (3) نقلا عن أحمد أمين- فجر الإسلام (ص 163) . (4) يقول ابن أبي أصيبعة عن أهرن القس صاحب الكناش: وألف كتابه بالسريانية نقله ماسرجيس إلى العربية. عيون الأنباء (2/ 12) .

* الفتح الإسلامي للأندلس:

وقت مبكر من الدولة الأموية في عهد مروان بن الحكم (64- 65 هـ/ 684- 685 م) أما أبرز رجال البيت الأموي والذي كرس حياته لترجمة العلوم الأجنبية إلى العربية فهو الأمير خالد بن يزيد بن معاوية. وهو حفيد الخليفة معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية وكان من المفروض أن يصبح هو خليفة بعد مروان بن الحكم طبقا لما اتفق عليه الأمويون في مؤتمر الجابية في نهاية سنة (64 هـ- 667 م) «1» . ولكن هذا لم يحدث وفاتت خالدا الخلافة فصرف همته للاشتغال بالعلم وبصفة خاصة ترجمة العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية وأنفق على ذلك بسخاء كبير، يقول ابن النديم «2» : «وكان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، وخطر بباله الصنعة- يقصد علم الكيمياء- فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كان ينزل مدينة مصر- يقصد الإسكندرية- وقد تفصح بالعربية وهذا كان أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة» ا. هـ. هذه البدايات المتواضعة في مجال ترجمة العلوم الطبية وغيرها لو استمرت الدولة الأموية لرأيناها تزدهر وتؤتي ثمارها اليانعة ولكن ذلك كان من نصيب العباسيين. * الفتح الإسلامي للأندلس: ليس من شأن هذا البحث أن يؤرخ للفتح الإسلامي، ولا تقصي أسبابه ودوافعه وإنما هي إشارة موجزة لمعرفة المسرح الذي مثل عليه الأمويون دورهم- إن جاز هذا التعبير- في إيصال الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس ومن ثم إلى بقية دول أوربة، والذي يطالع معظم المؤلفات التاريخية التي أرخت للفتح الإسلامي للأندلس قديما وحديثا، وسواء أكتبها عرب مسلمون أم غربيون نصارى- يجدها تكاد تجمع على أمور أساسية منها «3» :

_ (1) انظر ابن الأثير- الكامل في التاريخ، طبعة دار صادر بيروت (1385 هـ- 1965 م) ، (4/ 145) . (2) الفهرست (ص 338) . (3) انظر على سبيل المثال، أبو بكر بن القوطية- تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق إسماعيل العربي المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر (1989 م) ، رينهرت دوزي- المسلمون في الأندلس، (ج 1) ترجمة د. حسن حبشي الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة (1998 م) . وليفي بروفنسال، تاريخ أسبانيا الإسلامية من الفتح إلى سقوط الخلافة القرطبية (711- 1031 م) ، ترجمة علي عبد الرؤوف البمبي-

أولا: فساد الأحوال في مملكة القوط يكاد يكون عامّا في شتى ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكانت المنازعات والمنافسات على الحكم تكاد تمزق تلك المملكة، بل تتحدث المصادر التاريخية عن دور لبعض الشخصيات القوطية المؤثرة في تسهيل عملية الفتح للمسلمين وبصفة خاصة الأمير يوليان- أمير سبتة- ورئيس أساقفة إشبيلية، بل تتحدث المصادر عن انضمام أولاد الملك المخلوع) Witiza الذي تسميه المصادر العربية غيطشة) إلى طارق بن زياد أثناء المعركة الرئيسية مع روذريق Rodrigo في وادي شذونة، وكان انضمامهم ذلك من أسباب سرعة الفتح وسهولته. يقول أبو بكر بن القوطية «1» : «فلما دخل طارق بن زياد الأندلس أيام الوليد ابن عبد الملك كتب روذريق Rodrigo إلى أولاد الملك غيطشة Witiza وقد ترعرعوا وركبوا الخيل يدعوهم إلى مناصرته وأن تكون أيديهم واحدة على عدوهم، فحشدوا الثغر وقدموا فنزلوا شقندة، ولم يطمئنوا إلى روذريق بدخول قرطبة فخرج إليهم ثم نهض للقاء طارق فلما تقاتلت الفئتان أجمع المند- ابن غيطشة- وأخوه على الغدر بروذريق، وأوصلوا في ليلتهم تلك إلى طارق يعلمونه أن روذريق إنما كان كلبا من كلاب أبيهم وأتباعه. ويسألونه الأمان على أن يخرجوا إليه في الصباح وأن يمضي لهم ضياع أبيهم بالأندلس، وكانت ثلاثة آلاف ضيعة، سميت بعد ذلك صفايا الملوك. فلما أصبحوا تحاشوا بمن معهم إلى طارق فكان ذلك سبب الفتح» ا. هـ. ويتحدث ابن القرطبة عن وصول أولاد الملك غيطشة إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك في دمشق حيث أنفذ لهم الوعد الذي كان قد أعطاهم إياه طارق بن زياد. وهذا يدل على حجم المنازعات والأحقاد التي كانت بين الطبقة القوطية الحاكمة في الأندلس. والتي كانت بدون شك من أسباب سهولة وسرعة الفتح الإسلامي لتلك البلاد.

_ وعلي إبراهيم المنوفي والسيد عبد الظاهر عبد الله- طبع الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة (2000 م) ، د. عبد الرحمن علي الحجي- التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة (92- 897 هـ/ 711- 1492 م) دار الاعتصام، (القاهرة 1403 هـ/ 1983 م) ، ومحمد عبد الله عنان- دولة الإسلام في الأندلس (ج 1) نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة (2001 م) . (1) تاريخ افتتاح الأندلس (ص 19، 20) .

ثانيا: الأمر الثاني الذي يكاد يجمع عليه مؤرخو الفتح الإسلامي للأندلس وهو ذو علاقة بالأمر الأول، سرعة الفتح وسهولته، فبينما أخذ فتح شمال إفريقيا نحو سبعين عاما من العرب لم يستغرق فتح الأندلس بكاملها تقريبا سوى ثلاث سنوات (92- 95 هـ/ 711- 714 م) وهذه عجيبة من عجائب التاريخ، ولم ينافس الأندلس في سرعة وسهولة فتحها سوى الفتح الإسلامي لمصر، فقد استغرق هو أيضا نحو ثلاث سنوات (18- 21 هـ/ 639- 642 م) والسبب في ذلك تشابه الظروف في كل من مصر والأندلس؛ فكما كانت الأندلس تعاني من مفاسد ومظالم الحكم القوطي، كذلك كانت مصر تعاني من مفاسد ومظالم الحكم البيزنطي؛ الأمر الذي سهل مهمة المسلمين في فتح مصر. ثالثا: الأمر الثالث الذي يكاد يجمع عليه مؤرخو الفتح الإسلامي للأندلس أن الفاتحين كانوا رحماء مع أهل الأندلس وعاملوهم بكل احترام وتسامح، وطبقوا معهم نفس السياسة التي اتبعوها مع كل البلاد التي فتحوها، فقد تركوا لهم أموالهم وكنائسهم وقوانينهم، وحق المقاضاة إلى قضاة منهم، ولم يفرضوا سوى جزية ضئيلة فرضي بذلك سكان أسبانيا طائعين وخضعوا للعرب دون مقاومة، ولم يبق على العرب إلا أن يقاتلوا الطبقة الأرستقراطية المالكة للأرضين «1» . ولا بأس أن نؤكد هذا بما ذكره السيرتوماس أرنولد حيث يقول «2» : «وإن سياسة التسامح الديني الذي سارت عليه الحكومة الإسلامية نحو رعاياها المسيحيين في أسبانيا، وحرية الاختلاط بين المتدينين قد أدت إلى شيء من التجانس والتماثل بين الجماعتين وقد كثر التصاهر بينهم، حتى أن أيذيدور الباجي قد دوّن مسألة زواج عبد العزيز بن موسى بن نصير من أرملة روذريق Rodrigo دون أن يذكر كلمة واحدة يستنكر فيها هذا الفعل، هذا إلى أن كثيرين من المسيحيين قد تسموا بأسماء عربية، وقلدوا جيرانهم المسلمين في إقامة بعض النظم الدينية، فاختتن كثير منهم، وساروا وفق المسلمين في أمور الطعام والشراب، وأن إطلاق لفظ مستعربين على الأسبان المسيحيين الذين عاشوا في ظل العرب ليدل دلالة ظاهرة على مدى الميول والاتجاهات التي كانت تعمل بنشاط وهمة في هذا السبيل، فسرعان ما أخذت دراسة اللغة العربية تحل محل اللاتينية في جميع أرجاء البلاد» ا. هـ.

_ (1) جوستاف لوبون- حضارة العرب (ص 266، 267) . (2) الدعوة إلى الإسلام (ص 159، 160) .

ويقول في موضع آخر «1» : «أما عن حمل الناس على الدخول في الإسلام أو اضطهادهم بأية وسيلة من وسائل الاضطهاد في الأيام الأولى التي أعقبت الفتح العربي، فإننا لا نسمع عن ذلك شيئا. وفي الحق أن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون نحو الديانة المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد» ا. هـ. قد يظن البعض أن في الحديث عن التسامح الذي سارت عليه الحكومة الأموية في الأندلس نحو رعاياها المسيحيين في أسبانيا نوعا من المبالغة وقد يستشهد ببعض الحوادث التي استخدمت فيها الحكومة الأموية القسوة، الأمر الذي ينقض حديث التسامح، ونحن في الحقيقة لا ندعي أن التسامح كقاعدة عامة لم تخترق أو لم تحدث تجاوزات. بل نعترف بحدوث تجاوزات كثيرة سجلها المؤرخون المسلمون قبل غيرهم سواء مع النصارى أو مع المسلمين، ولكنها تبقى تجاوزات محدودة ويبقى التسامح هو السياسة العامة المتبعة في الأوقات العادية. فعلى سبيل المثال: عند ما حدث الهيج أو التمرد أو الثورة في الربض أيام الحكم الأول (180- 206 هـ/ 796- 822 م) وهي حادثة مشهورة في التاريخ الأندلسي؛ عندئذ قضى عليها الحكم بقسوة شديدة وطرد آلافا من الناس من مساكنهم، فعبروا مضيق جبل طارق ومنهم من سكن مدينة فاس في المغرب الأقصى ومنهم عدد كبير- قيل خمسة عشر ألفا- ذهبوا إلى الإسكندرية ثم تركوها أو طردوا منها بالأحرى فذهبوا إلى جزيرة كريت وأقاموا لهم دويلة هناك سنة (212 هـ 827 م) استمرت ما يقرب من قرن من الزمان ولقد أعفى الحكم المؤرخين من الدفاع عن تصرفه هذا؛ لأنه هو اعتذر عنه واعتبره ذنبا كبيرا ارتكبه ضد مواطنيه، وظل يستغفر الله منه طوال حياته «2» . الحادثة الثانية: وهي أيضا من أشهر الحوادث في التاريخ الأندلسي؛ قصة النصارى الانتحاريين، وهم مجموعة من المتعصبين الذين أخذوا- لأسباب غير مفهومة- يسبون ويشتمون النبي محمدا صلّى الله عليه وسلم علنا وأمام المساجد وفي أوقات الصلوات، وهو عمل استفزازي لم يحتمله المسلمون وقد حكم على بعضهم

_ (1) المرجع السابق (ص 157) . (2) انظر د. عبد الرحمن الحجى- التاريخ الأندلسي، مرجع سابق (ص 242) .

بالإعدام مما جعل الأستاذ لين بول يطلق عليهم- المنتحرين- والعجيب أن هذه الحركة بدأت في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط (206- 238 هـ/ 822- 853 م) وهو ليس من الأمراء القساة بل كان يتحلى بالتسامح وحب العلم والثقافة. على كل حال هذه الحركة أدانها النصارى أنفسهم في حينها «1» . وكذلك أدانها النصارى المعاصرون ولقد علق الأستاذ أميلو جارثيا جومث في مقدمته لكتاب الأستاذ ليفي بروفنسال بقوله «2» : «وتتلخص أحداث تلك الأزمة في الحكم- خلال الفترة من (236- 245 هـ/ 850- 859 م) بمدينة قرطبة- على أربعين مستعربا بالإعدام؛ عقابا لهم على سبّ رسول الإسلام علانية. ألهذا يمكن الحديث عن الاضطهاد؟ كلّا ألف كلّا؛ لأن الدولة الإسلامية- وخاصة أثناء حكم الأمويين- كانت- على خلاف ما يعتقد غير العارفين- في منتهى التسامح مع المسيحيين واليهود، ولقد دان المستعربون للفاتحين نتيجة لهذا التعايش الإيجابي، وهذا ما أثار حفيظة المشتغلين منهم بالسياسة، فعلاوة على إبراز الوثائق التاريخية الكثيرة التي خلفها المستعربون لهذا التسامح- يعترف (سان ألوخيو) نفسه بأنه لا يشعر بين المسلمين بالدونية أو بالمضايقة، كما يشير آخر وهو (خوان دي جورز) إلى أن المسيحي يمارس شعائره بحرية تامة.. فلم يكن المسيحيون يرتدون ملابس خاصة ولا يحملون شارة معينة تميزهم، وكانوا في كثير من الأحيان يرتقون إلى أعلى المناصب المدنية والعسكرية، وكان القساوسة يغشون الأماكن العامة بزيهم التقليدي، كما كان من الممكن في بعض الأحيان تشييد كنائس جديدة» . واعتمادا على ما سبق ذكره نقول: إنه لو وجدت حينذاك محاولة سلمية (الدعوة إلى الإسلام) تهدف إلى تالف النسيج الاجتماعي فليس من حقنا أن ندينها؛ لأن لكل تسامح حدوده ومن غير المعقول أن نطلب من المسلمين التساهل إلى الحد الذي يغضون فيه الطرف عن إهانة وسب الميسحيين لرسولهم علانية، في نفس الوقت الذي لا يسمح فيه لأحد بالتعريض بالعقيدة المسيحية ا. هـ.

_ (1) المرجع السابق (ص 243) وانظر كذلك ليفي بروفنسال. الحضارة العربية في أسبانيا ترجمة د. الطاهر أحمد مكي، طبع دار المعارف، القاهرة، (1994 م) ، (ص 100) . (2) تاريخ أسبانيا الإسلامية (ص 15) وانظر في المسألة نفسها: ليفي بروفنسال- الحضارة العربية في أسبانيا (ص 100) .

* الدولة الأموية في الأندلس:

* الدولة الأموية في الأندلس: ظلت الأندلس منذ فتحها المسلمون (92- 95 هـ/ 711- 714 م) ولاية أموية تتبع الدولة الأموية الكبرى في دمشق، ويحكمها وال كان يعينه في البداية والي القيروان، وقد تم تعيين ثلاثة ولاة بهذة الطريقة، وهم عبد العزيز بن موسى بن نصير، وأيوب بن حبيب اللخمي، والحر بن عبد الرحمن الثقفي «1» . ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة (99- 101 هـ/ 718- 720) رأى أن الأوضاع في الأندلس تقضي بأن تكون ولاية مستقلة عن ولاية شمال إفريقيا، فعيّن لها هو واليا من قبله مشهورا بالصلاح والتقوى وهو السمح بن مالك الخولاني. ولكن بعد وفاة عمر بن عبد العزيز عادت الأندلس مرة أخرى لتصبح جزآ من ولاية شمال إفريقيا ويكون تعيين ولاتها من اختصاص أمير القيروان. واستمر ذلك الوضع إلى أن حدثت هزيمة المسلمين في موقعة بلاط الشهداء، أو تور بواتيه- كما يسميها الأوربيون- سنة (114 هـ/ 732 م) «2» . فبدأت الأمور تضطّرب، وكثرت الفتن في الأندلس، وانشغلت الدولة الأموية بأمور المشرق وأحداثه الخطيرة انشغالا كاملا. عندئذ خشي زعماء القبائل والجماعات في الأندلس من انفلات الأوضاع واضطراب الأمن فولوا عليهم- بمبادرة منهم- يوسف بن عبد الرحمن الفهري «3» ، دون تدخل من الدولة الأموية. والحق أن الذي يتأمل الأوضاع في المشرق عند تولية يوسف بن عبد الرحمن الفهري على الأندلس سنة (129 هـ/ 747 م) لا يستغرب أبدا غياب الدولة الأموية عن قرار خطير كهذا؛ لأن ذلك العام يعد من أهم الأعوام وأكثرها حسما في تاريخ الدولة الأموية ففيه تفجرت الثورة العباسية المسلحة من خراسان بقيادة أبي مسلم الخراساني «4» ، واكتسحت في طريقها كل الجيوش الأموية التي تصدت لها ولم تتوقف إلا بعد أن أزالت الدولة الأموية العتيدة من الوجود، وذلك بمقتل مروان ابن محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية في المشرق في قرية بوصير جنوب الجيزة في

_ (1) راجع ابن الأثير- الكامل (5/ 22) وما بعدها. (2) راجع محمد عبد الله عنان- دولة الإسلام في الأندلس (1/ 92) وما بعدها. (3) راجع ابن الأثير- الكامل، المصدر السابق (5/ 375) . (4) المصدر السابق (5/ 356) وما بعدها.

مصر نهاية سنة (132 هـ/ 750 م) «1» . إزاء هذا الانهيار والاختفاء المفاجئ للدولة الأموية كان من الطبيعي أن يستمر يوسف بن عبد الرحمن الفهري في حكم الأندلس، وقد حكمها نحو عشر سنين (129- 138 هـ/ 747- 757 م) . واستطاع أن يحقق قدرا لا بأس به من الاستقرار للأندلس، وظن أن الأيام قد صفت له، وأنه أصبح الحاكم المطلق لها، ولم يكن يدري- بل لعل أحدا في العالم غيره لم يكن يدري- أن القدر كان يدبر للأندلس مصيرا آخر تحت قيادة أخرى. ذلك أن أحد أبناء البيت الأموي المنهار قد استطاع الإفلات بأعجوبة من سيوف العباسيين، وأن يعبر نهر الفرات سباحة ويخرج منه عريانا وهو في التاسعة عشرة من عمره، ثم أخذ يتنقل من بلد إلى آخر- مارّا بالشام ومصر وشمال إفريقيا- حتى وصل إلى أخواله من قبيلة نفزة البربرية وهي بالمصادفة القبيلة التي ينتمي إليها القائد البطل والفاتح العظيم- طارق بن زياد- ومن مكانه في العدوة المغربية أخذ يراقب الموقف في الأندلس مراقبة دقيقة، ولما تهيأت له الظروف عبر مضيق جبل طارق في شهر (ربيع الأول سنة 138 هـ/ مايو سنة 756 م) «2» وصل البطل الجديد إلى الأندلس متوجا رحلة من أعجب وأغرب رحلات المغامرة في التاريخ، لا لينجو من القتل فحسب- وربما كان هذا أمله الوحيد في البداية- ولكن ليقيم ملكا ويؤسس دولة وينشئ حضارة زاهرة وعامرة وناضرة على أرض الأندلس. ذلكم البطل هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الذي استطاع بمقدرة سياسية فذة وعبقرية عسكرية وموهبة إدارية عالية أن يستخلص الأندلس من أميرها وحاكمها المطلق يوسف بن عبد الرحمن الفهري، بعد سلسلة من الحروب، كان النصر حليفه في نهايتها، وأن يؤسس على ذلك الركن القصي من العالم الإسلامي- آنذاك- دولة قوية فتية، حكمها هو وأولاده وأحفادهم نحوا من ثلاثة قرون (138- 422 هـ/ 756- 1031 م) كانت الأندلس خلالها من أعظم وأغنى وأقوى دول العالم «3» .

_ (1) المصدر السابق (5/ 424) . (2) راجع المصدر السابق (5/ 489) وما بعدها، ومحمد عبد الله عنان- دولة الإسلام في الأندلس (1/ 147) وما بعدها. (3) راجع رينهرت دوزي، المسلمون في الأندلس (5/ 56، 57) .

ولقد حاولت الدولة العباسية انتزاع الأندلس من عبد الرحمن الداخل- وهذا أحد ألقابه- ولكنها فشلت «1» . مما جعل خصمه الخطير أبا جعفر المنصور يلقبه بصقر قريش ويثني عليه، والفضل ما شهدت به الأعداء. فقد جاء في الأخبار أن أبا جعفر المنصور قال لجلسائه يوما: «أخبروني، من صقر قريش؟ قالوا: أمير المؤمنين- يقصدونه هو- الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء، فقال: ما صنعتم شيئا، قالوا: فمعاوية؟ قال: ولا هذا، قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال: ولا هذا، قالوا: فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميّا مفردا. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، ودوّن الدواوين، وأقام ملكا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته، إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه، وعبد الملك بن مروان ببيعة تقدم له عقدها، وأمير المؤمنين- يقصد نفسه- بطلب عشيرته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه» «2» . وقد حظيت الدولة الأموية في الأندلس بعدد لا بأس به من الأمراء الأقوياء الذين وطدوا أركانها، وطوروا أجهزتها، وواجهوا بشجاعة وجرأة كبيرة الفتن والاضطرابات والثورات الداخلية، وهي كثيرة وأثار بعضها ضدهم بعض أبناء البيت الأموي أنفسهم، كما ردّوا كيد أعدائها الخارجيين، فالأمراء الأربعة الأول وهم عبد الرحمن الداخل (138- 172 هـ/ 756- 788 م) وابنه هشام (172- 180 هـ/ 788- 797 م) وحفيده الحكم بن هشام (180- 206 هـ/ 797- 822 م) وابنه عبد الرحمن بن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) الذين حكموا قرنا كاملا من الزمان، كانوا رجال دولة أكفاء، بلغت الدولة في عهودهم مبلغا عظيما من القوة والازدهار، وحققت لنفسها هيبة في غرب أوربا في عيون أعدائها، وأضحى بلاط قرطبة يضاهي بلاط بغداد في القوة والأبهة والفخامة والهيبة والنفوذ «3» .

_ (1) راجع ابن الأثير- الكامل (5/ 575) . (2) راجع ابن عبد ربه- العقد الفريد، مكتبة النهضة المصرية- القاهرة (1962 م) ، (4/ 388) . (3) راجع محمد عبد الله عنان- دولة الإسلام في الأندلس، مرجع سابق (2/ 682) .

وفي عهود الأمراء الثلاثة التالين لهؤلاء وهم: محمد بن عبد الرحمن وولداه المنذر وعبد الله والذين حكموا لمدة اثنين وستين عاما (238- 300 هـ/ 852- 912 م) تعرضت الدولة خلالها للفتن والاضطرابات والثورات، وبات مصيرها مهددا، وضعفت سلطة الحكومة بقرطبة ضعفا شديدا، وكثر الطامعون والثائرون واستطاع بعضهم أن يحقق أطماعه وأن يقيموا لأنفسهم دولا مستقلة ومن هؤلاء: بنو قسي أو بنو موسى الذين استقلوا بمنطقة الثغر الأعلى- سرقسطة- وبنو مروان الذين استقلوا بمنطقة بطليوس في الغرب وبنو حفصون وزعيمهم عمر بن حفصون الذين استطاعوا الاستقلال بمنقطة شاسعة في الجنوب من قاعدتهم في ببشنز، وقد استمرت ثورتهم ضد الدولة نحو نصف قرن. وبنو ذي النون الذين استقلوا بطليطلة. وبنو حجاج بأشبيلية. وهكذا تمزقت الدولة التي شادها عبد الرحمن الداخل بكفاءته وجده واجتهاده، وعاشت الأندلس ما يقرب من ثلثي قرن في محن وخطوب، ولقد أطلق بعض المؤرخين على هذه الفترة عصر ملوك الطوائف الأول «1» . لكن الله تعالى تدارك هذه الدولة في شخص عبد الرحمن الناصر (300- 350 هـ/ 912- 961 م) الذي استطاع أن ينتشلها من وهدتها، وأن يقضي على كل المناوئين في الداخل والخارج وأن يعيد لها وحدتها وقوتها وهيبتها، وواصل ابنه الحكم المستنصر (350- 366 هـ/ 961- 976 م) سياسته، وبعد الحكم بدأ عهد العامريين (366- 399 هـ/ 976- 1009 م) فوصلوا بالدولة إلى أقصى قوتها العسكرية، وباختفائهم بعد مقتل عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر سنة (399 هـ/ 1009 م) عمت الفوضى والاضطرابات من جديد، وللأسف لم تجد الدولة هذه المرة رجلا في قوة شكيمة عبد الرحمن الناصر ومضاء عزيمته، فهوت إلى الحضيض، ثم لفظت أنفاسها الأخيرة سنة (422 هـ/ 1031 م) . والله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء. وقد مرت الدولة الأموية خلال حكمها للأندلس بمرحلتين متميزتين: مرحلة الإمارة، منذ تأسيسها على يد عبد الرحمن الداخل سنة (138 هـ/ 756 م) وقد استمرت هذه المرحلة إلى سنة (316 هـ/ 929 م) لتبدأ المرحلة الثانية بإعلان

_ (1) راجع د. أحمد مختار العبادي- في تاريخ المغرب والأندلس، طبع مؤسسة الثقافة الجامعية الإسكندرية، (ص 167) .

عبد الرحمن الناصر نفسه خليفة صار يدعى بأمير المؤمنين. في المرحلة الأولى كان الحكام من بني أمية يلقبون بالأمراء، وأحيانا كانوا يطلقون عليهم لقب أولاد الخلائف، وكانوا هم راضين بهذا الوضع تاركين لقب الخلافة وإمرة المؤمنين لبني العباس في بغداد، على الرغم من أن دولتهم في عصر الإمارة قد بلغت من القوة والثراء والحضارة مبلغا عظيما، وكان بلاطهم في عاصمتهم قرطبة لا يقل بهاء ورواء عن بلاط بغداد. ولكن منذ مطلع القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، رأى عبد الرحمن الثالث أن الأوضاع السياسية في العالم الإسلامي قد طرأ عليها تطور جديد وخطير في الوقت نفسه، فبعد أن كان في العالم الإسلامي خلافة واحدة هي الخلافة العباسية، ينظر إليها جميع المسلمين نظرة التقدير والاحترام، حتى الدويلات التي استقلت عنها في المشرق والمغرب كانت تعترف لها بالسيادة الاسمية وتخطب على منابرها باسم خلفائها. وفجأة ظهرت خلافة أخرى في شمال إفريقيا، هي الخلافة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية سنة (296 هـ/ 909 م) في مواجهة الدولة الأموية في الأندلس عندئذ أقدم عبد الرحمن الثالث على ذلك القرار الخطير، فحول الإمارة إلى خلافة، وأعلن نفسه خليفة وتلقب بأمير المؤمنين منذ نهاية سنة (316 هـ/ 929 م) . وفي عهده وعهد ابنه وخليفته الحكم المستنصر بلغت الدولة الأموية في الأندلس ذروة قوتها وعظمتها وحضارتها وهيبتها ونفوذها السياسي والأدبي. وبوفاة الحكم المستنصر سنة (366 هـ/ 976 م) يمكن القول: إن الدولة الأموية قد انتهت فعلا في الأندلس؛ لأن ابن الحكم المستنصر هشام المؤيد الذي آلت إليه خلافة أبيه كان طفلا- فاستبد بالأمر المنصور بن أبي عامر، وأصبح الحاكم المطلق هو وأولاده من بعده لمدة ثلث قرن، وقد أطلق المؤرخون على الأندلس في تلك الفترة وصف الدولة العامرية نسبة إليهم «1» . وبعد مصرع عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر- الملقب بشنجول سنة (399 هـ/ 1009 م) استطاع أحد أبناء البيت الأموي وهو محمد بن هشام أن يعتلي سدة الخلافة ولقب نفسه- أو لقبه الناس- بالمهدي، منتزعا حق الخليفة الشرعي هشام المؤيد بن الحكم المستنصر، وقد أمل الناس أن يكون في ذلك إقالة للخلافة من عثراتها، لكن الواقع أثبت أن

_ (1) راجع محمد عبد الله عنان- دولة الإسلام في الأندلس، مرجع سابق (2/ 683) .

* مجمل الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في الأندلس الأموية:

تلك المحاولة كانت بداية لمأساة دامية ومروعة استمرت ما يقرب من ربع قرن من الزمان، اضطربت فيها الأندلس بالفتن، وغدت السلطة الفعلية بأيدي الفتيان العامريين والبربر وغيرهم، وانتحل لقب الخلافة أكثر من طامع، ومن سخريات الأيام أن قامت في الأندلس- التي كانت في بداية عصر الولاة جزآ من ولاية شمال إفريقيا- في وقت واحد خلافة في قرطبة وأخرى في مالقة وثالثة في إشبيلية، وانتهى الأمر إلى زوال خلافة قرطبة العتيدة، وإلى تمزق الأندلس كلها إلى ولايات صغيرة وعديدة مستقلة يحكم كلّا منها زعيم أو أمير، وبدأ ما يسمى في التاريخ الأندلسي عصر ملوك الطوائف، الذين قال فيهم ابن رشيق القيرواني: مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء معتضد بها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد * مجمل الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في الأندلس الأموية: في الصفحات التالية موجز لمجمل الأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية للأندلس في العصر الأموي «1» لنعرف إلى أي مدى استطاع الأمويون أن يحققوا لدولتهم الاستقرار والازدهار في شتى الميادين، وأن يهيؤوها للقيام بالدور الحضاري العظيم الذي قيامت به في عالم العصور الوسطى. قامت حكومة عبد الرحمن الداخل من البداية على غرار حكومة أسلافه في دمشق، حيث كان هو الرئيس الأعلى للدولة، يحكم من خلال مجلس استشاري ضم إليه خيرة الرجال المخلصين له ولدولتهم، لكن بمرور الزمن بدأت حكومة قرطبة- التي اتخذها عبد الرحمن عاصمة- تتميز عن حكومة المشرق في نظامها السياسي والإداري من ناحية الأسلوب والوظائف السياسية والإدارية، فعلى سبيل المثال كان لدى الأمويين في المشرق وظيفة الحاجب، ولم يكن دوره يتعدى تنظيم دخول الناس على الخليفة أو الأمير، حسب أهميتهم، فهو بمثابة السكرتير الخاص للخليفة، أما في الأندلس فكانت وظيفة الحاجب منذ إنشائها ذات أهمية كبيرة،

_ (1) مراجعنا الأساسية في هذا الموجز، الجزء الأول من المقري، نفح الطيب، طبع المطبعة الأزهرية بالقاهرة (1302 هـ) ، والضبي، بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، طبع دار الكاتب العربي سنة (1970 م) ، وأبي بكر بن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، والخشني، قضاة قرطبة، طبع الدار المصرية للتأليف والترجمة القاهرة (1966 م) ، ودوزي، المسلمون في الأندلس، وليفي بروفنسال، تاريخ أسبانيا الإسلامية من الفتح إلى سقوط الخلافة القرطبية، ومحمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ود. عبد الرحمن علي الحجي، التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة.

وأصبح الحاجب هو الرجل الثاني في الدولة بعد الأمير أو الخليفة، فهو بمثابة رئيس الوزراء. ولأهمية المنصب فقد كان الأمويون يختارون له أبناء البيوتات من ذوي الشرف، وظهرت أسماء كثيرة تنتمي إلى أسر مثل أسرة شهيرة بني مغيث وبني أبي عبدة وبني شهيد والمصحفي ... إلخ. والوزارة أيضا اختلف مضمونها ومؤداها عن سميتها في المشرق، حيث لم يكن سوى وزير واحد، يتلقى أوامره من الخليفة وينفذها، إذا كانت شخصية الخليفة قوية وكان يسمى وزير تنفيذ، وإذا كانت شخصية خليفة ضعيفة كان الوزير يستبد بمعظم الأمور، فهو الذي ينفذ وعندئذ كان يسمى وزير تفويض «1» . أما في الأندلس فقد تعددت الوزارات- وكانت تسمى خطط- وأصبح لكل ناحية من نواحي الإدارة العامة وزير مختص، مثل وزارة المالية والترسيل والمظالم والثغور «2» ... إلخ. ولقد اهتم الأمويون اهتماما كبيرا بالقضاء، وكانوا يختارون له- بعد مشاورة كبار العلماء والوزراء- أصلح الناس من المشهورين بالنزاهة وتحري العدل، وكان القضاء مستقلّا ولم يكن القضاة يسمحون لأحد من الأمراء أو الخلفاء أن يتدخل في عملهم، وكانوا يحكمون طبقا لمبادئ الحق والعدل كما تقضي بذلك الشريعة الإسلامية حتى لو كان ذلك ضد رغبة صاحب السلطان، بل كان القضاة أحيانا يتعرضون بالنقد اللاذع للخلفاء في بعض التصرفات التي لا يرضون عنها، مع أنها كانت تخرج عن دائرة عملهم، كما حدث من القاضي منذر بن سعيد البلوطي، فقد انتقد الخليفة عبد الرحمن الناصر علنا في خطبة الجمعة- والخليفة يسمع- على إسرافه في النفقات التي أنفقها في بناء مدينة الزهراء بالقرب من العاصمة قرطبة، ومع أن الخليفة الناصر- وهو من هو- قد غضب غضبا شديدا من القاضي إلا إنه لم يتخذ ضده أي إجراء عقابي، وكل ما فعله أنه امتنع عن أن يصلي خلفه. وقبل ذلك وفي بداية الدولة قضى القاضي عبد الرحمن بن طريف اليحصبي ضد رغبة وإرادة عبد الرحمن الداخل في قضية كانت موضع اهتمام الأمير، ومع ذلك

_ (1) الماوردي- الأحكام السلطانية، طبع الحلبي الطبعة الثالثة، القاهرة (1393 هـ- 1973 م) ، (ص 24، 25) . (2) راجع مقدمة ابن خالدون، تحقيق علي عبد الواحد وافي دار نهضة مصر للطباعة والنشر القاهرة، الطبعة الثالثة، (2/ 670) .

قضى القاضي طبقا للحق والعدل لا طبقا لرغبة الأمير، ولم يتعرض لأي أذى «1» . ولقد اختلف القضاء الأندلسي في تنظيمه عن القضاء في المشرق الإسلامي، ففي الشرق استحدث العباسيون في عهد هارون الرشيد (170- 193 هـ/ 786- 808 م) منصب قاضي القضاة، الذي أصبح له حق اختيار قضاة الولايات والإشراف عليهم. أما الأندلس فلم تعرف هذا المنصب بهذا المعنى، وإنما عرفت ما سمي بقاضي الجماعة أو قاضي الحضرة، والمقصود به قاضي العاصمة قرطبة وحدها، ولم يكن له حق تعيين القضاة في الأقاليم الآخرى أو الإشراف عليهم، وكان هؤلاء يعينهم الأمير أو الخليفة، وهم مستقلون في عملهم تماما مثل قاضي الجماعة، ومن الخطط التي اهتم بها الأمويون خطة الحسبة لمراقبة الأسواق والمرافق العامة، كما اهتموا بالشرطة لضبط الأمن في بلد متعدد الأعراق والأهواء. ولقد استحدث الأمويون خطة سموها خطة الشورى وكانوا يسندونها إلى كبار العلماء من ذوي الشرف والهيبة «2» . وهكذا أصبح للنظام السياسي والإدارة في الأندلس طابع مميز، في الوقت الذي لم يتوقف فيه عن التأثر بما يحدث في المشرق، فقد أدخل الأمير عبد الرحمن الأوسط (206- 238 هـ/ 822- 852 م) كثيرا من نظم العباسيين وطقوسهم وبصفة خاصة في قصر الحكم «3» وأبهة البلاط. وباختصار يمكن القول: إن الأندلس في العصر الأموي قد تمتعت في أغلب الأوقات بإدارة حسنة وشرطة فعالة ونظام قضائي محكم. ويجدر بنا ونحن بصدد الحديث عن السياسة والإدارة الأموية في الأندلس أن ننوه بسياسة التسامح التي اتبعوها مع أهل الذمة من النصارى واليهود فقد كفلوا لهم الحرية الدينية والاجتماعية، وأنشؤوا منصبا خاصّا لإدارة شؤون أهل الذمة عرف صاحبه بالقومس، كما كان للنصارى المعاهدين قاض خاص، كما عين لهم مطران خاص، كان مركزه مدينة إشبيلية، وقد استمر هذا التسامح مع النصارى المعاهدين على الرغم مما كانوا يدبرونه في بعض الأحيان ضد الحكومة المسلمة من الدسائس

_ (1) انظر الخشني- قضاة قرطبة، مصدر سابق (ص 23، 24) . (2) راجع محمد عبد الله عنان- دولة الإسلام في الأندلس، مرجع سابق (2/ 685) . (3) راجع ليفي بروفنسال- الحضارة العربية في أسبانيا، (ص 61، 62) .

* الجيش:

والمؤامرات، ويعقدون من الصلات المريبة مع نصارى الشمال «1» . * الجيش: كان من الطبيعي أن يكون الجيش وتنظيمه وتسليحه أول ما يهتم به مؤسس الدولة الأموية في الأندلس؛ لمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية، وهي كثيرة، ولقد بلغ عدد الجيش في عهد عبد الرحمن الداخل أكثر من مائه ألف رجل، عدا حرسه الخاص الذي قدر بأربعين ألفا. كذلك انتبه عبد الرحمن الداخل منذ وقت مبكر لأهمية الأسطول، وكان هذا أيضا أمرا طبيعيّا من أمير يحكم بلدا تحيط به المياه من ثلاث جهات، ويحيط به الأعداء من كل جانب. ولقد بدأت أهمية الأسطول تزداد منذ ظهر الخطر النورماني على سواحل الأندلس الغربية، حيث غزوا إشبيلية في عهد عبد الرحمن الأوسط سنة (230 هـ/ 843 م) . وفتكوا بأهلها، فتصدى الأسطول الأموي لهذه الغزوات، بل أصبح للأمويين أسطولان، واحد في المحيط الأطلسي في الغرب لمواجهة الخطر النورماني، والآخر في البحر الأبيض المتوسط في الجنوب والشرق، لمواجهة أي خطر يأتي من هناك، وقد بلغ عدد سفن الأسطول، زهاء مائتي سفينة في عهد عبد الرحمن الناصر، وواصل العامريون سياسة الأمويين في الاعتناء بالجيش والأسطول. * الأوضاع الاقتصادية في الأندلس الأموية: تجمع المصادر القديمة والبحوث الحديثة على السواء على أن الأندلس شهدت ازدهارا اقتصاديّا خلال الحكم الأموي لم يسبق له مثيل في تاريخها، حيث أقبل العرب منذ البداية على الأرض وعمروها وأنتجوا منها أطيب الثمار فقد أقاموا مشاريع الري اللازمة لارتقاء الزراعة، وقد ظلت هذه المشاريع صالحة إلى ما بعد إخراج المسلمين من الأندلس بعدة قرون، حيث يقول جوستاف لوبون «2» : «ولا يوجد في أسبانيا الحاضرة- في القرن التاسع عشر الميلادي- من أعمال الري خلا ما أتمه العرب» ا. هـ.

_ (1) راجع محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس (2/ 682) ، وراجع كذلك توماس أرنولد- الدعوة إلى السلام (ص 159، 160) ، وجوستاف لوبون، حضارة العرب (ص 266، 267) . (2) حضارة العرب (ص 274) .

* ازدهار الصناعة:

فبالإضافة إلى الارتقاء بالمحاصيل التقليدية التي كانت موجودة في الأندلس قبل الفتح الإسلامي؛ مثل الحبوب كالقمح والشعير وبعض أنواع الفواكه وغابات الأخشاب إضافة إلى هذا كله أدخل العرب معهم محاصيل كثيرة لم تكن معروفة في البلاد من قبل؛ مثل القطن وقصب السكر والأرز والتفاح والبطيخ والرمان الذي جلبه الأمويون من الشام، وخاصة رمان الرصافة الذي أحضره عبد الرحمن الداخل، ويروى أن الرجل الذي أحضره كان اسمه سفر بن عبيد التلاعي، فنسب إليه فقيل الرمان السفري «1» . وبهذا التنوع في المحاصيل الزراعية أصبحت الأندلس جنة واسعة، بفضل أساليب العرب الزراعية الفنية حسب تعبير جوستاف لوبون «2» ولذلك تعد الأندلس في الأدبيات الإسلامية الفردوس المفقود. * ازدهار الصناعة: وكما ازدهرت الزراعة ازدهرت الصناعة بمختلف أنواعها؛ فظهرت صناعات النسيج الصوفية والقطنية والكتانية والحريرية وازدهرت صناعة الأسلحة، والسفن الحربية والتجارية، وصناعة السكر والورق والزجاج وحتى صناعة التماثيل والتحف المعدنية «3» . والذي أدى إلى ازدهار الصناعة بهذا الشكل كثرة المعادن في باطن الأرض الأندلسية والتي بذل الأمويون جهودا كبيرة في استخراجها، مثل الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والزئبق ... إلخ وكانت النتيجة الطبيعية لازدهار الزراعة والصناعة أن تزدهر التجارة، وأصبح للأندلس أسطول تجاري بحري كبير يجوب المدن القريبة والبعيدة حاملا المنتجات الزراعية والصناعية الأندلسية، منطلقا من موانئ إشبيلية ومالقة ودانية وبلنسية والمرية، وقد اشتهرت العديد من المدن الأندلسية بنوع أو أكثر من المنتجات الصناعية، فقد اختصت جنجله Chinchila بالأغطية، وباسه Baza وكالسينه Calsena بالسجاد، وسرقسطه zaragoza بفراء السمور، ومالقه Malga بالخزف المذهب، وطليطله Toledo بالمجوهرات المرصعة والجلود المنقوشة، وكذلك السلاح، واختصت شاطبه jativa بصناعة الورق.

_ (1) راجع د. حسين دويدار- المجتمع الأندلسي في العصر الأموي، مطبعة الحسين الإسلامية، القاهرة الطبعة الأولى (1414 هـ/ 1994 م) ، (ص 342) . (2) حضارة العرب (ص 274) . (3) راجع د. حسين دويدار- المجتمع الأندلسي في العصر الأموي، مرجع سابق (ص 352) .

* دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس:

وخلاصة القول: أن الأندلس في العصر الأموي (138- 442 هـ/ 756- 1031 م) قد اجتمع لها من أسباب القوة ما بوأها مكان الصدارة بين الدول الإسلامية، وأصبحت قرطبة مركز الجاذبية السياسية في غرب أوربا، إليها تتجه الأنظار في طلب المودة ونشدان العلاقات الدبلوماسية «1» ، إلى قرطبة جاءت وفود الدول الكبرى من أوربا، من القسطنطينية وفرنسا وألمانيا، أما نصارى شمال أسبانيا فكانوا يعتبرون عبد الرحمن الناصر (300- 350 هـ/ 912- 961 م) مرجعهم وحكمهم في خلافاتهم. وخير ما نختم به هذه السطور قول العلامة أميلوجارثيا جومث: «لقد كانت الخلافة القرطبية بناء هائلا، لم يولد صدفة؛ لأنه أتى ليتوج فترة طويلة من التشكل ومن السعي لتحقيق التوازن والتالف بين السلالات والعناصر المختلفة للمجتمع، فقد قامت على هدف وغاية سامية، وتشبعت بالتراث، وكان لها فن مميز ... وكان لديها نظم إدارية فعالة، وفي خدمتها عائلات متمرسة لعدة أجيال على السياسة، واقتصادها- حسبما نعلم- كان ينعم بالازدهار والصحة؛ والدليل على ذلك أن الحكم الثاني (350- 366 هـ/ 961- 976 م) قام قبل موته بقليل بتخفيض الأعباء الضريبية على رعاياه، لقد كانت باختصار دولة قوية متحضرة، لا منافس لها على الإطلاق في عالم الغرب» «2» ا. هـ. يروي المقري أن عبد الرحمن الناصر ترك في خزائنه عند وفاته ما يقرب من عشرين مليون دينار ذهبا «3» . إذا أخذنا في الاعتبار أن هذا الذي تركه عبد الرحمن الناصر، وهو مبلغ هائل بحساب تلك الأيام- كان فائضا بعد سلسلة المشاريع العمرانية الكثيرة التي قام بها مثل مدينة الزهراء والإنفاق العسكري والمدني الهائل- إذا أخذا ذلك في الاعتبار أدركنا درجة الثراء والرخاء الاقتصادي الذي كانت تتمتع به الأندلس في العصر الأموي، والذي انعكس بدوره على الحياة الاجتماعية. * دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس: في الصفحات السابقة قدمنا صورة موجزة للغاية عن الأمويين في التاريخ

_ (1) راجع ليفي بروفنسال- تاريخ أسبانيا الإسلامية في العصر الأموي، مرجع سابق (ص 352- 403) . (2) ليفي بروفنسال- تاريخ أسبانيا الإسلامية، مرجع سابق (ص 25) . (3) نفح الطيب (1/ 154) وما بعدها.

ودورهم في الحفاظ على التراث الحضاري العظيم الذي ورثوه عن الدول السابقة في فارس والعراق والشام ومصر ... إلخ، وبدء ترجمة بعض هذا التراث إلى العربية، ودورهم في وضع أسس العلوم العربية والإسلامية ومفردات الحضارة الآخرى، ثم أوجزنا القول في الفتح الإسلامي للأندلس وظروفه، وأعطينا صورة مجملة عن الأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والسياسية في دولة الأمويين في الأندلس. وفي الصفحات التالية نحاول إعطاء صورة مجملة أيضا- لأن المقام لا يتسع للتطويل- عن دور الأمويين- أمرائهم وخلفائهم- في نقل الحضارة العربية الإسلامية من المشرق إلى الأندلس، فهذا الدور هو أعظم وأخلد أدوارهم في التاريخ فقد ذهبوا وذهبت دولتهم، وبقيت آثارهم التاريخية والحضارية التي لا زالت ظاهرة- بعضها على الأقل الذي نجا من التخريب والتدمير الذي دفعت إليه روح التعصب المسيحي على أيدي محاكم التفتيش- وما عصفت به روح التعصب وضاع من الآثار المعمارية الخالدة في قرطبة والزهراء والزاهرة وغرناطة وإشبيلية.. إلخ «1» . حفظته بطون الكتب، فقد عكفت طائفة من المستشرقين- أسبان وفرنسيين وهولنديين وألمان وإنجليز وغيرهم- على هذا التراث ودراسته، إضافة إلى العلماء العرب مثل محمد عبد الله عنان في دراسته الموسوعية عن دولة الإسلام في الأندلس والدكتور السيد عبد العزيز سالم والدكتور أحمد مختار العبادي والدكتور عبد الرحمن الحجي والدكتور حسين مؤنس والدكتور حسين دويدار، كل أولئك وهؤلاء درسوا التراث الحضاري العربي الإسلامي في الأندلس وقدموا للفكر الإنساني خدمة جليلة، ووضحوا بالأدلة والبراهين، كم كانت الحضارة العربية الإسلامية متألقة ومتوهجة على أرض الأندلس التي كانت هي البقعة الوحيدة المضيئة في أوربا الغربية في ذلك الزمان الخالد والتي عم ضوؤها على بعض دول القاهرة الأوربية فأخرجتها من عصورها الوسطى المظلمة وفتحت أمامها أبواب النهضة، وكانت قرطبة وغيرها من مدن الأندلس مقصد من يطلب العلم في مدارسها ومعاهدها، ومن يطلب العلاج في مستشفياتها، بل من يطلب أدوات الزينة ووسائل الترفيه كالموسيقى والغناء.. إلخ «2» .

_ (1) راجع عن الآثار المعمارية والفنية في المدن الأندلسية كتاب فون شاك- الفن العربي في أسبانيا وصقلية. ترجمة الدكتور الطاهر أحمد مكي، طبع دار المعارف: القاهرة، الطبعة الثانية (1406 هـ/ 1985 م) . (2) راجع عباس العقاد- أثر العرب في الحضارة الأوروبية، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، سنة (1998 م) ، (ص 90، 91) .

تتحدث كل المصادر القديمة والمراجع الحديثة التي أرخت لحياة أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس مجمعة على أنهم كانوا في معظمهم علماء وأدباء وفقهاء وشعراء، الأهم من هذا أنهم كانوا مشجعين كبارا للعلم والعلماء «1» ، مولعين بجمع الكتب- ولعا قل أن تجد له نظيرا- في سبيل الحصول عليها، واحترامهم للعلماء أشادت به كل المصادر والمراجع. وقد سلكوا في سبيل النهوض بالأندلس والوصول بها إلى أعلى مراتب الحضارة نفس الطرق التي تسلكها الآن الدول التي تحاول اللحاق بركب الدول المتقدمة التي تملك ناصية العلم والقوة بكل ما تحمل كلمة القوة من معنى، فهذه الدول الآن- وبصفة خاصة الدول العربية- في سعيها الدؤوب نحو التقدم تسلك ثلاث طرق رئيسية: أولا: بعث أبنائها إلى الدول المتقدمة مثل أمريكا وأوربا لتحصيل العلم والعودة إلى بلادهم مزودين بكل جديد قدر استطاعتهم. ثانيا: استقدام علماء من الدول المتقدمة كأساتذة زائرين لتعليم أبنائهم في موطنهم الأصلي. ثالثا: محاولة ترجمة كل جديد في مختلف العلوم إلى اللغة العربية ليكون في متناول أيدي أبنائها، وهذه الطرق ذاتها سلكها الأمويون عند ما قامت دولتهم في الأندلس سنة (138 هـ- 756 م) . فقد كانوا على وعي كامل بكل الظروف المحيطة بدولتهم، سواء في القارة الأوربية، أو في محيط العالم الإسلامي الفسيح الأرجاء، وأدركوا أنهم بدون قوة عسكرية لا تدوم لهم دولة فالأعداء كثر ومتربصون دائما، فحاولوا- ونجحوا- في تحقيق قوة عسكرية برية وبحرية- كما سبقت الإشارة- حافظت على كيان دولتهم طالما وجد القائد التاريخي البطل الذي يستطيع استثمار تلك القوة، في الحفاظ على أمن وسلامة الدولة، وأدرك الأمويون في الوقت نفسه أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لبناء المجد بل لا بد من العلم،

_ (1) يكفي أن نشير هنا إلى أنموذج من هذه المصادر والمراجع، مثل ابن الفرضي- تاريخ علماء الأندلس، والضبي- بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس، وابن بشكوال- كتاب الصلة، وابن بسام- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، والمقري- نفح الطيب، ومن المراجع الحديثة مؤلفات العلامة رينهرت دوزي، والأستاذ ليفي بروفنسال وخوليان ريبيرا، وجوستاف لوبون، والدكتورة سيجريد هونكه، والأستاذ محمد عبد الله عنان، ود/ حسين مؤنس، ود/ عبد الرحمن علي الحجي، ود/ السيد عبد العزيز سالم، ود/ أحمد مختار العبادي.. والقائمة طويلة، ولا نريد الإكثار من الهوامش.

والعلم آنئذ كان موجودا في الشرق، أي على الأرض التي يسيطر عليها العباسيون، الأعداء الألداء للأمويين، والذين كانت علاقاتهم بهم من أسوأ العلاقات. فالأمويون في الأندلس أقاموا علاقات ودّ وحسن جوار، بل تعاون وتحالف مع كثير من أعدائهم التقليديين السابقين، والنموذج الواضح على ذلك علاقاتهم بالرستميين في المغرب الأوسط- الجزائر الحالية- فدولة الرستميين قامت على أساس المذهب الأباضي وهو أحد مذاهب الخوارج، والعداء بين الأمويين والخوارج من أبرز ظواهر التاريخ الإسلامي، بل إن الخوارج الذين أقاموا دولا في المغرب الإسلامي- الرستميون في تاهرت وبنو مدرار في سجلماسة في جنوب المغرب- جاؤوا إلى هنا فرارا من ملاحقة الأمويين لهم في المشرق. ومع ذلك وحّد العداء للعباسيين، أو قل: دفع العداء المشترك للعباسيين كلّا من الأمويين في الأندلس والرستميين في المغرب الأوسط إلى التعاون والتحالف في شتى الميادين، وقد يتسع الوقت لإعطاء لمحة عن ذلك التعاون فهو جزء مكمل لإبراز دور الأمويين في سعيهم لنقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس. لم يكن هناك سبيل إذن لإقامة أي نوع من العلاقات السياسية بين الأمويين والدولة العباسية في المشرق، التي أسقطت دولتهم وقامت ضدهم بحركة إبادة لم ينج منها إلا أفراد قلائل كان منهم عبد الرحمن الداخل مؤسس دولة الأمويين في الأندلس. العلاقات السياسية لا سبيل إليها، أما العلم وكل مفردات الحضارة العربية الإسلامية التي بدأت في التألق والازدهار في المشرق فلا بد من إحضارها كاملة غير منقوصة، فبذل الأمويون في ذلك كل جهد ممكن، وسلكوا- كما أشرنا قبل قليل- كل الطرق الممكنة، ومنها: أولا: تسهيل ارتحال أبناء الأندلس إلى المشرق لتحصيل العلوم، والرجوع إلى الأندلس لنشر ذلك العلم بين أهله، ولقد وفرت فريضة الحج فرصة نادرة للارتحال إلى المشرق لأداء تلك الفريضة في مكة المكرمة وزيارة مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وقلما جاء عالم أو طالب علم من الأندلس إلى المشرق لأداء تلك الفريضة وعاد إلى بلاده دون أن يطوف بكل أو بعض مراكز العلم في المشرق، سواء في الحجاز أو العراق أو الشام أو مصر، وحتى في شمال إفريقيا، وبصفة خاصة مدينة

القيروان التي أصبحت- منذ أسسها القائد الفاتح الكبير عقبة بن نافع (50- 55 هـ/ 670- 674 م) مركزا علميّا كبيرا «1» . هذه الرحلة التي كان يقوم بها أهل الأندلس كانت آمنة وميسرة إلى حد كبير حسب أسلوب ذلك العصر في السفر والشد والترحال؛ لأن حكام الدول الإسلامية على اختلاف سياساتهم وأوطانهم كانوا يهتمون غاية الاهتمام بتعبيد الطرق التي تربط مكة المكرمة والمدينة المنورة بأطراف العالم الإسلامي، من الأندلس غربا إلى حدود الصين شرقا ومن آسيا الوسطى شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا، بل كان الحكام المسلمون يتبارون ويتنافسون في تمهيد الطرق وتوفير الأمن والراحة للحجاج بإقامة الخانات والفنادق على كل تلك الطرق وكانوا يتقربون إلى شعوبهم بهذا العمل الذي ييسر للمسلمين الوصول إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة ومسجد رسوله- عليه الصلاة والسلام- في المدينة المنورة. ومما سهل مهمة طلاب العلم من أهل الأندلس إلى المشرق لأداء فريضة الحج والتزود بكل جديد من العلم في شتى الميادين؛ حرية التنقل بين أقطار العالم الإسلامي، فعلى الرغم من الخلافات السياسية بين الأمويين في الأندلس والعباسيين في بغداد المسيطرين على الحجاز- موطن الحرمين الشريفين- فإن العباسيين لم يستطيعوا منع أي إنسان أندلسي من أن يجوب البلاد التي تحت سيطرتهم والالتقاء بالعلماء، حتى في بغداد نفسها، وقضية حرية التنقل تلك وعدم وضع موانع في طريق المسافرين يعد من أهم وسائل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في المشرق والمغرب على السواء. ولا بأس ونحن نتحدث عن الحج وأثره في جذب أبناء الأندلس إلى المشرق أن نشير إلى واحدة من أبرز البعثات التي جاءت من الأندلس لأداء فريضة الحج ونقلت علما كان له أعظم الأثر في دولة الأمويين في الأندلس وحياة شعبها تلك هي بعثة أو رحلة يحيى بن يحيى الليثي وزملائه إلى الحج، وتتلمذهم على الإمام مالك (93- 179 هـ/ 711- 795 م) وأخذ كتابه «الموطأ» ، ثم لقاؤهم بفقهاء مصر-

_ (1) إذا تصفحنا بعض المصادر التي أرخت لعلماء الأندلس، مثل: ابن الفرضي- تاريخ علماء الأندلس، وابن بشكوال- الصلة، والمقري- نفح الطيب وغيرها، لوجدنا أنه قلما وجد عالم أو طالب علم أندلسي إلا وشد رحاله لأداء فريضة الحج، وقلما حج واحد منهم وعاد دون أن يطوف بمراكز العلم الشرقية يتعلم وينسخ ويعود ينشر علمه في الأندلس ومن هنا انتقل علم المشرق إلى المغرب.

الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم- وعودتهم إلى بلادهم حيث نشروا المذهب المالكي الذي سيطر على الحياة الفقهية في الأندلس، سيطرة تكاد تكون تامة، وانفرد أتباعه بالمناصب الدينية العليا وبصفة خاصة مناصب القضاء، ونحّى فقهاء المالكية مذهب الأوزاعي الذي كان المذهب الأول والوحيد الذي عرفه أهل الأندلس؛ لأنه شامي، والأمويون يعدون شاميين في ميولهم، فالشام موطنهم ومستقر ملكهم ومجدهم. لكن المذهب المالكي استطاع أن يسيطر على الحياة الفقهية، ولذلك قصة ينبغي أن تعرف؛ لأنها ذات دلالة على أثر السياسة في العلم وعلى دور الأمويين باعتبارهم أصحاب السلطة في نصرة مذهب على مذهب. فالإمام مالك بن أنس (93/ 197 هـ) «1» المشهور بإمام دار الهجرة، كان الود مفقودا بينه وبين العباسيين، بسبب فتواه الشهيرة التي أفتاها لأهل المدينة عندما سألوه: إن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب- المشهور بالنفس الذكية- يطالبنا ببيعته بالخلافة، ونحن سبق منا بيعة لأبي جعفر المنصور، فأفتاهم فتوى حللتهم من بيعة المنصور حيث قال لهم: «لقد بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين» «2» . وبناء على هذه الفتوى الخطيرة هرع الناس إلى بيعة محمد النفس الذكية؛ لما للإمام مالك من مكانة ومصداقية وهيبة في عيون الناس، وكانت حروب راح ضحيتها عشرات الآلاف من أرواح المسلمين، فالعباسيون لم ينسوا هذا أبدا للإمام وناله منهم أذى كثير. كل هذا أدى إلى تنافر شديد بين الإمام مالك وبين بني العباس، ويبدو أن ذلك مرتبط بما كان يكنه مالك من ودّ قديم لبني أمية في المشرق، بل تتحدث بعض الدراسات عن ميل مالك إلى الأمويين ومجافاته عن العلويين، يقول الشيخ أمين الخولي «3» : «إنه- الإمام مالك- ليس علويّا في شيء ما، وليس له ميل سياسي نحو هذا الحزب المعارض- الحزب العلوي- المتطرف في عهد الدولتين- الأموية والعباسية- جميعا، وهو لا يقول بتفضيل علي رضي الله عنه حين يتحدث غير مرة عن أفضل

_ (1) ألف الأستاذ أمين الخولي كتابا قيما عن الإمام مالك في سلسلة أعلام العرب تحت (رقم 11) القاهرة، وأعطاه عنوان «مالك تجارب حياة» استقصى فيه أخبار ذلك الإمام الكبير والفقيه الذي قيل عنه: لا يفتى ومالك في المدينة، واشتهر بين الناس بإمام دار الهجرة. (2) راجع القصة بتمامها في ابن الأثير- الكامل في التاريخ (5/ 532) . (3) مالك تجارب حياة (ص 299) .

الناس، وحين يسأله علوي عن هذا التفضيل ولا يفضل عليّا، يقول له العلوي: والله لا أجالسك أبدا، فيقول له مالك: فالخيار لك» ا. هـ. ويقول في موضع آخر «1» : «يمكن القول: إن مالكا كان ذا ميل سياسي هادئ للأمويين- يقصد الدولة الأموية الكبرى في المشرق- هذا مالك مع أموي المشرق وأما الداخلون منهم إلى الأندلس بعد سقوط دولتهم بالمشرق، فقد أشرنا قبل الآن إلى أن للإمام مالك ميلا واضحا إليهم، وأنه تمنى أن يزيّن الله الحرم بمثل عبد الرحمن- الداخل- وتتكرر الحكاية عن هشام بن عبد الرحمن الذي كان يتشبه بعمر بن عبد العزيز، وأن مالكا قال فيه مثل الذي قال في أبيه من التمني، وقد تجاوب الأمويون مع مالك، فتعصبوا لعلمه تعصبا قويّا حين جاء الراحلون من الأندلسيين به إلى بلادهم، وأخذ هشام المذكور الناس جميعا بالتزام مذهب مالك وصيّر القضاء والفتيا عليه في حياة مالك نفسه ... وحين أدخل قوم من الرحالين إلى الأندلس شيئا من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وداود الظاهري، لم يتمكنوا من نشره، فمات بموتهم على اختلاف أزمانهم ... وكذلك أميت ما كان بالأندلس من علم- في مجال الفقه- غير علم مالك من قبله كعلم الأوزاعي، الذي كان أسبق إلى الأندلس من فقه مالك كذلك عمل الترغيب في نشر علم مالك إذ كان يحيى ابن يحيى مكينا عند الأمويين ولا يولّى قاض إلا بمشورته، وهو لا يشير إلا بأصحابه ومن على مذهبه، وكما قالت الرواية القديمة نفسها: الناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم منه» ا. هـ. ولكن رغم هذا النفوذ الكبير الذي تمتع به علماء المالكية في الأندلس فإن أمراء بني أمية كانوا يتدخلون عندما تدعو الضرورة إذا تجاوز هذا النفوذ حده في الحجر على الأفكار الآخرى ومصادرتها وغلق الساحة الفقهية على فقههم وحده. فعندما أحضر أحد علماء الأندلس- وهو بقي بن مخلد- مصنف أبي بكر بن أبي شيبة من المشرق في رحلته العلمية وقرئ في الأندلس أنكر عليه علماء المالكية ذلك «2» ، بل شنعوا عليه، وسلطوا العامة عليه، ومنعوه من قراءته مع أن الكتاب ليس كتابا في الزندقة والإلحاد ولكنه مصنف في الحديث والفقه يحمل أفكارا قد تخالف ما عليه المالكية لذلك وقفوا ضده بقوة، ليس إلا لإثبات الهيمنة على الساحة الفقهية، فلما

_ (1) المرجع السابق (ص 294، 295) . (2) راجع القصة في الضبي، بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس (ص 15) .

وصل الأمر إلى سمع الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم (238- 273 هـ/ 852- 886 م) طلب حضور «بقي» ومعه الكتاب، وطلب حضور معارضيه من فقهاء المالكية، وأمر بقيّا أن يتصفح الكتاب جزآ جزآ إلى أن أتى على آخره، وقد ظن علماء المالكية أن الأمير قد وافقهم على إنكارهم على صاحب الكتاب وأنه سيأمر بمصادرته أو منعه من القراءة والتداول، ولكنهم فوجئوا بالأمير يقول لخازن الكتب: «هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا ثم قال لبقي بن مخلد: انشر علمك وارو ما عندك من الحديث، واجلس للناس حتى ينتفعوا بك ... ونهاهم أن يتعرضوا له» «1» ا. هـ. بعض أولئك الذاهبين إلى المشرق للحج وطلب العلم لم يعودوا إلى الأندلس مزودين بالعلم في صدورهم فقط، بل كانوا يعودون بأعداد من الكتب، جمعوها في سنين عددا، وإليك أنموذجا من هؤلاء ذكره ابن بشكوال في كتاب الصلة وهو «سلمة بن سعيد بن سلمة الأنصاري» رحل إلى المشرق وحج وأقام بالمشرق ثلاثا وعشرين سنة وأدب في بعض أحياء العرب ولقي أبا بكر محمد بن الحسين الآجري، وسمع منه بعض مصنفاته، وأجاز له أيضا حمزة بن محمد الكناني، والحسن بن رشيق، وابن مسرور الدباغ، والحسن بن شعبان وغيرهم، ولقي أيضا أبا الحسن الدارقطني وأخذ عنه وأبا محمد بن أبي زيد الفقيه، وكان رجلا فاضلا ثقة فيما رواه، راوية للعلم، حدث وسمع الناس منه كثيرا، ذكره الخولاني وقال: كان حافظا للحديث، يملي من صدره، يشبه المتقدمين من المحدثين، وكانت روايته واسعة وعنايته ظاهرة، ثقة فيما نقل وضبط، ... ثم يصل ابن بشكوال إلى ما نريد التنويه به، وهو أن سلمة حمل معه من المشرق ثمانية عشر حملا مشدودة من الكتب، ثم يقول: وسافر من اتجه إلى المشرق، واتخذ مصر موئلا واضطرب- أي: تجول- في المشرق سنين كثيرة جدّا يجمع في الآفاق كتب العلم، فكلما اجتمع من ذلك مقدار صالح نهض به إلى مصر، ثم انزعج- أي: رجع- بالجميع إلى الأندلس، وكانت في كل فن من العلم، ولم يتم له ذلك إلا بمال كثير حمله

_ (1) المصدر السابق (ص 15) ، وهناك مناسبات كثيرة تدخل فيها أمراء بني أمية للحد من تسلط فقهاء المالكية ومعارضتهم لكل رأي مخالف لأرائهم، راجع في ذلك د. محمد عبد الحميد عيسى- تاريخ التعليم في الأندلس، طبع دار الفكر، القاهرة (1982 م) ، (ص 98) وما بعدها.

إلى المشرق، هذا نموذج تكرر كثيرا «1» . وإلى جانب هذه الأعداد الكبيرة التي لا يكاد سيلها ينقطع ترحالا إلى المشرق، كان الأمراء أيضا يبعثون بعض رجالهم في مهمات علمية خاصة، كالذي ذكره ابن سعيد عن إرسال الأمير عبد الرحمن الأوسط- ابن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) - عباس بن ناصح إلى العراق في التماس الكتب القديمة فأتاه بالسند هند- وهو من أقدم الكتب التي ترجمت من الهندية إلى العربية، ومنه تعلم العرب الحساب والأعداد الهندية المعروفة- وغيره، وهو أول من أدخلها إلى الأندلس وعرف أهلها بها، ونظر هو فيها «2» . ثانيا: من الطرق التي سلكها الأمويون في الأندلس للنهوض بدولتهم وبناء حضارة مزدهرة فيها، استقدام علماء من المشرق من المبرزين لنشر علمهم في الأندلس، وهؤلاء أيضا أعدادهم كبيرة، حفلت بها المصادر الأندلسية مثل كتاب تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي الذي كان ينص على من وفد من المشرق إلى الأندلس، فعقب أن يترجم لعلماء الأندلس في آخر كل حرف يقول: ومن الغرباء في هذا الباب: فلان وفلان، ويعد من وفد من المشرق إلى الأندلس والمشرق عنده متسع جدّا، فهو يشمل علماء القيروان وصقلية.. إلخ وإذا رجعنا إلى نفح الطيب للمقري نجد أعدادا هائلة من علماء المشرق الذين رحلوا إلى الأندلس واستوطنوها ونشروا علمهم فيها، ولا شك أن سمعة أمراء بني أمية الطيبة في الأندلس وحبهم للعلم واحترامهم الكبير للعلماء وسخائهم معهم لا شك أن كل ذلك جذب كثيرين من علماء المشرق- وبصفة خاصة من العراق- إلى الأندلس؛ لأنهم أدركوا أن أمراء بني أمية في الأندلس من شدة تنافسهم مع العباسيين في المشرق في مضمار الحضارة والعلوم يبذلون كل ما في وسعهم لإكرام العلماء، فكان من الطبيعي أن يشد هؤلاء رحالهم إلى الأندلس؛ لأن السلطان كما يقال في المثل: «سوق يذهب إليه ما يروج فيه» . والحق أن إكرام أمراء بني أمية وخلفائهم للعلماء كان شيئا نادرا عز مثاله في غير

_ (1) راجع ابن بشكوال- كتاب الصلة، (رقم 513) (ص 224، 225) . (2) راجع ابن سعيد- المغرب في حلى المغرب، تحقيق د. شوقي ضيف دار المعارف القاهرة سنة (1978 م) ، (1/ 45) ، وراجع ترجمة عباس بن ناصح كاملة في نفس المصدر تحت (رقم 22) (ص 324) ، وفي ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس (برقم 881) (ص 296، 297) .

دولتهم، فعلى كثرة ما نسمع عن سماحة الخليفة العباسي المأمون (198- 218 هـ/ 813- 833 م) وإكرامه للعلماء فإن ما نقرأه عن احترام الخليفة الأموي الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر (350- 366 هـ/ 961- 976 م) يفوق كل ما سمعناه عن المأمون، فقد ذكر المقري في «نفح الطيب» حكاية لذلك الخليفة الأموي مع أحد العلماء ينبغي أن تروى ليعرف الناس كيف كان بعض حكام المسلمين يعاملون العلماء، يقول المقري ما ملخصه: يروي الفقيه أبو القاسم بن مفرج: كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم- رحمه الله تعالى- فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية، فإني لعنده بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، وذلك بين الصلاتين، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل، جاء من عند الخليفة الحكم، فوقف وسلم، وقال له: يا فقيه، أجب أمير المؤمنين- أبقاه الله- فإن الأمر خرج فيك، وها هو قاعد ينتظرك، وقد أمرت بإعجالك، فالله الله- كأنه يستعجله- فقال له الفقيه أبو إبراهيم: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة، فارجع إليه، وعرفه- وفقه الله- عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى مع طلاب العلم، أسمعهم حديث ابن عمه، رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فهم يقيدونه عني، ليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضى الله وطاعته، فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة، فإذا انقضى أمر من اجتمع إلي من هؤلاء المحتسبين في ذات الله، الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى ثم أقبل على شأنه، ومضى الخصي يهينم متضاجرا من توقفه، فلم يك إلا ريثما أدى جوابه، وانصرف سريعا ساكن الطيش، فقال له: يا فقيه أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله، فأصغى إليه، وهو يقول لك: جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين وأمتعهم بك، وإذا أنت أوعيت- انتهيت- فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى، وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي. فقال له: - أبو إبراهيم- حسن جميل، ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدّة ويصعب عليّ ركوب دابتي لشيخوختي، وضعف أعضائي، وباب الصناعة الذي يقرب إليّ من أبواب القصر المكرم أحوط وأقرب وأرفق بي، فإن رأى أمير المؤمنين- أيده الله تعالى- أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه، هون على المشي، وودع جسمي، وأحب أن تعود وتنهى إليه ذلك عني، حتى تعرف رأيه فيه وكذلك حتى

تعود إلى فيه، فإني أراك فتى سديدا، فكن على الخير معينا. ومضى عنه الفتى، ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت، وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله، ومنه خرجت إليك، وأمرت بملازمتك مذكرا بالنهوض عند فراغك قال: افعل راشدا وجلس الخصي جانبا حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه كأفسح ما جرت به عادته، غير منزعج ولا قلق، فلما انفضضنا عنه قام إلى داره، فأصلح من شأنه، ثم مضى إلى الخليفة الحكم، فوصل إليه من ذلك الباب، وقضى حاجته من لقائه، ثم صرفه على ذلك الباب، فأعيد إغلاقه على أثر خروجه. قال ابن مفرج ولقد تعمدنا في تلك العشية إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود بإغلاقه بدبر القصر، لنرى تجشم الخليفة له، فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحا، وقد حفه الخدم والأعوان منزعجين، ما بين كناس وفراش، متأهبين لانتظار أبي إبراهيم، فاشتد عجبا لذلك، وطال تحدثنا عنه. ويعلق المقري على الرواية مأخوذا بروعة هذا الكبرياء، فيقول «1» : «هكذا تكون العلماء مع الملوك، والملوك مع العلماء قدس الله تلك الأرواح» ا. هـ. ليست هذه مجرد حكايات تروى، وإنما هي ترجمة لسلوك ملوك كبار عرفوا قيمة العلم فاحترموا العلماء، وأحلوهم منهم المكان الذي يليق بهم، وبعلمهم. وبهذا قامت الحضارة وتأثل المجد. وبنفس هذه الروح استقبلت الأندلس أحد أبرز علماء المشرق في اللغة والأدب، وهو أبو علي القالي، هذه كنيته واسمه إسماعيل ابن القاسم، وقد استدعاه الخليفة عبد الرحمن الناصر لعلمه وفضله، وليكون معلما لابنه وولي عهده الحكم المستنصر، وندع الحميدي يروي لنا قصة القالي ومجيئه إلى الأندلس، فيقول «2» : «إسماعيل بن القاسم، أبو علي القالي اللغوي، ولد بمنازجرد من ديار بكر، فنشأ بها، ورحل منها إلى العراق في طلب العمل، فدخل بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وسمع من أبي القاسم عبد الله بن عبد العزيز البغوي، وأبي سعيد الحسن بن علي بن زكريا بن يحيى بن صالح بن عاصم

_ (1) راجع القصة بتمامها في المقري- نفح الطيب (1/ 176، 177) ، وراجع كذلك خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، أصولها المشرقية وتأثيراتها المغربية، ترجمة د. الطاهر أحمد مكي، دار المعارف القاهرة (1981 م) ، (ص 102- 104) . (2) جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس (ص 164- 168) .

ابن زفر العدوي، وأبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد، وأبي بكر محمد بن السري، المعروف بابن السراج، وأبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج.. وغيرهم، وقيل: إنه سمع من أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، ومال بطبعه إلى اللغة وعلوم الأدب، فبرع فيها، واستكثر منها، وأقام ببغداد خمسا وعشرين سنة، ثم خرج منها قاصدا إلى المغرب في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، في أيام عبد الرحمن الناصر، وكان ابنه الأمير أبو العاص الحكم بن عبد الرحمن أحب ملوك الأندلس للعلم، وأكثرهم اشتغالا به، وحرصا عليه، فلتقاه بالجميل، وحظي عنده وقرب منه، وبالغ في إكرامه، يقال: إنه هو كان قد كتب إليه، ورغبه في الوفود عليه، واستوطن قرطبة، ونشر علمه بها، وكان إماما في علم اللغة متقدما فيها، متقنا لها، فاستفاد الناس منه، وعولوا عليه، واتخذوه حجة فيما نقله، وكانت كتبه على غاية التقييد والضبط والإتقان، وقد ألف في علمه الذي اختص به تواليف مشهورة، تدل على سعة روايته، وكثرة إشرافه، وأملى كتابا سماه «النوادر» يشتمل على أخبار وأشعار ولغة، وسمع منه جماعات وحدثوا عنه، منهم: أبو محمد عبد الله بن الربيع بن عبد الله التميمي ... » ا. هـ. فنجتزئ بهذا القدر من ترجمة الحميدي لأبي علي القالي؛ لأنها طويلة حيث جاءت في نحو خمس صفحات. مما يدل على أهمية القالي وأهمية علمه؛ لأن الحميدي من أصحاب الإيجاز في الترجمة، فبعض الترجمات عنده لا تزيد على بضعة سطور، وخلاصة ما تبقى من الترجمة أن أبا علي القالي جمع عالم المشرقيين في اللغة والأدب وسافر بعلمه إلى الأندلس، فنشر ما شاء الله أن ينشر في الأندلس، واشتهر بأماليه «1» . وكان أثيرا لدى الخليفة الحكم المستنصر. قوائم العلماء المشرقيين الذين ارتحلوا إلى الأندلس طويلة، لا في العلوم العربية والإسلامية فحسب، بل في العلوم الطبية وغيرها «2» . ولا يتسع المقام هنا لإيراد المزيد، ولكن لا يتم الكلام في هذا المجال دون إشارة

_ (1) راجع أحمد أمين- ظهر الإسلام، الطبعة الرابعة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة (1966 م) ، (2/ 22) . (2) راجع كتب طبقات الأطباء مثل كتب ابن أبي أصيبعة عيون الأنباء في طبقات الأطباء، وابن جلجل- كتاب طبقات الأطباء والحكماء، وكتاب صاعد الأندلسي- طبقات الأمم لاستقصاء أخبار الأطباء المشرقيين الذين رحلوا إلى الأندلس.

إلى شخصية مشرقية قدمت إلى الأندلس في مطلع ولاية الأمير عبد الرحمن الأوسط ابن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) وحظيت باهتمام قلما حظيت به شخصية أخرى. وهي شخصية الموسيقي والمغني المشهور «زرياب» صاحب التأثير الكبير في حياة الأندلسيين بصفة عامة، وأهل قرطبة بصفة خاصة، ولم يكن تأثيره في مجال الموسيقى والغناء وإدخاله وترا خامسا للعود فحسب، إنما كان في مجالات عديدة في ألوان الطعام، ونظام الموائد، وحتى في الملابس وما يصلح منها لكل فصل من الفصول، وحتى تصفيف الشعر، وباختصار كل ما يدخل في ما يسميه الناس الآن فن (الإتيكيت) والأناقة ولذلك أطلقوا عليه ملك الأناقة، وقالوا عنه: كأنه نقل بغداد بكل ما فيها إلى الأندلس. والذي أعطى «زرياب» - واسمه علي بن نافع- هذه الأهمية أنه جاء إلى الأندلس في مطلع حكم الأمير عبد الرحمن الأوسط، وتروي المصادر أن الذي استدعاه كان الأمير الحكم بن هشام، ولكنه عندما وصل إلى الأندلس كان الأمير الحكم قد فارق الحياة، وأصبح ابنه عبد الرحمن الأوسط هو الأمير فاستقدم (زرياب) واحتفى به احتفاء عظيما وأغدق عليه الأموال، ذلك أن عبد الرحمن بن الحكم عاصر المأمون العباسي في نحو اثني عشر عاما من حكمه وكان بلاط بغداد في عهد المأمون قد بلغ الغاية في الفخامة والبهاء وكان عبد الرحمن الأوسط شديد الولع بكل ما هو شرقي، وكان يريد لبلاطه أن يكون مثل بلاط بغداد أو أبهى منه، من هنا كان ترحيبه بفنان ضاقت عنه قصور بغداد بسبب المنافسة بينه وبين أستاذه إسحاق الموصلي الذي ضاق به ذرعا وحسده لما رأى إعجاب الرشيد به فكان هذا مما حمله على ترك بغداد والرحيل إلى الأندلس، ولا بد أنه كان على ثقة من حسن استقباله والاحتفاء به، وهذا هو السبب المشهور، أما أبو بكر بن القوطية فيروي سببا آخر لهجرة زرياب من بغداد إلى الأندلس فيقول «1» : «وقدم زرياب على عبد الرحمن بن الحكم رحمه الله، وكان- زرياب- بالمحل القريب من الأمين بن هارون- الرشيد- وكان المأمون الوالي بعد الأمين، فعد عليه- على زرياب- أشياء، فلما خذل الأمين فرّ زرياب إلى الأندلس، فحل من عبد الرحمن بكل محل، وكان أهلا لذلك في أدبه

_ (1) تاريخ افتتاح الأندلس (ص 62، 63) ويراجع أيضا خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 93- 97) .

وروايته وتقدمه في الصناعة التي كانت بيده» ا. هـ. ويضيف ابن القوطية خبرا له مغزاه، ينبغي ذكره، ملخصه أن «زرياب» غنى الأمير عبد الرحمن صوتا استحسنه، فأمر خزان بيت المال أن يدفعوا له ثلاثين ألف دينار، ولكنهم رفضوا، وقالوا: نحن وإن كنا خزان الأمير أبقاه الله فنحن خزان بيت مال المسلمين، نجبي أموالهم وننفقها في مصالحهم، ولا والله ما ينفذ هذا ولا منا من يرضى أن يرى هذا في صحيفته غدا أن نأخذ بثلاثين ألفا من أموال المسلمين، وندفعها إلى مغنّ في صوت غناه، يدفع إليه الأمير أبقاه الله مما عنده- أي: من ماله الخاص وليس من مال المسلمين- فلما أخبر الأمير بذلك كان «زرياب» حاضرا فقال: ما هذه طاعة- كأنه يحرض الأمير على خزان بيت المال؛ لأنهم عصوا أوامره- أما الأمير عبد الرحمن فقال: هذه الطاعة، ولأولينهم الوزارة على هذا الأمر، وصدقوا فيما قالوا، ثم أمر بدفعه إلى «زرياب» مما عنده. ما أجمل الأمراء عندما يستجيبون لنصح الناصحين! ثالثا: في الصفحات السابقة وضحنا أن الأمويين في الأندلس سلكوا في بناء نهضة حضارية عربية إسلامية على أرض الأندلس ثلاث طرق، تحدثنا عن اثنتين منها وهما: بعث طلاب العلم والعلماء إلى المشرق الإسلامي للتزود بكل جديد في كل العلوم العربية الإسلامية وعلوم الطب والفلك والكيمياء والفيزياء ... إلخ والعودة بهذا الحصاد إلى الأندلس وكانوا مدركين أنه بدون هذا التواصل العلمي مع المشرق فلن يتأتى لهم بناء الحضارة التي يتوقون إليها ويطمحون أن تضاهي حضارة بغداد. والطريق الثاني: استقدام علماء من المشرق إلى الأندلس للانتفاع بعلمهم، وفي الصفحات التالية نوجز القول في الطريق الثالث الذي سلكه الأمويون في الأندلس لبناء نهضتهم الحضارية؛ وهو الكتاب، فالكتاب هو سيد الموقف في الفكر الإنساني بلا خلاف، فمهما تقدمت وسائل التعليم سيبقى هو في مكانته ليس له بديل في ملء العقول بالعلم والفكر، من هنا أعطى الأمويون قضية الكتاب وإحضاره من الشرق والغرب أيضا إلى الأندلس أهمية قصوى، وفي هذه المسألة ربما كانت مهمتهم أسهل نسبيّا من مهمة العباسيين؛ لأن العباسيين اضطلعوا بعبء الترجمة من اللغات الأجنبية، وبصفة خاصة الهندية والفارسية واليونانية إلى اللغة العربية، وهو عبء ثقيل ومكلف ماديّا، ففوق ما وجده العباسيون على الأرض التي

كانوا يسيطرون عليها من ثراث تلك الأمم، وهو التراث الذي أشدنا أكثر من مرة بدور الأمويين في الحفاظ عليه وصيانته وتركه للعباسيين ليقوموا بترجمته إلى اللغة العربية، غير أن العباسيين لم يقنعوا بما وجدوه على الأرض التي كانوا يسيطرون عليها، والتي تمتد حدودها من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين شرقا، وإنما دفعهم النهم العلمي والرغبة الصادقة في بناء صرح حضاري يتناسب مع عظمة الدولة العباسية وثرائها إلى البحث عن زخائر الفكر الإنساني التي لم تكن في متناول أيديهم، وحاولوا الحصول عليها بكل الطرق، وتعددت وسائلهم في الحصول على المخطوطات في مختلف العلوم الأجنبية فأحيانا عن طريق المعاهدات مع أباطرة الدولة البيزنطية، التي كانوا يشترطون فيها تسليمهم كميات من المخطوطات اليونانية «1» أو عن طريق الهدايا. ويقول صاعد الأندلسي في هذا الصدد «2» : «ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون ... فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فراسل ملوك الروم، وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون، وأرسطوطاليس، وأبقراط، وجالينوس، وأوقليدس، وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، فاستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها، فنفقت سوق العلم في زمانه وقامت دولة الحكمة في عصره» ا. هـ. وأحيانا عن طريق البعثات العلمية التي كانوا يرسلونها إلى أراضي تلك الدولة للحصول على المخطوطات، عن طريق الشراء، وكتاب الفهرست لابن النديم زاخر بأخبار تلك البعثات. والكتب التي كانوا يعودون محملين بها. لقد حصل العباسيون على عدد هائل من المخطوطات، ولم يحصلوا عليه ليحبس في خزائن الكتب، وإنما ليترجم إلى اللغة العربية، ويبعث من جديد، ينقح ويصحح ويضاف إليه جديد من قرائح العلماء وعبقرياتهم، وقدموه للعالم وبصفة خاصة إلى أوربا، التي قامت نهضتها في مطلع العصر الحديث على أساس علوم العرب

_ (1) راجع سيجريد هونكه- شمس العرب تسطع على الغرب، مرجع سابق (ص 175) . (2) طبقات الأمم (ص 64) .

ومعارفهم، كما يشهد بذلك كل المنصفين من الأوربيين أنفسهم، ولقد سبق أن اقتبسنا كثيرا من مؤلفاتهم التي ورد ذكرها في هذا البحث، مما يؤيد ما نقول. لذلك أنشأ الخليفة هارون الرشيد (170- 193 هـ/ 786- 808 م) بيت الحكمة في بغداد ليكون أول مؤسسة علمية أكاديمية تضطلع بهذا الدور في التاريخ، وهو دور الترجمة، وكان أول رئيس لهذه المؤسسة العلمية العظيمة هو يوحنا بن ماسويه، وكان نصراني الديانة سريانيّا، يقول ابن أبي أصيبعة «1» : «قلده الرشيد ترجمة الكتب القديمة، مما وجده بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم، حين سباها المسلمون، ووضعه أمينا على الترجمة، وخدم هارون الرشيد- والأمين والمأمون، وبقي على ذلك إلى أيام المتوكل» ا. هـ. هل يحتاج هذا الخبر إلى تعليق ولفت الأنظار إلى هذا التسامح الإسلامي من أعظم ملوك الدنيا عندئذ وهم يضعون عالما نصرانيّا على رأس أهم مؤسسة علمية في دولتهم؟!. وإذا كان الرشيد قد أسس بيت الحكمة فقد بلغت ذروة مجدها وعصرها الذهبي في عهد المأمون، الخليفة العالم، الذي كان يكافئ المترجمين- فوق رواتبهم الرسمية- بوزن الكتاب المترجم ذهبا خالصا، مما جعل المترجمين يبذلون أقصى طاقاتهم في نقل كنوز العلم القديم كله إلى اللغة العربية، وحديثنا عن الترجمة في المشرق المقصود به أن نوضح أن ما قام به العباسيون من ترجمة كان فيه خدمة هائلة للأمويين- بل للإنسانية جمعاء- لأنهم لم يضطروا إلى الترجمة فقد وجدوا كل شيء جاهزا ومعدّا، ففي نهاية عهد المأمون (198- 218 هـ/ 813- 833 م) كان معظم التراث القديم قد ترجم وأصبح يقرأ في اللغة العربية، وهذه خدمة جليلة للعلم بصفة عامة وللأمويين بصفة خاصة، سيما وأن اللغة اليونانية المكتوب بها معظم هذا التراث لم تكن معروفة في الأندلس إلا في أضيق الحدود «2» . ولذلك لم تشهد الأندلس حركة ترجمة كالتي حدثت في بغداد، واكتفوا بهذا وكان فيه الغناء. ولما كان الأمويون في الأندلس- وبصفة خاصة آخر العظماء منهم، وهو الحكم المستنصر- لا يقلون رغبة عن العباسيين في التعلم والتحضر فقد بذلوا أقصى طاقاتهم في إحضار كل ما كان يؤلف أو يترجم في المشرق، في أي علم من العلوم،

_ (1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء (2/ 124) . (2) راجع خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 190، 191) .

ولم يمنعهم بعد الشقة ولا كثرة التكاليف عن الوصول إلى غاياتهم، وقد بدؤوا في تحقيق تلك الغاية ربما في الوقت نفسه التي بلغت فيه الترجمة ذروتها في عهد المأمون، فأول من أرسل بعثة رسمية إلى المشرق لإحضار الكتب القديمة والحديثة هو الأمير عبد الرحمن الأوسط بن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) وهو كما سبقت الإشارة عاصر المأمون لمدة اثني عشر عاما من حكمه، وسبق أن ذكرنا أنه أرسل عباس بن ناصح للبحث عن الكتب فجاءه بعدد منها، كان من بينها كتاب «السند هند» وكان قد ترجم إلى العربية في بغداد. ولما كان هذا البحث قد تجاوز الحيز المقدر له فلن نستطيع تتبع جهود كل أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس في إحضار الكتب من كل الأقطار وفي كل العلوم، ولذلك سنقصر الحديث تقريبا على أكثرهم حبّا للعلم والعلماء والقراءة، وهو الحكم المستنصر العظيم (350- 366 هـ/ 962- 976 م) الذي يقول عنه أحد الباحثين: إنه كان بمثابة وزير التعليم في عهد والده الناصر «1» . فهو فارس هذا الميدان بدون منازع، وعنه يقول صاعد الأندلسي «2» : «ثم لما مضى صدر من المائة الرابعة انتدب الأمير الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، وذلك في أيام أبيه إلى العناية بالعلوم وإيثار أهلها، واستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار الشرق عيون التواليف الجليلة والمصنفات الغريبة في العلوم القديمة- يقصد العلوم التي سماها المسلمون علوم الأوائل مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها- والحديثة- ويقصد العلوم العربية والإسلامية مثل الفقه والحديث والتفسير وعلوم اللغة العربية وآدابها.. إلخ- وجمع منها في بقية أيام أبيه، ثم في مدة ملكه من بعده ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، وتهيأ له ذلك لفرط محبته للعلم. وبعد همته في اكتساب الفضائل، وسمو نفسه إلى التشبه بأهل الحكمة من الملوك، فكثر تحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل، وتعلم مذهبهم» ا. هـ. الحق لم نقرأ في التاريخ الإسلامي على امتداده شرقا وغربا أن خليفة أبدى من الاهتمام بجمع الكتب والتعليم بصفة عامة مثل الخليفة الحكم المستنصر، وهو لم يجمع الكتب ليخزنها وإنما تفيض المصادر بالأخبار المتواترة أنه قرأ كثيرا من

_ (1) راجع د. محمد عبد الحميد عيسى- تاريخ التعليم في الأندلس (ص 108) . (2) طبقات الأمم (ص 87) .

محتويات مكتبته التي كان بها ستمائة ألف كتاب ووجدت له تعليقات على بعض هذه الكتب بخط يده، كانت موضع ثقة العلماء مما يدل على أنه قرأ وفهم، يقول ابن سعيد في كتاب «المغرب في حلى المغرب» عن الحكم المستنصر ما يلي «1» : «كان له إذ ولي بعد أبيه سبع وأربعون سنة وكان حسن السيرة جامعا للعلوم، محبّا لها مكرما لأهلها، وجمع من الكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله، وذلك بإرساله فيها إلى الأقطار واشترائه لها بأعلى الأثمان ... ووجه لأبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني، وباسمه حرر أبو علي البغدادي كتاب الأمالي، فأحمد وفادته» ا. هـ. ومن حبه للعلم ونشره بين أبناء الأمة الأندلسية فإنه بنى على نفقته الخاصة سبعا وعشرين مدرسة لتعليم الفقراء، مما يدل على أن القادرين كانوا ينفقون على تعليم أنفسهم. ولقد فشا التعليم في الأندلس بصفة عامة وفي العاصمة قرطبة بصفة خاصة إلى الحد الذي جعل بعض الباحثين يقول: إن غالبية السكان كانوا يجيدون القراءة والكتابة ولذلك كان أصحاب المصانع لا يقبلون عاملا في مصانعهم إلا إذا كان يجيد القراءة والكتابة، حتى ولو كان العمل لا يتطلب ذلك، ومعنى ذلك أن المجتمع والرأي العام هو الذي جعل التعليم إجباريّا وليس عملا قامت به السلطة وحدها «2» . والتعليم شمل الجنسين، الذكور والنساء على السواء، يقول الأستاذ خوليان ريبيرا «3» : «وبلغ تعليم المرأة حدّا واسعا من الانتشار يمكن أن نستنتجه مما ذكره ابن فياض في تاريخه أخبار قرطبة قال: كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا في ناحية من نواحيها، فكيف بجميع النواحي، وتزاحم الطلاب على الدراسة جعل المرأة أيضا تقبل عليها، وتفتح المدارس تلقي فيها الدروس، كما يصنع الرجال، وكان لبني حزم «4» - وهي أسرة اشتهرت بالأساتذة- مدرسة من أشهر مدارس قرطبة، يدرس فيها الأب للصبيان،

_ (1) (1/ 186) . (2) راجع خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 50) . (3) المرجع السابق (ص 161) . (4) ليسوا هم بني حزم أسلاف أسرة ابن حزم العالم المشهور، بل هي أسرة أخرى، والأمر لا يعدو تشابه الأسماء.

والابن للفتيان، والبنت للفتيات» ا. هـ. ولقد اشتهرت نساء كثيرات وصلن إلى مكانة عالية في دنيا الثقافة؛ مثل «لبنى» كاتبة الخليفة الحكم، التي يقول عنها ابن بشكوال «1» : «كانت حاذقة بالكتابة، نحوية، شاعرة، بصيرة بالحساب، مشاركة في العلم، لم يكن في قصرهم أنبل منها، وكانت عروضية خطاطة جدّا» ا. هـ. والقوائم طويلة ولا يتسع الوقت للمزيد. نعود إلى الخليفة الحكم وأثره في إثراء عالم الكتب في الأندلس وإنفاقه بسخاء على جمع الكتب من كل مراكز العلم من المشرق، حيث كان له وكلاء فنيون يقيمون إقامة تكاد تكون دائمة في مدن المشرق، مزودين بأموال طائلة للحصول على الكتب بأي ثمن، وكان حريصا على أن يدخل مكتبته أي كتاب يصدر في المشرق ليقرأه قبل أن يقرأ في بلد المنشأ، والقصة المتواترة في ذلك المجال كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي ينتمي إلى أصول أموية فقد دفع أحد وكلاء الحكم ألف دينار لأبي الفرج ليحصل على نسخة من الكتاب، قبل أن يصدر في بغداد وسبق أن اقتبسنا ذلك من ابن سعيد «2» . وشاع بين رعايا الحكم الثاني أن أقصر الطرق إلى قلبه وأفضل وسيلة لإقناعه واستمالته للحصول على خير أو بلوغ منصب أن يقدم له كتاب ليس عنده في مكتبته، ولهذا أخذوا يخصونه بمؤلفاتهم، أو يهدون إليه نسخا من كتب نادرة، ونجد ذلك حتى بين الأساقفة المسيحيين في قرطبة، فقد ألف الأسقف ربيع بن زيد، واسمه اللاتيني رثموندو Recemundo كتاب الأنواء، واشتهر باسم تقويم قرطبة، وأهداه إلى الحكم الثاني، وهو كتاب طريف ومثير، ولحسن الحظ وصلنا كاملا، واشتهر بيننا ونشر أخيرا «3» . هذه المكتبة الضخمة التي ارتبطت باسمه في الحقيقة لم تكن نتيجة جهوده وحده، وإنما بذل أسلافه جهودا كبيرة أيضا في جمع الكتب وأسسوا المكتبة ليصل بها هو إلى هذا المستوى العالي الذي وصلت إليه. فالأسرة الأموية في الأندلس أظهرت- طبقا لكل المصادر التي تحدثت عنهم-

_ (1) كتاب الصلة، الترجمة رقم (1529) (ص 692) . (2) انظر المغرب في حلى المغرب، مصدر سابق (1/ 186) . (3) خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 165) .

حبّا للتعليم منذ عهد عبد الرحمن الداخل، فقد كان هو نفسه شاعرا وأديبا وفقيها، وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238- 273 هـ/ 852- 886 م) بدأ المؤرخون يتحدثون عن المكتبة الملكية كواحدة من خيرة مكتبات قرطبة، واشتهر عبد الرحمن الناصر نفسه بحب الكتب شهرة وصلت إلى بيزنطة وحين أراد الإمبراطور قسطنطين السابع أن يتقرب إلى الناصر أهداه بعض الكتب، منها كتاب ديسقوريدس في الطب في مجلد رائع كتب بحروف مذهبة ... وفي ذلك الوقت بدأ اثنان من أبناء الناصر- وهما الحكم ومحمد- دراستهما تحت إشراف مؤدبين من أسبانيا والشرق، واستيقظت هوايتهما للكتب في قوة، حتى أن مكتبة والدهما لم تعد تشبع نهمهما، وتنافس كلاهما، أيهما يستطيع أن يسبق الآخر في تكوين مكتبة أدق اختيارا وأكثر عددا؟ وبعد فترة توفي الأمير محمد وورث أخوه الحكم مكتبته، وجمع الثلاث في واحدة، وأصبحت هذه مكتبة القصر ... وكان يعمل فيها دون توقف أمهر المجلدين في أسبانيا، إلى جانب آخرين جيء بهم من صقلية وبغداد، ومعهم جمهرة من الفنانين، رسامين ومزوقين ومنمقين، يزخرفون الكتب بالصور الجميلة، بعد أن نسخها أدق الخطاطين لتقديمها إلى لجنة من كبار العلماء، تقوم بمعارضتها وتصحيحها، وتدفع لهم الدولة مرتباتهم في سخاء «1» . إن هذا الولع الملكي بالكتب انتقل إلى الشعب، حتى لم يكد يخلو بيت من مكتبة، وهناك أسر كبيرة جمعت كميات هائلة من الكتب وكونت مكتبات كبيرة، مثل أسرة ابن فطيس وغيرهم. ولا يتسع المكان للحديث عن بقية مكتبات قرطبة فضلا عن غيرها من مكتبات المدن الأندلسية الآخرى، مثل مكتبات إشبيلية والمرية ومالقة وبطليوس وطليطلة وسرقسطة وبلنسية.. إلخ ولا يتسع الحديث كذلك عن المكتبات التي كان الأثرياء يوقفونها على الفقراء من طلبة العلم، فالكتب التي تجمعت في المكتبات الأندلسية، سواء التي ألفها علماء الأندلس أنفسهم، أو التي جاءت من المشرق الإسلامي أعدادها تفوق الحصر، فكل عالم جاء من الأندلس إلى المشرق ودرس وتعلم وعاد إلى الأندلس عاد ومعه كتب، بل رأينا فيما سبق عالما واحدا وهو سلمة بن سعيد جاء من المشرق إلى الأندلس بثمانية عشر حملا من الكتب، والمقصود بالحمل

_ (1) المرجع السابق (ص 190، 191) .

حمل بعير، وحمل البعير من الكتب يكفي لتكوين مكتبة محترمة، فما بالنا بثمانية عشر حملا جاء بها عالم واحد؟ والعلماء الذي رحلوا من المشرق إلى الأندلس حملوا معهم أيضا كثيرا من الكتب، وعند ما ألف ابن عبد ربه تحفته الأدبية الرائعة- «العقد الفريد» - دل على أن علم المشرق كان معروفا كله عند علماء الأندلس، ولذلك عندما قرأ الوزير البويهي الشهير الصاحب بن عباد ذلك الكتاب قال عبارته المشهورة: «هذه بضاعتنا ردت إلينا» . وخلاصة القول: أن أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس بذلوا أقصى طاقاتهم ولم يدخروا وقتا ولا جهدا ولا مالا، وسلكوا كل السبل لبناء حضارة عربية إسلامية على الأرض الأندلسية التي كانت من قبل ذات حضارة متواضعة بالقياس إلى الحضارة في أقطار المشرق، مثل مصر والشام والعراق وفارس ... إلخ وهذا يشهد للأمويين بالعبقرية «1» ، فقد فتحوا قنوات ثقافية مع العديد من الدول الإسلامية والنصرانية على السواء، وسبق ذكر الهدية التي أهداها الإمبراطور قسطنطين السابع إلى الخليفة عبد الرحمن الناصر من الكتب القيامة. وكذلك أقام الأمويون علاقات طيبة وودية مع الرستميين في الجزائر الحالية. وهم خوارج إباضية- كما أشرنا من قبل- وأصبحت تاهرت عاصمتهم أحد روافد العلوم التي كانت تمد قرطبة بكل ما يأتيها من الشرق، وتتلقى منها كذلك «وشهدت عاصمتا الدولتين العديد من الزيارات المتبادلة بين العلماء كما أصبحت الدولة الرستمية الجسر الذي ضمن استمرار التدفق الحضاري من المشرق إلى الأندلس؛ لذا حرص الأمويون على استغلال هذا الجسر رغبة منهم في ربط إمارتهم البعيدة بتيار الحضارة الإسلامية في المشرق، وعن طريق الرستميين نجح أمراء بني أمية في الأندلس في الحصول على ما يحتاجون إليه من كنوز المشرق العربي ومؤلفاته ومخطوطاته وكذلك علمائه، وكانت لدى الرستميين مكتبتهم الضخمة التي عرفت بالمعصومة والتي حوت عددا ضخما من الكتب والمؤلفات في مختلف العلوم والفنون بالإضافة إلى جهود العلماء المحليين. وبذا يكون الرستميون قد قاموا بدور الوسيط الثقافي، كما قاموا من قبل بدور الوسيط التجاري، فأخذوا من المشرق وأعطوا الأندلس، فكانت بلادهم ماء الحياة

_ (1) راجع سيجريد هونكه- شمس العرب تسطع على الغرب، مرجع سابق (ص 474، 475) ، وراجع أيضا، جاك ريسلر الحضارة العربية، مرجع سابق (ص 273) .

الذي جدد انطلاق الإسلام إلى غرب أوربا عن طريق الأندلس «1» . لقد بذل الأمويون جهودا كبيرة طوال نحو ثلاثة قرون- عمر دولتهم في الأندلس- لبناء نهضة حضارية عربية إسلامية عظيمة، ولم يدخروا جهدا في نقل العلوم العربية الإسلامية، من المشرق الإسلامي من فقه وتفسير وحديث وأدب ... إلخ. وظهر في كل تلك العلوم علماء مبرزون وضعوا مؤلفات خلدت أسماءهم، وكذلك نقلوا العلوم التي ترجمت في المشرق، مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء ... إلخ. وظهر كذلك في كل تلك العلوم علماء كان لهم شأن عظيم، ولا يتسع المجال حتى لضرب الأمثلة؛ لأن تلك الأسماء فوق الحصر، ويتضح ذلك لمن يطالع بعض أمهات الكتب الأندلسية مثل «تاريخ علماء الأندلس» لابن الفرضي، و «جذوة المقتبس» للحميدي، و «الصلة» لابن بشكوال، و «نفح الطيب» للمقري، و «الإحاطة في أخبار غرناطة» لابن الخطيب، و «فهرس ابن خير» ، و «الزخيرة» لابن بسام ... إلخ. ولقد نجح الأمويون في تحقيق ما قصدوا إليه من بناء نهضة حضارية عربية إسلامية عظيمة على أرض الأندلس وجعلوا منها البقعة الوحيدة المضيئة في غرب أوربا في عصورها الوسطى المظلمة، ولا أدل على ذلك من كثرة المؤلفات التي وضعها الأوربيون أنفسهم إشادة بهذه الحضارة والتي وردت بعض أسمائهم في ثنايا هذا البحث ولا نريد التكرار خوف الملال على القارئ. المهم أن الناس هناك في الأندلس في ذلك الزمان البعيد عاشوا تلك الحضارة العظيمة واستمتعوا بخيراتها وثمارها وبركاتها فسكنوا أجمل المدن، حيث كانت المدن الأندلسية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي- وهو عصر الأندلس الذهبي في تاريخها كله- أعمر المدن في القارة الأوربية من أقصاها إلى أقصاها، فبيوتها وشوارعها نظيفة، مبلطة ومضاءة بالمصابيح ليلا وترش بالمياه نهارا، وكان سكان مدينة قرطبة- عاصمة الأمويين- وحدها يزيدون على مليون مواطن، وقلما عرفت مدينة في الشرق والغرب مثل هذا العدد من السكان في ذلك الزمان، والناس كلهم تقريبا يتعلمون أفضل تعليم وكان التعليم مجانيّا لغير القادرين، وإجباريّا

_ (1) د. محمد عيسى الحريري- الدولة الرستمية بالمغرب الإسلامي، دار القلم الكويت، الطبعة الثالثة، (1408 هـ/ 1987 م) ، (ص 220) .

بضغط الرأي العام والمجتمع لا بضغط الحكومة وحدها. ويتلقى السكان أفضل علاج ويستمتعون بحياة طيبة فيها كل ما يصبو إليه الإنسان من رفاهية وإلى قرطبة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة ومرسية ومالقة والمرية وسرقسطة ... إلخ كانت تأتي وفود العواهل الأوربيين في طلب الأدوية والتحف، وأدوات الترف والزينة، وفرق الموسيقى والغناء، وإلى تلك المدن أيضا كان يهرع طلاب العلم للتعلم في مدارسها ومعاهدها. ألا حيّ الله تلك الأيام الخالدة، وبارك وقدس أرواح أولئك الرجال من الأمراء والخلفاء والعلماء الذين أبدعوا تلك الحضارة العظيمة.

البحث الثاني عشر واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث الثاني عشر] واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة

واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وبعد؛ فإن هذا الملتقى «واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة» الذي ينظمه المعهد العالي الوطني للدراسات الحضارية بوهران يأتي في موعده تماما، فالعالم الإسلامي في مسيس الحاجة إلى من يشخص ويحدد ويصف له أوجاعه وأوضاعه وأحواله من جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. إلخ وإلى من يصف له العلاج الناجع، والمحور الأول من محاور هذا الملتقى «واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة» يعد محور التشخيص والتوصيف للعلل والأوجاع التي يعاني منها العالم الإسلامي؛ وبقية المحاور بمثابة وصفات العلاج وتحديد الدواء، كل في مجاله وتخصصه وهذا المحور الأول موضوعه كبير وواسع، وكان وحده يحتاج إلى ملتقى خاص به؛ لأن واقع العالم الإسلامي مرير، ومليء بالمشكلات الصعبة والمعقدة والمتداخلة وتكتنفه أخطار جمة، بعضها خارجي وهو الأخطر والأشد شراسة؛ لأن وراءه قوى عالمية تملك إمكانات هائلة، وهي تكره الإسلام والمسلمين وتكيد لهم كيدا عظيما، وبعض تلك الأخطار داخلي، والأيدي الخارجية فيها ليست خافية، ولا يستطيع باحث بمفرده ولا بحث بذاته أن يغطي جوانب هذا الموضوع الكبير المعقد، والذي يحتاج إلى تخصصات كثيرة حتى يكون الكلام علميّا وموضوعيّا ودقيقا ومفيدا، وأنا لا أستطيع الادعاء بأنني قادر على تغطية موضوع كهذا، وكل ما في وسعي أن أحاول إلقاء الضوء على بعض أوضاع وأحوال واقع العالم الإسلامي في وقتنا الحاضر، ذلك الواقع الذي وصفته في مطلع حديثي وصفا بدهيّا بالمرير- وهو فعلا كذلك- فلا أظن أن العالم الإسلامي مرت به فترة من فترات تاريخه أحس فيها بالمهانة والذلة وضياع الحقوق وفقدان الهيبة، كما يحس الآن، ومن يقول غير ذلك أظنه مغالطا ومجافيا للواقع، وإذا أراد الإنسان أن يضرب أمثلة على ذلك ويقدم نماذج فسيجد مئات الأمثلة والنماذج التي تؤكد ما أقول، هل أضرب أمثلة مما يجري للمسلمين في فلسطين المحتلة؟ أم ما جرى لهم في إقليم كوسوفا أم ... إلخ؟.

أم نتحدث عما يجري من حصار قاتل لبلاد عربية إسلامية، مثل العراق وليبيا بحجة أنهما لا ينفذان قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في الوقت الذي صدرت فيه ضد إسرائيل قرارات من هاتين الهيئتين- تقارب المائتين- لم تنفذ منها قرارا واحدا، ولم يستطع أحد حتى أن ينقدها أو يوجه لها لوما، لهذا نقول: إن واقع العالم الإسلامي واقع مرير حتى وإن بدا أن كل دولة مستقلة، وأن معظم رؤسائها يقولون: إنهم أحرار في اتخاذ قرارهم، فلهم أن يقولوا ما يشاؤون ولعلهم صادقون من وجهة نظرهم، ومن حق غيرهم أن يختلف معهم فيما يقولون، والخلاف كما يقولون لا يفسد للود قضية، فالعالم الإسلامي من وجهة نظرنا يمر اليوم- ونحن نعيش في نهاية الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري ونهاية القرن العشرين- بمرحلة لعلها الأسوأ في كل تاريخه منذ ظهر على وجه الأرض. ونحن لا ننكر أن العالم الإسلامي قد مر قبل ذلك بأزمات، بل بنكبات كثيرة في مسيرته التاريخية، ولكنه كان في كل مرة يخرج منها سليما معافى، ويستأنف سيره المعتاد، ولعل تعرض العالم الإسلامي للغزو الصليبي من الغرب، والغزو المغولي من الشرق، فيما بين نهاية القرنين الخامس والسابع الهجريين/ الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين، لعل ذلك كان أشد وأقسى النكبات التي حاقت به حتى بدا كأن العالم الإسلامي صائر إلى زوال «1» . غير أن النتيجة كانت خلاف ذلك؛ فقد انتصر الإسلام في النهاية على هذين العدوين الخطيرين، ورد الصليبيين إلى بلادهم مهزومين مدحورين، يجرون أذيال الخيبة والخسران. أما المغول فبعد هزيمتهم عسكريّا- لأول مرة منذ خروجهم من بلادهم غازين مدمرين- على أيدي المسلمين في موقعة عين جالوت الخالدة على أرض فلسطين العربية الإسلامية سنة (658 هـ/ 1260 م) . بعد هزيمتهم تلك أتبع الإسلام نصره العسكري عليهم نصرا آخر أعظم فقد أدخلهم سلما وطواعية في عقيدته وأذابهم في

_ (1) انظر ما قال المؤرخ العربي المسلم ابن الأثير عن نكبة الغزو المغولي لبلاد المسلمين، وما أحدثوه من خراب ودمار ووحشية جعلته يتردد في كتابة وتسطير هذه الكارثة وحتى ظن أن العالم الإسلامي سيتلاشى، وابن الأثير يقول هذا مع أنه لم يشهد ما فعله المغول ببغداد عاصمة الخلافة العباسية، بل عاصمة الإسلام والمسلمين في ذلك الوقت سنة (656 هـ/ 1258 م) فماذا كان يمكن أن يقول لو عرف أنهم قتلوا من سكانها أكثر من مليون ودمروا حضارتها وصنعوا من الكتب جسرا عبروا عليه نهر دجلة بخيولهم؟! توفي ابن الأثير سنة (630 هـ) - انظر الكامل في التاريخ (12/ 358) .

بوتقته وحضّرهم، بل حولهم هم أنفسهم- وهم الذين بلغوا درجة من الوحشية والهمجية لم يبلغها أحد قبلهم- إلى بناة حضارة، فقد شاد المغول باسم الإسلام حضارة راقية ارتبطت باسمهم وبصفة خاصة في الهند- ظلت قائمة حتى دهمها الاستعمار الأوربي منذ مطلع القرن السادس عشر الميلاد، ولا تزال آثارها شاهدة على ازدهارها ورقيها وتلك هي عظمة الإسلام، التي حولت المتوحشين إلى متحضرين. كانت هزيمة المسلمين في البداية أمام الصليبيين والمغول وانتصارهم في النهاية سنة من سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير، ولا تجامل أحدا من خلقه؛ «فقد كان واقع المسلمين- عند ما داهمهم الصليبيون والمغول- سيئا مليئا بالمعاصي والبدع والانحرافات والشتات والفرقة، والاشتغال بذلك كله عن نصرة دين الله، والتمكين له في الأرض، ولذلك اجتاحت جيوش الأعداء أراضي الإسلام، وأزالت سلطانهم إلى حين، ولكن جذوة العقيدة كانت ما تزال حية في النفوس وإن غشيتها غاشية من التواكل والسلبية، أو الانشغال بشهوات الأرض. فما أن جاء القادة الذين يردون الناس إلى الجادة، بدعوتهم للرجوع إلى حقيقة الإسلام، حتى صحت الجذوة واشتعلت، فجاء على أثرها النصر؛ فحين قام صلاح الدين الأيوبي يقول للناس: «لقد هزمتم لبعدكم عن طريق الله، ولن تنتصروا حتى تعودوا إلى الطريق.. وحين صاح السلطان قطز صيحته الشهيرة: واإسلاماه، وتبعتهم جماهير الأمة المسلمة فصدقت الله في عقيدتها وسلوكها؛ جاء نصر الله، وتغلب المسلمون على أضعافهم من المشركين والكفار» . «1» فهل هناك أمل أن يجتاز العالم الإسلامي محنته الحالية، وأن يخرج من هذا الحصار العالمي القاسي وأن يملك زمام نفسه، وأن يستمتع بثرواته ويسخرها لمصلحة أبنائه؟ علم ذلك عند ربي؛ لأن أعداء الإسلام اليوم أقوى بكثير من أعداء الأمس، ووحشيتهم وقوتهم في عداوتهم ربما لا تقل عن وحشية المغول والصليبيين وأدواتهم في الكيد والقهر والإذلال بغير حدود، ولكن على الرغم من كل ذلك فلا ينبغي للمسلمين أن يفقدوا الأمل في نصر الله الذي وعد به عباده المؤمنين، حيث قال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] ، بشرط أن يكونوا مؤمنين حقّا، وأن يحضروا أنفسهم للخلاص من السيطرة والهيمنة الغربية الجهنمية.

_ (1) محمد قطب- واقعنا المعاصر (ص 7) مكتبة رحاب- الجزائر سنة (1989 م) .

* جر العالم الإسلامي إلى أحلاف تخدم الأهداف الاستعمارية:

* جر العالم الإسلامي إلى أحلاف تخدم الأهداف الاستعمارية: معظم بلاد العالم الإسلامي وقعت فريسة للاستعمار الغربي، وبصفة خاصة قطبي هذا الاستعمار- أو الاستدمار- كما سماه مالك بن نبي- إنجلترا وفرنسا، ولا نريد أن نتحدث هنا عن الحقبة الاستعمارية وماسيها وفظائعها، فهذا الحديث ليس هذا مكانه، وإنما نريد الحديث عن فترة ما بعد الاستعمار، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة (1945 م) وحتى استقلال آخر الدول العربية والإسلامية في مطلع السبعينيات من هذا القرن العشرين، لقد خرج الحلفاء الغربيون ومعهم الاتحاد السوفيتي منتصرين في هذه الحرب على دول المحور- ألمانيا وإيطاليا واليابان- ولكنهم خرجوا أعداء، فإذا كان التصدي لخطر النازية قد وحدهم، فقد كان ذلك ضرورة زالت بزوال الخطر، وأصبح حلفاء الأمس أعداء اليوم، وبدأ بينهم ما عرف بسنوات الحرب الباردة، وانقسموا إلى كتلتين متعاديتين عقائديّا وسياسيّا واقتصاديّا، كتلة غربية رأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكتلة شرقية شيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي. وقد حاولت كل من القوتين استخدام العالم الإسلامي ورقة رابحة في صراعها مع الآخرى. ولما كان معظم بلدان العالم الإسلامي لا يزال تحت سيطرة الاستعمار الغربي، وكان يعاني من ذلك الأهوال ويحاول جاهدا التخلص من تلك السيطرة البغيضة، فقد انتهز الاتحاد السوفيتي الفرصة ورفع شعار مناصرة البلاد المستعمرة المتطلعة إلى الحرية والاستقلال، ووقف بالفعل مع بعض البلاد العربية والإسلامية، وقدم لها مساعدات لا تنكر حتى نالت استقلالها «1» . ومن ثم فقد استطاع استقطاب عدد لا بأس به من تلك الدول وجعلها تتعاطف معه في كل موقف دولي يواجه به الولايات المتحدة الأمريكية، وأبرز مثال على قدرة الاتحاد السوفيتي في استقطاب بعض الدول العربية والإسلامية وجعلها تدور في فلكه ما حدث وسط حركة عدم الانحياز التي أسسها ثلاثة من كبار الشخصيات العالمية في تلك الفترة سنة (1961 م) وهم رئيس وزراء الهند الراحل جواهر لال نهرو، والزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، والزعيم اليوغسلافي الراحل جوزيف تيتو، وهذا الأخير مع انتمائه عقائديّا إلى الكتلة الشرقية الشيوعية إلا أنه لم يطق

_ (1) د. جمال حمدان- العالم الإسلامي المعاصر (ص 146) طبع عالم الكتاب- القاهرة (1410 هـ/ 1990 م) .

الهيمنة السوفيتية على هذه الكتلة وتمرد عليها وتخلص منها مبكرا، وأصبح واحدا من أقطاب حركة عدم الانحياز، غير أن تلك الحركة لم تستطع المحافظة على شعارها- وهو عدم التحايز إلى أي من الكتلتين المتصارعتين- قط، فالمصالح والأيدلوجيات، كانت تجذب هذه الدولة أو تلك إلى الكتلة التي تحقق لها مصالحها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك «كوبا» ، التي تعد من أبرز دول كتلة عدم الانحياز، إلا أنها لم تخف أبدا انحيازها إلى الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة، الأمر الذي جعلها في عداء دائم مع جارتها القريبة، الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن جمال عبد الناصر أحد المؤسسين للحركة، لم يستطع أبدا أن يكون غير منحاز بالمعنى الذي تفرضه الحركة، وكان الامتحان العسير له في ذلك عند ما اجتاحت القوات السوفيتية تشيكوسلوفاكيا سنة (1968 م) فيما يسمى بربيع براغ، وطلب منه صديقه وزميله في قيادة الحركة تيتو أن يندد بهذا الاجتياح أو حتى ينتقده، لكن عبد الناصر لم يستطع أن يفعل ذلك لضرورات سياسية قدّرها وقتها، فقد كان خارجا لتوه من هزيمة سنة (1967 م) القاسية، وكان في حاجة إلى الدعم العسكري والسياسي من الاتحاد السوفيتي، فلم يستطع أن يندد ولا أن ينتقد، وهذا الموقف تسبب في جفوة بينه وبين صديقه الحميم تيتو، لكنه كان من الموقف أو الأمثلة التي برهنت على أن المصالح أقوى من المبادئ ولها الأولوية عليها. هذه بعض الأمثلة على اختراق الاتحاد السوفيتي لحركة عدم الانحياز ونفوذه داخلها، فماذا عن الولايات المتحدة وكتلتها الغربية؛ لا شك أن هذه الكتلة كان تأثيرها أكبر وأخطر على دول عدم الانحياز وبصفة خاصة على الدول العربية والإسلامية داخل تلك الحركة. وذلك بحكم القوة الهائلة والثروة الكبيرة التي تتمتع بها هذه الكتلة الغربية والنفوذ الطاغي في الميادين الدولية على المؤسسات السياسية والمالية، مثل مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ... إلخ وكل الدول تحتاج إلى هذه المؤسسات، ومن يخرج على إرادة أمريكا وحلفائها، فالويل له ثم الويل، بل وحتى قبل قيام حركة عدم الانحياز سنة (1961 م) استطاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون أن تجنّد كثيرا من الدول الإسلامية لخدمة مصالحها وتحقيق أهدافها في صراعها مع الكتلة السوفيتية الشيوعية، وقد استثمرات العداء العقائدي بين الإسلام والشيوعية، كمذهب إلحادي ينكر وجود الله عزّ وجلّ، ونجحت في تخويف الدول الإسلامية، وبصفة خاصة المتاخمة

لحدود الاتحاد السوفيتي من المد الشيوعي الملحد، ومن العجيب أن النفاق السياسي والجري وراء تحقيق الأهداف والمصالح السياسية والاقتصادية جعل الغرب الاستعماري المسيحي يعمل على إحياء مبدأ الجهاد الإسلامي واستنفاره لمقاومة الشيوعية، من منطلق وحدة الأديان السماوية ضد الإلحادية اللادينية، وأن على العالم الإسلامي أن يجمع قواه في جبهة مع العالم المسيحي ضد الشيوعية، «في هذا السبيل شهدت تلك الفترة حركات فكرية، ومؤتمرات دعائية، ولقاآت لاهوتية عديدة، بدرجة لافتة للنظر، وتضرب كلها على نغمة التقارب بين الإسلام والمسيحية، وعلى وحدة الرسالات السماوية» «1» وقبل أن نمضي في بيان الإجراآت التي اتخذتها الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة لجر العالم الإسلامي وراءها في أحلاف عسكرية للوقوف في وجه العالم الشيوعي، يجب أن نسجل حقيقة يعلمها الجميع، وهي أن الكتلة الغربية الاستعمارية المسيحية طالما حملت على الإسلام وشهرت به، وسخرت منه، وألصقت به كل الجرائم والكرائه، وبصفة خاصة مبدأ الجهاد، الذي كان دائما يفسر عند الغرب على أنه دعوة عدوانية دموية متعصبة، ويهاجم بحسبانه دعوة إلى حروب دينية. أما الآن فعندما ما احتاج الغرب إلى سيوف المسلمين لمقاومة الشيوعية فقد رضي فجأة عن مبدأ الجهاد، وعرف قيمته وأخذ يسخره لحسابه الخاص في صراعه مع العالم الشيوعي، بل راح الغرب على لسان أكبر ساسته يكيل المديح للجهاد الإسلامي ويعترف بأن مقاومة المسلمين للشيوعية كانت أنجح وأقوى وأكثر تأثيرا من مقاومة الغرب، والسبب في ذلك يعود- حسب كلامهم- إلى أن مقاومة المسلمين للشيوعية كانت تنبع من دافع عقائدي، بينما الدافع الغربي للمقاومة كان من موقع المصلحة النفعية الرأسمالية. ومن يطالع كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون- «انتهزوا الفرصة» - يجد كلاما كثيرا في هذا المجال، بل أكثر من ذلك فإن الغرب الاستعماري المسيحي كان إذا خير بين السيطرة الإسلامية على منطقة من المناطق وبين السيطرة الشيوعية، فإنه كان يختار السيطرة الإسلامية، وإليك هذا المثل: يذكر الدكتور محمود حب الله، وهو أزهري مصري كان مديرا للمركز الإسلامي

_ (1) د. جمال حمدان- المرجع السابق (ص 145) ، د. مصطفى محمد رمضان في بحث له بعنوان «جرائم العنف والتطرف التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية» رؤية تاريخية نشر في أعمال المؤتمر الدولي- العلوم الاجتماعية ودورها في مكافحة جرائم العنف والإرهاب في المجتمعات الإسلامية- القاهرة سنة (1998 م) .

* الأحلاف الغربية الإسلامية:

في واشنطن في مطلع الستينيات: أنه دعا إلى المركز أحد العلماء الأمريكيين، الذين كانوا عائدين من زيارة إلى إفريقيا. لكي يحاضر في المركز عن مستقبل تلك القارة السمراء بعد خروج الاستعمار منها، فذكر ذلك العالم الأمريكي في محاضرته: أنه وجد أن إفريقيا بعد خروج الاستعمار منها بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يجتاحها الإسلام أو الشيوعية؛ لأن إفريقيا كرهت الدول الاستعمارية، ولا تريد أن ترى لها ظلّا في إفريقيا. وأن إفريقيا لم تعد بعد زوال الاستعمار مكانا خصبا للمسيحية، ثم تساءل- العالم الأمريكي- ما موقفنا نحن في أمريكا؟ هل نناصر الشيوعية أم نناصر الإسلام؟ فإذا لم يسيطر الإسلام- ووسائل سيطرته سهلة ميسورة- فستسيطر الشيوعية، وبناء على هذا أعلن الرجل في محاضرته أنه ينبغي على أمريكا ألا تقف في سبيل ما يقوم به المسلمون لنشر الإسلام في إفريقيا؛ لأنهم ينشرون مع الدين الخلق والفضيلة، ويباعدون بيننا وبين الشيوعية «1» . * الأحلاف الغربية الإسلامية: في خضم صراعه مع الشيوعية، في فترة الحرب الباردة، أقدم الغرب على إنشاء عدد من الأحلاف العسكرية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1945 م) حتى أن أحد الباحثين سمى هذه الفترة بفترة صناعة الأحلاف. ففي غضون عشرين عاما قدمت ونفّذت ستة مشاريع أحلاف متعاقبة؛ إما كأحلاف عسكرية دفاعية، أو كأحلاف دينية سياسية وكان مهندس هذه الأحلاف الولايات المتحدة وبريطانيا «2» . وتم جر كثير من الدول الإسلامية إليها وإجبارها على الانضمام إليها. وقد امتدت هذه الأحلاف من الباكستان شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وقد كان من أول وأبرز هذه المشروعات مشروع ظهر على مسرح السياسة العالمية في الأربعينيات المتأخرة والخمسينيات الباكرة، لإنشاء تجمع أو حلف أو جامعة إسلامية يتلخص هدفه- كما قدموه- في الوقوف كلحلف مقدس في وجه الشيوعية ليدافع عن الإسلام، ويواجه خطر الإلحاد، ويبدأ المشروع كما رسموه من موقع العالم الإسلامي الجغرافي والأيديولوجي في عالم بعد الحرب،

_ (1) انظر د. مصطفى رمضان، مرجع سابق (ص 76) نقلا عن محاضرة للدكتور محمود حب الله ألقيت في قاعة الشيخ محمد عبده بجامعة الأزهر عام (1968 م) . (2) راجع كتاب الرئيس نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 55) وما بعدها.

فبالموقع الجغرافي توضح الخريطة السياسية حقيقة مهمة، وهي أن أطول حدود مشتركة مباشرة للاتحاد السوفيتي هي مع الدول الإسلامية، ابتداء من الباكستان وأفغانستان، عبر إيران وتركيا، هذا فضلا عن أن جسم العالم الإسلامي الأساسي في مجموعه بعد هذا ظهير ضخم للكتلة الشيوعية، وإذا نحن حللنا جوهر الحلف على ضوء هذه الحقائق فسنجد أنه أساسا وفي الدرجة الأولى جزء لا يتجزء من استراتيجية الغرب لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ أعني إستراتيجية «الإحاطة والتطويق» المشهورة، التي تهدف إلى حصار الكتلة الشرقية عامة والاتحاد السوفيتي خاصة بسلسلة متصلة الحلقات من الأحلاف السياسية والعسكرية؛ تبدأ من النرويج حتى اليابان والحلف بهذا موجه إلى الخارج، أعني أنه يجند العالم الإسلامي ككل لينظر إلى خارج حدوده، وبالتحديد نحو تخومه الشمالية، وبعبارة أخرى- ورغم المخاطرة بالتكرار- ينبغي أن نصرّ على أن الحلف كان تعبيرا عن استراتيجية الكتلتين، وانعكاسا لمنطق الاستقطاب الثنائي، والحلف بهذا ليس حلفا دينيّا، رغم الاسم، ولكنه حلف سياسي عسكري «1» . هذا الحلف لم يكتب له النجاح بل مات بالسكتة القلبية لكن الغرب لم ييأس، وإنما فكر على الفور في بدائل له، تخلو من القناع الديني، وتكون سياسية وعسكرية، وكان أولها هو ما يسمى بمنظمة الدفاع عن الشرق الأوسط «2» أو الميدو Medo التي تمتد من تركيا حتى الباكستان ومن إيران حتى مصر. «وقدم الغرب بنفسه هذا المشروع.. لكل من العرب وإسرائيل، فكانت تلك الخطوة القاتلة التي أودت بالمشروع في مهده. ومن هذه التجربة الحرجة بدأ الغرب يعدل تكتيكه- الغزو من الداخل- بدلا من أن يفرض الحلف نفسه من الخارج، والتمويه- هذه المرة- بمواجهة إسرائيل، بدلا من المشاركة معها، ومن هنا كان حلف بغداد؛ الذي دعت إليه- شكليّا- دول في منطقة الشرق الأوسط، للدفاع والأمن المشترك، وروجت له- تضليلا- على أساس أنه دفاع وحماية ضد إسرائيل والصهيونية. وقد تألف الحلف من باكستان وإيران والعراق وتركيا،

_ (1) د. جمال حمدان، المرجع السابق (ص 146) . (2) راجع كتاب الرئيس الأسبق نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 55) ترجمة حاتم غانم. الطبعة الأولى سنة (1992 م) القاهرة.

وانضمت إليه بريطانيا وأمريكا، وقد كانت الضغوط لحشد الدول العربية في حظيرة الحلف ملحمة تاريخية فاشلة «1» . غير أن الحلف في نطاقه الضيق الذي انتهى إليه، فقد فعاليته وبدأ البحث عن وريث له وهو على قيد الحياة» «2» . كان حلف بغداد قد أنشئ سنة (1955 م) ، وبعد قيام ثورة العراق سنة (1958 م) انسحبت منه، وتحول اسمه إلى الحلف المركزي، ثم سقط وانتهى إلى الإهمال كما يقول الرئيس نيكسون «3» . وكان البديل الذي قدمته أمريكا لهذه الأحلاف السابقة الفاشلة هو ما سمي بمشروع أيزنهاور، الذي قدم سنة (1957 م) لملأ الفراغ الذي قيل: إنه نشأ في الشرق الأوسط بعد هزيمة بريطانيا وضياع هيبتها بعد حرب السويس سنة (1956 م) وخروجها من المنطقة، بيد أن مصير هذا المشروع لم يكن أحسن حظّا من سابقه، فلقي المصير نفسه، ودفن المورث والموروث معا في وقت واحد، على حد تعبير الدكتور جمال حمدان «4» . خلاصة ما تقدم: أن الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة قد حاولت باستماتة حشد العالم الإسلامي خلفها في صراعها مع الكتلة الشرقية الشيوعية، واستثمرات في ذلك مبدأ الجهاد الإسلامي- الذي طالما شوهته وأدانته- وجاءتها فرصة أخرى من الفرص التاريخية النادرة، التي غيرت التاريخ، وذلك حين اجتاحت القوات السوفيتية- نحو مائة ألف جندي- أفغانستان في نهاية سنة (1979 م) ، بهدف إيقاف المد الإسلامي، الذي بدأ ينطلق من أفغانستان، بتأثير الثورة الإسلامية التي تفجرت في إيران في مطلع سنة (1979 م) ذلك أن الاتحاد السوفيتي خشي من ذلك المد الإسلامي على الجمهوريات السوفيتية الإسلامية في آسيا الوسطى «5» . والحقيقة أن الاتحاد السوفيتي كان أقام سلسلة من الانقلابات العسكرية في أفغانستان منذ بداية السبعينيات من هذا القرن ونصب عليها عددا من عملائه

_ (1) قام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بدور بارز في إسقاط حلف بغداد. (2) د. جمال حمدان، المرجع السابق (ص 148، 149) . (3) راجع كتاب الرئيس نيكسون (ص 55) . (4) المرجع السابق (ص 149) وانظر كتاب نيكسون (ص 55) . (5) هذه الجمهوريات التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي هي كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرغيرستان.

الشيوعيين، ولما تبين لهم عجزهم عن السيطرة على ذلك البلد المسلم، المتمسك بإسلامه، وبعد قيام الثورة الإيرانية، أدرك أنه لا بد له أن يتدخل تدخلا سافرا إذا أراد أن يحمي مستعمراته في آسيا الوسطى، ولكنه بدلا من أن يحمي تلك المستعمرات فقد لقي هو نفسه حتفه هناك؛ لأن الولايات المتحدة لم تترك تلك الفرصة النادرة تفلت من يديها، وقررت أن تجعل من أفغانستان مقبرة تدفن فيها الاتحاد السوفيتي، أو كما سماه الأمريكان إمبراطورية الشر «1» . كانت تلك بالفعل فرصة نادرة لتثأر لنفسها من الاتحاد السوفيتي عما صنعه معها في حربها في فيتنام في حقبة الستينيات وبداية السبعينيات، فقد أحرجها وأزرى بهيبتها وجعلها تخرج من فيتنام ذليلة، وهو دولة عظمى، لقد رأى الناس في كل مكان السفير الأمريكي وهو يخرج مذعورا من سايجون متخفيا- حقّا كان موقفا مزريا بزعيمة العالم الحر. الآن جاءت الفرصة للولايات المتحدة على طبق من ذهب، فرصة لم تكن من تخطيطها ولا من تفكيرها، فلم تدّع الولايات المتحدة أن غزو القوات السوفيتية لأفغانستان كان من تدبيرها ولا من تفكيرها ولا من تخطيطها، ولكنها إرادة الله التي عجلت بزوال دولة الكفر والإلحاد، وكان غزو القوات السوفيتية لأفغانستان هو القشة التي قصمت ظهر البعير- كما يقول المثل العربي- صحيح أن زوال الاتحاد السوفيتي كان حتما مقضيّا، وزوال الشيوعية كان آتيا لا محالة؛ لأنه نظام ضد الفطرة الإنسانية، وأي نظام أو فكر أو مذهب يضاد الفطرة الإنسانية لا بد من سقوطه في نهاية المطاف حتى لو بدا أنه ناجح في البداية؛ لأن الزبد لا بد أن يذهب جفاء ولا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس، كما أخبر بذلك الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز. ولقد توقع الكثير من المفكرين الغربيين، وفيهم روس، بزوال الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، قبل نهاية القرن العشرين بل كان أسبق من هؤلاء جميعا المفكر العربي العملاق عباس محمود العقاد فقد توقع في كتابه «لا استعمار ولا شيوعية» «2» توقع سقوط الشيوعية وزوالها، وزوال الاتحاد السوفيتي قبل نهاية

_ (1) راجع كلام الرئيس نيكسون عن إمبراطورية الشر هذه في كتابه السابق (ص 79) وما بعدها. (2) راجع كتاب العقائد هذا من (ص 9) وما بعدها- الطبعة الثانية- دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان سنة (1971 م) .

القرن العشرين، بل جاء السقوط وحل الانهيار أسرع مما توقع، لا أريد للحديث أن يجنح بنا بعيدا عما قصدنا إيضاحه في هذا البحث، وهو أن الولايات المتحدة جاءتها فرصة نادرة لتوجيه الضربة القاضية لعدوها الخطير الاتحاد السوفيتي، دون أن تدخل هي بشكل مباشر ودون أن تتكلف الكثير، فها هم المسلمون جاهزون ليقوموا بالدور نيابة عنها وحماسهم لدحر الشيوعية لا حدود له، ومبدأ الجهاد الإسلامي أنجح وسيلة لتحقيق كل هذا، وهكذا أخذت الولايات المتحدة تحرض الدول الإسلامية المتحالفة معها، سواء أكانت قريبة من أفغانستان أو بعيدة عنها، أخذت تحرض الدول الإسلامية لحشد المجاهدين وملأ الساحة الأفغانية بالشباب المسلم، الذي أخذ يتدافع بقوة وبحماسة لا نظير لها من أجل نصرة أشقائهم في العقيدة، وذهب عشرات الآلاف من مصر والسعودية واليمن والأردن والسودان وفلسطين والعراق وسوريا ولبنان، وبلاد المغرب العربي، ومن باكستان وإيران وغيرها من الدول الإسلامية، بل تطوع شباب مسلم للدفاع عن أفغانستان ضد الغزو السوفيتي من مسلمي أمريكا وأوربا، وقد وصل عدد هؤلاء المجاهدين- من كل تلك البلاد- نحو ربع مليون مجاهد، وأطلق عليهم المجاهدون الأفغان. «وجعلت لهم أمريكا مراكز يتجمعون فيها قريبا من الحدود الأفغانية الباكستانية في مدينة بشاور بغربي باكستان، وكانوا يتلقون في هذه المراكز تدريبا عسكريّا مكثفا، على حرب العصابات، تشرف عليه الولايات المتحدة الأمريكية، وتدعمهم بالسلاح «1» ، وكانت بعض الدول البترولية، وعلى رأسها السعودية تدعمهم بالمال، وقدمت دول عربية أخرى وعلى رأسها مصر، الدعم بالرجال، وكانت عملية التطوع تتم تحت نظر السلطات، أو حتى بإيعاز منها «2» . ونجحت هذه القوات المجاهدة في جعل مهمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان مستحيلة، وأجبرته على أن ينسحب في مشهد من أصعب مشاهد التاريخ، حقّا لقد كان انسحاب السوفييت من أفغانستان مخزيا، وهل هناك أخزى من أن يفر جيش عملاق مدجج بالسلاح المتطور من أمام المجاهدين، الذي كان معظم تسليحهم من مخلفات الحرب العالمية الثانية، ولقد رويت في ذلك أعاجيب تناقلتها

_ (1) ريتشارد نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 13) . (2) د. مصطفى رمضان، مرجع سابق (ص 78، 79) .

وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية، ومنها أن المجاهدين الأفغان كانوا يسقطون الطائرات بالحجارة التي تقذفها المقاليع، المهم تحقق الهدف الاستراتيجي الذي ظل الغرب كله يخطط له منذ نصف قرن «1» ، وهزم الاتحاد السوفيتي، ولم يخرج من أفغانستان فقط، وإنما خرج من الدنيا كلها وأصبح أحاديث تروى بعد أن كان أحد العملاقين العالميين، وسبحان مالك الملك ومغير الأحوال. إن من يقرأ كتاب الرئيس نيكسون «نصر بلا حرب» الذي ظهر سنة (1989 م) يعرف كيف أخذ الغرب يخطط بقيادة الولايات المتحدة لهزيمة الاتحاد السوفيتي بدون حرب، وذلك عن طريق الإنفاق الهائل على التسليح المتطور للغاية وغزو الفضاء، وهو يعرف أن الاتحاد السوفيتي لم يقبل إلا بأن ينافس في هذا الميدان وقد نافس بالفعل وأصبح القوة العظمى الثانية في العالم في مجال السلاح، ولكن بعد أن تكبد نفقات باهظة لم يقو اقتصاده على تحملها وكان ذلك على حساب رفاهية المواطن السوفيتي، ومستوى معيشته، بحيث إنه في الوقت الذي كان رواد الفضاء الروسي يجوبون أجواء السماء ويدورون حول أفلاكها، في ذلك الوقت كان المواطن السوفيتي على الأرض يئن من أعباء المعيشة ويجد مشقة بالغة في الحصول على الغذاء اليومي، وتعرف الدنيا كلها أن الاتحاد السوفيتي- تلك القوة العسكرية الرهيبة- هو مخترع الطوابير الطويلة من البشر التي تقف أمام المخابز للحصول على الخبز، وأمام محلات البقالة للحصول على بقية الطلبات الآخرى للحياة، وكلها كانت دون الكفاية ومن أردأ الأنواع، وليس هذا في ميدان الغذاء فقط، بل في ميدان الملابس وحاجيات الإنسان الآخرى، ناهيك عن صعوبة الحصول على مسكن ملائم ... إلخ، يحدث ذلك في الاتحاد السوفيتي الذي كان يشغل مساحة 20 من اليابس على الكرة الأرضية، وموارده الطبيعية، ومحاصيله الزراعية بدون حدود، ولكن سوء الإدارة- إدارة الدولة- والفساد أدى إلى كل هذه الصعوبات، وفي النهاية إلى زوال إمبراطورية الشر على حد تعبير الرئيس الأمريكي ريجان، والذي كان يزيد من معاناة الشعوب السوفيتية التي وعدوها بجنة الشيوعية أنها كانت ترى وتسمع عن حياة المواطن العادي- وبصفة خاصة الطبقة العاملة- في الدول الرأسمالية الغربية، أنه يعيش حياة حرة كريمة، بل مترفة ومما كان

_ (1) ريتشارد نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 13) .

* حربا الخليج الأولى والثانية وتدمير العراق:

يزيد من معاناة تلك الشعوب السوفيتية أيضا ما كانت تراه وتسمعه عن حياة البذخ- الذي لا حدود له- التي كان يحياها أعضاء الحزب الشيوعي وعائلاتهم وأنصارهم، وأن كل متطلبات الحياة المترفة كانت في متناول أيديهم وبأيسر السبل، ومن منتجات الغرب الرأسمالي، بدا من العطور الفاخرة وانتهاء بالسيارات الفارهة، أو قل: بدون انتهاء. خلاصة القول: أن الولايات المتحدة أخذت تخطط هي وحلفاؤها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لهزيمة الاتحاد السوفيتي بدون حرب، وقد نجحت في ذلك نجاحا باهرا، كشف عنه نيكسون في كتابه «نصر بلا حرب» ثم جاءت الفرصة الذهبية، وهي غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، الأمر الذي عجل بانهيار الاتحاد السوفيتي، بل زواله، وزوال الشيوعية بالتالي ولتنفرد الولايات المتحدة بزعامة العالم وفي ذلك ما فيه ونردد قول ربنا عزّ وجلّ: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 10] . * حربا الخليج الأولى والثانية وتدمير العراق: إن الهدف الاستراتيجي للسياسة الغربية التي تقودها الولايات المتحدة هو إضعاف الأمة العربية إلى أقصى حد لمصلحة إسرائيل، وبصفة خاصة دوله الفاعلة والتي يخشى منها على إسرائيل، وفي مقدمتها مصر وسوريا والعراق، وهذا الهدف الاستراتيجي الغربي لم يتغير حتى بعد بدء عملية السلام مع إسرائيل والتي قادتها أكبر دولة عربية، وهي مصر، منذ زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس في (19 نوفمبر سنة 1977 م) . ويكفي في هذا المجال أن نلقي نظرة على مقال نشر في صحيفة «كيفونيم» اليهودية بتاريخ (14 نوفمبر 1982 م) واقتبس منه روجيه جارودي في كتابه «ملف إسرائيل؛ دراسة للصهيونية العالمية» هذا المقال يوضح السياسة المطلوب اتباعها في المنطقة المحيطة بإسرائيل. يقول المقال بالنص ما يلي: «استعادة سيناء بثرواتها هدف ذو أولوية. ولكن اتفاقات كامب ديفيد تحول الآن بيننا وبين ذلك.. لقد حرمنا من البترول وعائداته، واضطررنا للتضحية بأموال كثيرة في هذا المجال. ويتحتم علينا الآن استرجاع الوضع الذي كان سائدا في سيناء قبل زيارة السادات المشؤومة، وقبل الاتفاقات التي وقعت معه سنة 1979 م ... والوضع الاقتصادي في

مصر، وطبيعة النظام الموجود بها، وسياستها العربية كل هذا سيؤدي إلى مجموعة ظروف تدفع بإسرائيل إلى التدخل.. فمصر بسبب نزاعاتها الدخلية لم تعد تشكل بالنسبة إلينا مشكلة استراتيجية ومن السهل أن نجعلها تعود خلال 24 ساعة إلى الوضع الذي كانت عليه بعد حرب يونيو (1967) . لقد ماتت أسطورة مصر زعيمة العالم العربي، وفقدت مصر 50 من قدرتها.. وكبناء موحد أصبحت مصر جثة هامدة، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار المجابهة المتزايدة والمتصاعدة بين المسلمين والمسيحيين، بها ويجب أن يكون هدفنا هو تقسيمها إلى أقاليم جغرافية متباينة في الثمانينيات، فإذا تمت تجزئة مصر، وإذا فقدت مصر سلطتها المركزية، فلن تلبث بلدان مثل ليبيا والسودان وبلدان أخرى أبعد من ذلك أن يصيبها التحلل، وتشكيل حكومة قبطية في مصر العليا- الصعيد- وإقامة كيانات صغيرة إقليمية، هو مفتاح تطور تاريخي. يؤخره حاليا اتفاق السلام، ولكونه تطور آت لا محالة على الأجل الطويل.. ومشكلات الجبهة الشرقية أكثر وأشد تعقيدا من مشكلات الجبهة الغربية. وهذا على عكس ما يبدو في الظاهر. وتقسيم لبنان إلى خمسة أقاليم يوضح ما يجب أن ينفذ في البلدان العربية، وتفتيت العراق وسوريا إلى مناطق تحدد على أساس عنصري أو ديني يجب أن يكون هدفا ذا أولوية بالنسبة لنا على الأجل الطويل. وأول خطوة لتحقيق ذلك هو تدمير القوة العسكرية لتلك الدول. والتشكيل السكاني لسوريا يعرضها للتمزق، وقد يؤدي إلى إنشاء دولة شيعية على الساحل، ودولة سنية في منطقة حلب، وأخرى في دمشق، وإنشاء كيان درزي قد يرغب في أن تحول إلى دولة على أرض الجولان التابعة لنا تضم حوران وشمال المملكة الأردنية.. ومثل هذه الدول ستكون على المدى الطويل ضمانا لأمن وسلام المنطقة. وهذا هدف في متناولنا فعلا تحقيقه. أما العراق فهي غنية بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية وسيكون تفككها أهم بالنسبة لنا من تحلل سوريا؛ لأن العراق يمثل- على الأجل القصير- أخطر تهديد لإسرائيل، وقيام حرب سورية عراقية سيساعد على تحطيم العراق داخليّا، قبل أن يصبح قادرا على الانطلاق في نزاع كبير ضدنا، وكل نزاع داخلي عربي سيكون في صالحنا، وسيساعد على تفكك العرب.. وربما ساعدت الحرب العراقية الإيرانية على ذلك الانحلال والضعف في صفوف العرب.. والأردن هدف استراتيجي في التو واللحظة، لن

يشكل أي خطر لنا على الأمد الطويل، بعد تفككه ونهاية حكم الملك حسين، وانتقال السلطة إلى الأغلبية الفلسطينية. وذلك أمر يجب أن يسترعي انتباه السياسة الإسرائيلية، فمعنى هذا التغيير هو حل مشكلة الضفة الغربية ذات الكثافة السكانية العربية الكبيرة، فهجرة هؤلاء العرب شرقا- إما بالسلم أو بالحرب- وتجميد نموهم الاقتصادي والسكاني هو الضمانات الأكيدة للتحولات المقبلة. وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا للإسراع بتلك العملية. وينبغي رفض خطة الحكم الذاتي، وأية خطوة أخرى تتضمن حلّا وسطا أو تعايشا وتصبح بالتالي عقبة في سبيل فصل الأمتين ويجب أن يفهم العرب الإسرائيليون- أي الفلسطينيون- أنه لا يمكن أن يكون لهم وطن إلا في الأردن ولن يعرفوا الأمن إلا بالاعتراف بالسيادة اليهودية على كل ما يقع بين البحر ونهر الأردن» «1» . هذه مقتطفات من ذلك المقال الخطير الذي يشرح ما تبيته السياسة الإسرائيلية للأمة العربية، من أجل أن تبقى الدولة اليهودية وتتوسع وتزدهر وتهيمن وتسيطر على المنطقة العربية برمتها، وإذا حدث ذلك، تستطيع السيطرة على العالم الإسلامي كله، واليهود لا يخفون تطلعاتهم تلك بل يعلنونها في كل مناسبة، وهذا أمر لا نستبعد حدوثه لهشاشة النظم في العالم الإسلامي وقابليتها الكبيرة للاختراق- على غرار نظرية مالك بن نبي- قابلية الاستعمار- وإذا قلنا: إن هذا هو فحوى السياسة الإسرائيلية ونواياها السيئة نحو الأمة العربية- حتى بعد بدء عملية السلام. ومن أكبر دولة عربية هي مصر- فإن هذه هي الترجمة الحقيقية للسياسة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية نحو الأمة العربية، فكل ما تخطط له إسرائيل لمستقبل المنطقة يكون ليس فقط بموافقة أمريكا، بل بمباركتها ودعمها السياسي والعسكري والاقتصادي اللامحدود. وهناك تطابق كامل بين السياسة الإسرائيلية والسياسة الأمريكية نحو المنطقة، حتى أن بعض الباحثين العرب- إدوارد سعيد- لا يرى فرقا بين إسرائيل وأمريكا، ولذلك اخترع اسما جديدا لهما معا فقال بحق عنهما: إسرائيكا، بل إن بعض الباحثين يري أنه ليس هناك سياسة أمريكية فيما يتعلق بالأمة العربية، بل هي سياسة إسرائيلية تباركها وتساعد على تنفيذها أمريكا.

_ (1) روجيه جارودي- ملف إسرائيل، دراسة للصهيونية العالمية- ترجمة مصطفى كامل فودة، إصدار دار الشرق بالقاهرة- الطبعة الثانية (1404 هـ/ 1984 م) مقتطفات من (ص 161- 164) نقلا عن محمد قطب- واقعنا المعاصر (ص 532- 534) .

* حرب الخليج الأولى (1980 - 1988 م) :

* حرب الخليج الأولى (1980- 1988 م) : كجزء من تنفيذ المخطط الغربي الرهيب لإضعاف الأمتين العربية والإسلامية واستنزاف مواردها وتعطيل خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتزداد الأحوال سوآ. وتكثر البطالة والفقر والمرض، ويعم الإرهاب والقلاقل ربوع العالم الإسلامي، أشعل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الحرب بين العراق وإيران في سبتمبر سنة (1980 م) وهيأت لها كل الأجواء، فقد أوحت إلى الرئيس العراقي صدام حسين، أنه بعد مقاطعة مصر وإخراجها من جامعة الدول العربية عقابا لها على توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل- تلك المقاطعة التي لعب فيها صدام حسين نفسه الدور الأكبر- أوحت إليه السياسة الغربية أنه أصبح الآن مرشحا لخلافة مصر في زعامة الأمة العربية، ولكن يحول دون ذلك عقبة كبيرة هي إيران- ذات المكانة والهيبة والأهمية في المنطقة وبصفة خاصة في الخليج ذي الأهمية البالغة لاقتصاديات الغرب- أي: إن صدام حسين ليس بمقدوره أن ينفرد بالزعامة على الأمة العربية مع وجود إيران، إذن ما الحل؟ لا حل سوى إزاحة إيران من الطريق، هكذا أقنعت السياسة الغربية صدام حسين فارتكب واحدة من أكبر وأشنع الحماقات السياسية في التاريخ الإسلامي كله، حيث اقتنع وبلع ذلك الطّعم الخطير، وصدق بسذاجة سياسية لا نظير لها أنه قادر على هزيمة إيران، ولا أدري كيف أقنع نفسه بذلك «1» ؟! على كل حال نحن الآن لا نحاكم صدام حسين، فليست هذه آخر جرائمه ضد العالم العربي والإسلامي، ولكننا نحاول إظهار وتوضيح الدور الغربي بقيادة الولايات المتحدة في إشعال حرب الخليج الأولى، التي أودت بحياة مئات الألوف من شباب الشعبين الإيراني والعراقي، وبلغت خسائرها المادية عشرات المليارات من الدولارات، ودمرت المنشات الاقتصادية في كلا البلدين الجارين للمسلمين، وتدمير البلدين لم يقتصر عليهما بل كانت له انعكاسات خارج حدودهما، وعلى جيرانهما العرب «2» .

_ (1) لا يظن أحد أن إيران خرجت مهزومة من الحرب وأن العراق خرج منتصرا بل العكس هو الصحيح، إذا كانت إيران قد وافقت على وقف إطلاق النار، فذلك لأنها أدركت عواقب الحرب وأن الغرب يريد القضاء عليهما معا، ولو استطاع العراق احتلال كل إيران فإنها كانت قادرة على إخراجه منها في نهاية الأمر. (2) إن المساعدات الصخمة التي قدمتها دول الخليج البترولية للعراق وإيران معا أثرت على خطط التنمية في تلك الدول ذاتها، وعلى قدرتها على مساعدة دول عربية وإسلامية أخرى كانت في مسيس الحاجة لتلك المساعدة، أي: إن خسائر الحرب كانت وبالا ودمارا للأمة الإسلامية بأسرها.

فليس سرّا أن بعض البلاد العربية البترولية كانت تساعد طرفي النزاع ليستمر النزاع وسفك الدماء أطول فترة ممكنة؛ لأن هذه مشيئة الأمريكان، وهل هناك دولة عربية تستطيع أن تقول لأمريكا: لا؟ مرة أخرى نحن لا نحاكم العرب الآن فسيحاسبهم التاريخ لا محالة لكننا- كما قلت سابقا- نظهر الدور الغربي بصفة عامة والدور الأمريكي بصفة خاصة في تدمير العالم الإسلامي ولن نستشهد بكلام أحد في إثبات ذلك الدور سوى كلام الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون فهو يعترف بذلك الدور صراحة، بل يشيد بسياسة الرئيس الأمريكي الأسبق أيضا ريجان؛ لأنه هو الذي عاصر الحرب الإيرانية العراقية (1980- 1988 م) وهندس سياسة أمريكا نحوها يقول نيسكون: «كثير من المراقبين أنصار العودة إلى الماضي يدينون سياسة الولايات المتحدة أثناء الحرب بين إيران والعراق، وهم يعبرون عن الصدق لأننا ساعدنا بالتناوب أحد الجانبين، ومن ثم الآخر، حسب مد المعركة، وهم على حق جزئيّا فقط، إن مصالحنا تطلبت ألا يخرج أحد من الجانبين كمنتصر حقيقي. وإن إدارة ريجان تصرفت بصورة صحيحة في اللعب على الجانبين وفي السماح ببيع أسلحة إلى العراق، كان الخطأ في تجاوز الكميات المطلوبة للحد من قدرات إيران الهجومية، مما مكن صدام حسين لكي يصبح قادرا على التهديد العسكري بعد الحرب. يجب أن تحتفظ بمساحة متعمدة عند الدخول في تعاون تكتيكي لا يمكن تجنبه، مع مثل هذه الأنظمة، إن الدرس القاسي من تجربتنا مع العراق هو أن صديق اليوم الضمني يمكن أن يصبح عدو الغد اللدود وبالنسبة لحالة صدام حسين، فقد تكلف 100- مائة- بليون دولار، و 148 ضحية أمريكية لتصحيح الخطأ» «1» . هذا اعتراف صريح بالدور الأمريكي في إشعال الحرب الإيرانية العراقية واستمرارها، والخطأ الوحيد فيها حسب رأي نيكسون أن العراق خدع أمريكا وخزن أسلحة مكنته من الإقدام على جريمته الثانية الأشد حمقا والأكثر ضررا للأمتين العربية والإسلامية، هي جريمة غزو الكويت أو ما سمي بحرب الخليج الثانية.

_ (1) ريتشارد نيكسون- انتهزوا الفرصة (ص 48، 49) وهو يشير بذلك إلى تكاليف حرب الخليج الثانية، أو ما سمي بعاصفة الصحراء لإخراج صدام حسين من الكويت.

* حرب الخليج الثانية:

* حرب الخليج الثانية: من سوء حظ العرب والمسلمين أن المخططات الغربية الشيطانية لإبقائهم ضعفاء فقراء متخلفين تجد من زعماء العرب والمسلمين- جهلا وحمقا، لا عمالة أو خيانة- من يساعد الغرب على تنفيذها، ومن النماذج الصارخة على ذلك حماقة التدخل المصري في اليمن (1962 م) فلا شك أن تلك كانت مغامرة كبرى غير محسوبة بالمرة من جمال عبد الناصر، فقد كانت فخّا من فخاخ الغرب الخطيرة لاستدراج مصر إلى اليمن وتوريطها في حرب طويلة ومريرة ليحطم الجيش المصري، بل ليموت عبد الناصر نفسه في سفوح جبال اليمن وينتهي دوره كقيادة عربية وطنية ذات نفوذ طاغ وشعبية لم يتمتع بها حاكم عربي منذ صلاح الدين الأيوبي، ولا شك أن الأمة العربية كانت تعلق على ذلك البطل آمالا كبارا، وكان قادرا على تحقيق آمال أمته، لو كان أكثر خبرة وتجربة وأكثر تعقلا في اتخاذ قراراته، فلا يستطيع أحد حتى من أعدائه أن يشكك في وطنيته وحبه الخير لأمته، لكنه الجهل بالسياسة الدولية وتعقيداتها وتداخلاتها، أو الاستبداد بالرأي، كل ذلك دفعه إلى اتخاذ ذلك القرار المدمر، والذي كان من نتائجه المباشرة والمدمرة أيضا، الهزيمة المروعة في سنة (1967 م) ، وكانت تلك أيضا حماقة أخرى من حماقاته، وقرارا من أسوأ قراراته وأخطرها، فكل الشواهد، بل تقارير المخابرات العسكرية المصرية منذ أواخر سنة (1966 م) ، وبداية سنة (1967 م) حسب ما نشر كثير من القادة المصريين في مذكراتهم ومنهم- محمد عبد الغني الجمصي- كانت تحذره من الدخول في حرب مع إسرائيل؛ لأن الجيش المصري ليس مستعدّا لذلك، خاصة وأن نحو ثلث ذلك الجيش كان في ذلك الوقت لا يزال يكابد حربا عقيمة بدون نهاية معروفة في سفوح جبال اليمن ووديانة وكثير من أصدقاء مصر العالميين ومنهم ذو الفقار علي بوتو ويوجين بلاك وغيرهم، نبهوه وحذروه بأن هناك نية في الغرب لاصطياده وتحطيمه، بل القضاء عليه وأسموه الديك الرومي- وذلك حسب ما ذكر صديقه ومؤرخ عصره الأستاذ محمد حسنين هيكل «1» - ولكن رغم كل ذلك مضى في طريقه وأشعل الأزمة- أزمة خليج العقبة ومرور السفن الإسرائيلية فيه-

_ (1) انظر كتاب الانفجار سنة (1967 م) - محمد حسنين هيكل (ص 303) وما بعدها مركز الأهرام للطبع والنشر (1411 هـ/ 1991 م) .

وأعطى لإسرائيل والغرب فرصة من الفرص النادرة لاستدراج الجيش المصري وإلحاق أكبر هزيمة حلت به منذ عصر الفراعنة إلى وقتها. وتكبدت مصر خسائر فادحة في تلك الحرب المشؤومة، وتكبدت خسائر وتضحيات أخرى جسيمة وخاضت حرب أكتوبر (1973 م) المجيدة لتزيل عار هزيمته الفادحة في سنة (1967 م) وترد لمصر والأمة العربية كرامتها وتعيد للشرف العسكري المصري عزته ومجده. هذه مجرد نماذج، ومضى جمال عبد الناصر إلى ربه في (28/ 9/ 1970 م) ليترك أمته التي علقت عليه أكبر الآمال تلعق جراحها وتعاني مرارة الذل والهوان والهزيمة، ويترك وطنه مصر وقد احتل اليهود جزآ غاليا منه، شبه جزيرة سيناء وأغلقت نتيجة لذلك قناة السويس «1» ... إلخ. مضى جمال عبد الناصر وجاء دور صدام حسين المهيمن على العراق فعليّا منذ ثورة (1968 م) حتى مع وجود الرئيس أحمد حسن البكر، وكان صدام حسين زعيما واعدا لوطنه العراق، وأمته العربية وكانت له طموحات كبيرة لتطوير بلده صناعيّا واقتصاديّا وكانت إمكانات العراق الهائلة- ثروة بترولية كبيرة، أراضي زراعية شاسعة وأهم من هذا كله شعب حي يعج بالكفايات البشرية في كل مجال- ولو مضت الأمور كما كان يتوقع الناس في العراق، وفي الأمة العربية في عقد السبعينيات من هذا القرن، لكان العراق اليوم في طليعة الدول الغنية المتقدمة في المنطقة. لكن- وآه من لكن- لم ينتبه صدام حسين كما لم ينتبه جمال عبد الناصر قبله- إلى أن الغرب وإسرائيل لا يقبلون أن يتطور بلد عربي ويصبح خطرا على مصالح الغرب من جهة وعلى إسرائيل من جهة ثانية- وأظن ما ذكرناه نقلا عن صحيفة- كيفونيم- اليهودية قبل قليل. وما اقتبسناه من الرئيس نيكسون لا يدع مجالا للشك في هذا والواقع يؤيده. وكان على صدام حسين أن يدرك أن الغرب وإسرائيل لن يتركاه يمضي في سبيل تنمية وتطوير قدرات العراق الاقتصادية والعسكرية وكان عليه إزاء هذا أن يكون حذرا، وأن يحصن نفسه ضد ما يحاك له من هذه الدوائر الشيطانية، غير أن صدام حسين بدلا من ذلك راح يعطي لهم كل

_ (1) لم يكن إغلاق قناة السويس وخسارة عوائدها هو كل ما في الأمر، بل أدت هزيمة مصر سنة (1967 م) إلى تحطيم وتدمير مدن القناة الثلاث- السويس والإسماعلية وبور سعيد- وتهجير نحو مليون مواطن من سكانها إلى مدن وقرى وأضاف ذلك أعباء باهظة على اقتصاد مصر، ناهيك من المشكلات والماسي الاجتماعية التي ترتبت على ذلك التهجير.

الفرص والذرائع للإيقاع به، وتدمير اقتصاديات بلاده- بل وبلاد عربية أخرى كثيرة- فكانت حماقته الأولى في حربه مع إيران والتي أشرنا إليها إشارة سريعة فيما سلف من هذا البحث، وها هو الآن يرتكب الحماقة الأكبر، والأشد خطرا عليه وعلى أمته العربية بل على عالمه الإسلامي، حيث بلع الطّعم مرة أخرى، فكما أقنعته السياسة الغربية الماكرة بقدرته على هزيمة إيران، وإزاحتها من طريق سيطرته على العالم العربي، ها هي ذات السياسة تصنع له خديعة أخرى حيث أفهمته السفيرة الأمريكية في بغداد- جاسبي إبريل «1» - مكرا وخداعا- أن أمريكا لن يهمها في شيء إذا هو زحف على الكويت وأخذها؛ لأنه لا توجد اتفاقيات دفاع مشترك بين أمريكا والكويت ولا أدري كيف انطلت هذه الخدعة على الرئيس صدام حسين، وكيف بلع ذلك الطعم المسموم؟! لأنه ليس أمريكا فقط وحلفاؤها الذين لا يقبلون أن يبلع صدام حسين الكويت، ويسيطر على 50 من بترول العالم، بل هناك دول إقليمية مجاورة للعراق وقريبة منه ترى في احتلاله للكويت تهديدا لمصالحها وأمنها، ومن هذه الدول إيران وتركيا ومصر وسوريا والسعودية وبقية دول الخليج، ناهيك عن إسرائيل، التي كانت تعتبر العراق ألد أعدائها، وكان قصارى أمانيها أن تورطه في حرب مع سوريا، ولكن حسن الحظ الذي لازم إسرائيل منذ وجودها، ساق لها فرصة نادرة، فبدلا من توريط العراق في حرب مع سوريا شاءت سياسة زعيمه صدام حسين أن تورطه في حرب مع العالم، وأن يدمر بلده تدميرا كاملا، أقدم صدام حسين على غزو الكويت في (2/ 8/ 1990 م) وبذلت محاولات كثيرة عربية منها مؤتمر القاهرة (8- 10 أغسطس سنة 1990 م) ودولية لإخراجه من الكويت ولكنه ركب رأسه ولم يصغ لأي صوت ناصح. فكانت حرب الخليج الثانية- عاصفة الصحراء المدمرة والتي استمرت ما يقرب من أربعين يوما (16 يناير- 24 فبراير سنة 1991 م) والتي أحدثت في العراق من الدمار والخراب ما يحتاج إصلاحه ربما إلى قرن كامل- والأخطر من ذلك الحصار القاتل الذي استطاعت أمريكا بنفوذها أن تفرضه على الشعب العراقي لتجويعه، ويعرف العالم كله كم من أطفال العراق يموتون من سوء التغذية، وكم من رجاله ونسائه يموتون وتفتك بهم الأمراض

_ (1) اختفت هذه السفيرة تماما ولم يعد أحد يحس لها وجودا وكأن الأرض قد انشقت وبلعتها؛ لأنه كان مطلوبا ألا تتكلم أبدا.

* الإسلام العدو الأول للغرب:

لعدم وجود الدواء الكافي. نحن لا نناقش هنا وجه الظلم في سياسة حصار العراق، وفرض الوصاية الدولية على مقدراته وثرواته فهذا موضوع آخر يتعلق بالنظام الدولي الجديد والعدالة التي تنشرها أمريكا في العالم بعد أن انفردت بزعامته. ولكننا فقط نلوم الزعيم الذي عرض وطنه وأمته لهذا البلاء المبين والكرب العظيم، ولم يدرك أن الخروج على الخطوط الحمراء للسياسة الأمريكية يؤدي إلى الحتف، ومن سوء حظه أنه كان أول من خرج على هذه الخطوط وأول متمرد على النظام العالمي الجديد وعلى زعامته، مما استوجب من وجهة نظرها أن تكون ضربته قاتلة بل مدمرة ليكون عبرة لمن يعتبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. * الإسلام العدو الأول للغرب: هكذا يقول الغربيون صغارا وكبارا، من رؤساء الدول وزعماء السياسة إلى الصحفيين والكتاب، الإسلام العدو الأول للغرب والحضارة الغربية بعد زوال الشيوعية. الإسلام الذي كان الحليف الأول والأكثر فعالية للغرب في صراعه مع الشيوعية. أصبح اليوم- بين عشية وضحاها- العدو الأول، ومبدأ الجهاد الذي استثمره الغرب في القضاء على الشيوعية، أصبح الآن هو الإرهاب بعينه، وهذا العداء الغربي للإسلام لا يخفيه الغربيون أبدا، بل يعلنونه بتفاخر بلسان حالهم وبأفعالهم معا. وكل تعاملهم مع المسلمين يقوم على منطق التعالي والإحساس بالتفوق وأنهم الأذكى والأعلم والأكثر تحضرا، بل لا يعترفون أبدا للعالم الإسلامي بأي تحضر، وكيف يكون متحضرا وهو العدو الأول للحضارة، وعلى الرغم من المؤتمرات والندوات واللقاآت التي تعقد في الغرب وفي البلاد الإسلامية- وما أكثرها- تحت شعار التعاون والتحاور والآفاق المشتركة- بين العالم الإسلامي والغرب- رغم كل هذا إلا أن التصرفات العملية تنضح بالاحتقار للعالم الإسلامي من جانبهم. وأكثر بلد تظهر فيها تلك الروح العدائية للإسلام والمسلمين هي أمريكا وهذا هو الرئيس نيكسون الذي يقول في صراحة يحسد عليها ودون مواربة: «لا توجد دولة ولا حتى الصين الشيوعية، تحظى بالصورة السلبية- تعبير مهذب عن الكراهية والعداء- في الضمير الأمريكي، كما هو الحال بالنسبة للعالم الإسلامي» «1» ويقول نيكسون عبارة أخرى: «إن العالم الإسلامي يشكل واحدا من أعظم التحديات

_ (1) انتهزوا الفرصة، مرجع سابق (ص 39) .

للسياسة الخارجية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين» «1» . وما دام العالم الإسلامي يحظى في الضمير الأمريكي بهذا القدر من العداء والكراهية وما دام يشكل أعظم التحديات للسياسة الخارجية الأمريكية في القرن القادم فلا بد أن تجند أمريكا- وحلفاؤها- كل قواها لمحاصرة هذا العالم وتتخذ من الإجراآت ما يجعله دائما ضعيفا مفككا حتى لا يشكل لها خطرا. ومن مظاهر هذا العداء الغربي للإسلام ومن الإجراآت التي بدأت تؤتي ثمارها في هذا المجال ويمكن أن نوجزها في عدة نقاط، على النحو التالي: أ- الانهيار الاقتصادي السريع الذي حدث في دول جنوب شرق آسيا خاصة الدول الإسلامية- أندونيسيا وماليزيا- منذ مطلع العام الماضي (1997 م) . وأيادي الغرب وأمريكا خاصة ليست خافية في هذا المجال، فهي لا تريد أبدا أن تقوم أية نهضة أو تنمية اقتصادية في أي بلد إسلامي، حتى لا تسري العدوى إلى غيرها، فلا بد أن يرتبط الإسلام دائما بالتخلف والفقر ليعيش المسلمون ضعفاء فقراء أذلاء. ب- منع أي تقارب أو تجمع سياسي أو اقتصادي بين الدول الإسلامية، والمثل القريب جدّا مجموعة الثمانية؛ التي دعا إليها رئيس وزراء تركيا السابق ورئيس حزب الرفاه الإسلامي، نجم الدين أوربكان، الذي دعا إليه إضافة إلى تركيا، إيران وباكستان وأندونيسيا وماليزيا وبنجلاديش ومصر ونيجريا، هذا التجمع الذي يضم ثمان من كبريات الدول الإسلامية، والتي يبلغ مجموع سكانها أكثر من ثمانمائة مليون مسلم، ومنها دول متطورة اقتصاديّا وصناعيّا مثل مصر وتركيا وإيران وأندونيسيا وماليزيا وباكستان، ومنها دول بترولية أعضاء في منظمة الأوبك مثل إيران وأندونيسيا ونيجريا، هذا التجمع لو قدر له أن يظهر إلى حيز الوجود لكان من الممكن أن يكون تكتلا اقتصاديّا إسلاميّا هائلا، ويمكن أيضا أن يكون قوة سياسية مؤثرة في سياسة العالم، وفوق كل هذا؛ بل أهم من هذا يمكن أن يرفع الروح المعنوية للعالم الإسلامي، ويخلصه من حالة الإحباط التي يعانيها، ولكن كيف ذلك، وهل يسمح النظام العالمي الجديد بذلك؟ أبدا؛ دون ذلك خرط القتاد، وأول ضربة توجه إلى هذا الوليد قبل أن يرى النور كانت القضاء على الداعي إليه، نجم الدين أربكان، بل القضاء على حزبه وإخراجه من الساحة السياسية في تركيا،

_ (1) المرجع السابق (ص 54) .

ليموت الحلم قبل أن يولد، وجر تركيا أو إجبارها على الدخول في تحالف استراتيجي- سياسي وعسكري واقتصادي- مع إسرائيل بمباركة أمريكا ومشاركتها، وإفساح المجال لها في السوق الأوربية كتعويض لها عن اتجاهها الإسلامي الذي لا يرضى عنه الغرب. وطبعا السياسة الغربية لم تكن غافلة عن الصحوة الإسلامية في تركيا وزحف الإسلاميين على الحكم، ولا غافلة عن أهمية تركيا بالنسبة للغرب- حتى بعد زوال الشيوعية- بل ربما تكون أهميتها قد زادت بالنسبة للغرب بعد زوال الشيوعية؛ لأنها ستكون ورقة رابحة في يد الغرب لإجهاض أية نهضة إسلامية، ولجعلها تتخذ سياسة مناهضة لمصلحة العالم الإسلامي وهذا هو ما يحدث الآن بالفعل، والذي يعد نتيجة لتخطيط غربي ذكي وماكر، ومن عادته أن يعد للأمر عدته قبل أن يحدث، انظر ماذا يقول الرئيس نيكسون عن تركيا: وتركيا الجسر الجغرافي والثقافي- الذي- يربط بين العالمين الغربي والإسلامي، تتمتع بحكومة ديمقراطية عاملة منذ 9 سنوات وقدمت قوات للناتو- حلف شمال الأطلسي- أكبر من أي دولة عضو في الحلف ويجب أن ندفع حلفاءنا الأوربيين لقبول تركيا في السوق الأوربية واتحاد أوربا الغربية «1» ، ولهدف حقيقي هو إبعادها عن محيطها الإسلامي بل جعلها تتبنى سياسة مناهضة لنهضة وتقدم العالم الإسلامي، وهو ما حدث بالفعل. ج- سياسة الحصار والتجويع التي تمارسها السياسة الغربية بزعامة الولايات المتحدة لبعض الدول العربية والإسلامية التي لا تخضع لسياستها وتخرج عن طاعتها، المثل الصارخ لذلك: حصار العراق وليبيا، وإلى حد ما: السودان وإيران. د- تصنيع الإرهاب من الجهاد: لقد اقتبست هذا العنوان من بحث الدكتور مصطفى رمضان الذي سبقت الإشارة إليه «2» . إن أمريكا هي الصانع الأول للإرهاب والإرهابيين في العالم، والنواة الأولى لذلك هم المجاهدون الأفغان الذين جندتهم الولايات المتحدة- من بعض البلاد العربية والإسلامية- ودربتهم وسلحتهم، واستخدمتهم لتحقيق هدفها وهو إخراج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان وقد تحقق الهدف الأمريكي ربما بأكثر مما كانت تتوقع

_ (1) انتهزوا الفرصة- مرجع سابق (ص 50) . (2) (ص 83) .

أمريكا، فلم يخرج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان ذليلا محطما فقط، بل خرج من الدنيا كلها وحدث الزلزال الذي أودى بالبنيان كله، فقد زال الاتحاد السوفيتي وترك الساحة العالمية لأمريكا تمرح وتعربد فيها وحدها. وحديثنا ليس عن هذا ولكن عن المجاهدين الذين كانوا قرة عين أمريكا، والذين ربتهم ودربتهم مخابراتها ذات الخبرة الكبيرة في التدريب على الخراب والدمار. فماذا حدث لهم بعد أن حققوا لها ما كانت تصبو إليه في أفغانستان؟ يبدو أن أمريكا قد أعدت للأمر عدته؛ كعادتها في عدم ترك أي شيء للصدفة والارتجال، ولا شك أن السياسة الغربية كلها لا تعرف الارتجال، بل تقوم على تخطيط سليم، يقوم به خبراء متمرسون في كل مجال من مجالات الحياة؛ لذلك خططت لمصير المجاهدين أثناء جهادهم في أفغانستان حتى إذا انتهت مهمتهم هناك بدأت تستثمرهم في مهمة أخرى؛ مهمة أيضا بالنسبة لها وهي إرباك العالم الإسلامي وإغراقه في بحور من الفتن والإرهاب، فقد كان تحالفها مع العالم الإسلامي أثناء الحرب الباردة ضد العالم الشيوعي تحالف ضرورة، تماما كتحالفها مع العالم الشيوعي نفسه أثناء الحرب العالمية الثانية- ضرورة للوقوف في وجه النازية- وبعد أن انتهت الحرب الساخنة بدأ العداء مع العالم الشيوعي فيما يسمى بالحرب الباردة، والذي جعل العالم الغربي يتحالف مع العالم الإسلامي ضده، فلما انتهت الحرب الباردة وسقط العالم الشيوعي وهزم بدون حرب، تحول العالم الإسلامي من حليف إلى عدو؛ بل العدو رقم واحد للغرب عامة وأمريكا خاصة، ومن ثم أخذت أمريكا تعيد تصدير المجاهدين الأفغان إلى أوطانهم الأصلية لكن ليس باسم المجاهدين وإنما باسم الإرهابيين؛ لأنها شحنتهم بالكراهية الشديدة والعداء لأوطانهم- وآلتها الإعلامية في ذلك رهيبة- فلم يصمد أمامها الزعماء فكيف يصمد أمامها ذلك الشاب الغر، عاد المجاهدون الأفغان- سابقا- إلى أوطانهم كارهين كل شيء متهمين أوطانهم بالكفر والجاهلية شاهرين أسلحتهم مشيعين الخراب والدمار والقتل بطريقه عشوائية والنماذج على ذلك كثيرة- في الجزائر ومصر وغيرها- ولا زال المسلسل مستمرّا. أمريكا إذن هي الصانعة الأولى لهذا الإرهاب الأسود الذي يعيث فسادا في كثير من البلاد العربية والإسلامية، وفي الوقت نفسه تلصقه بالإسلام، وهي التي صنعته، هي التي تأوي عتاة الإرهابيين في بلادها وتوفر لهم الحماية «1» .

_ (1) د. مصطفي رمضان، مرجع سابق (ص 83) .

هـ- من براهين العداء الغربي عامة الأمريكي خاصة للإسلام والعالم الإسلامي: إلصاق كل النقائص والرذائل بالإسلام؛ فهو عندهم دين دموي ومتعصب ضد الحضارة والإنسانية والمسلمون كلهم إرهابيون، ويكفي أن يقرأ الإنسان كتابا واحدا- وهناك كتب كثيرة في هذا المجال- ليعرف مدى الكره والعداء الذي يكنه الغرب للإسلام والمسلمين؛ ذلك الكتاب هو «الإسلام والغرب» «1» للأستاذ رجب البنا، الذي كتبه بعد رحلة طويلة زار خلالها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوربا وكتب كتابه هذا بعد مشاهدة وسماع، وخلص إلى أن العداء الغربي للإسلام ليس مجرد دعاية إعلامية، كما كنا نظن، إنما هو شيء متأصل في نفوس الغربيين وقلوبهم، والأهم من ذلك والأخطر هو أثر ذلك العداء الغربي للإسلام على صناعة القرار السياسي في الغرب، إذا كان ذلك القرار يتعلق بالعالم الإسلامي. وكذلك كتبت الدكتورة منى حسين مؤنس وهي أستاذة جامعية متخصصة في اللغة والأدب الإنجليزي سلسلة مقالات خطيرة في مجلة أكتوبر القاهرية «2» تحت عنوان «مصر والعرب في عيون الغرب وأدبه» أتت فيها بحقائق ووقائع مذهلة تكشف عن العداء الغربي القديم والحقد والكراهية، بل الاحتقار الذي يكنه الغربيون للإسلام والمسلمين، وهي تكتب عن خبرة وتجربة ومعايشة للأوربيين في بلادهم، وفي مصر أيضا. وتقول في وضوح: «إن الأوربيين يربون أطفالهم منذ الصغر على كره واحتقار كل ما هو عربي وإسلامي» ، معنى هذا أن روح العداء للإسلام التي زرعها رجال الكنيسة في العصور الوسطى لا زالت سارية المفعول، ألم يقل برنارد شو: «لقد كانوا- رجال الكنيسة والمعلمون- يمرنونا على كراهية محمد صلّى الله عليه وسلم وكراهية دينه ويصورونه لنا على أنه عدو وخصم للسيد المسيح» «3» وإنه لشيء محير ويبعث على الأسى أن تكون هذه هي صورة الإسلام والمسلمين عند الغربيين، مع أنه في حقيقته دين سلام ورحمة ومحبة وتسامح وعدل حرية، ودين بنى وشاد حضارة عالمية راقية، حملت الخير للبشرية عامة، وللأوربيين خاصة، ولم تقم نهضتهم وحضارتهم الحالية إلا على أساس علوم المسلمين ومعارفهم، وكثيرون من علمائهم

_ (1) طبع دار المعارف- مصر سنة (1997 م) . والكتاب مليء بالأدلة على عداء وكراهية الغرب للإسلام. (2) بدا من (العدد 1116) بتاريخ (15/ 3/ 1998 م) والأعداد التالية. (3) بحث للدكتور عبد الحليم عويس بعنوان: شخصية الرسول صلّى الله عليه وسلم في كتاب «تاريخ الجزيرة العربية في عصر الرسول والخلفاء الراشدون» الرياض (1983 م) (1/ 83) .

وعقلائهم يعترفون بذلك، ولكن الأصوات العاقلة تضيع وسط الضجيج الإعلامي الكاسح في الغرب ضد الإسلام والمسلمين. يقول أحد الكتاب: «كعادة الإدارة الأمريكية في اتهام بعض الدول العربية والإسلامية بمناسبة وبدون مناسبة بالإرهاب وإيواء جماعات الإرهاب، أعلن مدير المخابرات المركزية الأمريكية منذ أيام، أن هناك 12 دولة تعد للقيام بعمليات اختراق لشبكات المعلومات الأمريكية، وقال- لا فض فوه- في جلسة مغلقة أمام الكونجرس: إن في مقدمة هذه الدول إيران وليبيا والعراق! والمضحك أن بعض المصادر الرسمية الأمريكية أعلنت في الوقت نفسه أنه تم القبض على ثلاثة إسرائيليين بتهمة اختراق شبكات الكمبيوتر لوزارة الدفاع الأمريكي ألا يستحي كبار المسؤولين الأمريكيين حينما يتهمون إيران والعراق وليبيا بمحاولة التجسس على الأمن القومي الأمريكي بينما شاء ربي وربك ورب الكون إظهار الحقيقة، فتم اعتقال الجواسيس متلبسين باختراق شبكات الكمبيوتر الخاصة بالبنتاجون، وكانوا من حلفاء أمريكا الإسرائيليين، ثم كيف بالله يمكن للعراق وليبيا أن تتجسسا على أمريكا وهما تعانيان من الحصار الظالم الذي فرضته أمريكا عليهما منذ سنوات، ولم تعد تربط العراق وليبيا بالولايات المتحدة أية علاقات سوى التجويع والإذلال التي تفرضها أمريكا عليهما بغير وجه حق» «1» . ومن مظاهر، بل من دلائل العداء الغربي للإسلام احتضان الغرب لكل من يسب الإسلام ونبي الإسلام- عليه الصلاة والسلام- ويهين المقدسات الإسلامية، ويجرح مشاعر المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة. انظر إلى سلمان رشدي «الهندي الجنسية» المقيم في بريطانيا، كيف احتفى به الغرب وبسط عليه حمايته بعد صدور روايته التافهة- آيات شيطانية- وكيف استقبله الرئيس الأمريكي كلينتون في البيت الأبيض لمدة ساعتين؟! وانظر إلى تسليمه نسرين- البنغالية- وكيف استقبلت في فرنسا من أعوام قليلة استقبال رؤساء الدول؛ لأنها أهانت الإسلام، عقيدة شعبها؟! فحرية الفكر والرأي في أوربا لا تراعى إلا عند ما يكون الهجوم على الإسلام وعلى المقدسات الإسلامية. في مايو الماضي (1998 م) فجرت الهند خمس تفجيرات نووية وتبعتها باكستان- بعد نحو أسبوعين- بست تفجيرات وهنا انطلقت الدعايا الغربية

_ (1) الأستاذ أحمد الملا. جريدة الأهرام (العدد 41771) الخميس (23/ 7/ 1998 م) .

والصهيونية تتحدث وتخوف العالم من القنبلة الباكستانية بالذات؛ لأنها قنبلة إسلامية، ومع أن رئيس وزراء باكستان نفى ذلك وقال: إن القنبلة هي باكستانية للرد على القنبلة الهندية وليست إسلامية؛ لأن القنابل لا دين لها، ورغم ذلك فإن الإعلام الغربي والصهيوني يصر على وصف القنبلة الباكستانية بأنها القنبلة الإسلامية. ومع أن أمريكا هي أول دولة في العالم صنعت القنبلة الذرية بل استخدمتها بدون ضرورة في تدمير مدينتين يابانيتين- هيروشيما 6/ 8/ 1945 م ونجازاكي في 9/ 8/ 1945 م- إلا أن أحدا لم يسم قنبلتها بالقنبلة المسيحية، وتبعتها روسيا فلم يسم أحد قنابلها بالقنابل الشيوعية ولا سمى أحد القنابل الإنجليزية والفرنسية بالمسيحية ولا القنابل الإسرائيلية بالقنابل اليهودية، ولا حتى القنابل الهندية التي سبقت الباكستانية فلم يسمها أحد بالقنابل الهندوسية، فقط قنبلة باكستان التي تسمى بالإسلامية وبتركيز شديد واستمرار والمعنى واضح، وهو تشويه سمعة الإسلام والمسلمين. ز- آخر التقاليع الأمريكية في هذا السياق- قانون الاضطهاد الديني أو حماية الأقليات الدينية والذي وافق عليه مجلس النواب الأمريكي في مايو (1998 م) بأغلبية كبيرة «1» - (375) صوتا ضد (41) - وهذا القانون يقضي بفرض عقوبات اقتصادية على الدول التي بها أقليات دينية، بزعم أنها تضطهد تلك الأقليات الدينية، وهذا قانون لا مثيل له في الدنيا؛ لأنه تدخل واضح وفاضح في شؤون الدول الداخلية، ولكن الهدف الأمريكي من ذلك غير خاف على أحد، وهو مضايقة الدول الإسلامية وإحراجها كلما أرادت أمريكا ذلك، والشيء المؤسف أن الكونجرس الأمريكي- الذي يسيطر عليه اللوبي الصهيوني- يصر على أن المسلمين في مصر يضطهدون المسيحيين في الوقت الذي يعلن فيه المسيحيون أنفسهم وعلى لسان أكبر مسؤول وهو رئيس الكنيسة المصرية البابا شنودة الثالث أنه لا يوجد اضطهاد ولا سياسة عدائية للمسيحيين في مصر، لا من الدولة ولا من المواطنين المسلمين، وأن حوادث الإرهاب التي يتعرض لها أحيانا بعض المسيحيين، هي حوادث فردية وليس لها بعد سياسي أو ديني ويتعرض المواطنون المسلمون لأضعافها، ولكن على الرغم من كل ذلك إلا أن أعضاء الكونجرس يصرون على الاتهام ويقولون للبابا وغيره من قادة المسيحيين: نحن نعرف أكثر منكم.

_ (1) صحيفة الأهرام: العدد (40773) السبت (25/ 7/ 1998 م) .

* أهم المشكلات التي يعانيها المسلم المعاصر:

والخلاصة: أن العداء الغربي عامة والأمريكي خاصة للإسلام والمسلمين دلائله ومظاهره أكثر من العد والحصر. فالغرب أخذ في توسيع حلف الأطلسي وامتداده شرقا- ضم دول أوربا الشرقية إليه- مثل بولندا والمجر وجمهورية التشيك- ما ضرورة ذلك بعد زوال الشيوعية؟ يقولون في الغرب: للوقوف في وجه العالم الإسلامي- المغلوب على أمره الآن- بل إن الرئيس نيكسون يرى ضرورة التحالف مع روسيا ما بعد الشيوعية إذا اقتضى الأمر؛ للوقوف في وجه العالم الإسلامي «1» . * أهم المشكلات التي يعانيها المسلم المعاصر: في الصفحات السابقة تحدثنا- بإيجاز شديد- عن سياسة الغرب بقيادة الولايات المتحدة نحو العالم الإسلامي، والتي تراوحت بين التحالف معه إذا كان ذلك في مصلحتها- كما حدث في فترة الحرب الباردة- إلى اعتباره العدو الأول بعد انتهاء تلك الحرب، وظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، الذي تنفرد الولايات المتحدة بقيادته والسيطرة عليه. لقد أصبح واقع العالم الإسلامي بعد انتهاء الحرب الباردة أسوأ مما كان عليه أثناءها، ونتيجة لسياسة الغرب ومكائده ضد العالم الإسلامي وإشعال الحروب الأهلية والإقليمية بين دوله وشعوبه، ومحاصرته اقتصاديّا وسياسيّا ليظل دائما ضعيفا مفككا، متخلفا صناعيّا، وسوقا كبيرا للمنتجات الغربية، ونتيجة لهذا كله نرى العالم الإسلامي الآن غارقا في العديد من المشكلات الصعبة، على مختلف الأصعدة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والحقيقة ليس من السهل الحديث عن العالم الإسلامي على اتساعه وتنوعه بأسلوب واحد، أو بمعايير واحدة، فالعالم الإسلامي من حيث المساحة الجغرافية، يشغل حيزا هائلا، فهو يمتد من طنجة إلى جاكرتا ومن غانا إلى فرغانة «2» ، فضلا عن هذا فالعالم الإسلامي شديد التنوع من حيث الموقع والمناخ والثروات الطبيعية والسلالات البشرية.. إلخ. «ولقد حاول البعض أن يربط الإسلام بالجفاف والصحاري، ولكن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا؛ فالإسلام يترامى حتى خط الاستواء، عبر بيئات طبيعية

_ (1) راجع كتاب انتهزوا الفرصة (ص 73) وما بعدها. (2) طنجة مدينة مغربية تقع على الساحل الشمالي، وجاكارتا هي عاصمة أندونيسيا وغانة تقع في غرب إفريقيا وفرغانة في آسيا الوسطى، وهذا تعبير يقال للدلالة على سعة العالم الإسلامي من حيث المساحة، وعلى عظم ثرواته، وخارج هذا العالم توجد أعداد هائلة من المسلمين تعيش كأقليات في دول غير إسلامية.

1 - الظاهرة الأولى: العلاقات الإسلامية

شديدة التفاوت؛ من الغابات الاستوائية إلى المدارية، ومن السافانا الإفريقية إلى الاستبس الآسيوي، ومن أدغال الهند إلى الفلد الإفريقي. فهو إذا يتوزع في المناطق الحارة والمعتدلة والباردة على السواء، كما ينتشر في الصحاري الجافة والأعشاب المطرية والغابات الكثيفة بلا استثناء. وبالمثل نجد الإسلام البحري على الساحل كما نجده في صميم القارات من الداخل، بل إن السواد الأعظم من المسلمين أقرب إلى التمركز على القطاعات الساحلية والبحرية، وننتقل من النواحي الطبيعية إلى الجانب البشري لنجد نفس التنوع داخل العالم الإسلامي، فالإسلام ينتظم من الأجناس والسلالات ومن اللغات والقوميات ما يجعله متحفا بشريّا، فمن سلالات البحر المتوسط القوقازية غربا إلى الأجناس الزنجية جنوبا، ومن القوميات العربية والتركية والإيرانية، إلى القوميات الطورانية في وسط آسيا، إلى الملاوية والأندونيسية في جنوبها.. وكل من هذه أو بعضها قابل للقسمة إلى مزيد من التفريعات والتصانيف «1» . بناء على الحقائق السابقة فواقع الإنسان المسلم يختلف من مجتمع إسلامي إلى آخر اختلافا كبيرا؛ فهناك مجتمعات إسلامية ذات ثروة هائلة- الدول البترولية على سبيل المثال- ومستوى معيشة سكانها مرتفع جدّا، وهناك مجتمعات متوسطة الثراء، وهناك مجتمعات فقيرة، بل شديدة الفقر وكل مجتمع من هذه المجتمعات له مشكلاته وواقع الإنسان يختلف باختلاف تلك المجتمعات وتنوعها، غير أن هناك العديد من المشكلات التي تكاد تكون عامة أو هي الظواهر السائدة في العالم الإسلامي، فعلى الرغم مما يبدو على السطح من التوحد- تحت مظلة منظمة المؤتمر الإسلامي مثلا- إلا أن من المؤسف أن العلاقات الإسلامية ليست على ما يرام، أو ليست على المستوى المقبول في عالم جديد ونظام جديد يعمل كل ما في وسعه للضغط على العالم الإسلامي وحصاره بل خنقه؛ ليظل دائما تحت السيطرة الغربية. ولذلك سأتحدث عن ظاهرتين فقط من الظواهر العامة، والتي تشترك فيها معظم المجتمعات الإسلامية، وهاتان الظاهرتان قد تكونان السبب الرئيسي في معظم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في العالم الإسلامي. 1- الظاهرة الأولى: العلاقات الإسلامية ؛ فعلى الرغم من أن القاعدة الأصيلة التي رسخها القرآن

_ (1) د. جمال حمدان- المرجع السابق (ص 125، 126) .

الكريم في الأمة الإسلامية هي الوحدة كما يقول ربنا تبارك وتعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52] ، والدعوة القوية إلى المحافظة على هذه الوحدة وعدم التفرق كما يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] ، وأن الله تعالى يحب عباده الذي يجاهدون في سبيله صفا واحدا كأنهم بنيان واحد متماثل، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4] ، وأن الله تعالى يصف المؤمنين جميعا بأنهم إخوة حيث يقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ، هذه بعض النصوص فقط كأمثلة دالة على أن الأصل في الأمة الإسلامية أن تكون أمة واحدة، وأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلم التي تحث المسلمين على الوحدة والتماسك والتعاون والتعاطف والتناصح إلخ أكثر من الحصر، ولكن على الرغم من هذا كله فإن العلاقات الإسلامية في الوقت الحاضر بعيدة عن هذا، والشواهد على ذلك كثيرة والكلام فيها أيضا يمكن أن يكون كثيرا، ويكفي أن نقتبس بعض كلام الرئيس نيكسون في وصف العلاقات الإسلامية وإن كان كلامه لا يخلو من نبرة شماتة، إلا أنه في الواقع فيه بعض الصدق للأسف الشديد، يقول نيكسون: «والصراعات والتنافسات في العالم الإسلامي جعلت منه مرجلا من النزاعات، والقائمة القصيرة لهذه النزاعات تشمل المغرب ضد الجزائر، وليبيا ضد تشاد، والعالم العربي ضد إسرائيل، والأردن ضد السعودية، وسوريا ضد الأردن، وسوريا ضد لبنان، والسعودية ضد دول الخليج الصغيرة، والسعودية ضد اليمن، والعراق ضد سوريا، والعراق ضد الكويت والسعودية، والعراق ضد إيران، ودول الخليج العربية ضد إيران، وباكستان ضد أفغانستان، والهند ضد باكستان وبنجلاديش، وأندونيسيا ضد ماليزيا وغينيا الجديدة. وإن الكثير من هذه الدول هي تالفات اصطناعية من عدة دول، أو مجموعات عرقية، فإن التنازع الداخلي يسود المنطقة وكثير من الدول في العالم الإسلامي هي لبنان المستقبل «1» ، تنتظر ما يمكن أن يحدث» «2» . من المؤسف أن معظم ما ذكره نيكسون صحيح، نراه بأعيننا ونسمعه باذاننا. والكل يعرف نتائج هذه الصراعات والحروب على واقع الإنسان المسلم وكيف أثرت

_ (1) الإشارة إلى لبنان هنا المقصود بها أن كثيرا من الدول الإسلامية مرشحة في المستقبل للحروب الأهلية والانقسامات العرقية، وطبعا أيدي الغرب تلعب الدور الأكبر في هذا المجال. (2) انتهزوا الفرصة، مرجع سابق (ص 41) .

2 - الظاهرة الثانية: غياب الديمقراطية

فيه وجعلته أسير التخلف والفقر والجهل والمرض ... إلخ. إن تكاليف حربي الخليج؛ الأولى بين إيران العراق والتي استمرت ثماني سنوات (1980- 1988 م) والثانية غزو الكويت (1990- 1991 م) إن تكاليف هاتين الحربين فقط كانت كفيلة لو استثمرات ألا تدع مسلما فقيرا أبو بدون عمل أو بدون مسكن.. إلخ. فماذا لو تحدثنا عن بقية الحروب مثل حروب العرب مع إسرائيل من (1948 م) ، (1956 م) ، (1967 م) ، (1973 م) ، والحروب الأهلية في الصومال والسودان وأفغانستان.. إلخ. 2- الظاهرة الثانية: [غياب الديمقراطية] التي تكاد تكون عامة في أغلب الدول في العالم الإسلامي هي غياب الديمقراطية والحرية، وفي الوقت الذي يتم فيه انتقال السلطة في أوربا وأمريكا من حاكم إلى آخر بهدوء، وطبقا لقواعد دستورية وديمقراطية، ثم ضبطها بقوانين مرعية يحترمها الجميع، تتحكم فيها إرادة الناخبين الحرة، وصناديق الانتخاب، يتم هذا في أوربا وأمريكا: «أما في العالم الإسلامي فما زالت مشكلة انتقال السلطة من حاكم إلى آخر تتم بالقوة، والحكم لمن غلب. وبسبب ذلك ينتشر العنف والتطرف، وتقوم الحروب التي تحدث الدمار الشامل إلى أن يستقر الوضع للأقوى» «1» . ويكفي كمثال واحد على هذا ما حدث في أندونيسيا منذ شهور، فإن رجلا ظل يحكم بلاده حكما مستبدا، طوال اثنين وثلاثين عاما (1966- 1998 م) وهو الرئيس سوهارتو، ونهب من ثرواتها- حسب ما ذكرته وسائل الإعلام- أكثر من أربعين ألف مليون دولار، ولما فاض الكيل بالناس وبلغ السيل الزبى اندلع العنف، وأصبحت البلاد على حافة الهاوية، كل هذا والرجل لا يريد أن يترك سدة الحكم، رغم تقدمه في السن، ولولا الضغوط الشديدة من الداخل والخارج وبصفة خاصة من أمريكا لأغرق بلاده في بحور من الدماء. فبعد ساعات فقط من نصيحة وزيرة خارجية أمريكا، السيدة مادلين أولبرايت له بترك الحكم، تركه مع أنه كان قبل ذلك بساعات قد أعلن أنه لن يتخلى عنه. أليس مما يبعث على الأسى والحسرة أن تسود الديمقراطية والحرية في أوربا وأمريكا ويسود الاستبداد في أغلب دول العالم الإسلامي، مع أن الإسلام دعوة صريحة إلى

_ (1) د. مصطفى رمضان- المرجع السابق (ص 57) .

الحرية والكرامة الإنسانية، والشورى الإسلامية أعظم من الديمقراطية الغربية، ويوم أن كانت الشورى الإسلامية مطبقة، وعندما كانت تجد من الحكام من يلتزم بها كان العالم الإسلامي هو العالم الأول على ظهر الأرض، الأول في نظافة الحكم وعدالته، الأول في العلم والمدنية، الأول في الثروة، الأول في التسامح مع الشعوب غير الإسلامية وإشاعة روح الود بين الناس، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: «إن طريقة الإسلام في إدارة دفة الحكم هي التي جعلت الشعوب تفتح له ذراعيها؛ لأن الحكم كان عبادة لله، ولم يكن شهوة نهوم إلى العظمة، أو مفتون بالسلطان، وإدراك أن الحكم مسؤولية مؤرقة هي التي جعلت الخليفة في المدينة المنورة يعد نفسه مسؤولا عن أطراف الدولة البعيدة» . حتى قال عمر: «لو عثرت بغلة في العراق لحسبت عمر مسؤولا عنها: لم لم يسوّ لها الطريق؟» «1» . ويوم أن صاح عمر في أميره على مصر- عمرو بن العاص-: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!» في قضية مشهورة، يوم أن صاح عمر بن الخطاب هذه الصيحة المدوية في الربع الأول من القرن الهجري الأول، النصف الأول من القرن السابع الميلادي، كانت هذه الصيحة غريبة على الناس، فلم يعرف التاريخ حاكما قبل عمر بن الخطاب جرى على لسانه مثل هذه الكلام. ولكنه الإسلام وتربية الرسول صلّى الله عليه وسلم لصحابته على الحرية والعزة والكرامة هي التي فاضت على هؤلاء الرجال وجعلت هذه الكلمات المباركات تجري على ألسنتهم، ولم تكن كلاما فقط للاستهلاك المحلي، إنما كانت سلوكا وأسلوبا للحكم وسياسة عملية يسوسون بها عباد الله. لقد فهم عمر من كتاب ربه ومن سنة نبيه وصحبته أن الناس يولدون أحرارا، فليس لأحد حق في أن يستعبدهم «2» . والعجيب أن الغرب لم يصل إلى ما وصل إليه من الديمقراطية والحرية إلا على تلال من الأشلاء وبحور من الدماء، أما المسلمون فقد منحهم الله تعالى الحرية والكرامة والعزة ومنحهم طرازا عاليا من الحكم النزيه هدية من السماء، ولكنهم للأسف لم يصونوا هذه الهبات الإلهية ولم يحافظوا عليها، فالت أحوالهم إلى ما آلت إليه من سوء. كنت أريد أن أتحدث عن المزيد من المشكلات التي يعانيها المسلم في المجتمعات

_ (1) الإمام محمد الغزالي- نظرة على واقعنا الإسلامي المعاصر- الطبعة الثانية، دار ثابت القاهرة (1983 م) (ص 24) . (2) المرجع السابق (ص 25) .

الإسلامية المعاصرة ولكن أخشى الإطالة من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن هاتين المشكلتين اللتين أشرت إليهما- العلاقات الإسلامية وغياب الديمقراطية الحقيقية وشيوع الاستبداد في الحكم في كثير من بلاد العالم الإسلامي- تأتي من ورائهما كل المشكلات، بل كل المصائب؛ فسوء العلاقات وكثرة المنازعات والخصومات بين كثير من البلاد الإسلامية يبدد طاقات الأمة البشرية والمادية، وكان سببا رئيسيّا في ما يعانيه المسلمون- في كثير من بلاد المسلمين- من بطالة وفقر ومرض ... إلخ. وغياب الديمقراطية والحرية والحكم الاستبدادي أشاع الخوف في قلوب الناس، فالشعوب الخائفة لا تستطيع أن تعمر بلادها ولا أن تبني حضارة، وقديما قال الفيلسوف الإغريقي أرسطو لتلميذه الإسكندر الأكبر عند ما استشاره في كيفية حكم الإمبراطورية التي شادها قال الأستاذ لتلميذه: «يا بني بالقوة تستطيع أن تستولي على رقاب الناس، ولكن هيهات أن تصل إلى قلوبهم إلا بالود والحب؛ لأن الشعوب إذا قدرت أن تقول قدرت أن تفعل، نعم إن الشعوب الحرة التي تستطيع أن تقول رأيها بصراحة ودون خوف، وأن تنتقد الحاكم عند ما يخطئ، هي الشعوب التي تستطيع أن تعمر بلادها وأن تبني حضارة» . يقول الإمام الغزالي: «ومن مميزات الشورى أنها ترد الحاكم إلى حجمه الطبيعي كلما حاول الانتفاخ والتطاول، والجماعات البشرية السنوية فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم. أما البيئة المنكوبة بالاستبداد، فدجاج كثير وديك واحد، إن ساغ التعبير» «1» ويقول: ومع ذلك فإن أرقى ما وصل إليه الغرب في حضارته الإنسانية، أو فن الحكم، لم يزد عما حققته الخلافة الراشدة من أربعة عشر قرنا. قرأت حوارا بين الرئيس كيندي- الرئيس الأسبق للولايات المتحدة- وبين ممثلي بعض الصحف الأمريكية، قال فيه صحافي يتحرى الحقائق لأكبر زعيم في العالم: مستر كيندي، هل رحلة زوجتك إلى أوربا على نفقتك الخاصة أم من مال الدولة؟!! وأدلى كيندى بما عنده دون تأفف- يعني لم يغضب على الصحفي ولم يتهمه بالتطاول «2» - يقول الإمام الغزالي معلقا على تلك القصة: وذكرت على الفور حوارا مماثلا دار بين عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي: قال سلمان لعمر بن

_ (1) المرجع السابق (ص 21) . (2) تتحدث الدنيا كلها في هذه الأيام عن الصفعة التي تلقاها الصحفي اللبناني حسن صبرا من الرئيس اللبناني إلياس الهرواي مع أن لبنان من أكثر البلاد العربية حرية وديمقراطية.

الخطاب: «نرى ثوبك طويلا سابغا، وكلنا كميش الإزار ما حصل أحدنا إلا على ملبس قصير، فمن أين لك هذا؟ وأحس عمر كأنه متهم باستغلال الحكم، فقال: قم يا عبد الله بن عمر فحدث الناس، وقام عبد الله يقول: إن نصيب أبي من الثياب المفرقة لم يكن يغنيه؛ لأنه رجل طوال، فمنحته نصيبي ليكمل حلته ... واتضح الموقف، وقال سلمان: الآن قل؛ نسمع» «1» . في هذا القدر كفاية؛ لأننا لو حاولنا ضرب الأمثلة وتقديم نماذج من مفردات الحكم الإسلامي لضاق بنا المقام، وكذلك لو حاولنا ضرب الأمثلة وتقديم نماذج من مساوئ الحكم الاستبدادي لضاق بنا المقام أيضا؛ ولكني قبل أن أختم هذا البحث المتواضع لا بد أن أقول كلمة أراها ضرورية وهي: إن الغرب الديمقراطي الحر الذي لا ننكر عليه ديمقراطيته ولا حريته، هذا الغرب أناني إلى أبعد الحدود؛ فهو يعرف قيمة الحرية والديمقراطية، وأثرها في رقي الأمم والشعوب ومع ذلك يضن على العالم الإسلامي بها، أعني أنه يقف حجرة عثرة في سبيلها لا يريد أبدا أن تسود الديمقراطية والحرية في العالم الإسلامي؛ لأنها إذا سادت أفرزت حكومات صالحة، وإذا صلح الحكم صلحت كل أوجه الحياة، ومعنى ذلك نهضة إسلامية شاملة وعالم إسلامي قوي سياسيّا واقتصاديّا وعسكريّا، يستطيع أن يدافع عن حقوقه وأن يتمتع بثرواته، وأن تكون له كلمة في شؤون الدنيا، وهذا ما لا يريده الغرب، فما يريده الغرب عالما إسلاميّا ضعيفا ممزقا متناحرا، تسوده الفتن والقلاقل والإرهاب؛ لتسهل السيطرة عليه، ونهب ثرواته والتحكم في مقدراته. نعم إن الغرب يصدر إلى العالم الإسلامي كل شيء إلا الحرية والديمقراطية، فهي السلعة الوحيدة التي يحتكرها لنفسه ولو أردنا أن نذكر أمثلة على تدخلات الغرب لمنع الديمقراطية والحرية من أن تسود في العالم الإسلامي لضاق بنا المقام، ويكفي أن نلفت الأنظار إلى ما يحدث في تركيا حاليا. إلى هنا نقف ونختتم البحث ونقول: وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

_ (1) المرجع السابق (ص 23) .

البحث الثالث عشر نشأة الاستشراق وتطوره إلى نهاية الحروب الصليبية

بحوث في السّيرة النّبويّة والتّاريخ الإسلاميّ قراءة ورؤية جديدة [البحث الثالث عشر] نشأة الاستشراق وتطوره إلى نهاية الحروب الصليبية

* الخلفية التاريخية للاستشراق:

نشأة الاستشراق وتطوره إلى نهاية الحروب الصليبية * الخلفية التاريخية للاستشراق: عند ما ظهر الإسلام في مطلع القرن السابع الميلادي، كانت الحرب مستعرة بين إمبراطورية الفرس الساسانيين، والإمبراطورية الرومانية الشرقية- دولة الروم- على أرض الشرق العربي؛ العراق والشام ومصر، وانتهت تلك الحرب بغلبة الروم على الفرس كما تنبأ القرآن الكريم في صدر سورة الروم، واستردت القسطنطينية سيادتها كاملة على الشام ومصر، وتركت معظم العراق للفرس رغم غلبتهم عليهم. في هذه الأثناء كان الرسول صلّى الله عليه وسلم قد هاجر من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وأقام دولته، وبنى جيشه، وانتصر انتصارا كاملا على الوثنية العربية، ودانت له شبه جزيرة العرب، وتوحدت تحت لوائه لأول مرة في تاريخها كله. ولما كانت الرسالة الإسلامية رسالة عالمية، موجهة إلى الجنس البشري كله، وليس للعرب وحدهم، كما يؤكد ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ، وقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وقوله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تثبت عالمية الإسلام، ولما كان الأمر كذلك فقد كان لزاما على النبي صلّى الله عليه وسلم أن يبلغ رسالة الإسلام إلى الدنيا كلها، وقد فعل، فقد أرسل رسائل إلى كبار ملوك العالم وأمرائه، يدعوهم إلى اتباعه والإيمان برسالته، فأرسل إلى كسرى فارس، وإلى هرقل إمبراطور الروم، وإلى إمبراطور الحبشة، وإلى المقوقس حاكم مصر، وكانت رسائل النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الملوك وغيرهم دعوة سلمية إلى الدخول في الإسلام، ولم ترد في أية رسالة منها كلمة واحدة عن الحرب أو التهديد بها، ولم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأي من هؤلاء الملوك: إذا لم تسلم سأقتلك، وها هو أنموذج من هذه الرسائل: رسالته إلى هرقل؛ فقد كان نصها كالآتي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنّ إثم الأكّارين عليك» «1» .

_ (1) ابن الأثير- الكامل في التاريخ (2/ 212) ، والمقصود بالأكارين: هم أتباع هرقل.

ولكن الإمبراطور الكبير المنتصر على الفرس، والذي كان يعد أقوى رجل في العالم في ذلك الوقت، ودولته أقوى دولة في الدنيا، عز عليه أن يفارق دينه النصراني ويؤمن بنبي من العرب، مع أنه اعترف بصدق رسالته، فقد روى الطبري أنه جمع كبار أهل مملكته وبطارقته، وقال لهم: «إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، إنه والله للنبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا، فهلموا فلنتبعه، ونصدقه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا» «1» ، لكن قومه لم يطاوعوه. ولو وقف الأمر به وبهم عند عدم الإيمان برسالة الإسلام وتركوا المسلمين يدعون الناس إلى دينهم في حرية وأمان، لما حدثت حروب بينهم وبين المسلمين، ولكن الجيش الرومي العرمرم الذي كان عدده نحو ثلاثمائة ألف، ومعظمه معسكر في الشام لإرهاب الفرس، وتثبيت انتصاراته عليهم. هذا الجيش لم يترك المسلمين في حالهم، بل تدخل ضدهم تدخلا سافرا في غزوة مؤتة سنة (8 هـ) بدون داع، وكاد يقضي على الجيش الإسلامي قضاء مبرما، لولا مهارة القائد الفذ خالد بن الوليد، الذي استطاع بعبقريته ومهارته العسكرية استخلاص جيشه الصغير- ثلاثة آلاف مسلم- من براثن الجيش الرومي. وتوالت الأحداث بعد ذلك منذورة بصدام لا مناص منه بين المسلمين أصحاب الرسالة التي كلّفهم الله تعالى بتبليغها للناس، وبين دولة الروم التي وقفت لهم بالمرصاد، تسد الطريق أمامهم بإحكام، وبدأ الصدام بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وفي مطلع خلافة الصدّيق أبي بكر (11- 13 هـ/ 632- 634 م) ، واستطاعت جحافل الإسلام فتح الشام في سرعة فائقة، بعد سلسلة من المعارك الناجحة، من أهمها اليرموك وأجنادين «2» ، ثم توج فتح الشام بتسلم الخليفة عمر بن الخطاب نفسه لبيت المقدس، من البطريرك صفرونيوس سنة (15 هـ/ 636 م) ، ثم اضطرت الظروف المسلمين لتأمين فتوحاتهم في الشام إلى السير إلى مصر وفتحها، ثم تابعوا سيرهم غربا لتحقيق الغرض نفسه، فأكملوا فتح المغرب كله إلى المحيط الأطلسي، ثم عبروا مضيق جبل طارق وفتحوا الأندلس، وأزالوا منها حكم القوط المسيحي، ثم تقدمت الفتوحات الإسلامية وراء جبال البرانس لتصل إلى أواسط فرنسا، ثم ازدادت اتساعا لتستولي على معظم جزر البحر الأبيض المتوسط من

_ (1) تاريخ الطبري (2/ 649، 650) ، الطبعة الثانية، دار المعارف- القاهرة. (2) تراجع أخبار تلك المعارك في تاريخ الطبري (3/ 394) وما بعدها.

رودس إلى صقلية إلى جنوب إيطاليا، بل إن بعض الغزاة المسلمين حاصر روما ذاتها، العاصمة العتيدة للإمبراطورية الرومانية الكبرى، ومقر البابوية وكنيسة القديس بطرس، أم الكنائس في العالم المسيحي، وكما حاول المسلمون فتح روما، فقد حاولوا فتح القسطنطينية العاصمة الثانية للمسيحية. ومحاولة المسلمين فتح روما والقسطنطينية معا معناه السيطرة الإسلامية على مواطن السيادة النصرانية في عاصمتيها الشرقية والغربية. وإذا كانت العاصمتان العتيدتان قد نجتا من الفتح لفترة من الزمن، فقد كانت خسارة الدولة الرومانية الشرقية أمام المسلمين خسارة فادحة؛ إذ سقطت في أيديهم البلاد التي كانت مهدا للمسيحية، ويسطو سلطانهم على كل الأقطار التي تضم أشهر وأكبر الكنائس في الشرق، مثل كنيسة بيت المقدس، وكنيسة أنطاكيا، وكنيسة الإسكندرية، وكنيسة قرطاجنة، ومن هنا بدأ الحقد النصراني على الإسلام والمسلمين، ولم ينته بعد، وأغلب الظن أنه لن ينقضي إلى نهاية الدنيا، مهما أجرينا معهم من حوارت، وعقدنا معهم من ندوات ومؤتمرات، ومهما جرى الحديث في تلك المؤاتمرت والندوات ناعما، وبدا متسامحا، فإنه لا فائدة ترجى ما دامت القلوب تنطوي على الحقد من جانبهم، بل الاحتقار والازدراء لنا ولعقيدتنا، ونظرتهم دائما نظرة استعلاء وغطرسة. ولقد غذى الاستشراق منذ نشأته- ولا يزال- هذا الحقد في نفوس الأوربيين، ولحق بهم الأمريكان، وجعل جذوته متقدة في النفوس، وليس هناك أمل في أن يزول ذلك الحقد من نفوسهم على الإسلام والمسلمين؛ لأنه متأصل ومبثوث في مناهج التربية والتعليم عندهم، فهم ينشؤون الأطفال على كره الإسلام والمسلمين، وهؤلاء الأطفال الذين ينشؤون على ذلك هم الذين يصبحون حكاما وساسة، ويبدهم القرار السياسي، والصورة أمامنا الآن، وكل شيء يجري أمام عيوننا ونسمعه باذاننا، ولا نلاقي منهم إلا الإذلال والإهانة في كل مكان؛ لأنهم يملكون كل وسائل السيطرة والقوة والهيمنة. وإن الحروب الصليبية التى شنّها الغرب المسيحي ضد العالم الإسلامي، وجنّد لها كل قواه، هذه الحروب كانت تنفيسا عن الحقد الدفين الذي غذاه الاستشراق، الذي كانت نشأته الأولى في الكنائس والأديرة «1» ، ولا شك أن رجال الكنائس

_ (1) نجيب العقيقي- المستشرقون (3/ 249) ، دار المعارف- القاهرة.

والرهبان هم أشد حقدا على الإسلام والمسلمين، وكل مؤلفاتهم لتشويه صورة الإسلام في نظر الغربيين. وإذا كانت الحروب الصليبية قد فشلت في تحقيق أهدافها العسكرية كما هو معروف، وأن قوة إسلامية فتية قد بزغت بعد ذلك بقليل منذ مطلع القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي في إقليم الأناضول؛ وهي الإمارة العثمانية التي تحولت بسرعة إلى دولة ثم إمبراطورية «1» متوسعة على حساب أراضي الدولة الرومانية الشرقية، ثم فتحت معظم أوربا الجنوبية الشرقية، وتوجت ذلك بفتح القسطنطينية سنة (857 هـ/ 1453 م) ، وبذلك قضت تماما على تلك الدولة المسيحية العتيدة، التى كانت تمثل الفخر والاعتزاز لكثير من الأوربيين، ولا شك أن سقوط الدولة الرومانية الشرقية وعاصمتها في قبضة العثمانيين قد أوجد شعورا بالمهانة والمذلة في كل أوربا، ولا سيما وأن الخطر العثماني قد تعاظم، وأخذ يهددهم تهديدا شديدا، وأثار الرعب في نفوسهم لأكثر من قرنين من الزمان، وأوشك العثمانيون على الاستيلاء على فيينا، ثم أخذ التاريخ يغير مساره، فتكالبت كل دول أوربا على الدولة العثمانية، وظلت توالي الضغط عليها، حتى قضت عليها في نهاية الحرب العالمية الأولى سنة (1918 م) واقتسمت دول أوربا الكبرى المنتصرة في الحرب- وبصفة خاصة انجلترا وفرنسا- ممتلكات الدولة العثمانية في الشرق. وفي نفس التوقيت تقريبا الذي بدأ فيه الضغط الأوربي على الدولة العثمانية، كانت الكنيسة الكاتوليكية في روما وراء طرد المسلمين من أسبانيا، والقضاء على وجودهم الذي دام هناك نحو ثمانية قرون، ولم يكتف البرتغاليون والأسبان بطرد المسلمين من الأندلس، والتنكيل بهم في وحشية وهمجية، بل أخذوا يلاحقونهم إلى الشمال الإفريقي. ثم كان اكتشافهم لطريق رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر الميلادى، وتطويق العالم الإسلامي من الخلف، كل ذلك بتحريض سافر من الكنيسة، ونجح الأوربيون في إحكام سيطرتهم على العالم الإسلامي منذ ما يقرب من خمسة قرون، ولا تزال تلك السيطرة مستمرة، بل ازدادت ضراوة وقسوة بفضل التقدم المذهل في الاختراعات العسكرية، ووسائل التجسس والاتصالات وجمع المعلومات، ولم يحدث أن أحس المسلمون بالذل والهوان وفقدان الكرامة

_ (1) راجع عن نشأة الدولة العثمانية وتطورها: كتاب الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، للدكتور عبد العزيز محمد الشناوي (1/ 33) وما بعدها.

* دور المستشرقين المتعصبين في تشويه صورة الإسلام في الغرب:

كما يحسون هذه الأيام من عدو لا يرحم، ومظاهر هذا كله بادية للعيان ولا تخفي على أحد. * دور المستشرقين المتعصبين في تشويه صورة الإسلام في الغرب: هذه هي الخلفية التاريخية التي تحكم العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب، والتي نما فيها الاستشراق وترعرع، وكان له دور بارز في إذكاء روح العداء بين الإسلام والغرب المسيحي. ومما لا ريب فيه أن معظم المستشرقين كان يعمد عمدا إلى تصوير الإسلام، ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلم، تصويرا بشعا، ويرسم له صورة منفرة، وأنه دين بدائي وعدواني، ويتسم بالقسوة والوحشية، وجل بحوث المستشرقين ومؤلفاتهم، والتي تعد بالآلاف، تدور حول تركيز وتكريس الصورة السابقة في ذهن القارئ الغربي، ولقد نجحوا في ذلك حتى أصبح كره الإسلام والمسلمين والحقد عليهم شيئا مركوزا في الشخصية الأوربية، وعلى جميع المستويات. ولقد كتب المستشرقون كثيرا جدّا من الكتب والمقالات لجماهير قرائهم الغربيين، وتناولوا كل شيء يخص الإسلام والمسلمين في ماضيهم وحاضرهم، يقول العلامة المحقق الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله: «كتبوا في القرآن، وفي حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسيرته، وفي تفسير القرآن، وفي الفقه، وفي تفاصيل شرائع الإسلام، وفي تاريخ العرب والمسلمين، وفي تراجم رجال الإسلام، وفي الفرق الإسلامية، وفي الفلسفة عند المسلمين، وفي علم الكلام، وفي كل ما ذكرت وما لم أذكر، كتبوا وألفوا وصنفوا، لكن لهدف واحد لا غير؛ هو تصوير الثقافة العربية الإسلامية وحضارة العرب والمسلمين بصورة مقنعة للقارئ الأوربي، وبأسلوب يدل على أن كاتبها قد خبر ودرس وعرف وبذل كل جهد في الاستقصاء، وعلى منهج علمي مألوف لكل مثقف أوربي، وأنه وصل إلى هذه النتيجة التى وضعها بين يديه، بعد خبرة طويلة، وعرق وجهد وإخلاص، حتى لا يشك قارئ في صدق ما يقرؤه، وأنه هو اللباب المصفّى من كل كدر، والمبرأ من كل زيف، وأنه الحق المبين، والصراط المستقيم. كان جوهر هذه الصور المبثوث تحت المباحث كلها هو أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قوم بداة جهال لا علم لهم، جياع في صحراء مجدبة، جاءهم رجل من أنفسهم فادّعى أنه نبي مرسل، ولفق لهم دينا من اليهودية والنصرانية، فصدقوه

بجهلهم واتبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض فسادا يفتحونها بسيوفهم، حتى كان ما كان، ودان لهم من غوغاء الأمم من دان، وقامت لهم في الأرض بعد قليل ثقافة وحضارة جلها مسلوب من ثقافات الأمم السابقة، كالفرس والهند واليونان وغيرهم، حتى لغتهم كانت مسلوبة وعالة على العبرية والسريانية والآرمية والفارسية والحبشية، ثم كان من تصاريف الأقدار أن يكون علماء هذه الأمة العربية من غير أبناء العرب (الموالي) ، وأن هؤلاء هم الذين جعلوا لهذه الحضارة كلها معنى. هذا هو جوهر الصورة التي بثها المستشرقون في كل كتبهم عن دين الإسلام، وعن علوم أهل الإسلام، وفنونهم، وآثارهم وحضارتهم، وأن هذه الحضارة إنما هي إحدى حضارات القرون الوسطى المظلمة، بثوا تلك الصورة في كل كتبهم، بمهارة وحذق وخبث مغرق، وبأسلوب يقنع القارئ الأوربي المثقف الآن كل الإقناع، وتنحط في نظره حضارة الإسلام وثقافته، انحطاط القرون الوسطى، ويزداد بذلك زهوا؛ فإن أسلافه من اليونان والأوربيين كانوا هم ركائز هذه الحضارة المزيفة الملفقة دينا ولغة وعلما وثقافة وأدبا وشعرا، ويزداد الأوربي- أيّا كان- غطرسة وتعاليا وجبرية، ولا يرى في الدنيا شيئا له قيمة إلا وهو مستمد من أسلافه الأوربيين» «1» . وإذا كان أحد يرتاب في هذا الكلام، ويدعي أنه رأي عالم مسلم متحامل على المستشرقين، فإليك أنموذجا من كلامهم وآرائهم في الإسلام والمسلمين. يقول المستشرق الفرنسي كيمون في كتاب له بعنوان «باثالوچيا الإسلام» : «إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس، وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا، بل هي مرض مريع وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث بالإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه منها إلا سفك الدماء، أو يدمن على معاقرة الخمر، ويجمح في القبائح، وما قبر محمد إلا كعمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين، ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الصرع العامة، والذهول العقلي» «2» . هذا هو علم معظم المستشرقين، وهذه هي آراؤهم ونظرتهم إلى الإسلام ورسوله ورسالته، وهذه النظرة الحاقدة الظالمة هي التي ترسبت في الذهنية الأوربية إلى يوم الناس هذا، وحتى إذا وجد بعض المصنفين من المستشرقين، الذين قالوا كلمة الحق

_ (1) العلامة محمود محمد شاكر- رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (ص 84- 86) ، طبع دار الهلال بالقاهرة (1991 م) . (2) نقلا عن كتاب «الفكر الإسلامي الحديث» للدكتور محمد البهي (ص 51) .

* بداية الاستشراق:

عن الإسلام ورسوله وحضارته، فإن أصواتهم قد ضاعت تماما وسط الركام الهائل من الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين. * بداية الاستشراق: الاستشراق- دون الدخول في تفاصيل طويلة- تحدد المفهوم الجغرافي لكلمة الشرق التي اشتق منها المصطلح، ولأننا نعدها كلمة ذات مدلول حضاري أكثر منها ذات مدلول جغرافي، ولأننا نرى أن الأندلس (شبه جزيرة أيبريا) وإن كانت تعد من الغرب جغرافيّا، فهي تنسب إلى الشرق حضاريّا أثناء الوجود العربي الإسلامي فيها، والذي استمر نحوا من ثمانية قرون، كانت خلالها مركزا متقدما من مراكز الحضارة العربية الإسلامية، وعلى هذا الأساس نعد الذين يتناولون الحضارة الإسلامية في الأندلس مستشرقين، حتى ولو كانوا من أبناء الأسبان أنفسهم. لكل هذا نقول: إن الاستشراق هو حركة أو ظاهرة أو مصطلح علمي قديم، تناول جميع الدراسات المشرقية بصفة عامة، والدراسات العربية والإسلامية بصفة خاصة، والمستشرقون هم أولئك العلماء- رجالا ونساء- الذين كرسوا حياتهم للدراسات الشرقية، ولأغراض متباينة، والذي يهمنا هنا هو الاستشراق الخاص بالدراسات العربية والإسلامية، وقد تناول هؤلاء المستشرقون الإسلام عقيدة وشريعة وحضارة من جميع النواحي، كما سبقت الإشارة. وإذا كان الاستشراق قد بدأ في الأوساط الدينية، وفي الكنائس والأديرة، ومن منطلق البغض والتعصب والحقد على الإسلام ورسوله ورسالته، وتأثرا بالخليفة التاريخية التي أفضنا في الحديث عنها في مطلع هذا البحث، أقول: إذا كان الاستشراق قد بدأ هذه البداية العدائية الضيقة الأفق، إلا أنه أخذ يتطور ويتسع نطاقه بمرور الزمن، حتى عم كل أرجاء أوربا، ثم العالم الجديد فيما بعد، بحيث لا تكاد توجد جامعة أو معهد علمي في كل أوربا وأمريكا الآن إلا وهي تضم قسما أو أكثر للدراسات العربية والإسلامية. والذي يطالع بعض الكتب والأبحاث التي ترجمت للمستشرقين فقط، وذكرت أسماءهم وعناوين مؤلفاتهم، مثل كتاب «المستشرقون» للأستاذ نجيب العقيقي، وهو في ثلاثة مجلدات كبار، ويزيد عدد صفحاته على ألف وخمسمائة صفحة، يدرك كثرة عدد المستشرقين كثرة هائلة، فهم يعدون بالآلاف، وليس بالمئات، مع أن هذا الكتاب ألف منذ عشرات السنين، ولم يستوعب كل شيء بطبيعة الحال عن المستشرقين،

ومن هذا القبيل كتب أصغر حجما وتعنى بالتأريخ للاستشراق والمستشرقين، في أقطار معينة، مثل دراسة المستشرق الألماني رودي بارت بعنوان «الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية» ، ودراسة الدكتور إسحاق موسى الحسيني بعنوان «علماء المشرقيات في انجلترا» ... إلخ، من يطالع هذه الكتب وأمثالها يدرك حجم واتساع حركة الاستشراق، وأنها وإن بدأت ضيقة الأفق في الأوساط الكنسية والديرية، إلا أنها بدأت تتخلص من بعض النظرات المتعصبة الحاقدة، وبدأنا نقرأ أبحاثا فيها كثير من الإنصاف للإسلام ورسوله وحضارته، بل بدأنا نرى علماء كثيرين في الغرب يعترفون صراحة بفضل الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الأوربية، وأنها كانت الأساس والشرارة التي انطلقت منها النهضة الأوربية، ومن هذا القبيل كتاب المستشرقة الألمانية سيجريد هونكه «شمس الله تسطع على الغرب» . لكن للأسف الشديد، وعلى الرغم من تحرر كثير من المستشرقين من نظرة الحقد والتعصب على الإسلام في كتاباتهم وأبحاثهم، إلا أن ذلك كله ظل في دائرة العلماء والأوساط الأكاديمية، وظلت الصورة الشائعة الكريهة التي رسمتها الأبحاث المتعصبة هي الباقية والمترسبة في الذهنية الأوربية بصفة عامة، فنظرة الرجل الأوربي العادي إلى الإسلام، وكل من وما ينتمي إليه نظرة يحكمها الاستعلاء والازدراء؛ لأن مناهج التعليم التي يتلقاها الأطفال في أوربا وأمريكا حافلة بكل ما يحقر من الإسلام والمسلمين، فعندما يشب هؤلاء الأطفال، وينهون دراساتهم، ويصبحون رجالا في مواقع المسؤولية وإصدار القرار؛ فإنهم لا يستطيعون انفكاكا من الصورة القبيحة التي تلقوها عن الإسلام في مراحل التعليم المختلفة، فتكون تصرفاتهم وقراراتهم فيما يتعلق بعلاقاتهم بالعالم الإسلامي محكومة بصفة عامة بهذه الخلفية، ولا تؤثر فيها مطلقا الدراسات المنصفة؛ لأنها تجد الرواج على نطاق واسع، ويبدو أن الأمر متعمد، والدلائل على ذلك لا حصر لها. نعود إلى الحديث عن بداية الاستشراق والدراسات الاستشراقية، تلك البداية التي لم يحسم القول فيها حتى الآن، وإن كنا نتفق مع من يرى أنها تعود إلى بدايات ظهور الإسلام، واحتكاكه بالعالم المسيحي الذي بدأ أولا في ساحات القتال كما أشرنا فيما سبق. ولقد بدأ الاستشراق في الشرق نفسه قبل أن يبدأ في الغرب، وعلى أيدي رجال اللاهوت المسيحي في الكنائس والأديرة، فالقديس يوحنا الدمشقي (80- 137 هـ/ 700- 755 م) الذي كان واحدا من كبار رجال الكنيسة في الشام،

وكان قريبا من البلاط الأموي، إلا أنه كان شديد البغض للإسلام والمسلمين، ولعله أول من بدأ في التشكيك في الإسلام، وهز صورة النبي صلّى الله عليه وسلم والإساءة إليه، فقد لقن أنصاره قصصا وأخبارا ملفقة ومزورة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وروجوها على نطاق واسع حتى وجدت طريقها إلى كتب التفسير، وبصفة خاصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه، فقد زعموا- زورا وبهتانا- أن ذلك الزواج كان وراءه قصة عشق بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين زينب «1» كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5] . وهذه الفرية التي ابتدعها ولفقها ذلك النصراني الحاقد راجت للأسف الشديد، وقبلها مفسر كبير كابن جرير الطبري، وتناقلها عنه غيره، فكانت أعظم فرية افتريت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتجافي تماما خلقه، وما طبع عليه من الطهر والعفة، ولم يثبت في الصحاح شيء من هذا، ولم ينقل عن أحد من الصحابة بطريق مقبول، وهذا الذي لفقه يوحنا الدمشقي صورة مصغرة من تلفيقات رجال اللاهوت المسيحي لتقويض أسس العقيدة الإسلامية، فالسلطات الكنسية شرعت منذ وقت مبكر تهاجم بالجدل والمناظرات أسس العقيدة الإسلامية بأسلحة فكرية عن طريق انتشار الثقافات، بما تحمله من الدس والشبهات، والثقافات في الحقيقة تغزو المجتمعات، وقد يكون غزوها أشد فتكا من غزو الجيوش العسكرية. يقول المستشرق الفرنسي ألفريد غيوم- في مقال له بعنوان «الفلسفة وعلم الكلام» : «وبمرور الزمن أسلم الكثير من اليهود والنصارى تخلصا من الجزية التي كانت تجبى من الموحدين، من أهل الكتاب من غير المسلمين، فهؤلاء الذين دخلوا كنف الدين- الإسلامي- حملوا معهم ثقافة الإمبراطورية البيزنطية، وثقافة اليونان، وهذه الانشقاقات الواسعة أفزعت السلطات الكنسية، فشرعت تهاجم بالجدل والمناظرات أسس العقيدة الإسلامية» . ثم يستطرد قائلا: «فالقديس يوحنا الدمشقي كان يستطيع أثناء مناظراته إفحام مناظريه المسلمين ببراهين ثابتة مطواعة.... كان يوحنا وأمثاله يجادلون بحرارة شديدة، ويستدلون بالإسرائيليات، فإذا وجدوا الفرصة سانحة دسوا ما يريدون دسه على المسلمين، وربما اتخذوا من الروايات الإسرائيلية التي تقول: إن داود

_ (1) المستشار محمد عزت إسماعيل الطهطاوي- التبشير والاستشراق أحقاد وحملات (ص 36) من مطبوعات مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة (1377 هـ/ 1977 م) .

عليه السلام أحب زوجة قائده أوريا، وإنه عمل على التخلص منه حتى قتل، فتزوجها داود بعده، ربما عملوا مقارنات ومعادلات بينها وبين ما زعموه في قصة زواج النبي صلّى الله عليه وسلم من زينب» «1» . هذا الذي لفقه وزوره يوحنا الدمشقي؛ الذي يوصف بالقديس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم في زواجه من زينب بنت جحش قد يظنه بعض الناس أمرا هينا، ولكنه عند الله عظيم، فهو تشويه لصورة النبي صلّى الله عليه وسلم الذي يعد المثل الأعلى لكل مسلم، وإذا شوهت صورة النبي المعصوم، فماذا يبقى للمسلمين من قيم وأخلاق؟!. يقول الأستاذ عباس محمود العقاد في هذا الصدد «2» : «وما اتفق خصوم الإسلام عن سوء نية على شيء كما اتفقوا على خطة التبشير في موضوع زواج النبي صلّى الله عليه وسلم على الخصوص، فكلهم يحسب أن المقتل الذي يصاب منه الإسلام في هذا الموضوع هو تشويه سمعة النبي صلّى الله عليه وسلم، وتمثيله لأتباعه في صورة معينة، لا تلائم شرف النبوة، ولا يتصف صاحبها بفضيلة الصدق في طلب الإصلاح، وأي صورة تغنيهم في هذا الغرض الأثيم كما تغنيهم صورة الرجل الشهواني الغارق في لذات الجسد، العازف في معيشته البيتية ورسالته العامة عن عفاف القلب والروح؟! وإنهم لعلى صواب في الخطة التي تخيروها لإصابة الإسلام في مقتل من هذا الطريق الوجيز، وإنهم لعلى أشد الخطأ في اختيارهم هذه الخطة بعينها، إذ إن جلاء الحقيقة في هذا الموضوع أهون شيء على المسلم العارف بدينه، المطلع على سيرة نبيه، فإذا بمقتله المظنون حجة يكتفي بها المسلم، ولا يحتاج إلى حجة غيرها لتعظيم نبيه، وتبرئه دينه من قالة السوء الذي يفترى عليه، فلا حجة للمسلم على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم في رسالته أصدق من سيرته في زواجه وفي اختيار زوجاته، وليس للنبوة آية أشرف من آيتها في معيشة نبي الإسلام من مطلع حياته إلى يوم وفاته، ما الذي يفعله الرجل الشهواني الغارق في لذات الجسد إذا بلغ من المكانة والسلطان ما بلغه محمد في قومه؟ لم يكن عسيرا عليه أن يجمع إليه أجمل بنات العرب، وأفتن جواري الفرس والروم على تخوم الجزيرة العربية، ولم يكن عسيرا عليه أن يوفر لنفسه ولأهله من الطعام والكساء والزينة ما لم يتوفر لسيد من سادات الجزيرة في زمانه، فهل فعل محمد ذلك بعد نجاحه؟ هل فعل ذلك في مطلع حياته؟ كلا لم يفعله قط، بل

_ (1) د. زاهرى عواض الألمعي- مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي صلّى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش (ص 29، 30) . (2) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه (ص 59- 62) .

فعل نقيضه، وكاد يفقد زوجاته لشكايتهن من شظف العيش في داره ... والسيدة زينب بنت جحش- ابنة عمته- زوجها من مولاه ومتبناه زيد بن حارثة، فنفرت منه، وعز على زيد أن يروضها على طاعته، فأذن له النبي في طلاقها، فتزوجها عليه السّلام؛ لأنه المسؤول عن زواجها، وما كان جمالها خفيّا عليه قبل تزويجها من مولاه؛ لأنها كانت بنت عمته، يراها من طفولتها، ولم تفاجئه بروعة لم يعهدها» . نعود إلى يوحنا الدمشقي، الذي يمثل بواكير الاستشراق الكنسي الحاقد على الإسلام ورسوله ورسالته وحضارته، والذي نشأ في الشام، في كنف الدولة الأموية، ومع ذلك نجح في بث سموم أفكاره، حتى عرفت طريقها لكتب تفسير القرآن الكريم. ويعاصر يوحنا الدمشقي ويماثله في الحقد على الإسلام، رجل لاهوت مسيحي آخر عاش في مصر، وهو حنا النقيوسي وقد يقول قائل: إن هذين الرجلين وأمثالهما لا يعدون مستشرقين؛ لأنهم أصلا من الشرق والمستشرق في عرف الناس هو رجل غربي يهتم بالدراسات الشرقية، وهذا القول ليس صحيحا؛ لأن الشرق والاستشراق في رأينا مفهوم حضاري أكثر منه مفهوم جغرافي، وقد قلنا: إن الأندلس تعتبر شرقية حضاريّا، وإن كانت غربية جغرافيّا. وبهذا المفهوم فإننا نعد كل من يهاجم الإسلام ويطعن في أسس عقائده، ويغمز ويلمز، فهو مستشرق مهما كان موطنه. وليوحنا الدمشقي، وحنا النقيوسي اللذين عاشا في أواخر القرن الأول وبداية الثاني الهجري امتداد حتى الوقت الحاضر، فرجال مثل عزيز عطية سوريال، وهو مصري مسيحي كان أستاذا بجامعة الإسكندرية، ثم ذهب ليدرس في إحدى الجامعات الأمريكية، وهو شديد الحقد على الإسلام في كتاباته، ومثل بطرس عبد الملك، وهو الآخر مصري مسيحي، كان أستاذا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم هاجر إلى أمريكا، واشتغل بالتدريس في جامعة برنستون، ومثل فيليب حتى وهو لبناني مسيحي، هاجر إلى أمريكا، وأخذ الجنسية الأمريكية، وعمل بالتدريس في قسم الدراسات الشرقية في جامعة برنستون، وله العديد من المؤلفات عن تاريخ العرب والإسلام، وغير هؤلاء كثيرون، وكلهم رغم انضمامهم جغرافيّا إلى الشرق، فإنهم- بمناصبتهم الإسلام العداء- يعدون في نظرنا مستشرقين «1» وامتدادا ليوحنا الدمشقي، وحنا النقيوسي، وهم يشبهون حركة الشعوبية التي

_ (1) دكتور علي محمد عبد الوهاب- بين الإسلام والغرب ... ضراوة ومرارة حصاد (ص 220، 221) ، دار ركابي- القاهرة (1996 م) .

* تطور الحركة الاستشراقية:

ظهرت في العصر العباسي الأول (132- 232 هـ) من بين الفرس خاصة، والتي عمدت إلى تحقير العرب، والحط من مكانتهم لتقويض رسالتهم «1» . * تطور الحركة الاستشراقية: وهذه الحركة أو هذه الظاهرة الاستشراقية التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري، على يد القديس يوحنا الدمشقي وحنا النقيوسي وأمثالهما، بدأت تتسع ويمتد نطاقها مع اتساع الفتوحات الإسلامية، وامتدادها إلى أوربا عن طريق الأندلس، وصقلية، وجنوب إيطاليا، ويمثل هذا التطور مكانا بارزا في تاريخ الاستشراق؛ لأن أوربا بعد أن وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، وبعد أن بدأت الحضارة الإسلامية في الازدهار في تلك المراكز الأوربية، بدأت ترقب عن كثب ما يجري في قرطبة وطليطلة وأشبيلية وغيرها من المدن الأسبانية، فقررت الاستفادة من الحضارة الإسلامية، وهذا تطور كبير في حركة الاستشراق، وبداية التخلص شيئا فشيئا من قيود التعصب الكنسي، فقد وجد كثير من الأوربيين أن الحضارة الإسلامية بدأت تتألق لا في الشرق الإسلامي فحسب، بل في الأجزاء الأوربية التي وصلتها الفتوح الإسلامية، في الأندلس وصقلية وغيرها. فقد كتبت أسبانيا العربية الإسلامية صفحة من أروع صفحات الحضارة الراقية في تاريخ القارة الأوربية في العصور الوسطى، يوم أن كانت أوربا كلها تتخبط في الظلام، ولقد بدأت تخرج من هذا الظلام يوم أن عرفت الحضارة العربية الإسلامية، وقدرت قيمتها وأهميتها، فبدأت ترسل أبناءها للتعليم في مراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس، وفي مدنها العامرة، مثل قرطبة، وطليطلة، وأشبيلية وغيرها، وهذا الاتجاه كان تطورا إيجابيّا في مسيرة الاستشراق بالنسبة إلى أوربا عاد عليها بفوائد كثيرة «2» . وقد اتخذ إقبال الأوربيين على الاستفادة من الحضارة العربية شكلا منظما، مما جعله استشراقا يقوم على أسس علمية ثابتة واضحة، فقد اهتمت الدول الأوربية بإرسال بعثات علمية إلى بلاد الأندلس العربية لدراسة العلوم والفنون والصناعات التي في معاهدها الكبرى، نتيجة زيوع شهرة الأندلس وحضارتها الزاهرة في انجلترا وفرنسا. وهناك أمثلة كثيرة توضح هذا الاستشراق العلمي المنظم، ففي مطلع القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي وصلت بعثات علمية من انجلترا وفرنسا إلى أسبانيا

_ (1) د. علي حسن الخربوطلي- المستشرقون والتاريخ الإسلامي (ص 37) . (2) انظر: كتاب «حضارة العرب» لجوستاف لوبون (ص 566) وما بعدها.

* الاستشراق والحروب الصليبية:

العربية، وصل عدد طلابها إلى نحو سبعمائة طالب وطالبة لتلقي العلم هناك «1» . * الاستشراق والحروب الصليبية: كانت الهجمة البربرية التي شنها الغرب الأوربي على الشرق الإسلامي، والتي عرفت بالحروب الصليبية، والتي دامت نحو قرنين من الزمان، كانت هذه الهجمة نتيجة للشحنة الهائلة من الكراهية والبغضاء والحقد على الإسلام والمسلمين، والتي شحن بها المستشرقون المتعصبون، وبصفة خاصة من الأوساط الكنسية والديرية، الشعوب الأوربية ضد الإسلام والمسلمين، فإن معظم الجموع الهمجية الهائجة التي هاجمت الشرق الإسلامي، كانت تعتقد بأن المسلمين كفرة ومتوحشين، كما علمتهم الكنيسة ورجالها من المبشرين والمستشرقين على مدى أجيال، وما دام المسلمون كفرة ومتوحشين فيجب إبادتهم؛ بل إن البابا أخبرهم بأن قتال هؤلاء المسلمين الكفرة واجب ديني مقدس، ووعدهم بغفران ذنوب من يشترك فيها، فضلا عن الغنائم الوفيرة «2» ، فاندفعوا اندفاعتهم الوحشية، وكان ما كان. وهذه الحروب الصليبية التي كانت نتيجة الحقد الدفين لدى الغربيين، والذي غزاه الاستشراق المتعصب، هذه الحروب ذاتها زادت من جذوة الكراهية، والعداء المتبادل بين المسلمين والأوربيين، وأدت إلى اتساع دائرة الاستشراق، فقد فوجئ الصليبيون بأن الشرق الإسلامي لم يكن بلاد الكفر والجهل والوحشية كما علمتهم الكنيسة وشحنتهم بالعداء على مدى أجيال؛ بل وجدوه يتمتع بحضارة زاهرة، جديرة بأن يتعلموا منها، ولكن الغريب أنهم لم يتخلوا قط عن روح العداء والتعصب ضد الإسلام والمسلمين، وانعكست روح العداء هذه في دراسات المستشرقين الذين نشؤوا أثناء الحروب الصليبية وبعدها، الذين أخذوا يتعلمون اللغة العربية لا حبّا فيها؛ ولكن لأنها وسيلة جيدة- من وجهة نظرهم- لفهم الإسلام أكثر، لا للتفاهم مع المسلمين بل لمحاربتهم «3» . وها هو واحد من المستشرقين المعاصرين، وهو المستشرق الألماني رودي بارت يعترف صراحة بهذا الاتجاه الذي أخذه مسار الاستشراق أثناء الحروب الصليبية

_ (1) د. علي حسن الخربوطلي- المستشرقون والتاريخ الإسلامي (ص 33، 34) . (2) محمد العمروسي المطوي- الحروب الصليبية في الشرق والغرب (ص 34) ، طبع دار الغرب الإسلامي- بيروت (1982 م) . (3) بين الإسلام والغرب، مرجع سابق (ص 201) .

وبعدها، فيقول: «إذا نظر المرء إلى الوراء، إلى تاريخ تطور الاستشراق، ولم يتردد في التبسيط رغبة في زيادة الوضوح، فإنه يستطيع أن يقول: إن بداية الدراسات العربية والإسلامية ترجع إلى القرن الثاني عشر، ففي عام (1143 م) تمت ترجمة القرآن لأول مرة، إلى اللغة اللاتينية، بتوجيه من الأب بيتروس فينيرابيليس، رئيس دير كلوني وكان ذلك على أرض أسبانيا، وعلى الأرض الأسبانية، وفي القرن الثاني عشر أيضا نشأ أول قاموس لاتيني عربي، وفي القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، بذل رايموندوس- المولود في جزيرة ميورقة- جهودا كبيرة لإنشاء كراسي لتدريس اللغة العربية، وكان قد تعلم اللغة العربية على يد عبد عربي، وكان الهدف من هذه الجهود في ذلك العصر والقرون التالية هو التبشير، وإقناع المسلمين بلغتهم ببطلان دينهم واجتذابهم إلى الدين المسيحي، ويمكن الاطلاع على هذا الموضوع بتفصيلاته في الكتاب الكبير الذي وضعه نور من دانييل باسم «الإسلام والغرب» سنة (1960 م) ، والطبعة الثانية (1963 م) ، وكان موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام هو موقف العداء والمشاحنة فحسب، حقيقة إن العلماء ورجال اللاهوت في العصر الوسيط كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، وكانوا يتصلون بها على نطاق كبير، ولكن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو موضوعي نوعا ما، كانت تصطدم بحكم سابق، يتمثل في أن هذا الدين المعادي للمسيحية لا يمكن أن يكون فيه خير، وهكذا كان الناس لا يولون تصديقهم إلا تلك المعلومات التي تتفق مع هذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون بنهم كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي ودين الإسلام» «1» . هذا هو اعتراف واحد من كبار المستشرقين الأوربيين المعاصرين، بأن موقف العداء والتعصب من طائفة كبيرة من المستشرقين، وبصفة خاصة رجال اللاهوت ضد الإسلام ورسوله ورسالته، هذا الموقف العدائي لم يتغير حتى بعد احتكاكهم الطويل بالمسلمين في الحروب الصليبية، واطلاعهم على الحضارة الإسلامية، وعلى التسامح الإسلامي الذي كان يتحلى به القادة المسلمون تجاه الصليبيين، وبصفة خاصة صلاح الدين الأيوبي الذي ضرب أروع الأمثلة في التسامح مع الأعداء، ومعاملتهم معاملة كريمة «2» .

_ (1) رودي بارت- الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الإلمانية (ص 9، 10) ، ترجمة د. مصطفي ماهر، دار الكتاب العربي- القاهرة. (2) محمد العمروسي المطوي- الصليبية في المشرق والمغرب (ص 85، 86) .

كل ذلك لم يؤثر فيهم، ولم يحملهم على مراجعة مواقفهم؛ لأن شحنة العداء التي شحنتهم بها الكنيسة ورجالها كانت أكبر وأعمق من قدرتهم على التخلص منها، فاستمروا في عدائهم وحقدهم، بل أخذ هذا العداء وذلك الحقد في الازدياد بعد أن غير التاريخ مساره، وأصبحت الغلبة للأوربيين على العالم الإسلامي منذ طرد المسلمين من الأندلس في نهاية القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، ومطاردتهم إلى شمال إفريقيا، ثم تطويق العالم الإسلامي من الخلف، ووصول الأساطيل البرتغالية إلى مداخل البحر الأحمر الجنوبية، وتلتها الأساطيل الإنجليزية والفرنسية والهولندية ... إلخ، وبدأت قصة استعمار أوربا لمعظم بلاد وأقطار العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وهنا دخل الاستشراق ليقوم بمهمة تسهيل أمر السيطرة الغربية على العالم الإسلامي، منفذين كل الدراسات التي يحتاجها رجال السياسة وصناع القرار في العواصم الغربية، الذين كان يهمهم الوقوف على التاريخ العربي والإسلامي، والكشف عن الحضارة العربية والتراث الإسلامي، فأحسنت كل دولة إلى مستشرقيها، فضمهم ملوكهم إلى حاشيتهم، أمناء أسراره وتراجمه، وانتدبوهم للعمل في سلكي الجيش والديبلوماسية إلى بلدان الشرق، وولوهم كراسي اللغات الشرقية، في كبرى الجماعات والمدارس الخاصة، والمكتبات العامة والمطابع الوطنية، وأجزلوا عطاءهم في الحل والترحال، ومنحوهم ألقاب الشرف وعضوية المجامع العلمية «1» . ليس من غرضنا من كل ما تقدم في هذه الورقة أن نصم كل المستشرقين بالتعصب ضد الإسلام والمسلمين، ولا أن نجحد فضل المستشرقين على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم في الكشف عن كثير من كنوز حضارتنا، وتحقيقهم للكثير من مخطوطاتنا العربية الإسلامية، وبعثها في ثوب جديد وقشيب، كل ذلك نذكره ونشكرهم عليه؛ لأننا قوم لا نجحد فضل صاحب الفضل، هكذا علمنا ديننا وعلمنا رسولنا صلّى الله عليه وسلم، ولكن الذي نريد أن يعلمه قومنا أن الأصوات العاقلة والمنصفة من بين المستشرقين، والتي أنصفت الإسلام ورسوله ورسالته وحضارته- وهي كثيرة- هذه الأصوات ضاعت وسط الأصوات الحاقدة المتعصبة، ولم يعد لها أثر في الذهنية الأوربية والأمريكية، والأثر الذي بقي في الذهنية هو الأثر السلبي الذي تركته الكتابات الحاقدة والمتعصبة، والذي لا يزال يوجه شعور الأوربيين نحو الإسلام والمسلمين، وهو شعور الاستعلاء والتكبر على كل ما هو إسلامي، فهل

_ (1) بين الإسلام والغرب، مرجع سابق (ص 203، 204) .

يجدي أن نظل نحن متسامحين مع قوم يكنون لنا كل الكره والعداء والاحتقار والازدراء، وكل هذا يعلمونه لأولادهم في مدارسهم وجامعاتهم، ليشبوا على كرهنا واحتقارنا، وبهذه المناسبة كتبت أستاذة مصرية تعمل في جامعة جنيف بسويسرا مقالا حديثا في جريدة الأهرام القاهرية عن صورة الإسلام في المناهج الدراسية في الغرب سأنقله هنا كاملا؛ لأنه مهم جدّا، ويغني عن كل تعليق؛ لأنه شهادة أستاذة جامعية تعيش في الغرب وبين أهله، وتحس بشكل مباشر بما يكنونه لنا في قرارة نفوسهم، تقول الأستاذة الدكتورة فوزية العشماوي «1» : «إن قضية صورة الإسلام في المناهج الدراسية في الدول الأوربية والأمريكية من أهم القضايا التي يجب أن يوليها القائمون على التربية والتعليم في الدول العربية والإسلامية اهتمامهم، إذا رغبنا في التعايش السلمي، والرغبة الحقيقية في أن يسود العالم سلام شامل وعادل، وعلينا أن نعيد قراءة كتب التاريخ المدرسية، خاصة إعادة قراءة ما سطره الغربيون في كتب التاريخ المدرسية عن الإسلام والمسلمين، بهدف تقليل الاختلاف والحد من التناقضات التى تعرقل الحوار بين الشمال والجنوب، فيجب أن نستخرج من المناهج الدراسية كل الأنماط الثابتة، أي: الأنماط الذهنية المتكونة عن المسلمين في الوعي الأوربي والصورة التي يتم تكرارها بأسلوب سلبي كلما جاء ذكر المسلمين، وكذلك الأحكام التقديرية المسبقة، التي تعكس وجهة نظر متعنتة تجاه الإسلام، وتبرز مدى تحيز مؤلفي تلك المناهج التاريخية وفقدانهم لروح الموضوعية. وسنقدم بعض الاقتراحات لإعادة صياغة المناهج الدراسية بهدف تصحيح الأفكار المسبقة والمعتقدات الخاطئة المتوارثة، وذلك في سبيل تحقيق مفهوم أفضل عن الآخر، وتعريف أفضل بالتاريخ الإسلامي الصحيح. أوربا محور العالم: حين نستعرض كتب التاريخ المدرسية الغربية، ونقوم بتحليل ما تذكره عن الإسلام، وعن العالم الإسلامي، نجد أن الصفحات المخصصة لعرض كل ما يتعلق بالإسلام لا تزيد عن عشر صفحات من إجمالي كتاب التاريخ، الذي يتراوح عدد صفحاته في الغالب ما بين 200، 300 صفحة، أي النسبة لا تزيد عن 3 من المقرر الدراسي، وهي نسبة ضئيلة جدّا بالمقارنة بباقي المقرر، أي: بنسبة 97 المخصصة لتاريخ أوربا وأمريكا، وفي الغالب يكون الفصل المخصص للعالم الإسلامي مندرجا في إطار بلاد العالم الثالث، سواء من الناحية الجغرافية،

_ (1) مقال في جريدة الأهرام القاهرية بتاريخ (14 يناير سنة 2000 م) بعنوان «صورة الإسلام في المناهج الدراسية في الغرب» .

للعالم الإسلامي مندرجا في إطار بلاد العالم الثالث، سواء من الناحية الجغرافية، أو من الناحية التاريخية، وأحيانا يأتي ذكر الإسلام والمسلمين كحضارة من الحضارات، أو كتيار من التيارات الدينية والأيديولوجية التي عرفتها الإنسانية عبر التاريخ، والمنتشرة حاليا في العالم، وكثيرا ما يأتي ذكر الإسلام في إطار توزيع الثروات الطبيعية في العالم، ويقترن ذكر الإسلام والمسلمين بالبلاد المنتجة للنفط؛ لأن معظمها يدين بالدين الإسلامي، ولقد لاحظنا أن معظم المناهج الدراسية في الدول الأوربية تجعل من أوربا المحور الذي تدور حوله الأحداث التاريخية المهمة، ولا تعرض كتب التاريخ ما جرى من أحداث تاريخية مهمة في دول الجنوب أو في منطقة الشرق الأوسط، وقارتي آسيا وإفريقيا، فالاهتمام كله منصب على أوربا وتاريخها القديم والحديث، أما الأحداث التاريخية المهمة، التي تعتبر علامات ثابتة في تاريخ الأمة العربية والإسلامية فيتم إغفالها تماما، ويتم التركيز فقط على بعض الأحداث غير ذات الأهمية، والتي تبرز تفوق أوربا وانتصارها على المسلمين. لقد قمنا عام (1994 م) بإجراء دراسة مقارنة باللغة الفرنسية عن صورة المسلم في كتب التاريخ المدرسية في بعض دول البحر الأبيض المتوسط: فرنسا وأسبانيا واليونان، تحت إشراف اليونيسكو، وقد اهتممنا في هذه الدراسة بكتب التاريخ في نهاية المرحلة الابتدائية، وجاء في نتائج البحث أن التاريخ الذي يتم تدريسه للتلاميذ الأوربيين الصغار يعلمنا أشياء مختلفة تماما عما يتم تدريسه للتلاميذ العرب المسلمين في مدارس جنوب البحر الأبيض المتوسط، كما لا يتم عرض المفاهيم الإسلامية بأسلوب علمي، فنجد أن نبي الإسلام صلّى الله عليه وسلم يتم تقديمه أحيانا على أنه رسول، وأحيانا على أنه شاعر ملهم يرى رؤى خارقة، ولهذا الغرض يستخدم مؤلف الكتاب المدرسي صيغة فعل الشك والهدف من وراء ذلك هو زرع الشك في نفوس صغار التلاميذ في مصداقية الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، ولقد لاحظنا أثناء إجراء هذه الدراسة عن صورة المسلم في المناهج الأروبية، أنه في أغلب الأحيان يبدأ الحديث عن الإسلام بذكرى الانتشار السريع المخيف للإسلام من خلال الفتوحات الإسلامية، في القرنين السابع والثامن الميلاديين، وكيف أن جيوش المسلمين الزاحفة على أوربا اكتسحت تلك البلاد، واستولت عليها بقوة السيف، وأذلت أهلها، ونهبت أموالهم وثرواتهم، حتى كانت هزيمة المسلمين على يد شارل مارتال؛ القائد الفرنسي في معركة بواتية في جنوب فرنسا عام (732 م) ، أما أهم فصل فهو الفصل الخاص

بالحروب الصليبية، فإن هذه المناهج تصور الحروب الصليبية على أنها حروب كان الهدف الأساسي منها هو تحرير بيت المقدس من أيدي «الكفار» ، أي المسلمين الذين كانوا- حسب ادعاء الأوربيين- يحتلونها، ويسيؤون معاملة المسيحيين الشرقيين، أي: المقيمين في الشرق الأوسط، وكذلك يسيؤون معاملة الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا، لزيارة الأماكن المقدسة المسيحية في القدس، وهذا الوصف يجعلنا نشعر بأن الأوربيين مصرون على تصوير المسلمين على أنهم كفار مثلما كانوا يطلقون عليهم في القرون الوسطى، فلا يوجد أي تعليق على هذا اللفظ سوى وضعه بين قوسين؛ ليفهم التلميذ أن اللفظ منقول كما هو من مصدر ما؛ أي: أنه دون محاولة من مؤلف الكتاب المدرسي لتصحيح هذا المفهوم الخاطئ عن المسلمين؛ كذلك أغفلت المناهج الدراسية الغربية التنديد بوحشية الصليبيين، وعدم تسامحهم مع سكان بيت المقدس، حين انتزعوها من أيدي المسلمين عام (1099 م) ، بينما التاريخ العالمي والموسوعات العلمية الكبرى اعترفت بأن الصليبيين ذبحوا أكثر من 70 ألف من المدنيين؛ من أهالي القدس دون تمييز بين النساء والأطفال والشيوخ، أو بين مسلمين ويهود ومسيحيين، كذلك لزمت المناهج الدراسية الغربية الصمت التام، أو الإغفال التام لتسامح المسلمين، حين استعاد المسلمون القدس عام (1187 م) على يد القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، الذي أصدر العفو العام على كل الأهالي- المسيحيين الغربيين- وهذا إغفال متعمد، لإخفاء الحقائق التاريخية، التي سجلها التاريخ، وغني عن القول أن الدافع وراء هذا الإغفال هو تشويه صورة المسلمين في ذهن التلاميذ الغربيين، والإصرار على عدم تصحيح المفهوم الخاطئ الذي ترسب في عقول التلاميذ، وما زال عالقا بها حتى اليوم، ولعل أكثر الأمثلة دلالة على ظاهرة الإغفال المتعمد هو إغفال المناهج الدارسية الغربية الاعتراف بفضل الفلاسفة والعلماء العرب المسلمين على النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر الميلادي، ونادرا ما تذكر المناهج الدارسية اعترافا بدين أوربا تجاه علماء المسلمين؛ من أمثال ابن رشد، وابن المقفع، والخوارزمي، وابن سينا، وابن النفيس، والذين كانوا منذ القرن التاسع أساتذة ومعلمي أوربا بأسرها. منهجية تصحيح صورة الإسلام في الغرب: يجب على المسلمين اليوم أن يحرصوا

الإنسان المسلم، وذلك عن طريق التعريف الصحيح بالإسلام، وإنكار السلوكيات المنحرفة والبعيدة عن روح الإسلام في زيادة تشويه صورة الإسلام في الغرب، وفي نفس الوقت يجب على الغرب أيضا أن يحرص على تصحيح الصورة المشوهة عن الإسلام، والثابتة في وعي الغربيين، والتي يتوارثها جيلا بعد جيل، عن جهل بالإسلام الحقيقي، ومفاهيمه الصحيحة، وروحانياته السامية، ويجب على الدول الغربية؛ حكومات ومؤسسات أهلية، أن تعترف بحق الإنسان المسلم- سواء الذي يعيش في دولة إسلامية أو في دولة أوربية أو أمريكية- في أن يدافع عن عقيدته الإسلامية ويمارسها بحرية؛ فهذا حق أساسي من حقوق الإنسان، يجب أن يحترمه الغربيون، ويحترمون الخصوصيات الدينية والثقافية للمسلمين، خاصة المسلمين المقيمين في الدول الغربية. ونحن نعتقد أن تصحيح صورة الإسلام المشوهة في الغرب لن يتم إلا عندما يبدأ الغرب في التخلص من أثر الموروث التاريخي في وعيه وعقله عن الإسلام، على الغرب أن ينظر إلى الإسلام بموضوعية وعقلانية، ويطرد من فكره الأنماط المتجمدة عن الإسلام والمسلمين» . هذه الصورة الشائعة عن الإسلام في الغرب، والتي تحتويها مناهج الدراسة في المدارس والجامعات، والتي تضمنها هذا التقرير، أو هذه الدراسة التي تمت تحت إشراف هيئة دولية، هي هيئة اليونيسكو، هذه الصورة الشائعة عن الإسلام في الغرب هي من غرس المستشرقين المتعصبين منذ ظهر الاستشراق وحتى يوم الناس هذا، ولا سبيل إلى تصحيح هذه الصورة إلا بتغيير المناهج الدراسية في الغرب، فهل الغرب على استعداد أن يقدم على هذه الخطوة؟ أغلب الظن أنه لن يفعلها أبدا؛ لأن الغرب أحرص على بقاء صورة الإسلام مشوهة منه على تصحيحها؛ لأن بقاء الصورة المشوهة هو الذي يجعل أبناءهم يشبون على كره الإسلام والمسلمين واحتقارهم، وهؤلاء الأبناء عندما يصبحون ساسة وقادة يتعاملون مع الإسلام وعالمه من هذه الخلفية الكريهة المشوهة، وهذا ما نلمسه ونشاهده ونراه رأي العين في كل مكان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبعد؛ هذا هو البحث المتواضع الذي قدمته إسهاما في أعما لهذا الملتقى الدولي، الذي تنظمه كلية العلوم الإنسانية والحضارة الإسلامية بجامعة وهران، عن

الدراسات الاستشراقية، فإن وجدت فيه القارئ الكريم بعض النفع فهذا من فضل الله، وإلا فاغفر لي ضياع وقتك، والله من وراء القصد.

الفهرس

الفهرس * مقدمة 3 * أوائل المؤلفين في السيرة النبوية 11 دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم 17 بداية التأليف في السيرة النبوية 18 طبقات كتّاب السيرة 20 رجال الطبقة الأولى من كتّاب المغازي والسير 20 رجال الطبقة الثانية من كتّاب المغازي والسير 24 رجال الطبقة الثالثة من كتّاب المغازي والسير 30 * صدى الدعوة في مدن الحجاز- غير مكة- كالطائف والمدينة 57 الحالة الدينية في الحجاز قبيل ظهور الإسلام 59 الحالة الدينية في الطائف قبيل البعثة المحمدية 60 الحالة الدينية في المدينة قبيل البعثة 65 * العلاقات بين المسلمين وقريش من الهجرة إلى بدر 79 * العلاقات بين المسلمين والروم في ضوء غزوة تبوك 107 * الإدارة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم 133 طبيعة الدعوة الإسلامية 135 قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم 138 أول رئيس للدولة الإسلامية 144 هيئة الحكومة النبوية 145 صاحب السر 146 صاحب الشرطة 146 حراس الرسول صلّى الله عليه وسلم 147 حراس المدينة أو شرطة المدينة 147 المنفذون للحدود بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلم 147 حجّاب الرسول صلّى الله عليه وسلم 147 حاملوا خاتم الرسول صلّى الله عليه وسلم 148

بيت الضيافة 148 مراقبة الأسواق 149 جهاز جمع المعلومات «المخابرات» 149 كتّاب الرسول صلّى الله عليه وسلم 150 جهاز الإعلام 151 خلفاء الرسول على المدينة أثناء غيابه عنها في غزو أو غيره 152 اتساع نفوذ الدولة الإسلامية 153 اليمن أول إقليم عربي يدخل تحت سيادة الدولة الإسلامية 154 ولاية مكة 156 ولاية الطائف 157 إسلام البحرين 157 إسلام أهل عمان 158 * دولة الإسلام وعلاقاتها الدولية في عهد النبي صلّى الله عليه وسلم 161 قيام دولة الإسلام 164 خاتمة البحث 200 * قراءة تاريخية جديدة لموقف عمر بن الخطاب صلّى الله عليه وسلم من الفتوحات الإسلامية 205 موققف عمر بن الخطاب من الفتوحات 216 * دور المصريين في إنشاء البحرية الإسلامية، من كتاب «مصر والإسلام» 225 تمهيد 227 دور الصناعة في مصر وأثرها في إنشاء الأساطيل الإسلامية 236 * الفتح الإسلامي لبلاد ما وراء النهر وانتشار الإسلام هناك 253 انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر 280 * تبادل الوفود والهدايا بين خلفاء المسلمين والأباطرة البيزنطيين 295 العلاقات الإسلامية البيزنطية في عهد النبي والخلفاء الراشدين 298 العلاقات الإسلامية البيزنطية في العهدين الأموي والعباسي 301 تبادل الوفود لعقد معاهدات الصلح 302 الوفود والبعثات العلمية 308 تبادل الهدايا بين الخلفاء والأباطرة 312

* الأمويون ودورهم في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس 319 بنو أمية في التاريخ 326 الدولة الأموية في الأندلس 343 دور الأمويين في نقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس 353 * واقع الإنسان في المجتمعات الإسلامية المعاصرة 377 * نشأة الاستشراق وتطوره إلى نهاية الحروب الصليبية 413 * الفهرس 435 رقم الإيداع 18415/ 2006 الترقيم الدولي ... 5- 406- 342- 977

السيرة الذاتية للمؤلف

السيرة الذاتية للمؤلف * الاسم: أ. د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف. * تاريخ الميلاد: 10/ 7/ 1936 م. * حصل على الإجازة العالية [الليسانس] في التاريخ والحضارة الإسلامية من قسم التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة سنة 1966 م، وعين معيدا بقسم التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية بالقاهرة في 16/ 10/ 1966 م. * حصل على الماجستير في التاريخ والحضارة الإسلامية سنة 1968 م، وعين مدرسا مساعدا بنفس القسم في 10/ 2/ 1972 م، وحصل على الدكتوراه في التاريخ والحضارة الإسلامية سنة 1974 م، وعين مدرسا بنفس القسم في 31/ 7/ 1974 م، ثم أستاذا مساعدا في 19/ 9/ 1979 م، ثم أستاذا في 10/ 10/ 1984 م، ثم أستاذا متفرغا في 11/ 7/ 2001 حتى الآن. * له الكثير من المؤلفات، منها: تاريخ الإسلام في عصر النبوة والخلافة الراشدة- مؤتمر السقيفة وبيعة أبي بكر الصديق رضى الله عنه [دراسة نقدية تحليلية]- العالم الإسلامي في العصر الأموي- تاريخ الحركة الوطنية المصرية في مواجهة الاستعمار والصهيونية [بالاشتراك]- التاريخ الإسلامي من ظهور الإسلام حتى سقوط الدولة الأموية [بالاشتراك]- الجيش المصري من الفتح الإسلامي إلى نهاية الدولة الإخشيدية- دراسات في تاريخ الدولة الأموية- الإدارة في الإسلام. * وهو عضو بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية بالقاهرة، وجمعية الدراسات الإسلامية بالقاهرة، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، واتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة، واللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة في التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر بالقاهرة، ولجنة ترقية الأساتذة بجامعتي الملك عبد العزيز بجدة وأم القرى بمكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، واشترك في العديد في المؤتمرات والندوات العلمية في داخل مصر وخارجها؛ مثل: المملكة العربية السعودية- الجزائر- إيطاليا وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في التاريخ والحضارة الإسلامية.

§1/1