السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة

محمد الصوياني

السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (قراءة جديدة) محمد الصوياني الجزء الأول مكتبة العبيكان

(ح) مكتبة العبيكان، 1424هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الصوياني محمَّد السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة. / محمَّد الصوياني - الرياض، 1424 هـ 286 ص، 16.5 × 24 سم ردمك: 0 - 375 - 40 - 9960 (مجموعة) 9 - 376 - 40 - 9960 (ج1) 1 - السيرة النبوية 2 - الحديث- مباحث عامة أ. العنوان ديوى 239 2878/ 1424 ردمك:0 - 375 - 40 - 9960 (مجموعة) رقم الإيداع: 2878/ 1424 9 - 376 - 40 - 9960 (ج1) الطبعة الأولى الخاصة بمكتبة العبيكان 1424هـ/2004 م حقوق الطباعة والنشر محفوظة للناشر الناشر مكتبة العبيكان الرياض- العليا- تقاطع طريق الملك فهد مع شارع العروبة ص. ب: 62807 - الرمز: 11595 هاتف:4654424 - فاكس: 4650129

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ..

هذه القصة

هذه القصة قصة طفل طهور كالبرد .. ولد يتيمًا .. واستمر اليتم يلاحقه ويلاحق طفولته في طرقات مكة ودروبها .. يذيقه المرارة .. يفجعه بأهله وأحبابه .. ويكبر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. وتكبر غربته .. ويكتشف في دروب الحياة يتمًا أكبر من يتمه .. وهمًّا أثقل من همِّه .. فالأرض كلها يتم .. والبشرية تئن همًا وحزنًا يعصر قلبها .. الجزيرة العربية كانت غابةً من الأصنام .. وأوديةً تسيل دماء بريئة .. تسيل عادات بالية وتقاليد محيرة .. ماذا يفعل أمامها .. وماذا بيديه حيالها .. ماذا يفعل سوى الغربة مهربًا وملاذًا .. يناجي بها ربه ويعج إليه بالتوحيد والدعاء .. وفي غربته الشعورية تلك تهبط عليه الرسالة .. فيحمل الأمانة وينحدر بها نحو مكة .. نحو أمته فينطق بها بهجة وبشرى لهم .. وينتظر الإجابة .. وتأتي الإجابة على غير ما يتمنى ويحب .. تأتى الإجابة سياطًا وشتائم وتكذيبًا له وهو الذي يلقب بالأمين. فماذا فعل الأمين - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء؟ الإجابة كانت أكثر من خمسين عامًا من فنِّ التعامل مع الغير .. نقشها - صلى الله عليه وسلم - في قلوب من حوله وقلوب غيرهم ممّن دبَّ على هذه الأرض إلى قيام الساعة. الإجابة سيرة لم تكن ماضيًا أبدًا .. بل شعلة توقد شموس الحياة .. ودماء تتدفق في عروق المستقبل والأجيال.

سيرته - صلى الله عليه وسلم - في مكة هي واقع هذه الصحوة التى تهز أركان الأرض من أقصاها إلى أقصاها .. ولا بد لهذه الصحوة من أن تشرب من النبع الذي شربت منه في مكة .. لا بد لها من أن تتقد بشعلتها الخالدة وإلا تحولت إلى رماد تذروها الرياح والأهواء. أحاول في هذه السيرة- القصة أن أبسط ما أمكن .. أن أجعل هذه الأحداث سهلة في متناول الجميع خاصة من لا يبحثون عن التعقيد أو التفريع .. لذلك صغتها وربطت بين أحاديثها الصحيحة لتكون قصة لا روايات أحداث متفرقة فقط. فالحمد لله حمدًا يليق بجلاله وعظمته إن كنت قد وفقت في ذلك .. وأرجوه الصفح والغفران إن كنت قد زللت ..

جده عبد المطلب

جده عبد المطلب لا أدري من أين أتى .. ربما صعد جبلًا أو منه انحدر .. ربما هبط واديًا؛ أو كان يرعى الغنم .. لا أدري .. لكنه كان متعبًا يقتلع خطاه .. يسحب جسده الثقيل نحو الكعبة .. حيث ألقى بذلك الجسد في الحجر .. وتردى في هوة سحيقة من النوم .. ليجد في قعرها هاتفًا يطالبه بعمق أكثر .. فيقول له: (احفر طيبة) (¬1) .. لم يمهله عبد المطلب .. لقد عاجله قائلًا: وما طيبة؟ ولم تأت إجابة .. وأطبق الصمت، والهاتف اختفى ولم يرد. وفي الغد .. رجع عبد المطلب إلى مرقده ذلك عله يجد لذلك الحلم تفسيرًا. وما إن غاص في سباته حتى سمع ذلك الصوت الخفي يناديه مرة أخرى: (احفر بره) (¬2). ¬

_ (¬1) اسم من أسماء زمزم. (¬2) اسم من أسماء زمزم.

(يقول عبد المطلب: قلت: وما بره؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه .. فجاءني فقال: احفر زمزم. قلت: وما زمزم؟ قال: لا تترف أبدًا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل .. فلما بيّن لعبد المطلب شأنها، ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمِعْوَلِه ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ وليد غيره .. فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطي (¬1) كبَّر (¬2). فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته .. فقاموا إليه. فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقًا .. فأشركنا معك فيها. فقال عبد المطلب: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأُعطيتُه من بينكم. فقالوا: أنْصفنا فإنّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال عبد المطلب: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد هذبم. قال عبد المطلب: نعم. ¬

_ (¬1) طي البئر وهو من الحجارة. (¬2) قال: الله أكبر.

وكانت -هذه الكاهنة- بأشراف الشام. فركب عبد المطلب، ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز (¬1)، حتى إذا كانوا ببعضها نفذ ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم، فأبوا عليهم. وقالوا: إنا بمفاوز .. وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل، دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه، حتى يكون آخرهم رجلًا واحدًا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه. فقالوا: نِعْمَ ما أمرت به. فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشًا) (¬2) لقد كان ذلك الرأي سقيمًا، إنه انتحار بطىء سببه تلك الخصومة والضيق الذي لا مبرر له إلا حب الرياسة والشرف عند أولئك العرب، لقد أحس عبد المطلب بفساد ذلك الرأي فصاح في تلك الجثث الملقاة في اللُّحُود: (والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغى لأنفسنا؛ لَعَجْزٌ .. فعسى الله أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد: ارْتَحِلُوا. فارتحلوا، حتى إذا بعث (¬3) عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب ¬

_ (¬1) سميت بذلك لأنها مهلكة. (¬2) ما بين الأقواس خبر صحيح الإسناد، انظر ما بعده. (¬3) دفعها للنهوض.

وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملأوا أسقيتهم. ثم دعا قبائل قريش، وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال. فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا واستقوا كلهم. ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدًا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة (¬1) هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم) (¬2). رجع عبد المطلب بقسمة الله لا بقسمة الكاهنة وتمتماتها .. وأرجع الله بنبع الماء البارد الحياة إلى جثث التحفت بقبورها .. وقادتهم ناقة عبد المطلب إلى مكة يحملون على عيسهم بعض الماء والتسليم بحق عبد المطلب وزعامته. إنه الآن يتولى سقاية زمزم .. بئر جده إسماعيل عليه السلام. ¬

_ (¬1) الأرض التي لا ماء فيها. (¬2) ما بين الأقواس خبر صحيح الإسناد إلى علي بن أبي طالب، رواه لنا ابن إسحاق فقال: حدثي يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الله بن زرير، إنه سمع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال عبد المطلب بن هاشم: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلي مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة. قلت: وما المضنونة ... إلخ. انظر سيرة ابن كثير (1/ 167) ودلائل النبوة (1/ 93). وإسناد ابن إسحاق قوي: يزيد بن أبي حبيب شيخ ابن إسحاق: ثقة فقيه من رجال الشيخين، انظر تقريب التهذيب (2/ 363). ومرثد بن عبد الله اليزني شيخ ليزيد، انظر التهذيب (10/ 82) وهو ثقة أيضًا وفقيه. انظر تقريب التهذيب (2/ 236). وأما عبد الله بن زرير فهو تابعي ثقة، انظر التقريب (1/ 415) والتهذيب (10/ 82) والتهذيب أيضًا (5/ 216) علي - رضي الله عنه - لم يدرك جده فهو مرسل سمعه من أحد أعمامه أو غيرهم.

جده إسماعيل صاحب البئر .. وأول من شرب منها رغم أنه لم يحفرها لكنها من أجله تفجرت. جده إسماعيل هو أول من جاء مكة من أجداد عبد الطلب .. بل هو أول من سكن مكة .. عندما وصل إليها كان طفلًا محمولًا .. كان رضيعًا .. لكن مكة كانت أكثر طفولة ... كانت أرضًا عراء .. جدرانها جبال .. كانت واديًا بلا شجر بلا حياة .. بلا بشر .. تمر بها القوافل فلا تتوقف .. والرياح أيضًا كانت تمر فلا تتوقف .. لكن رفقة طيبة توقفت .. رفقة طاهرة قادمة من البعيد البعيد .. تعلو مع الدروب وتنخفض .. تعبر الفيافي والقفار .. تعبر المفاوز والرمال وتشق أمواج السراب. امرأة طاهرة .. اسمها: هاجر .. جاء بها زوجها الخليل عليه السلام. [جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت (¬1) عند دوحة (¬2) فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل؛ فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا وجعل لا يلتفت إليها .. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند ¬

_ (¬1) قبل أن يبنى. والمقصود هنا موقع البيت الحرام- الكعبة. (¬2) الدوحة: الشجرة العظيمة.

الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (¬1). وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه، يتلوى، يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت (الصفا) (¬2) أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي (¬3) رفعت درعها (¬4) ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت (المروة) (¬5) فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فعلت ذلك سبع مرات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلذلك سعى الناس بينهما". فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه .. فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه -أو بجناحه- حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه (¬6)، وتقول بيدها هكذا .. وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف. ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: الآية 37. (¬2) هو جبل الصفا الذي يبدأ الحاج منه السعي. (¬3) وهو ما بين العلامات الخضر الموجودة داخل المسعى الآن. (¬4) درع المرأة هو قميصها. (¬5) جبل أخر. (¬6) تجمعه.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم -لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عينًا معينًا". فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن ها هنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله .. فكانت كذلك حتى مرت بهم رِفْقَةٌ من جُرْهُم، أو أهل بيت من جرهم (¬1)، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا فقالوا: إن هذا الطير ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين (¬2)، فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم .. ولكن لا حق لكم في الماء عندنا. قالوا: نعم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم". وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم، وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشتهم وهيئتهم، فقالت: نحن بِشرٍ، نحن في ضيق وشدة وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه. ¬

_ (¬1) جرهم حي من اليمن نزلوا مكة تزوج فيها إسماعيل، ومع مرور السنين ألحدوا فأبادهم الله (لسان العرب). (¬2) الجري هو الرسول.

فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشىء؟ قالت: نعم .. أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك: غيِّرْ عتبة بابك. قال: ذاك أبي .. وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، وطلقها وتزوج منهم أخرى. ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه: فقالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم .. فقالت: نحن بخير وسَعَة، وأثنت على الله عَزَّ وَجَلَّ، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: ما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللَّهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولم يكن لهم يومئذ حَبٌّ .. ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه". قال ابن عباس: فهما لا يخلو عليهما (¬1) أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. قال إبراهيم عليه السلام: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه: يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. أتانا شيخ حسن الهيئة -وأثنت عليه- فسألني عنك فأخبرته .. فسألى: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم. وهو يقرأ عليك السلام. ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العتبة .. أمرني أن أمسكك. ¬

_ (¬1) أي اللحم والماء.

ثم لبث عنهم ما شاء الله .. ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا من زمزم .. فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل .. إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك به ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: "فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا .. وأشار إلى أكمة (¬1) مرتفعة على ما حولها". فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له .. فقام عليه وهو يبني .. وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم" فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت .. وهما يقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم"] (¬2) هذه هي قصة قدوم إبراهيم وهاجر وابنهما إسماعيل عليهم الصلاة والسلام .. وهذه هي بداية الكعبة المشرفة التي أمر الله ببنائها. وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا ¬

_ (¬1) الأكمة الموضع الذي هو أشد ارتفاعًا مما حوله. (¬2) رواه البخاري عن ابن عباس.

مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). وكان لإبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام قصة أخرى .. ليس فيها بناء .. بل فيها الصبر والدماء .. فقد رأى إبراهيم في منامه أنه يذبح ابنه .. ورؤيا الأنبياء وحي من الله .. فكانت هذه الأحداث التي يقول الله عنها: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}. (¬2) وكان هذا الذبح كبشًا افتدى الله به نبيه إسماعيل .. وحفظ به نسله من الانقطاع. سافر إبراهيم .. وماتت هاجر .. وبقي إسماعيل في مكة حتى مات .. ودفن هناك .. ومرت الأيام على بيت الله وكعبته، وسلالة إسماعيل تحيط بها وتوحد الله .. وتحج بيته الحرام لا تشرك به شيئًا. نعم لا تشرك به شيئًا .. حتى خرج ذلك المخرب .. ذلك الشيطان المسمى بـ: عمرو بن لحي .. فأعاد غرس الشك في أرض مكة وقلوب أهلها .. وانحرف بهم وبغيرهم عن توحيد الله الذي من أجله بعثت كل الرسل .. وأنزلت كل الكتب السماوية .. (عمرو بن لحي بن عامر الخزاعي، يجر قصبه في النار .. وكان أول ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآيات 125 - 129. (¬2) سورة الصافات: الآية 107.

كان يحلم بعشرة وذبيح

من سيب السوائب وبحر البحيرة) (¬1) وهي شياه وبهائم تترك للآلهة لا تُمَسُّ ولا تُحْلَب .. غصَّت مكة بالشرك والأصنام .. وشكت الكعبة مما نصب على ظهرها .. وانحرف بنو إسماعيل عن توحيد ربهم الواحد الأحد وعن ملة أبيهم إبراهيم .. وكان آخرهم: عبد المطلب الذي حاز الزعامة والشرف .. وحاز بئر زمزم .. ولكنه لم يحز بعد كل أحلامه .. لقد كان يحلم وينذر .. كان يحلم بعشرة وذبيح تَلَفَّت عبد المطلب فوجد الناس تنظر إليه .. تحبه وتجله وتحمله في قلوبها .. وتَلَفَّت ثانية وثالثة .. ونظر وراءه فلم يجد خلفه إلا ابنه الحارث .. فرفع رأسه إلى السماء يخاطب خالقها الكريم الذي ساق له المجد .. أن يقر عينه بأخوةٍ للحارث، وظل يدعو ويدعو .. يخاطب الناس حوله .. يشهدهم ويقول لهم إنه (قد نذر إن توافى له عشرة رهط (¬2) أن ينحر أحدهم، فحقق الله له ما أراد، ولما توافى العشرة أقرع بينهم أيهم ينحر، فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب - وكان أحب الناس إلى عبد المطلب. فقال عبد المطلب: اللَّهم هو أو مائة من الإبل. ثم أقرع بينه وبن الإبل، فطارت القرعة على المائة من الإبل) (¬3) ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ. انظر صحيح الجامع الصغير للإ مام الألباني (653). (¬2) أي رزقه بعشرة أبناء. (¬3) إسناده حسن، ورواه ابن جرير في تاريخه (2/ 239): حدثي يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب أنه =

الزواج

إن الله يعطى بلا ثمن .. يرزق من يشاء بغير حساب .. ليس بحاجة لدماء ذلك الطفل الصغير .. لكن والده شدد فشدد الله عليه .. فأصابه بأغلى ولده فلم ينجه من ورطته إلا مائة من الإبل .. انتشلت ذلك الصغير من السكين ليعيش بقية عمر قصير .. منقوشًا في التاريخ ما بقيت الجبال على ثباتها والأرض على استقرارها. الزواج تربى عبد الله ذلك الطفل الوديع في قلب عبد المطلب .. وتربع فيه .. وبلغ مبلغ الرجال دون أن يعرفه قومه بطيش أو سفه .. كأني به هادئ كثير الصمت والتأمل .. مليء بالانتظار .. ليس في حياته ما يثير .. كان كالعالم من حوله ينتظر وينتظر .. ويبحث عن زوجة له في بيوتات مكة ويسأل .. فكانت آمنة بنت وهب بن عبد مناف هي الحبيبة .. وهي الاجابة. تزوجا .. فكان الحب .. وامتلأ بيتهما الصغير بالبهجة .. وبالشباب الغض الحالم بحياة بيضاء فسيحة .. مليئة بالربيع والأطفال والجمال .. ¬

_ = أخبره أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة ... شيخ ابن جرير يونس بن عبد الأعلى الصدفي ثقة من رجال مسلم، وشيخه عبد الله بن وهب، أبو محمَّد المصري: ثقة حافظ عابد، انظر التقريب (1/ 460). أما يونس بن يزيد ابن أبي النجار، فهو ثقة، لكن هناك اختلاف في روايته عن الزهرى عند النقاد، فالأغلب يجعله أوثق الناس فيه وبعضهم يرى في رواياته عنه وهمًا، لكن الأرجح ما مال إليه الحافظ ابن حجر في التقريب من أن في روايته وهمًا قليلًا. لا يسقط حديثه بل يجعله حسنًا لذاته ما لم يخالف، وهذا ليس من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو رواية تاريخية. انظر التهذيب (11/ 447، 448، 449) والتقريب (2/ 381).

ولم يكن هذا الشاب يدري أن القضاء أقوى منه .. ومن فدية أبيه .. لم يكن يدري أن تلك الأحلام الراقصة في مخيلته كانت لغيره .. إنها للعالم أجمع .. أما هو فتوشك أن تدلف بيته الصغير سحابة سوداء .. مشبعة بالحزن والدموع والنواح .. فعبد الله الذي فر من الموت بمائة من الإبل يسعى إلى حياضه على واحد منها .. امتطى راحلته وتوجه نحو يثرب .. حيث كان الموت في انتظاره ليسكنه في أحد مقابرها .. بعيدًا عن عبد المطلب .. بعيدًا عن مكة .. بعيدًا عن آمنة الحزينة .. التي كانت تحمل أمانة عبد الله وأحلام عبد الله .. جنينًا يتيم قبل أن يرى هذه الدنيا. كانت مكة تتساءل: أحقًا مات عبد الله؟ كأني بعبد المطلب والفاجعة أفقدته صوابه يسأل القادمين من يثرب فردًا فردًا .. يعترض قوافلهم .. يتعلق بأزمة مطاياهم .. علّه يسمع تكذيبًا لما سمع .. علّ أحد المسافرين يصيح بوجهه فيقول: أبشر فعبد الله لم يمت ما زال حيًا .. وهو قادم إليك .. لكن صمت القوافل كان يحمل أنفاس عبد الله الأخيرة تودع هذه الدنيا .. وتودع عبد الطلب .. لينثني ذلك الشيخ الكظيم طاويًا حرقته بين أضلاعه .. يحاول دفع ما به من حزن فتفضحه عيناه أمام آمنة المفجوعة .. فتبكي حبيبها الذي قبض بعيدًا عنها .. وفارقها في وقت كانت تحترق لعودته .. تشتاق لرجوعه محملًا بالحب والهدايا وحكايات السفر. الحيرة والوجوم يملآن مكة لهفًا على عبد الله .. لكن ذلك لم يدم طويلًا فقد جاء:

الفيل يمزق السكون

الفيل يمزق السكون لم يطل ذلك الوجوم في مكة .. فسرعان ما تفجر الخوف من جبالها .. وانتفضت بطحاؤها هلعًا .. فمكة اليوم تئن تحت أقدام فيل مخيف .. وحراب جيش ضخم زاحف لهدم بيت الله الحرام وطحنه .. كان ذلك الجيش يرج مكة من أقصاها إلى أقصاها .. ومن عبيدها إلى ساداتها .. كأنما كان يدحرج أمامه جبال اليمن وسد مأرب معها. فتطاير أهل مكة فوق ذرى الجبال .. وتفرقوا بين الشعاب .. فالأمر فوق ما يحتملون .. ولكن سيد قريش عبد المطلب لم يهرب .. لقد ثبت لهم .. وحمل روحه بين كفيه لمساءلتهم. فقال لملكهم (¬1): (ما جاء بك إلينا، ما عناك يا ربنا، ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ فقال الملك: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا آمن، فجئت أخيف أهله. فقال عبد المطلب: إنا نأتيك بكل شيء فارجع. فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت. وأَهَلَّ ثم قال: اللَّهم إن لكل إله ... حلال فامنع حلالك لا يغلبن محالهم ... أبدًا محالك ¬

_ (¬1) لم ترد تسمية هذا الملك ربما كان أبرهة كما جاء في بعض الروايات الضعيفة عند ابن إسحاق، وأبي نعيم في الدلائل (144) وغيرهما، وقيل: إن أبرهة بعث رجلًا اسمه سمبر مصفود على عشرين ألفًا ... ليس لدي ما يرجح رواية على رواية.

اللَّهم فإن فعلت ... فأمر ما بدالك فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر، حتى أظلتهم طيرٌ أبابيل، التي قال الله تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} (¬1). فجعل الفيل يعج (¬2) عجًا .. فجعلهم .. كعصف (¬3) مأكول) (¬4). كانت حجارة حقيقية .. وكان عذابًا سماويًا محرقًا ومبيدًا لطاغوت من الطواغيت. كان هناك من لم يستطع الهرب .. كانت هناك آمنة تعاني من آلام الوضع .. ترى هل أقعدتها تلك الآلام .. ترى هل تركها أهلها وحدها لتلد ¬

_ (¬1) حجارة من طين. (¬2) العج: رفع الصوت. (¬3) العصف هو الورق اليابس على ساق الزرع فيتفتت. (¬4) كما ذكرت وردت روايات عديدة ضعيفة لا تتسق مع منهج الكتاب، ولا أستطيع الجزم بصحتها فاكتفيت بما كان قوي الإسناد كهذه الرواية، التي رواها الحاكم (2/ 535) وهي من طريق إسحاق بن راهويه، أنبأنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال رضي الله عنه: (أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب، فقال لملكهم: ... ورجال هذا الإسناد: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلى، أبو محمَّد بن راهويه وهو أحد الأئمة الثقات الحفاظ المجتهدين، قرين ابن حنبل (التقريب 1/ 54) شيخه جرير بن عبد الحميد بن قرط ثقة كذلك: التهذيب (2/ 57) وقابوس حسن الحديث إذا لم يخالف رغم قول الحافظ: فيه لين، فجرح الرجل غير مفسر، إلا بقول ابن معين: ثقة جايز الحديث إلا أن ابن أبي ليلى جلده الحد، وبقول الساجي: ليس بثبت، يقدم عليًا على عثمان، جاء إلى ابن أبي ليلى فشهد عليه عنده في قضية تحمل عليه ابن أبي ليلى فضربه. وهذا جرح غير قادح. فقد قال ابن معين كما سبق أنه ثقة جايز الحديث رغم ذكره لسبب الجرح، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة، وقال ابن عدى: لا بأس به، وقال العجبي: كوفي لا بأس به. وللخبر شواهد تقويه.

ابنها (في يوم الفيل) (¬1) .. وحيدًا .. تفرق قومه .. ومات أبوه .. والموت سيوف تحيط ببلده .. لا أدري ربما .. لكن الذي حدث أنما ولدت طفلًا .. ولدت حياة للعالم .. وموتًا للهمجية والضلال .. ولد محمَّد .. ومات أصحاب الفيل .. وعادت قريش لتجد البيت آمنًا .. تحميه الملائكة .. وأسراب الطيور .. (ولدت آمنة هذا اليتيم بعدما توفي أبوه) (¬2) لكن كم كان بين وفاة والده ومولده؟ ليس هناك ما يعول عليه (¬3) .. وكانت ولادته .. (يوم الاثنين) (¬4) أحد أيام (شهر ربيع الأول) (¬5) من عام الفيل .. وذلك قبل الهجرة بـ (53) عامًا. ¬

_ (¬1) حديث جيد الإسناد رواه ابن سعد (1/ 101) من طريق ابن معين أخبرنا ححاج، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفيل)، ورجال هذا الإسناد ثقات، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي حديثه حسن. انظر الكاشف (2/ 303) وحجاج كذلك أما سعيد بن جبير وابن معين فأعلام معروفون. (¬2) رواه مسلم (3/ 1392) وهذا الجزء من الحديث مرسل لكن له شواهد تقويه. (¬3) الأحاديث التى وصلت في ذلك ضعيفة الإسناد متضاربة فأعرضت عنها. (¬4) حديث صحيح. رواه مسلم (2/ 819) بلفظ: قال أعرابي: يا رسول الله ما تقول في صوم الاثنين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك يوم ولدت فيه" .. (¬5) كونه ولد في شهر ربيع الأول هو الصحيح، فقد ورد في ذلك حديثان يقوي بعضهما بعضًا، الأول: عند ابن أبي شيبة وفيه انقطاع (سيرة ابن كثير 1/ 199) والآخر: رواه مالك وعقيل ويونس وهو مرسل محمَّد بن جبير بن قطع (سيرة ابن كثير 1/ 199) لكن تحديد أي يوم هل هو الثامن أو الثاني عشر من ربيع، فلم أعثر على خبر صحيح يحدده، لكن ابن كثير يقول: إن جمهور العلماء يرجحون يوم (12) لكن ترجيحهم يبقى دون سند صحيح.

أساطير ومولد

أساطير ومولد مولد محمَّد - صلى الله عليه وسلم - حدث ما زال يهز الدنيا .. هو بشرى للقلوب وفرحة للأرواح .. وبداية الإنقاذ لهذه البشرية من تيه الرمضاء المهلكة .. وتحويل هذه الجموع العطشى وردها إلى النبع الذي أضاعته وفرطت فيه .. لكن ذلك لا يعني أن تتشقق المحبة في القلوب عن أساطير تتنامى وتتنامى حتى تعمى الأبصار وتحطم العقول. لقد أعمى الحب بعض السذج .. فصاروا يسقون حدث المولود بأمطار الأكاذيب .. فنشأت حوله الأساطير والخرافات. وجاءت الروايات الملفقة تشوه سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تشويهًا كاد يطيح بأحداث السيرة (¬1). لقد حدثنا أولئك الكذابون عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو طفل رضيع .. وأنه كان يناغي القمر فحيثما أشار إليه اتجه .. كان يلعب به في مساحات الليل والفضاء. وكذبوا علينا فقالوا: إن النجوم دنت من الأرض عند مولده .. وكذبوا وكذبوا فقالوا: إنه كان هناك لوح من الذهب كتبت عليها أشعار عند رأس أمه يوم مولده. لقد أسرف أولئك وتجنوا على الأجيال التي تنتظر الحقيقة .. تنتظر الحدث كما حدث .. لقد ركبوا موجة التهويل والعواطف التي لا لجام لها .. فكان ذلك الشرخ العظيم في حياة الأمة وبَعْثَرة طاقاتها وأموالها في احتفالات لا سند لها إلا تلال الأكاذيب ¬

_ (¬1) لولا فتح الله لعباقرة هذه الأمة وأساتذتها بمنهج النقد العلمى للروايات والأسانيد ... وتمييز الغث من السمين والسقيم من الصحيح. حاولت جمع تلك الأساطير والأكاذيب في موسرعة السيرة.

طلوع نجم أحمد

والأساطير المختلفة تنحدر منها البدع .. ينحدر منها العفن فتشوه ذلك النبع وتلك العقيدة التي تركها - صلى الله عليه وسلم - صافية مثل البيضاء. إن تلك الغيوم الأسطورية لم تستطع أن تحجب شمس الحقيقة .. فلقد بقيت الأحداث الحقيقية كما هي دون تحريف .. دون مساس .. وكان منها: طلوع نجم أحمد هناك رآه بعض المنتظرين بشوق .. هناك في يثرب حيث يرقد عبد الله تحت أطباق الثرى .. وقف رجل يتأمل السماء .. يتأمل النجوم .. كان يهوديًا .. وربما كان فلكيًا .. صرخ الرجل بقومه قائلًا: (يا معشر اليهود: فاجتمعوا إليه. قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة) (¬1). كادت تلك الصرخة اليهودية أن تتلاشى بين النجوم .. كادت أن تختفي في سراديب اليهود المظلمة .. لولا وجود طفل في السابعة أو الثامنة من عمره ساقه الله إليه وساقته أقدامه إلى موقع الحدث لينقله لنا بعد أن ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ، رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 1/ 213) سماعًا من صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: حدثني من شئت من رجال قومي ممّن لا أهتم عن حسان بن ثابت قال: (إني لغلام يفعه ابن سبع سنين أو ثمان أعقل ما رأيت وسمعت إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غدات ...) وهذا الإسناد قابل للتحسين، فصالح ويحيى ثقتان، وابن إسحاق لم يدلس، والتابعرن لم يتهموا وربما كانوا صحابة وللحديث شواهد تقويه منها ما رواه ابن إسحاق عن هشام عن أبيه عن عائشة لكن ابن إسحاق عنعن ومنها ما بعده وغيره أيضًا.

كبر وشاخ .. ذلك الغلام هو مبدع الإِسلام وشاعره العظيم حسان بن ثابت .. إذًا فاليهود كان لديهم علم بمخرج نبي .. وكانوا يعرفون تاريخ مولده مقرونًا بحدث فلكي يظهر في السماء. ولم يكن هذا اليهودي هو الوحيد الذي رأى هذا النجم .. ففي مكة رجل حيران .. يقال له: زيد بن عمرو بن نفيل .. كان يحدق في الأصنام يتأملها وهي منصوبة فوق بيت الله .. فلا تزيده الأيام إلا اقتناعًا بتفاهتها وتخلف عقول أتباعها وعابديها .. إنها في نظره لا تعدو كونها حجارة صماء بكماء خرساء لا تقدم ولا تؤخر .. ضاقت بها مكة وضاق زيد بها .. فبحث له عن فسحة بين الفيافي والبطاح .. يتنفس فيها الحرية والتوحيد .. يبحث عن الحقيقة .. يفتش عنها أديرة العباد وصوامع الرهبان .. يسأل ويسأل ولا يكف عن السؤال ... حتى قذف به الطريق بين يدي حبر من أهل الشام .. فأمره بالعودة إلى مكة وقال: (قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع وصدقه واتبعه) (¬1). وهذا زيد بن ثابت يحدثنا فيقول: (كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي، وأنه لا نبي بعده، واسمه أحمد، ¬

_ (¬1) إسناده حسن، رواه محمَّد بن حبان وأبو نعيم (سيرة ابن كثير 1/ 212)، قالا: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد عن محمَّد عن عمرو عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد، عن زيد بن عمرو قال: قال لي حبر من أحبار الشام: ... وهذا الإسناد صحيح، وهب بن بقية ثقة. انظر التهذيب (11/ 159) وخالد هو ابن عبد الله الطحان وهو ثقة. انظر التهذيب أيضًا (3/ 100) ومحمَّد بن عمرو حسن الحديث، ويحيى تابعي ثقة وللحديث شاهد عن البيهقي في الدلائل (1/ 91) بسند جيد.

التسمية

مهاجره يثرب، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا) (¬1) إن اليهود يحملون علمًا غزيرًا وعظيمًا .. لكنهم لا يمررون منه إلا ما يخدمهم ويحكم قبضتهم .. وما سوى ذلك يخفونه خلف ألف قفل وباب. وقد حاولوا طمس نجم أحمد وإخماده لكنهم لم يفلحوا. التسمية قبل عبد الله .. وقبل عبد المطلب .. وقبل مئات السنين كان هذا المولد حروفًا .. وعدًا يتلفظ به الأنبياء يوصون به أممهم .. ويبشرون به .. عيسى بن مريم جاء إلى خراف بني إسرائيل الضالة ليهديهم .. ويقول لهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. (¬2) كشف الله هذا الغيب وبشر به .. وذكر اسمه في الإنجيل .. وفي التوراة من قبل الإنجيل .. ولهذا يقول - صلى الله عليه وسلم -:"سميت أحمد" (¬3) .. ولا أدري من هو ¬

_ (¬1) حسن بشواهده وسنده ضعيف فقد رواه أبو نعيم (سيرة ابن كثير (1/ 214) من طريق النضر بن سلمة وهو ضعيف، عن إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت وهو ضعيف أيضًا. انظر اللسان (1/ 429)، لكن الحديث يشهد له ما سبق، ويشهد له ما سبق ذكره عند البيهقي في الدلائل (1/ 91) وما عند البيهقي أيضًا (1/ 89) وهو قوي بها لا سيما وأن الأول جيد الإسناد، والثاني علته عنعنة ابن إسحاق ورجاله ثقات. (¬2) سورة الصف. (¬3) رواه ابن سعد (1/ 104) بإسناد حسن من طريق أبى عامر العقدي وهو ثقة واسمه: عبد الله بن عامر القيسي. انظر التهذيب، وقد حدثه هذا الحديث شيخه زهير بن محمَّد التميمي وهو حسن الحديث إذا روى عنه غير شامى. وهذه رواية بصرى وهي مستقيمة كما قال ذلك الأمام أحمد. انظر التهذيب (2/ 348) وشيخه عبد الله بن محمَّد بن عقيل وهو ثقة وشيخ هذا هو محمَّد بن علي بن أبي طالب، عن والده.

رضاعه وحضانته

الذي حقق هذا الغيب ووفقه الله لهذا الأمر .. أهو جده عبد المطلب أم أمه آمنة بنت وهب .. ربما كان هاتفًا من السماء هتف باسمه لأمه ربما. ولكنه في النهاية سمي محمدًا .. أما: رضاعه وحضانته فكانت أمه آمنة هي أول من أرضع ابنها اليتيم .. تشاركها حضانته امرأة تدعى: أم أيمن، واسمها: بركة بنت ثعلبة بن عمرو .. وهناك امرأة ثالثة شاركت في رضاعه وهي أمَةٌ لعمه أبي لهب، واسمها: ثويبة. وقد (أرضعت ثويبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرضعت معه أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي) (¬1). هذا في بداية الأمر .. وبعد فترة من الزمن غشيت مكة مجموعة من نساء البادية يلتمسن الرزق عن طريق إرضاع أطفال قريش .. وكانت أقدامهن تتزاحم على أبواب من يبسط يديه بالعطاء الأكثر .. وربما كان باب عبد المطلب من الأبواب السخية التي تملأ الأكف بالدراهم .. وربما كان فقيرًا لا يستطيع منافسة غيره في حرية الانتقاء والاختيار لحفيده من بين تلك المرضعات .. ربما لم يكن في بيت آمنة ما يغري المرضعات على التوجه نحوه .. فيجتمع لهذا الصغير يتم مرير وفقر موجع (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه بغير هذا اللفظ. (¬2) الذي يجعلني لا أجزم بفقر محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أو غناه هو تضارب الروايات بالإضافة إلى ضعف إسنادها، والضعف سبب الرد فكيف بالتضارب، هناك رواية تقول: إن حليمة لم تجد طفلًا سوى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ولو عدنا إلى بعض روايات الفيل الضعيفة لوجدنا عبد المطب غنيًا يملك قطيعًا من الإبل، كما مر معنا رواية صحيحة تقول: إن عبد المطلب ذبح مائة من الإبل فداءً لابنه عبد الله بعد أن وقع عليه النذر، فهل كانت تلك الإبل هي كل ما يملكه؟!

إن محمدا قد قتل

وأخيرًا استقر محمَّد اليتيم في أحضان (حليمة السعدية) .. شغفها حبًا وحملته على راحلتها ليسترضع في مضارب (بني سعد بن بكر) (¬1) قوم حليمة وأهلها .. وفي تلك المضارب بدأ محمَّد الصغير بالحبو .. ثم الوقوف على قدميه الصغيرتين .. وبدأ يلثغ ببعض الحروف والكلمات .. ويتعثر في بعضها بطريقة محبوبة .. ثم صار يمشي ويتحدث ويرعى الغنم .. كان طفلًا طاهرًا كأنفاس الصباح .. كحبات المطر .. اعتاد الخروج مع أخيه يسوقان الغنمات ويمرحان ويلعبان .. وعندما يقرصهما الجوع يُخرجان ما أعدته أمهما حليمة من زاد ليأكلانه فيسكن ما بهما من جوع .. كانت أيامًا تشع بالبراءة والجمال والبهجة .. لم يعكر صفوها سوى صراخ أخيه الصغير ذات صباح قائلًا: إن محمدًا قد قُتِل فما الذي حدث .. ولماذا يقتل طفل .. من الذي يستطيع اغتيال تلك البراءة في مرعى الغنم الأخضر؟ ما حدث هو أن الصباح أيقظ الطفلين .. فخرجا من الخباء خلف أغنامهما .. ولم يذكرا أنهما بلا زاد إلا عند وصولهما إلى المرعى .. وهناك التفت محمَّد الصغير - صلى الله عليه وسلم - إلى أخيه فقال لأخيه: (يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم) (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه ابن إسحاق (ابن كثير 1/ 228). (¬2) حديثٌ حسنٌ بالشواهد وإسناده فيه ضعف لجهالة: عبد الرحمن السلمي، وقد رواه أحمد وأبو نعيم. انظر (سيرة ابن كثير 1/ 229) والحديث يشهد له ما بعده. وفيه أي حديث أحمد وأبي نعيم بعض الألفاظ الضعيفة التي تخالف الصحيح، لكنه بعمومه يشهد له ما بعده.

نعم شق صدره

لقد أصبح هذا اليتيم بين البهم وحيدًا في الصحراء فهل حدث له شىء؟ نعم شُقَّ صدره لقد جرى لهذا اليتيم شيء لا يجري لغيره .. دعونا نستمع إليه وهو يحدثنا فيقول: (فبينا أنا في بهم لنا أتاني رجلان، عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجًا، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء، فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته. فوزننى فوزنتهم. ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنى بمائة فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني بألف فوزنتهم. فقال: دعه عنك، لو وزنته بأمته لوزنهم) (¬1). لقد شُقَّ صدر هذا الصغير بين غنماته حقًا .. بينما هو ينظر ما يفعله هذان الملكان به .. ولقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه موضع الشق بعد النبوة. مما يؤكد أن هذه الحادثة حقيقة مادية .. كانت الطريقة التي تمت بها فوق إمكانات البشر وطاقاتهم وتصوراتهم .. يقول أنس بن مالك رضي ¬

_ (¬1) هذا الحديث صحيح وقد مر معنا، عند الحديث عن استرضاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني سعد بن بكر، وعند الحديث عن المولد والأساطير بصيغة أخرى وهي في الحديث التالي.

الله عنه: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره حليمة- فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون) (¬1). يقول أنس بن مالك مؤكدًا ذلك: "وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). هذا ما حدث لمحمد الصغير - صلى الله عليه وسلم - .. ولقد ازداد إعجاب بعض الناس بهذه الحادثة .. فصاروا يلفقون حولها الأكاذيب ظنًا منهم أنهم يحيطون نبيهم بشيء من التكريم والتعظيم .. وهو أغنى الناس عنهم وعن أكاذيبهم (¬3) .. كما شطح على الطرف الآخر أناس تطرفوا فقالوا: إن هذا الشق كان حلمًا وليس حقيقة .. فبماذا تراهم يفسرون لنا قول أنس السابق: من أنه رأى أثر المخيط .. ؟ نعم لقد رآه .. ولقد صدق. ولقد حدث. وهذا ما جعل حليمة بعد سماعها للقصة تعيد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لأمه خوفًا عليه .. أتراها تعيده من أجل رؤيا .. ثم هؤلاء الصبية الذين أقبلوا يقولون: إن محمدًا قد قتل .. هل كانوا في الحلم .. هل دسهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قبل نومه في عقله الباطن .. ؟! لئن هربت عقولنا من كل حديث صحيح النقل لمجرد أننا لم ندركه إن تلك لكارثة (¬4). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 47). (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 47). (¬3) مثال ذلك ما لفقه الغلابى وغيره حول هذا الحدث. انظر ذلك في موسوعة السيرة. (¬4) مثال ذلك حديث رواه البخاري وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - أرشد أن الذباب إذا وقع في شراب أحدكم فليغمسه كله في الشراب ثم يخرجه فيرميه لأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر =

عاد محمَّد الصغير إلى أحضان آمنة .. ترعاه وتحنو عليه .. تحدثه ويحدثها تلاعبه ويلاعبها .. وتقص عليه وتملأ دنياه ويملأ دنياها .. فأي براءة كانت تشع في عيني ذلك الطفل الطاهر .. المغسول بالثلج في مرابع حليمة .. لا شيء كالأطفال براءة .. فتخيل براءة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير .. يا لبهجة آمنة وسعادتها به .. ويا لشقاءه بها وحزنه عليها .. بعد أن أخذته معها متجهة به نحو أخواله في (يثرب) .. حيث قضى وقتًا هناك يمرح في طرقاتها ويتأملها .. وكأنه يقول: انتظريني يا يثرب .. فسأعود لأضع لك اسمًا جميلًا خالدًا كجمال التوحيد وخلوده. ثم رجعت آمنة بصغيرها إلى مكة .. وفي مكان يقال له الأبواء بين مكة والمدينة توقفت المطايا .. ونزلت آمنة عن ظهر الراحلة ونزل صغيرها وقد تعلقت عيناه بها وهي تتوجع وتئن أمامه .. فلا يستطيع منحها ما يخفف ألمها سوى نظرات حائرة خائفة .. وتزيد آلامها ويزيد أنينها، وتموت آمنة وتدفن أمام عينيه .. بعيدًا عن مكة .. بعيدًا عن عبد المطلب .. بعيدًا عن أعمامه .. تؤخذ آمنة منه .. وتوارى تحت أكوام التراب .. ويعود باكيًا وحيدًا حزينًا وقد تيتم مرة ثانية .. يعود إلى مكة .. يعود إلى ذلك البيت الصغير .. ويجول ببصره في أركانه الصامتة .. هنا كانت ترقد آمنة .. ¬

_ = دواء هرب بعض أبناء المسلمين من هذا الحديث وحاربوه واتهموا الإمام البخاري بالكذب، واستغل بعض الشيعة هداهم الله ذلك فصار يطعن في الأحاديث وفي السنة -والشيعة لا يؤمنون بالأحاديث التي نقلها الصحابة- فماذا كانت النتيجة، لقد جاءت الشهادة بصحة هذا الحديث من أرقى وأحدث المختبرات العلمية في العالم وأكدوا صحة هذا الحديث علميًا بعد أن أجروا التجارب الكثيرة، ولقد تابع هذه التجارب الأستاذ الدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر ودَوَّنَها في كتابه (الإصابة في صحة حديث الذبابة) وهو يبحث في صحة هذا الحديث من الناحية النقدية والطبية.

وهنا كانت تعد له طعامه .. وهناك كانت تلاعبه وتسعى لإضحاكه عندما تقوده خطواته الصغيرة إليها باكيًا .. وفي هذا المكان كان يستحم بيديها. أيها البيت الصامت كالحداد لم يعد هناك صوت .. أيها البيت الصامت لم يعد هناك أم .. لم يعد هناك آمنة .. إنها ترقد هناك بالأبواء .. فيا للوعته ولهفه ويا حر قلبه عليها. ربما تنبه ليلة فلم يجدها بقربه ففاضت عيناه بالدمع .. وألجمه الحزن والحنين إليها .. أو ربما كان يسأل جده وأعمامه عنها فيتجرعون الصمت .. وتفيض أعينهم شفقة عليه وحزنًا، فتتيه عنهم الإجابة .. إن للطفل أسئلة ملحة ومحرجة .. فكيف بأسئلة طفل مفجوع أصابه الدهر بأبيه وأمه .. يسأل عنها ومتى ستعود وإلى أين ذهبت .. وهل ستتركه وحيدًا أم سيذهب إليها .. أسئلة كلها بث وانكسار متى ما حاصرتك خفضت رأسك وبكيت. لقد تعلق بها رغم أنه لم يحظ بقربها إلا سنوات قليلة .. مر ذات يوم بقبرها فرئي له بكاء لم يبكه من قبل .. يقول بريدة رضي الله عنه: (انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رسم قبر فجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها، فأبى عليها، وأدركتني رقتها فبكيت.

في بيت عبد المطلب

فما رؤيت ساعة أكثر باكيًا من تلك الساعة) (¬1). ومرة يقول أبو هريرة رض الله عنه: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا كنا بودان قال: مكانكم حتى آتيكم. فانطلق، ثم جاءنا وهو ثقيل. فقال: إني أتيت قبر أم محمَّد) (¬2)، وماذا يملك محمَّد لأمه سوى الدموع .. فهو مجرد نبي مرسل .. والأمر كله لله وحده .. فعليه الصبر والاحتساب .. كما صبر في صغره على مرارة اليتم ووحشته. في بيت عبد المطلب بعد رحيل آمنة .. امتدت يد جده عبد المطلب تفيض حنانًا إليه .. حمله إلى بيته حيث تربى في كنفه .. في كنف هذا الرجل الكريم الطباع .. صاحب الشرف وساقي الحجيج .. فكانت أولى خطواته في درب الرجولة .. شب محمَّد اليتيم يتحمل المسؤولية .. وكأن اليتم علمه أن الحياة لا تستحق شيئًا .. لكن لها جمالًا لا ينال إلا بالكفاح .. لقد أحبه عبد المطلب وهو يرى الرجولة تشع من إهابه .. فلم يرسله في حاجة إلا جاء بها .. ولم يأمره بأمر إلا قام بتنفيذه على الوجه الأكمل. إلا في يوم من أيام الحج .. حيث الأصابع تشير إلى عبد المطلب ساقي الحجيج وزعيم ¬

_ (¬1) ذكر ابن كثير هذا الحديث وعزاه للبيهقي، وأورد إسناده وهو صحيح: سفيان الثوري، عن علقة بن مرثد عن سليمان بريدة عن أبيه. سليمان تابعي. انظر التقريب (1/ 321) وعلقمة بن مرثد الحضرمي، ثقة أيضًا. انظر التقريب (2/ 31)، ورواه البيهقي أيضًا (سيرة ابن كثير 1/ 236) بسند حسن لولا عنعنة ابن جريج فيه. (¬2) رواه الإمام أحمد، وهو حسن بالشواهد لأنه من طريق أيوب بن جابر بن سيار السحيمى وفيه ضعف. (التقريب 1/ 89) سيرة ابن كثير (1/ 236).

قريش وسليل الأنبياء .. لكن عبد المطلب وسط الزحام مشغول .. مذهول يهرول نحو بيت الله لا يلوي على شيء .. وما أن أصبح بجوار الكعبة حتى رفع عقيرته يناجي ربه: (ربي رد إلي راكبي محمدًا ... يا رب رده واصطنع عندي يدًا) (¬1) شاهده أحد الحجاج الذين لا يعرفونه إلا بما تحمله الرواحل من أخبار .. لم يكن قد رآه من قبل .. ولا يعرف من هو، لكن حالته كانت تثير التساؤل .. فقال ذلك الغريب لمن حوله: (من هذا؟ فقالوا له: عبد المطلب بن هاشم، ذهب إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس عليه، فما برحت حتى جاء محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وجاء بالإبل، فقال عبد المطلب لمحمد: يا بني لقد حزنت عليك حزنًا، لا تفارقني أبدًا) (¬2). لم يفارق هذا الصغير جده .. ولم تكن أيامهما كلها رخاء وسعة .. ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس حديث جيد، رواه البيهقي (2/ 20) وذكره الذهبي في سيرته، من طريق خارجة ابن مصعب، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وهذا إسناد حسن، لولا خارجة بن مصعب فقد قال الحافظ: صدوق، لكن في ذلك نظر؛ لأنه اعتمد على توثيق ابن حبان فقط وابن حبان قد سكت عنه في الثقات (8/ 133) لذلك فحديثه جيد في المتابعات، وللحديث طريق أخرى تقويه، عند البيهقي أيضًا، انظر السيرة (1/ 115): عناية جده. (¬2) ما بين الأقواس حديث جيد، رواه البيهقي (2/ 20) وذكره الذهبي في سيرته، من طريق خارجة ابن مصعب، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وهذا إسناد حسن، لولا خارجة بن مصعب فقد قال الحافظ: صدوق، لكن في ذلك نظر؛ لأنه اعتمد على توثيق ابن حبان فقط وابن حبان قد سكت عنه في الثقات (8/ 133) لذلك فحديثه جيد في المتابعات، وللحديث طريق أخرى تقويه، عند البيهقي أيضًا.

فلقد (تتابعت على قريش سنون جدبة (¬1) أقلحت (¬2) الجلد وأرقت (¬3) العظم) .. وبات الناس في شظف من العيش، بواد غير ذي زرع، كثير الحصى محاصر بالجبال .. طفلة صغيرة كانت تسوق بهمات لأهلها في تلك السنون الجافة .. فيجري لها أمر غريب، تحدثنا عنه فتقول: (بينا أنا ومعى صنوي (¬4) أصغر مني، معنا بهمات (¬5) لنا وربا، وأعبد، يردن على السحق (¬6)، فبينا أنا راقدة -اللهم- أو مهمومة، إذا أنا بهاتف صيت، يصرخ بصوت صحل (¬7)، يقول: يا معشر قريش، إن هذا النبي مبعوث منكم، وهذا أبان مخرجه، فحي هلا بالخير والخصب، ألا فانظروا منكم رجلًا طوالًا، وعظامًا، أبيض بضًا (¬8)، أشم العرنين (¬9)، له فخر يكظم عليه، وسنة تهدي إليه، ألا فليخلص هو وولده، وليدلف (¬10) إليه من كل بطن رجلًا، ألا فليشنوا (¬11) من الماء، وليمسوا من الطيب إليه، وليستلموا الركن، وليطوفوا بالبيت سبعًا، ثم ليرتقوا أبا قبيس (¬12)، ¬

_ (¬1) أى سنون لم ينزل بها مطر. (¬2) القلح هو الوسخ، والصفرة في الأسنان لعدم تعاهدها. (¬3) جعلته لينًا. (¬4) الصنو: الأخ الشقيق. (¬5) البهمة ولد الضأن سواء كان ذكرًا أم أنثى. (¬6) السحق هو البالي أو البعيد. (¬7) صوت فيه بحة أو ليس بحاد الصوت. (¬8) البض من البشرة هي الرقيقة النضرة. (¬9) الشمم في الأنف هو ارتفاع القصبة وحسنها واستواء أعلاها، وهو كناية عن الرفعة والعلو والشرف. (¬10) يمشي. (¬11) يصبوا والمراد الإغتسال به. (¬12) جبل في مكة.

فليستسق الرجل، وليؤمن القوم، ألا وفيهم الطاهر الطيب لذاته، ألا فغنمتم إذا ما شئتم وعشتم. قالت رقيقة: فأصبحت -علم الله- مفؤودة، مذعورة، قد قف (¬1) جلدي، ووله عقلي، فاقتصصت رؤياي، فنمت في شعاب مكة، فوالحرمة والحرم، وإن بقي بها أبطحي، إلا قال: هذا شيبة .. وتنامت عنده قريش، وانفض (¬2) إليه من كل بطن رجل، فسنوا، وطيبوا، استلموا، وطافوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفق القوم يرفون (¬3) حوله ما إن يدرك سعيهم مهله حتى قر لذروته، ما ستكفوا جنابيه، ومعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو يومئذ غلام قد يفع أو كرب- فقام عبد المطلب فقال: اللَّهم ساد الخلة (¬4) وكاشف (¬5) الكربة، أنت عالم غير معلم، مسول غير منحل (¬6)، وهذه عبداؤك، وإماؤك بعذرات حرمك -يعني أمنة حرمك- يشكون إليك سنتهم (¬7) التي أقلحت الظلف (¬8) والخف، فاسمعن اللَّهم وامطرن غيثًا مريعًا مغدقًا. ¬

_ (¬1) اقشعر. (¬2) انفض الجمع أي تفرقوا. (¬3) رف الطائر إذا حرك جناحيه حول الشىء يريد أن يقع عليه، والمراد أحاطوا وأحدقوا. (¬4) يقال للميت: اللَّهم اسدد خلته أي الثلمة التى ترك والفراغ الذي خلف. (¬5) مزيل. (¬6) أي أنك تعطي ولا يعطيك أحد. (¬7) السنة، الجفاف والقحط وقد جاء في الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - تعريف دقيق وجدير بالانتباه للسنة حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "ليست السنة بأن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا ... وتمطروا ... ولا تنبت الأرض شيئًا" رواه مسلم وأحمدُ. (¬8) الظلف: الظفر المشقوق للبقرة والشاة والظبي وغيرها.

فما راموا البيت حتى انفجرت السماء بمائها، وكظ (¬1) الوادي بثجيجه، فلسمعت شيخان قريش، وهي تقول لعبد المطلب: هنيئًا لك يا أبا البطحاء - هنيئًا .. أي بك عاش أهل البطحاء، وفي ذلك تقول رفيقة بنت صفي: بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر فجاء بالماء جونى له سبل ... ودان فعاشت به الأمصار سبيل من الله بالميمون طائرة ... وخير من بشرت يومًا به مبارك الأمر يستسقى الغمام ... ما في الأنام له عدل ولا (¬2) عادت الحياة خضراء في مكة .. واهتزت الأرض وربت بفضل ربها .. وضحك الربيع للجميع .. لكن السعادة لم تدم لمحمد .. فها هو بعد مدة ليست بالطويلة يبكي خلف سرير عبد المطلب بحرقة ومرارة .. لقد مات عبد المطلب جده وآخر آبائه. ¬

_ (¬1) ضاق الوادي من كثرته. (¬2) هذا الخبر حسن، فقد رواه البيهقي من طريقين: الأول: عبد الرحمن بن حميد الخلال، حدثنا يعقوب بن محمَّد بن عيسى، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن ابن حويصة، حدثني مخرمة بن نوفل، عن أمه رقيقة بنت صيفى. والطريق الثاني: زكريا ابن يحيى بن عمر الطائي، حدثني زحر بن حصين عن جده حميد بن منهب، قال: قال عمي عروة بن مضرس، يحدث عن مخرمة بن نوفل عن أمه رقيقة ... وفي الطريق الأول عبد العزيز بن عمران، اختلط ففحش غلطه، وهو غير متهم، والآخر يعقوب بن محمد؛ فيه ضعف يسير. انظر التقريب (1/ 511) (2/ 377) أما الطريق الثاني ففيه زكريا الطائي، وهو ضعيف، وشيخه زحر مجهول. المغني (1/ 238) (1/ 240). ورواه ابن سعد من طريق الكلبي، وتوبع الكلبي عند البلاذري. (أنساب الأشراف 82) وقد نسب صاحب السيرة الشامية الحديث للطبراني وابن أبي الدنيا. (2/ 178).

في بيت أبي طالب

في بيت أبي طالب حن أبو طالب بن عبد المطلب على هذا الحزن القابع خلف السرير .. ورق لحاله وكربه وبثه .. فحمله إلى بيته .. ورعاه كأنه من صلبه .. ينسيه وحدته ويتمه بمعاملة تذوب رحمة وحنانًا .. فكان يلازمه في كل مكان .. في مكة في مجالسها وطرقاتها .. كان رفيقه في بعض الرحلات .. وكانت رحلات قريش الشتوية تقصد اليمن .. والصيفية تتجه نحو الشام .. وللرحلتين أمن كأمن مكة .. ذكره الله فقال سبحانه: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} (¬1)، وفي إحدى تلك الرحلات جرت قصة بين: بحيرى والقافلة في صيف حار تحركت الركائب نحو الشام ومعها (خرج أبو طالب ومعه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب (بحيرى) هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج، ولا يلتفت إليهم، فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم، حتى جاء فأخذ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال: ¬

_ (¬1) سورة قريش.

إنكم حين أشرفتم من العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني عرفته بخاتم النبوة، أسفل من غضروف كتفه. ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به- وكان هو في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه: فأقبل وغمامة تظلله، فلما دنا من القوم، قال بحيرى: انظروا إليه، عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه. قال بحيرى: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. فبينما هو قائم عليهم -أي بحيرى- وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه، فالتفت، فإذا بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا: فاستقبلهم بحيرى، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه. فقال بحيرى: فهل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: لا، إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه، فقال بحيرى: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ فقالوا: لا. فبايعوه، وأقاموا عنده، فقال بحيرى الراهب: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا:

الأمين والغنم

أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده) (¬1) إلى مكة خوفًا عليه بعد أن تأكد من صفاته: صفات النبي المنتظر. الأمين والغنم الناس وقود الحياة .. يكدحون .. يحترقون ليشعلوها .. ولم يكن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - شابًا خاملًا تتعثر به الحياة .. فيقتات من نسبه .. ويستطعم من شرفه .. لقد كان حياة للحياة .. يحمل فأسه لصخورها .. ويشق طريقه بذراع مفتول .. وجبين مرفوع .. وشباب متجدد .. تعاملت معه قريش كلها .. حتى اقتطع منها لقبًا طغى على كل اسم هو له .. ولم يكن ليحصل على ذلك اللقب لو كان قد رضي بالوقوف على أطلال آبائه وأجداده يُذكِّر من يمر بها ويكتفي .. لقد دخل عليهم وهم مجتمعون حول الكعبة .. فقالوا بصوت واحد: (أتاكم الأمين) (¬2). الأمين .. نعم هذا هو اللقب- الاسم .. انتزعه من قلوبهم قبل أن يبذلوه له بألسنتهم .. لقد جربوه وخبروه .. والأمانة لا توهب إلا بعد التجارب .. وليس لدى محمَّد الشاب ما يبذله من مال أو سلطة ليرغمهم على قول ذلك .. لا سيما وهو أصغرهم سنًا .. بل وربما كان أفقرهم وأيتمهم. لقد ألجأه الفقر إلى أشقى المهن وأبسطها .. لقد كان يسير طوال نهاره ¬

_ (¬1) إسناد قوي، رواه الترمذيُّ. الخرائطى (سيرة ابن كثير 1/ 226) وأبو نعيم (129): حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال: ... وأبو بكر ابن أبي موسى الأشعري؛ تابعي ثقة، اسمه أبو بكر بن أبي موسى الأشعري. (التقريب 2) ويونس ابن أبي إسحاق السبيعي، حسن الحديث، انظر تهذيب التهذيب (11/ 433) أما قراد، فاسمه عبد الرحمن بن غزان الضبي، فهو أحد الثقات. التهذيب (6/ 247). (¬2) حديث صحيح سيمر معنا تحت عنوان (يبني الكعبة ويضع الحجر).

الشباب والنساء

خلف الغنم (يرعاها على قراريط لأهل مكة) (¬1) مهنة شاقة تمارس بأجر بخس .. لكن أول شرط لممارستها (الأمانة) .. مهنة البسطاء وقادة الأرض والعظماء .. وهل هناك أعظم على وجه الأرض من نبي .. ومع ذلك (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم) (¬2) ربما لأن صورة القطيع من الماشية تشبه سير سواد الشعوب في العالم وهم يبحثون عن لقمة العيش .. ومهمة الراعي تتطلب البحث عن أوفر المراعي عشبًا وكلأً وإن لم يكن في هذه المراعي مستراحًا للراعى ورفاهية له .. كما تتطلب تلك المهنة حماية القطيع من أعدائه ومفترسيه .. إن الرعي بقدر ما يولد من القسوة والخشونة في حياة الراعي .. يهب له قلبًا حنونًا عطوفًا على رعيته .. والأنبياء قادة تتوفر فيهم هذه الصفات .. فربما كان لهذه المهنة تأثيرها في ذلك .. ربما. وبعيدًا عن مهنة الرعي القاسية .. حيث العواطف والغرائز والأحلام .. ماذا عن: الشباب والنساء كان الأمين يخالط الشباب ويعيش بينهم .. ويسمع بمغامراتهم في ارتياد كهوف البغاء .. والقصف في الخمارات .. لكنه كان يرتفع عما يسيء إلى اسمه ورجولته .. ولو كان ذلك مما لا تحرمه أعراف قريش .. والأمر عنده لا يتعدى دائرة حديث النفس والأماني لا أكثر .. إنه يتحدث عن تلك الأمور التي خطرت عندما كان يمسك بعصاه يهش بها على غنمه: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء، إلا ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري بلفظ: (نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة). (¬2) حديث صحيح. البخاري.

ليلتين، كلتاهما عصمني الله تعالى منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة -ونحن في رعاية غنم أهلنا- فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر فيها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى. فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفًا بالغرابيل والمزامير. فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة، فجلست انظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئًا. ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة. ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت، فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست انظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظى إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ قلت: لا شيء. ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت، ولا عدت بعدها لشيء حتى أكرمني الله بنبوته) (¬1). ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. رواه البيهقي (1/ 315) وابن حبان (زوائده 515) أبو نعيم (186)، من طريق ابن إسحاق، حدثي محمَّد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمَّد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي، وقد قال ابن حجر رحمه الله في هذا الإسناد: إسناده حسن متصل ورجاله ثقات. =

خديجة

إن أناسًا تعلوهم الغرائز .. وتلوي أعناقهم الشهوات .. فيجهدون في الحصول عليها دون أن يوقفهم نداء ناصح .. أو زجر زاجر .. يبذلون الأموال كالخطوات .. حتى يظفروا بسويعات حمراء وخيمة العواقب .. فهل سيوقفهم صوت دف أو مزمار .. لكن محمدًا أوقفته حفلة عرس .. وهدهدته حتى نام .. لأنه مهذب أتعبته هموم العمل والتزام الوظيفة .. تشققت قدماه من صخور الجبال وأدمتها أشواك الصحاري .. فأمسى مكدود البال منهك القوى .. ييحث عن ساعة يتنفس فيها بهجة ومرحًا .. فلاحَ له من حديث رفاقه الشباب ما قد يهب له ذلك .. فلما مر بذلك الزفاف وجد فيه من اللهو البريء ما أزاح ركام الهم عن قلبه ليبقى مشرعًا للسرور والابتهاج .. ولم تكن المرأة بعد ذلك بعيدة عن خياله وأحاسيسه .. وكان -كأي شاب سوي- بحاجة إلى فتاة تملأ بيته وحياته بالحب والعفاف وتمسح عن جبينه همومًا تقذف بها يوميات مكة المتعبة .. لكنه لم يجد فتاة بل وجد: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي .. امرأة ذات نسب وجمال .. ولها من المال شيء وفير .. سمعت عن محمَّد بن عبد الله فشدها ¬

_ = وقال الهيثمي (9/ 226): رواه البزار، ورجاله ثقات. ولكن يلاحظ أن أحد رجال هذا السند، هو محمَّد بن عبد الله بن قيس، وهو وإن كان من رجال الشيخين، إلا أن الحافظ قال عنه: مقبول في التقريب (2/ 79) وهذا القول يجعل حديثه مقبولًا إذا توبع أو كان له شاهد يقويه، وللحديث شاهد ذكره الإمام الذهبي في سيرته (41) من طريق مسعر بن كدام عن العباس بن ذريح عن زياد النخعي، حدثنا عمار بن ياسر. وعلة هذا السند جهالة حال زياد النخعي، فقد سكت عنه ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل 3/ 536) ولم يعرفه الدارقطني. انظر المغني (2/ 243)

ما سمعت ... أمانة ورجولة واتزان .. فتمنته زوجًا رغم كبر سنها بالنسبة إليه .. ورغم زواجها من قبل .. وتم لها ما أرادت .. لكن أباها كان عقبة تحاول إعثار هذا الزواج .. لكن حب خديجة وذكاءها كانا أكبر من تخريفات عجوز لا يدري ما يخرج من رأسه .. لقد ملك عليها محمَّد شغاف قلبها .. فأعدت لوالدها حلًا لا ثاني له. يقول ابن عباس رضي الله عنه: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر خديجة -وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت طعامًا وشرابًا، فدعت أباها وزمرًا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت خديجة لأبيها: إن محمَّد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه. فزوجها إياه. فخلقته، وألبسته حلة -وكذلك كانوا يفعلون بالآباء- فلما سرى عنه سكره، نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة، فقال: ما شأني هذا؟ قالت خديجة: زوجتني محمَّد بن عبد الله. قال: أُزَوِّج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري، فقالت: أما تستحي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران، فلم تزل به حتى رضي) (¬1) وأذعن للأمر الواقع. أما محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فلم ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد بسند قوى (الفتح الرباني (20/ 197)، من طريق أبي كامل، حدثنا حماد ابن سلمة عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس. وهذا الإسناد قوى، فأبو كامل شيخ أحمد واسمه مظفر بن مدرك الخراساني، ثقة، انظر التهذيب (10/ 183) والتقريب (2/ 255)، وأما عمار فحديثه حسن، انظر التقريب (1/ 48) وأما حماد بن سلمة فمعروف. وهذا هو الخبر القوى الذي استطعت الوصول إليه عن كيفية الزواج، فقد وردت أحاديث كثيرة وضعيفة، تذكر أن خديجة كان عمرها في الأربعن وهو في =

يبني الكعبة ويضع الحجر الأسود

يكن صاحب شهوة عارمة، وإلا لكان له في صغيرات قريش ما يريد، لكنه يريد بيتًا واستقرارًا وحياة زوجية سعيدة ليواصل حياته و: يبني الكعبة ويضع الحجر الأسود لما بلغ - صلى الله عليه وسلم - الخامسة والثلاثين .. كانت الكعبة في هيئة تحتاج إلى ترميم وإصلاح .. فقد كانت (مبنية بالرضم (¬1)، ليس فيها مدر (¬2)، وكانت قدر ما يقتحمها العناق (¬3)، وكانت غير مسقوفة، وإنما توضع ثياب عليها، ثم يسدل سدلًا عليها، وكان الركن الأسود موضوعًا على سورها، باديًا، وكانت ذات ركنين، كهيئة هذه الحلقة (¬4)، فأقبلت سفينة من أرض الروم، حتى إذا كانوا قربًا من جدة انكسرت السفينة، فخرجت قريش ليأخذوا خشبها، فوجدوا روميًا عندها، فأخذوا الخشب، أعطاهم إياه، وكانت السفينة تريد الحبشة، وكان الرومي الذي في السفينة نجارًا، فقدموا بالخشب، وقَدِمُوا بالرومي، فقالت قريش: نبني بهذا الخشب بيت ربنا، فلما أن أرادوا هدمه، إذا هُمْ بحية على سور البيت، مثل قطعة الجائز، سوداء الظهر، بيضاء البطن، فجعلت كلما دنا أحد من البيت ليهدمه، أو يأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها، ¬

_ = الخامسة والعشرين عند زواجهما، وذكرت أحداث أخرى تجدها في (موسوعة السيرة) الزواج. (¬1) الحجارة يجعل بعضها على بعض. (¬2) المدر هو الطين اللزج. (¬3) أنثى من أولاد الماعز. (¬4) مثل حرف 8.

فاجتمعت قريش عند الحرم، فعجوا (¬1) إلى الله، وقالوا: ربنا لم نرع، أردنا تشريف بيتك وترتيبه، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل. فسمعوا خوارًا (¬2) في السماء، فإذا هم بطائر أعظم من النسر، أسود الظهر وأبيض البطن والرجلين، فغرز مخالبه في قفا الحية، ثم انطلق يجرها، وذَنَبُها أعظم من كذا، وكذا، ساقط حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا) (¬3) وكان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يشاركهم في ذلك البناء، وكان ممّن ينقل الحجارة من الوادي، عندما ناداه مناد لا يعرفه ولا يستطيع أن يراه، وكان سبب النداء، أنه عندما كان (يحمل حجارة من أجياد -وعليه نمرة (¬4) - إذ ضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه، فبدت عورته من صغر النمرة فنودي: يا محمَّد، خَمِّر (¬5) عورتك. فلم يُرَ عريانًا بعد ذلك) (¬6). ¬

_ (¬1) رفعرا أصواتهم بالدعاء إلى الله. (¬2) الخوار هو صوت البقر والغنم والظبا والسهام. (¬3) ما بين الأقواس حديث صحيح الإسناد رواه عبد الرزاق في مصنفه (5/ 102) عن معمر، عن عبد الله، عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: وهذا الإسناد صحيح، فمعمر شيخ عبد الرزاق أحد الأعلام الثقات، انظر التهذيب (10/ 243) وتقريب التهذيب (2/ 266). وعبد الله شيخ معمر وهو التابعى: عبد الله بن خثيم، وهو ثقة حجة، انظر تهذيب التهذيب (5/ 314) وأما أبو الطفيل فهو صحابى. وقد صحح هذا الحديث الإمام الذهبي، في سيرته (20) حيث قال إنه: صحيح. (¬4) النمرة هي: كساء فيه خطوط بيض وسود. (¬5) أي غط عورتك. (¬6) النمرة هى: كساء فيه خطوط بيض وسود.

النداء الأول لمحمد (صلى الله عليه وسلم)

وربما كان هذا هو النداء الأول لمحمد (صلى الله عليه وسلم) قبل النبوة فقد جاء ذلك في وصف الكعبة وبنائها، وأنه (كان برضم (¬1) يابس ليس بمدر، تتروه العناق، وتوضع الكسوة على الجدار، ثم تدلى، ثم إن سفينة لروم أقبلت، حتى إذا كان بالشعيبة انكسرت، فسمعت بها قريش، فركبوا إليها، وأخذوا خشبها، ورومي يقال له: باقوم. نجار، بان (¬2)، فلما قدموا مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا عَزَّ وَجَلَّ، واجتمعوا لذلك، ونقلوا الحجارة، من أجياد الضواحي، فبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ينقل إذ انكشفت نمرته فنودي: يا محمَّد عورتك. فذلك أول ما نودي والله أعلم، فما رؤيت له عورة بعد) (¬3). وكان الذي أشار عليه - صلى الله عليه وسلم - برفع إزاره هو عمه العباس رضي الله عنه، فقد قال له: (يا ابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة. ففعل ذلك، فسقط مغشيًا عليه، فما رؤي بعد ذلك اليوم عريانًا) (¬4). وقد شهد العباس هذه الحادثة، وكتمها، لم يقصها إلا بعد زمن طويل على ابنه عبد الله فقال: (كنت أنا وابن أخي -محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ننقل ¬

_ (¬1) الرضم: صخور بعضها على بعض. (¬2) أي كان يعمل في النجارة والبناء. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ، ذكره الذهبي بإسناده (36) ورواه البيهقي (1/ 326). وهو من طريق داود بن عبد الرحمن العطار، وهو ثقة. انظر التقريب (1/ 223) عن ابن خثيم، وقد مر معناه عن أبي الطفيل رضي الله عنه. (¬4) حديث صحيح. متفق عليه.

الحجارة على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا (¬1) الناس ائتزرنا، فبينا هو أمامي خر على وجهه منبطحًا، فجئت أسعى إليه، وألقيت حجري -وهو ينظر إلى السماء- فقلت: ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره، وقال: نُهيت أن أمشي عريانًا. فكنت أكتمها مخافة أن يقولوا مجنون) (¬2). وارتفعت الكعبة من جديد .. وشمخت شموخ التوحيد .. تشير بوحدانية الله .. وابتهجت قريش بصنيعها وترتيب بيت ربها .. ولم يبق سوى رد الحجر الأسود إلى مكانه .. ووضعه في زاويته من الكعبة .. فمن سيعيده .. من سيضعه .. من هو الأحق بهذا الشرف؟ إن بناء الكعبة واسع لدرجة استيعاب الآلاف للمشاركة فيه ونيل شرفه .. لكن الحجر الأسود لا يحتمل أكثر من أذرع قليلة تحمله. اختلفت بطون قريش .. وحق لها أن تختلف في مثل ذلك الزمن المتكئ على تلك العقول المتصخرة التي لا تحل الأمور الصعبة إلا بأسنَّة الرماح .. وأنهار الدماء .. ألم يحدثنا التاريخ عن حروب دامت عشرات السنين وثار غبارها من أجل سنام جمل أو مضمار خيل. ¬

_ (¬1) أي أقبلنا عليهم واختلطنا بهم. (¬2) حديثٌ حسنٌ لغيره، وذكره الذهبي في سيرته (38) من طريقين عن: سماك عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس، عن العباس رضي الله عنهم. وهذا الحديث رجاله ثقات، عكرمة تابعي معروف وهو ثقة. وسماك جيد الحديث، لكن سماك بن حرب رحمه الله منتقد الحديث عن عكرمة، فقد امتدح النقاد حديثه ما عدا حديثه الذي يرويه عن عكرمة مولى ابن عباس، فقد قالوا كما في التهذيب والتقريب (1/ 332): إنه اضطرب فيه. لكن هذا الحديث له من الشواهد التي مرت معنا، والتي ذكرتها في موسوعة السيرة ما يشهد له ويرفعه إلي درجة القبول، فهو حسن لغيره قوى بالروايات الأخرى. والقائل: كنت أكتمها. هو العباس خوفًا على ابن أخيه من التكذيب.

إن جمال الدنيا وخيلها والخصومة عليها .. لا تطاول الخصومة على أقدس الأشياء التي احتلت قلوب العرب قبل أراضيها .. الكعبة والحجر الأسود. فهل ستصبغ قريش كعبتها بدماء أبنائها .. هل هناك مخرج آخر لهذه الأزمة. لهذه الكارثة التي تطل من موضع الحجر. كان الله رحيمًا بهؤلاء العرب عندما قرروا تحكيم أول رجل يدخل عليهم المسجد .. فكانت هذه القصة التي يرويها لنا شاهد عيان شارك وبنى وحضر الخصومة حيث يقول: إني كنت (فيمن يبني الكعبة في الجاهلية، ولي حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله، فأجيء باللبن الخاثر، الذي أنفسه على نفسى، فأصبه عليه، فيجيء الكلب، فيلحسه، ثم يشغر (¬1) فيبول. فبنينا حتى بلغنا الحجر، وما يرى الحجر منا أحد، فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل، يكاد يترايا منه وجه الرجل، فقال بطن من قريش: نحن نضعه. وقال آخرون: بل نحن نضعه. حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف. فقالوا: اجعلوا بينكم حكمًا. قالوا: أول رجل يطلع من الفج (¬2) فجاء النبي-صلى الله عليه وسلم-. فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له. فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه معه فوضعه هو) (¬3) وبيده الكريمة ¬

_ (¬1) أي يرفع إحدى رجليه ليبول. (¬2) الفج: الطريق الواسع البعيد. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه عبد الصمد بن النعمان (سيرة الذهبي 40) وأبو نعيم في الدلائل، من طريقين أما عبد الصمد فقال: حدثنا ثابت بن يزيد، حدثنا هلال بن خباب عن مجاهد عن مولاه قال: ... وثابت بن يزيد الأحول ثقة، انظر التهذيب ... وكذلك هلال بن خباب العبدي، انظر التقريب (2/ 23)، وطريق أبي نعيم: عباد بن العوام عن هلال ... وعباد ثقة. انظر التقريب (1/ 393).

يشتغل بالتجارة

أوقف سيلًا من الدماء كاد أن ينفجر .. وفرقة بين أهل مكة كادت أن تبيدهم .. ساقه الله إليهم فلما لمحوه أشارت قلوبهم قبل أصابعهم: أتاكم الأمين. اسم انتزعه من مكة كلها من رجالها ونسائها وأطفالها .. من شوارعها وأزقتها .. من أبوابها وجدرانها .. من نسمات الهواء وحبات الرمل .. مكة كلها سمته الأمين. سمته الأمين وهو يرعى أغنامها .. وسمته الأمين وهو يتعامل معها ولعل أشد الناس تأثرًا بأمانته وصدقه: صفيه وحبيبه وصديقه: عبد الله بن أبي قحافة الملقب بـ: أبي بكر .. لقد تأثر الجميع بأمانته لا سيما بعد أن بدأ: يشتغل بالتجارة فلقد كبر محمد وكبرت أمانته .. فترك رعي الأغنام ليدخل إلى عالم آخر .. عالم الاقتصاد .. ليبيع ويشتري .. ويربح .. ويتنامى نشاطه وماله وعلاقاته .. إنه الآن يقيم شراكة مالية متينة بينه وبين رجل من قومه اسمه: السائب بن أبي السائب .. وكان السائب ينافس أبا بكر في القرب منه -صلى الله عليه وسلم-. يحدثنا عن ذلك السائب نفسه فيقول: (أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعلوا يثنون علي ويذكروني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنا أعلمكم يعنى به، قلت: صدقت بأبي أنت وأمي [مرحبًا بأخي وشريكي] (¬1) كنت شريكي [في الجاهلية] (¬2) فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري) (¬3). ¬

_ (¬1) زيادة عند الحاكم (21/ 61). (¬2) زيادة عند الحاكم (21/ 61). (¬3) زيادة عند الحاكم (21/ 61).

حتى الحجارة تحبه

إذًا فقد (كان شريك النبي -صلى الله عليه وسلم- .. في التجارة) (¬1) وكان عنوان تجارته هو: الأمانة وإلا لما لقب بالأمين .. أصبح لدى محمد مال .. فاشترى عبدًا اسمه زيد بن حارثة (¬2) لكنه لم يعامله معاملة غيره لعبيدهم .. كان زيد كالابن لمحمد .. بل سماه زيد بن محمد .. أدب وتحضر وأخلاق عذبة. لقد أجلّه الجميع .. واحترمه الجميع .. وأحبه كل من عرفه .. ولم يقتصر هذا الحب على احتلال القلوب .. لقد انداح في كل اتجاه حتى لقد أحبته الأشجار والأحجار: حتى الحجارة تحبه حجارة صماء في مكة كانت تسلم عليه إذا مر بها .. فكان يحمل ذكراها في قلبه ويحدث بها أصحابه .. يحدثهم عن ذلك الحب فيقول: (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث) (¬3). إن للكون الصامت حولنا من التراتيل والصلوات بقدر ما نشهده من صمت وسكون .. لكن الكون يريد قلبًا .. يريد عقلًا ليكتشف ذلك المعبد فيه .. وهب الله ذلك الحجر لغة الإنسان فكلم محمدًا .. أم وهب محمدًا إدراكًا ليفهم لغة الحجر .. فكان ذلك السلام .. وكان ذلك الحب الذي بدأ بين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومكة .. وانتهى بمحمد وما وراء مكة .. أشياء غريبة تحدث لا يجد لها تفسيرًا .. فيلجأ إلى حبيبته خديجة .. إلى قلبها الحنون فيقول يا خديجة: (إني أرى ضوءًا، وأسمع ¬

_ (¬1) زيادة عند الحاكم (21/ 61). (¬2) سيمر معنا بعد قليل حديث فيه إشارة إلى ذلك وستأتي أحاديث أخرى. (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم.

لا أصنام

صوتًا وإني أخشى أن يكون بي جنن - فتقول له: لم يكن ليفعل ذلك يا ابن عبد الله) (¬1) .. ثم تذهب تستفسر ذلك القس الطاعن في السن -ابن عمها- ورقة بن نوفل فتذكر له ما يحدث لزوجها .. فيقول لها: (إن يكن صادقًا، فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى، فإن بعث وأنا حي فسأعززه وأنصره وأؤمن به) (¬2) حتي هذا القس النصراني كان يحس .. كان ينتظر .. فالوضع على الأرض أكثر من سيئ وهو بحاجة إلى منقذ يحطم هذه الأصنام .. ويرتقي بهذا الإنسان المرتكس في الوحل .. أما محمد فكانت أقواله وسلوكياته تقول: لا أصنام كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يحس بتفاهة هذه الطقوس وتخلفها .. كان يحتقر أصنامهم ويرفض كل ما يمت لها بصلة .. ها هو مع مولاه زيد بن حارثة .. أمام أحد الأصنام .. وها هو زيد يحدثنا عما جرى فيقول: (كان صنم من نحاس يقال له إساف، أو نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وطفت معه، فلما مررت مسحت به. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تمسه، فقلت -في نفسي-: لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألم تُنْه؟. فوالذي أكرمه وأنزل ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه الإمام أحمد. الفتح الرباني (20/ 207) من طريقين: أ- حماد أخبرنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس. ب- حماد أخبرنا عمار بن أبي عمار .. مرسلًا. والمسند أصح؛ لأن الراوي عن حماد في المرسل: هو عفان وهو ثقة ثبت لكنه ربما وَهِم. أما الرواة عن حماد في المسند. فهما ثقتان لم يذكر لهما أوهام، وهما: مظفر بن مدرك (أبو كامل) والحسن بن موسى الأشيب. ثم إن المرسل عندما يسأل عن مصدر خبره فإنه يسنده فلا اضطراب هنا. (¬2) حديث صحيح. سيمر معنا.

عليه الكتاب ما استلم صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه) (¬1). حتى في الحج .. وفي يوم الوقوف بعرفة .. يخالف قومه الذين أرادوا منح أنفسهم امتيازًا على بقية الناس .. وذلك بوقوفهم عشية ذلك اليوم بمزدلفة .. أما هو فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخالفهم .. كان يقف بعرفة من بين قومه كلهم. يقول جبير بن مطعم: (لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وهو على دين قومه- وهو يقف على بعير له بعرفات، من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقًا من الله عَزَّ وجَلَّ له) (¬2). وتقول عائشة رضي الله عنها: (كانت قريش، ومن يدين دينها -وهم الحمس (¬3) - يقفون عشية عرفة بالمزدلفة ويقولون: نحن قطن البيت. وكان بقية الناس والعرب يقفون بعرفات) (¬4). ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. رواه البيهقي من طريق: الحسن بن علي بن عفان، وهو ثقة (التهذيب 2/ 302)، حدثنا أبو أسامة: حماد بن أسامة وهو ثقة ثبت، حدثنا محمد بن عمرو بن علقة بن وقاص، وهو حسن الحديث (التهذيب 9/ 375) عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. وهما تابعيان ثقتان. التقريب (2/ 430) و (2/ 352). (¬2) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق فقال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير قال: وهذا السند (سيرة ابن كثير 1/ 254) صحيح، فابن إسحاق ثقة لكنه مدلس، وهو هنا لم يدلس بل صرح بالسماع من شيخه عبد الله. وشيخه ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم تابعي صغير وثقة معروف. انظر التقريب، وأما عثمان بن أبي سليمان، فهو أيضًا تابعى ثقة. انظر تهذيب التهذيب والتقريب (2/ 9). وكذلك نافع بن جبير بن مطعم تابعي ثقة. فالإسناد بذلك صحيح متصل. (¬3) سموا كذلك لتشددهم في دينهم وقيل لأنهم كانوا لا يستظلون أيام منى. (¬4) متفق عليه.

غرباء

ويقول جبير بن مطعم أيضًا: (أضللت بعيرًا لي يوم عرفة، فخرجت أطلبه، فرأيت النبي-صلى الله عليه وسلم- واقفًا مع الناس بعرفة. فقلت: هذا من الحمس، فما شأنه ها هنا) (¬1). كان امتياز قريش هنا زائفًا .. ففر الصواب من بين جموعهم واستقر على بعير محمد-صلى الله عليه وسلم- .. تلك هي الفطرة السليمة التي تأبى الانحراف وتلك هي الغربة المريرة التي يعانيها أفذاذ من الـ: غرباء كان محمد -صلى الله عليه وسلم- غريبًا في أرض مكة .. وجوه يعرفها وقلوب ينكرها .. كان موحدًا على دين أبيه إبراهيم .. يدرك أن الله أعظم شأنًا من أن يصاغ من حديد أو نحاس .. أو ينحت من الصخر أو الخشب .. كان يدرك عظمة هذا الكون وعظمة خالقه .. وفي الغربة نفسها يعيش أفراد قليلون جدًا .. يتوجهون إلى خالقهم الأحد ويعرضون عن هذه الأصنام التي زاحمت الناس على هذه الأرض بغير حق .. عبر الروابي والهضاب والصحاري .. سير حثيث بحثًا عن الحق .. زيد بن عمرو بن نفيل .. وورقة بن نوفل .. بعض هؤلاء الغرباء أصحاب عقول ناضجة .. لم يستسيغوا تلك الحجارة الموضوعة فوق الكعبة .. ولا ما ينسج حولها من أساطير وخرافات .. فأما زيد بن عمرو بن نفيل فقد (خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود فسأله عن دينهم. فقال: إني لعلى أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله. قال زيد: ¬

_ (¬1) متفق عليه.

وما أفر إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئًا، ولا أستطيعه فهل تدلني عليه؟ قال اليهودي: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفًا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال اليهودي: دين إبراهيم عليه السلام، لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد، فلقي عالمًا من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله. قال زيد: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله. ولا من غضبه شيئًا أبدًا، ولا أستطيع، فهل تدلني على غيره. قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفًا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال النصراني: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج، فلما برز رفع يديه فقال: اللَّهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم) (¬1). ويعود زيد إلى مكة غريبًا كيوم غادرهم .. يرمق مكة ويرمق جموعها .. أحقًا كانت هذه الأرض أرض التوحيد .. ما بالهم يشركون .. ينظر نظرة من ملأ قلبه الأسى واللهف .. رأته أسماء بنت أبي بكر على هذه الحال (مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري -ثم يقول-: اللَّهم ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري.

لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم) (¬1). ثم يؤدي حركة غريبة كغربته تتوهج شوقًا إلى الله، وشوقًا يعبر به عما في قلبه، تقول أسماء: (ثم يسجد على راحته، وكان يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم) (¬2). لقد كان هذا الغريب إنسانًا عظيمًا في زمنه .. لا يتفوق عليه في سلامة الفطرة وصفاء الفكر إلا محمد -صلى الله عليه وسلم-. لقد كان يرى الرجل يحمل ابنته الصغيرة على ذراعيه مسرعًا بها نحو حفرة تلتهب بالرمضاء ليدسها فيها .. فينهض مسرعًا ويعترض طريقه .. ويتوسل إليه ألا يفعل .. فإذا أصر (أن يقتل ابنته قال له: لا تقتلها ادفعها إلي أكفلها، فإذا ترعرعت فخذها، وإن شئت فادفعها) (¬3). ثم يأخذ تلك البريئة الضعيفة .. يحملها إلى بيته يرعاها ويحنو عليها .. لأنه يعرف أن الله أرحم من عباده .. وأنه لم يخلقها لتدفن بعد مولدها. ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس: سنده صحيح. رواه ابن إسحاق. (سيرة ابن كثير 1/ 154)، فقد قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، وابن إسحاق ثقة مدلس، وهو هنا لم يدلس بل صرح بالسماع من شيخه: هشام بن عروة بن الزبير، أما شيخه، فهو ثقة معروف، ووالد عروة إمام المغازي والتابي الثقة العظيم، عروة بن الزبير ابن العوام، ووالدته هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين. (¬2) و (¬3) ما بين الأقواس: سنده صحيح. رواه ابن إسحاق. (سيرة ابن كثير 1/ 154)، فقد قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، وابن إسحاق ثقة مدلس، وهو هنا لم يدلس بل صرح بالسماع من شيخه: هشام ابن عروة بن الزبير، أما شيخه، فهو ثقة معروف، ووالد عروة إمام المغازي والتابعي الثقة العظيم، عروة بن الزبير بن العوام، ووالدته هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين.

أمة وحده زيد بن عمرو بن نفيل .. هكذا عاش وهكذا سيبعث عندما تبعث الأمم (أمة وحده يوم القيامة) (¬1). ولم تكن عودة زيد لمكة ليأسه مما ملأ الأرض من رموز الشرك .. بل عاد لينتظر .. فلقد أرشده بعض الرهبان إلى قرب مخرج نبي مرسل .. في أرض الحجاز .. زيد نفسه يقول: (شاممت النصرانية، واليهودية فكرهتهما، فكنت بالشام، وما والاه، حئ أتيت راهبًا في صومعة، فوقفت عليه، فذكرت له اغترابي عن قومي، وكراهتي عبادة الأوثان، واليهودية، والنصرانية. فقال له الراهب: أراك تريد دين إبراهيم، كان حنيفًا، لم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، كان يصلى ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك، فالحق ببلدك، فإن نبيًا يبعث من قومك في بلدك، يأتي بدين إبراهيم بالحنفية، وهو أكرم الخلق على الله) (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح، رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة (سيرة ابن كثير 1/ 56) من طريق تابعي ضعيف هو عطية بن سعد العوفي، لكن له شواهد قوية، عند الباغندي (سيرة ابن كثير 1/ 162) وعند أبي داود الطيالسي (2/ 161)، كما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة (سيرة ابن كثير 1/ 161) وسند الباغندى قال عنه ابن كثير: صحيح وهو كما قال، وطريق ابن أبي شيبة قال عنه ابن كثير أيضًا: إسناده جيد حسن، لكنه ليس كما قال: ففيه مجالد وفيه ضعف، والحديث بهذه الطرق صحيح. (¬2) حديثٌ حسنٌ رواه ابن سعد (1/ 162)، أخبرنا علي بن محمد القرشى، عن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: قال زيد بن عمر ... وعلي ثقة رغم ما قاله ابن عدي (اللسان 4/ 253) وقد قال عنه ابن معين: ثقة، ثقة، ثقة، وإسماعيل حسن الحديث: التقريب (1/ 73) وعلة الحديث من والده، ففيه ضعف وحديثه جيد بالشواهد والحديث يشهد له حديث البخاري السابق، وحديث آخر عند الطيالسي (2/ 161)، وفيه جهالة حال نفيل، ولا ينفعه قول ابن حبان، روى عنه المدنيون فلا بد من التوثيق اللفظى لكن حديثه جيد في الشواهد.

لا تحدث إلا لنبي

أما الرجل الآخر .. فهو ورقة بن نوفل الذي انتظر ذلك الخروج كما انتظر زيد ... وبقي ينتظر حتى نزل الوحي .. وقد كانت خديجة تتردد عليه كلما حدث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء غريب لا يعرف له تفسيرًا .. وكان ورقة يطمئنها ويأمل أن يكون نبي هذه الأمة المنتظر. فهذه الأمور: لا تحدث إلا لنبي تتصاعد الأحداث حول محمد -صلى الله عليه وسلم- .. وتنحت في نفسه الوجوم والاستفهام .. أصوات وأضواء .. أسرار وأقفال .. وماذا بعد؟ الناس لن تصدق .. والصمت مرير .. وليس سوى خديجة من منصت .. ربما لدى بعض الناس من تفسير .. لكن من هذا البعض؟ ربما أخطأت أقدام السؤال طريقها .. والنتيجة كلمات كالحميم: محمد مجنون. لكن للّيل نهاية .. ولا بد أن لهذا الكهف من مخرج .. إن الله رحيم ولن يترك هذا العبد الحائر في حيرته .. وها هو الوحي يبدأ خفيفًا كهواء البحر المنعش .. يبشر بحياة جديدة لمحمد وللأرض كلها .. فكان (أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي: الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) (¬1). ذات يوم رأى رؤيا (فشق ذلك عليه، فذكرها -صلى الله عليه وسلم- لامرأته خديجة بنت خويلد بن أسد، فعصمها الله عَزَّ وجَلَّ من التكذيب، وشرح صدرها بالتصديق، فقالت: أبشر، فإن الله عَزَّ وجَلَّ لن يصنع بك إلا خيرًا، ثم إنه خرج من عندها، ثم رجع إليها، فأخبرها، أنه رأى بطنه ¬

_ (¬1) حديث صحيح. متفق عليه.

شق، ثم طهر وغسل، ثم أعيد كما كان. قالت: هذا والله خير فأبشر) (¬1). عندها علم أنه سيكون نبي هذه الأمة يقينًا من الله .. لقد قال -صلى الله عليه وسلم- يومًا والصحابة حوله يبتهجون به وبأحاديثه: (ما علمت ذلك -أي أنه نبي- حتى أتاني ملكان ببعض بطحاء مكة، فقال أحدهما: أهو هو؟ قال: نعم. قال: زنه برجل. فرجحته. قال: فزنه بعشرة، فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة، فوزنني بمائة، فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف، فرجحتهم. فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته لرجحها، ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه. فشق بطني، ثم أخرج منه فعم الشيطان، وعلق الدم فطرحها، فقال أحدهما للآخر: اغسل بطنه غسل الإناء، فاغسل قلبه غسل الملائم، ثم دعا بالسكينة كأنها رهرهره بيضاء، فأدخلت قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني، وجعلا الخاتم بين كتفي، فما هو إلا أن وَلَّيَا عني كأنما أعاين الأمر معاينة) (¬2). ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ بالشواهد، له سندان مرسلان، أرسلها عروة والزهرى، لكن يشهد له ما بعده. (¬2) حديثٌ حسنٌ بما قبله، رواه ابن عساكر (سيرة ابن كثير 1/ 230) والبزار. انظر مجمع الزوائد (8/ 255) وهذا سنده: جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشى، أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال: ... وجعفر ثقة، لكن شيخه عمر مجهول الحال سكت عنه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6/ 17) ويقويه ما عند أبي داود الطيالسي بسند فيه جهالة. انظر (منحة المعبود 2/ 86) ثم وجدت في دلائل أبي نعيم أن الراوي عن عروة هو ابنه عثمان وهو ثقة، وقد روى الحديث عن جعفر فيكون قد تابع عمر بن عبد الله، وهذا ما يدل عليه قول صاحب المجمع بعد أن تكلم عن جعفر: وبقية رجاله ثقات، وهو لم ينتقد من السند سوى جعفرًا وهو كما علمت ثقة كما قاله الإمام أحمد، انظر كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، وقد عزاه صاحب السيرة الشامية إلى الحارث بن أبى أسامة. انظر: سبل الهدى والرشاد (2/ 85).

الرؤيا الأخيرة

أتذكرون مضارب حليمة .. حيث الأطفال والحملان الصغيرة .. عندها أقبل ملكان أبيضان كالسلام .. أضجعا ذلك الصغير وشقا صدره وغسلاه .. وها هو طفل الأمس .. رجل يصافح الأربعن .. يعود إليه الملكان ببطحاء مكة ليغسلاه مرة أخرى بماء السماء .. وينهض يحمل فضل الله .. فما حدث يبشره ويقول: أنت النبي .. المنتظر حتى رأى. الرؤيا الأخيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- أصبح يفضل العزلة والتعبد (حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد الليالي ذوات العدد- قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها) (¬1)، ثم يعود لذلك الغار المترقب على قمة جبل النور .. والذي يستغرق الصعود إليه أكثر من ساعة .. ولم يكن ذلك طوال العام .. بل (في كل سنة شهرًا يتحنث، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجاور ذلك الشهر من كل سنة) (¬2) ولم يكن يمارس العبادة فقط .. بل كان (يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد، وذلك الشهر: رمضان، خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره، ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد به) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري. (¬2) حديث جيد الإسناد. انظر تخريجه لدى نهاية النص الذي بعده وهو جزء منه. (¬3) حديث جيد الإسناد. انظر تخريجه لدى نهاية النص الذي بعده وهو جزء منه.

وبينما كان نائمًا (جاءه جبريل بأمر الله تعالى. قال -صلى الله عليه وسلم-: فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ. قلت: ماذا أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداءً منه أن يعود لي. بمثل ما صنع بي. قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. فقرأتها، ثم انتهى وانصرف، وهببت من نومي، فكأنما كتب في قلبى كتابًا. فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتًا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فرفعت رأسي إلى السماء، فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يامحمد أنت رسول الله وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى عنه في آفاق السماء، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفًا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف مكاني ذلك، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعًا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفًا إليها، فقالت:

يا أبا القاسم، أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن العم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة ابن نوفل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ورقة بن نوفل: قدوس .. قدوس .. والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاء الناموس الأكبر، الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة وقولي له فليثبت. فرجعت خديجة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جواره وانصرف صنع كما يصنع، بدأ بالكعبة، فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت .. فأخبره، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبى هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر، الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرًا يعلمه. ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منزله) (¬1). ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ: رواه ابن إسحاق: حدثنا وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عميرة بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النبوة .. وهذا الإسناد صحيح: ابن إسحاق لم يدلس، ووهب تابعي ثقة .. انظر: تخريج أحاديث السيرة (1/ 223) وسيرة ابن كثير (1/ 402).

ليلة الحياة والقرآن

ليلة الحياة والقرآن انصرف إلى منزله بعد أن حمل تفسير تلك الرؤيا .. لكنه لم ينقطع عن عبادة ربه .. واستمر على ما كان عليه فـ (كان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -هو التعبد الليالي ذوات العدد- قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها) (¬1). كان نهاره على ذروة ذلك الشاهق .. تأمل .. سياحة في هذا الكون الصامت الناطق .. الناثر في الصدور المنشرحة نورًا يهمس: لا إله إلا الله .. أما ليله فتبتل وتضرع .. كأنه يغرف من الليل سكونه وخشوعه .. كأن رياحه الباردة وهي تمر بباب الغار .. تبشر بعودة محبوب طال انتظاره. واستمر ذلك الحب وتلك المناجاة (حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارىء. فأخذني فغطني ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني .. زملوني. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3).

فزملوه، حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة -وأخبرها الخبر- لقد خشيت على نفسي. فقالت له خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين علي نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى. فقال له ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتى أكون حيًا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أومخرجي هم؟ قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا) (¬1). إذًا فهذه هي النبوة .. وهذا هو القرآن العظيم كلام الله ينزل على نبيه .. كلام الله الذي علم بالقلم .. وعلم الإنسان ما لم يعلم .. يهمي ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري. بدء الوحي (3).

ثورة في السماء

مطرًا ينعش وجه الأرض الشاحب بالشرك وأشواكه .. المحفور بالجهل والتخلف والسحر والشعوذة .. فيرويه حياة ونضارة .. ويمسك الإنسان المؤمن من جديد بزمام الخلافة في الأرض ليعمرها بالحب والعدل والسلام .. فقد تعبت البشرية من ملاحقة الأشرار لها بأسلحة الظلم والضلال. نزل القرآن فقام محمد -صلى الله عليه وسلم- برسالة ربه. أسلمت خديجة فكانت أول من أسلم على الإطلاق .. وفرح ورقة وأسلم وبشر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان أول من أسلم من الرجال .. لكنه لم يعش إلا فترة قصيرة (ثم لم ينشب ورقة أن توفي) (¬1) بعد أن زفر بتلك الأمنية .. وتمني الشباب للكدح لا للمتعة .. للبذل والفداء لرسالة جديدة ونبي يتربص له الاضطهاد خلف أشجار مكة .. ويكمن له الظلم في طرقاتها .. مات ورقة بعد أن حباه الله برؤية النبي الذي طالما ذرع الأرض بحثًا عنه .. وقبع على قوارع المجهول ينتظره .. هذا بعض ما حدث على الأرض أما في السماء فهناك: ثورة في السماء فعندما نزل الوحي اشتعلت أرجاء السماء حممًا .. ولهيبًا .. وشررًا يفتك برؤوس الشرك .. ومصانع الخرافة والضلال .. شياطين الجن الذين أرهقوا بعض البشر ودحرجوهم للحضيض .. كانوا (يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعًا، فأما الكلمة فتكون حقًا، وأما ما زادوا فتكون باطلًا، فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال لهم إبليس: هذا لأمر قد حدث في الأرض. فبعث جنوده، فوجدوا ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري. بدء الوحي (3).

رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قائمًا يصلي بين جبلين، فأتوه، فأخبروه. فقال: هذا الأمر الذي حدث في الأرض) (¬1). إن الله قد وهب الجن قدرات لكن منهم شياطين أساؤوا استغلالها .. جعلوا يسترقون السمع .. ثم يلقون ما استمعوه في بركة من الكذب .. ثم يسقونها الكهان الذين يتصلون بهم ويتقربون إليهم .. فزادوهم رهقًا وتخويفًا .. وجعلوهم يرتكسون في الشرك والشعوذة .. والجن قبائل منهم الصالحون ومنهم الفاسدون .. و (لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتًا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا. فإذا سمعت الملائكة خروا سجدًا، فلم يرفعوا رؤوسهم حتى ينزل، فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء، قالوا: الحق، وهو العلي الكبير. وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب، أو موت، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به فقالوا: يكون كذا وكذا، فتسمعه الشياطن، فينزلونه على أوليائهم، فلما بعث النبي-صلى الله عليه وسلم- دحروا بالنجوم، فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه، فيذبح كل يوم شاة، وذو الإبل فينحر كل يوم بعيرًا، فأسرع الناس في أموالهم. فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فإن كانت النجوم التي يهتدون بها، وإلا فإنه لأمر حدث. فنظروا فإذا النجوم التي يهتدى بها كما هي لم يزل منها شىء، فكفوا، وصرف الله الجن، فسمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا، وانطلقت الشياطن إلى ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه أبو نعيم (سيرة ابن كثير 415): حدثنا الطبراني، حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا الإسناد صحيح رجاله ثقات ولا يعكر صحته سوى عنعنة أبي إسحاق عمر بن عبد الله وللحديث شاهد وهو ما بعده.

كاهن وجنية

إبليس فأخبروه، فقال: هذا حدثٌ حدثَ في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة، فقال: ها هنا الحدث) (¬1). وهذه قصة أخرى يرويها ويروي مثلها رجل رموز قريش وأقويائها اسمه: عمر بن الخطاب: كاهن وجنية في يوم بعثته -صلى الله عليه وسلم- .. كان لأحد الكهان ارتباطه مع جنية .. يتحدث الكاهن إلى عمر بن الخطاب عنها وعن فزعها في ذلك اليوم العظيم فيقول: (بينما أنا يومًا في السوق، جاءتني، أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وإحلاسها فقال عمر رض الله عنه: صدق بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل، فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه، يقول: يا جليلح .. أمر نجيح .. رجل فصيح .. يقول: لا إله إلا الله. فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح .. أمر نجيح .. رجل فصيح .. يقول: لا إله إلا الله فقمت فما نشبنا ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه ابن أبي شيبة، وابن سعد (1/ 167) والبيهقيُّ. ورواية ابن أبي شيبة: محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وسند البيهقي: حماد بن سلمة عن عطاء، وسند ابن سعد: ورقاء بن عمر عن عطاء ... وهذا الإسناد صحيح لولا اختلاط عطاء بن السائب في آخر عمره، لكن بعض العلماء قال: إن حماد بن سلمة قد سمع منه قديمًا، وسواء كان ذلك أم خلافه فالحديث حسن بما قبله، لأن حديث عطاء جيد بالشواهد.

توقف الوحي

أن قيل: هذا نبي) (¬1). لقد ثار الجن .. واضطربوا وحاروا .. وضاقت الأرض بهم والسماء .. وأمسى شبح المستقبل يتهادى خلف دخان الشهب الحارقة .. كالجريح يترنح بين آثار القنابل .. لقد أمسى مستقبل الشياطين مخيفًا مرعبًا مجهولًا بعد نزول القرآن .. بعد بعثة هذا النبى -صلى الله عليه وسلم-. توقف الوحي هذا النبي الذي انقطع عنه (وفتر الوحى) (¬2) فترة من الزمن .. أصبح بعدها في حيرة لا يدري ماذا بعد هذا النبأ .. ماذا بعد (اقرأ) .. ما رسالته وما مهمته .. ولك أن تتصور أحاديث النفس ووحشتها في مثل ذلك الظرف .. لكن الوحي عاد من جديد .. وعادت معه الحياة. عودة الوحي يتحدث -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك الأمر الذي أخافه حتى وقع على الأرض فيقول: (فتر الوحي عني فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء. فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي، فجثثت منه فرقًا، حتى صرت إلى الأرض، فجئت أهلى فقلت: زملوني .. زملوني .. فزملوني، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} (¬3) قم وأزح عنك هذه الأغطية .. فما كان بالأمس حلمًا جميلًا أصبح اليوم حملًا ثقيلًا .. قم يا محمد فالأرض قلوب خاوية .. وبطون جائعة .. واستبداد وسلاسل. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري. مناقب الأنصار. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري. وأحمدُ (الفتح الرباني 20/ 209) واللفظ له. (¬3) سورة المدثر. والحديث صحيح متفق عليه.

ها قد قام محمد -صلى الله عليه وسلم- يحمل سطرين من القرآن. سطران طالما بحثت عنهما أفكار البشر .. وصل من وصل وتعثر الملايين .. فهل هناك حياة دون علم دون قراءة .. دون كتابة .. دون نظافة .. دون ترك للأوثان ووحل الخرافة .. هل هناك حياة دون إقرار بأن هذا الخالق الكريم هو الإله الواحد العظيم .. ولا معبود سواه؟ كان هذا الأمر يتم بالخفاء يقوم به -صلى الله عليه وسلم- سرًا .. فالأمر جد خطير فللأصنام جيوش من الغضب مستعدة لنحر من يقترب منها ومن يعتدي عليها .. وتقديمه قربانًا لها .. وقد تناسلت في عقول القوم حتى أصبح الفرد يصنع صنمًا يتبلغ به في سفره .. ولو اضطر إلى صنعه من تمرات هي زاده الوحيد .. فإذا ما عبث الجوع في بطنه .. قام يدس هذا الإله الرخيص في جوفه لكي يطارد ذلك الجوع المحرق .. يا ترى هل علم أن جوعه قد فتك بإلهه؟ لا أدري. إن من بلغ بهم الحمق هذه الدرجة .. يصعب انقيادهم لهذا الأمر الجديد .. فقد عبثت الأهواء في عقولهم حتى أفسدتها .. فالعلاج يجب أن يبدأ بالعقل والفكر .. وأمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوته الجديدة ركام هائل من العادات والطقوس والتقاليد الموروثة .. يتداعى بعضها على بعض على مر السنين .. حتى أمست أساطيل من الأوثان والكهان والناس لها عبيد ذليلة قد حنت ظهورها ركوعًا .. فمن يريد رفع الرؤوس للسماء .. فعليه بالصبر والحذر الشديدين .. ولا بد من أن يُسِرَّ دعوته ويخفي اتباعه حتى من أقرب الناس إليه إذا ما أحس بخوف منه .. فهؤلاء القوم يفني بعضهم بعضًا من أجل ناقة .. فما بالك من أجل آلهة يذبحون لها آلاف النياق ليرضوها بزعمهم .. فليكن الأمر:

سرية

سرِّيَّة السرية الشديدة يجب أن تحيط كل عمل يقوم به هذا الرسول الأمين-صلى الله عليه وسلم- .. فعلى جدار التاريخ الطويل قد علقت رؤوس الأنبياء والمصلحين والدعاة .. وأعواد المشانق لا تزال رطبة بدمائهم .. ضريبة الإخلاص فادحة .. تكلف كثيرًا .. تسفح الدماء .. لكن لهذه الدماء الزكية روائح وأطياف تعيش تنعش الأجيال .. وتبعث الحياة فيهم للخلاص. والحق لا يخفى .. يعرفه الجميع .. عندما يرونه يقولون هذا هو الحق .. ولا يحتاجون لتمييزه إلى غسل أعينهم ولا إلى عركها .. فما سبب التأخر .. لماذا تثقل الخطى؟ السبب هو: الوحوش وحوش عملاقة تمتد داخل كل فرد منا .. كأننا لها ثياب .. وحوش تتصلب حتى تشلنا وتعجزنا حتى عن الحبو نحو الحق .. إذا كان الحق يرفضها أو يريد إخراجها من ثيابها .. فأي مهمة أمام ابن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- وأي حذر يجب أن يتوخاه في ذلك العصر .. عصر الوحوش. وهذا ما فعله -صلى الله عليه وسلم- .. عندما بدأ بدعوته .. فقد أسلمت خديجة .. وأسلم ورقة .. وكتمت خديجة إسلامها .. ومات ورقة .. وبقي السر مكتومًا .. ولما أمر -صلى الله عليه وسلم- ببدء الدعوة والإنذار استمر يدعو داخل سراديب من الكتمان والتستر .. استمر يسير تحت الأرض يغرس في باطنها جذورًا قوية .. تؤتى ثمارها بعد حين .. بعد أن ترتفع على سطح الأرض .. عندها يستحيل انتزاعها أو إنكار وجودها .. وقد يقول قائل: إنك تبالغ في ذلك .. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- معروف لدى قريش .. وأصحابه معروفون .. ولم تكن دعوته

إسلام أبي بكر الصديق

سرًا في يوم من الأيام .. وأصحابه محميون من قبل قبائلهم وأهلهم .. فأين تلك السراديب .. والخنادق. أين الدليل على ما تقول؟ والإجابة عندي واضحة كشعر الشمس الذهبي. الإجابة عندي هي في مشكلة لم تحسم حتى الآن ألا وهي .. من أول من أسلم بعد خديجة .. أبو بكر الصديق أم علي أم غيرهما رضي الله عنهم جميعًا. أتدرون لماذا؟ دعونا أولًا ننظر إلى إسلام كل فرد منهم: إسلام أبي بكر الصديق أبو بكر الصديق .. اسمه: عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة .. صديق الطفولة والشباب .. ذهب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. وحدثه أن الوحي قد جاءه في غار حراء .. وأن دين الله يأمر بالتوحيد والعلم والنظافة والجمال وترك الأصنام. فما زاد أبو بكر على كلمة واحدة. لقد قال: صدقت. أما لماذا .. فلأنه لم يجرب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذبًا .. وهو الذي عاشره منذ الطفولة. لقد عرفه عابدًا خاشعًا تاركًا للأصنام .. فهل سيكذب على ربه. لقد خلد التاريخ كلمة أبي بكر وحفظها له .. ونال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهادة تتناقلها الأجيال. ففي أحد الأيام كان الصحابة أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- .. وكان من بينهم أبو بكر .. ولعل أحدًا منهم تناول أبا بكر فأغضبه .. فغضب -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر .. وقالها ليس للصحابة فقط بل للأمة كلها .. للأجيال كلها: (إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاجي، فهل أنتم تاركوا لي صاجى) (¬1). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3661)

ولما حوصر أبو بكر ببعض الكلمات .. أرغمه هذا الحصار على أن يزفر بهذه الكلمات: (ألست أحق الناس بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا) (¬1). ولما سئل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب -ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول من أسلم .. أرشد سائله إلى أبيات من الشعر قالها شاعر الإسلام حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوًا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأَعْدَلها ... بعد النبى وأوفاها بما حملا الثاني التالى المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا (¬2) هذه الأبيات الشجية ملأت القلوب بأيادي أبي بكر ومبادراته لخدمة الإسلام .. لقد سمته الأمة بـ (الصديق) ونسيت الاسم الذي سماه به أبوه .. فإذا ما نطق أحد باسم (الصديق) انتصبت تلك الأيادي البيض المبسوطة في الأذهان. وتذكر الناس صديق نبيهم وحبيبه فترحموا عليه. ¬

_ (¬1) حديث صحيح الإسناد، رواه الترمذيُّ وابن حبان (سيرة ابن كثير 10/ 434) من طريق شعبة عن سعيد الجريرى، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال أبو بكر: ... ، وأبو نضرة تابعي ثقة، اسمه: المنذر بن مالك العبدي. انظر التقريب (2/ 275) وسعيد الجريرى ثقة. التهذيب (4/ 7) لكنه اختلط قبل موته بثلاث سنوات، وهناك من رووا عنه قبل الاختلاط وبعده، وشعبة سمع منه قديمًا فصح بذلك السند. (¬2) حديثٌ حسنٌ، رواه الحاكم (3/ 64) وابن أبي شيبة، ويعقوب بن سفيان (سيرة ابن كثير 1/ 435) وقد رواه الحاكم من طريق، ورواه ابن سفيان من طريق آخر، وفي كل منهما ضعف ليس بالشديد، ففي طريق الحاكم: مجالد بن سعيد بن عمير وهو ليس بالقوي. وفي سند ابن سفيان تابعى مجهول، والطريقان يقوي بعضهما بعضًا.

إسلام علي

إسلام علي علي بن أبي طالب .. أحد فتيان الإسلام .. وابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. واحد السابقين إلى الإسلام .. هناك من يقول إنه أول من أسلم .. لكونه تربى في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. لكنه ليس هناك حديث صحيح (¬1) يدل على أنه تربى في بيت النبوة .. لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن منقطعًا عن علي .. أما أن يكون علي أول من أسلم فهذا ليس بصحيح لأن خديجة هي الأسبق .. هي أول إنسان قابله بعد انحداره من الجبل خائفًا .. لقد قال زيد بن أرقم: (أول من صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي رضي الله عنه. أول من أسلم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب) (¬2). وقال ابن عباس: (أول من صلى مع النبى -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة علي. وقال مرة: إن أول من أسلم مع النبي-صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة علي) (¬3). وقال بريدة: ¬

_ (¬1) الحديث الذي ورد في ذلك من قول ابن إسحاق. البيهقي (2/ 160) ومن قول مجاهد. المصدر السابق (2/ 162). (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه النسائي في خصائص على (2)، من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، سمعت زيد بن أرقم: ... وهذا الإسناد صحيح. عمرو بن مرة: ثقة عابد (التقريب 2/ 78)، أبو حمزة اسمه طلحة بن يزيد الأيلي وهو ثقة، التهذيب (5/ 29). (¬3) سندٌ حسنٌ، رواه أحمد في مسنده (الفتح الرباني 20/ 214) من طريق أبى داود الطيالسي، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس. وهذا الإسناد جيد رجاله ثقات، عمرو بن ميمون مخضرم ثقة عابد. (التقريب 2/ 80) وأبو بلج حسن الحديث. التهذيب (12/ 47)، واسم أبى عوانة: وضاح بن عبد الله اليشكرى وهو ثقة مشهد، التقريب (2/ 2 / 331).

سابقون .. سابقوق

(وأوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء) (¬1). وهناك آخرون غير أبي بكر .. غير علي .. ظنوا أنهم أول من أسلم .. دعونا نستمع إلى أقوالهم .. دعونا نعرف أخبارهم .. ثم بعدها سنعرف سر ذلك الازدحام على الصدارة. سابقون .. سابقوق لدينا سابق آخر هو: سعد بن أبي وقاص الذي يقول: (ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام) (¬2). ترى هل كان سعد رضي الله عنه ثلث الإسلام .. لا شك أنه يقصد أن خديجة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هما بقية أضلاع ذلك المثلث .. ثلثي الإسلام. وهو المكمل لهما. حتى ذلك الغريب القادم من ديار غفار .. يطوي الأرض يبحث عن محمد-صلى الله عليه وسلم- .. ذلك الغريب المسمى (بأبي ذر) يقول: (كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر، وأنا الرابع، أتيت النبي-صلى الله عليه وسلم- فقلت: السلام عليك يا رسول الله. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم بسند جيد، أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن يوسف بن مهيب، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وهذا السند جيد، لصحة سماع أحمد للسيرة، ويونس حديثه قوي، ويوسف بن صهيب ثقة. التقريب (2/ 381) ولعل المقصود في هذا الحديث. أوحي إليه بالصلاة. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري. (¬3) حديثٌ حسنٌ، رواه البيهقي (2/ 212) والحاكم (3/ 341): حدثنا الحسن بن محمد بن زياد وهو ثقة حافظ (التقريب 1/ 179)، حدثنا عبد الله بن الرومي نزيل بغداد وهو صدوق (1/ 449)، حدثنا النضر بن محمد بن موسى الجرشي (ثقة- التهذيب =

عمرو بن عبسة سابق آخر. يقول: (لقد رأيتني وأنا ربع الإِسلام) (¬1). أما بلال بن رباح .. فلا أعرف أنه قال عن نفسه ذلك .. لكن غيره شهد له بالمسارعة للإسلام .. هذا: عمرو بن عبسة يشهد بأن بلالًا كان ثلث الإسلام .. فقد قال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: فمن تبعك على هذا. قال: حر وعبد (يعني أبا بكر وبلال) (¬2). وهناك غير بلال ممّن هبوا لقبول الحق واعتناق الحقيقة .. شهد لهم بذلك التاريخ والروايات الصحيحة. هذا عبد الله بن مسعود يقول: (أول من أظهر إسلامه سبعة: النبي-صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد) (¬3) رضي الله عنهم جيعًا. عمار أحد هؤلاء يقول رضي الله عنه: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر) (¬4). هذه الكلمات كلها صادقة ثابتة ضاربة جذورها داخل أعماق الحقيقة .. لكن لماذا يلوح التناقض في ألفاظها .. لماذا؟ ¬

_ = 10/ 444) حدثنا عكرمة ابن عمار (وهو حسن الحديث) عن أبي زميل وهو سماك بن الوليد الحنفى اليماني (ليس به بأس 1/ 332) عن مالك بن مرثد الزماني وهو تابعي ثقة، وللحديث شاهد بمعناه عند البخاري. (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬3) حديثٌ حسنٌ رواه أحمد (الفتح الرباني 2/ 214) والبيهقيُّ والحاكم، من طريق: زائدة بن أبى الرقاد، عن عاصم، عن زر عن عبد الله بن مسعود، وهذا الإسناد جيد لولا كلام في زائدة بن أبي الرقاد، ثم إن له شاهدًا من طريق شعبة عن منصور عن مجاهد مرسلًا. ذكره ابن كثير (1/ 494) وبه تقوى. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري.

للدعوة أسرارها

للدعوة أسرارها ماذا يُتَوقع من جيوش الأصنام: أصنام العادات والتقاليد .. وشرف الآباء والأجداد .. والثارات .. وأصنام الحجارة المرصوفة على الأرفف .. وفي مداخل البيوت .. وحتى في خرج المسافر .. وقبل ذلك كله فوق حجارة الكعبة .. تسال لها الدماء .. ويحلف بها .. وتستشار ويصلى لها .. ويذاد عنها بالمال والبنين وزينة الحياة كلها. ماذا ينتظر أن تفعل كل هذه الأشياء بنبي يتيم .. كل ما يملكه: شهادة قومه بأنه: صادق أمين .. ماذا ينتظر أن تفعل كل هذه الجيوش بفرد أو أفراد يريدون أن يجتثوها من القلوب .. ويغسلوا الأرض والنفوس منها. إن من أشعلوا أربعين عامًا بلهب الحروب .. وتركوا جماجمهم تمتصها الشمس والرمضاء .. وخلفوا نساءهم تنوح حتى أبكت الخيام .. من أجل بعير أو حصان .. إن من ارتكبوا ذلك لعلى استعداد لارتكاب أشرس من ذلك من أجل عقيدتهم وأصنامهم وميراث أجدادهم .. فهل يظن أحد أن يقدم محمد -صلى الله عليه وسلم- قائمةً بأسماء السابقين إلى دعوته .. ويأمرهم بالمجاهرة بها أمام قريش .. هكذا وبكل سذاجة.؟! إن هذا النبي لم يأتِ لمكة فقط، إن مكة خطوة أولى .. والأرض كلها طريق .. إن هذا النبي جاء ليحيي أموات القلوب لا ليقامر بحياتهم .. لكن لماذا يخاف من إظهار دعوته .. ويأمر أتباعه بهذا الكتمان والتستر .. والله قد أنطق له الأحجار .. وأمال عليه الأشجار وأظله بالسحاب .. وشق صدره دون أن يمس بأدنى أذى .. أليس الله بقادر أن يحميه وينجيه وينصره وأصحابه؟ .. بلى والله .. إنه على ذلك لقدير .. لكن دين الإسلام الجديد

عقيدة وحياة للبشر .. ولن تستقيم حياة البشر بالمعجزات ينتظرونها كلما أقعدهم الخمول على قوارع الطرقات .. ستستحيل الحياة انتظار .. وانتظار .. وعيون ترقب المجهول .. لم يخلد نبي .. ومحمَّد-صلى الله عليه وسلم- سوف يموت .. وبعده ترفع المعجزات .. عندها الأمة أيضًا سوف تموت .. لكن دين الإِسلام لم يمت ولن يموت .. لأنه وضع للبشر لم يكلفهم فوق طاقتهم ... ولم يطالبهم بالمستحيلات .. ولم يدعهم إلى مثاليات .. لا يقول لهم: كونوا ملائكة .. ولا يقول: أنتم شياطن. بل يقول: كونوا بشرًا لكن صالحين .. وفي الطريق عثرات .. والصالحون بشر يعثرون وينهضون .. والإسلام يرفع الإنسان من عثرته .. ولا يرتفع عنه لأنه نزل من أجله .. فبتوفيق الله ثم بجهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والمسلمين من بعدهم سوف يستمر الإسلام .. سوف ينتصر .. ذلك هو ما أراده الله .. وبضعفهم ينحسر .. ويقبع في زاوية من الأرض كالمشلول. وهنا وفي بداية الدعوة نبي يتيم .. ودعوة مستهجنة .. وأمة مجنونة بحب أصنامها .. ومواجهتها تعني الموت .. فلا بد للرسول -صلى الله عليه وسلم- من تطبيق منهج ربه .. لا بد أن يحتاط ويتكتم .. يدعو سرًا .. يطرق البيوت ليلًا .. يحمل النور إلى حجراتها .. وهكذا فعل -صلى الله عليه وسلم- .. لقد كان يحدث أبا بكر رضي الله عنه ثم يشير بالكتمان .. وإن دعا .. ويحدث عليًا رضي الله عنه ثم يشير بالكتمان .. وإن دعا .. وكذلك يفعل مع سعد .. مع عمار .. مع أبي ذر .. مع بلال .. مع صهيب .. مع عمرو بن عبسة مع غيرهم .. مع غيرهم .. إذًا فكيف سيعرف أبو بكر أن غيره قد سبقه .. كيف سيعرف علي أن هناك من دخل في دين الإسلام قبله .. كيف يقول سعد إن هناك من

حر وعبد

أسلم .. في اليوم الذي أسلم فيه .. كيف سيعلم البقية .. ورسول الإِسلام -صلى الله عليه وسلم- يشير عليهم بكتمان دينهم حتى عن أقرب الناس إليهم .. وما كان -صلى الله عليه وسلم- يتصرف هذا التصرف من عنده لولا أنها أوامر الله .. إنه لا ينطق عن الهوى .. فهل سيتصرف بدون أمر الله .. إنها سنة الله في عمل الأسباب وجعل نتائجها على الله .. وهذه بعض الأمثلة التي توضح سريته -صلى الله عليه وسلم- وخوفه على دعاة الإسلام. حر وعبد هذا عمرو بن عبسة السلمي .. يمتطى راحلته نحو مكة .. فإذا ما احتضنته شعابها وجبالها .. جد في بحثه عن محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وفي ذلك يقول: (أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في أول ما بعث، وهو بمكة، وهو حينئذ مستخف، فقلت: ما أنت؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: أنا نبي. فقلت: وما النبي؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: رسول الله. قلت: الله أرسلك؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: نعم. قلت: بِمَ أرسلك؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: بأن تعبد الله وحده لا شريك له، وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام. قلت: نِعْمَ ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: حر وعبد -يعني أبا بكر وبلال- (¬1). فكان عمرو بن عبسة يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام) (¬2). يا الله .. رجل غريب لا يضمر إلا خيرًا .. جاء يبحث عن الحق .. فلا يرجع إلى ديار قومه إلا بما جاء يبحث عنه .. ويريد أن يستزيد .. أن يعرف أسماء هؤلاء الأتباع .. فلا يعطي أي اسم رغم أنه لا يخيف فهو ليس من أهل مكة .. لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول له: (عبد وحر) فقط عبد ¬

_ (¬1) القائل عمرو بن عبسة وليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم.

الجهر بالدعوة

وحر .. لم يقل: بلال لم يقل: أبا بكر. الذي قالها هو عمرو بن عبسة .. عرف ذلك فيما بعد .. إن كلمة عبد وحر لباس يتسع ويمتد حتى ليشمل كل أحرار مكة وعبيدها .. وقفل عمرو بن عبسة راجعًا بدين الله .. لم يعده -صلى الله عليه وسلم- بانتصار دنيوي .. لم يعده بمنصب .. وعده فقط بالجنة إن سار على الحق .. ولم يمكنه من شيء من أمور الدنيا حتى ولو كانت أسماء أصحابه التي قد لا تعني له شيئًا .. وعمرو بن عبسة لم يجد رسول الله قبل ذلك بسهولة .. لقد وصفه بأنه كان مستخفيًا .. كان متسترًا لا يظهر نفسه .. ولا يكشف أتباعه .. إن قريشًا شرسة .. كالموج، لكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان ربانًا ماهرًا. الجهر بالدعوة بعد فترة من الزمن لا أستطيع تحديدها (¬1) .. جاء الوحي الكريم .. يأمره بالجهر بدعوته .. الجهر أمام الناس جميعًا بأنه نبي مرسل .. لكنه لم يجهر بأسماء أصحابه خوفًا عليهم .. ولا من اتبعه ولا كيف اتبعوه .. لقد ظل ذلك مدفونًا عن العيون .. فهؤلاء الأتباع قلة ضعاف .. ولو امتدت يد قريش إليهم لمزقتهم تعذيبًا. وقصة ذلك أنه عندما نزل قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} (¬2). (انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها حجرًا. ثم ¬

_ (¬1) لأن الروايات فيها ضعيفة. وهي مقدار ثلاث سنوات، قاله ابن إسحاق بلاغًا بدون إسناد. ورواها ابن سعد (1/ 199) من طريق الواقدي -وهو ضعيف- عن القاسم بن محمد مرسلًا. وجاءت عروة مرسلًا أيضًا. (¬2) سورة الشعراء: الآية 214.

أبو لهب .. أول مكذب

نادى: يا بني عبد مناف، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو، فانطلق يربؤ أهله، فخشي أن يسبقوه، فهتف: يا صباحاه) (¬1). (يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها) (¬2). (يا معشر قريش، اشتروا بأنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمَّد سليني ما شئت من مالي، لا أغى عنك من الله شيئًا) (¬3). مفاجأة لمعظم قريش .. ما الذي يحدث؛ ولم هذا التحذير؟ الكل مذهول .. الكل مأخوذ وعم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبو لهب .. أول مكذب لقد جعل -صلى الله عليه وسلم- (ينادي يا بني فهر، يا بني عدي: ببطون قريش) (¬4). وسكتت بطون قريش كلها .. ألجمها هول ما يقوله الأمين -صلى الله عليه وسلم- .. إلا رجلًا ركب رأسه كما ركبته الأصنام .. ذلك الرجل هو: أبو لهب عم ¬

_ (¬1) حديث صحيح: رواه مسلم- الإيمان. (¬2) حديث صحيح: رواه مسلم أيضًا- الإيمان. أي سأصلكم لأنكم أقاربي. (¬3) حديث صحيح: رواه البخاري- الوصايا. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري.

الرسول -صلى الله عليه وسلم - .. يحدثنا عما قاله ابن أخيه عبد الله بن عباس فيقول: (لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حتى صعد الصفا. فهتف: يا صباحاه. قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه. قال -صلى الله عليه وسلم-: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي. قالوا: ما جربنا عليك كذبًا. قال -صلى الله عليه وسلم-: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبًا لك أما جمعتنا إلا لهذا. ثم قام. فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} (¬1). وقف أبو لهب في أول الطريق .. وفتح ألسنة من اللهب على ابن أخيه الأمين-صلى الله عليه وسلم- .. لكن هذه الألسنة أحرقته هو .. لقد بدأ أبو لهب المواجهة .. وبدأ التكذيب .. جحد تاريخ محمد الأبيض الذي شهد هو وقومه به قبل لحظات عندما صاحت مكة بصوت كالرعد يتبعه المطر: ما جربنا عليك كذبًا. ولم يكن أبو لهب لوحده في هذه الأولوية .. لقد شاركته أم جميل ¬

_ (¬1) سورة المسد. والحديث متفق عليه واللفظ لمسلم- كتاب الإيمان.

دعوة بني عبد المطلب فقط

زوجته الترقة التي داست على أنوثتها ونافست الرجال شراسة .. لقد استحق هذان الاثنان تاريخًا أسود لا يزول أبدًا .. ولعنة تلوكهم بها ألسن الأجيال .. يحملها جبريل .. سورة تشهد تخلف ذلك الرجل وزوجته وهمجيته .. واستحقاقه لنار ذات لهب. لكن أبا لهب لا يعيق الإسلام ولا نبيه .. ها قد توجه -صلى الله عليه وسلم- لـ: دعوة بني عبد المطلب فقط كان هذا النداء لعشيرته -صلى الله عليه وسلم- .. يعلن فيها رسالة ربه بأعلى صوته .. ويعلن بداية العزلة الشعورية بينه وبينهم إذا لم يتبعوه على هدى الله .. ثم توجه بعد ذلك النداء إلى أقرب الناس إليه .. لقد (جمع-صلى الله عليه وسلم- أو دعا بني عبد المطلب، فيهم رهط (¬1) كلهم يأكل الجذعة (¬2)، ويشرب الفرق (¬3)، فصنع لهم مدًا (¬4) من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو، كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر (¬5) فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب فقال -صلى الله عليه وسلم-: يا بني عبد المطلب، إني بعثت لكم خاصة، وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون: أخي وصاحبي، فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه (¬6) -وكنت أصغر القوم- فقال: ¬

_ (¬1) رجال أقل من عشرة. (¬2) الجذعة ولد الشاة. له سنتان. (¬3) الفرق مكيال معروف بالمدينة يساوي (16) رطلًا. (¬4) المد مكيال يساوي (1.5) رطل أو رطلين. (¬5) الغمر: القدح الصغير. (¬6) المتكلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو الذي روى لنا هذا الحديث.

الله وحده لا شريك له

اجلس -ثلاث مرات- كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس. حتى كان في الثالثة، ضرب بيده على يدي) (¬1) معلنًا تفوق هذا الفتى على كافة رجال وشيوخ أسرة النبي -صلى الله عليه وسلم- .. ومسارعته للحق وهو في زهرة الشباب .. في الوقت الذي تراجع فيه أعمامه وكبار السن من أسرته .. تخلفوا وترددوا .. وعجيب أمر ترددهم وتخلفهم فالمعجزة أمامهم تغمرهم .. تلجمهم إلجامًا .. ها هو الطعام لا ينقص .. وشراب الفرد يكفي العشرات .. وقبل ذلك صانع الطعام .. إنه محمد-صلى الله عليه وسلم- الذي لم يجربوا عليه كذبًا ولا غشًا .. فكيف وقد أتى ببرهان صدقه المعجز: مدٌ من الطعام لا يشبع فردًا واحدًا .. يلتف حوله مجموعة من الرجال .. الفرد منهم يتربع أمام الجذع المطبوخ .. فلا ينهض إلا وقد التهمه كله .. ما الذي حدث حتى تقوم كل هذه المجموعة من فحول الرجال .. وقد شبعت من طعام قليل .. بل إنها لا تنقص منه شيئًا. تلك معجزة لا شك .. برهان على صدق ما سيقوله -صلى الله عليه وسلم- لأسرته .. ومع ذلك لا ينهض منهم مساند إلا فتى .. هو أصغر القوم .. إنهم ليل .. وعلي كالصباح نضارة. إذًا فقد أعلن -صلى الله عليه وسلم- حربه على الشرك لا على قريش وأعلن أن: الله وحده لا شريك له لم تترك قريش محمدًا يبوح بما كان يضمره في نفسه ونفوس أصحابه دون أن تطرح عليه أسئلة ملحة .. عن طبيعة هذا الدين .. عن هذا الإله ¬

_ (¬1) إسناده قوى. رواه الإمام (الفتح الرباني 20/ 223) وعد من طريق: عفان، حدثنا أبو عوانة -وهما ثقتان، عن عثمان بن المغير، وهو ثقة، عن أبي صادق- وهو تابعي ثقة، عن ربيعة بن ناجذ، وهو ثقة أيضًا، وقد بينت في (موسوعة السيرة) سبب جرح الذهبي له، وبينت سبب العلة الحقيقي للرواية التي قصدها الذهبي (24).

الذي يأمر بإفراده بالعبادة .. هذا الإله الذي يأمر بنسيان آلهة الآباء والأجداد وسحقها. فقال لهم-صلى الله عليه وسلم- وحيًا ترتكز عليه كل الحقائق .. وتنطلق منه أنوار تنير سراديب هذا الكون وأسراره .. فيخشع الكون كله وهو يستمع لمحمد-صلي الله عليه وسلم- يتلو حقيقة طالما أضاعها الإنسان فتاه في تلك السراديب: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (¬1). نداءان منه-صلى الله عليه وسلم- في اجتماعين مع أهل مكة .. ومع أهله .. وضعت أرواح بعض السابقين في أكفهم .. دروعًا يحمون بها رسولهم -صلى الله عليه وسلم- .. فلقد هانت تلك الأرواح في سبيل الله .. ولئن كانت الجنة هي المصير فلتذهب الدنيا غير مأسوف عليها .. ستة عمالقة جاهروا بإسلامهم .. ولم يأبهوا بما قد يلاقون من عنت: (أبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد) (¬2). ولئن لم تسعفنا الروايات في ذكر بقية لهم فلقد أسعفنا ذلك الاجتماع السابق بفتى صغير السنن هو (علي بن أبي طالب) فلقد وضع يده بيد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أمام أهله .. وكفى بتلك مجاهرة. بدأ هؤلاء الأفذاذ يدعون لدين الله جهرة .. فأسلم بإسلامهم خلق كثير. مما أقض مضاجع عباد الأصنام .. فاتجهوا نحو رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ¬

_ (¬1) سورة الصمد. (¬2) حديثٌ حسنٌ رواه البيهقي (2/ 170) والحاكم (3/ 284) وأحمدُ (الفتح الرباني 20/ 214) من طريق زائدة، عن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود وقال: أول من أظهر إسلامه سبعة: النبى -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر .. وفي سنده ضعف من أجل زائدة أبى الرقاد، فقد اختلف النقاد في الحكم عليه، لكن له شاهد يقويه ذكره ابن كثير وهو من طريق شعبة عن منصور، عن مجاهد مرسلًا. انظر سيرة ابن كثير (1/ 494).

يؤذون رسول الله

يحملون في أيديهم ألوانًا من الأذى والعذاب لعله يتراجع .. ويتراجع أصحابه معه. يؤذون رسول الله كانت البداية امرأة .. امرأة تدعى أم جميل بنت حرب .. زوجة أبي لهب .. انتفضت لما سمعت قول الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)} حشرتها هذه الآيات .. وضاق صدرها بهذا اللهب .. فخرجت كالمجنونة لا تلوي على شىء .. تبحث هنا وهناك .. في الدور والطرقات .. عن انتقام يخمد هذا الجمر في قلبها .. تبحث عن محمد -صلى الله عليه وسلم- .. قصدت المسجد الحرام فرأت أبا بكر الصديق فأقبلت عليه (ولها ولولة، وفي يدها فهو (¬1)، وهي تقول: مذممًا أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله قد أقبلت، وأنا أخاف أن تراك، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: إنها لن تراني، وقرأ قرآنًا فاعتصم به كما قال، وقرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت، أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر: لا، ورب هذا البيت، ما هجاك. فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها) (¬2). ¬

_ (¬1) الفهر: الحجر. (¬2) حديثٌ حسنٌ بما بعده، فقد رواه البيهقي من طريق الإمام الحميدي، حدثنا الوليد بن كثير المخزوم (وهو ثقة من رجال الشيخين) عن محمد بن مسلم بن تدرس (أبى الزبير) عن =

تعذيب الصحابة

لقد كانت تظن تلك الآيات شعرًا .. فقد قالت لأبي بكر: (يا ابن أبي قحافة، ما شأن صاحبك ينشد في الشعر. فقال أبو بكر: والله ما صاحبي بشاعر، وما يدري ما الشعر. فقالت: أليس قد قال: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}، فما يدريه ما في جيدي. فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: قل لها: ترين عندي أحدًا، فإنها لن تراني، جعل بيني وبينها حجاب، فسألها أبو بكر، فقالت: أتهزأ بي يا ابن أبي قحافة، والله ما أرى عندك أحدًا) (¬1) ثم عادت هذه المرأة إلى بيتها تحمل الفشل .. تحمل عارها .. وتحمل المزيد من الحطب والشوك تضعه في طريقه-صلى الله عليه وسلم- .. تفتح الأبواب لسفهاء مكة ومراهقيها تخرجهم من منازلهم ليؤذوا معها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. ليحملوا معها مزيدًا من الشوك والحطب .. ولما رأى صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك حزنوا وتكدروا .. وقرر بعضهم الخروج من كتمانه والدفاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علانية .. فبدأ في مكة مشروع لـ: تعذيب الصحابة يقول عبد الله بن مسعود: (أول من ظهر إسلامه سبعة: رسول الله، وأبو بكر، وعمار بن ياسر، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم، فأخذهم ¬

_ = أسماء، أبو الزبير ثقة لكنه مدلس وهو هنا قد عنعن ولم يصرح بسماعه من أسماء، فيكون في السند مقال، لكن يقويه ما بعده. (¬1) رواه البيهقي (2/ 196): ... علي بن مسهر (ثقة)، عن سعيد بن كثير (ثقة) عن أبيه كثير ابن عبيد التيمي عن أسماء، وقد سكت عنه ابن حبان في ثقاته، فحديثه جيد في المتابعات وهذا منها، فالحديث حسن بما قبله.

المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد .. أحد) (¬1). وعندما سئل عبد الله بن عباس ذات يوم: (أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟) أجاب رضي الله عنه فقال: (نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهان من دون الله. فيقول: نعم. افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم) (¬2). لقد افترش العذاب هذه الأجساد الطاهرة .. وطاب له المقام فغرز أنيابه بلا رحمة .. بلا شفقة .. يشرحها ويشرب من دمها .. وقهقهات السكارى والطواغيت حول هذه الأجساد المطروحة لا تجد من يخرسها .. حتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يستطع أن يفعل شيئًا .. وكيف يفعل وهو لا يستطع حماية نفسه من هؤلاء الأوغاد .. لقد اضطر الصحابة إلى اتخاذ إجراء يحمون به رسولهم .. فكانوا يتناوبون في حراسته ليلًا ونهارًا .. فالنهار لا يخلو من السفهاء والمتهورين .. والليل مثقل بخناجر الغدر يسددها المتلثمون. ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ مر معنا تخريجه. (¬2) حديثٌ حسنٌ سنده جيد، فقد رواه ابن إسحاق فقال: حدثني حكيم بن جبير، عن سعيد ابن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: ... ، حكيم بن جبير فيه كلام حول تشيعه، وقد قال أبو زرعة: محله الصدق ثم تكلم على مذهب وانتقده، وهذا الحديث ليس في المذهب، ثم إن ما قبله يشهد له فهو حسن لذاته أو لغيره.

أول الشهداء

ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار .. أسرة ضعيفة فقيرة لكنها حرة .. ولما رفع ياسر الشيخ الكبير حاجبيه المثقلين بالشيب والألم لمح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فرأى الحزن والدمع في وجهه فهانت نفسه .. وهان العذاب أمام حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحب أن يواسي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يواسيه الرسول فقال: (يا رسول الله الدهر هكذا. فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: اصبر. ثم قال: اللَّهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت) (¬1). (أبشروا آل عمار، وآل ياسر فإن موعدكم الجنة) (¬2). (اصبروا آل ياسر موعدكم الجنة) (¬3). كأن ذلك الشيخ الساخر بالعذاب .. أراد أن يطمئن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يخشى السياط ولا يخشى القيود .. إنه يتزين بها للجنة ويرجو أن يكون أول شهيد. لكن هناك من سبقه. أول الشهداء إنها امرأة .. أول المسلمين كان امرأة .. أول اعتداء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان امرأة .. وكذلك أول شهيد في الإسلام امرأة طاعنة في السن .. اقتادها رجل شرس يقال له أبو جهل .. فاق أبا لهب قسوة وغلظة .. ها هو يجر هذه ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ بما بعده، رواه أحمد (الفتح 20/ 220) .. عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد، عن عثمان. وعلة هذا السند انقطاع بين سالم وعثمان فسالم لم يدرك عثمان رضي الله عنه، لكن الذي بعده يقويه. (¬2) رواه الحاكم والبيهقيُّ (1/ 282) مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، عن أبي الزبير عن جابر وهؤلاء الرجال ثقات، لكن أبا الزبير مدلس وقد عنعن، وحديثه في هذه الحالة يحتاج إلى شاهد وهو ما سبقه. (¬3) حديث رواه الطبراني وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 293) رجاله ثقات، وهو يقوي ماقبله.

يسرقون الفقراء

المرأة المسكينة ترسف في قيودها نحو بطحاء مكة .. ثم يرمي بها نحو الأرض .. رغم أنها امرأة عجوز ضعيفة .. وبعد أن سلخ جلدها بالسياط وحطم أضلاعها بالحجارة .. تناول رمحًا فطعنها به في موضع عفافها أمام زوجها وابنها .. ثم تركها تتخبط بدمائها حتى لفظت أنفاسها وروحها. سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر هي تلك الشهيدة التي زحفت نحو الموت دون أن تتنازل لأبي جهل عن شيء من إسلامها. إنها كما قال جابر: (يقتلوها فتأبى إلا الإسلام) (¬1). يسرقون الفقراء سمية الراحلة .. لها رفاق صامدون شامخون كأطواد مكة .. أرادتهم قريش عبيدًا .. فانتزعوا حريتهم بأيديهم .. عذبوهم لكنهم رفضوا الخنوع لسياط الشرك .. فعاشوا يتنفسون هواء الحرية الرحب حتى ماتوا. أحد هؤلاء حر اسمه: خباب بن الأرت .. كان عبدًا .. فلما أسلم عذبه المشركون حتى تعبوا .. لكنه لم يتعب .. سرقوا دراهمه .. فصبر واحتسب فأنزل الله في ذلك قرآنًا يخلده .. تتلوه الأمة كلها. يقول هذا الحر الأبي: (كنت رجلًا قينًا (¬2)، وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أطلبه، فقال: والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. قلت: والله لا أكفر به أبدًا حتى تموت ثم تبعث. قال العاص: فإني إن بعثت، كان لي مال ثم مال وولد، فتأتيني فأقضيك. فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (¬3). ¬

_ (¬1) قطعة من حديث سابق هو حديث جابر، وهو حسن. (¬2) عبدًا. (¬3) متفق عليه.

ولما ازداد إصرار خباب على هذا الدين وتمسكه برسول الله -صلى الله عليه وسلم -، أخذه (فكان ممّن يعذب في الله) (¬1) ليتراجع .. فلا يتراجع .. ليذهب ماله .. إنه لا يهمه .. لكنه شحيح بدينه كسمية بنت خياط فـ (لم يكن أحد إلا أعطى ما سألوه يوم عذبهم المشركون، إلا خبابًا، كانوا يضجعونه على الرضف (¬2)، فلم يستغبوا منه شيئًا) (¬3). لقد كشف خباب يومًا ظهرًا له تقلب في جمر العذاب وتشقق من السياط .. كشف خباب ظهره لأصحابه فإذا البرص والألم ينتشر فيه كله .. وبعد أن أراهم تلك الآثار المحزنة .. التفت إليهم ثم قال: (لم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يومًا أخذوني، وأوقدوا لي نارًا، ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري ما اتقيت الأرض أو برد الأرض إلا بظهري) (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في الحلية (1/ 143) بسند صحيح: حدثنا سعد بن محمد الصيرفي أبو العباس وثَّقهُ تلميذه أبو نعيم، انظر تذكرة الحفاظ (2/ 661)، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا سعيد بن عمرو الأشعث وهو ثقة. انظر التقريب (1/ 302)، حدثنا سفيان ابن عيينة عن مسعر بن كدام بن ظهير بن عبيدة وهو أحد الأعلام الثقات. انظر التهذيب (8/ 403) عن قيس بن مسلم وهو ثقة أيضًا. التقريب (2/ 130) عن طارق بن شهاب، وطارق بن شهاب روى عن الصحابة ورأى الرسول -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) الحجارة الحامية. (¬3) رواه أبو نعيم في الحلية (1/ 144) بإسناد صحيح: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس ابن حبيب، وهما ثقتان، حدثنا أبو داود حدثنا شعبقة، وهما إمامان معروفان، حدثنا أبو إسحاق وهو التابعي الثقة. وقد صرح بالسماع من شيخه التابعى حارثة بن مضرب، قال: قال خباب ... (¬4) رواه ابن سعد (3/ 165) أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، أخبرنا حبان بن علي عن مجالد عن الشعبي قال: .. ، وهذا الإسناد ظاهره الإرسال، لكن له شواهد كثيرة ترفعه إلى درجة الحسن.

وقال خباب مرة وهو يحكي مأساته مع مجرمي مكة: (أوقدوا لي نارًا، فما أطفأها إلا ودك (¬1) ظهري) (¬2). كان خباب يقول ذلك لمن حوله يحمل شهادته ومعاناته على ظهره وذلك عندما تحدث الجميع عن مأساة أخيه بلال .. وتلك الخطوط التي رسمها في طرقات مكة بجسده العاري عندما كان سفلة قريش يسحبونه هنا وهناك .. ولم يستطيعوا أن يسحبوا كلمة إذعان واحدة ترضي طواغيت مكة .. كان بلال المنحدر من شلالات أفريقيا وأنهارها شجاعًا كأُسُودها .. سخيًا كسهولها .. ساق القدر أمه وأباه إلى مكة .. وولد كالليل مليئًا بالأسرار والحزن والعبودية .. هموم تملأ قلبه .. وقيود تحز رقبته وآدميته .. كانت حياة آسنة عكرة لا بشائر فيها .. حتى سمع برسول الله-صلى الله عليه وسلم- فوجده يحمل ما كان يبحث عنه .. الحرية والعدالة .. كم تشققت قدماه وهو يبحث عنها فلم يجد عند قريش والعالم إلا سراب .. ووجد الحقيقة والحلم عند محمَّد -صلى الله عليه وسلم- .. فماذا ينتظر .. لقد أدرك أسرار القوافل التي تمر بهذه الدنيا ثم ترتحل .. وأدرك أين تستقر .. أدرك أن هذه الدنيا ليست سوى أيام وساعات تتبخر .. ومهما طالت فلن تدوم وأن الحياة هناك: خلف السحاب خلف السماء في مدائن الجمال والسحر والبهجة الخالدة .. في جنات عدن .. أو بين أنهار الحميم والنتن والعذاب المقيم وله الخيار .. اختار بلال الرحمن .. ولفظ الشيطان من حياته وتصدى كجيش من حديد لتعذيب قريش .. (هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد .. أحد) (¬3). ¬

_ (¬1) الودك هو الشحم. (¬2) رواه أبو نعيم (الحلية 1/ 44) عن الشعبي قال: سأل عمر بلالًا .. وظاهر هذا السند الإرسال. لكن يشهد له ما سبق. (¬3) مر معنا وإنه حديثٌ حسنٌ.

هذا هو بلال الجديد رفض أن يقضى حياته منحنيًا لسوط وحجر .. كان يرمي جسده كأنه يقول خذوه فهو لكم .. لكنكم لن تنالوا من روحي وإرادتي شيئًا ما دمت مع الله .. فالروح لها طريق لا تعرفه قريش ولا أصنامها .. طريق فسيح لا تردمه الجبال .. طريق طاهر لا تمسه أيدي المشركين. كانت مأساته مع قريش دامية مؤلمة .. وكان منظره يذيب الصخر وهو يسحب في دروب مكة وشعابها .. يلعب به الصبيان والسفهاء .. وهو يسقط المرة تلو المرة من الإعياء .. ثم يضطر إلى الوقوف مرة أخرى من لسع السياط والعصي على رأسه وجسده .. كان المسلمون حوله يتحرقون عليه لكن ماذا يفعلون وهم ليسوا بأحسن حال منه .. حتى أشرقت شمس الحرية يومًا يحملها أبو بكر الصديق الحنون فقد تقدم نحو مالك بلال .. نحو المجرم: أمية بن خلف فعرض عليه شراءه .. فوافق الطاغية بعد أن كلت يداه وقدماه من الصفع والركل والضرب فلم يظفر بشيء من ذلك العملاق المتلبط بين السياط .. ودفع أبو بكر الثمن .. وقبض المجرم وتوجه أبو بكر نحو ساحة التعذيب يمد يده لينتشله .. فكيف كانت حال بلال .. وعلى أي صورة وجده .. هذا هو قيس بن أبي حازم يروي لنا آخر فصول المأساة البلالية فيقول: (اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدفون بالحجارة) (¬1). ¬

_ (¬1) سنده قوي، كما قال الإمام الذهبي، رواه ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 34) انظر سير الأعلام النبلاء (1/ 353) من طريق حامد بن يحيى، حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل عن قيس وهؤلاء الرجال على درجة من التوثيق كبيرة، فحامد بن يحيى بن هانئ البلخي قال عنه الحافظ في التقريب: ثقة حافظ (1/ 146) وسفيان بن عيينة إمام معروف، أما أستاذه في هذا الحديث وهو إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي فهو ثقة ثبت تجد ذلك في التهذيب (1/ 68) وقد أكثر الرواية عن شيخه المخضرم: قيس بن أبي حازم البجلى، وهذا الأخير رحمه الله أدرك الإسلام والجاهلية، رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو ثقة مقبول. انظر التقريب (2/ 126).

هذه هي منزلة بلال الإنسان عند هؤلاء الملحدين .. إما أن يختار ما اختاروه له فيكون كادحًا طوال الليل والنهار مهانًا ذليلًا .. وإما أن يرفض إرادتهم ويسلك دروب الدعاة فيدفع الثمن باهظًا .. أكوامٌ من الحجارة تغطى جسده المنهك .. وشمسٌ لاحفة تحمى عليه تلك الحجارة وتزيد في تعذيبه وإيلامه. مد أبو بكر يده إلى هذا المسكين لتنتفض عنه قريش والحجارة .. مد أبو بكر يده لأخيه بلال لا لعبده بلال .. فلقد اشتراه ليحرره من قيد العبودية والمهانة .. ليطلقه في البيداء وفي السماء .. يشرب الماء عذبًا .. يتنفس الهواء نقيًا .. ويعبد ربه أينما شاء .. بعد أن كان يكد ويكدح طوال يومه دون مقابل .. دون أجر أو كلمة شكر .. لقد قدم بلال تضحيات وتضحيات .. وها هو اليوم .. حر وسيدٌ من سادات الإسلام .. بشهادة أحد أعظم رجالات الإسلام حيث يقول: (أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا) أما لماذا فلأنه اختار طريق محمَّد -صلى الله عليه وسلم-وصبر مع محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. . لقد كان يجوع يوم يجوع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. ويتألم عندما يتألم ويجعل من جسده درعًا أمام الرماح الموجهة إلى نبيه .. كان يخاف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يخاف على نفسه .. إنه باختصار: يحبه أكثر من نفسه .. وهذا ما جعل الدنيا كلها تحب بلالًا وتجله .. لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتحدث بنفسه عن بطولات بلال رضي الله عنه .. عن معاناته فيقول: (لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاثون -من يوم وليلة-، وما لي ولبلال ما يأكل ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال) (¬1). لقد حولت عقيدة الشرك قريشًا إلى كتلة من ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أحمد والترمذيُّ وابن ماجه، انظر سيرة ابن كثير (1/ 472)، كلهم =

لقد كانوا مجرمين

العنف والحقد والبخل .. هكذا تعامل قريش ابنها البار .. وابن سيدها وسيد العرب الكريم .. تحشد له الشوك والسياط والجوع والخوف .. حتى يمر به الشهر حزينًا لا يحمل إليه سوى لقمة يشاطرها بلال في وقت يتقلب فيه زبانية قريش في أنواع الملذات دون أن ينغص عليهم أنين المؤمنين تحت أقدامهم وسياطهم .. أو يحرك عواطفهم. لقد كانوا مجرمين يحملون المال والجاه والحسب والنسب والسياط .. لكن أيديهم وعقولهم خالية من الحجة والمنطق والحقيقة .. ليس لديهم سوى أشياء .. ورثوها عن آبائهم .. فيها اختلط الحق بالباطل دونما تمييز .. أما محمد -صلى الله عليه وسلم-فقد جمع الحق كله .. ورفض الشر كله .. فكانت النتيجة أن صادموه عندما أراد أن يطهرهم ويشدهم من مستنقعات الرذيلة التي يرتكسون فيها .. وكان يقود ذلك الصدام مجرمون .. تفننوا في التعذيب والسحل والتنكيل .. كان من هؤلاء عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبو لهب .. وكان منهم أمية بن خلف .. وعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة .. وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة .. لكن هناك من يتفوق على هؤلاء كلهم قسوة وشراسة: رجلان هما: عمرو بن هشام (أبو جهل) ورجل آخر .. أما أبو جهل فكان جبارًا شقيًا يتلذذ بتعذيب المؤمنين .. حتى بلغ من قسوته أن طعن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر بحربة في موضع عفافها حتى لفظت أنفاسها والحياة .. طعنها وهي المرأة الضعيفة الرقيقة .. إنها لم تشتمه .. ولم تسبه إنما قالت: لا إله إلا الله. ¬

_ = من طريق: حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ورجال هذا الإسناد أئمة كبار، وهو على شرط مسلم من أجل حماد بن سلمة، وهو أوثق الناس في شيخه ثابت.

عمر بن الخطاب

لقد علمنا التاريخ دروسًا عديدة .. وما زال يعلمنا أن للطغاة موقفًا من المؤمنين الدعاة عجيبًا .. هذا الموقف يقول: (من كان داعية فهو عدوي)، وقد يكون الطاغية مخيرًا أو مسيرًا أو ساذجًا .. لكن هذا الموقف لا يتغير. ومن يعير سمعه وبصره للتاريخ والأيام .. يجد المشانق والزنازين تئن أمامه من رقاب الدعاة وأجسادهم الطاهرة .. حتى رياح الحرية التى تهب أحيانًا على الشعوب نراها تمر على الجميع وتستثنى الدعاة فهم ينتزعونها انتزاعًا بدمائهم .. ويمنحونها للجميع حرية للبشر للشجر .. لكل من حوته السماء وساح على وجه الأرض. ولم تكن سمية بنت خياط أول الشهداء ولا آخرهم .. ولا كان أبو جهل أول المتسلطين ولا نهايتهم .. كان هناك رجل يزاحمه ينافسه اسمه: عمر بن الخطاب لعلكم تذكرون ذلك الرجل العظيم: زيد بن عمرو بن نفيل .. هذا الرجل له ولد عظيم مثله اسمه سعيد بن زيد .. تزوج سعيد من أخت عمر ابن الخطاب .. فكان من السابقين إلى الإسلام .. سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجد الحقيقة ووجد نفسه .. ودعا زوجته -وهي أخت عمر بن الخطاب- فآمنت بما آمن به .. فكانت أسرة صغيرة سعيدة بالحب والإيمان والبهجة .. وبعد فترة تسرب الخبر إلى عمر بن الخطاب .. فتطاير الشرر من عينيه ويديه .. وبدأ بتعذيب أخته وزوجها .. فما حدث عار على ابن الخطاب ولن يسمح عمر للعار أن يدخل بيته .. لكن أدوات عمر فشلت .. فالقلوب لا تدخلها السياط والمبادئ لا يثنيها الحديد .. وعمر لا يملك من أدوات الإقناع والحوار سوى بسطة في الجسم وحفنة من السياط والعصي الغليظة .. أحضر الأغلال والحبال .. وقيدهما، وفي ذلك

دعوة نبي مضطهد

يقول سعيد بن زيد: (والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي وأخته على الإسلام قبل أن يسلم عمر) (¬1) هكذا كان عمر .. وهذا ما تفعله قريش بأطهر أبنائها المؤمنين. وليس لدى الضعيف المظلوم سوى الدعاء: دعوة نبي مضطهد أطال -صلى الله عليه وسلم- التأمل بين صحابته .. يفتش عن أحد .. لكنه لم يجده .. لقد وجد أتباعًا مضطهدين .. مغلوبًا على أمرهم .. يتحملون كثيرًا .. لكن إلى متى .. إلى متى وهم يتدسسون .. يخفي بعضهم بعضًا كأنما ارتكبوا جرمًا .. كان يفتش عن شخص جبار تهابه قريش .. فتتراجع أمامه قليلًا .. لعل فسحة من الحياة المشروعة تتسع له ولأصحابه .. فيستمتعون بها كما يستمتع غيرهم .. ويعبدون الله وهم آمنون .. لكن الطغاة لا يرحمون .. إن البهائم والطيور تطوف في مكة آمنة .. أما محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه المساكين .. ففي الشعاب هائمون .. يأتي إليه خباب بن الأرت يحمل جلدًا مسلوخًا وجروحًا نازفة وهمًا كالجبال .. يأتي إليه خباب المسكين وقد لقي أشد العذاب من المشركين. فيقول: (يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا، فقعد -صلى الله عليه وسلم- محمر وجهه، فقال: إن من كان قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد، ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، والذئب على غنمه) (¬2). ليس هناك سوى الصبر يا خباب .. هذه هي حياة الأنبياء وأصحابهم ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3862). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3852).

وأتباعهم .. إن احمرار وجهه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن لعدم مشروعية الدعاء .. بل كان لهبًا يذهب ما قد يعلو في نفوس أصحابه من الملل والضيق .. إن هذا الاحمرار يقول: إن كل ما يقدمه الداعية في سبيل الله من تضحية .. من مال .. من جهد .. رخيص .. رخيص في سبيل الله .. إنها الجنة يا خباب .. فلا عجب أن مشط الأنبياء السابقون وأتباعهم بأمشاط الحديد .. ونشروا بالمناشير .. فقد كانت الجنة في قلوبهم .. أما الدعاء فمشروع في كل لحظة .. فالدعاء في الإِسلام (هو العبادة) (¬1) .. حتى الأماني التي تجول في الخواطر تسيل عند الله في مجرى الدعاء الجميل المحبوب .. حتى الأماني الحلوة حَوَّلَها الإسلام إلى عبادة .. يقول -صلى الله عليه وسلم-: (إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه) (¬2) وسأل محمَّد -صلى الله عليه وسلم- ربه .. دعاه وتضرع إليه أن يرزقهم ما يبحثون عنه .. رجلًا يعز الله به الإسلام .. وكانت أمنيته -صلى الله عليه وسلم- تحوم حول أقسى رجلين وأشرسهما في مكة كلها على المؤمنين .. توجه -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه ضارعًا وقال: (اللَّهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: أبو جهل بن هشام، أو عمر بن الخطاب) (¬3) فقد بخلت مكة وشحت .. وضاقت بأصحابه -صلى الله عليه وسلم- فصارت من ضيقها تحصي أنفاسهم وخطاهم .. ولم يكن هناك متسع للحياة فيها .. حتى بيت الله الحرام أصبح غير آمن ولا حرام .. ألم تر إلى أبي جهل يقول: (لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه) (¬4). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (2/ 150). (¬2) حديث صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير (1/ 178). (¬3) إسناده حسن رواه البيهقي (2/ 215) وابن سعد (3/ 267) وأحمدُ (الفتح 20/ 230) من طريق أبى عامر: عبد الملك بن عمرو القيس، وهو ثقة (التقريب1/ 521) أخبرنا خارجة ابن عبد الله بن ثابت وهو حسن الحديث (التهذيب 3/ 76) عن نافع عن ابن عمر قال. قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري.

إلى الحبشة

(واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب) (¬1). حبيب الله-صلى الله عليه وسلم- يهدده هذا الجعظ بأن يطأ على عنقه الطاهر .. فماذا ينتظر البقية سوى الموت. أليس هناك سوى مكة .. وطواغيت مكة؟ نعم إن مكة أطهر بقعة على وجه الأرض وأعظمها .. لكن هل البقاء فيها من أركان الإسلام .. هل يتحتم على المسلمين أن يربطوا مصيرهم بمكة وقد ضاقت بهم .. وحاصرتهم جبالها .. وكشرت وديانها وشعابها .. هل يتحتم على المؤمنين أن يبقوا فيها وقد نثر الشوك في وجوههم وأقدامهم .. وكعبة ربهم تئن تحت أطنان الأصنام وترزح تحت طقوس الوثنية؟. رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمل الإجابة بيضاء واضحة لا غموض فيها .. الإسلام لا يرتبط بأرض ولا وطن .. لا يرتبط بشخص ولا حتى أمة .. الإسلام عظيم فسيح .. فسيح. إنه من السعة بحيث تستطع أن تضع هذا الكون كله في زاوية من زواياه .. ومكة جزء من هذا الكون .. الإِسلام لا يرتبط بمكة .. ولا بفلسطين ولا ببقية أراضي الأنبياء مهما كانت .. فلا حرج على هؤلاء الضعفاء من المغادرة والهجرة من أكرم بقاع الأرض إذا ضاقت وضاق أهلها لكن إلى أين؟ إلى الحبشة هذا ما تقوله امرأة مسلمة تدعى: أم سلمة (هند بنت أمية) التي عذبت هي وزوجها مع سائر المؤمنين لأنهم يقولون لا إله إلا الله .. تقول أم سلمة رضي الله عنها: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم.

(لما ضاقت مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء، والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من قومه، ومن عمه، لا يصل إليه شىء مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلَم أحد عنده، فالحقوا ببلاده، يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه، فخرجنا أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، آمنين على ديننا , ولم نخش فيها ظلمًا) (¬1). كان النجاشي ملك الحبشة نصرانيًا يحمل الصليب على صدره لكنه كان عادلًا. أرض بلال تجود مرة أخرى .. وشلالاتها تغسل دموع المؤمنين وأحزانهم وتطهر جرحهم من أشواك قريش ورماحها .. لكن لماذا الحبشة؟ هل لأنها أرض النصارى .. والنصارى أهل دين نزل من السماء كالإِسلام تمامًا .. ربما .. لا سيما وجزيرة العرب غابة من الأصنام .. وأرض فارس تتأجج نارًا تحرق أهل فارس .. وتحرق فطرتهم وتذيبها كلما ركعوا لها أو تمسحوا برمادها وتمرغوا .. ربما كانت في هذه بعض الإجابة .. لكن الإجابة المؤكدة هي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده) إذًا فهو العدل والعدل فقط .. وقريش قد فرغت جيوبها وقلوبها من العدل. ابتسم المتسلطون وهم يرون هؤلاء الفقراء يحملون أطفالهم ويودعون مكة الحبيبة تبللهم الدموع ويتقلب الجمر في أكبادهم .. يتركون بيوتهم .. يتركون نبيهم صلى الله عليه وسلم وإخوانهم يتلبطون بين السياط. ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن إسحاق، (سيرة ابن كثير 2/ 172) فقال: حدثني الزهري عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضي الله عنها، وابن إسحاق لم يعنعن بل صرح بسماعه من شيخه الإمام المعروف: الزهرى، وشيخ الزهري هنا هو تابعي ثقة فقيه معروف. التقريب (2/ 398).

فرح الطغاة والمتسلطون كلهم إلا واحدًا كان يرقب المشهد بعمق يقف ملجمًا بالحزن .. مثقلًا بالندم .. ينظر إلى ضحاياه .. يتأمل مطاياهم وهى تتمايل مغادرة مكة فتنتزع من قلبه بعض قسوته وعروقه .. كان صامتًا يخاطبه الندم ويقول له: ماذا فعلت يابن الخطاب .. وماذا جنت يداك .. ويحك يا عمر إنهم أهلك وجيرانك وأصحابك .. ألا ترحم .. ألا يلين قلبك لهذا المنظر .. نساء حزانى .. وشباب حيارى .. وأطفال لا ذنب لهم .. ورجال كرام أهنتهم وشردتهم وضيقت عليهم حتى ملوا الحياة .. وهم الذين كانوا يكرمون الضيف .. ويحنون على الضعيف .. إلى أين ألجأتهم يا عمر؟ إلى بحر يتقلب بهم .. أم إلى أرض لا يعرفون بها أحدًا .. ماذا سيكون مصيرهم .. أنت لا تعرف وهم لا يعرفون .. هل خلقت بلا قلب يا عمر؟ تقدم أيها القاسي وقل شيئًا يخفف من لوعتهم. وتقدم عمر .. وتحرك قلبه وتحركت شفتاه في هذا المشهد المعبر الذي ترسمه لنا أم عبد الله زوجة عامر بن ربيعة بقولها: (كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة. جاءني عمر بن الخطاب وأنا على بعير نريد أن نتوجه فقال: أين يا أم عبد الله؟ فقلت له: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله حيث لا نؤذى في عبادة الله [والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجًا] (¬1). ¬

_ (¬1) هذه الألفاظ ما بين المعقوفين من رواية أخرى.

[ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه خروجنا]. ثم ذهب، فجاء زوجي عامر بن ربيعة، فأخبرته بما رأيت من رقة عمر ابن الخطاب فقال: ترجين يسلم؟ فقلت: نعم. قال: فوالله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب -هذا من شدته على المسلمين- ثم رزقه الله الإِسلام) (¬1). وتحركت المطايا والقلوب تلوح لمكة .. وركب المعذبون البحر .. وارتفعوا مع الموج وانخفضوا حتى قذفتهم المراكب على سواحل الحبشة فرأوا الأمان وتلمسوه فعانقوه وارتاحت قلوبهم .. واستراحت أبدانهم من شراسة قريش .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية أصحابه فمكثوا في مكة يمشون على الأشواك .. ويحثى عليهم التراب .. ويبصق في وجوههم .. لكنهم لا يتراجعون يدعون ويدعون .. ويكثر أتباعهم كل يوم .. فتضطرب قريش من هذا الدين الذي يشتد عوده كلما اضطهد وعذب أتباعه .. كأنهم يقتاتون الشقاء والمعاناة .. يحتسون المرارة .. فيزدادون صفاءً وتألقًا .. هذا عبد الله بن عمرو بن العاص .. يحدث رجلًا ويخبره عن أشد المناظر فظاعة .. أشد مناظر قريش قسوة وهي تنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لقد رأيتهم -وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر-، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما رأينا مثل صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا (¬2)، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصبرنا منه على أمر عظيم .. أو كما قالوا. ¬

_ (¬1) هذه القصة رواها ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 33) (والمغازى والسير لابن إسحاق واللفظ له 181)، حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة, عن أمه ليلى. وسندها فيه ضعف يسير من أجل التابعى عبد العزيز بن عبد الله فهو يحتاج إلى توثيق فقد سكت عنه ابن أبي حاتم (5/ 385) وابن حبان الذي أورده في الثقات (7/ 115) لكننى أوردتها لأنه تابعى كبير ولأنه يروي هذه القصة عن أمه- جدته. (¬2) عقولنا.

فبينا هم في ذلك، طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، فلما مر بهم طائفًا بالبيت، غمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى، فلما مر بهم الثانية؟ غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى ثم الثالثة، فغمزوه، فوقف، ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح. فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر (¬1) واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه (¬2) أحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم فما أنت بجهول. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه، فبينا هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا -لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم- فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجامع ردائه وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبكي دونه) (¬3) وذكر عبد الله بن عمر اسم ذلك الجلف فقال: (أقبل عقبة بن أبي معيط _ورسول الله يصلي عند الكعبة- فلوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ. بمنكبيه، فدفعه عن رسول ¬

_ (¬1) أي أنهم قد سكتوا وخيم السكون عليهم. (¬2) يداريه. (¬3) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقى (2/ 275)، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته، وهذا السند قوي: ابن إسحاق لم يدلس، ويحيى بن عروة ثقة. انظر (التقريب 2/ 354).

الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (¬1). ووصف عبد الله الحارث مرة فقال: (ما تنول من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء كان أشد من أن أطاف بالبيت -ضحى- فلقوه حين فرغ، فأخذوا. بمجامع ردائه وقالوا: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا. فقال صلى الله عليه وسلم: أنا ذاك. فقام أبو بكر رضي الله عنه فالتزمه من ردائه ثم قال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم، وإن يك كاذبًا فعليه كذبه، وإن يك صادقًا يصبكم بعض الذي يعدكم، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) (¬2). كل هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرع مرارة الأذى صابرًا .. فالدروب حوله أمر .. ولا بد من المعاناة .. فقد بعث ليبعث الحياة في نفوس مريضة .. ليلتقط أشلاءها الممزقة .. أشلاءها المبعثرة .. ليجعل من هؤلاء الجفاة شموس حضارة تمنح الضياء للعالم .. ولا بد أن يكون في دربه قلوب مطموسة .. وصخور عناد قاسية .. مشركون تكومت في قلوبهم أسباب النقمة وبين أيديهم سبل الانتقام .. لن يتورعوا عن ارتكاب الحماقات مهما كانت فادحة .. وسيتلذذون بذلك .. وسيشربون الخمر بهجة بانتصار مزيف .. لكن كل ذلك سيتلاشى مع الليالي والأيام والصبر والمصابرة. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري. كتاب الفضائل. (¬2) سنده صحيح. رواه البيهقي (2/ 277) من طريق العباس بن محمد بن حاتم، وهو ثقة (التهذيب 5/ 129) حدثنا ابن مخلد وهو صدوق (التهذيب 3/ 116) حدثنا سليمان بن بلال وهو ثقة (التقريب 1/ 322) حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله .. وهشام ووالده ثقتان مرا معنا كثيرًا فالسند صحيح.

عبد الله بن مسعود

الإيمان في الشدة والأزمات عمود نور كلما ضرب توغل في شغاف القلوب .. الإيمان مطر تنشره رياح الحرية في الأرض .. فإذا قلوب البشر قد اهتزت وربت وأنبتت فيها الحياة العذبة الجميلة .. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفر من مكة .. ويلوذ بالفرار معه أبو بكر .. تطاردهما وحوش قريش وسفهاؤها .. فيجدان الأرض خارج مكة أدغالًا من الخوف والرعب .. صحارى وعطش ورمضاء وعرق .. هذه الشدائد وهذه الأزمات الحرجة تشققت عن مولود إسلامى عظيم أصبح أحد رموز هذه الأمة وعلمائها رمز يدعى: عبد الله بن مسعود يقول رضي الله عنه: (كنت غلامًا يافعًا أرعى غنمًا لعقبة بن أبي معيط بمكة، فأتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر -وقد فرا- من المشركين فقالا: يا غلام، عندك لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما، فقالا: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم. فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا .. ، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقاني، ثم قال للضرع، اقلص. فقلص. فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: علمني من هذا القول الطيب -يعني القرآن- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: إنك غلام معلم، فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد) (¬1). إنها لمعجزة أن يدر ذلك الضرع باللبن ثم يقلص .. كذلك الإِسلام .. ¬

_ (¬1) إسناده حسن، رواه البيهقي (2/ 171) وأبوداود الطيالسي (سيرة ابن كثير 1/ 444) من طريق: حماد بن سلمة وهو ثقة وإمام معروف، عن عاصم بن بهدلة، وهو حسن الحديث. انظر التهذيب (5/ 38) عن الثقة المخضرم زر بن حبيش. فالسند بذلك حسن.

إسلام حمزة

معجزة فقد جعل من رويعى الغنم عالمًا عظيمًا .. في وقت كان زبانية قريش ينتظرون خبر موت محمد وصاحبه خارج مكة .. ولئن كانت مكة لا تأبه كثيرًا لإسلام عبد الله بن مسعود لأنه في نظرهم مجرد راعي غنم قصير القامة .. ضعيف البنية .. دقيق الساقين جدًا .. إذا كانت قريش لا تأبه لإسلام ابن مسعود فالإِسلام يأبه كثيرًا بابن مسعود ويوظف قدراته العقلية .. الإِسلام يحتفي بهذا المسكين كاحتفائه بـ: إسلام حمزة إذا كان ابن مسعود الضعيف قد أسلم خارج مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم هارب من تعذيب أهلها له .. فإنه قد قيل إن حمزة بن عبد المطلب ذلك الأسد الفاتك .. عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلم أيضًا بعد عملية اضطهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إسلام حمزة حمية، وكان يخرج من الحرم فيصطاد فإذا رجع مر بمجلس قريش وكانوا يجلسون عند الصفا والمروة فيمر بهم فيقول: رميت كذا وكذا، وصنعت كذا .. وكذا، ثم ينطلق إلى منزله، فأقبل من رمية ذات يوم فلقيته امرأة، فقالت: يا أبا عمارة، ماذا ألقي ابن أخيك من أبي جهل بن هشام: شتمه وتناوله، وفعل وفعل، فقال: هل رآه أحد. قالت: أي والله لقد رآه ناس فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصفا والمروة، فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم، فاتكأ على قوسه، وقال: رميت كذا .. وكذا وفعلت كذا .. وكذا، ثم جمع يديه بالقوس فضرب بين أذني أبي جهل فدق سنتها، ثم قال: خذها بالقوس وأخرى بالسيف، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بالحق من عند الله. قالوا: يا أبا عمارة إنه سب آلهتنا وإن كنت أنت أفضل منه ما أقررناك وذاك، وما كنت يا أبا عمارة فاحشًا) (¬1). ¬

_ (¬1) أقول: قيل لأن الرواية لم تثبت عندي، فهي مرسلة عند الطبراني، معضلة عند كل من: ابن =

المفاوضات بعد إسلام حمزة

قد تكون هذه هي قصة إسلام حمزة وقد يكون لإسلامه قصة أخرى .. الله أعلم. وسواء كان ذلك الذي حدث أم لا فإن إسلام حمزة كان نصرًا هز مكة من أقصاها إلى أقصاها .. فالأمر يبدو خطيرًا .. والأقوياء الذين كانوا يخشون من زوال سمعتهم وما تجنيه لهم تلك القوة من أضواء بدأوا ينضمون إلى صفوف المؤمنين ويزيدونها قوة .. فقد أدركوا كم هم ضعفاء أمام قوة الإِسلام .. أمام قوة القوي الذي لا يقهر سبحانه .. فهل من سبيل إلى خروج من هذا المأزق الذي ألجأهم الإِسلام إليه .. هل من مهرب قبل أن يجدوا أنفسهم غرباء خارج مكة مهزومين أذلاء. المفاوضات بعد إسلام حمزة لم يصدق عتبة بن ربيعة أن حمزة أصبح اليوم مع ابن أخيه .. درع يحميه .. سيف يشق به صفوف قريش .. سيصعب الوصول إليه وحمزة معه .. ها هو ابن أخيه يصلى دون خوف عند الكعبة .. اغتاظ عتبة أحد أسياد مكة مما يحدث .. (فقال يومًا وهو جالس في نادي قريش -ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وحده-: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون فقالوا: بلى يا أبا الوليد. قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حين جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، ¬

_ = إسحاق، وابن أبي حاتم، والطبرانيُّ أيضًا، انظر مجمع الزوائد (9/ 267) والسيرة الشامية (2/ 43) فهي ضعيفة.

وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا أبا الوليد .. أسمع. قال: يا ابن أخي إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال عتبة: افعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بِسمِ اَللهِ الَّرحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ في يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ في يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ

أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا في أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا

الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} (¬1) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه فلما سمعها منه عتبة أنصت لها , ألقى يديه حلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه , ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها , فسجد ثم قال: قد سمعت أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك, فقام عتبة إلى أصحابه. فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب, فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد. قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالشعر, ولا بالسحر , ولا بالكهانة, فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم , فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ,وإن يظهر على العرب فملكه ملككم , وعزه عزكم , وكنتم أسعد الناس به قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي , فاصنعوا ما بدا لكم) (¬2) لقد هزت الآيات قلبه ولكنها ¬

_ (¬1) سورة فصلت: الآيات 1 - 38 والآيات التي ذكرت هي التي جاء في الحديث أنه قرأها. (¬2) حديثٌ حسنٌ، رواه ابن إسحاق (ابن هشام 1/ 262) بسند صحيح مرسلًا: حدثني يزيد ابن زياد، عن محمَّد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا قال يومًا وهو جالس في نادي قريش .. ويزيد ثقة وهو مولى عبد الله بن عياش. التهذيب (11/ 328) وكذلك محمَّد بن كعب فهو تابعي ثقة. لكنه لم يذكر اسم من حدثه قد يكون صحابيًا، وقد يكون تابعيًا. لكن للحديث شاهدان يتقوى بهما. الأول عند عبد بن حميد (ابن كثير 1/ 502) وفيه ضعف يسير. من أجل رجل لم يوثقه إلا ابن حبان وهو الذيال بن حرملة. وشاهد قصير عند ابن =

لا تنازل

وجدته صخرًا .. أما عقله فقد أدرك سحر هذا القرآن وأثره .. لكن أنياب العادات والتقاليد وبقايا سمعته كانت مغروزة فيه .. وهو أضعف من أن يتخلص منها .. فهو في ريبة يتردد لا يجد له استقرارًا .. في نزاع بين ما هو صحيح وبين ما يهواه .. وأخيرًا دحرجته جموع الكفر إلى الكفر .. دحرجت قلبه الصخري على عقله فانطمس ولبث في عماء حتى ألقى مكفنًا بالشرك والعفن .. أما محمَّد صلى الله عليه وسلم فأعلنها: لا تنازل هذا هو مبدأ سيد البشر صلى الله عليه وسلم وإمام القادة .. لا يقبل إطلاقًا أي تلفيق في المنهج .. لا جسور في العقيدة بينه وبن الكفر إطلاقًا .. لقد نثروا بين يديه خيارات مغرية .. الزعامة .. والمال والسيادة عليهم وهم سادة العرب شم الأنوف في الذرى بين الجميع .. لكنه صلى الله عليه وسلم رفض ذلك كله .. كان بإمكانه أن يتزعمهم ثم ينقلب عليهم إذا اشتد عوده وكثر أتباعه .. كان بإمكانه أن يعقد هدنة معهم ثم يأخذ من المال ما يتيح له أن يعد جيشًا من المرتزقة يحطم به أعداء الله .. لكنه الأمن .. والأمين يقول: (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) (¬1) ولن يخون صلى الله عليه وسلم مسلمًا ولا كافرًا ولا مشركًا مهما كانت الأسباب فالأمر عقيدة .. والقيادة عقيدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فإما أن تكون لله أو تكون للشيطان .. ولن يشاطر الشيطان قيادةً ولا نهجًا. لقد كان صلى الله عليه وسلم يتنازل عن حقه .. يؤذى فيصبر .. يسيل دمه فيمسحه ¬

_ = إسحاق، عن نافع عن ابن عمر وفيه ابن إسحاق لم يصرح بالسماع من نافع فالحديث بهذه الطرق حسن. (¬1) حديث صحيح.

ثم يعود إلى بيته مكسور الخاطر صابرًا حزينًا محتسبًا .. كانوا يضعون النجاسة على ظهره وهو ساجد لوجه ربه وأمام كعبته فيصبر أيضًا ويحتسب .. كان الصحابة يتهافتون عليه يبكون جراحهم يبحثون عن خلاص .. فيطالبهم بالصبر .. ورغم ذلك كله .. وبعد هذا العذاب كله .. تجده يذهب إلى أنديتهم مبتسمًا يدعوهم ويدعوهم ولا يمل من دعوتم .. وكانوا يأتونه في بيته رغم عداوتهم له يضعون أموالهم وودائعهم عنده ويلقبونه بالأمين. ما الذي يجري وما تفسيره .. سياطهم على ظهره وأموالهم ودائع محفوظة عنده .. لم يقل هؤلاء مشركون نجسون فمالهم حلال لي .. ولا عهد لهم ولا ذمة ولا كرامة .. لم ينتقم لنفسه أبدًا .. لم يعاقب أحدًا لأنه ضربه أو شتمه .. بل كان يدعو لهم بالهداية. هذا هو الفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين متحمسين شوهوا الإِسلام وأعاقوه أكثر مما أعاقه أعداءه. هناك من الدعاة من يتنازل عن بعض مبادئ العقيدة من أجل مكسب سياسي .. وهناك من الدعاة من يرى أن السياسة رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه مع أن الحكم والسياسة من توحيد الألوهية الذي هو حق لله سبحانه وحده. ومن المتحمسين من يحمل بضعة أحاديث يغلفها بسوء ظن ويرصد من حوله ليرميه بالكفر والمروق أو الفسق والانحلال. وهناك من يحاسب الناس وكأنهم يعلمون كل شىء عما يحاسبهم عليه مثل علمه تمامًا .. وهناك من يدعو الناس وقد حرم على نفسه الابتسامة ورسم على وجهه كل أنواع العبوس والتكشير .. كأنه خارج

ما حدث لركانة

من معركة ضاع فيها الشرف وسالت فيها الدماء .. وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أكثر الناس تبسمًا .. وأكثر الناس تطيبًا .. وأزكى الناس رائحة .. كأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل إن الله جميل يحب الجمال. وهناك من يعامل اليهود والنصارى وغيرهم وكأنهم علماء متبحرون في دينهم .. كأنهم يتعمدون الكفر .. وكأن المسلم غير ملزم بدعوتهم قبل بغضهم واضطرارهم إلى أضيق الدروب. ويغفل هؤلاء -وهم في غمرة حماسهم- ويتناسون: ما حدث لركانة مشرك قوي البنية .. لم يتمكن أحد من طرحه على الأرض .. ويبدو أنه قد تميز عن أهل عصره بتلك البنية البدنية الجبارة .. هذا الرجل يرى في جسده كل ثروته وشهرته .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يرى في تلك العضلات المنحوتة بالنشاط أبوابًا إلى عقل ركانة وروحه .. فلا بأس من طرقها لعل الله أن يهديه للإسلام .. فيقرر صلى الله عليه وسلم ممارسة لهو مباح مع هذا المشرك .. ولا أحد يستطيع أن ينكر أن ما قام به صلى الله عليه وسلم ليس من اللهو .. فماذا فعل صلى الله عليه وسلم مع ابن ركانة؟ لقد (جاء يزيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلثمائة من الغنم فقال: يا محمَّد، هل لك أن تصارعني؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما تجعل لي إن صرعتك؟ قال: مائة من الغنم، فصارعه، فصرعه، ثم قال: هل لك في العود؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وما تجعل لي؟ قال: مائة أخرى، فصارعه، فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمَّد، ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقام عنه ورد عليه غنمه) (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب وصححه الألباني في إرواء الغليل (1501).

هل هناك من يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمارس شيئًا غير اللهو المباح .. هل كان صلى الله عليه وسلم بتلك المصارعة يتدارس معه علمًا .. أدبًا في صلاة .. ؟ بالطبع لا .. لكن من المؤكد الذي لا شك فيه أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدفًا من تلك المصارعة أسمى من غنماته وعضلاته .. كان صلى الله عليه وسلم يسعى لإسلامه .. يفتش داخل هذا الجسد القاسي عن توحيد مكبل ليحرره .. كان صلى الله عليه وسلم يقدم درسًا لأمته يكشف فيه مدى حاجة هؤلاء المشركين إلى التوحيد والإيمان .. وأن هؤلاء المشركين مهما بلغت قسوتهم وطفح طغيانهم مساكين .. غرقى بحاجة إلى من ينتشلهم من قلب الظلمة .. من أجل ذلك قدم صلى الله عليه وسلم درسًا يبيح فيه الخوض في أبعاد الحلال وأعماقه من أجل إنقاذ إنسان كركانة .. لكن ماذا يقول المرء وهناك من يتناسى-باسم الإِسلام- فعله صلى الله عليه وسلم ولهوه مع ركانة وهو ليس بمسلم .. ماذا يقول المرء .. وهناك من يرى أن اللين لا يجوز إلا مع الملتزمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن اللين الشدة والغلظة وعدم السلام أشياء مطلوبة مع من لا يظنهم كذلك. ويصنف الناس وينسى أثناء تصنيفه ما هو أهم .. ينسى أخوة الإِسلام ويحاول التملص من واجبات تلك الأخوة .. إنها ميول مغلفة بطابع ديني .. وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرر شهوته من خلال الدين .. لقد كان صلى الله عليه وسلم يرسم يطبق شرعًا في التعامل والقيادة .. لقد كان سمحًا مبتسمًا .. لا ينتقم لنفسه أبدًا .. ولا يرصد الأخطاء على من ظلموه ليتشفى .. بل كان يتسامح .. كان يصل هؤلاء المشركين ويعرف حق القرابة والرحم رغم افتراقه عنهم في العقيدة .. لأنه مكلف بتسليمهم رسائل ربهم فردًا فردًا .. ومكلف بالصبر والانتظار حتى ولو تحولت الأرض كلها إلى كفر بالله .. هذا هو الفرق بين هؤلاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم .. هؤلاء يبذلون القليل وينتظرون الكثير ويغضبون إن لم يظفروا بنتائج .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكدح ويعمل ويبذل ويصبر ولا

إسلام عمر

ينتظر شيئًا من أحد .. كان ينتظر الجزاء من الله .. فإن ظفر بنتائج وظفها كما وظف نفسه وجعلها للأرض سلامًا وشعاع نور للتائهن. إسلام عمر (¬1) كل الروايات تقول إن القرآن العظيم هو سبب إسلام ابن الخطاب العظيم .. فهو لم يستطع مقاومة تأثيره .. ولم يستطع إنكار إعجازه .. فألقى بسلاحه عدة مرات أمامه. أول الدرب دعاء كان صلى الله عليه وسلم حزينًا لما يجري لصحابته وأتباعه من تعذيب وإيذاء .. وتنكيل شديد على أيد طغاة قريش وزبانيتها .. كانت الأحداث التي تعصف بهم تؤذيه .. وتعصر قلبه .. فيتوجه هذا الدعاء الحار إلى ربه: (اللَّهم أعز الإِسلام بأحد هذين الرجلين إليك: أبو جهل بن هشام، أو عمر بن الخطاب) (¬2) فقد كانا أشد من يسلخ الظهور ويعذب فوق الرمضاء .. وكان عمر أكثرهم رقة .. وقد لاح ذلك عندما وقف ممتلأ بالحزن وهو يودع الصحابة المغادرين إلى أرض الحبشة .. لكن قسوته تغلب على رقته. ¬

_ (¬1) لإسلام عمر بن الخطاب قصة حيرتني روايتها كثيرًا .. ليس من ناحية الثبوت .. ولكن لأن هناك فقرة تاريخية لم أصل إليها تجمع بين تلك الروايات التي يخيل إلى من يقرأها متضاربة. (¬2) حديث حسن الإسناد، رواه البيهقي (2/ 215) وابن سعد (3/ 267) وأحمدُ (الفتح الرباني (20/ 230) من طريق: أبي عامر العقدي، أخبرنا خارجة بن عبد الله سليمان بن زيد بن ثابت، عن نافع عن عبد الله عن عمر. وهذا الإسناد جيد، اسم أبي عامر: عبد الملك بن عمرو القيسي وهو ثقة. التقريب (1/ 521) وشيخه خارجة ثقة. التهذيب (3/ 76)، ونافع إمام وثقة معروف.

عمر يلقي آخر السياط

بدأ ابن الخطاب يمارس دوره في التعذيب مع أقرب الناس إليه وأقربهم وألينهم قلبًا وجسدًا أخته المسكينة التي ليس لها جريرة سوى أنها تقول ربي الله وزوجها المعذب .. الصابر: سعيد بن زيد .. الذي لم يسلم من بطش عمر القاسي .. يقول سعيد رضي الله عنه: (والله لقد رأيتنى وإن عمر لموثقي وأخته على الإِسلام قبل أن يسلم عمر) (¬1). حبال وسياط هي أدوات الحوار التي كان يجيدها عمر ويكثر من حملها .. فالجاهلية التي كان يعتنقها لا تستطيع البقاء إلا بالحبال والسياط لكن القلوب لا تدخلها السياط .. والأفكار لا يثنيها الحديد .. مهما كانت قسوة عمر فإنه ما زال بشرًا يحمل قلبًا .. ما زال يحمل عقلًا. عمر يلقي آخر السياط عمر بن الخطاب .. الرجل الحديدي أسلم .. تلك القوة التي كانت ترزح فوق أنفاس المستضعفين انزاحت .. فهل ستستحيل بين أيديهم سلاحًا يشقون به طريقهم وسط غابة الخناجر والسيوف وأغصان من المشانق والقيود .. أم أن عمر سينضم إلى قافلة المستضعفن الذين لا يملكون حولًا ولا طولًا .. ؟ كل تلك التساؤلات .. أجاب عنها عمر .. فهو لم ينتظر أن يسأله أحد كيف أصبحت. لم ينتظر عمر أن تزحف الأخبار إلى بيوت مكة بخبر إسلامه .. أن يقول إنه تخلص من شركه كما تتخلص الأشجار من أوراق الخريف الصفراء .. على الطرقات وفي البيوت ويحملها الهواء في أجواء مكة .. إنه ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري.

يسأل من حوله فيقول: (أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. فغدا عليه، يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر، واتبعته أنا، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطلح (¬1) فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم، أو تركتموها لنا. فبينا هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة (¬2) وقميص موشى، حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: صبأ عمر. فقال: فمه؟ رجل اختار لنفسه فماذا تريدون؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبكم هذا؟ خلوا عن الرجل -يقول ابن عمر- فوالله لكأنما كانوا ثوبًا كشط عنه، فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك. قال: ذاك بني: العاص بن وائل السهمي) (¬3). ¬

_ (¬1) تعب. (¬2) ثوب من قطن أو كتان كان يصنع باليمن. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 38) حيث قال: حدثني نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: ... وهذا الإسناد صحيح، فيه تابعى معروف هو: نافع مولى ابن عمر، وهو ثقة ثبت فقيه مشهور، وابن إسحاق صرح بالسماع منه.

يقول ابن عمر: (فعجبت من عزه) (¬1). ولم يكن عز هذا الرجل بأعظم من إجابته المفحمة لفلول الكفر .. إنه يرفض مبدأ قريش في تكميم الأفواه وتقييد الحريات .. فالرجال أحرار في اعتناق ما يرونه .. وعمر حر في اعتناق ما رآه صوابًا وحقيقة .. فلماذا التبرم يا قريش؟ صمتت قريش لأنها تفتقر إلى أسلحة العقل والإقناع .. لا تملك شيئًا يبرر أصنامها وطقوسها .. إنها تملك صراخًا وضجيجًا تزاحم به أجواء الحوار الهادئة .. فإذا ما ماجت الساحة بالفوضى والغبار والضجيج، مَرَّرَت ما تريد وفرضت ما تشتهي .. وأبقت الدعاة في جو من الخوف والرعب فربما يتراجعون عن رسالتهم التي تخطف القلوب والعقول بهدوءٍ من صفوف قريش .. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر في هدوئه ودعوته .. يزداد سكينة كلما ازدادوا شراسة .. ويبشر كلما عسروا وشددوا .. ويبتسم كلما كشروا عن أنياب دامية .. ويلاطف الناس جميعًا بأسلوب ساحر آسر .. كله حب وشفقة .. كله ود وجمال .. كأنه خرير ماء .. كأنه ساحة من الزهور فسيحة .. هذا الأسلوب جعل معسكر الكفر يفقد أعصابه وأفراده .. فبالأمس كانت قريش تفقد أفرادًا ربما لم يكن لهم تأثير .. أما اليوم فهي تفقد أقوياء مفتولين كالحديد .. ها هو حمزة ينسحب منهم .. ويتبعه عمر بن الخطاب .. وها هم الضعفاء يقتربون من الكعبة .. يطوفون بها .. بل يصلون عندها .. وها هو أحدهم .. راعي الغنم الفقير .. يقول: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) (¬2). فقد وجد بعض المسلمين ساحة آمنة يركعون فيها ويسجدون قرب الكعبة. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري في (المناقب). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري.

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والله ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر) (¬1). يا لها من دعوة نبي .. اليوم عمر بن الخطاب صار سيفًا لا يفل .. ولا يحول بينه وبن وجوه الطغاة حائل .. فأصبح لأقدام المستضعفين مكان في بيت الله الحرام .. وجوار الكعبة .. يتجمهرون حول نبيهم صلى الله عليه وسلم عند الكعبة .. ويسمع المهاجرون إلى الحبشة بتلك الأحداث فيركب بعضهم الأمواج والبهجة عائدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وفي يوم من تلك الأيام التي يلتف بها الصحابة حول رسولهم صلى الله عليه وسلم .. وقد زاحمهم المشركون أيضًا تنغيصًا ونكدًا .. في مجلس الأخلاط هذا .. كان صلى الله عليه وسلم يتغنى بآيات من سورة النجم: (أَفَرَأَيْتَ (¬2) الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا في صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري. (¬2) بدأت الآيات من هنا لأن الآيات التي قبلها تتحدث عن الإسراء والمعراج، فكأنها هناك. (¬3) سورة النجم.

وبعد أن قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآيات سجد (وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس) (¬1). (غير شيخ أخذ كفًا من حصىً أو تراب، فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا) (¬2). سجد الكفار المعاندون وسجد المؤمنون .. أخذتهم هذه الآيات فساحت بهم في رحلة بدأت من الآخرة .. حيث القبور الثائرة البعثرة .. حيث الأموات يشقون أكوام التراب والغبار .. ينتفضون يخرجون يبحثون عن الداعي والمنادي .. وتنتهي بهم الرحلة هناك بين الخرائب الصامتة .. خرائب عاد وثمود وقوم لوط حيث الجثث منثورة متورمة من الماء .. جثث قوم نوح التى طوح بها السيل في كل مكان .. وأثناء هذه الرحلة المخيفة يدخل المسافرون عالمًا مدهشًا وعجيبًا يقال له الإنسان .. بدايته حقيرة لكنه يتمدد حتى يصبح عوالم تثير الدهشة والحيرة .. تحني الرقاب .. وتخضع القلوب والجباه لقدرة الله واعترافًا بعظمته .. تأثر السامعون المسلمون .. والمشركون أيضًا فسجدوا لله وحده لا لشىء آخر (¬3). حتى ذلك الشيخ الحجري لم يستطع كبت شعوره نحو هذه الآيات وتأثره بها .. فرفع كف الحصى ووضعه على جبهته .. لحظات من الخضوع والخشوع كانت تطوف بالكعبة والملتفين حول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم .. لكن تلك اللحظات لم تلبث طويلًا .. لقد مرت بالمشركين يطاردها الشيطان .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬2) متفق عليه. (¬3) أقصد بالشىء الآخر تلك القصة الغريبة (قصة الغرانيق) المخالفة لصريح القرآن الضعيفة سندًا وللعلامة الألباني رسالة حماها (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) ولأستاذي الشيخ الدكتور محمَّد مصطفى الأعظمي نقد لها في (مغازي عروة).

قتل عمر

عاد الشيطان من جديد يتمدد في الشرايين والقلوب .. يثير في نفوس المشركين الرعب والخوف من المستقبل المجهول .. من محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته .. يقول إنهم في طريقهم إلى السيطرة على مكة وغيرها .. ولا بد من إيقاف ذلك الزحف المفزع .. لا بد من إيقاف عمر بل يجب: قتل عمر لكن عمر شجاع .. عمر قوي .. لا بد من حشد يحملون عليه حملة رجل واحد .. واتفقت قريش على هذا الأمر، وسارت مجموعة كبيرة لا قبل لعمر بها فلزم بيته لا يغادره و (بينا عمر في الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي، وعليه حلة حبرة، وقميص مكفوف بحرير فقال: ما بك؟ قال عمر: زعم قومك أنهم سيقتلونني لأنني أسلمت. قال: لا سبيل إليك أمنت. فخرج العاص فلقى الناس قد سأل بهم الوادي فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فكر الناس وتصدعوا (¬1) عنه) (¬2) ورجعوا والغيظ يملؤهم .. لكنهم ما كانوا ليتركوا فرصة صفاء لمحمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه .. ما كانوا ليتركوا دقيقة صفاء إلا وحاولوا التسلل لتعكيرها .. ها هم يجتمعون مرة أخرى .. ويقررون: الذهاب إلى أبي طالب كما أن العاص قد أجار عمر .. فإن أبا طالب يحمي ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم ولا بد من التدخل في تلك الحماية .. لا بد أن تكون تلك الحماية بشروطهم .. لا بد من الضغط عليه وعلى عمه لعله يتراجع. ¬

_ (¬1) تفرقوا عنه. (¬2) متفق عليه.

وكان ذلك التراجع هو الحلم لقريش .. وهو الأمل عندما (جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال لابنه: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد. يقول عقيل: فانطلقت إليه، فاستخرجته من خيس (¬1) -بيت صغير- فجاء به في الظهيرة، في شدة الحر، فجعل يطلب الفىء (¬2)، يمشي فيه من شدة الحر الرحض (¬3)، فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق (¬4) رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة. فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي فارجعوا) (¬5). لقد امتزج هذا الدين بلحمه ودمه .. ¬

_ (¬1) ويعني أيضًا بيت الأسد. (¬2) الظل. (¬3) العرق. (¬4) أي رفع وأجال. (¬5) إسناده جيد، رواه البخاري في تاريخه (7/ 51) والبيهقيُّ (2/ 186) من طريق: يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى بن عبد الله، عن مرسى بن طلحة، قال: أخبرني عقيل بن أبي طالب قال: جاءت قريش إلى أبى طالب: .... يونس بن بكير بن واصل الشيباني حديثه حسن، انظر التقريب (2/ 384) والتهذيب وطلحة بن يحيى من رجال مسلم وهو حسن الحديث إذا لم يخالف، أما مرسى بن طلحة ابن عبيد الله التيمي فهو تابعي ثقة جليل، ويقال إنه ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (التقريب 2/ 284) وقد وردت هذه القصة بسند ضعيف ولفظ مختلف عند ابن إسحاق والبيهقيُّ (2/ 187) وقد جاء فيها لفظ: يا عم لو وضعت الشمس في يمينى والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك في طلبه، وسبب ضعف هذا اللفظ هو أن راوي الحديث هو يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس لم يذكر من هو شيخه بل قال: حدثت أن قريشًا قالت: ... ثم الحديث هناك جهالة الصحابي، وجهالة التابعي أيضًا لأن ترجمته في التهذيب ليس فيها =

الاضطهاد من جديد

فتألق معه وسما .. وأنتم أعجز من أن تنهضوا من مستنقعات الوحل والطين .. إنكم تتمرغون فيه وتصنعون منه أصنامكم .. فأين أنتم من الشمس والهواء النقي .. وأين أنتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أدركت قريش ذلك فعادت إلى: الاضطهاد من جديد ها قد سقط أمل كان يترنح في الأفق .. واتضحت الرؤية على أرض مكة .. إما الله وإما الأصنام .. إما التوحيد وإما الشرك .. لا جسور بينهما ولا اتصال .. سقط أحد الآمال التي كانت تحمله قريش فأغضبها ذلك السقوط .. وأغضبتها تلك الهزيمة .. فعزمت على العودة من جديد .. للتعذيب من جديد .. وسيكون هذه المرة أقسى وأغلظ وأشد .. ستصل أنيابه إلى الجميع دون تفريق .. لقد قررت قريش أن تملأ مكة بالدماء .. ها هم وقد أمسكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يضربونه ضربًا شديدًا حتى أسالوا دمه .. فيهرب هائمًا مغمومًا كئيبًا .. فيأتيه جبريل عليه السلام (وهو جالس حزينًا قد خضب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، فقال له: ما لك؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: فعل بي هؤلاء .. وفعلوا .. فقال جبريل: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم. فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع تلك الشجرة. ¬

_ = ذكر صحابي واحد ضمن شيوخه، فهو كما قال العلامة الألباني: من أتباع التابعين. انظر التهذيب (13/ 192) وانظر تعليق الإِمام الألباني على فقه السيرة الغزالي (109 - 110).

الهجرة إلى الحبشة ثانية

فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه. فقال جبريل: مرها فلترجع. فأمرها، فرجعت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي) (¬1) آية عظيمة .. تسليه صلى الله عليه وسلم .. تمسح عنه دماء نازفة .. ودموعًا حارقة. فيعود لمكة مرة أخرى .. متخفيًا عن أعين القوم وأيديهم .. فيجد أتباعه يفترشون الرمضاء .. يلتحفون السياط يعجون إليه يطلبون الإذن بالهجرة من جديد فيأذن لهم .. وكانوا هذه المرة أكثر من ثمانين صحابيًا معذبًا .. يريدون أن يعبدوا الله بحرية .. ويعمروا الدنيا بسلام .. فأذن لهم صلى الله عليه وسلم. الهجرة إلى الحبشة ثانية إحدى المعذبات هي أم سلمة رضي الله عنها .. تحدثنا عن رحلة الآلام كاملة فتقول: (لما ضاقت علينا مكة، وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم (¬2) .. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) إسنادٌ صحيحٌ: رواه الإِمام أحمد (الفتح الرباني 20/ 220)، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك، والأعمش مدلس وقد عنعن، لكن يذهب شبهة تدليس كونه راوية شيخه التابعي الثقة: أبي سفيان، طلحة بن نافع القرشى، فقد جاء في التهذيب (5/ 26): روى عنه الأعمش وهو راويته، وقال ابن روى عنه الأعمش أحاديث مستقيمة، بالاضافة إلى أن تلميذ الأعمش الثقة: أبو معاوية: محمَّد بن حازم الكوفي قد قال عنه وكيع ما أدركنا أحدًا كان أعلم بحديث الأعمش من أبي معاوية هذه الميزات في الشيخ والتلميذ تنفى شبهة التدليس. (¬2) مر معنا تخريج هذا الجزء.

إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه. فخرجنا إليها أرسالًا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار، وإلى خير جار، آمنًا على ديننا ولم نخش منه ظلمًا. فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارًا وأمنًا اجتمعوا على أن يبعثوا إليه (¬1) فينا، فيخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم. فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا، ولبطارقته (¬2)، فلم يدعوا رجلًا منهم إلا هيأوا له هدية على حدة، قالوا لهما: ادفعوا إلى كل بَطْرِيق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمكم فافعلوا. فقدما علينا، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، وكلموهم، فقالوا لهم: إنا قدمنا إلى هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه، فأشيروا عليه أن يفعل. فقالوا: نفعل. ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم (¬3)، فلما أدخلوا عليه هداياه، قالوا له: ¬

_ (¬1) أي إلى النجاشي. (¬2) البطريق أو البطريرك هو رئيس الأساقفة والأسقف العالم النصراني وهو فوق القس والقس غالبًا هو المتفرغ للعبادة وخدمة الكنيسة. (¬3) الجلود.

أيها الملك، إن فتية من سفهائنا فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجأوا إلى بلادك، فبعثنا إليك فيهم عشائرهم: آباؤهم، وأعمامهم، وقومهم لتردهم فهم أعلاهم عينًا. فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددهم عليهم كانوا أعلاهم عينًا، فإنهم لم يدخلوا في في دينك فتمنعهم بذلك، فغضب، ثم قال: لا، لعمر الله لا أردهم إليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجأوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أحل ما بينهم وبينهم، ولم أنعمهم (¬1) عينًا. فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شىء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم. فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم، فقال: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول: نقول والله ما نعرفه، وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما كان. فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه، فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر: ¬

_ (¬1) نعمة العين أي قربتها، أي أقر أعينكم برجوعهم إليكم.

أيها الملك، كنا قومًا على الشرك، نعبد الأوثان، نأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئًا ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبيًا من أنفسنا، نعرف وفاءه، وصدقه، وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلى لله، ونصوم له، ولا نعبد غيره. فقال النجاشي: فهل معك شىء مما جاء به -وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله- هلم فاتل على ما جاء به. فقرأ عليه صدرًا من: {كهيعص (1) {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ

غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ في الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} (¬1). فبكى والله النجاشى حتى اخضلت لحيته (¬2)، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة (¬3) التي جاء بها عيسى، انطلقوا راشدين، ولا والله لا أردهم عليكم، ولا أنعمكم عينًا. ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس ليس في نص الحديث ,لكن جعفرًا قرأه بالتأكيد وقد ذكرته ليستشعر القارئ ذلك الموقف .. ولم أكمل الآيات لأنه لم يقرأ السورة كاملة , ثم إنه من المؤكد كما يفيد السياق أنه لم يقرأ ما بعدها. لأن الآيات التي تلي هذه الآيات تتحدث عن وحدانية الله، وعن بشرية عيسى، ولو قرأها لما تكلم عمرو بن العاص فيما بعد. (¬2) تبللت بالدموع. (¬3) الكوة إلى في الجدار يوضع فيها المصباح. أي أنه من المصدر نفسه.

فخرجنا من عنده، وكان أبقى الرجلين فينا (¬1) عبد الله بن أبي ربيعة، فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدًا بما أستأصل به خضراءهم (¬2) إنهم يزعمون إن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم: عبد. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن لهم رحمًا، ولهم حقًا. فقال عمرو بن العاص: والله لأفعلن. فلما كان من الغد دخل عليه فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم رسولًا فاسألهم عنه، فبعث إليهم- ولم ينزل بنا مثلها، فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سالكم عنه؟ فقال: نقول والله الذي قال الله تعالى فيه، والذي أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقول فيه، فدخلوا عليه، وعنده بطارقته، فقال: ماذا تقول في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول عبد الله ورسوله، وكلمته (¬3)، وروحه (¬4)، ألقاها إلى مريم العذراء البتول (¬5) فدلى النجاشي يده إلى الأرض، وأخذ عويدًا بين إصبعيه، فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد (¬6). ¬

_ (¬1) أي أشفق وأرحم. (¬2) أصلهم. (¬3) كلمة الله: أي قول الله كن فيكون، كما قال لآدم كن فكان بلا أب ولا أم. (¬4) روح الله، مثل قولك للكعبة إنها: بيت الله. (¬5) العذراء المنقطعة عن الزواج. (¬6) تصغير كلمة عود. أي أن عيسى هو كما وصفه القرآن الكريم.

فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم في أرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم -ثلاثًا- ما أحب أن لي دبرًا وأني آذيت رجلًا منكم -والدبر بلسانهم: الذهب- والله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها فاخرجا من بلادي. فرجعا مقبوحن مردودًا عليهما ما جاءا به. فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزنًا قط كان أشد منه فرقًا من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف، فجعلنا ندعو الله ونستغفره للنجاشي، فخرج إليه سائرًا. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر ما يكون، فقال الزبير- وكان من أحدثهم سنًا: أنا. فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي، فجاءنا الزبير يليح علينا بردائه، ويقول: ألا أبشروا، فقد أظهر الله النجاشي. فوالله ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعًا إلى مكة وأقام من أقام) (¬1). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في نهاية الخبر التالي، فهو جزء منه.

هذه هي قصة النجاشي مع المهاجرين فما هي قصة الرشوة التي تحدث عنها ذلك الملك الطيب .. هدية الحبشة للإسلام .. وما معنى قوله: (ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه)؟ ذلك أمر حدث بين أنهار الحبشة وأدغالها، تحدثنا عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: (إن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ من صلبه اثنا عشر رجلًا، ولم يكن لأبي النجاشى ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها، فقالوا: إنا إن قتلنا أب النجاشى وملكنا أخاه، فإن له اثني عشر رجلًا من صلبه فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرًا طويلًا لا يكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه، فقتلوه، وملكوا أخاه، فدخل النجاشي لعمه حتى غلب عليه، فلا يدير أمره غيره، وكان لبيبًا، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: لقد غلب هذا الغلام أمر عمه، فما نأمن من أن يملكه علينا وقد عرف أنا قد قتلنا أباه، فإن فعل لم يدع منا شريفًا إلا قتله، فكلموه فيه، فلنقتله أو نخرجه من بلادنا فمشوا إليه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قد قتلنا أباه، وجعلناك مكانه، وإنا لا نأمن أن تملكه علينا فيقتلنا، فإما أن نقتله، وإما أن تخرجه من بلادنا، فقال: ويحكم قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم، بل أخرجه من بلادكم، فخرجوا به، فوقفوه بالسوق، فباعوه من تاجر من التجار، فقذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة درهم .. فانطلق به، فلما كان العشي هاجت سحابة الخريف، فجعل عمه يتمطر تحتها، فأصابته صاعقة، فقتلته،

ففزعوا إلى ولده، فإذا هم محمقين (¬1) ليس في أحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي (¬2) بعتم بالغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب. فخرجوا في طلبه حتى أدركوه، فردوه فعقدوا عليه تاجه، وأجلسوه على سريره، وملكوه، فقال التاجر: ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي، فقالوا: لا نعطيك، فقال: إذًا والله أكلمه .. فقالوا: وإن. فمشى إليه فكلمه فقال: أيها الملك، إني ابتعت غلامًا فقبضوا مني الذي باعونيه ثمنه، ثم عدموا على غلام، فنزعوه من يدي، ولم يدروا علي مالي، فكان أول ما خبر من صلابة حكمه وعدله أن قال: لتردون عليه ماله، أو ليجعلن غلامه في يده، فليذهبن به حيث شاء، فقالوا: بل نعطيه ماله. فأعطوه إياها، ولذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة منه حيث رد علي ملكي، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه) (¬3). ¬

_ (¬1) الحمق: قلة العقل. (¬2) لا يصلح أمركم غير النجاشى الذي بعتم. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (2/ 301) وأحمدُ (الفتح الرباني (20/ 224) حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وهذان الإسنادان صحيحان, الزهري إمام ثقة ثبت معروف، وأبو بكر تابعى ثقة فقيه عابد (التقريب 2/ 398) وعروة تابعى معروف.

ذلك هو النجاشى .. وتلك قصة تتويجه .. تتويج العدالة الحبشية .. ذلك الملك الأسمر نال شهادته من السماء بعد أن عدل بين شعبه .. نال شهادته قبل أن ينصف المسلمين .. لقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يظلم أحد عنده) قبل أن يصل أصحابه .. قبل أن يسمعوا عنه .. قبل أن يحكم بالحق. فلتهنأ الحبشة بسبقها .. فلقد أنصفت المسلمين من براثن مشركي قريش .. وآوتهم بعد أن ضاقت عليهم مكة. في حين كانت يد قريش تمتد في حقد عجيب .. في تسلط حقير لتكمم الأنوف والأفواه .. وتمنع الهواء .. إنها تحسدهم على أرض يمشون عليها .. وتحسدهم على حصير يلقون عليه أجسادهم التي نخرها الترحال والشقاء .. ترى أي قلوب كانت تضمها أجساد المشركين حتى يركضوا خلف الراحلين .. ويدفعوا الرشوة لطرد هؤلاء الضعفة المساكين .. رجلان أرسلتهما قريش: عمرو بن العاص .. وعبد الله بن أبي ربيعة. دعونا نستمع إلى أحدهما: عمرو بن العاص يقص علينا قصته .. وأثرها في نفسه .. بالطبع هي قصة الوجه البشع .. رسول قريش في تلك الأزمنة العصيبة على الإِسلام .. كيف كان يرى عمرو رحلته .. وماذا تكشف له بعد أن سمع ورأى ما حدث. يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: (لما رأيت جعفرًا وأصحابه آمنين بأرض الحبشة. قلت: لأفعلن بهذا وأصحابه، فأتيت النجاشي، فقلت: ائذن لعمرو بن العاص. فأذن لي، فدخلت. فقلت: إن بأرضنا ابن عم لهذا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنا والله

إن لمن ترحنا منه وأصحابه، لا أقطع إليك هذه النطفة (¬1) أبدًا، ولا أحد من أصحابي، فقال: أين هو؟ فقال عمرو: إنه يجيء مع رسولك، إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولًا. فوجدناه قاعد بين أصحابه، فدعاه، فجاء، فلما أتيت الباب ناديت: ائذن لعمرو بن العاص. ونادى خلفي: ائذن لحزب الله عَزَّ وَجَلَّ، فسمع صوته، فأذن له، فدخل ودخلت، فإذا النجاشي على السرير، وجعلته خلف ظهري، وأقعدت بين كل رجلين من أصحابه رجلًا من أصحابي فسكت وسكتنا، وسكت وسكتنا، حتى قلت في نفسي: العن هذا العبد الحبشي ألا يتكلم .. ثم تكلم، فقال: نجروا -أي تكلموا. فقلت: إن ابن عم هذا يزعم إنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك والله إن لم تقتله لا أقطع إليك هذه النطفة أبدًا، أنا ولا أحد من أصحابي. فقال النجاشي: يا أصحاب عمرو ما تقولون؟ قالوا: نحن على ما قال عمرو. قال النجاشي: يا حزب الله نجر. فتشهد جعفر - والله إنه لأول يوم سمعت فيه التشهد ليومئذ. ¬

_ (¬1) النطفة هي الماء الصافي، وربما أراد بها البحر.

قال جعفر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال النجاشي: فأنت فما تقول. قال جعفر: أنا على دينه، فرفع يده ثم وضعها. ثم قال النجاشي: أناموسٌ كناموس موسى، ما يقول في عيسى؟ قال جعفر بن أبي طالب: يقول: روح الله وكلمته. فأخذ النجاشي شيئًا من الأرض ثم قال: ما أخطأ فيه مثل هذه، لولا ملكي لأتبعتكم. اذهب أنت يا عمرو، فوالله ما أبالي أن لا تأتيني أنت ولا أحد من أصحابك أبدًا، واذهب أنت يا حزب الله. فأنت آمن، من قتلك قتلته، من سبك غرمته. وقال لآذنه: انظر هذا فلا تحجبه عني إلا أن أكون مع أهلي، فإن كنت مع أهلى فأخبره، فإن أبى إلا أن تأذن له فأذن له. فلما كان ذا عشية لقيته (¬1) في السكة، فنظرت خلفه، فلم أرَ خلفه أحد، فأخذت بيده، فقلت: تعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فغمزني، وقال: أنت على هذا، فما هو إلا أن أتيت أصحابي كأنما شهدوني وإياه، فما سألوني عن شىء حتى أخذوني فصرعوني، فجعلوا على وجهى قطيفة، وجعلوا يغمونني (¬2) بها، وجعلت أخرج رأسي أحيانًا حتى أنفلت عريانًا، ¬

_ (¬1) أي لقى جعفر بن أبي طالب. (¬2) يغطونني.

ما على قشرة، ولم يدعوا لي شيئًا إلا ذهبوا به، فأخذت قناع امرأة عن رأسها، فوضعته على فرجي، فقالت لي: كذا. وقلت: كذا. كأنها تعجبت مني، وأتيت جعفرًا فدخلت عليه بيته، فلما رآني قال: ما شأنك؟ قلت: ما هو إلا أن أتيت أصحابي فكأنما شهدوني وإياك، فما سألوني عن شيء حتى طرحوا على وجهي قطيفة، غموني بها أو غمزوني بها، وذهبوا بكل شىء من الدنيا حولي، وما ترى علي إلا قناع حبشية أخذته من رأسها. فقال جعفر: انطلق. فلما انتهينا إلى باب النجاشي نادى: ائذن لحزب الله، وجاء آذنه فقال: إنه مع أهله. فقال جعفر: استأذن لي عليه، فاستأذن له عليه، فأذن له، فلما دخل. قال جعفر: إن عمرو قد ترك دينه واتبع ديني، قال النجاشي: كلا. قال جعفر: بلى، فدعا آذنه، فقال: اذهب إلى عمرو، فقال: إن هذا يزعم إنك تركت دينك واتبعت دينه. فقلت:

أما في مكة

نعم. فجاء إلى أصحابي حتى قمنا على باب البيت، وكتبت كل شىء (¬1) حتى كتبت المنديل فلم أدع شيئًا ذهب إلا أخذته، ولو أشاء أن آخذ من أموالهم لفعلت. ثم كنت بعد من الذين أقبلوا في السفن مسلمين) (¬2). هذا ما حدث في الحبشة. أمَّا في مكة بعيدًا عن الحبشة، خلف آلاف الأميال خلف البحار خلف الجبال .. وسط لهب من الكفار كان صلى الله عليه وسلم صامدًا لا يذوب لا ينثني .. قد أدرك أن قريشًا تعاند .. فلا بد من البحث عن تربة خيرًا من هذه التربة .. خيرًا من هذه الصخور الصلبة التي لا تنبت إلا القسوة .. لا بد من البحث عن قبائل تحتضن الدعوة .. تساندها وتدافع عنها وتجمع أشتاتها .. فدعاتها هاربون دائمًا .. هائمون دائمًا .. وغربتهم موحشة مضنية قد أذابتهم الأحزان .. وطوحتهم الأيام خلف الجبال والبحار وبين اللحود .. يتلفتون كأنهم قد سرقوا الإيمان سرقة .. يتلفتون خشية أن يؤخذ منهم .. يفزعون عند سماعهم خشف نعال .. أو طرق باب .. يفزعون فزع من حكم عليه بالإعدام .. فهو في زنزانته ينتظر الجلاّد ويرى الجلاد قادما مع كل حركة مع كل همسة .. يحس الموت يحصي بقية أنفاسه. فهل من مخرج. ¬

_ (¬1) أي كتب عمرو بن العاص كل ما سلبه رفاقه المشركون منه ليرده النجاشى إليه منهم. (¬2) إسناده حسن، رواه البزار، كشف الأستار (2/ 297): حدثنا محمَّد بن المثنى: حدثنا معاذ، حدثنا ابن عون، حدثني عمير بن إسحاق، حدثني عمرو بن العاص قال: وهذا الإسناد جيد. محمَّد بن المثني بن عبيد المعروف بالزمن ثقة من رجال الستة. التقريب (20/ 240) ومعاذ بن معاذ بن نصر: ثقة متقن، وابن عون اسمه: عبد الله بن عون بن أرطبان المرني: ثقة ثبت فاضل. وعمير بن إسحاق تابعي حسن الحديث والكلام فيه لا يضر ولا ينزله عن رتبة الحسن.

يقول ربيعة الديلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا. ويدخل في فجاجها (¬1) والناس متقصفون (¬2) عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا). نعم .. تفلحوا إنه لا يريد مالكم ولا متاعكم .. ما يريده هو العودة بهذا القطيع الشارد إلى موارد الماء والكلأ .. بعد أن تاه في صحاري الشرك الشاسعة .. التي تقطع الأعناق باللهاث خلف سرابها. لكن قريشًا لا تدعه .. لا ترحمه .. حتى وهو يخاطب من ليس منها لا تدعه .. يصف ربيعة ما رأى فيقول: (إلا أن وراءه رجلًا أحول وضىء الوجه، ذا غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا محمد بن عبد الله وهو يذكر النبوة. قلت: من هذا الذي يكذبه. قالوا: عمه أبو لهب) (¬3). ¬

_ (¬1) الفجاج الطريق الواسع. (¬2) مجتمعون عليه. (¬3) حديثٌ حسنٌ. أي لغيره. لأن الإِمام أحمد رواه (الفتح الرباني 20/ 216) من طريق عبد الرحمن ابن أبي الزناد، وقد ساء حفظه عندما قدم بغداد، وربما كان هذا الحديث منها، وبقية رجاله ثقات، وللحديث شاهد قوي يجعله حسنًا. وهو الحديث التالي.

كأن السورة التي نزلت فيه وفي امرأته أضرمت بيته .. فصار لا يقر له قرار وهو يرى عاره على كل لسان .. وفي كل نظرة لهبًا يشويه .. إنه التشفى ومحاولة إطفاء متأخرة لما قد احترق منه .. إن إسلام المزيد من الناس يعني لأبي لهب المزيد من شتمه والتقرب إلى الله باحتقاره وبغضه .. إنه يمارس التحطيم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ولو فر منه .. يركض خلفه لا يطلب الراحة لنفسه ولا لغيره .. وكيف يجدها وقد حشته ظلث الآيات جمرًا .. يقول ربيعة: (رأيت أبا لهب بعكاظ وهو يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: يا أيها الناس إن هذا قد غوى فلا يغوينكم عن آلهة آبائكم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه، وهو على أثره، ونحن نتبعه ونحن غلمان، كأني انظر إليه أحول ذا غديرتين، أبيض الناس وأجملهم) (¬1) بل ومن أشرفهم نسبًا .. لكن ذلك كله لا يجدي شيئًا في رجل حشرت في رأسه كل رموز التخلف والشرك والهمجية .. لا شىء سوى كتلة متورمة من الأحقاد والضغائن تتدحرج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتجاهله ويصوب بصره نحو الأمام .. يتبع القبائل كلها .. ويقف أمامها كلها .. يتلمس خيامها في كل سنة تنصب فيه تلك الخيام .. يدلف كل خباء .. يبحث فيه عن قلوب تتلمظ فيها الفطرة والعطش .. فيصغي إليها من سحاب التوحيد العذب والحياة الصافية مع الله ما يرويها ويذهب عطشها. كان يغشى أسواقهم التي يقيمونها كل عام .. للتجارة والشعر ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ، رواه أحمد (المصدر السابق 20/ 217)، حدثنا مصعب الزبير، وهو عالم صدوق، حدثط عبد العزيز بن محمَّد الداروردي وحديثه هنا حسن لأنه عن غير عبيد الله العمري، عن ابن أبي ذئب: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة وهو ثقة فاضل فقيه، عن سعيد بن خالد القرظي، وهو تابعى صدوق. انظر التهذيب (4/ 20). وهو شاهد لما قبله.

والأدب .. يغشاها ينثر في دروبها عبير الإيمان ويبحث عن أنصار .. وكان بصحبته رفيق طفولته .. وصدِّيق نبوته أبو بكر الصديق .. وشاب كله حياة .. هو وابن أخيه علي بن أبي طالب الذي يقول: (لما أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر رضي الله عنه) (¬1). لقد (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في كل سنة على القبائل من العرب أن يؤوه إلى قومهم حتى يبلغ كلام الله عَزَّ وَجَلَّ ورسالاته، ولهم الجنة) (¬2). لقد (لبث عشر سنين يتبع الحجاج في منازلهم في المواسم: مجنة، عكاظ ومنازلهم بمنى: من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة) (¬3) عشر سنوات يتلطف مع (بني حنيفة) و (كندة وكلب) يذهب إلى (بني عبس وهمدان) وله مع (بني عامر بن صعصعة) لقاعات .. عشر سنوات من الصبر والمكابدة (يتبع القبائل ووراءه رجل أحول وضيء (¬4) ذو جمَّة (¬5) , يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة ويقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به ¬

(¬1) قطعة من حديث طويل صحيح سيمر معنا إن شاء الله. عند الحديث عن لقاء الأنصار، ومجلس المفروق. (¬2) حديثٌ حسنٌ بما بعده لأنه من طريق: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو رجل صالح عابد صدوق في نفسه لكن في حديثه بعض الاضطراب, لكن شهد له ما بعده وقد روى هذا الحديث الطبراني وأبو نعيم (292). (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ وسيمر معنا كاملًا عند الحديث عن لقاء الأنصار إن شاء الله. (¬4) حسن وجميل. (¬5) ما ترامى من شعر الرأس على المنكبين.

إسلام أبي ذر الغفاري

شيئًا، وأن تصدقوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال الآخر من خلفه: يا بني فلان إن هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الحي بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه) (¬1). كانت أخباره تنتقل في كل اتجاه من جزيرة العرب فتصادف هذه المرة قلبًا لرجل من غفار: إسلام أبي ذر الغفاري لقد تعب أبو لهب من الركض خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتعب يديه وتعبت زوجته من هذا التراب ينثرونه فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والشوك يغرزونه في طريقه .. لقد تعب أبو لهب وأتعب معه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لكن تلك السنوات من الصبر والعرق كانت كفيلة بانتشار عبير الإِسلام فأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تطايرت هنا وهناك .. فصادفت قلوبًا مفتوحة .. ¬

_ (¬1) إسناده قوى: رواه الإِمام أحمد (الفتح الرباني 20/ 217) فقال: حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا ابن أبي زائدة قال. قال ابن إسحاق: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، قال: سمعت ربيعة الديلي يقول: وقال أحمد أيضًا: حدثنا سعيد بن أبي الربيع السمان، حدثني سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، حدثنا محمَّد بن المنكدر أنه سمع ربيعة الديلي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس. بمنى ... من هذين الطريقين طريق ضعيف، وهو الإسناد الأول؛ لأنه من رواية حسين بن عبد الله ابن عبيد بن عباس، قال الحافظ في التقريب (1/ 176): ضعيف لكن يشهد له الطريق الثاني فهو به قوي، فشيخ أحمد: سعيد بن أبي الربيع السمان صدوق، قال ابن حبان: يعتبر حديثه من غير روايته عن أبيه. وهذه ليست منها. انظر ذيل الكاشف (118) وشيخه سعيد بن سلمة صدوق أيضًا. انظر التهذيب (2/ 41) وشيخه محمَّد بن المنكدر ثقة فاضل قاله في التقريب (2/ 210).

نفوسًا فسيحة .. فتعلقت بما سمعت وعشقته .. وأتعبت مطاياها في البحث عنه .. قلب أبي ذر من تلك القلوب .. ها هو يحدث من حوله عن ذلك الحب .. عن ذلك الشوق فيقول: (كنت رجلًا من غفار، فبلغنا أن رجلًا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل، كلمه، وائتنى بخبره. فانطلق، فلقيه، ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلًا يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفنى من الخبر. فأخذت جرابًا وعصًا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد، فمر بي علي، فقال: كأن الرجل غريب؟ قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل. فانطلقت معه لا يسألني عن شىء، ولا أخبره، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشىء , فمر بي علي. فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قلت: لا. قال: انطلق معي. فقال علي: ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدة؟ قلت له: إن كتمت علي أخبرتك. قال: فإني أفعل. قلت له:

بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفنى من الخبر، فأردت أن ألقاه، فقال علي بن أبي طالب: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه، فاتبعني، ادخل حيث أدخل، فإن رأيت أحدًا أخافه عليك. قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامضِ أنت، فمضى ومضيت معه، حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: اعرض علي الإِسلام. فعرضه فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد، وقريش فيه. فقال أبو ذر: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا، فضربت لأموت، فأدركنى العباس، فأكب علي، ثم أقبل عليهم، فقال: ويلكم، تقتلون رجلًا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار. فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع مثل ما صنع بالأمس، وأدركنى العباس، فأكب علي، وقال مثل مقالته بالأمس) (¬1). كان الشرك رعبًا تطوف أشباحه في دروب المسلمين فترقب أبوابهم وأفواههم .. علي بن أبي طالب لا يستطيع التحدث بالأمر خوفًا على ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري.

أبو بكر يهاجر

رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأبو ذر كذلك .. ولما سأل علي ضيفه سؤالًا عاديًا .. كان الجواب غير عادي .. لقد سأله علي -رضي الله عنه- فقال: (ألا تحدثني ما الذي أقدمك. قال أبو ذر: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدنني فعلت. ففعل، فأخبره) (¬1). إن على الكلمات رقيبًا .. وما لم تثق بمحدثك فإن الكلمات مجازفة بالحياة .. والصمت أسلم .. وبعد أن أسلم أبو ذر .. لم يعطه صلى الله عليه وسلم شيئًا غير الشهادتين .. لم يخبره عمن أسلم حتى أنه كان يقول: (كنت ربع الإِسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع) ومن المعروف أن هناك الكثير ممّن أسلم قبله .. ولم يعده النبي صلى الله عليه وسلم بنصر في الدنيا .. بل إنه لم يتدخل إطلاقًا عندما ضربه كفار قريش وكاد أن يموت بين أيديهم .. لقد أشار عليه صلى الله عليه وسلم بالكتمان وأمره بالرجوع إلى أهله .. لكن حماس أبي ذر طغى فنال من قريش ما نال. أبو بكر الصديق يناله العذاب أيضًا .. يؤذونه ويشتمونه ويتعرضون له في الطرقات حتى أصبحت مكة أضيق من موضع قدميه .. عندها قرر الهجرة إلى أرض يجد فيها شمسًا وهواء وعبادة .. بعيدًا عن أرجاس الطغاة وسياطهم .. أبو بكر يهاجر تقول عائشة بنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهم: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين .. ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار .. بكرة وعشية .. فلما ابتلي المسلمون .. خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد .. لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة- فقال: ¬

_ (¬1) جزء من حديث صحيح. رواه البخاري وهو الحديث السابق مع اختلاف بسيط في الألفاظ.

(أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجى قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يُخرج، ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا جار لك، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش. فقال لهم: إن أبا بكر لا يُخرج مثله ولا يخرج، أتُخرجون رجلًا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها , وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكاءًا، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا قد أجرنا أبا بكر بجوارك، على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك،

دماء رسول الله

فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: قد علمت الذي عاقدت عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني اُخْفِرتُ في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عَزَّ وَجَلَّ) (¬1). فقام ابن الدغنة، فقال: (يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري، فشأنكم بصاحبكم) (¬2) وكانت قريش وسفهاؤها بالانتظار، ولن يشك أحد بهجوم أحد هؤلاء المجرمين فيضربه رضي الله عنه، أو يدميه، أو يحثو في وجهه التراب، فليس له من نصير سوى الله، وسيتحمل في سبيله كل ما يصادفه، أما رفاقه فشاردون في الشعاب والأودية، هاربون من بطش قريش المفزع. وأما نبيهم فقد نزف دمه وتفاقم جرحه وألمه. دماء رسول الله في أحد أيام المعاناة .. أيام مكة الملتهبة .. (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فلم يقم ليلتين أو ثلاثًا، فجاءت امرأة فقالت: إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثًا (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري. (¬2) رواه ابن إسحاق بسند صحيح (ابن هشام 2/ 16) حدثني محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة عن عائشة، وعروة والزهري تابعيان إمامان ثقتان. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير 4/ 522) من طريق أبي أسامة، حدثني سفيان، حدثني الأسود بن قيس، أنه سمع جندب يقول: رُمِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه فقال: .. وهذا الإسناد صحيح. الأسود تابعى ثقة. انظر التقريب (1/ 76) وسفيان =

ولم تكن هذه المرأة الجاهلة ترمي إلى أكثر من التشفي، أما ما حدث فهو أنه قد رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه، فقال: (هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت فمكث صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثًا لا يقوم، فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزلت (¬1): {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}. أيها النبي النازف، المتهم .. ها هو العظيم يقسم أنه ما تركك، وما تخلى عن نصرتك .. فلا تستمع لهؤلاء المرتكسين. لديك مهمة فأدها، وجزاؤك أبدًا ليس في الدنيا .. إنه هناك في الجنة .. في الفردوس {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}: لكن وأنت في زحمة الأذى وتداعي المصائب .. ومحاولات الإحباط .. وأنت في هذا كله تذكر نعمة الله عليك .. وإياك إياك أن تنسى ذلك المنكسر .. الذي تمتد يداه .. تحوم عيناه يبحث عن أبيه .. فيجيبه اليتيم بالنحيب .. كن له أبًا .. قد كنت يتيمًا فتذكر مرارة اليتم .. وكنت مسكينًا فلا تنهر مسكينًا .. ولا ترد يده .. ولا تعرض عنه .. ¬

_ = هو وابن سعيد الثورى الإِمام الثقة الحافظ المعروف، وتلميذه صرح بالسماع منه واسمه: حماد بن أسامة، وهو ثقة ثبت، ولم يدلس هنا. (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن أبي حاتم (تصير ابن كثير 4/ 522) من طريق أبي أسامة، حدثني سفيان، حدثني الأسود بن قيس، أنه سمع جندب يقول: رُمِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه فقال: .. وهذا الإسناد صحيح. الأسود تابعي ثقة. انظر التقريب (1/ 76) وسفيان هو ابن سعيد الثورى الإِمام الثقة الحافظ المعروف، وتلميذه صرح بالسماع منه واسمه: حماد بن أسامة، وهو ثقة ثبت، ولم يدلس هنا.

عبس وتولى

حتى ولو كنت في درب لزب بالشواغل .. التفت إليه وواسه .. كم هي ثقيلة أمانة النبوة .. نبي كسير حسير يحتاج إلى مواساة فيؤمر بالمواساة للأيتام والكادحين والفقراء وإلا عوتب .. وإن كان نبيًا .. لقد نزلت كلمات عتاب أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب غفلة بسيطة عن أحد المساكن .. فما الذي حدث عندما: عبس وتولى نزل قول الله سبحانه وتعالى: {عبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} عتاب شديد أنزله الله سبحانه .. ووجهه إلى نبيه .. ولو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا لأخفى ذلك العتاب ومحاه .. ولم يطلع عليه أحدًا .. لكنها النبوة .. لكنه الأمين .. أما قصة ذلك العتاب فهي أن مسلمًا مسكينًا ضرير البصر اسمه: عبد الله بن أم مكتوم (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني -وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم - رجل من عظماء المشركين-، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول بأسًا، فيقول: لا) (¬1) فأنزل الله آياته تصحح الخطأ وتجبر الكسر .. ترى ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن جرير (30/ 32)، والواحدي (297) والحاكم والترمذيُّ وأبو يعلى، من طريق سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان الأموي، عن أبيه عن هشام عن أبيه عروة عن عائشة، وسعيد ووالده ثقتان، انظر التهذيب (11/ 213) و (4/ 98) وهشام ووالده ثقتان معروفان، فالسند صحيح.

كم يساوي ذلك الأعمى المسكن عند الله .. لقد استحق نزول آيات الجبار تعاتب نبيه فيه .. إنه في ميزان الإِسلام: رجل مسلم .. اختار الله ورفض الأوثان .. ولن يفرق الإِسلام يومًا بين مسكين وثري .. فالجميع بنيان متراص وطاقات متناغمة .. تسير بالإنسانية نحو جمال الحياة وصفائها .. وكما أن لهؤلاء المشركين حق الدعوة والتبشير .. فإن لهذا المسكين ولكل المساكين حقوقًا .. لقد أدب الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه .. فهو يذرع الأرض امتثالًا ويقول: (اللَّهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكن) (¬1). إنه يقول: (آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد) (¬2)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة، والساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله (¬3)، (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) (¬4)، يعني متجاورين فأين سيكون جار النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن في الفردوس الأعلى منها .. وذلك لا يعني إغفال الأغنياء والسادة المطاعين .. فإن إسلامهم نصر عظيم .. والحياة تقوم على تكاتف الفقير مع الغني .. لكن في أحوال السادة نزوع إلى الاحتفاظ بما حولهم .. فالجديد وإن كان صوابًا يزعج بعضهم .. يخشون أن يطمسهم .. ويسلب ما بأيديهم .. ويغير مواقعهم على الأرض .. فهم على بابه مترددون .. أولئك إرادتهم كالأوراق تنتظر الرياح .. أحد هؤلاء هو: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (1/ 398). (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه إسحاق بن راهويه، ومن طريقه رواه: البيهقي (2/ 198) والحاكم (2/ 506) عن: عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة عن ابن عباس، وهؤلاء الرواة ثقات أئمة معمر ثقة ثبت حافظ. التقريب (2/ 266) وأيوب بن أبي تميمة إمام ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، انظر التقريب (1/ 89). (¬3) أحاديث صحيحة. انظر صحيح الجامع الصغير (1/ 11) (2/ 23). (¬4) أحاديث صحيحة. انظر صحيح الجامع الصغير (1/ 11) (2/ 23).

الوليد بن المغيرة: مؤمن فكافر

الوليد بن المغيرة: مؤمن فكافر (فقد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالًا. قال الوليد: لِمَ؟ قال أبو جهل: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قبله. قال الوليد: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا. قال أبو جهل: فقل فيه قولًا، يبلِّغ قومك أنك منكر له. قال الوليد: وماذا أقول، فوالله ما فيكم أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني أفكر فيه. فلما فكر. قال الوليد: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ

انشقاق القمر

(27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} (¬1). إذا كان هذا وصفهم للقرآن وإنه ليس من كلام البشر .. ولا من كلام الجن فماذا يريدون إلا العناد .. ومعه شيء آخر هو العناد .. لذلك فقد سلكوا طرقًا عديدة .. يحاولون النفاذ من أحدها نحو نصر ما، وكان أحد هذه الطرق الملتوية: طلب المعجزات .. اجتمعوا يومًا حوله - صلى الله عليه وسلم - ثم طالبوه بأن يقدم لهم معجزة .. فأراهم: انشقاق القمر يا له من طلب غريب .. لا يراد منه سوى التعجيز ليجدوا لأنفسهم عذرًا للتكذيب .. ومع ذلك فقد تحققت المعجزة .. وأراها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء فهل غيَّرَ ذلك من موقفهم؟ يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - آية، فانشق القمر بمكة مرتين) (¬2). ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه إسحاق بن راهوية، ومن طريقه رواه: البيهقي (2/ 198) والحاكم (2/ 506) عن: عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة عن ابن عباس، وهؤلاء الرواة ثقات أئمة، معمر ثقة ثبت حافظ. التقريب (2/ 266) وأيوب بن أبي تميمة إمام ثقة ثبت حجة من كبار الفقهاء العباد، انظر التقريب (1/ 89). (¬2) متفق عليه.

(فقال كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم، فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به. فسئل السفار - وقدموا من كل جهة. فقالوا: رأينا) (¬1). وقالوا هم أيضًا: (محمَّد لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم) (¬2). وكان الناس ينظرون إليه من مواقع مختلفة، فهناك من رأى (الجبل من بين فرجتي القمر) (¬3)، وهناك من رأى (فلقة فوق الجبل، وفلقة دونه) (¬4). وهناك من رأى (فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل) (¬5). وسبب هذا الاختلاف في الوصف .. هو الاختلاف في الأماكن التي يقفون فيها أثناء الحدث .. فهذا أمام جبل .. وهذا خلف جبل .. وذاك هناك و .. ولا شك أن للمسافرين الذين قدموا وصفًا آخر .. لكنهم أحمعوا على أن الشق قد حدث .. وخسرت قريش أمام هذه المعجزة .. لتلجأ للاتهام مرة أخرى فتقول كما قال الوليد عن القرآن: سحر ¬

_ (¬1) رواه أبو داود الطيالسى (2/ 123) حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله: .. ورواه البيهقي واللفظ له من طريق أبى داود وهشيم. ولفظ هشيم هو هذا، وهذا رجال إسناده ثقات، أبو الضحى تابعى ثقة اسمه مسلم بن صبيح، انظر التهذيب (20/ 132) والمغيرة هو ابن مقسم ثقة متقن لكنه ربما دلس، لكنه توبع تابعه إمام مثله تمامًا هو الأعمش عند أبى نعيم. انظر سيرة ابن كثير (2/ 119). (¬2) متفق عليه. (¬3) انظر تخريج الحديث الأول فهو من طريقه. (¬4) رواه الإمام أحمد وابن جرير: عن سماك عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود، وهو حسن بالشواهد. (¬5) رواه البخاري ومسلم.

مواساة

مستمر .. سحر ذاهب ومضمحل. وفي ذلك أنزل الله سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ..} (¬1). وبعد هذا التكذيب وهذه المكابرة العارية المخيبة للآمال لم يترك الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - دون: مواساة بعد هذا التكذيب المفضوح .. يقص سبحانه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - قصصًا ماضية .. لأقوام قد مرت ودمرت .. يا محمَّد لم يكن قومك أول من كذب وعاند .. فلقد: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} (¬2) ثم يقص عليه كيف شرقوا بالاء وغرقوا .. كذلك {كَذَّبَتْ عَادٌ} (¬3) و {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} (¬4) ومثلهم {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} (¬5) ويختم هؤلاء الطغاة بأعتاهم إنهم آل فرعون: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر الدكتور زغلول النجار أحد كبار علماء الجيولوجيا في العالم معجزة شق القمر وأنها كانت سببا في إسلام داوسي موسى بيسكوك في حوار مع علماء ناسا الذين ذكروا اكتشافهم لهذه الحقيقة على سطح القمر .. حقيقة انشقاف القمر وأن آثارها لا زالت باقية حتى اليوم. (¬2) سورة القمر: الآية 9. (¬3) سورة الشعراء: الآية 123. (¬4) سورة القمر: الآية 23. (¬5) سورة القمر: الآية 33. (¬6) سورة القمر: الآية 42.

اعتراف أبي جهل بالحقيقة

ثم يتوجه السياق من الماضي المدفون إلى الحاضر الحي .. إلى قومك أهل مكة المشركين وإلى غيرهم ما دامت السماوات والأرض: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (¬1). لكن المشركين يدفنون الحق في أعماقهم .. ويعترفون به لكنه اعتراف كـ: اعتراف أبي جهل بالحقيقة حيث كان أحد دهاة العرب ودهاة الطائف وهو: المغيرة بن شعبة ولأول مرة يعرف صدقه - صلى الله عليه وسلم - .. لكن على لسان من؟ الإجابة مدهشة .. لأنها تومض كالجمر على لسان طاغوت قريش أبي جهل. يقول المغيرة: (إن أول يوم عرفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أني كنت أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهل: يا أبا الحكم، هلم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وإلى رسوله، أدعوك إلى الله. قال أبو جهل: يا محمَّد هل أنت منته عن سب آلهتنا، هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت، فنحن نشهد أن قد بلغت، فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حقًا ما اتبعتك. فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل أبو جهل على فقال: فوالله إني لأعلم أن ما يقول حق، لكن بني قصي. قالوا: ¬

_ (¬1) سورة القمر: الآيات 43 - 55.

الجنون تهمة جديدة

فينا الحجابة. فقلنا: نعم. قالوا: فينا الندوة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم. قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب، قالوا: منا نبي. والله لا أفعل) (¬1). طاغوت مكة لا ينكر النبوة .. لكنه يرفضها لأنها لم تكن في بيته يرفضها. لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس من أهل بيته .. إن أبا جهل يرفض أن يكون تابعًا لمنافسه في الرياسة والشرف .. يستحث قريشًا لمحاربة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه لا لمصلحة قريش .. لا ولا حبًا في قومه .. إنما حبًا لنفسه .. فلتذهب مكة وقريش للجحيم من أجل إرضاء غروره .. هذا هو منطق الطغاة .. يخفونه بألسنتهم فتفضحه أعمالهم .. ولم تقتصر التهم على تهمتي الكذب والسحر فـ: الجنون تهمة جديدة لا بد من إلصاق تهمة جديدة تبعد الناس عنه .. لا سيما عندما يسيل الحجيج نحو مكة .. ولا شيء يفر الناس منه مثلما يفرون من المجنون والمجذوم .. فليكن محمَّد مجنونًا .. قالتها قريش دون حياء .. الأمين صيروه مجنونًا .. وما يأتي به من آيات كريمة مجرد هراء .. يهذي به بلا وعي .. ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. رواه البيهقي (2/ 207) من طريق الحاكم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن المغيرة، وهذا الإسناد جيد وأحمدُ بن عبد الجبار سماعه للسيرة صحيح، وهشام بن سعد حسن الحديث. انظر التهذيب (11/ 39). وقد قال أبو داود: إنه أثبت الناس في زيد بن أسلم، وزيد بن أسلم كان يرسل لكن مع هذا الاحتمال فالحديث له من الشواهد ما يقويه عند البيهقي أيضًا، طريقان مرسلان، أحدهما عن الزهري والآخر عن أبي إسحاق.

فرية صدَّقها الأغبياء .. وصدَّقها العقلاء الذي حال بينهم وبن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ضباب كثيف من التهم والتحذير قبل أن يلقوه .. ويسمعوا منه .. أحد هؤلاء العقلاء رجل من (أزدشنوءة) .. اسمه (ضماد) قدم مكة .. وكان (يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهًا من سفهاء الناس يقولون: إن محمدًا مجنون .. فقال ضماد: آتى هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي، فلقيت محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وإن الله يشفي على يدي من يشاء، فهلم. فقال محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال له: وعلى قومك. فقال ضماد: وعلى قومي) (¬1). كلمات حق كشفت لهذا الطبيب كم هو مريض .. وكشفت له أي عملاق صادق ماثل أمامه .. ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - له ذلك لأنه ليس له موطئ قدم بمكة .. ولأن الإِسلام بحاجة إلى أمثاله من العقلاء ليتولوا نشر دين الله في أقوامهم. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم.

وحيد في حرة يثرب

وحيد في حرة يثرب لم يكن ضماد هو الوافد الوحيد الذي استمع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فهناك الكثير .. الكثير .. منهم من منعه الخوف من التَّفَوُّهِ فاكتفى بنظرات كلها حسرة .. وعاد بصمت إلى موطنه .. ومنهم من كشف عما يتردد في صدره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ثم عاد إلى دياره بالطريقة التي تعجبه .. لكن هناك من استمع إلى الحق حتى فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فلما هم أن يبوح بما في قلبه من إيمان .. ارتدت أنفاسه الحارة جمرًا .. حممًا بين أضلاعه .. عندما امتدت يد التسلط تحشو فمه بالتراب وتلجمه بالصمت .. فلم يتمكن من البوح إلا ساعة الممات .. ساعة لقاء ربه .. عندها تحول الحب شلال نور يزيح تراب الأصنام ويحطم قبضة المتسلط كان ذلك لما (قدم أبو الحيسر "أنس بن رافع" مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، وفيهم: "إياس بن معاذ"، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاهم، فجلس إليهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - لهم: هل لكم في خير مما جئتم له؟ فقالوا له: وماذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل علي كتاب. ثم ذكر لهم الإِسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ -كان غلامًا حدثًا-: أي قوم: هذا والله خير مما جئتم به. فأخذ أبو الحيسر "أنس بن رافع" حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس. وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكان وقعة (بعاث) بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند

سعد والفقراء

موته، أفم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره، ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلمًا، لقد كان استشعر الإِسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). تتحول الأشياء في أيدي المتسلطين إلى عصى وسياط حتى التراب استعملوه لتكميم الأفواه .. وما لهم لا يفعلون وهم يرون أبا لهب يتعقب ابن أخيه يسفي عليه التراب .. يقهره ويكذبه.، ويأمر الناس أن يقهروه ويكذبوه .. كأنه عار يريد التخلص منه .. فكيف بشاب مستضعف كإياس .. غيرته كلمات الحق .. فطواها وكتمها في نفسه .. ولما حل بحرة يثرب تماهت غربته في غوره .. تلتحم به ويلتحم بها .. ولما مد الموت يده إليه أخرج تلك الكلمات لمن حوله بعد أن هم بالرحيل .. وهَمَّ الخوف أيضًا بالرحيل .. وما كان يقوى على إظهارها عندما كان هائمًا بينهم .. وما كانوا ليطيعوه. يا لغربة الموحدين .. يا لحالهم .. لكن الله معهم يدافع عنه دائمًا كما دافع عن: سعد والفقراء فقد رفض سبحانه ذلك التعسف الطاغوتي .. وتك الأوامر العفنة التي انطلقت من أفواههم ... يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن ستة نفر، فقال المشركون: اطرد هؤلاء ¬

_ (¬1) إسناده جيد، رواه ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 53)، حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد. فابن إسحاق صرح بالسماع من شيخه، والحصين حسن الحديث قاله أبو داود، فقول الحافظ عنه في التقريب (1/ 182): مقبول، غير مقبول؛ لأنه لم يجرح، انظر التهذيب (2/ 381)، بل لقد قال الذهبي في الكاشف (1/ 237): ثقة. ومحمرد بن لبيد صحابي صغير روايته عن الصحابة، وفي الحديث تصريح بالسماع ممّن حضر الحادثة.

معجزة الذهب

عنك فلا يجترئون علينا - وكنت أنا وعبد الله بن مسعود، ورجل من هذيل، ورجلان قد نسيت اسمهما، فوقع في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما شاء الله، وحدث به نفسه (¬1)، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}) (¬2). لقد حار هؤلاء في أنفسهم وتخبطوا في مطالبهم .. فكل شيء حولهم يدينهم ويلوي أعناقهم .. ها هم في تخبطهم مرة أخرى يطلبون: معجزة الذهب فقد (قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا، نؤمن بك. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: وتفعلون؟ قالوا: نعم. فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك عَزَّ وَجَلَّ يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت، فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة. قال - صلى الله عليه وسلم -: بل باب التوبة والرحمة) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم وفضائل الصحابة والبيهقيُّ واللفظ له (1/ 353). (¬2) سورة الأنعام: الآيتان 52، 53. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه أحمد (الفتح الرباني 20/ 22) وحدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران بن الحكم، عن ابن عباس، وعبد الرحمن هو ابن مهدى =

يا لرحمته - صلى الله عليه وسلم - بهؤلاء الذين آذوه وقهروه وأذلوه .. إنه يطلب لهم الرحمة والتوبة .. فهو لم يبعث جبارًا منتقمًا .. إنه كما قال عن نفسه: (إنما أنا رحمة مهداة) (¬1) هذا هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. أما أولئك .. فقد أنزل الله على نبيه سورة الأنعام وفيها يصفهم .. يفصح عن حقيقتهم التي ارتضوها لأنفسهم .. إنه العناد والعناد فقط فلا الآيات ولا المعجزات ولا غيرها تقنعهم .. يقول سبحانه: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (¬2). أما قومك يا محمَّد: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬3). ¬

_ = الإمام الحافظ الثقة المثبت العارف بالرجال والحديث. انظر التقريب (1/ 439) والتهذيب (6/ 279) وسلمة بن كهيل تابعي ثقة (التقريب 1/ 318) وشيخه أيضًا ثقة، واسمه الصحيح: عمران بن الحارث السلمي، أبو الحكم الكوفي وهو من رجال مسلم (التقريب 2/ 82) والتهذيب (8/ 124). (¬1) حديث صحيح. انظر (2/ 284) من صحيح الجامع الصغير. (¬2) سورة الأنعام: الآيات 4 - 6. (¬3) سورة الأنعام: الآيات 7 - 11.

مجاعة في مكة

ثم يخبره سبحانه مرة أخرى عن حقيقة هؤلاء مسليًا نبيه .. طاردًا ذلك الوجوم الذي يخيم عليه من تكذيب قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬1). ولو جمعهم سبحانه وأرغمهم على الهدى لسلب منهم الحرية والإرادة .. كما سلبها من سائر المخلوقات .. لكنه فضلهم وكرمهم بهذه الإرادة فهم يختارون طريقهم .. وسيحاسبون عليه .. لأنهم حملوا الأمانة التي عجزت عنها السماوات والأرض والجبال .. وهي الإرادة .. هذه الحيوانات ستصير يوم القيامة ترابًا لأنها مسلوبة الإرادة .. إنها جزء من هذا الكون المسخر للإنسان .. المعجون لابن آدم يتصرف فيه كيف يشاء .. ثم يحاسب في نهاية المطاف على تصرفه ذلك .. وهنا تنتصب الحقيقة ماثلة أمام الجميع: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (¬2). مجاعة في مكة حالة واحدة تخضع فيها قريش للحق .. هي البطش .. ونزع الحرية ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: الآيات 33 - 35. (¬2) سورة الأنعام: الآية 36.

والاختيار منهم .. عندما يذوقون العذاب تتوه منهم إرادتهم .. عندها ينحنون للحق معلنين التوبة والإنابة. يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1). لقد حدث ذلك من قريش كما أخبر سبحانه .. تنازلوا عن كل شيء .. ودسوا جباههم في التراب وانحنوا جوعًا وخوفًا وهزالًا .. حدث ذلك عندما (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشًا إلى الإِسلام فابطأوا عليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف (¬2). فأخذتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الميتة والجلود، حتى جعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخانًا من الجوع. قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). فدعوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} (¬4). [فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت .. فاستسقى فلما أصابتهم الرفاهية عادو إلى حالهم]. ثم عادوا في كفرهم (¬5). ما أسرع نسيان قريش .. ويحهم أما تعلقوا بأستار الكعبة يوم ولد ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: الآية 40. (¬2) أي السبع العجاف التي مرت بقوم يوسف. (¬3) سورة الدخان:10 - 11. (¬4) سورة الدخان: 12 - 15. (¬5) حديث صحيح. رواه البخاري 4/ 1809 و 1823.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هربًا من الفيل الحبشي وأصحابه .. ولتنشيط ذاكرتهم تنزل كلمات الله سبحانه .. تنزل سورة الفيل تهز قريش وترفع رأسها نحو السماء علها تفيق وتدرك ما يحدث: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (¬1). وتنزل سورة أخرى على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. تهز ذاكرتم وسباتهم مرة أخرى: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬2). لكنهم لا يفيقون .. إنهم خشب مسندة .. حجارة تتدحرج فتحطم ما تحتها .. إن كل محاولة للتذكر تعقبها سطوة من قريش وتنكيل .. والنتيجة جراح ودموع وأنين تضج بها دور المستضعفين .. ما الذي يرضى هؤلاء .. وماذا يريدون. {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (¬3) قريش أهل فصاحة ومعرفة بلغة القرآن أكثر من غيرهم ممّن جاءوا بعدهم .. لقد سحرهم هذا القرآن ببلاغته وبيانه .. واعترفوا بعجزهم عن أن يأتوا بمثله .. ورفضوا أن يكون هذا الكلام صادرًا من بشر .. وماذا بعد؟ لا شيء .. إصرار على الموقف .. وحسد لمن اختاره الله نبيًا .. ومحاولة ¬

_ (¬1) سورة الفيل. (¬2) سورة قريش. (¬3) سورة الأنعام: الآية 158.

الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتعجيز

لتعجيزه - صلى الله عليه وسلم - بكثرة الطلبات .. لكن الله سبحانه ينزل آياته قاطعًا دابر العبث القرشي .. فالإيمان لا يحتاج إلى تلك المطالب الساذجة .. إنه فقط يحتاج قلبًا مفتوحًا وفكرًا سليمًا. الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتعجيز يقول سبحانه عن مطالب هؤلاء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} (¬1). ثم يذكر سبحانه مطالبهم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لكي يؤمنوا: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}. لكن الله يبين حقيقة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء الهمج .. إنه مجرد رسول .. بشر .. وليس عليه سوى البلاغ: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (¬2). فتى قريش لا ييأس مع كل هذا التعنت .. ومحاولات الهروب من حصار الحقيقة يستمر - صلى الله عليه وسلم - في دعوته بلا يأس .. بلا كلل. كلما ضاقت به مكة تلمس الأتباع حولها .. لقد (لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم -مجنة-عكاظ- ومنازلهم بمنى: من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: الآيتان 88، 89. (¬2) سورة الإسراء: الآية 93.

الجنة، فلا يجد أحدًا يؤويه ولا ينصره، حتى أن الرجل يرحل صاحبه من مصر أو اليمن، فيأتيه قومه، أو ذوو رحمه، فيقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك. يمشي بين رحالهم، يدعوهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، يشيرون إليه بأصابعهم) (¬1) والإشارات تختلف باختلاف المشيرين .. هناك المعجب وهناك الساخر .. وهناك المشفق .. وهناك من قيده الخوف فهو يشير بقلبه .. وتتلاشى تلك الإشارات ربما عند المساء دلالة على خلو الساحة من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. فقد عاد إلى بيته وزوجته .. يناجى ربه .. وينام .. ومع كل صباح يعود من جديد إلى التبشير بدعوته .. لينتشل من أمته ما يستطيع انتشاله .. وطرقات مكة المؤدية لبيته الصغير لا تخلو من المتربصين له يحملون الأذى بأيديهم وألسنتهم .. يُسْمِعونه ما يكره .. ويرونه ما يؤذيه .. حتى اسمه - صلى الله عليه وسلم - قلبوه .. فأصبحوا يقولون: (مذممًا) لا (محمدًا) لكن ذلك لا يضره فالله يصرف عنه الأذى واللعن. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (انظروا قريشًا كيف يصرف الله عني شتمهم ولعنهم، يشتمون "مذممًا" ويلعنون "مذممًا"، وأنا محمَّد) (¬2). ماذا لدى قريش من فكر .. ماذا لديها من عقيدة حتى تعاند كل هذا العناد .. ليس لديها سوى أكوام من الحجارة نصبتها فوق الكعبة .. ثم بايعتها على الألوهية .. فهل ستفيق قريش من غيبوبتها إذا رأتها نثارًا حول الكعبة؟ هل ستسأل نفسها: كيف تتحطم الآلهة أم أنها ستقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا. (¬2) حدث صحيح. رواه البخاري كتاب المناقب.

من حطم الأصنام؟

من حطم الأصنام؟ قريش تسأل غاضبة ولدى فتى الإِسلام علي بن أبي طالب الجواب: (انطلقت أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجلس، وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفًا، فنزل وجلس نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: اصعد على منكبي. فصعدت على منكبه، فنهض بي، فإنه يخيل إلي لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تمثال صفر، أو نحاس، فجعلت أزاوله (¬1) عن يمينه وعن شماله وبن يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقذف به .. فقذفت به، فتكسر كما تنكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستبق، توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس) (¬2). ولما استيقظت قريش وجدت آلهتها مسحوقة .. كالرمل كالرماد.، هل قالت قريش لنفسها: ما هذه الآلهة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها .. كيف نعبد رملًا .. نعبد رمادًا؟ لم نتلق ردًا من قريش .. لكنه الغضب لا شك .. لا بد أنهم أشاروا يتهمون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه .. لقد ¬

_ (¬1) أي باشره بيده ومارسه. (¬2) سنده جديد رواه أحمد (20/ 224) الفتح الرباني، حدثنا أسباط بن محمَّد حدثنا نعيم بن حكيم عن أبي مريم عن علي، أسباط بن محمَّد بن عبد الرحمن القرشي بالولاء، وهو ثقة، لكنه ضعيف في سفيان الثورى وروايته هذه ليست عن الثوري، أما شيخه نعيم بن حكيم فهو حسن الحديث إذا لم يخالف، انظر التقريب (1/ 53) و (2/ 305) وأبو مريم قال النسائي: أبو الحنفي ثقة، وإن كان الثقفي فقد قال الذهبي في الكاشف: ثقة، والحديث رواه البزار وأبو يعلى. ثم وجدت أن أبا مريم ليس بالحنفي ولا بالثقفي بل هو الأسدي كما جاء عند الحاكم (2/ 5) فصح بذلك السند لأنه تابعي ثقة، وثقه العجلي والدارقطنيُّ وابن حبان (التهذيب 5/ 221).

الاتفاق على اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم)

التهبت قريش واحمر حديدها وتوهج .. فالحدث لا يسكت عليه .. والقرار القادم لا بد أن يكون حاسمًا ونهائيًا لإيقاف سب الآلهة وتسفيه الأحلام .. وتحطيم الأصنام. اجتمعت قريش في مؤتمر محموم قرر فيه الجميع واتفقوا على أن السبيل الوحيد لدرء الخطر عنهم وعن أصنامهم هو بإزالة هذا المد الإِسلامي لا بإيقافه .. ولن يتم ذلك إلا بالقضاء على قائده وقتله .. فليقتل محمَّد حتى يتلاشى دينه ويشتت أصحابه. الاتفاق على اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم) في اليوم الموعود لتنفيذ الجريمة .. لقتل آخر رسل الله ومنقذ البشرية الأعظم .. (اجتمعوا في الحجر، فتعاهدوا باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى: لو قد رأينا محمدًا قمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله. فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تبكي، حتى دخلت على أبيها، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك في الحجر، قد تعاهدوا أن لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: يا بنية أدني وضوءًا، فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد فلما رأوه، قالوا: هو هذا، فخفضوا أبصارهم، وعقروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يقم منهم رجل، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من تراب فحصبهم حصبًا، وقال: شاهت الوجوه) (¬1). وغادر المسجد .. فأفاقوا .. تحسسوا فإذا التراب يحشر أعينهم ¬

_ (¬1) إسناده حسن رواه أحمد (1/ 368) حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاهدوا .. وهذا الإسناد رجاله ثقات أثبات، إلا عبد الله بن عثمان بن خثيم، وحديثه لا ينزل عن رتبة الحسن، فقد وثقة أئمة كبار، وليس في ترجمته جرح مفسر فالسند حسن. انظر التقريب (1/ 422) فقد قال الحافظ: صدوق. وانظر كذلك التهذيب (5/ 314).

حصار جماعي في الشعب

وأنوفهم .. يغطى وجوههم عار لا يغسل إلا بالدماء .. عار ملأ خبره أرجاء مكة .. محاولة اغتيال رسول الله الفاشلة أثارت الحمية في نفوس بني عبد المطلب وكان أشدهم رأسهم أبو طالب .. فقرروا حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريش والدفاع عنه .. فهو لا يزال من أبناء عبد المطلب زعيم قريش .. ولم يفعل ما يستحق كل هذا الأذى والعذاب من قريش .. فكيف تقرر قريش قتله .. ذلك أمر مستحيل .. إن على قريش أن تزهق أرواح بي عبد المطلب فردًا فردًا قبل أن تصل إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. لذلك فقد أعرضت عن هذه المؤامرة مؤقتًا لكي تمارس قسوة لا تقل عن الاغتيال فماذا فعلت قريش. حصار جماعي في الشعب قرر طواغيت قريش ضرب حصار اقتصادي ومعنوي واجتماعي على المؤمنين ومن يقف معهم من أقاربهم .. فلا مصاهرة ولا بيع ولا شراء معهم حتى يتم تسليم محمَّد عليه الصلاة والسلام إليهم لقتله والتخلص منه .. لذلك لجأ أبو طالب ومن معه من أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمومته إلى مكان يقال له: شعب أبي طالب أو (المحصب) حتى تسهل عملية الدفاع عنه - صلى الله عليه وسلم - .. وعن هذا الحصار المرير الذي لا أدري كم من الأعوام استمر، يقول - صلى الله عليه وسلم - وهو يواعد أصحابه في ذلك المكان الحزين: (نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، يعني ذلك المحصب، وذلك أن قريشًا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبنى عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). في مثل هذه الظروف يقول - صلى الله عليه وسلم -: (لنقد أوذيت في عَزَّ وَجَلَّ وما يؤذي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 576.

أحد، وأخفت من الله وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاثة من بين يوم وليلة ومالي ولعيالي (ولا لبلال) طعام يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال) (¬1). ويقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: (ولقد رأيتنى سابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قيحت أشداقنا فالتقطت بردة فشققتها بيني وبن سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها) (¬2). ويقول سعد بن أبي وقاص: كنا قومًا يصيبنا صلف العيش بمكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشدته، فلما أصابنا البلاء اعتزمنا لذلك، وصبرنا له، وكان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، ثم لقد رأيته جهد في الإِسلام جهدا شديدًا، حتى لقد رأيت جلده يتحشف تحشف جلد الحية عنها، حتى أن كنا لنعرضه على قسينا فنحمله مما به من الجهد، وما يقصر عن شىء بلغناه) (¬3). يقول علي بن أبي طالب: (طلع علينا مصعب بن عمير، وما عليه إلا بردة له مرفوعة بفرو، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى للذي كان فيه من النعمة وما هو فيه اليوم) (¬4). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد 3 - 120 وغيره من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا سند صحيح على شرط مسلم حماد إمام ثقة من رجال مسلم وثابت وهو تابعي ثقة سمع من أنس. (¬2) صحيح مسلم 4 - 2278. (¬3) الأثر الأول رواه ابن إسحاف ومن طريقه هناد في الزهد 2/ 388 حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد عن سعد وفيه جهالة شيخ صالح لكن يشهد له ما قبله وما بعده. (¬4) يشهد له ما قبله وقد رواه أبو يعلى 1/ 387 وفي سنده جهالة التابعي.

عام الحزن

هذه حال الرجال .. يا ترى ما هي حال النساء .. خديجة وفاطمة وزينب وأم كلثوم وأسماء .. كيف كانت حالة الأطفال .. كابن عمر. يا صناديد قريش، لماذا .. أي جرم قارفوه .. أإذا ما أشرعوا الأبواب يومًا والنوافذ .. للهواء .. ولغيمات السماء .. لحداء الكون بالتوحيد سيقوا بالسلاسل .. وعليهم تتراكم .. قاسيات كالجرائم .. تصنع للحزن عام. عام الحزن من شقاء لشقاء .. بعد عام الشعب والأحزان كالمطر الأسود. ها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمرارة والكرب يلاحقانه في بيته .. عام للحزن جديد .. إنه يلقى نظرات الوداع الحائرة .. نظرات البث تفيض دمعًا على حبيبته .. وزوجته ورفيقة دربه الطيبة خديجة تموت .. وعند فراشها فاطمة تبكي .. ومعها أخواتها: زينب وأم كلثوم .. يبكين بحرقة على أمهن .. على خير نساء العالمين .. ربما كان لقريش سهم في سهام الموت التي أزهقت روحها .. وربما كان السن وحده .. لقد غادرت هذه الدنيا حزينة على زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. خائفة عليه تناضل دونه وتشده وتحنو عليه .. فعاشت في قلبه حية بالحب لم تحتل امرأة ما احتلته من قبل أبدًا .. قال - صلى الله عليه وسلم - وحيًا .. قال حبًا .. قال وفاء: (ما أبدلني الله عَزَّ وَجَلَّ خيرًا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عَزَّ وَجَلَّ ولدها إذ حرمني أولاد النساء) (¬1). ¬

_ (¬1) حديث ضعيف الإسناد عند أحمد 6/ 117، لكنه صحيح بدون لفظ ما أبدلني الله خيرًا منها، شواهده عند البخاري ورواية ذكرها الذهبي في سيرته (238).

ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة) (¬1). خديجة أول من أسلم .. خديجة أول من صدق .. خديجة أول امرأة في الإِسلام .. خديجة أول زوج لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. وأول من بذل مالًا لمواساته - صلى الله عليه وسلم - .. ترى كما بكاها من المسلمين والكافرين .. امرأة تحمل هذا القدر من الإخلاص والوفاء جديرة بالرثاء .. جديرة بالبكاء .. حمالة الحب لا حمالة الحطب .. ناءت بثقل فتت أكتاف رجال .. فرحمها الله ورضي عنها .. وهنيئًا لها (بيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) (¬2). لقد سافرت لتنال وعد الله .. أما زوجها - صلى الله عليه وسلم - .. فتضاعفت مسؤوليته بعد أن انهد جدار كان يحميه .. ولباس كان يقيه .. ويد تمسح دمعه وتغسل جرحه .. وتدفعه للأمام. كانت خديجة تزاحمه - صلى الله عليه وسلم - وتزاحم قلبه بالذكريات الجميلة .. تقول إحدى أمهات المؤمنين: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها) (¬3) (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت) (¬4). ليت شعرى كيف حزن فتاة طمس الكفار أخبارها .. خلف ذاك البحر غريبة .. في بلاد الأحباش معذبة شريدة .. تدعى رقية .. ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. من يستشعر حزنها على أمها وأبيها وهي تموت بعيدًا عنها .. لا ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم 4/ 1886. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3280). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (3817). (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري (3818).

أبو طالب

تستطيع رؤيتها .. لا تستطيع توديعها .. تتمنى أن تلقي عليها نظرة الوداع .. قبلة الوداع فلا تستطيع .. البحر أمامها والخوف وقريش .. كم هي قاسية أيام مكة على محمَّد وعلى آل محمَّد وعلى صحب محمَّد صلى الله عليهم جميعًا. لم يلن قلب قريش .. استمروا بالأذى .. وتحولت جبال مكة مخازن أحزان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله الطاهرين وصحبه الكرام .. يتدفق الكرب موجة إثر موجة .. موجة أخفت خديجة .. وتلتها للحزن موجة .. أغرقت شيخًا كبيرًا .. حاميًا درعًا حصينًا اسمه: أبو طالب بطل من أبطال قريش .. وسيد من سادتها .. هدَّته قريش كما هدته السنون والأحزان .. كان خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحميه .. يدفع عنه .. رضي بالعيش في السجن معه وقاسمه معاناته .. لكنها الأيام لا ترحم .. والأقدار إذا أقبلت فلا راد لها .. جاءت الأقدار فسقط أبو طالب مريضًا على فراشه .. ما زال على كفره .. قد تشبع رأسه بعيب قريش .. كان يخشى النقيصة .. يخشى أن تعيره مكة بعد موته بأنه قد ترك دين آبائه وأجداده .. واشتد به المرض .. ولعل سجن الشعب من أسبابه .. ودنا الأجل (ولما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عم قل: "لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟

بطل إلى النار

فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويعيد تلك المقالة) (¬1) (قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة. قال أبو طالب: لولا أن تعيرني قريش يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك) (¬2). كان - صلى الله عليه وسلم - يعيدها، يكررها: (أي عم قل لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله) (¬3) (فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: "هو على ملة عبد المطلب". وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬4). وأنزل الله تعالى في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬5). بطل إلى النار إنه كذلك .. بطلًا كان أبو طالب .. لكنه رفض الحق .. جاء العباس أخوه .. وعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا إلى رسول الله .. يسأل عن مصير أخيه البطل ويقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. متفق عليه وآخره يأتي بعد الحديثين التاليين. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 55). (¬3) صحيح. رواه البخاري 3/ 1409. (¬4) سورة التوبة: 113. (¬5) متفق عليه وهو بقية الحديث الأول الذي مر معنا.

(يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك قال: نعم. هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) (¬1). (نعم وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح) (¬2) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه) (¬3). هذه هي حدود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا كل ما يستطيع فعله له قال - صلى الله عليه وسلم - لمن حوله والحسرة في صدره: (لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه) (¬4) لكن أين تذهب أعماله .. أين جزاء هذا البطل .. كيف تكون النار مصيره؟ لقد خدم الإِسلام رغم كفره أكثر مما خدمه بعض المسلمين .. لقد أحاط ابن أخيه - صلى الله عليه وسلم - ودافع عنه .. وواجه قريشًا .. وشراسة قريش من أجله، فلماذا ولماذا .. ؟ العواطف الجياشة تفجر أسئلة ذاهلة .. تفجر مذاهب .. تبعثر الصفوف تبحث عن إجابة .. إجابة عاطفية محمومة .. لكنها ما سألت يومًا عن أبي طالب نفسه .. هل كان إدراكه في مستوى حميته وشهامته .. هل خدم نفسه كما خدم الإِسلام .. هل ارتقى بروحه كما ارتقى من يدافع عنهم سنوات وسنوات وهو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. يشرح له يوضح ¬

_ (¬1) حديث صحيح متفق عليه. واللفظ لمسلم (1/ 194 - 195). (¬2) حديث صحيح متفق عليه. واللفظ لمسلم (1/ 194 - 195). (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم 1/ 196. (¬4) رواه البخاري 3/ 1409.

الحق له .. يؤكد له أن وعد الله صادق .. ودين الله ماض سواء دافع عن أتباعه أبو طالب أو لم يدافع .. انضم أو غادر .. كان أبو طالب يستمع إلى كلام الله .. وكان كلام الله يسيل في أذنيه منذ أشرق الوحي .. في أندية مكة في بيت ابن أخيه .. في بيته هو .. في شعبه .. في فراش الموت .. لقد منحه الله فرصة .. لقد منحه الله حرية الاختيار .. وفضله على سائر المخلوقات بالإرادة .. لكنه خاف تعيير قريش وسبها له بعد موته .. ذلك لأنه لم يكن واثقًا من وعد الله .. وإلا لما وقفت كلمات قريش المحتملة عائقًا له عن الدخول في دين الله .. ما كانت تلك الكلمات لتبقيه في وحل الشرك لولا أنها وجدت إرادة ضعيفة .. وثقة مزعزعة بوعد الله. إن من يدَّعون أن الإِسلام جعل أبا طالب كبش فداء يحترق .. لم يدركوا أن الإِسلام لله والتوحيد لله .. وما محمَّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل .. وما محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلا رجل تلقى رسالة الله فأداها كما طلب منه .. ومن أجل هذا الرجل تحرك أبو طالب وقاتل أبو طالب .. أما الله فأين مكانه في قلب أبي طالب .. لا شيء .. لا مكان لله في قلب أبي طالب .. إن أول شرط في قبول أي عمل هو الاعتراف الكامل بوحدانية الله وتفرده والإخلاص له .. وأبو طالب رفض هذا الشرط رفض وحدانية الله .. رفض الإخلاص له .. رفض: لا إله إلا الله. أبو طالب بطل. نعم بطل .. هو شهم وشجاع وكريم .. كعنترة .. كحاتم .. والإِسلام يشطره مثلهم .. يؤيده في مواقف .. ويشجبه في مواقف. كم تمنينا لو كان مسلمًا .. لكن ماذا بأيدينا .. ماذا يفعل حزننا بالحقيقة هل سيغيرها .. إن حبنا لعلي لا يجب أن يطغى على حبنا لله ..

الفتى الحزين علي

فإن فعلنا ذلك فنحن نعبد عليًا من دون الله .. أبو طالب مات بطلًا ... لكن إلى النار .. ونهايته مأساة حزينة لكنه هو الذي اختارها. الفتى الحزين علي علي بن أبي طالب .. أول من أسلم من الفتيان .. لا شك أنه قد دعا يومًا أباه إلى الإِسلام .. لا شك أنه يشعر بالأسى على أبيه .. يشعر بالمرارة لهذه الخاتمة السيئة .. لقد مات أبوه دون أن يسره بكلمة التوحيد .. فذهب يسحب خطاه نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قد تشبع بالحزن حتى أثقله .. يقول له وقلبه يعتصره الكمد: (إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه؟) (¬1). سؤال غاضب من إصرار هذا الشيخ على الشرك .. سؤال يبكى هذا الشيخ الضال .. إنني أشعر بمرارتها في حلقه وهو يقول: الضال .. كمن يقولها بعد أن استنفذ كل محاولات الإقناع لشخص متهور يريد الانتحار فأبى إلا الانتحار .. الكلمات بعد ذلك تخرج مزيجًا من الغضب والحزن والأسى. لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان طبيبًا للقلوب .. طبيبًا للنفوس .. قال لعلي الحزين: (اذهب فوار أباك، ولا تحدثن شيئًا حتى تأتيني. يقول علي بن أبي طالب: فأتيته، فأمرني، فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شىء) (¬2). ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أبو داود الطيالسي وغيره فقال أبو داود (2/ 90): حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت ناجية بن كعب، يقول: شهدت عليًا يقول: وأبو إسحاق هو عمرو ابن عبد الله الهمداني، تابعي ثقة عابد مكثر، صرح بالسماع من شيخه التابعي الثقة ناجية ابن كعب الأسدى. انظر التقريب (2/ 294). (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أبو داود الطيالسي وغيره فقال أبو داود (2/ 90): حدثنا شعبة، عن =

إلى الطائف

يا لعام الحزن هذا .. أبو طالب غاب وخديجة .. ماذا سيحل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وماذا ستفعل قريش المتوثبة؟ تقول عائشة رضي الله عنها: (ما زالت قريش كاعة (¬1) حتى توفي أبو طالب) (¬2). فلما توفي .. هجمت وسلت وازداد توحشها .. فهرب منها - صلى الله عليه وسلم - عله يجد من يؤويه .. ينصره، لكن إلى أين؟ إلى الطائف يشق الأودية والجبال .. على قدميه الدامتين المتعبتين .. بلا راحلة .. فقيرٌ لا يملك ثمنها .. يحمله حزنه يصعد جبال الطائف يفتش عن أمل .. يبحث عن معين .. يبحث عن يد حانية .. تحمل هذا الدين برفق .. تقدمه للتائهين .. للجائعين للمعدمين وحتى للمترفين .. يبحث عن بقية خير في قلوب خارج مكة .. عن أقوام تتمرد على هذه الأصنام والعادات والشرع الشركي الملوث. يقول عبد الله بن جعفر: (لما توفي أبو طالب خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ماشيًا على قدميه يدعوهم إلى الإِسلام) (¬3). ¬

_ = أبي إسحاق، سمعت ناجية بن كعب، يقول: شهدت عليًا يقول: وأبو إسحاق هو عمرو ابن عبد الله الهمداني، تابعي ثقة عابد مكثر، صرح بالسماع من شيخه التابعي الثقة ناجية ابن كعب الأسدى. انظر التقريب (2/ 294). (¬1) متراجعة جبانة. (¬2) حديث صحيح. الإسناد رواه البيهقي (2/ 349): حدثنا الحاكم، حدثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمَّد الدوري، قال: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا عقبة المحي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: العباس حافظ ثقة. انظر التقريب (1/ 398) وعقبة بن خالد المجدر صدوق صاحب حديث، التقريب (2/ 26) والبقية أئمة. (¬3) حديثٌ حسنٌ بشواهده سيمر معنا.

و (لما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم أخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير. ومسعود بن عمرو بن عمير. وحبيب ابن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف. وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإِسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسل. وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك. وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك كلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم وهو يئس من خير ثقيف) (¬1). قام ولهيب الحزن في كبده .. قام وحاله تتفطر لها القلوب .. جوع وعطش وسير بالليل والنهار .. وأحزان تثيرها جدران مكة وطرقاتها .. تذكره بخديجة وأبي طالب .. ودعوة مطاردة .. وأتباع تتخطفهم أيدي الطغاة .. قام - صلى الله عليه وسلم - فالتفت إلى هؤلاء القساة لعل بقية من الإنسانية لا تزال عالقة في قلوبهم .. يرجوهم كتمان أمره حتى لا تشمت به قريش .. وتحمله من الضيم ما لا يطيق. قال لهم: (إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني -كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ قومه ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه.

عنه فيذئرهم (¬1) ذلك عليه- فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط لعتبه بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة (¬2) من عنب، فجلس فيه -وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف- وقد لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة التي من بني جمح. فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللَّهم أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني: إلى بعيد يتهجمني. أم إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". فلما رآه ابنا ربيعة: عتبة وشيبة، وما لقي، تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له عداس. فقالا: خذ قطفًا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. ثم قال له: كل. فلما وضع رسول - صلى الله عليه وسلم - فيه يده قال: "بسم الله" ثم أكل. فنظر عداس في وجهه، ثم قال: ¬

_ (¬1) يجعلهم يجترئون عليه. (¬2) الحبلة هي الكرم أو القضيب من الكرم.

والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟ قال عداس: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى (¬1). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل رأسه ويديه وقدميه. فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس، قالا له: ويلك يا عداس، ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ وقال عداس: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف) (¬2). ¬

_ (¬1) قرية بالموصل في العراق. (¬2) حديث مرسل. رواه ابن إسحاق فقال: حدثني يزيد بن زياد عن محمَّد بن كعبي القرظي. ويزيد ثقة والقرظي تابعي ثقة، لكنه لم يذكر من شيخه هنا. لكن الحديث روي مرسلًا أيضًا عن الزهري، وعن عروة بن الزبير -وهو الحديث الذي بعده- ما عدا الدعاء في هذا الحديث، فشاهده عند الطبراني، وقد قال الهيثمي في المجمع (6/ 35) ورجاله ثقات وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، ثم وجدت الحديث عند الطبراني في الدعاء، وعند ابن =

ويروي هذه القصة عروة بن الزبير فيقول: (لما أفسد الله عَزَّ وَجَلَّ صحيفة مكرهم، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فعاشوا، وخالطوا الناس، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: لا أُكْرِهُ منكم أحدًا على شيء من رضي الذي أدعوه إليه قبله، ومن كرهه لم أُكْرِهْهُ، إنما أريد أن تحوزوني مما يراد بي من القتل، فتحوزوني حتى أبلغ رسالات ربي، ويقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء. فلم يقبله أحد منهم، ولا أتى على أحد من تلك القبائل إلا قالوا: قوم الرجل أعلم به. أَفَترى رجل يصلحنا وقد أفسد قومه؟! -ذلك لما ادخر الله عَزَّ وَجَلَّ للأنصار من البركة- ومات أبو طالب، وازداد من البلاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة، فعمد إلى ثقيف، يرجو أن يؤوه وينصروه، فوجد ثلاثة منهم، سادة ثقيف وهم أخوة: عبد ياليل بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود بن عمرو. فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء، وما انتهك قومه منه. فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط، وقال الآخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمة واحدة أبدًا، لئن كنت رسولًا لأنت أعظم شرفًا وحقًا من أن أكلمك. وقال الآخر: ¬

_ = عدي في الكامل وسنده هو: ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن .. وهذا السند ضعيف لأن ابن إسحاق مدلس وقد عنعن وإن كان هشام من أقرانه وشيوخه وقد ثبت لقاؤهما .. ولا يقوى هذا الطريق ما عند ابن إسحاق فقد رواه دون سند -أي روى الدعاء دون سند-.

أعجز الله أن يرسل غيرك؟! وأفشوا ذلك في مكة -أي الذين قال لهم- واجتمعوا يستهزئون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقعدوا له صفين على طريقه، فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة، وهم في ذلك يستهزئون، ويسخرون، فلما خلص من صفيهم وقدماه تسيلان بالدماء عمد إلى حائط من كرومهم، فأتى ظل حبلة من الكرم، فجلس في أصلها مكروبًا موجعًا، تسيل قدماه الدماء، فإذا في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فلما أبصرهما كره أن يأتيهما -لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله- وبه الذي به، فأرسلا إليه غلامهما "عداس" بعنب -هو نصراني من أهل نينوى- فلما أتاه وضع العنب بين يديه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بسم الله" فعجب عداس، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. من أي أرض أنت يا عداس؟ قال عداس: أنا من أهل نينوى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متى. فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شأن يونس ما عرف، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحقر أحدًا يبلغه رسالات الله تعالى. قال عداس: يا رسول الله أخبرني خبر يونس بن متى. فلما أخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شأن يونس بن متى ما أوحي إليه من شأنه، خر ساجدًا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم جعل يقبل قدميه وهما يسيلان الدماء. فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكتا. فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت لمحمد، وقبلت قدميه، ولم نرك فعلت هذا بأحد منا؟ قال: هذا رجل صالح، حدثني عن أشياء عرفتها من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا،

الجبال تنتقم

يدعى: يونس بن متى، فأخبرني أنه رسول الله. فضحكا به وقالا: لا يفتنك عن نصرانيتك، إنه رجل يخدع. ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة) (¬1). ترى كيف ستحمل هذا المكروب المسكين أقدامه وهي لا تزال تنزف حزنًا ودمًا .. كيف سيعود ولا أبا طالب بعد اليوم .. من يضمد جرحه وخديجة تحت الثرى .. من يا ترى يكف أفواه قريش عن الشماتة .. كانت أيامًا لكن همومها أحالتها سنوات .. سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشد يوم مر به؟ فأشار إلى أيام الطائف وقال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال. فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) (¬2). إنه الهم الذي حمله ومشى به، حتى حنت عليه السحاب .. وأشفقت لمنظره الحجارة وأغصان الشجر .. واستعدت الرواسي الشم للانتقام له: الجبال تنتقم يقول - صلى الله عليه وسلم - مواصلًا حديثه: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام. فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: ¬

_ (¬1) إسناده مرسل رواه أبو نعيم (295)، وقد أوردت الحديث لا لصحته ولكن لأن سياقه ينسجم مع الحديث الصحيح الذي ذكر فيه النبى - صلى الله عليه وسلم - أن أشد الأيام التي مرت عليه هي أيام الطائف ويدل على ذلك نزول ملك الجبال لينتقم منهم. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (بدء الخلق) ومسلمٌ.

يا محمَّد، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (¬1) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا) (¬2). صلى الله عليك يا نهر الحنان .. في اليمين جبل .. وفي الشمال جبل .. لو كنت ممّن ينتقم لنفسه .. لكان دك الجبال يطحن تلك الجماجم .. ولسالت من جبال الطائف دماء يراها أهل مكة .. لكنه - صلى الله عليه وسلم - ما خرج لنفسه .. ولا أحضر شيئًا من عنده .. رفض الانتقام لأنه جاء ليجعل الحياة إيمانًا وسعادة .. وفي قلبه يهتز أمل يتلألأ .. يقول: إن في الأصلاب ربيعًا قادمًا يتنفس الإِسلام. وعاد الحبيب - صلى الله عليه وسلم - مطرودًا .. جريحًا .. منكسرًا كما خرج .. فانسل إلى بيته الصغير .. حيث ابنته وريحانته فاطمة .. لا بد أنها بكت وارتفع نشيجها عندما رأت ذلك الشحوب في وجهه الكريم .. عندما رأت الدماء تتلألأ في جروحه .. فسارعت لمواساته ومواساة جراحه .. وربما دمعت عيناه - صلى الله عليه وسلم - عندما رأى ابنته فذكرته بحبيبته خديجة .. وذكره بيته بها .. ففيه عاشا سويًا وها هو الآن شوق .. بينه وبينها تراب على قبر خديجة. ذكريات مصائب تترى فهل لهذه الأحزان من نهاية؟ لم تكن هناك نهاية .. أمرًا عظيمًا سيحدث .. وتسلية مذهلة .. ستمسح أحزانه السابقة. ¬

_ (¬1) جبلا مكة. (¬2) بقية حديث البخاري.

الإسراء والمعراج

ضغطت له المسافات حتى رأى في ليلة واحدة ما خلف الكواكب والنجوم .. بل وما خلف السموات. جمع له الزمن حتى أصبح بين يديه ساعات يقلبها مراكب يبحر بها. الإسراء والمعراج يقول سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). من كان ذلك؟ سؤال لا يُعرف جوابه بالتحديد .. لكنه أيام مكة الحزينة قطعًا .. أما في أي سنة كان ذلك .. في أي شهر .. في أي يوم .. فكل ذلك غير معروف على وجه الدقة .. ليس من دليل صحيح على ذلك .. إن تحديد ليلة معينة للإسراء رجم بالغيب .. والاحتفال بذكرى تلك الليلة يحتاج إلى دليلين. كل ما نقطع به أنه حدث في ليلة من ليالي مكة .. وما دام الأمر كذلك .. فدعونا منه .. دعونا نتسلل بهدوء من الضجيج المحيط بتوقيته إلى أحداث الإسراء والمعراج من بدايتها إلى مواجهة قريش بما حدث .. فكيف كانت البداية. شق للسقف. شق للصدر ليالي مكة واحدة تكاد لا تتغير .. فيها يهدأ الجميع .. الصحابة متعبون من الأذى والمطاردة .. والمشركون متعبون أيضًا .. فقد أهدروا ¬

_ (¬1) سورة الإسراء: الآية 1.

البراق

طاقاتهم طوال النهار في التعذيب والمطاردة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين يجعلون ليلهم مناجاة لخالقهم وتهجدًا وصفاء .. وفي ليلة غريبة .. في ليلة لا كالليالي .. جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غير عادته. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب، ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه) (¬1) شق للسقف .. وشق للصدر! لكن أين تم ذلك الشق الآخر؟ لقد كان عند بئر زمزم. لقد كان - صلى الله عليه وسلم - نائمًا في بيته ثم أُخِذَ للمسجد الحرام .. وكان في المسجد نيام .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فكان بين النائم واليقظان .. أُخِذَ أيضًا من بين الناس نحو بئر زمزم. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان -وذكر يعني رجلًا بين رجلين- فأُتيتُ بطست (¬2) من ذهب مليء حكمة وإيمانًا، فشق من النحر إلى مراق (¬3) البطن، ثم غسل البطن بماء زمزم، ثم ملئ حكمة وأيمانًا) (¬4). هذا هو الشق الثالث له - صلى الله عليه وسلم - .. استعدادًا لرحلة عجيبة مدهشة معجزة .. لكن كم من الزمن ستستغرقه هذه الرحلة. ومن سيحمله فيها؟ البراق دابة غريبة ركبها - صلى الله عليه وسلم - .. ووصفها فقال: ¬

_ (¬1) متفق عليه -البخاري كتاب الصلاة ومسلم -الإيمان- الإسراء. (¬2) الطست هو إناء نحاسي مستدير. (¬3) ما لانَ منه ورَقَّ. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري (بدء الخلق).

(وأُتِيتُ بدابة أبيض، دون البغل، وفوق الحمار "البراق") (¬1) ويقول أنس: (أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبراق ليلة أسري به، مسرجًا ملجمًا، فاستصعب عليه. فقال له جبريل عليه السلام: ما حملك على هذا. والله ما ركبك خلق قط أكرم على الله عَزَّ وَجَلَّ منه. فأرفض (¬2) عرقًا) (¬3). أما سرعة هذا البراق .. فيقول - صلى الله عليه وسلم - بأنه: (يضع حافره عند منتهى طرفه) .. والله أعلم بمنتهى طرفه .. لكنه يبدو طويلًا جدًا .. يدل على ذلك أن زمن الرحلة كان قصيرًا بحيث يعجز الإنسان عن قياس سرعة ذلك المخلوق العجيب. يقول حذيفة رض الله عنه: (أتي - صلى الله عليه وسلم - بالبراق -وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل- فلم يزايلا ظهره هو وجبريل حتى انتهت إلى بيت المقدس) (¬4). ¬

_ (¬1) جزء من الحديث السابق. (¬2) سال عرقه. (¬3) رواه الترمذيُّ بإسناد صحيح. (تفسير سورة الإسراء) والببهقي (2/ 363): عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس، وقتادة إمام لكنه مدلس ويخشى من تدليسه، لكن هذا الشك يزول بروايته للحديث قائلًا: حدثت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وللحديث شواهد ستمر معنا. (¬4) إسناده حسن، رواه أبو داود الطيالسي (2/ 91) واللفظ له، والترمذيُّ (التفسير) والبيهقيُّ (2/ 364) من طريق عاصم بن بهدلة، وهو حسن الحديث وهو ابن أبي النجود أحد أئمة القراءة وهو ثقة في نفسه، عدل لكن في حفظه بعض الشيء، وشيخه هنا هو التابعي =

المسجد الأقصى

هذا ما جاء عن البراق .. البراق الذي نسج حوله الكذابون الأساطير. فقالوا: إن له رأس آدمي .. وعرفًا من اللؤلؤ .. وأذنين من الزمرد وغير ذك من الأكاذيب. البراق باختصار هو: دابة أكبر من الحمار وأصغر من البغل أبيض اللون .. وخطوته تصل إلى آخر ما يستطيع مشاهدته .. وقد ركبه - صلى الله عليه وسلم - حتى أوصله إلى: المسجد الأقصى وفي طريقه - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى (مر على موسى وهو يصلي في قبره) (¬1) (فأوثق - صلى الله عليه وسلم - الفرس- أو قال: الدابة في الخرابة) (¬2) وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: (فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتن، ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر، وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل. فقيل: من أنت؟ قال: ¬

_ = المخضرم الثقة: زر بن حبيس الذي روى عن حذيفة. انظر التهذيب (5/ 38) والتقريب (1/ 259). (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم وغيره بلفظ: (مررت ليلة أسري بي على موسى قائمًا يصلي في قبره). (¬2) رواه البيهقي (2/ 361) وأبو يعلى (تفسير ابن كثير 5/ 8) من طريق معتمر بن سليمان ابن طرخان، عن أبيه، قال: سمعت أنس، وهذا الإسناد صحيح. فالرجلان ثقتان. انظر التهذيب (10/ 227) والتقريب (1/ 326).

جبريل. قيل: ومن معك؟ قال جبريل: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال جبريل: لقد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي، ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام. فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال جبريل: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة: عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا صلوات الله عليهما، فرحبا، ودعوا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف عليه السلام، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل عليه السلام. قيل: من هذا؟. قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحب ودعا لي بخير. قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.

ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون عليه السلام، فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام. فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا. بموسى عليه السلام، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمَّد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام، مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه. ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى، وإذا أوراقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال. فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فأوحى الله إلي ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة. فنزلت إلى موسى عليه السلام. فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت (¬1) بني إسرائيل، وخبرتهم. فرجعت إلى ربي. فقلت: يا رب خفف على أمتي. ¬

_ (¬1) جربت واختبرت.

فحط عني خمسًا، فرجعت إلى موسى. فقلت: حط عني خمسًا. قال موسى: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال - صلى الله عليه وسلم -: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام، حتى قال: يا محمَّد إنهن خمس صلوات، كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملهاكتبت له عشرًا. ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا. فإن عملها تكتب سيئة واحدة. قال - صلى الله عليه وسلم -: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام، فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه) (¬1). ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (.. ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا. قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: من هذا؟ قال: جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم. معي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا. فإذا رجل قاعد، على يمينه أسودة (¬2)، وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى. فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت لجبريل: من هذا؟ قال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (الإيمان / الإسراء) عن أنس. (¬2) جمع من الناس.

هذا آدم. وهذه الأسودة عن يمنه وشماله نسم (¬1) بنيه، فأهل اليمن منهم: أهل الجنة. والأسودة التي عن شماله: أهل النار. فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. حتى عرج بي إلى: السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال الأول. ففتح. ويقول ابن عباس وأبو حبة الأنصاري: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. قال أنس بن مالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ..... ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيتها ألوان لا أدري ما هي. ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك) (¬2). ويقول مالك بن صعصعة رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأتينا على السماء السادسة. قيل: من هذا؟ قيل: جبريل. قيل: من معك؟ قيل: محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قيل: وقد أرسل إليه، مرحبًا به ولنعم المجيء جاء. فأتيت على موسى، فسلمت، فقال: مرحبًا بك من أخ ونبي، فلما جاوزت بكى. فقيل: ما أبكاك؟ قال: يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي. فأتينا السماء السابعة. قيل: من هذا؟ قيل: جبريل. قيل: من معك؟ قيل: محمَّد. قيل: وقد أرسل إليه. مرحبًا به، ونعم المجيء جاء. فأتيت على إبراهيم، فسلمت، فقال: مرحبًا بك من ابن ونبي، فرفع لي البيت المعمور، ¬

_ (¬1) يعنى أرواح أبنائه. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ واللفظ لمسلم. (باب الإسراء من كتاب الإيمان).

ترتيب الأحداث

فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم. ورفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها (¬1) كأنه قلال هجر، وورقها كأنها آذان الفيول، في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فسألت جبريل. فقال: أما الباطنان ففي الجنة. وأما الظاهران: النيل والفرات (¬2). ترتيب الأحداث تلك هى قصة الإسراء والمعراج فلنرتبها مع إضافة بعض الأحداث الأخرى التي أتت في أحاديث متفرقة صحيحة. 1 - في بيت رسول الله: ذلك عندما كان نائمًا في بيته، فانشق سقف البيت ليدخل منه جبريل. 2 - في المسجد الحرام عند بئر زمزم: عندما أخذ - صلى الله عليه وسلم - من بين النيام .. وكان في حالة بين النائم والمستيقظ .. ثم أخذ إلى بئر زمزم حيث: 3 - شق صدره (صلى الله عليه وسلم): فبعد إحضاره إلى بئر زمزم شق صدره الشريف للمرة الثالثة استعدادًا لهذه الرحلة العظيمة .. وحشي إيمانًا وحكمة .. وكأن ذلك تحضير لتلك الرحلة الخارقة. ¬

_ (¬1) النبق: حمل السدر. (¬2) جاء معنى ذلك في الحديث الصحيح عند البخاري (عنصرهما).

4 - إحضار البراق

4 - إحضار البراق: وهو دابة حجمه فوق حجم الحمار .. وأصغر من حجم البغل .. أبيض اللون .. خطوته عند مد بصره .. له سرعة مذهلة لا يعلمها إلا الله. وليس هناك أحاديث صحيحة تقول: إن له وجه إنسان أو شعر فرس أو .. أو .. فكل ذلك من أكاذيب الوضاعين. (وكان البراق كلما صعد عقبةً استوت رجلاه مع يديه، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه) (¬1). 5 - ركوب البراق: وقد وجد - صلى الله عليه وسلم - صعوبة في ركوبه أول الأمر، شمس وامتنع البراق لكن جبريل قال له: (ما حملك على هذا، والله ما ركبك خلق قط أكرم على الله عَزَّ وَجَلَّ منه فارفض عرقًا) (¬2) وما أن ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل بيت المقدس. وهذا يدل على سرعته .. وعلى أنه قد سبق وأن ركبه غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 6 - المرور بقبر موسى: مر - صلى الله عليه وسلم - بقبر موسى وهو في طريقه نحو المسجد الأقصى (وموسى يصلي في قبره) (¬3) وصلاة موسى تختلف عن صلاتنا على ظهر الأرض .. لأن حياة القبر ليست كحياة الأرض (الدنيا) .. والصلاة عند العرب ¬

_ (¬1) سنده جيد رواه الحسن بن عرفة في جزئه (تفسير ابن كثير 3/ 17) حدثنا مروان بن معاوية وهو ثقة عن شيخه الصدوق قنان بن عبد الله النهمي عن شيخه التابعي الثقة أبي جناب. (¬2) مر معنا وإنه حديث صحيح الإسناد. (¬3) مر معنا وإنه قد رواه مسلم.

7 - الوصول للمسجد الأقصى

معناها: الدعاء .. وحتى الدعاء في القبر .. لا ندري كيفيته .. وفي الكون مما لا يستطيع الإنسان إدراكه بحواسه ما لو علمه لذهل وطار صوابه وتحير. والقبر في جميع الأحوال .. إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة. كيف يكون ذلك .. ؟ الله أعلم. 7 - الوصول للمسجد الأقصى: حيث ربط الفرس أي البراق بالخرابة .. وربطها - صلى الله عليه وسلم - (بالحلقة التي يربط به الأنبياء) (¬1) وهذا يدل على أن البراق قد ركبه الأنبياء من قبل أو بعضهم. مما يدل على مشروعية بذل الأسباب مع التوكل وتفويض الأمر لله .. وهذا هو التوكل الصحيح على الله .. وإلا فالبراق لن يهرب والله قد أحضره لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .. ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الأقصى ركعتن. 8 - الخمر واللبن: وبعد أن صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين خرج فاستقبله جبريل بإناءين .. في أحدهما لبن .. وفي الآخر خمر. وكان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشرب أحدهما .. فاختار اللبن فقال له جبريل عليه الصلاة والسلام: (اخترت الفطرة) (¬2) ولم يتضح معنى هذه الكلمة في عصر كما اتضح في عصرنا هذا .. فاسأل الأطباء. كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام: (أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك) (¬3). بعد ذلك ينتهى الإسراء ويبدأ المعراج. ¬

_ (¬1) مر معنا وهو عند مسلم. (¬2) حديث صحيح مر معنا. (¬3) حديث صحيح. متفق عليه.

العروج للسماء الدنيا

العروج للسماء الدنيا حيث صعد جبريل عليه السلام بمحمد - صلى الله عليه وسلم - آخذًا بيده. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل عليه السلام لخازن السماء الدنيا) (¬1) وفي هذا الحديث إشارة إلى وجود خازن من الملائكة للسماء الدنيا. كما أن في بقية الحوار بين جبريل وخازن السماء الدنيا ما يدل على أن الملائكة لا تعلم الغيب .. ولا تعلم ما يحدث على وجه الأرض .. وذلك لأنهم يسألون جبريل في كل سماء فيقولون: وقد بعث إليه؟ أو: وقد أرسل إليه؟ .. مَن مِنَ الأنبياء في السماء الدنيا لقد شاهد - صلى الله عليه وسلم - أبانا آدم عليه الصلاة والسلام. فسلم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ورد آدم عليه السلام .. كما شاهد - صلى الله عليه وسلم - خلقًا كثيرًا عن يمينه وخلقًا كثيرًا عن شماله وكان آدم إذا نظر إلى يمينه ضحك مبتهجًا مسرورًا .. وإذا نظر إلى شماله بكى حزنًا وأسى .. فشد ذلك السلوك نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنه جبريل فأجابه جبريل: (هذه الأسودة عن يمينه، وعن شماله نسيم بنيه، فأهل اليمن أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله: أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى) (¬2) ثم ودع آدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن رحب به ودعا له بخير .. في السماء الثانية جرى حوار كالحوار الأول بين جبريل عليه السلام وخازن هذه ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا. (¬2) حديث صحيح مر معنا.

السماء الثالثة

السماء .. ثم دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - عليهما .. أما من كان مِنَ الأنبياء في السماء الثانية؟ فقد وجد عيسى بن مريم وابن خالته يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فرحبا به. وقد وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخاه عيسى بن مريم عليه السلام .. فقال: (رأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سبط الرأس) (¬1). (أحمر كأنما خرج من ديماس) (¬2). السماء الثالثة في هذه السماء .. شاهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أجمل خلق الله وجهًا .. يوسف بن يعقوب النبي الأمين عليه السلام .. قال عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا هو قد أعطي شطر الحسن" (¬3)، وقال في حديث صحيح آخر: (أعطي يوسف وأمه شطر الحسن) (¬4) وقد رحب به يوسف ودعا له بخير. في السماء الرابعة حيث رأى من قال الله فيه: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (¬5) إنه إدريس عليه الصلاة والسلام. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬2) حديث صحيح. متفق عليه. انظر صحيح الجامع (5/ 108) والديماس هو الحمام. (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬4) حديث صحيح. رواه الحاكم. انظر صحيح الجامع (1/ 351). (¬5) سورة مريم: الآية 57.

وفي السماء الخامسة

وفي السماء الخامسة شاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخاه هارون .. خليفة موسى في بني إسرائيل .. ووزيره وأخوه صلى الله وسلم عليهم جميعًا. فرحب به ودعا له بخير. وفي السماء السادسة لقي - صلى الله عليه وسلم - أخاه موسى عليه السلام .. وقد وصفه - صلى الله عليه وسلم - فقال: مررت ليلة أسري بي على موسى بن عمران عليه السلام: (رجل آدم، طوال، جعد، كأنه من رجال شنوءة) (¬1). (فسلمت فقال: مرحبًا بك من أخ ونبى) (¬2). لكن موسى عليه السلام بكى بعدما صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء السابعة .. فقيل لموسى - صلى الله عليه وسلم -، ما أبكاك. قال: (يا رب هذا الغلام الذي بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي) (¬3). ولم يكن ذلك حسدًا من موسى .. فالحسد يموج هناك على وجه الأرض .. أما موسى فيبكى متحسرًا .. آسفًا لعناد أمته وتعنتها .. وقد كان يحب أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ويعطف عليها .. يدلنا على ذلك حديث طويل جرى له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حول عدد الصلوات المفروضة .. والتي بسبب موسى عليه السلام خفف الله الصلاة عن أمة محمَّد من خمسين إلى خمس صلوات. في السماء السابعة وهي آخر السموات .. وفيها شاهد أباه إبراهيم مسندًا ظهره إلى ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (الإيمان- الإسراء). (¬2) حديث صحيح مر معنا. البخاري. بدء الخلق؟ (¬3) حديث صحيح مر معنا. البخاري. بدء الخلق؟

"سدرة المنتهى"

"البيت المعمور" وهو: بيت يطوف به ويصلي به سبعون ألف ملك كل يوم لا يعودون بعدها ودخل - صلى الله عليه وسلم - هذا البيت وسلم على والده فرحب به .. وحمَّلَه وصية لأمته قال فيها: (يا محمَّد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التراب، عذبة الماء، وإنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) (¬1). أما وصف إبراهيم عليه السلام .. فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به) (¬2) ويقول: (ونظرت إلى إبراهيم، فلا أنظر إلى أرب من آرابه إلا نظرت إليه مني كأنه صاحبكم) (¬3). " سدرة المنتهى" وهذه السدرة العظيمة (إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها) (¬4) وفي تفسير قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قال: (فراش من ذهب) (¬5)، ويصف ما حدث لها فيقول: (ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها) (¬6) جمال وألوان وثمار تقف لغات الدنيا ملجمة أمامها .. لا تستطيع مهما أوتيت من الإبداع ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه الترمذيُّ. انظر صحيح الجامع (5/ 34). (¬2) متفق عليه. (¬3) إسناده حسن، رواه أحمد من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس وهلال حسن الحديث. انظر المجموعة القصيمية (الإسراء والمعراج). (¬4) حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 157). (¬5) حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 157). (¬6) حديث صحيح. رواه مسلم (كتاب الإيمان- الإسراء).

صريف الأقلام

تجليتها ووصفها .. أو التعبير عن معاناة الوقوف أمامها وأسرها .. هذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتي جوامع الكلم يقول: فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فكيف يكون جمال الجنة يا ترى؟ وفي أصل هذه السدرة (أربعة أنهار، نهران باطنان، نهران ظاهران) (¬1). (أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران: النيل والفرات) (¬2) أي عنصرهما .. وليس معناه أن النيل والفرات الآن متصلان بها. ثم عرج به - صلى الله عليه وسلم - لكن ماذا بعد السموات السبع. صريف الأقلام يقول - صلى الله عليه وسلم -: (ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) (¬3) جبريل رفيق المعراج .. كيف كانت هيأته وهو في الملأ الأعلى .. لقد وصفه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله) (¬4) كان جبريل كالثوب الرقيق .. قد ذاب من خشية الجبار سبحانه وتعالى. فرض الصلوات صعد - صلى الله عليه وسلم - هناك .. أعلى من السحب .. أعلى من الشمس والنجوم والمجرات والكواكب .. لقد اخترقها كلها .. إنه الآن فوق السموات السبع .. محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ينتظر شيئًا في هذه الأجواء الشفافة المتوهجة الطاهرة .. في هذا العلو المقدس .. أوحى الله إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. ما أوحى: خمسين صلاة ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (بدء الخلق- ذكر الملائكة). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (بدء الخلق- ذكر الملائكة). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (كتاب الصلاة- ومسلمٌ كتاب الإيمان). (¬4) حديثٌ حسنٌ رواه الطبراني في الأوسط. انظر صحيح الجامع (5/ 206).

آيات من تحت العرش

في اليوم والليلة. رجع بها - صلى الله عليه وسلم - مطيعًا كعادته .. لكنه وفي طريق النزول .. اعترضه موسى سائلًا .. فأجابه بأن الله قد فرض عليه خمسين صلاة .. فأرشده موسى إلى أن أمته تحتاج إلى تخفيف .. فصعد إلى ربه يسأله التخفيف. وما زال يتردد بين المكان الذي يوحى إليه فيه وبين موسى حتى جعلها الرحمن الرحيم خمس صلوات في اليوم والليلة لكن لها أجر خمسين صلاة. تفضلًا منه سبحانه وتعالى. آيات من تحت العرش آيتان عظيمتان .. أعطاهما الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من كنز تحت العرش .. وفي ذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - مبتهجًا بفضل الله عليه من بين الأنبياء بذلك العطاء: (أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعطها نبي قبلي) (¬1) والآيتين هما (خواتيم سورة البقرة) (¬2). أي قول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: (من قرأ بالآيتن من سورة البقرة في ليلة كفتاه) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه أحمد والطبرانيُّ والبيهقيُّ. انظر صحيح الجامع (1/ 350). (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 257) قال عبد الله رضي الله عنه: ... وأعطي خواتيم سورة البقرة. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 4/ 1914.

تفضل آخر

تفضل آخر ومن فضل الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى أمته أيضًا .. ذلك الفيض الغامر رحمة .. عندما أبلغ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه قد: (غفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئًا المقحمات) (¬1). كل هذا الفضل .. العطاء .. كان وحيًا، أم كان خطابًا يسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سمعه موسى يا ترى. هل رأى ربه وسمعه كما سمعه موسى عليه الصلاة والسلام .. أما السماع .. فقد مر معنا أنه قد أوحي إليه وحيًا .. وأما الرؤية .. فقد كفانا أبو ذر مهمة حمل السؤال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال رضي الله عنه: (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى (¬2) أراه") (¬3)، (رأيت نورًا) (¬4). لكنه رأى الجنة ودخلها، ورأى فيها بشرى، ووصفها فكيف وصف: دخول الجنة لقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) (¬5). حوار بين الأنبياء حوار حول الساعة .. وأمرها ومتى تكون. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (لقيت ليلة ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬2) أي كيف أراه. (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم (الإيمان / باب نور أنى أراه) (¬4) حديث صحيح. المصدر السابق. (¬5) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ (كتاب الإيمان- الإسراء).

المسيح الدجال

أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم. فقال - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لا علم لي بها. فردوا الأمر إلى موسى عليه السلام. فقال: لا علم لي بها. فردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام. فقال: أما وجبتها فلا يعلمها أحد إلا الله، ذلك وفيما عهد إلى ربي عَزَّ وَجَلَّ: أن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، فيهلكه الله، حتى إن الحجر .. والشجر ليقول: يا مسلم .. إن تحتي كافر فتعال فاقتله، فيهلكهم الله، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ثم يرجع الناس إلي، فيشكونهم، فأدعو الله فيهلكهم ويميتهم، حتى تجوي الأرض من نتن ريحهم، فيزل الله عَزَّ وَجَلَّ المطر، فتجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ثم "ينسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم" (¬1). ففيما عهد إلى ربي عَزَّ وَجَلَّ: أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتام التي لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلًا أو نهارًا) (¬2). المسيح الدجال ذلك القائد اليهودي .. الذي ذكره عيسى بن مريم - صلى الله عليه وسلم - .. هل رآه ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس جزء من حديث صحيح الإسناد عند الحاكم (2/ 384). انظر تخريج ما بعده. (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه أحمد (1/ 375) وابن ماجه، اللفظ لأحمد: حدثنا هشيم، أخبرنا العوام، من جبلة بن سحيم، عن موثر عفارة، عن ابن مسعودة العوام بن حوشب بن يزيد الشيباني، ثقة ثبت فاضل من رجال الشيخ. (التقريب (2/ 89)، وجبلة بن سحيم تابعي ثقة. انظر الجرح والتعديل (2/ 508) وشيخه تابعي ثقة أيضًا. انظر ثقات العجليّ (443)، والحافظ لم ينقل توثيق العجلي في التهذيب ولذلك تأثر حكمه عليه في التقريب.

خازن جهنم

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رحلته العجيبة .. ؟ لقد قال ابن عباس أنه (ذكر الدجال) (¬1) وأنه (رأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس منامًا قال - صلى الله عليه وسلم -: رأيته فيلمانيًا (¬2)، أقمر (¬3) هجانًا (¬4)، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعر رأسه أغصان شَجرة) (¬5). خازن جهنم ملَك رهيب اسمه مالك .. لا يبتسم .. وصورته الحقيقية لا تسر .. ولا يستطيع بشر مهما كان قوي القلب الصمود أمامها .. ملك مخيف جدًا يتطاير الرعب من قسماته ونظراته .. لا يعرف الشفقة .. ولا يرحم أحدًا .. وكيف يرحم وهو خازن جهنم .. وممزق أعداء الله ومعذبهم .. رآه - صلى الله عليه وسلم - أثناء الإسراء والعراج. حيث (قال قائل: يا محمَّد هذا مالك صاحب النار. فسلم عليه. فالتفت إليه فبدأني باللسلام) (¬6). ولم يرَ - صلى الله عليه وسلم - خازن جهنم فقط بل رأى جهنم نفسها فجبريل عليه السلام أراه الجنة والنار (فنظر في النار، فإذا قوم يأكلون الجيف. فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس. ورأى رجلًا أحمر أزرق، جعدًا شعثًا إذا رأيته. قال - صلى الله عليه وسلم -: من هذا يا جبريل؟ قال عليه ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (الأيمان- الإسراء). (¬2) الفيلمان: العظيم. (¬3) الأقمر: الأبيض. (¬4) الهحان: الأبيض. (¬5) سنده حسن، رواه أحمد (الفتح الرباني 20/ 263) وإسحاق بن سليمان (سيرة الذهبي ص 251) من طريق هلال بن خباب وهو حسن الحديث، عن عكرمة عن ابن عباس، وليس في هلال كلام يضر. (¬6) حديث صحيح. رواه مسلم.

أما في لجنة

الصلاة والسلام: هذا عاقر الناقة) (¬1) التي جعلها الله آية لنبيه صالح عليه الصلاة والسلام .. فكان بجريمته هذه أشقى قومه ثمود. وقد قص سبحانه وتعالى قصته على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} (¬2). ومر - صلى الله عليه وسلم - بأقوام تركوا ألسنتهم تزحف .. أفاعي تنهش الغافلين .. تنهش المجتمع .. واستمر زحفها حتى هوت في الجحيم وكبكبت أهلها فيها (مررت بأقوام لهم أظفار من نحاس، يخشمون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال عليه السلام: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم) (¬3). أما في لجنة في عا لم الجمال والأنوار والفتنة .. والحب المتجدد في قلوب الحور حول المياه والخضرة الساحرة .. كان لبلال خشف هناك .. خشف لنعلي ذلك الشريد الذي تتقاذفه قبضات قريش .. فتحتضنه تجاويف الجبال وغيرانها .. يرجف يصبغها بالدماء والبكاء .. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (دخلت الجنة ليلة أسري بي، فسمعت في جانبها وجسًا، فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا بلال) (¬4). ¬

_ (¬1) إسناده حسن. رواه أحمد (الفتح الرباني 20/ 255) حدثنا عثمان بن محمَّد، حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس. عثمان هو العيسى ثقة شهير، التهذيب (7/ 149)، وجرير بن عبد الحميد بن قرط ثقة صحيح الكتاب، أما قابوس فهو حسن الحديث أفرط ابن حبان في جرحه كعادته، وهو حسن الحديث إذا لم يخالف فجرحه غير مفسر، ووالده تابعى ثقة اسمه حصين بن جندب الجنبى. (¬2) سورة الشمس. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أحمد وأبو داود. انظر صحيح أبي داود (3/ 923). (¬4) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير.

وصية

بلال في الأرض .. في مكة سلعة تباع وتشترى وتعرض في الأسواق .. لا يملك بيتًا .. ولا يملك نفسه .. لكن في أعماقه بلال آخر .. بلال مسلم متوثب مزق الشرك والخضوع .. يتبختر في القصور هناك في النعيم .. في الجنة حيث سمعه - صلى الله عليه وسلم - .. سيدًا من سادات الأرض والإِسلام. في عالم الجنات حيث لا عين رأت مثل ذلك الحب والجمال والأنوار .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر شيء من ذلك في خيال بشر مهما هام وأبدع .. وتألق أو غاص عوالم الأحلام والأماني .. أشرع الله أبوابها للموحدين ونثر مفاتيحها في دروب الجميع فمن تخلف فلا يلومن إلا نفسه. وصية قالتها الملائكة .. لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا كلهم يقول لي عليك يا محمَّد بالحجامة) (¬1). العودة للمسجد الأقصى بعد هذه الرحلة الممتعة .. في عوالم الخلود العلوية .. عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى (فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد الأقصى قام يصلي، فالتفت، ثم التفت فإذا النبيون أجمعون يصلون معه) (¬2). ثم ركب البراق فإذا هو في مكة في زمن يخرس الأرقام .. محمَّد يعود والناس نيام .. فماذا سيقول لهم غدًا .. وأي كفر ذلك الذي ستشهده شمس الصباح؟ ¬

_ (¬1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (5/ 155). (¬2) إسناده حسن وقد مر معنا ويشهد له ما بعده. وهو حديث صحيح. رواه مسلم. (الإيمان - ذكر المسيح).

رسول الله حزين معتزل

رسول الله حزين معتزل يقول ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ("لما كانت ليلة أسري بي، وأصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي، فقعد معتزلًا حزينًا"، فمر عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه فقال: كالمستهزئ: هل من شيء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". قال أبو جهل: ما هو؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه أسري بي الليلة". قال أبو جهل: إلى أين؟ قال عليه الصلاة والسلام: "إلى بيت المقدس". قال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". فلم يُرَ (¬1) إنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه. قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتى؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، فقال أبو جهل: هيا يا معشر بني كعب بن لؤي. فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال: حدِّثْ قومك بما حدثتني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أسري بي الليلة". قالوا: إلى أين؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "إلى بيت المقدس". قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبًا) (¬2) (فقال ناس: نحن نصدق محمدًا بما يقول؟ فارتدوا كفارًا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل. وقال أبو جهل: يخوفنا محمَّد شجرة الزقزم، هاتوا تمرًا وزبدًا فتزقموا) (¬3). ¬

_ (¬1) أي تظاهر أبو جهل بأنه يصدق ذلك الخبر، ظانًا أن تكذيبه في هذا الوقت سوف يجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتراجع عن قول الحقيقة إذا اجتمع القوم. (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) سيأتي تخريجه.

لكن أبا بكر لا يقول: كذبت

لكن أبا بكر لا يقول: كذبت أبو بكر الصديق نبع الصدق .. خير من يعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. في صباه وبعد نبوته .. سمع بالخير .. فجاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وقال: له: (أشهد أنك رسول الله) (¬1). قريش تطلب الدليل للتعجيز .. لإثبات أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يكذب ولو لمرة واحدة يلوثون بها تاريخه النقي كأنهار الجنة .. طلبت قريش دليلًا على ما يقوله - صلى الله عليه وسلم .. فأخبرهم بقافلتهم القادمة ووصفها لهم. لكن هذا الأمر يتطلب الانتظار .. فليصف بيت المقدس فهو لم يره قط. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لنقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء. فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي، أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي. وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم "يعنى نفسه" فحانت الصلاة فأممتهم) (¬2) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (لما كذبتني قريش قمت في الحجر .. فجلا الله لي بيت المقدس .. فطفقت ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البيهقي والبزار (1/ 35) وقال البيهقي: إسنادُهُ صحيحٌ وليس كما قال، بل فيه إسحاق بن إبراهيم بن العلاء وهو صدوق في نفسه إلا أنه كما قال الحافظ: يهم كثيرًا، التقريب (1/ 54)، وضعفه ليس بالشديد وله شاهد صحيح عند أبي يعلى (7/ 126) (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم (الإيمان- ذكر المسيح).

فرض الصلاة

أخبرهم عن آياته وأنا انظر إليه) (¬1) ويقول ابن عباس: (قالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد- وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت، فجيء بالمسجد وأنا انظر، حتى وضع دون دار عقيل، فنعته، وأنا انظر إليه وكان مع هذا لم أحفظه). فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب) (¬2). أما قافلة العير فساحت في بطحاء مكة .. تنشد الشعر والحداء .. محملة بأقوال تبشر بصدق معراجه. بصدق امتطاء البراق. فابتهجت قلوب المؤمنين .. وتهللت وجوههم .. وانصرف الشامتون يجرون خيبتهم .. ويجترون جمرًا .. إنهم لم يروا محمدًا إلا متجددًا طاهرًا نقيًا لا شائبة فيه. فرض الصلاة كان ذلك بعد الإسراء مباشرة، نزل جبريل، وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقات الصلاة، عند الكعبة مرتين يقول - صلى الله عليه وسلم -: ("أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك. وصلى بي العصر حين كان ظله (¬3) مثله. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (الإيمان- ذكر المسيح). (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أحمد (الفتح الرباني 20/ 263) من طريق عوف عن زرارة بن أبي أوفى عن ابن عباس، وعوف هو ابن أبي جميلة، وهو ثقة كان يقال له: عون الصدوق (التهذيب 8/ 16) وشيخه زرارة بن أوفى العامرى الحرشي، تابعي ثقة عابد، مات فجأة وهو يصلي. التقريب (1/ 259). (¬3) مثله في الطول أي في زاوية (45).

وصلى بي المغرب حين أفطر (¬1) الصائم وصلى بي العشاء حين غاب الشفق. وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم (¬2). فلما كان من الغد: صلى بي الظهر حين كان ظله مثله. وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه. وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل. وصلى بي الفجر فأسفرت (¬3) ثم التفت إلي وقال: يا محمَّد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتن" (¬4)) (¬5). وكانت الصلاة بمكة (ركعتين .. ركعتين) (¬6) .. كل صلاة ركعتان إلا المغرب فثلاث ركعات .. حملها - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه .. علَّمَها إياهم زادًا مفروضًا يريحهم بها ساعات الضيق والضنك .. تعيد تنظيم أوقاتهم كما أعاد التوحيد نظام حياتهم. وكان - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات يسير نحو الكعبة .. يعبد الله عندها .. ويؤدي هذه الصلوات هناك. لكن ذلك لم يعجب طواغيت قريش .. لم يرق لهم ما يفعله هذا النبي الجريء الذي يتحدى ¬

_ (¬1) وقت غروب الشمس. (¬2) فيه فائدة حول وقت السحور. وكان ذلك في أول الأمر. (¬3) يقول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". صحيح الجامع (5/ 237). (¬4) أي وقت كل صلاة ما بين الوقتين اللذين أداها بينهما. (¬5) حديث صحيح. انظر المصدر السابق (5/ 463). (¬6) حديث صحيح. رواه البخاري (1/ 127) عن عائشة رضي الله عنها.

أبو جهل يمنع الصلاة

بصلاته أصنامهم وحجارتهم وأخشابهم التي يسمونها آلهة. لقد حرك ذلك التحدي شهوة الانتقام لدى المشركين .. وجدد محاولاتهم السابقة للإيذاء والتنكيل بل والقتل .. وقد تكفل بهذه المهمة طاغوت قريش وفرعون الأمة. أبو جهل يمنع الصلاة عندما نفخ صدره أمام أشباهه يومًا ثم نفث سمًا قائلًا: (لئن رأيت محمدًا يصلى عند الكعبة لأطأنَّ على عنقه، فبلغ النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو فعل .. لأخذته الملائكة) (¬1). ثم مشى - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت الله واثقًا من وعده .. وصلى وركع وسجد .. فعلم أبو جهل فمر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ألم أنهك عن أن تصلي يا محمَّد؟! لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديًا مني. فانتهره النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال جبريل: فليدع ناديه، سندع الزبانية، والله لو دعا ناديه، لأخذته زبانية العذاب) (¬2). لكن أبا جهل كان حاقدًا على النبوة .. حاقدًا على صاحبها لأنه ليس من أهل بيته .. لأنها ليست فيهم .. فليحطمها .. وليحطم صاحبها .. أبو جهل كان طافحًا بالحقد .. مشويًا بجمر الحسد .. يكاد يختنق .. كأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه داخل صدره القاتم يمنعون عنه الهواء ويحطمون أضلاعه. عقد حاجبيه واسودت الدنيا أمامه (فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ليطأ ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (4/ 1896). (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه البيهقي (2/ 192) وأحمدُ والترمذيُّ، من طريق: داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس، رواه ابن أبي هند القشيرى بالولاة، مصري ثقة متقن بالتقريب (1/ 235) وشيخه هو التابعي المعروف مولى ابن عباس وعكرمة.

يضعون السلا على ظهره

على رقبته، فما فجئهم (¬1) منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار، وهولًا وأجنحة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا". وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ (¬2): {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} (¬3). فامتثل - صلى الله عليه وسلم - وسجد رغم أنف أبي جهل وأنوف من معه .. لقد كان ما حصل لأبي جهل رادعًا له لو كان له قلب .. لو كان يظن أن محمدًا يكذب .. لكنه كان يشرك بالله عن علم ودراية .. عنادًا وتجبرًا وغرورًا بما لديه من نسب ومال .. ولهذا وأمثاله جزاء رادع .. في يوم لا ينفع المال ولا البنون وفي أمثال هذا نزل الوحي من السماء: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} (¬4). يضعون السلا على ظهره شاهدهم عبد الله بن مسعود فلم يستطع فعل شيء .. كان محطم ¬

_ (¬1) باغتهم دون توقع لهذا التصرف. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم (كتاب المنافقين). (¬3) سورة العلق. (¬4) سورة الهمزة.

لم يبق إلا الدعاء

القلب واليدين وهو يشاهد حبيبه - صلى الله عليه وسلم - (يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور (¬1) بالأمس. فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور "بني فلان" فيأخذه. فيضعه على كتفي محمَّد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم، فأخذه، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر -لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت -وهي جويرية- فطرحت عنه، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبى - صلى الله عليه وسلم - صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا .. دعا ثلاثًا، وإذا سأل .. سأل ثلاثًا، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم عليك بقريش .. اللَّهم عليك بقريش .. اللَّهم عليك بقريش". فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم عليك بأبي حهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع ولم أحفظه") (¬2). استنفذ - صلى الله عليه وسلم -دون يأس- كل الوسائل فـ: لم يبق إلا الدعاء قريش أصبحت جدارًا .. أم القرى لهيب نار .. اليوم صوتها رمضاء .. دروبها عماء .. دروبها حبال .. حصار فوقه حصار .. تلبد الحصار كالجبال كالمحال .. لكنه الإيمان .. نبض الموحدين يمضغ المحال .. وفي السماء قطرة ¬

_ (¬1) الجزور من الإبل يطلق على الذكر والأنثى والمراد به هنا سلا الأنثى من الإبل. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم الجهاد والسير، والبيهقيُّ (2/ 28) واللفظ له.

البحث عن الأنصار

ستغسل الجبال .. ستزرع الحياة في القلوب .. في كل حبَّة من الرمال .. البحث عن الأنصار بعد أن أصبحت قريش جدارًا من العناد والحصار .. جد - صلى الله عليه وسلم - في البحث عن أنصار يحملون دين الله بقلوبهم .. يفتش عن أرض وصدور أرحب .. ولذلك: (انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبن خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث. فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبن خبر السماء. فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن، تسمعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم. فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنًا عجبًا، يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدًا وأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ

يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (¬1). إذًا فقد سمع الجن واستمعوا .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدري باختلاط الجن من حوله واضطرابهم .. ثم إنصاتهم وخشوعهم .. فمع خيوط الفجر كانوا قد انحدروا .. ومع طيوره وأنسامه كانوا قد (هبطوا على النبي- صلى الله عليه وسلم -، وهو يقرأ القرآن (ببطن نخلة) .. فلما سمعوه قالوا (¬2): أنصتوا صه .. وكانوا تسعة أحدهم (زوبعة) فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا ¬

_ (¬1) سورة الجن. (¬2) الفتنة: الامتحان والابتلاء.

قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). هذه الآيات نزلت .. ونزل غيرها فيما بعد تبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن له أتباعًا لا يراهم ولا يسمعهم .. ليسوا من الملائكة .. ولا من البشر .. بل هم من الجن: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (¬2). ومحمَّد - صلى الله عليه وسلم - نبي للإنس والجن، وقد أمره الله بأن يلتقي بوفد من الجن .. في ليلة بحث الصحابة فيها عن حبيبهم - صلى الله عليه وسلم - فلم يجدوه .. ووجدوا الحزن والخوف في كل مكان يفتشونه .. في كل مكان يقصدونه .. حتى ظنوا أن أيدي المشركين تخطفته وفتكت به .. تلك ليلة كالحداد .. تحدث عنها ابن مسعود فقال: (كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة .. ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب .. فقيل: أستطير؟! اغتيل. فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. فقلنا: فقدناك فطلبناك، فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن. ¬

_ (¬1) سورة الأحقاف: الآيات 29 - 32. (¬2) سورة الذاريات: الآيات 56 - 58.

فانطلق - صلى الله عليه وسلم - بنا فأرانا آثارهم، وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد .. فقال - صلى الله عليه وسلم -: كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا (¬1)، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا تستنجوا بها فإنهما طعام إخوانكم" (¬2). هذه ليلة لم يحضرها أحد، لم يشهد أحداثها سواه - صلى الله عليه وسلم -، لكن هناك ليلة أخرى .. أحب - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له فيها رفيق من صحابته. فكان عبد الله بن مسعود الذي يقول: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وهو بمكة: من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل. فلم يحضر منهم أحد غيري .. فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطًا .. ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن .. فغشيته أسودة كثيرة حالت بينى وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط. ففرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني، فقال: ما فعل الرهط قلت: هم أولئك يا رسول الله، فأعطاهم عظمًا وروثًا زادًا ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم) (¬3). ¬

_ (¬1) أي إن العظام التي يذكر اسم الله عليها عند أكل لحمها تعود كما كانت للجن. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬3) حديثٌ حسنٌ، رواه ابن جرير (تفسير ابن كثير 4/ 164) من عدة طرق عن يونس بن يزيد الأيلى عن الزهري عن ابن عثمان بن شبة. والصحيح: ابن سنة كما قال الحافظ عن ابن مسعود وفي هذا الإسناد علتان، الأولى: رواية يونس عن الزهري، فيونس وإن كان ثقة إلا أن روايته عن ابن شهاب فيها وَهْمٌ قليل، والتابعى ابن سنة لم يوثق، لكن له طريقان يرتقي بهما إلى درجة الحسن، هما: جرير عن قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن =

في عكاظ

هذه هي قصته - صلى الله عليه وسلم - مع الجن .. سمعوه وهو يصلي في طريقه إلى عكاظ .. ثم التقى بهم مرة .. وأخرى .. وربما ثالثة ورابعة .. لقد أُمر - صلى الله عليه وسلم - بإرشادهم .. بإنقاذهم من عوالم الشرك التي تموج ولا نراها .. لكنه لم يؤمر بالاعتماد عليهم .. ولا بإقامة علاقة بينهم وبين أصحابه .. فكلٌ يدعو في مجاله .. وكل يتوهج في ميدانه .. هنا عالم للإنس وهناك عالم للجن .. وما يهمنا هو عالمنا .. فماذا فعل - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فرغ من صلاته متجهًا نحو عكاظ؟ في عكاظ وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى عكاظ تتبع القبائل .. دخل خيامهم وبشرهم ودعاهم .. كل القبائل دون استثناء .. بي عبس .. وكندة .. وبكر بن وائل .. وبني عامر بن صعصعة .. وبني حنيفة .. وغرهم .. فكانت بعض القبائل تصرفه بلطف .. والبعض بعنف .. وهناك من يشتمه ويسبه ويتهمه .. وكان خلف ذلك الرفض أكوام الوصايا تحذر من فتى قريش - صلى الله عليه وسلم -. يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبث عشر سنين، يتبع الحاج في منازلهم، في المواسم: مجنة، وعكاظ ومنازلهم. بمنى: من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة، فلا يجد أحدًا يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل يرحل صاحبه من مصر، أو من اليمن، فيأتيه قومه أو ذوو رحمه، فيقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك. يمشي بين رحالهم، يدعوهم إلى الله ¬

_ = ابن مسعود، وهذا الطريق حسن لذاته وقد مر معنا تخريجه .. كذلك طريق آخر عند أبي نعيم. انظر تفسير ابن كثير (4/ 164) وانظر تخريج الأحاديث التي جمعتها في تخريج أحاديث السيرة.

همدان

عَزَّ وَجَلَّ، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله عَزَّ وَجَلَّ له من يثرب). (¬1) عشر من السنين يرفع الخباء .. يشع في الخيام كالشموس كالضياء .. يحط كالأمطار كالربيع والظباء .. لينعم الجميع. كان - صلى الله عليه وسلم - لطيفًا لينًا في حديثه .. يحترم من أمامه .. ويدعوه بأحب الأسماء إليه. ها هو في لقاء مع رجل من: همدان فبينما (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموقف، فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عَزَّ وجَلَّ، فأتاه رجل من همدان، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ممّن أنت؟ فقال الرجل: من همدان. قال - صلى الله عليه وسلم -: فهل عند قومك من منعة؟ قال الرجل: نعم. ثم إن الرجل خشي أن يحقره قومه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: آتيهم فأخبرهم، ثم آتيك من عام قابل، قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم. فانطلق) (¬2) .. ألهذه ¬

_ (¬1) هو قطعة من حديث صحيح سيمر معنا عند لقاء الأنصار. (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أحمد (الفتح 20/ 268) وأصحاب السنن والحاكم وأبو نعيم من طريق: إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر. وسالم ثقة تابعي سمع من جابر. انظر جامع التحصيل (217) والتقريب (1/ 279) وعثمان بن المغيرة، الثقفي بالولاء، قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائيُّ، والعجلي، وابن نمير، وعبد الغني بن سنيد كل هؤلاء قالوا عنه: ثقة. التهذيب (7/ 155) وإسرائيل بن يونس ثقة معروف. التهذيب (1/ 261).

فتاة وحرير

الدرجة بلغ الخوف من القوم؟! ألهذه الدرجة صحراء العرب موحشة وقاسية على هذا النبى - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه المساكن؟! كأنهم سيتحالفون مع الموت .. مع الفناء .. أما لهم عقول! .. أم تحولوا إلى صخور؟ ومع ذلك لا يأس .. يعود ويداه خالية منهم .. وهمُّ العالم يدور برأسه .. يعود إلى بيته حيث لا خديجة .. لا زوجة تمسح الجراح .. تبادله الحب والحنان .. يتذكر خديجة في بيته الذي يفتقدها .. يتذكر خمسة وعشرين عامًا من الحب عاشها معها .. ولا يعرف من تلك الطاهرة إلا ما يثلج صدره ويبهجه .. ما ذكر امرأة غيرها .. ولا طرق بابًا للزواج بعدها .. كأنها لم تمت .. لكن إرادة الله كانت وحيًا في المنام .. ورؤيا الأنبياء وحي ينتصب حقيقة على الأرض .. فما الذي جرى في المنام. فتاة وحرير كان - صلى الله عليه وسلم - نائمًا .. فجاءه في المنام رجل مرتين .. يحمل ابنة صاحبه الصديق أبي بكر عائشة رضي الله عنها. يحملها (في سرقة من حرير (¬1) فيقول: هذه امرأتك. فأكشفها فإذا هي أنت (¬2). فأقول: إن كان هذا من عند الله يمضه) (¬3). الزواج بعائشة وسودة كانت هذه الرؤيا وحيًا من الله مَنَّ به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فضلًا منه لم يسع إليه - صلى الله عليه وسلم - .. بل ساقه إليه .. تقول عائشة رضي الله عنها: (لما ¬

_ (¬1) قطعة حسنة من الحرير. (¬2) يخاطب - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث زوجته عائشة رضي الله عنها. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (5/ 1953). ومعنى يمضه: أي يتمه.

ماتت خديجة رضي الله عنها جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون. قالت: يا رسول الله، ألا تزوج؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "من؟ " قالت: إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فمن البكر؟ " قالت: ابنة أحب خلق الله عَزَّ وَجَلَّ إليك، عائشة بنت أبي بكر. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن الثيب؟ " قالت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك، واتبعتك على ما تقول. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فاذهبي فاذكريها علي". فدخلت بيت أبي بكر، فقالت: يا أم رومان (¬1) ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة. قالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة. قالت أم رومان: انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر. فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل عليكم من الخير والبركة. قال: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه عائشة. قال أبو بكر: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه. فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك، وأنت أخي في الإِسلام، وابنتك تصلح لي". فرجعت فذكرت ذلك. قال أبو بكر: انتظري -وخرج- قالت أم رومان: إن مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه، فوالله ما وعد وعدًا قط فأخلفه لأبي بكر، فدخل أبو ¬

_ (¬1) هى أم عائشة رضي الله عنها.

بكر رضي الله عنه على مطعم بن عدي، وعنده امرأته -أم الفتى (¬1) - فقالت: يا ابن أبي قحافة، لعلك مصب (¬2) صاحبنا -مدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك. قال أبو بكر للمطعم بن عدي: أقول هذه تقول؟ قال الطعم: إما تقول ذلك (¬3). فخرج من عنده، وقد أذهب الله عَزَّ وَجَلَّ ما كان في نفسه من عدته التي وعده. فرجع فقال: ادعي لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فدعته، فزوجها إياها -عائشة يومئذ بنت ست سنين- ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة، فقالت: ماذا أدخل الله عَزَّ وَجَلَّ عليك من الخير والبركة. قالت سودة: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطبك عليه، قالت: -وودت- ادخلي إلى أبي فاذكري ذاك له -وكان شيخًا كبيرًا قد أدركه السنن قد تخلف عن الحج- فدخلت عليه، فحييته بتحية الجاهلية (¬4). فقال: من هذه؟ قلت: خولة بنت حكيم. قال: فما شأنك؟ قلت: أرسلني محمَّد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - أخطب عليه سودة. قال: كفء كريم. ماذا تقول صاحبتك؟ قلت: ¬

_ (¬1) أي أم الفتى التى خطبت له عائشة. (¬2) الصابئ عند المشركين هو من ترك دينه وقد خافت أم الفتى أن يدخله أبو بكر في الإِسلام بعد زواجه من عائشة. (¬3) جاء في رواية أن المطعم (أقبل على امرأته فقال لها: ما تقولين، فأقبلت على أبى بكر، فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليك تصبئه وتدخله في دينك؟ فأقبل عليه أبو بكر، فقال: ما تقول أنت؟ فقال المطعم: إما لتقول ما تسمع. فقام أبو بكر وليس في نفسه من الموعد شيء. انظر سيرة الذهبي (281). (¬4) في رواية عند الذهبي: فقلت له: أنعم صباحًا.

عروس ولكن

تحب ذاك. قال: ادعيها إلي. فدعيتها. قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفء كريم. أتحبين أن أزوجك به؟ قالت سودة: نعم. قال: ادعيه لي. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إليه، فزوجها إياه. فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج، فجعل يحثي في رأسه التراب. فقال بعد أن أسلم: إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة بنت زمعة) (¬1). ودخلت سودة بنت زمعة بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أول امرأة بعد خديجة .. وكانت مثل خديجة قد سبق لها الزواج برجل قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وربما كانت أسن منه .. أما عائشة رضي الله عنها فقالت: (تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوفى خديجة قبل مخرجه إلى المدينة بسنتين وأنا بنت سبع سنين) (¬2). ودخل - صلى الله عليه وسلم - على سودة .. لكنه لم يدخل على عائشة في مكة أبدًا .. أما سودة فالتحقت ببيته - صلى الله عليه وسلم - .. تصلح من شأنه وترعاه وتزيح عنه الكدر والأذى الذي يلاحقه في شوارع مكة كظله. عروس ولكن أصبح - صلى الله عليه وسلم - عروسًا يبتهج بحياته الجديدة كما تبتهج زوجته به .. لكنهما عريسان للكفاح .. للنضال .. يريدان جعل الأرض كلها أعراسًا ¬

_ (¬1) إسناده حسن. رواه أحمد (الفتح 20/ 237). محمَّد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة ويحيى قالا: وظاهره الإرسال لكنه جاء متصلًا كما في سيرة الذهبي حيث قال يحيى بن عبد الرحمن بن خاطب: قالت: عائشة. وهو ممّن روى عنها وروى عن غيرها من الصحابة وسبب كون الإسناد حسنًا هو محمَّد بن عمرو بن علقمة فهو حسن الحديث. وقد جاء الحديث متصلًا عند الطبراني (23/ 24). (¬2) تزوجها في مكة لكنها لم تزف إليه - صلى الله عليه وسلم - إلا في المدينة، والحديث رواه البخاري ومسلم.

في خيام ربيعة

وأفراحًا .. لكن كيف يتم ذلك والأصنام أطناب خيمة تمنح السواد .. عن الأرض تمنع الضياء .. تحرم العباد نشوة الحياة .. تملأ الطريق نحو الله بالوحوش .. وبالغيلان والهوام. حمل - صلى الله عليه وسلم - ثياب عرسه واتجه نحو تجمعات القوم من جديد .. فلن يكون للعرس لذة والناس محرومون من لذة الإيمان فالتوحيد كالماء كالهواء .. لا بد أن يدخل كل بيت ويعمر كل قلب .. وعلى حامله أن يحفر القناة بمعوله بيديه بأظفاره فالناس عطاش والأرض جفاف. اتجه - صلى الله عليه وسلم - إلى قبائل العرب .. يرافقه أبو بكر الصديق .. وابن أخيه علي بن أبي طالب رضي الله عنهما .. فكانت هذه القصة المنسوجة بالأشعار والأنساب: في خيام ربيعة يقول علي رضي الله عنه: (لما أمر الله تبارك وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض نفسه على قبائل العرب، وأنا معه، وأبو بكر رضي الله عنه، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم، أبو بكر وكان مقدمًا في كل خير، وكان رجلًا نسابة- فسلم، وقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال أبو بكر: وأي ربيعة أنتم؟ أمن هامها، أي من لهازمها (¬1)؟ فقالوا: من الهامة العظمى. ¬

_ (¬1) اللهزمة عظم في اللحى تحت الحنك أي من أشرافها.

فقال أبو بكر رضي الله عنه: وأي هاماتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر؟ قال أبو بكر: منكم عوف الذي يقال له: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: فمنكم جساس بن مرة، حامي الذمار (¬1) ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بسطام بن قيس، أبو اللواء، ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: فمنكم الحوفزان، قاتل الملوك، وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا. قال: فمنكم المزدلف، صاجا العمامة الفردة؟ قالوا: لا. قال: أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: أصحاب الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم من ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من بني شيبان يقال له "دغفل" حين تبين وجهه فقال: إن على سائلنا أن نسله ... والعبو لا نعرفه أو نجهله يا هذا .. قد سألتنا فأخبرناك، ولم نكتمك شيئًا، فممن الرجل؟ قال أبو بكر: أنا من قريش. فقال الفتى: بخٍ .. بخٍ أهل الشرف والرياسة. فمن أي القرشيين أنت؟ قال أبو بكر: ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، أمنكم قصي (¬2) ¬

_ (¬1) أي ما يحمي كالأهل والعرض والمال. (¬2) جد النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الذي جمع القبائل من فهر، فكان يدعى في قريش مجمعًا؟ قال أبو بكر: لا. قال: فمنكم هشام (¬1) الذي هشم الثريد لقومه، ورجال مكة مسنتون عجاف. قال: لا. قال: فمنكم شيبة الحمد: عبد المطلب (¬2) مطعم طير السماء الذي كان وجهه القمر يضىء في الليلة الداجية؟ قال أبو بكر: لا. قال: فمن أهل الإفاضة (¬3) بالناس أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الحجابة (¬4) أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية (¬5) أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل النداوة (¬6) أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الرفادة (¬7) أنت؟ قال: لا. فاجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام الناقة، راجعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الغلام: صادف در السيل درًا يدفعه ... يهضبه حينًا وحينًا يصدعه ¬

_ (¬1) كل هولاء أجداد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) كل هؤلاء أجداد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) انصراف الحجاج من عرفات. (¬4) حجابة الكعبة. (¬5) السقاية: حياض كانت على عبد قصي توضع بفناء الكعبة. يسقى فيها الماء العذب للجميع. (¬6) دار الندوة التي كانت قريش تقضى فيها أمورها، ولم يكن يدخلها من غير أولاد قصى إلا من بلغ أربعين سنة. (¬7) الرفادة: أموال تخرجها قريش من أموالها في كل عام يصنع منه طعام للحجاج.

وعند مفروق وقومه

أما والله لو ثبت لأخبرتك من قريش، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال علي: يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة. قال أبو بكر: أجل يا أبا الحسن، ما من طامة، إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق. وعند مفروق وقومه قال علي رضي الله عنه: ثم دفعنا إلى مجلس آخر، عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر، فسلم. فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة. فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر الناس، فيهم مفروق بن عمرو، وهاني بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك. وكان مفروق قد غلبهم جمالًا ولسانًا، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته (¬1)، وكان أدنى القوم مجلسًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق بن عمرو: إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال المفروق: إنا لأشد ما نكون لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، ¬

_ (¬1) عظم الصدر.

والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يدلنا (¬1) مرة، ويدلي علينا أخرى، لعلك أخا قريش؟ فقال أبو بكر: قد بلغكم أنه رسول الله؟ ألا هو ذا. فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذاك، فإلى ما تدعو يا أخا قريش، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله لا شريك له .. وأن محمدًا عبده ورسوله، وإلى أن تؤوني وتنصروني، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله، وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله الغني الحميد". فقال مفروق ابن عمرو: وإلامَ تدعونا يا أخا قريش، فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ (¬2) نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فقال مفروق بن عمرو: وإلام تدعونا يا أخا قريش، فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض. فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ¬

_ (¬1) أدل الإنسان بحجته: احتج بها وأحضرها. (¬2) الفقر.

ولقد أفك (¬1) قوم كذبوك وظاهروا عليك، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا. فقال هانئ بن قبيصة: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، إني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر أنه زلل في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن يعقد عليهم عقدًا ولكن نرجع وترجع وننظر، وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى بن حارثة، شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى بن حارثة: سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب في جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين صريين اليمامة والسمامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذان الصريان. فقال المثنى: أنهار كسرى، مياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه مغفور، وعنده مقبول، وإنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا أن لا نحدث حديثًا، ولا نؤوي محدثًا، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب. فعلنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلًا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم. أتسبحون الله وتقدسونه، فقال النعمان بن شريك: اللَّهم فلك ذلك. فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ¬

_ (¬1) كذب.

إذا

وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (¬1). ثم نهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابضًا على يدي أبي بكر وهو يقول: يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها، بها يدفع الله عَزَّ وَجَلَّ بأس بعضهم عن بعضى، وبها يتحاجزون فيما بينهم، قال علي رضي الله عنه: فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا، حتى بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سر بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم) (¬2). إذًا ففي خيمة المفروق لا عطاء .. لكن مجلس المفروق كان آخر الأحزان .. لم يحث في الوجوه .. شتمًا ولا تراب .. رطبًا طريًا كان مجلس ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: الآية 46. (¬2) إسناده جيد، رواه البيهقي في الدلائل (2/ 422) واللفظ له، وأبو نعيم (282) من طرق عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: .. وأبان بن تغلب الربعى، أبو سعد الكوفي، ثقة قال أحمد بن حنبل: ثقة، وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: ثقة، وقال النسائي: ثقة، لكنه قد عرف بالتشيع، وتشيعه من النوع الذي يقول عنه الحافظ: (التشيع في عرف المتقدمين: اعتقاد تفضيل علي على عثمان .. ثم قال: وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية الرافض الغالي ولا كرامة) وهذا الرجل ليس من الرافضة بل ممّن ينطبق عليهم التعريف الأول، ولذلك قال الحافظ نفسه عنه في تقريب التهذيب (1/ 30): أبان بن تغلب أبو سعد الكوفي ثقة تكلم فيه للتشيع. انظر التهذيب (1/ 94) وشيخه عكرمة مولى ابن عباس: ثقة مر معنا كثيرًا. وقد تكلمت عن الحديث وطرقه بأطول من هذا في (تخريج أحاديث السيرة) عند تخريجي له. وقد قال الحافظ في الفتح: وأخرجه الحاكم والبيهقيُّ في الدلائل بإسناد حسن. انظر فتح البارى (15/ 71) وقول القسطلاني في المواهب: أخرجه الحاكم والبيهقيُّ وأبو نعيم بإسناد حسن.

لقاء الأنصار

المفروق .. يوحي بأن في الصحراء .. قلبًا وماءً .. نبعًا يرطب العروق .. يشدها نحو السماء. لقاء الأنصار دفع - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رضي الله عنه إلى خيام الأوس والخزرج .. القادمين من حرة يثرب .. فكان لقاء الغرباء بالغرباء .. جدد الدنيا .. وحول التاريخ .. وأعاد إلى الإنسانية مكانتها وقيادتها التي كادت تهلك دونها. (لما لقيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال لهم: ممّن أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أمن موالي يهود؟ " قالوا: نعم. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أفلا تجلسون أكلمكم؟ " قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وعرض عليهم الإِسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله لهم في الإِسلام أن يهودًا كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانت الأوس والخزرج أهل شرك، وأصحاب أوثان فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالت اليهود: إن نبيًا مبعوث الآن قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم (¬1). فلما كلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر، ودعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، قال بعضهم لبعض: يا قوم اعلموا والله أن هذا الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه لمَّا دعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإِسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله عَزَّ وَجَلَّ أن يجمعهم الله بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ¬

_ (¬1) أرم: قوم منهم عاد، وقيل: مدينة كبيرة لهم. وهذه العبارة لا تزال موجودة في توراة اليهود حتى اليوم.

العقبة الأولى

ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا) (¬1). ولما وصلوا إلى يثرب .. تسللوا إلى قلوب بعض قومهم .. فاستجابوا لهم وأسلموا .. فصار في تلك الديار من يعبد الله وحده لا شريك له .. ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فلما كان موسم الحج التالي قدمت مطايا يثرب من المشركين تحج مكة .. وكان بين الركب مطايا للموحدين .. وفد يثرب من الأنصار مشوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد انقضاء شعائر الحج .. غسلوا أيديهم من دماء الثارات والعنف الجاهلي بماء زمزم الطاهر .. غسلوها ومدوها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - طاهرة .. يبايعونه ليلًا .. وعيون مكة نائمة عما يجري على أرض العقبة. العقبة الأولى وعندما رأى - صلى الله عليه وسلم - أيديهم تصل إليه إذعانًا وامتثالًا لله ورسوله .. قال لهم: (تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه) (¬2). فبايعوه وشدت الأيدي للنهوض بالحق وبذله للجميع لشعوب الأرض جميعًا. والرجال المبايعون في العقبة الأولى كانوا قليلًا .. يقول ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه رواه البيهقي (2/ 433) وأبو نعيم (298) والطبرانيُّ قال ابن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه: لما لقيهم، وهذا يعني أن الأشياخ هم الذين قابلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي أنهم من الصحابة، وعاصم بن عمر روى عن بعض الصحابة، وهو تابعي ثقة. فالإسناد صحيح. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري - مناقب الأنصار، ومسلمٌ (الحدود).

أحدهم وهو عبادة بن الصامت: (كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلًا) (¬1) حملها الأنصار وابتهجوا بها، وكانت فخرهم عندما يلوح الرجال بإنجازاتهم أمام الجميع .. يقول أحدهم وهو كعب بن مالك: (ولقد شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإِسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها) (¬2). وممن شهد العقبة: جابر بن عبد الله الأنصاري القائل: (أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة) (¬3) والقائل: (شهد بي خالاي العقبة) (¬4). تلك بيعة حطمت جدرانًا سوداء تحجب عن الدنيا أنوارًا للآخرة .. بيعة توقظ .. بيعة تهز هذا الإنسان الرث الملتحف بقشور السنين المظلمة .. تقول له: هذا ربك فاعبده وحده .. وأنت خليفته وسيد كونه. فاجعله ربيعًا يبتسم. وهذا مالك منثور في كل مكان .. ابحث عنه والتقطه .. ودع غيرك يبحث ولا تمدن يديك إلى ما في أيدي الغير .. حتى تكون خليفة حقًا .. وسيدًا للكون أيضًا. وتزوج فالحب أنفاس الحياة .. فلا تلوثها برائحة البغايا المنتنة. ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 57) حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابجي، عن عبادة بن الصامت، وفي هذا السند صرح ابن إسحاق والسماع من شيخه والثقة الفقيه يزيد وليد (تهذيب 11/ 318) وشيخه مرثد تابعي ثقة فقيه (التهذيب 10/ 82) وابن عسيلة رحمه الله رحل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجده قد مات، وقد وثقه العجلي (التهذيب 6/ 229). (¬2) حديث صحيح. (البخاري- مناقب الأنصار). (¬3) حديث صحيح. رواه (البخاري - مناقب الأنصار). (¬4) حديث صحيح. رواه (المصدر السابق).

مصعب بن عمير في يثرب

إنها بيعة تلاحق ذلك الرجل المتجه كالغضب نحو المقابر .. تمسك به وتهز كتفيه وتصرخ في وجهه: ويحك قف ما هذا الذي تحمله على ظهرك قاصدًا به نحو المقابر .. ويحك قف إنه ما زال حيًا .. إنها ابنتك ونبض قلبك .. شريانك ودمك .. ماذا جنت حتى تهيل التراب عليها وهي شاخصة تبلل لحيتك وقبرها بدموع .. تناشدك شيئًا من حنان .. مبادئ عظيمة قبض عليها الأنصار بأيديهم وحملوها إلى يثرب .. فلما أروها بعض قومهم قدموا إلى مكة طمعًا في مثلها فكان: (يأتيه الرجل، فيؤمن به، فيقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لا يبقى دار من دور يثرب إلا فيها رهط من المسلمين يظهرون الإِسلام) (¬1). ويبتهجون بتلك المبادئ التي غرسها في أعماقهم هذا الدين المدهش حفظت لهم أعراضهم وأموالهم .. وأطفالهم وأذابت ما بينهم من صدأ الجاهلية .. كحبات المطر يمتزجون سيلًا يغيث الصحراء .. لا فرق بينهم جميعًا .. لكن أكرمهم عند الله أتقاهم ومع ذلك كانوا بحاجة إلى معلم يقرأ عليهم كتاب الله .. فكان: مصعب بن عمير في يثرب لقد (بعثوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أبعث إلينا رجلًا من قبلك، فيدعو الناس بكتاب الله، فإنه أدنى أن يتبع، فبعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مصعب ابن عمير" أخا بني عبد الدار، فترل في "بني غنم" على أسعد بن زرارة، ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه الإمام أحمد (20/ 269 الفتح الرباني) والبيهقيُّ (2/ 442) من طريق: ابن خثيم عن أبي الزبير أن جابر حدثه: أبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس ثقة من رجال الشيخين وهو مدلس لكنه سمع من جابر هنا وعبد الله بن عثمان بن خثيم ثقة. قاله النسائي وابن سعد والعجلي وزاد ابن معين: حجه.

غربة مصعب

فجعل يدعو الناس سرًا، فيفشو الإِسلام ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخفين بدعائهم) (¬1). غربة مصعب لم تخل حياة هذا المعلم الغريب من المعاناة .. فهو بعيد عن مكة .. بعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ظهره مكشوف للجميع .. لا يملك شيئًا .. لا أهلًا .. ولا مالًا .. ولا سلاحًا .. كل ما يملكه رسالة ربه .. هي زاده وهي سلاحه .. يقتحم الأهوال بها .. لا يأبه إن ضرب أو مات فما خرج من مكة يبحث عن حطام الدنيا .. بل كان يتحسس حطام القلوب والأرواح .. ليجمعها من جديد .. كان يحمل الحياة في هوة الموت .. يردمها .. ثم يزرعها للجميع .. خضراء أشرقت يثرب بمصعب بن عمير .. لكن من يحملون في صدورهم صخورًا .. ساءتهم تلك البهجة وذلك الاخضرار .. فأخبروا سيدًا لهم ليضع للأمر حدًا .. ولمصعب ومن معه نهاية يقفون عندها .. وكان اسم سيدهم هذا (سعد بن معاذ، فأتاهم في لأمَتَه (¬2) معه الرمح حتى وقف عليهم فقال لأسعد بن زرارة: علام تأتينا في دورنا بهذا الوحيد الفريد الطريح الغريب، يسفه ضعفاءنا بالباطل، ويدعوكم إليه، ولا أراكم بعدها بشيء من جوارنا. فرجعوا. ثم إنهم عادوا الثانية لبئر مرق (¬3) أو قريبًا، فأخبر بهم سعد بن معاذ .. فتواعدهم ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ بالشواهد وتخريجه في الحديث الذي يليه فهو جزء منه. (¬2) عدة الحرب. (¬3) بئر من آبار المدينة، وبداية هذا الحديث عند هذا البئر كما جاء في أول القصة: إن أسعد ابن زرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مرق، أو قريبًا منه، فجلسا هناك، وبعثا إلى رهط من أهل الأرض، فأتوهم مستخفين، فبينا مصعب بن عمير يحدثهم ويقص عليهم، وأخبر بهم سعد بن معاذ، فأتاهم في لأمته، الرمح .. إلخ.

توعدًا دون الوعيد الأول. فلما رأى أسعد بن زرارة منه لينًا قال: يا ابن خالة اسمع من قوله، فإن سمعت منكرًا فاردده بأهدى منه، وإن سمعت حقًا فأجب إليه. فقال سعد: ماذا يقول؟ فقرأ عليه مصعب بن عمير: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فقال سعد بن معاذ: ما أسمع إلا ما أعرف. فرجع وقد هداه الله تعالى، ولم يظهر لهم الإِسلام حتى رجع إلى قومه، فدعا بني الأشهل إلى الإِسلام، وأظهر إسلامه، وقال: من شك فيه من صغير أو كبير، أو أنثى أو ذكر، فليأتنا بأهدى منه نأخذ به، فوالله لقد جاء أمر لتحزَّنَّ فيه الرقاب. فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد بن معاذ ودعائه، إلا من لم يذكر، فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرهم، ثم إن بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير واشتدوا على أسعد بن زرارة، فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ، فلم يزل عنده، ويهدي الله على يديه، حتى قل دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجموح، وكسرت أصنامهم، وكانت المسلمون أعز أهلها، وصلح أمرهم، ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يدعى المقرئ) (¬1). عاد المقرئ إلى معلمه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - يبشره بأن يثرب قد ملئت دروبها بحطام الأصنام .. يبشره بأن أبوابا مشرعة للشمس والهواء .. للقلوب المحبة ¬

_ (¬1) سنده مرسل عند أبى نعيم (306) وهو مرسل عروة، وروى مرسلًا عن الزهري، لكن للخبر شاهد عند ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 60): حدثني عبد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وهذان تابعيان ثقتان ولبعض الخبر شواهد صحيحة مر بعضها.

حيرة بين الأقصى والكعبة

المبتسمة .. للأيدي تصافح .. يبشره بأن التوحيد - يغمر أجواء يثرب .. فلقد عادت الحياة إليها من جديد. أما قريش فقد كانت أسوأ مما تركها عليه .. لقد تحولت في وجه رسول الله وصحبه إلى سدود حديد صلبة .. وأقفال لا مفاتيح لها .. كان المشركون صمتًا مخيفًا يفوح مكيدة وخبثًا .. أما الموحدون فكانوا صمتًا متفائلًا ينتظرون لقاء الأنصار في العقبة الثانية. حيرة بين الأقصى والكعبة حان موعد الحج .. فتداعى الحجيج وسالوا من كل فج نحو بيت ربهم .. لكن الكعبة لم تكن تنتظر إلا وفدًا قادمًا من حرة يثرب .. فهم لا يحملون أصنامًا .. ولا يعلقون تمائم .. إفم يحملون توحيدًا يغسل الكعبة مما علق بها من أرجاس الشرك .. الشاعر كعب بن مالك أحد هؤلاء الموحدين يحمل شعرًا يحمل طهرًا ويحدثنا فيقول: (خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة مع مشركي قومنا، ومعنا "البراء بن معرور" كبيرنا وسيدنا، حتى إذا كنا بظاهر "البيداء" قال: يا هؤلاء تعلمون أني قد رأيت رأيًا، والله ما أدري توافقون عليه أم لا، فقلنا: وما هو يا أبا بشر؟ قال: إني قد أردت أن أصلي إلى هذه البنية (¬1)، ولا أجعلها مني بظهر، فقلنا: لا والله لا تفعل، والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام. قال البراء بن معرور: فإني والله لمصل إليها، فكان إذا حضرت الصلاة توجه إلى الكعبة، وتوجهنا إلى الشام حتى قدمنا مكة، فقال لي البراء بن معرور: يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى أسأله عما صنعته في سفري هذا، فلقد وجدت في نفسي منه بخلافكم إياي. فخرجنا ¬

_ (¬1) يعني يريد استقبال الكعبة عندما يصلي.

العقبة الثانية

نسأل عن رسول الله، فلقينا رجلًا بالأبطح. فقلنا: هل تدلنا على محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقال: فهل تعرفانه إن رأيتماه؟ فقلنا: لا والله ما نعرفه -ولم نكن رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب؟ فقلنا: نعم. وقد كنا نعرفه، كان يختلف إلينا بالتجارة- فقال: فإذا دخلتما المسجد فانظرا العباس، فهو الرجل الذي معه. فدخلنا المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعباس ناحية المسجد جالسين، فسلمنا، ثم جلسنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال العباس: نعم. هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك. فوالله ما أنسى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشاعر؟ قال العباس: نعم. فقال له البراء: يا رسول الله إني قد كنت رأيت في سفري هذا رأيًا، وقد أحببت أن أسألك عنه لتخبرني عما صنعت فيه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "وما ذاك؟ " قال البراء: رأيت أن أجعل هذه البنية مني بظهر، فصليت إليها. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد كنت على قبلة. لو صبرت عليها. فرجع إلى قبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) .. ورجع هو ومن معه إلى رحال قومهم .. وفي أواخر أيام الحج هذه تجهز الأنصار لموعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السرِّي في ليلة: العقبة الثانية يقول كعب بن مالك: (وقد واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة أوسط أيام التشريق، ونحن سبعون رجلًا للبيعة، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام "أبو جابر" وإنه لعلى ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في الحديث التالي فهو جزء منه.

شركه، فأخذناه فقلنا: يا أبا جابر، والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه، فتكون لهذه النار غدًا حطبًا، وإن الله قد بعث رسولًا يأمر بتوحيده وعبادته، وقد أسلم رجال من قومك، وقد واعدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - للبيعة. فأسلم وطهر ثيابه، وحضرها معنا، فكان نقيبًا، فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بمنى أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس في النوم تسللنا من قريش تسلل القطا (¬1)، حتى إذا اجتمعنا بالعقبة، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمه العباس، ليس معه غيره، أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، فكان أول متكلم، فقال العباس: إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وهو في منعة من قومه وبلاده، وقد منعناه، ممّن هو على مثل رأينا فيه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم وإلى ما دعوتموه إليه، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانًا فاتركوه في قومه، فإنه في منعة من عشيرته وقومه. فقلنا: قد سمعنا ما قلت. تكلم يا رسول. فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ودعا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وتلا القرآن، ورغب في الإِسلام، فأجبناه بالإيمان به والتصديق له، وقلنا له: يا رسول الله خذ لربك ولنفسك. فقال: إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبناءكم ونساءكم. فأجابه البراء بن معرور فقال: نعم، والذي بعثك بالحق ما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة .. ورثناها كابرًا عن كابر، فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا أقوامًا حبالًا، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن الله أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا. فقال ¬

_ (¬1) نوع من اليمام يؤثر الحياة في الصحراء.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم"، فقال البراء بن معرور: ابسط يدك يا رسول الله نبايعك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا". فأخرجوهم له. فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة. وكان نقيب بن سلمة: البراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام. وكان نقيب بني ساعدة: سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو. وكان نقيب بني زريق: رافع بن مالك بن العجلان. وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع. وكان نقيب القوافل بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت. وفي الأوس من بني عبد الأشهل: أسيد بن حضير، وأبو الهيثم بن التيهان. ونقيب بن عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة. فكانوا اثني عشر نقيبًا تسعة من الخزرج .. وثلاثة من الأوس. فأخذ البراء بن معرور بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضرب عليها، وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا) (¬1) فامتزجت القلوب والأيدي في مهرجان حب وولاء، تللث الأيدي كانت في تمازجها تخنق مخلوقًا مخيفًا لا يُرى ولا ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في نهاية هذا الخبر، وهو حديث صحيح.

الشيطان يصرخ

يُسمع، حشته بيعة العقبة الثانية جمرًا محرقًا، فصرخ يدعو جيوشه المشركة لتطفئ ما به من حريق، لقد كان ذلك الصارخ هو عدو الإنسانية كلها: الشيطان يصرخ يحاول إيقاف غطيط المشركين علهم يتنبهون لما يجري حولهم. يقول كعب بن مالك: (فصرخ الشيطان على العقبة بأبعد -والله- صوت ما سمعته قط، فقال: يا أهل الجباجب (¬1)، هلَّا لكم في مذمم (¬2) -ما يقول محمَّد- والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أزب (¬3) العقبة .. هذا ابن أزيب .. أما والله لأفرغن لك، ارفضوا (¬4) إلى رحالكم". فقال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لم نؤمر بذلك، ارفضوا إلى رحالكم". فرجعنا إلى رحالنا، فاضطجعنا على فرشنا، فلما أصبحنا أقبلت جلة من قريش، فيهم: الحارث بن هشام فتى شاب وعليه نعلان جديدان، حتى جاءوا في رحالنا، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا لتستخرجوه من بين أظهرنا، وإنه والله ما من العرب أحد أبغض إلينا أن ينشب الحرب فيما بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من قومنا من المشركين، يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء، وما فعلناه، وأنا أنظر إلى أبي جابر بن عبد الله بن عمرو بن ¬

_ (¬1) أسماء منازل بمنى، وسميت به لأن كروش الأضاحي تلقى فيها أيام الحج. اللسان. (¬2) هكذا كان الحاقدون المشركرن يسمونه - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون مذممًا بدلًا من محمَّد. (¬3) شيطان اسمه أزب العقبة. (¬4) ارفضوا، أي تفرقوا إلى رحالكم.

حرام -وهو صامت- وأنا صامت. فلما تثور القوم لينطلقوا، قلت كلمة كأني أشركهم في الكلام: يا أبا جابر أنت سيد من ساداتنا، وكهل من كهولنا، لا تستطيع أن تتخذ مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ فسمعه الفتى، فخلع نعليه فرمى بهما إلي، وقال: والله لتلبسنهما. فقال أبو جابر: مهلًا أحفظت لعمر الله الرجل -يقول أخجلته- أردد عليه نعليه. فقلت: والله لا أردهما، فَأْلٌ صالح، والله إني لأرجو أن أسلبنه) (¬1). أما جابر بن عبد الله الأنصاري فيقص أحداث العقبة الثانية فيقول: (بعثنا الله عَزَّ وَجَلَّ له - صلى الله عليه وسلم - من يثرب، فيأتيه الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين، يظهرون الإِسلام، ثم بعثنا الله عَزَّ وجَلَّ وائتمرنا واجتمعنا - سبعين رجلًا منا، فقلنا: حتى متى نذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين، حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (2/ 444): حدثني معبد بن كعب ابن مالك بن القين، أخر بني سلمة عن أخيه عبد الله، عن أبيه كعب بن مالك، قال: خرجنا في الحجة .. وهذا الإسناد صحيح شيخ ابن إسحاق، ثقة من رجال الشيخين فقد وثقه العجلي (433)، وأخوه ثقة. انظر التقريب (1/ 440). فقد قال الحافظ: ثقة يقال له رؤية.

النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة". فقمنا نبايعه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعن رجلًا سنًا، فقال: رويدًا يا أهل يثرب. إنا لم نضرب إليه أكباد المطايا إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم: مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم (¬1) السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله عَزَّ وَجَلَّ، فقلنا: أمط (¬2) يدك يا أسعد بن زرارة، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه نبايعه رجلًا رجلًا، يأخذ علينا شرطه، ويعطينا على ذلك الجنة) (¬3). شمس جديدة كالذهب .. وصباح منعش كالمطر .. ورواحل الأنصار تودع البطاح .. تحمل عهدًا .. تحمل حبًا لمحمد .. تنثر منه للتلال للكثبان .. تنعش به الأجواء .. تبشر به التائهين على صفحة الأرض كلها. أما قريش فالأيام تزيد في جنونها، وطغاتها حارت بهم الدروب .. ¬

_ (¬1) أي تضربكم وتشد عليكم. (¬2) أي أبعد. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أحمد (3/ 339) والبيهقيُّ (2/ 442) من طرق عن: عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير: محمَّد بن مسلم أنه حدثه جابر بن عبد الله .. وهذا الإسناد صحيح ابن خثيم ثقة. انظر التقريب (1/ 432) وأبو الزبير تابعي مدلس لكنه صرح بالسماع من جابر وهو محمَّد بن مسلم بن تدرس وحديثه صحيح.

رؤيا

كلما أغاروا على مسلم ضعيف لم يجدوه .. لم يجدوا في بيته سوى الجدران .. سوى الرياح تنوح داخله باكية تبحث عن أحبتها فلا تجدهم، أما الأبواب فكانت تصطفق تضطرب كقلب عاشَق مهجور .. فلن تعانق بعد اليوم تلك الأيادي المتوهجة بالوضوء. ما الذي حدث يا مكة .. ماذا فعلت بك تلك الرؤيا التي رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: رؤيا رآها - صلى الله عليه وسلم -، فأسر بها إلى أصحابه المثقلين بقيود قريش. قال لهم: (إني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابتين - وهما الحرتان (¬1) .. فهاجر من هاجر قِبَلَ (¬2) المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر رضي الله عنه: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال - صلى الله عليه وسلم -:"نعم". فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ليصحبه، وعلف (¬3) راحلتين كانتا عنده: ورق السمر (¬4) -وهو الخبط- أربعة أشهر) (¬5). جاءت هذه الرؤيا تبعث الأمل من جديد .. بعد أن ضاقت مكة واصطكت جبالها على الموحدين .. بعد أن أصبح الموت يتلصص عليهم .. يرقبهم في الزوايا والممرات متوثبًا يريد الفتك بهم وبدينهم .. فلم المكوث في هذا الاختناق. ¬

_ (¬1) الحرة أرض ذات حجارة سوداء كأنها أحرقت بالنار. (¬2) نحو .. (¬3) أطعمها العلف. (¬4) شحرة الطلح. (¬5) حديث صحيح. رواه البخاري (3905).

هجرة عمر بن الخطاب وعياش وهشام

هجرة عمر بن الخطاب وعياش وهشام يقول رضي الله عنه: (اتعدت لما اجتمعنا للهجرة أنا و"عياش بن أبي ربيعة" و"هشام ابن العاص": الميضأة (¬1) -ميضأة بني غفار- فوق سرف، وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس، فليمض صاحباه. فحبس عنا هشام بن العاص، فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف (¬2)، وخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة -وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما- حتى قدما علينا المدينة، فكلماه، فقالا له: إن أمك نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، فرق لها .. فقلت له: يا عياش .. والله إن يريدك القوم إلا عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت. قال عياش: إن لي هناك مالًا فآخذه. قلت: والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالًا، ظك نصف مالي ولا تذهب معهما فأبى إلا أن يخرج معهما. فقلت له لما أبى علي: أما إذا فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه، فإذا ذلول (¬3) فالزم ظهرها، فإن رابك (¬4) من القوم ريب فانج عليها. فخرج معهما عليها، حتى إذا كانوا ببعض الطرق قال أبو جهل بن هشام: ¬

_ (¬1) أي تواعدنا في مكان يقال له (الميضأة). (¬2) أي أرض قباء. (¬3) سهلة الانقياد. (¬4) أصابك الشك.

والله لقد استبطأت بعيري هذا، أفلا تحملني على ناقتك هذه. قال عياش: بلى. فلما أناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه وأوثقاه، ثم أدخلاه مكة، وفتناه، فافتتن، فكنا نقول: والله لا يقبل الله ممّن افتتن صرفًا ولا عدلًا، ولا يقبل توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل فيهم وفي قولنا لهم، وقولهم لأنفسهم: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1) قال عمر بن الخطاب: فكتبتها في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص. قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طوى، أصعد بها وأصوب (¬2) حتى فهمتها، فألقي في نفسي أنما نزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت، فجلست على بعيري فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة) (¬3). يأس كاد أن يقضي على اثنين من رجال الإِسلام .. كان عمر فيها بطلًا .. شهمًا .. بعيد النظر .. يعرف من يكون طاغوت قريش الملقب بـ (أبي جهل) وما هي ألاعيبه .. لذلك مد يديه مفتوحتين يتناثر منهما ماله .. يبذله بسخاء افتداءً لأخيه من المجهول المخيف .. لكنَّ أخاه كان ¬

_ (¬1) سورة الزمر: الآيتان 52، 53. (¬2) صعد النظر أي نظر إلى أعلاه وصوبه أي خفضه. (¬3) رواه ابن إسحاق (ابن هشام 4 - 2/ 85) فقال: حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب قال: اتعدت إنما أردتا الهجرة .. وهذا الإسناد صحيح ورجاله ثقات أعلام معروفون، وابن إسحاق صرح بالسماع من شيخه نافع.

مأساة هند

رقيق القلب تجاه أمه فصدق ما قيل له .. فنزل عمر عن راحلته ليركب أخوه عليها .. فإذا سريعة متى ما أحس بحاجة إلى الهرب .. وتمت التمثيلية .. ووقع عياش في الأسر والحزن .. وحاصرته جبال مكة حتى اقتربت من أضلاعه .. وطوته الأيام بالهموم والضياع .. حتى نزل الفرج من الله .. كلمات تشرح الصدور وتغرس فيها الآمال من جديد .. ولم يكن عياش وهشام وحدهما المأساة .. فـ (أم سلمة) كانت حزنًا يزحف في طريق الهجرة .. أم سلمة كانت غربة تبحث عن أرض كالحب .. كالأمان تحقق انتماءها عليها .. أم سلمة امرأة حزينة .. هامت على وجهها تبحث عن حياة حقيقية تليق بمسلمة مثلها لا ترضى بالذل ولا بالتخلف معها. ركبت البحر إلى الحبشة بصحبة زوجها العظيم (أبي سلمة رضي الله عنهما) .. وركبته ثانية عائدة إلى مكة بعد أن لاح في الأفق أمل للحرية في أجواء مكة .. عادت وزوجها .. فوجدا مكة أكثر ظلمة .. وأكثر أنيابًا .. ولما سمعا بأن في حرة المدينة أذرعًا وقلوبًا مفتوحة وشمسًا مشرقة .. التفتا إليها لعل هذا الهم ينفض عن قلبيهما .. وسارا نحو مدينة الإِسلام الجديدة لا يعلمان ماذا تخبئ الجبال خلفها .. ولا أي حزن كانت تغطيه رمال الطريق. مأساة هند تقول رضي الله عنها: (لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني "سلمة بن أبي سلمة" في حجري، ثم خرج بي يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيتك صاحبتك هذه، علام نتركك

تسير بها في البلاد؟ فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه .. وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد "رهط أبي سلمة" (¬1) فقالوا: لا والله، لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا .. فتجاذبوا ابني "سلمة" بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة .. ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني .. فكنت أخرج كل غداة، فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي: سنة أو قريبًا منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبن زوجها وبن ولدها. فقالوا لي: إلحقى بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد -أي عند ذلك ابني، فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله .. أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان (¬2) بن طلحة بن أبي طلحة -أخا بني عبد الدار- فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة. فقال: أوما معك أحد؟ فقلت: لا والله، إلا الله وابني هذا. قال: والله ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلًا من العرب قط أرى أنه أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي .. ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت أستأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها، ¬

_ (¬1) أي قومه. (¬2) أسلم هذا الشهم فيما بعد.

فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري، فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي. حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمر وابن عوف بـ (قباء) قال: زوجك في هذه القرية -وكان أبو سلمة بها نازلًا- فادخليها على بركة الله، ثم انصرف. فكانت أم سلمة رضي الله عنها تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإِسلام أصابهم ما أصاب أبا سلمة، وما رأيت صاحبًا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة) (¬1). في غربة الدروب والأسفار لا طفل .. لا حبيب .. لا ظل .. لا أشجار .. عام بلا نهار .. عام بلا نهار .. في الأبطح المزروع بالرماح والقضبان .. هند تموت .. في كل ساعة تموت .. والشرك شرطة تحاصر الأنفاس .. وترفض العبور تقفل المكان .. وتفسح الطريق عبر غابة الأكفان. للحزن والرمضاء والزمام .. عثمان يخطف الزمام .. وينقش الشهادتين والوعود .. كي يعود .. لأنهر الحياة والإسلام .. لا بد أن يعود .. فإن بين جوانح هذا الشهم إسلامًا مكتوف اليدين .. يحتاج إلى شرارة تحرق قيده .. وتزيح ركام الجاهلية الجاثم على أنفاسه. ¬

_ (¬1) رواه ابن إسحاق (ابن هشام 2/ 80) وقد صرح بالسماع من والده فقال: حدثني أبي يسار، عن سلمة بن عبد الله عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة، قالت: في هذا السند والد ابن إسحاق وهو إسحاق بن يسار وهو ثقة .. انظر التقريب أما سلمة فهو تابعى وثقه ابن حبان فيحتاج إلى مزيد من التوثيق وقد أوردته لأن سلمة تابعى روى عنه عدد من ثقات التابعين وأعلامهم ومنهم: الثقة الثبت عمرو بن دينار، وعطاء بن أبي رباح وهو ثقة فقيه فاضل وكذلك والد ابن إسحاق وهو تابعى ثقة. انظر التهذيب (4/ 148). ولأنه يروي هذا الحديث عن جدته.

رسول الله يؤمر بالهجرة

مأساة كانت أم سلمة .. مآسي كانت دروب الفرار من الاضطهاد إلى بلد الحرية المفتوح .. لكن ماذا عن سيد المهاجرين .. هل سيبقى وحيدًا في مكة وبيوت أصحابه خالية إلا من بكاء الريح. ترى متى سيهاجر. رسول الله يؤمر بالهجرة قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فأُمِر بالهجرة، وأنزل عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (¬1). وبعد نزول هذا الأمر الكريم اتجه - صلى الله عليه وسلم - نحو صاحبه أبي بكر في سرية تامة .. متلثمًا، في وقت يلوذ فيه الناس ببيوتهم وتخف وطأتهم على الطرقات والدروب لشدة الحر والرمضاء .. في هذا الوقت الذي يتجول فيه السموم واللهب وحدهما في الطرقات كان - صلى الله عليه وسلم - يطرق باب أبي بكر الصديق بحذر شديد .. تقول عائشة رضي الله عنها: (فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعًا (¬2) -في ساعة لم يكن يأتينا فيها- فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "اخرج من عندك" فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول ¬

_ (¬1) إسناده حسن. رواه أحمد (تفسير ابن كثير3/ 58) فقال: حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، وهذا الإسناد حسن وقد مر معنا تخريجه, وقال ابن كثير بعد أن ذكره: قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ. (¬2) متغطيًا بثوب متخفيًا عن أعين قريش.

دار الندوة

الله. قال- صلى الله عليه وسلم -: "فإني قد أذن لي في الخروج". فقال أبو بكر: "الصحابة" (¬1) بأبي أنت يا رسول الله. قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "نعم". قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "بالثمن") (¬2). أي سأدفع قيمتها. هذا ما كان يفعله رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - .. أما أعداء الإسلام والحياة .. طواغيت قريش فكانوا في تلك الأيام في شغل وهم ومكائد ينسجون خيوطها في مكان يقال له: دار الندوة حيث تحولت قريش في اجتماعاتها الحاسمة إلى حمم من الغضب .. دار الندوة تحولت إلى بركان ثائر يريد رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأي ثمن .. فقد أيقنت قريش بأنه لا محالة خارج إلى مدينة الإسلام الجديدة متلحقًا بأصحابه .. الوضع مخيف جدًا .. قريش يخيفها مستقبلها المجهول إن انتصر عدوها محمد - صلى الله عليه وسلم - .. لذلك اجتمعت في يوم أسمته (يوم الزحمة) الذي تحدث عنه ابن عباس فقال: (لما اجتمعوا لذلك، واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة، ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى الزحمة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بت (¬3) له، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفًا على بابها، قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأي ونصح، ¬

_ (¬1) أي أريد صحبتك في هذه الهجرة. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3905). (¬3) البت: هو الكساء الغليظ.

قالوا: أجل، فادخل. فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة. من بني عبد شمس: شيبة وعتبة ابنا ربيعة .. وأبو سفيان بن حرب. ومن بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي .. وجبير بن مطعم .. والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة. ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البختري بن هشام .. وزمعة بن الأسود بن المطلب .. وحكيم بن حزام. ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام .. ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج. ومن بني جمح: أمية بن خلف .. ومن كان معهم وغيرهم ممّن لا يعد من قريش .. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد كان، وما قد رأيتم، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيًا. فتشاوروا. ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله: زهيرًا، والنابغة، ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه منه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه كما تقولون لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم هذا .. ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره ثم تشاوروا، فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا، فإذا خرج فوالله ما نبالي إلى أين ذهب، ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.

قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم بهم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيًا غير هذا. فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابًا جلدًا، نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدون إليه، ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل (¬1) كلها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، ورضوا منا بالعقل فعقلناه لهم. فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل. هذا الرأي لا رأي لكم غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له) (¬2) ذلك ما أسفر عنه يوم الزحمة .. أما بيت أبي بكر .. فلم ¬

_ (¬1) أي الدية. (¬2) حديثٌ حسنٌ بطرقه، رواه ابن إسحاق، ومن طريقه رواه الطبري (2/ 370) من عدة طرق، صرح فيها بالسماع، فقد سمعه من الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا الطريق لا يفرح به لأن فيه الكلبي وهو تالف، أما الطريق الثانية: الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة, عن مقسم، عن ابن عباس. والحسن هذا متروك، أما الطريق الثالثة فرجالها ثقات: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير عن ابن عباس، ومجاهد إمام تابعى ثقة معروف وعبد الله بن أبي نجيح ثقة، لكنه ربما دلس أي أنه قليل التدليس، وللحديث شواهد تجعله حسنًا لا شك، فقد رواه عبد الرزاق بسند صحيح عن قتادة (5/ 389) مرسلًا وهذا شاهد يكفى، كذلك له شاهد آخر من طريق الواقدي: عدة أسانيد عن علي وعائشة وسراقة. والواقدي متروك.

علي بن أبي طالب على فراش الموت

يكن أقل نشاطًا مما يحدث في دار الندوة .. فالكتمان والصمت والعمل الدؤوب شعار للجميع. تقول عائشة: (فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين) (¬1)، فتاتان من فتيات الإسلام يواجهن الموت ليل نهار .. يردن بذلك وجه الله .. ينشرن أذرعهن طريقًا لمدينة الإسلام .. هاتان الفتاتان ليستا وحدهما من بين شباب الإسلام .. كان هناك شاب عظيم طرح للموت جسدًا باعه لله .. يفتدى به رسوله - صلى الله عليه وسلم- ذلك هو: علي بن أبي طالب على فراش الموت فعندما اتفق الطغاة على تحديد ليلة ينكسون فيها سيوفهم في ذلك الجسد الطاهر .. ثمانية سيوف وربما أكثر تتلمض تريد أن تستحم بدمائه - صلى الله عليه وسلم - وتشب .. يريدون ليطفئوا نور الله .. والله متم نوره .. ولو كان فوق كل حبة رمل سيف لأعدائه .. أرسل الجبار سبحانه وحيًا يحمله جبريل (فأتى جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كان العتمة من الليل اجتمعوا على بابه، فترصدوه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي، واتشح (¬2) ببردي الحضرمي الأخضر، فنم فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينام في برده ذلك إذا نام) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري، وقد مر معنا أوله. (¬2) أي تغط. (¬3) جزء من حديث طويل مر معنا وهو عن اجتماع دار الندوه وهو حسن بالشواهد.

وامتثل الفارس الشاب لأمر سيده - صلى الله عليه وسلم - .. واتشح بالبرد .. وكان على استعداد ليتشح بالدماء .. فقد علمه الإسلام كيف يبذل روحه لله وحده .. علمه كيف يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من نفسه .. وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متسللًا .. وبعد خروجه (جاء أبو بكر وعلي نائم، وأبو بكر يحسب أنه نبي الله، فقال: يا نبي الله. فقال علي: إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، وجعل علي يُرْمَى بالحجارة كما كان يُرْمَى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتضور (¬1)، قد لف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف رأسه، فقالوا: إنك للئيم، كان صاحبك نرميه فلا يتضور، وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك) (¬2). إذًا فقد حدث تغيير بسيط في خطة الهروب بعد أن علم - صلى الله عليه وسلم - بالمؤامرة فلم ينم على فراشه .. وتسلل- صلى الله عليه وسلم - بعد تخطيط محكم وخدعة بارعة انطلت على جميع الأغبياء والأذكياء منهم .. على كل سيف صلت قد انتصب خلف باب ينتظر الجريمة .. ولم تكتشف أكداس الكفر خلف الجدار ما حل بهم إلا بعد أن تنفس الصبح في وجوههم يوقظهم ليسخر منهم .. علي بن أبي طالب كان فتى يعدل أمة .. ويخدع طواغيتًا قد ركمهم الحقد وحنطهم الغل حول الباب .. بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذ بيد صاحبه أبي بكر عند بئر ميمون ويواصلان المسير على عجل .. يدفعان الجبال عنهما دفعًا .. بالتأكيد لم يكونا في نزهة خارج مكة .. لقد كانا مسرعين ¬

_ (¬1) يتلوى. (¬2) إسناده لا بأس به, رواه أحمد (الفتح الرباني 23/ 118) من طريقين، عن أبي عوانة، حدثنا أبو بلج، حدثنا عمرو بن ميمون عن ابن عباس: وأبو عوانه اسمه: وضاح بن عبد الله اليشكري, وهو ثقة ثبت. التقريب (2/ 331) وشيخه اسمه: يحيى بن سليم وحديثه حسن إذا لم يخالف، أما عمرو بن ميمون أبو عبد الله الأودي، فهو مخضرم مشهور وثقة عابد. التقريب (2/ 80).

ماذا دهاك يا أبا بكر

يقصدان جبلًا عيَّناه وحدداه ورسماه ضمن خارطة الهجرة وخطة الهروب .. وهما الآن يعجان إليه .. لكن أبا بكر الصديق لم يكن طبيعيًا .. كان مرتبكًا .. طريقة سيره توحي بذلك .. فهو يحمل روحه في إحدى يديه .. ويحمل باليد الأخرى خمسة آلاف درهم هي كل ما يملكه من مال .. لكن حركته واضطرابه لا توحي بأنه خائف على روحه ولا على ثروته فماذا هناك؟ ماذا دهاك يا أبا بكر أتدرون ماذا كان يفعل (يكون مرة أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة .. وخلفه مرة، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى (¬1) من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك) (¬2) واستمر أبو بكر في تصرفه حتى عندما لامست أقدامه صخور الجبل .. وعند الصعود فعل ذلك (حتى انتهى إلى الغار من ثور). عندها فعل أبو بكر ما لا يفعله غيره (قال أبو بكر: كما أنت (¬3). حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه فإذا كانت فيه دابة أصابتني قبلك) (¬4). ¬

_ (¬1) أي تهاجم وتصاب. (¬2) حديثٌ حسنٌ بالشواهد: رواه البغوي (سيرة ابن كثير 2/ 237) وابن هشام، حدثنا داود الضبي، حدثنا نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة ورجال هذا الإسناد ثقات، انظر داود الضبي في التقريب (1/ 233) حيث قال عنه: ثقة، وراجع ترجمة نافع بن عمر في التقريب (2/ 296) حيث قال عنه: ثقة ثبت، وابن أبي مليكة تابعي ثقة أدرك ثلاثين صحابيًا واسمه عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، إذًا فالنص مرسل، لكن يشهد له حديث عمر، وسند آخر جاء عن عمر. انظره في دلائل البيهقي (2/ 477) وسند مرسل أيضًا عن الحسن البصري رواه ابن هشام فالحديث حسن. (¬3) أي قف مكانك. (¬4) هو جزء من الحديث السابق.

لقد كان أبو بكر طيفًا من الحنان .. سحابة من الحب تظل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كأني به يود لو صنع من جسده درعًا يحمي به رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حتى يصل إلى أحبابه المنتظرين في حرة المدينة وبين نخيلها. فلا عجب أبدًا بعد هذا أن يحمر وجه عمر بن الخطاب غضبًا على رجال فضلوه على أبي بكر .. لقد كان عمر يعرف من هو أبو بكر .. فقد (ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر، فقال رضي الله عنه: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من عمر، لقد خرج رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ليلة انطلق إلى الغار، ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقال:"يا أبا بكر ما لك تمشى ساعة خلفي، وساعة بين يدي؟ " فقال: يا رسول الله أذكر الطلب (¬1) فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد (¬2) فأمشي بين يديك. فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ " قال رضي الله عنه: نعم. والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ، فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله. فنزل ثم قال عمر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر) (¬3). ذاك جسد لأبي بكر باعه لله .. وتلك دماء تشخب منه تنقش على ¬

_ (¬1) من يسيرون خلفه طلبًا لدمه. (¬2) أي من يترصدون له في طريقه. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ لولا الانقطاع، فقد رواه البيهقي (2/ 476) أخبرنا موسى بن الحسن بن عباد، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا السري بن يحيى، حدثنا محمد بن سيرين قال: وكل هؤلاء ثقات لكن التابعي الإمام محمد بن سيرين لم يدرك عمر، لكن الحديث حسن بما قبله، وبأحاديث ستأتي إن شاء الله.

جدران الغار حب الله وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد كان أبو بكر مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في الغار، فأصاب يده حجر، فقال: إن أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت) (¬1) ذاك جسد أبي بكر .. أما مال أبي بكر .. كل ماله فهو منثور بي يدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في الغار .. حمله أبو بكر كله .. وقدمه لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-كله .. حتى صار بيت أبي بكر في مكة خاليًا إلا من الإيمان .. وفتيات رباهن الإسلام وأبو بكر .. هذه إحداهن .. المجاهدة العظيمة ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر تقول: (لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف -فانطلق بها معه، فدخل علينا جدي: أبو قحافة (¬2) -وقد ذهب بصره- فقال: والله إني لأراه قد فجعكم (¬3) بماله مع نفسه. قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة (¬4) في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبًا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه، فقال: لا بأس إذا كان يترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا إبلاغ لكم، قالت أسماء رضي الله عنها: ولا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكن أردت أن أسكت هذا الشيخ بذلك) (¬5). ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه عباد حدثه عن جدته أسماء بنت أبى بكر الصديق رضي الله عنهما .. ويحيى وعباد ثقتان، انظر تهذيب التهذيب (11/ 234) (5/ 98) وابن إسحاق لم يدلس فقد صرح بالسماع من شيخه يحيى. (¬2) اسمه عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، مات ابنه أبو بكر قبله وقد أسلم. (¬3) آلمكم وآذاكم، أي أنه لم يترك لكم لا نفسه ولا ماله. (¬4) الكوة: الخرق في الجدار. (¬5) إسنادُهُ صحيحٌ، رواه ابن إسحاق فقال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه =

قريش غاضبة

إنهن بنات أبي بكر .. والدهن شريد طريد، قابع فوق أحد الجبال .. مختبئ بدينه ونبيه- صلى الله عليه وسلم - .. وهذه هي أحوال الدعاة بين مهاجر بعيد عن الأهل والمال .. وأسير تفتك به أظافر قريش .. ومطارد لا يدري ماذا تطوى له التلال والدروب. أما قريش فـ: قريش غاضبة تفجرت كالشظايا .. في كل مكان .. بين الأودية والشعاب .. بين الجبال والدروب .. تقلب الصخور وتفتح الأبواب وتهز أغصان الأشجار .. وتسأل المسافرين وتستجوب الرعاة .. تتمنى لو تسأل الريح وحبات الرمال .. تبحث عنك يا رسول الله تتمنى لو وقعت في قبضتها {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬1) يقول ابن عباس: (تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النبي-صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله عَزَّ وجَلَّ نبيه على ذلك فبات عليٌّ على فراش النبي-صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة، وخرج النبي-صلى الله عليه وسلم- حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًا -يحسبونه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًا رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. ¬

_ = عبادًا حدثه عن جدته أسماء بنت أبى بكر. وهذا الإسناد صحيح: ابن إسحاق صرح بالسماع من شيخه يحيى بن عباد، وشيخه يحيى ثقة، انظر التقريب (2/ 350) والتهذيب (11/ 234) ووالده: عباد، كان قاضي مكة زمن أبيه، وخليفته إذا حج، وهو تابعي ثقة. انظر التقريب (1/ 392) والتهذيب (5/ 98). (¬1) سورة الأنفال.

فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه) (¬1). وعن غضب قريش يحدثنا حفيد أبي بكر فيقول: (إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم حين ظنوا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خارج، وعلموا أن الله قد جعل له بالمدينة مأوى ومنعة، وبلغهم إسلام الأنصار ومن خرج إليهم من المهاجرين، فأجمعوا أمرهم على أن يأخذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإما أن يقتلوه، وإما أن يسجنوه، وإما أن يخرجوه، وإما أن يوثقوه، فأخبره الله عَزَّ وجَلَّ بمكرهم فقال تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬2). وبلغه ذلك اليوم الذي أتى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دار أبي بكر أنهم مبيتوه إذا أمسى على فراشه، وخرج من تحت الليل هو وأبو بكر قِبَل الغار بثور، وهو الغار الذي ذكره الله عَزَّ وجَلَّ في القرآن، وعمد علي بن أبي طالب فرقد على فراشه، يواري عنه العيون) (¬3). وقد وصل المشركون ورسول ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري، أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس: قال ابن كثير: هذا إسناد حسن، وليس كما قال رحمه الله، ففي الإسناد: عثمان الجزري، وحديثه حسن بالشواهد فيحتاج إلى شاهد .. وهذا الشاهد جاء عن الحسن البصري مرسلًا ذكره ابن كثير في سيرته (2/ 239)، أما ذكر الحمامتين اللتين باضتا على فم الغار فلم أعثر له على سند قوي. (¬2) سورة الأنفال: الآية30. (¬3) إسناد مرسل ويشهد له ما سبق، ويرفعه إلى درجة الحسن. انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 465)، وانظر كذلك مغازي عروة للعلامة الأعظمى (128).

الله- صلى الله عليه وسلم - نائم على فراشه وكانوا ينتظرون خروجه .. وللتأكد كانوا يرمونه بالحجارة فلا يتحرك .. ثم أمر- صلى الله عليه وسلم - عليًا أن يرقد في فراشه فكانت هذه القصة التي يرويها ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عم علي رضي الله عنهم حيث يقول: (شرى عليٌّ نفسه، ولبس ثوب النبي- صلى الله عليه وسلم - ثم نام مكانه، وكان المشركون يرمون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألبسه بردة، وكانت قريش، تريد أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجعلوا يرمون عليًا ويرونه النبي-صلى الله عليه وسلم- وقد لبس برده، وجعل علي رضي الله عنه يتضور، -فنظروا- فإذا هو علي فقالوا: إنك للئيم، إنك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور، ولقد استنكرناه منك) (¬1) (فسألوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرهم أنه لا علم له به، فعلموا عند ذلك أنه خرج، فركبوا في كل وجه يطلبونه، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم، ويُجعلون لهم الجُعل العظيم (¬2). وأتوا على ثور الذي فيه الغار، الذي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر، حتى طلعوا فوقه، وسمع النبي-صلى الله عليه وسلم- أصواتهم، فأشفق (¬3) أبو بكر عند ذلك، أقبل على الهم والخوف، فعند ذلك قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) سنده حسن. رواه الحاكم (3/ 4) وأبو داود الطيالسى وأحمدُ (23/ 118) كلهم من طريق أبي عوانه عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس واسم أبي عوانة: الوضاح وهو ثقة ثبت التقريب (2/ 331) وشيخه حسن الحديث فهو صدوق ربما أخطأ وليس هناك من لا يخطىء، التقريب (2/ 402) وهو تابعي صغير، أما عمرو بن ميمون فهو ثقة مخضرم مشهور. التقريب (2/ 80) وقد مر معنا قبل قليل. (¬2) أي جائزة عظيمة مقابل ذلك. (¬3) أي خاف، ومعروف خوف أبي بكر وأنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولًا وأخيرًا كما مر معنا.

الله ثالثهما

"لا تحزن إن الله معنا". ودعا، فنزلت عليه سكينة من الله عز وجل: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). إذًا فقد حامت الأقدام حول فم الغار .. لحظات تحبس الأنفاس وتتقلب فيها القلوب والأبصار .. ويهجم الخوف والرعب من شقوق الغار .. من سيوف الطغاة ومن العيون التي تتطاير إجرامًا وشررًا لكن: الله ثالثهما يصف الصديق تلك اللحظات الحاسمة، ويحدث الجميع بما جرى من حوار هامس بينه وبين حبيبه-صلى الله عليه وسلم- فيقول: (كنت مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما") (¬2). إذا كان الأمركذلك فوالله لو سار مع قريش كل الأحياء .. وتشققت المقابر فخرج الأموات يسحبون أكفانهم خلف أبي جهل .. يقلبون معه حجارة الأرض .. ويجتشون أشجارها .. ويزحزحون جبالها ما قدروا على اثنين الله ثالثهما .. فكيف تقدر قريش .. هذا أمر لن يحدث أبدًا {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ¬

_ (¬1) سورة التوبة. وانظر ما بعده وما قبله فهو به حسن لأنه مرسل عروة عند البيهقي (2/ 478). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ وأحمدُ اللفظ لأحمد. انظر الفتح الرباني (20/ 282).

مطلوب حيا أو ميتا

عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). وانحدرت قريش من ذلك الجبل تلهث وتلهث .. وتتصبب عرقًا وهزيمة .. تدحرجت أمامها كبرياؤها وغطرستها .. وأعلنت لمن حولها عن هزيمة قاسية تلقتها من محمد - صلى الله عليه وسلم - .. وأعلنت عجزها وضعفها .. وحاولت الاستنجاد وطلب العون من أي شخص كان ليقبض على محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو: مطلوب حيًا أو ميتًا وقد فتحت قريش صناديق الحلال والحرام .. وعرضت الهدايا والهبات أمام الجميع .. تقدمها لمن يحضر رسول الله حيًا .. أو يسحبه ميتًا .. أو يحمل رأسه ورأس صاحبه إلى قريش .. أحد الذين سمعوا بالجائزة .. أحد الذين فركوا أيديهم طمعًا فيها رجل اسمه: سراقة بن مالك .. يحدثنا فيقول: (جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر دية، كل واحد منهما، من قتله أو أسره) (¬2). إذًا فقريش قد استنفرت رجالاتها وأموالها وتوجهت إلى كل العرب ضد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تستحثهم وتغريهم .. لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كان أذكى من الجميع وقد أعد خطة محكمة لتذهب ضربات قريش في الهواء .. خطة تجعلها لا تجني من ركضها سوى الغبار والعرق .. أما تنفيذ هذه الخطة فقد بدأ حالما انحدرت قريش من جبل ثور .. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينحدر بعدها لقد قرر أن يمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام .. هذه الأيام الثلاثة ¬

_ (¬1) سورة التوبة: الآية 40. (¬2) جزء من حديث صحيح طويل سيمر معنا. رواه البخاري.

ستكون محمومة بالبحث والتفتيش .. وهي كفيلة بالفتِّ من عزيمة الكفار وتسريب الإحباط إلى نفوسهم. لكن كيف سيعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ما يجري .. كان الجواب شابًا من أبناء أبي بكر الصديق أيضًا .. ملأه الإيمان حبًا .. وحماسًا وبذلًا .. اسمه: عبد الله بن أبي بكر يعيش مع قريش في وضح النهار .. يخالطهم يكلمهم. يسمع منهم .. يلتقط أخبارهم ومشاريعهم ثم يحملها إذا جن المساء .. فيصعد بها الجبل .. وفي الغار تكون أخبار قريش ومخططاتها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه .. وقبيل طلوع الشمس عند الفجر .. وبعد أن يؤدي الصلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينحدر إلى مكة ثانية ليقوم بمهمته من جديد .. وعبد الله لم يكلف في هذه المرحلة إلا بمهمة واحدة .. هي حمل الأخبار فقط .. حتى لا يثير شك من يصادفه في طريقه. أما الطعام .. فقد كلف به شاب تربى في بيت أبي بكر أيضًا .. إنه أحد رعاة الغنم .. واسمه: عامر بن فهيرة .. كان يسوق غنماته ويسيح معها في نزهة خارج مكة .. وهذا أمر طبيعي لا يلفت الانتباه أبدًا .. فهو راعي غنم ومهمته تقتضي أن يكون خارج المدينة .. فكان يحمل الزاد إليهما بعد العشاء .. ثم ينصرف عنهما قبل طلوع الشمس أيضًا. تقول عائشة رضي الله عنها: (فَكَمِنا (¬1) فيه ثلاث ليال، ويبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر -وهو غلام شاب، ثقف (¬2)، لقن (¬3) - فيدلج (¬4) من عندهما بسحر (1)، فيصبح مع ¬

_ (¬1) اختفيا في الغار. (¬2) حاذقًا: خفيفًا. (¬3) ذكى. (¬4) الإدلاج: هو السير أول الليل، والمراد هنا إنه يسير من عندهما وقت السحر.

قريش بمكة كبائت (¬2)، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. ويرعى عليهما عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- منحة (¬3) من غنم، فيريحها (¬4) عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما (¬5) - حتى ينعق (¬6) عامر بن فهيرة بغلس (¬7)، يفعل ذلك في كل ليلة من الليالي الثلاث) (¬8). إذًا هناك بطلان: أحدهما يكشف تفكير العدو. والآخر يحمل الطعام. لكن هل سيدوم الحال على هذا الوضع؟ لقد اشترى أبو بكر راحلتين فأين هما .. أعند عبد الله .. أم بين أغنام عامر بن فهيرة؟ وكيف سيحصلان عليهما وعيون قريش تدور .. تتلصص في كل مكان؟ لم تكن الإجابة صعبة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. فقد أعد لذلك خطةً محكمة .. هذه الخطة تقضي بألا تكون الراحلتان عند عبد الله بن أبي بكر ولا عند عامر بن فهيرة .. فلو كانتا عند أحدهما لارتابت قريش وزرعت شكها عينًا تلاحقهما حتى تظفر بما تريد .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدرك ذلك ¬

_ = (1) السحر: هو قبيل الصبح. (¬2) أي كأنه نائم في مكة. (¬3) عطية. (¬4) المراح: هو ما تأوى إليه الإبل والغنم بالليل. (¬5) اللبن الذي رضفت فيه الحجارة المحماة بالنار لينعقد ويثخن وتزول رخاوته. (¬6) النعق: صوت الراعي بغنمه. (¬7) الغلس: ظلمة آخر الليل. (¬8) حديث صحيح. رواه البخاري (3905).

على دروب السواحل

كله ويدرك ما هو أبعد من ذلك .. لذلك استخدم كل الوسائل المباحة المتاحة في أرجاء الكون الفسيح له .. فأسند لهذه المهمة رجلًا مشركًا لكنه كان أمينًا .. واعده - صلى الله عليه وسلم - الليلة الثالثة كي يحضر الراحلتين .. وكان هذا الرجل من أعلم الناس بطبيعة الطريق ومسالكه .. يعرف كيف يتسلل بهما بعيدًا عن حوافر الشرك ورماحه .. تقول عائشة: (واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الديل -وهو من بني عبد بن عدي- هاديًا خريتًا. والخريت: الماهر بالهداية، قد غمس حلفًا في آل العاصي بن وائل السهمي -وهو على دين كفار قريش- فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور، بعد ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهما طريق السواحل) (¬1). على دروب السواحل على دروب السواحل .. الفجر سار يناضل .. والليل صار مخيفًا .. والخوف كان الرواحل .. فهذه الرحلة يحدد نجاحها قيام دولة للإسلام في يثرب .. أو موت حلم ثم البدء من جديد .. والبحث من جديد .. يقول الصديق رضي الله عنه: (أدلجنا من مكة ليلًا، فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا (¬2)، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه، فإذا صخرة، فانتهيت إليها، فإذا بقية ظل لها، فسويته، ثم فرشت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروة، ثم قلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع، ثم ذهبت أنفض (¬3) ما حولي ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3905). (¬2) وقت الظهر. (¬3) أتحسس وأحرس وأراقب المكان.

هل أرى من الطلب أحدًا؟ فإذا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي نريد -يعني الظل- فسألته، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش فسماه، فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم. فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب، ثم أمرته أن ينفض كفيه -فقال هكذا، فضرب إحدى كفيه على الأخرى- فحلب لي كثبة (¬1) من لبن، وقد رويت معي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن، حتى برد أسفله، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوافقته وقد استيقظ فقلت: أتشرب يا رسول الله؟ فشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رضيت ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله. فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له. فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله. قال: لا تحزن إن الله معنا. فلما أن دنا منا، وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة قلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله - وبكيت. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما يبكيك؟ " فقلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن إنما أبكي عليك. فدعا عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها، فوثب عنها. ثم قال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجني مما أنا فيه: فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهمًا، فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا .. وكذا .. ، فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) قليل.

سراقة يتحدث

"لا حاجة لنا في إبلك وغنمك"، ودعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانطلق راجعًا إلى أصحابه، ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬1). مَن سراقة هذا وما الذي أتى به خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. وكيف عرف أنهم يسلكون طريق السواحل؟ سراقة يتحدث ويقص كيف علم بمسلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما أخبره رجل لمحهم يسيرون بقرب الساحل .. وكان ذلك الحديث في مرابع بني مدلج (قوم سراقة) فيقول: (جاء رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر"دية" كل واحد منهما: من قتله أو أسره. فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي -بني مدلج- أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفًا أسودة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه) (¬2). سراقة يبحث عن الدماء والدية فحالما سمع حديث الرجل انتصبت في مخيلته (مائة من الإبل) (¬3) تدفعها قريش لمن ينثر على الساحل دم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه .. تخيل سراقة تلك الإبل المائة وهي تسيل بين الأودية نحوه ليضمها ويلحقها بما يملكه من الأغنام والإبل المنتشرة في طريق المدينة. لذلك حاول إخراس ذلك المتكلم .. وتثبيط عزيمة السامعين من قومه حتى لا يلحقوا بالمهاجرين فيخسر الإبل الجائزة. لقد قال سراقة لذلك الرجل: (إنهم ليسوا بهم، ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3615) والبيهقيُّ (2/ 483) واللفظ له. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3906) مناقب الأنصار. أي رأيت أشخاصًا قرب الساحل. (¬3) جاء ذلك في حديث صحيح الإسناد عند البيهقي (2/ 487).

ولكن رأيت فلانًا وفلانًا، انطلقوا بأعيننا، يبتغون ضالة لهم) (¬1)، ويواصل سراقة حديثه فيقول: (ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة (¬2)، فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه (¬3) الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام (¬4)، فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات. ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان (¬5) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية .. وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3906) مناقب الأنصار. أي ذهبوا يبحثون عن شيء ضاع لنا. (¬2) الأكمة: هي التل. (¬3) الزج: هو الحديدة التى في أسفل الرمح. (¬4) جمع الزلم، وكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام، وكانوا يكتبون عليها الأمر أو النهي ويضعونها في وعاء، فإذا أراد أحدهم أمرًا دخل يده فيه وأخرج سهمًا (أي زلمًا) فإذا خرج ما فيه الأمر استمر في عمله وإن خرج العكس رجع عنه. (¬5) هو الدخان أو الغبار.

وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني (¬1)، ولم يسألاني، إلا أن قال: "أخف عنا" فسألته أن يكتب لي كتاب أمن .. فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬2) بعد أن أعطى الأمان لذلك الباحث الذي يريد قتله وحز رأسه، معجزة مخيفة ورادعة ما حدث لسراقة، إذًا فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حصن حصين لن تصل إليه أيدي المشركين، فلماذا يقول لسراقة: أخف عنا .. لماذا يقولها وهو محاط بهذا الحشد من الخوارق، والجنود التي لا يعلمها إلا الله؟ إنه يقولها لأنه رسول جاء بمنهج من عند الله للبشر، وعلى البشر مهمة نشره هنا وهناك، فبجهدهم ينتشر، وعلى البشر أن يركضوا هنا وهناك بحثًا عن الأسباب الموصلة للنجاح، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته يرسم خطًا لا يمكن أن ينتشر الإسلام إلا بالسير عليه، لقد هاجر- صلى الله عليه وسلم - بعد أن خطط ورسم، وتكتم وتلثم، وسار في الليل والناس نيام، ثم جعل نتائج كل ذلك إلى الله سبحانه، إنه لم يتحدث لأبي بكر قبل الهجرة عن معجزات ستحصل في الطريق, لأنه فعل الأسباب كما طلب منه، ثم فوض أمره إلى الله، إن الهجرة تطبيق عملي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه) (¬3) فإذا أتقنه فقد انتهى دوره .. وهذه طاقة البشر لا يكلفهم الله فوق طاقتهم .. فإن قبض عليه المشركون وقبضوا على صاحبه .. فقد أديا ما طلب منهما ولا شيء عليهما وإن أكرمهم الله بمعجزة أو خارقة فذلك فضل من الله .. لكن المسلم يأثم إن لم يتقن عمله أملًا في حدوث معجزة أو كرامة تقلب ¬

_ (¬1) أي لم يأخذا منه شيئًا. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3906). (¬3) حديثٌ حسنٌ. انظر صحيح الجامع (2/ 144).

الأوضاع وعليه أن ينتظر النكسة في أية لحظة تطرق بابه .. لقد استوعب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المستضعفون هذه الحقيقة .. فدعوا وأسروا واختفوا ولاقوا ما لاقوا في سبيل ربهم .. ولما أقفلت قريش أبواب مكة كلها في وجوههم تركوها لهم .. غادروها وهي أحب البقاع إلى الله وإليهم .. لقد وقف - صلى الله عليه وسلم - يومًا (بالحزوراء في سوق مكة فقال: إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت وقال: علمت إنك خير أرض الله، وأحب أرض الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت) (¬1). غادرها - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ضاقت به .. وغادرها الصحابة كلهم نحو مدينة مفتحة الأذرع والأبواب .. للهاربين للخلاص .. للحاملين سورة الإخلاص .. غادروها إلى مدينة عطوف .. يحن فيها كل شيء .. حتى الجذع يحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. حتى الحجارة فيها بادلت الصحابة عشقًا .. ألم يلتفت - صلى الله عليه وسلم - إلى جبل أحد فيقول: (أحد جبل يحبنا ونحبه) (¬2) إن الهجرة ترافق الشمس كل صباح تحيي الغرباء وتقول لهم: إذا أتقنتم أعمالكم تحولت مدن العالم إلى مدائن للحب والأنصار .. وشغفت جبال الدنيا بكم .. كما شغف جبل أحد بأسلافكم. واصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه المسير .. وفي طريقهما شاهدا بعض الأغنام وشاهدا بينهما الراعي .. فطلبا منه السقيا .. فقال: (ما عندي شاة تحلب، غير أن ها هنا عناقًا حملت أول الشتاء, وقد أخرجت، وما بقي لها لبن، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه البيهقي (2/ 17 - 518) من طريق الزهري قال: أخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهرى سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف بالحزوراء في سوق مكة وهذا الإسناد صحيح وهو المحفوظ كما قال البيهقي. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري. انظرصحيح الجامع (1/ 114). وأُحد جبل في المدينة.

"ادع بها". فاعتقلها النبي-صلى الله عليه وسلم- ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب (¬1) وسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "أو تراك تكتم علي حتى أخبرك؟ " قال: نعم. قال- صلى الله عليه وسلم-: "فإني محمد رسول الله"، فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ. قال-صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليقولون ذلك". قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وإنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك، قال - صلى الله عليه وسلم -:"إنك لن تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا") (¬2). هذا الراعي المسكين نشأ في الصحراء حتى صار قطعة منها تهتز ربيعًا وجمالًا عندما يغشاها المطر .. ولقد اهتز إيمانًا عندما رأى المعجزات وحسن الأخلاق تهز عقله ليفيق من سبات الافتراءات التي أوصلتها إلى مسامعه قريش .. هذه الماعز التي لم يكن في ضرعها سوى الجفاف .. درت حليبًا وأنزلت .. أما هذا الرجل المطارد المتهم الذي حلبها فلم يشرب رغم عطشه .. لقد أسرت هذا الراعي أخلاق لم يعهدها .. يحلب وهو نبي الله ويسقي منهم دونه ثم يشرب آخرهم وهو الذي لو أراد لأدار الله له هذه الأرض ينتقي منها ما يشاء .. فأسلم الراعي وآمن وقرر ترك الصحراء والغنم ما دام بصحبة نبي. لكن خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- الكريم وخوفه على أتباعه من الاضطهاد جعله يريثه إلى أجل لا يعلمه إلا الله. وامتثل هذا الراعي وصبر رغم شوقه ولهفه. هذا الراعي أظنه. ¬

_ (¬1) الذي حلب هو رسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم سقى الجميع ثم شرب آخرهم. (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه البيهقي وأبو يعلى، وانظر تخريج الذي بعده فهو هو.

أبو معبد

أبو معبد الذي صادفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريق الهجرة، فإنه (لما انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يستخفيان نزلا بأبي معبد، فقال: والله ما لنا شاة، وإن شاءنا لحوامل، فما بقي لنا لبن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"فما تلك الشاة؟ " فأتى بها. فدعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبركة عليها، ثم حلب عسًا (¬1) فسقاه، ثم شربوا. فقال: أنت الذي يزعم قريش أنك صابئ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -:"إنهم ليقولون ذلك". قال: أشهد أن ما جئت به حق، ثم قال: أتبعك؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا". حتى تسمع أنا قد ظهرنا) (¬2). وتجاوز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غنمات أبي معبد، بعد أن ترك أبا معبد ظلًا .. تركه فيئًا يستظل به المتعبون، ربيعًا بعد أن كان حقلًا من الجفاف، تركه مرشدًا بعد أن كان يخبط في الظلام، وتحرك - صلى الله عليه وسلم - ليلتقي بعد مسافة ليست بالقصيرة بـ: خيمتا أم معبد (أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة (¬3) تحتبي (¬4) بفناء القبة ثم تسقي ¬

_ (¬1) العس: هو القدح الكبير. (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه البزار (كشف الأستار2/ 301) وهو والحديث السابق من رواية: عبيد الله بن إياد بن لقيط، قال: سمعت إيادًا يحدث عن قيس بن لقمان، قال: لما انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر يستخفيان ... لكن سند الحديث السابق هو: عبيد الله بن إياد عن قيس بن لقمان، إذًا فالرواية واحدة, لكن هناك خطأ في السند الأول. عند البيهقي (2/ 497) فقد ذكره ابن كثير في سيرته (2/ 264): حدثنا عبيد الله بن إياد، حدثنا إياد، عن قيس، وهذا هو الصواب، فقيس صحابي، وعبيد الله ليس بتابعي، فهو لم يسمع من قيس، وهو ليس ضمن شيوخه الذين ذكرهم الحافظ في التهذيب (7/ 4) بل ذكر أباه ضمن شيوخه ورواية البزار خير شاهد، إذًا فالخطأ متأخر وعنه نشأ بعض الاختلاف في ألفاظ الروايتين. وبعد فعبيد الله صدوق (التقريب1/ 53) ووالده تابعي ثقة (التقريب1/ 86). (¬3) هى التي لا تحتجب كالشابات رغم عفافها، ومعنى جلدة أي قوية أو جزلة. (¬4) الاحتباء: هو الجلوس مع ضم الفخذين إلي البطن بواسطة الذراعين.

عودة أبي معبد

وتطعم فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مرملين (¬1)، مسنتين (¬2)، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة (¬3)، فقال: ما هذا الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال-صلى الله عليه وسلم-:"بها من لبن؟ " قالت: هى أجهد من ذلك. قال- صلى الله عليه وسلم -:"أفتأذنين لي أن أحلبها؟ " قالت: بأبي أنت وأمي، نعم. إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فدعا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح ضرعها بيده، وسمى الله عَزَّ وجَلَّ، ودعا لها في شأنها، فتفاجت (¬4) عليه ودرت واجترت، فدعا بإناء يريض الرهط (¬5)، فحلب فيها ثجًا (¬6)، حتى علاه البهاء (¬7)، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا ثم شرب آخرهم - صلى الله عليه وسلم - ثم أراضوا (¬8)، ثم حلب ثانيًا بعد حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، ثم ارتحلوا عنها) (¬9). عودة أبي معبد بعد رحيل هؤلاء الأطهار (ما لبثت إذ جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا (¬10)، يتساوكن هزلًا، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: ¬

_ (¬1) أي نفذ ما عندهم كأنهم لصقوا بالرمل. (¬2) أصابتهم سنة أي القحط. (¬3) أي جانب الخيمة. (¬4) أي فرجت ما بين رجليها للحلب. (¬5) يريض: أي يروي. (¬6) ثجًا: أي لبنًا سائلًا كثيرًا. (¬7) هو بريق رغوة الحليب. (¬8) أي شربوا عللًا بعد نهل أي الشرب الثاني. (¬9) انظر تخريجه في نهاية الخبر. (¬10) هزيلة.

من أين هذا والشاة عازب حائل (¬1) .. ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله: كذا .. وكذا .. فقال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة .. أبلج (¬2) الوجه، حسن الخلق .. لم تعبه ثجلة (¬3) .. ولم تزر به صعلة (¬4) .. وسيم قسيم، في عينه دعج (¬5) .. وفي أشفاره عطف (¬6) .. وفي صوته صهل (¬7) .. وفي عنقه سطع (¬8) .. وفي لحيته كثاثة (¬9) .. أزج أقرن (¬10) .. إن صمت فعليه الوقار .. وإن تكلم سماه وعلاه البهاء .. أحمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه من قريب .. حلو المنطق .. فصل لا نذر ولا هذر، كأنه منطقه خرزات نظم تحدرن، ربعة (¬11)، لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر (¬12)، غصن بين غصنين، هو أنظر الثلاثة منظرًا .. وأحسنهم قدرًا .. له رفقاء يحفون به .. إن قال أنصتوا لقوله .. وإن أمر تبادروا إلى أمره .. محفود محشود (¬13) .. ولا عابس ولا معتد. قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره. ما ذكر بمكة "ولقد هممت بأن أصحبه" ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا. ¬

_ (¬1) أي لم تحمل. (¬2) مشرق الوجه مسفر. (¬3) ضخامة البطن واسترخاؤه. (¬4) النحافة. (¬5) اشتد سوادها وبياضها. (¬6) الأشفار: طرف جفن العين التي ينبت منها الشعر، أي إنها طويلة حتى انعطفت. (¬7) وقيل: صحل أي أنه حاد الصوت. (¬8) سطع: أي طال عنقه. (¬9) اجتماع وكثرة. (¬10) أي لا قليل ولا كثير. (¬11) وسيط القامة. (¬12) أي لا تتجاوزه العين إلى غيره احتقارًا. (¬13) مطاع في قومه يسرعون لخدمته.

فأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعون ولا يدرون من صاحبه: جزى الله رب البيت خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتى أم معبد هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد فيال قصي ما زوى الله عنهم ... به من فعال لا تجازى وسؤدد ليهن بنى كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شائها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحًا صرة الشاة مزبد فغادرها رهنًا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد وأصبح صوت بالمدينة بين السماء والأرض يسمعون ولا يرون من يقوله) (¬1). سمع شاعر الحياة الجديدة حسان بن ثابت تلك الأبيات، فهاجت ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في الدلائل -واللفظ له- (1/ 337) والحاكم (3/ 9) والطبرانيُّ (مجمع الزوائد 6/ 58) وابن سعد (1/ 230). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو يعتبره صحيحًا لأسباب هي قوله: إن نزول المصطفى-صلى الله عليه وسلم- بالخيمتين متواتر في أخبار صحيحة ذوات عدد، وإن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون بوضع الحديث والزيادة والنقصان، وقد أخذوه لفظًا بعد لفظ عن أبي معبد وأم معبد، ومنها أنه له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه والأب عن جده لا إرسال ولا وهن في الرواة، ومنها إن الحر بن الصباح النخعي أخذه عن أبي معبد كما أخذه ولده عنه، فأما الإسناد الذي رويناه بسياقه: الحديث عن الكعبين فإنه إسنادٌ صحيحٌ عال للعرب الأعاربة، وقد علونا في حديث الحر بن الصباح هذا ما قاله الحاكم رحمه الله. لكن هناك ملاحظات على قوله رحمه الله منها: أن الحديث حسن لكن ليس بهذا النص لشدة ضعف طرقه ... خاصة حديث الحر بن الصباح ففي سنده متهم. ومنها: أن الشعر المذكور وأن قائله من الجن يحتاج إلى طرق أخرى تقويه لكن الحديث حسن برواية البيهقي والبزار اللتين ذكرهما ابن كثير في السيرة (2/ 258) وهي رواية مختصرة.

شاعريته، وأطلق الشعر يخطف ما لدى كفار قريش من فضائل ويحملها أنوارًا نحو مدينة الإسلام الجديدة: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى إليه ويغتدي ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... فأرشدهم من يتبع الحق يرشد وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاديه كل مهتدي وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم نبي يرى ما يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد ليهن بنى كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد وبعد أن ودع - صلى الله عليه وسلم - أم معبد أحث السير وربما صادفه في مسيره آخرون .. فكان يواجه كل شخص بأسلوب مناسب .. فإن كان المار ممّن يخشى منه تسرب الأخبار .. تكفل أبو بكر بالإجابة. ولذلك يقول أنس رضي الله عنه: (أبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير) (¬1) الذي يصل الدنيا بالآخرة، ويحطم الأبواب بينهما، فتشع أنوار الجنة في قلوب المؤمنين ودروبهم أينما حلوا أو ارتحلوا. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث طويل. رواه البخاري (3911).

محطات

محطات مر- صلى الله عليه وسلم - ورفقته بمحطات عديدة تذكرها عائشة جيدًا فتقول رضي الله عنها وهي تتحدث عن زوجها وأبيها بعد أيام الغار: (هدأت عنهما الأصوات، وأتاهما أن قد سكت عنهما، جاءهما صاحبهما ببعيرهما، فانطلقا وانطلق معهما عامر بن فهيرة يخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقبه على رحله، ليس معهما إلا عامر بن فهيرة وأخو بني عدي يهديهما الطريق، فأجاز بهما "في أسفل مكة"، ثم مضى بهما حتى "حاذى بهما الساحل أسفل من عسفان" ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعدما جاوز "قديدًا" ثم سلك "الخرار"، ثم أجاز على "ثنية المرة" ثم أخذ على طريق يقال لها "المدلجة بين طريق عمق وطريق الروحاء" ثم توافوا طريق "العرج" وسلك ماء يقال له "الغابر عن يمين ركوبة" حتى يطلع على بطن "رئم" ثم جاء حتى قدم المدينة على "بني عمرو بن عوف" قبل القائلة) (¬1) إذًا فنهاية تلك المحطات هي محطة بن عمرو بن عوف لكن لماذا لم يذهب - صلى الله عليه وسلم - إلى يثرب مباشرة .. لماذا مال إلى بلدة بني عمرو بن عوف المشهورة بـ (قباء) .. ما هو شعور الأنصار وهم ينتظرونه على مشارف يثرب فتأتيهم الأخبار أن نبيهم في قباء الآن .. أسئلة ملحة والإجابة عند نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن جرير بسند صحيح (2/ 375): حدثنا علي بن نصر وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قالا: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا أبان بن العطار، حدثنا هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، وعلي وعبد الوارث ثقتان. التقريب 02/ ...) و (1/ 527) وعبد الصمد صدوق (1/ 507) وأبان ثقة (1/ 31) وبقية السند معروف وقد توبع هشام ومن بعده عند الحاكم بلفظ فيه اختلاف بسيط (2/ 8).

النبي (صلى الله عليه وسلم) يودع مكة

النبي (صلى الله عليه وسلم) يودع مكة وَدَّع حبيبته وهي لا ترد .. ولو أجابت لأبكت من حولها .. ودع حبيبته .. تركها وهو كاره .. حالت الجاهلية بينه وبينها .. لم يستطع البقاء بين أبياتها وجدرانها .. فحملها في قلبه وارتحل .. وتمر أيام وأعوام .. ويكبر ذلك الحب .. ويزداد به الشوق .. فيقسم بالله لها أنه ما زال يحبها .. (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أُخْرِجتُ منك ما خرجت) (¬1). (ما أطيبك من بلدٍ وأحبَّكِ إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك) (¬2). لم يستبدل - صلى الله عليه وسلم - حبًا بحب .. بل أضاف حبًا إلى حب .. إنه يتجه الآن إلى يثرب .. يثرب!! لا إنها ليست يثرب .. فلا يثرب بعد اليوم .. لقد وهبها قلبه .. ووهبها اسمًا جديدًا. اسم جديد فما هو ذلك الاسم .. يقول - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب! .. وهي "المدينة" تنفي الناس (¬3) كما ينفي الكير خبث الحديد" (¬4) إذًا فهي منذ الآن ستدعى: (المدينة) .. المدينة المنورة بالحب والأشواق والعناق .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه أحمد والترمذيُّ والنسائيُّ وابن ماجه (سيرة ابن كثير 2/ 385) من طريق شعيب وعقيل وصالح بن كيسان كلهم عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عدي رضي الله عنه. وأبو سلمة والزهري تابعيان ثقتان جليلان. (¬2) حديث صحيح رواه الترمذيُّ وابن حبان والحاكم. انظر صحيح الجامع الصغير للإمام الألباني (2/ 971). (¬3) أي تنفي الخبيث من الناس. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري (1871) ومسلمٌ والبيهقيُّ (2/ 519).

أما أهلها .. فعلى طريق مكة يترددون .. ينتظرون (يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة) (¬1) .. فرحوا بأصحابه واستقبلوهم .. وفتحوا لهم بيوتهم وصدورهم .. و (لما سمعوا بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوكفوا (¬2) قدومه .. كانوا يخرجون إذا صلوا الصبح إلى الحرة ينتظرونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال ويؤذيهم حر الظهيرة، فإذا لم يجدوا ظلًا دخلوا .. وذلك في أيام حارَّة) (¬3) .. هذه هي المدينة المشتاقة وهؤلاء هم أهلها .. أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما زال على الرمضاء يسير .. وفي مسيره ذلك يلتقي بشابٍ يحبه، يلتقي بشاب من أبطال الإسلام، إنه زوج (ذات النطاقين) زوج أسماء بنت أبي بكر الصديق واسمه: الزبير بن العوام، فهل كان قادمًا من المدينة؟ .. لا .. لقد كان في الشام، سافر مع قافلة من قوافل الصيف ثم عاد .. لقد (لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ركب من المسلمين كانوا تجارًا بالشام قافلين إلى مكة، فعارضوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكسا الزبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ثيابًا بيضًا) (¬4) .. قبل- صلى الله عليه وسلم - الهدية من ابن عمته، ولبس وصاحبه الثياب، وأقبلا على المدينة .. يختلط بياض ثيابهم ببياض السراب .. لكن بعد أن أحرقت الشمس المنتظرين، فعادوا بعد انتظار طويل .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3906). (¬2) أي توقعوه وسألوا عنه. (¬3) سنده قوي. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 268) حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجال من الصحابة. ومحمَّد ثقة (التقريب 2/ 150) وعبد الرحمن ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن الصحابة ويشهد له ماقبله. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري (3906).

ماذا حدث .. ماذا حدث

أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر فلم يرهما أحد من الأنصار .. لم يرهما أحد من المهاجرين .. ولا حتى من المشركين عابدي الأوثان .. لكن يهوديًا رآهما .. كان فوق حصن قومه .. واليهود أناس لا يعيشون إلا في حصون أو حاراتٍ مغلقةٍ عليهم وما زال جزء منهم كذلك إلى أيامنا هذه .. ربما كانوا يعتقدون أنهم أبناء الله وأن بقية البشر لا يستحقون شرف الاتصال بهم .. سندع اليهود وما يعتقدون لنتابع موقف ذلك اليهودي مما رأى .. ماذا فعل .. وماذا جرى للأنصار بعد ذلك .. وهل دخل - صلى الله عليه وسلم - المدينة أم تريث أم .. ؟ ماذا حدث .. ماذا حدث لم يتجه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مباشرة .. هل خاف من يهود؟ هل كان خائفًا من شيء .. لا .. لكنه مال بخط سيره نحو مكان قريب من المدينة يسمى (قباء) ونزل على أناسٍ من الأنصار يقال لهم (بنو عمرو بن عوف) وهذه هي القصة: (سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة .. فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أُطم (¬1) من آطامهم لأمر ينظر فيه، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين (¬2) يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب .. هذا جدكم (¬3) الذي تنتظرون. ¬

_ (¬1) الأطم: هو الحصن. (¬2) أي عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير. (¬3) أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه (السيرة الشامية 3/ 384).

كيف كانت قباء

فثار المسملون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في "بني عمرو بن عوف" وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول .. فقام أبو بكر للناس .. وجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار- ممّن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيِّي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك) (¬1) .. أما الأنصار .. فقد تحولوا إلى مشاعر تحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقله تظله .. وتتوهج من حوله، أما قباء فـ: كيف كانت قباء كانت تنعم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. تحتضنه كأمه .. تبشر به من حولها .. فانتشر الخبر، وشاع حتى وصل إلى يهودي آخر فلم يصبر، لقد أطلق قدميه للريح والفزع .. يتجه بهما نحو ابن عم له كان يجلس بين نخلٍ له فقال: (يا فلان قاتل الله بني قيلة (¬2) .. والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء على رجلٍ قدم من مكة يزعمون أنه نبي) (¬3). لا أعرف ما حدث لليهودي لكنني أعلم ما حدث لأحد عبيده .. كان عبده الكادح الحزين فوقه .. فوق نخلةٍ في رأس عذق يعمل يتصبب منه العرق والخوف .. لقد سمع الخبر فأخذته رعدةٌ هزته وهزته حتى كاد يسقط من على العذق لكنه تماسك حتى انحدر منها .. وعندما لامست أقدامه الأرض توجه كالفرح نحو حامل الخبر فقال له: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3906). (¬2) قيلة: هو اسم الجدة الكبرى للأنصار. (¬3) حديث صحيح طويل سيمر معنا وهذه مقاطع منه.

(ماذا تقول .. ماذا تقول .. ؟) (¬1) صمت اليهودي الذي حمل الخبر ولم يجبه .. لكن سيده أجابه عن هذا السؤال إجابةً مؤلمةً .. أجابهُ لكمةً شديدة ثم قال له: (ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك) (¬2). تجرع العبد المسكين الآلام والقهر وأخرج من صدره اعتذار المساكين المغلوب على أمرهم وقال: (لا شيء إنما أردت أن أستنبئه عما قال) (¬3). وعندما خيم الليل على مرابع بني عمرو بن عوف وقباء .. كان شبح ذلك العبد المسكين يتسلل كالظلام في الظلام .. متخفيًا خائفًا .. يتسلل حتى ظفر بمجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأنصاره .. كانت آثار العبودية والقيود والسفر والسنين تجلد وجهه وظهره .. وتوشك أن ترتحل أو يرتحل .. دخل هذا الكادح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: (إنه قد بلغني أنك رجلٌ صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: كلوا وأمسك (¬4) يده فلم يأكل. فقلت في نفسي: هذه واحدة) (¬5). ثم انصرف ذلك الرجل الغريب وعاد من حيث أتى .. عاد إلى سيده اليهودي .. ترى هل أرسله سيده .. أم أنه ذهب من تلقاء نفسه؟ وما معنى ¬

_ (¬1) حديث صحيح طويل سيمر معنا وهذه مقاطع منه. (¬2) حديث صحيح طويل سيمر معنا وهذه مقاطع منه. (¬3) حديث صحيح طويل سيمر معنا وهذه مقاطع منه. (¬4) أي كف يده ولم يأكل - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يأكل من الصدقة. (¬5) جزء من حديث طويل صحيح سيمر معنا.

قوله: هذه واحدة؟ ولماذا انصرف بهذه السرعة .. لغز محير هذا المسكين القادم من العبودية والمجهول .. ولعل الأيام تكشف لنا مزيدًا من أسراره .. ذهب المسكين، وذهب الليل وراءه .. ومرت أيام (فلبث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة .. وأسس المسجد .. وصلى فيه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-) (¬1) وصلى فيه أصحابه .. وبشركل من يأتي إلى هذا المسجد ببشرى قالها فيما بعد: (صلاة في مسجد قباءكعمرة) (¬2). بقي- صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة ليلة في قباء بين قلوب أهلها .. ولما تحرك قلبه نحو المدينة بعث رسولًا من أهل البادية إلى أخواله بني النجار يخبرهم بقدومه فجاءوا متزينين بالفرحة والسلاح .. يقول أحد الأنصار: (لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم: "بنو عمرو بن عوف" فأقام فيهم "أربع عشرة ليلة" ثم أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا متقلدي سيوفهم وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله) (¬3). ويقول أبو بكر رضي الله عنه: (ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلًا، فتنازعه القوم: أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أنزل الليلة علي بني النجار أخوال بني عبد المطلب أكرمهم بذلك"، وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطريق وعلى البيوت، والغلمان والخدم يقولون: جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. جاء محمد .. الله أكبر جاء محمد .. جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح انطلق حيث أمر) (¬4) كانت أمسيةً صاخبةً ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ عدا المحذوف رواه البخاري (3906). (¬2) حديث صحيح انظر صحيح الجامع الصغير للإمام الألباني. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (3932) ومسلمٌ. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ والبيهقيُّ (2/ 506).

بالهتاف للأضياف .. أمسية صاخبة فشمس محمد تجوب شوارع المدينة .. المدينة تعانق هذا النور المنساب من قباء .. المدينة كلها .. السلاح والرجال والنساء والأطفال ... وللأطفال طريقتهم الخاصة في التعبير عن حبهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. أشرقت الشمس بعد أن نهض الجميع للصلاة .. أشرقت الشمس والأطفال بوجه محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يتحرك نحو المكان الذي أمر به .. كان صباحًا منعشًا وجميلًا .. وكان موكبه - صلى الله عليه وسلم - يتهادى بين القلوب والبيوت ... الأطفال يركضون .. يقفزون .. يهتفون .. وتلك العيون البريئة تبحث خلف الزحام عن صاحب الناقة .. كان الأطفال لوحة من مطر وبراءة .. أنس بن مالك أحد أولئك الأطفال يصف فرحته وشغفه وركضه معهم فيقول: (إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد .. وأسعى ولا أرى شيئًا، ثم يقولون: جاء محمد .. فأسعى .. ولا أرى شيئًا. حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، فكمنا في بعض جدر المدينة، ثم بعثا رجلًا من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار. فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار، حتى انتهوا إليهما فقالوا: انطلقا آمنين مطاعين، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة، حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ .. أيهم هو؟ .. فما رأينا منظرًا شبيهًا به يومئذ) (¬1) ويقول رضي الله عنه: (شهدت ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه الإمام أحمد (الفتح 20/ 291) حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك ... وهاشم يلقب بـ قيصر وهو ثقة =

مشاعر .. مشاعر

يوم دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم أرَ يومًا أحسن ولا أضوا منه) (¬1) .. وعبر أنس عن ذلك اليوم بحروف تنبض بالمشاعر فقال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء) (¬2). مشاعر .. مشاعر المدينة في تلك اللحظات كانت تتبختر بالمشاعر .. تتزين بالإسلام كانت مدينة منورة بلقاء الحبيب الذي طال الشوق إليه .. أحقًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة .. يمشي في شوارعها وتصافحه قلوبها وأرواحها .. لحظات يتمنى كل مسلم أن يعيشها .. وأن يسكب في حضرتها شيئًا من الدموع .. لقد كان الموكب يتحرك ببطء فطريقه مزدحم بالقلوب والدموع .. وابتسامات الأطفال والتفاتاتهم البريئة السعيدة .. أبو بكر كان أسعد الناس وأحظى الناس بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحب والاحتفال .. يحدثنا فيقول: (ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا معه حتى قدمنا المدينة وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق وعلى الأناجير (¬3)، واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله .. جاء محمد) (¬4). ¬

_ = (التهذيب 11/ 18) وسليمان بن المغيرة ثقة ... وثابت البناني تابعي ثقة. والحديث صححه الذهبي في سيرته (333). (¬1) سنده صحيح. رواه البيهقي (2/ 508) وأحمدُ (3/ 240) واللفظ للبيهقي من طريق حماد عن ثابت عن أنس. (¬2) حديث صحيح. انظر صحيح ابن ماجة (1/ 273) للإمام الألباني. (¬3) السطوح. (¬4) حديث صحيح. متفق عليه ورواه أحمد واللفظ له.

(جاء رسول الله .. جاء رسول الله .. الله أكبر جاء محمد .. الله أكبر جاء محمد) (¬1) .. أحد المبتهجين يتحدث .. البراء بن عازب طفل من الأنصار يقول: (جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء قط فرحهم به .. حتى رأيت الولائد (¬2) والصبيان يسعون في الطرق يقولون: جاء رسول الله) (¬3). وعبر الصحابة القادمون من أرض النجاشي عن فرحهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أسلوب مميز .. أنس بن مالك ذلك الطفل السعيد .. طاف المدينة وطاف حول الموكب .. وشاهد فرح أهلها .. ووصف فرح الصحابة من أهل الحبشة فقال: (لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبت الحبشة بحرابهم فرحًا بقدومه) (¬4) ولم يكن الرقص هو الأسلوب الوحيد في التعبير كان هناك الغناء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبجوار محمد .. الغناء والدفوف والمشاعر شاهدها -صلى الله عليه وسلم- فماذا فعل وماذا قال-صلى الله عليه وسلم- لتلك الفتيات .. أنس بن مالك أيضًا يحدثنا عن ذلك فيقول: (مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحي من بني النجار وإذا جوارٍ يضربن بالدفوف [ويتغنين ويقلن]: ¬

_ (¬1) جزء من رواية البخاري ومسلم. (¬2) أي البنات. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري. (¬4) صحح إسناده الإمام الألباني في صحيح السنن (3/ 930) ورواه أحمد في مسنده (الفتح الرباني 20/ 290) من طريق عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس وهذا السند رجاله ثقات لكن فيه ضعفًا لأن رواية معمر عن ثابت ضعيفة كما قال ابن معين: معمر عن ثابت ضعيف، وقال مرة: إذا حدثك معمر عن العراقيين فخالفه إلا عن الزهري وابن طاوس .. فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا ... وقال مرة: حديث معمر عن ثابت وعاصم وهشام وهذا الضرب مضطرب كثير الأوهام. فإن لم يكن لدى الشيخ ناصر طريق أخرى فهو ضعيف.

نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله يعلم أن قلبي يحبكن") (¬1) يا لهذا النبي ما أعظمه .. وما أبسطه وما أرق مشاعره .. التي يعلنها للصغير وللكبير في البيوت وعلى الطرقات .. بل إنه يعلن حبه حتى على الجبال القاسية من حوله .. يمر- صلى الله عليه وسلم - من عند جبل أُحد بالمدينة فيقول: (هذا جبل يحبنا ونحبه) (¬2) نبي الله يحب المدينة وأهلها .. والمدينة وأهلها .. أشجارها وجبالها يحبون الله ورسوله .. الكرم يسيل .. والدماء تسيل فرحًا به - صلى الله عليه وسلم - يقول أحدهم: (لما قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة نحرتُ جزورًا) (¬3). ويواصل موكب الحب مسيره في شوارع المدينة وسط مهرجان من السعادة .. زحامٌ من البهجة يحيط برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. اشتد الزحام (فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرقات ينادون: يا محمد .. يا رسول الله .. يا محمد .. يا رسول الله) (¬4). في المدينة كانت القلوب بيوتًا .. وكانت البيوت قلوبًا .. كانت الأيدي تمتد إلى الزمام .. والعيون البراقة شاخصة تحتضنه وتعانقه .. تحاول الارتواء منه فتزداد عطشًا ولهفةً .. وتواصل الركض والنداء حتى .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه البيهقي (2/ 508) وابن ماجة (الصحيح 1/ 320) واللفظ للبيهقي عدا ما بين المعقوفتين فلابن ماجة ... وسنده هو: عيسى بن يونس، عن عوف الأعرابي، عن ثمامة عن أنس .. وعيسى ثقة. انظر التقريب (2/ 103) وعوف بن أبي جميلة ثقة أيضًا. التقريب (2/ 89) وثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك تابعي ثقة روى عن جده. (¬2) حديث رواه البخاري (2889). (¬3) سنده صحيح. رواه أحمد (الفتح الرباني 20/ 291) حدثنا وكيع، حدثنا شعبة عن محارب ابن دثار عن جابر ... وهذا سند كالذهب كله أئمة ثقات لا يسأل عنهم وهو متصل. (¬4) حديث صحيح. رواه مسلم (كتاب الزهد- حديث الهجرة).

توقفت الناقة

توقفت الناقة (فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "أي بيوت أهلنا أقرب؟ " فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله: هذه داري .. وهذا بابي. فقال- صلى الله عليه وسلم -: "اذهب فهيئ لنا مقيلًا" .. فذهب فهيأ لهما مقيلًا، ثم جاء فقال: يا نبي الله، قد هيأت لكم مقيلًا .. قوما على بركة الله فقيلا) (¬1). وحل- صلى الله عليه وسلم - في دار أبي أيوب وقلب أبي أيوب .. الكل يغبطه .. المدينة كلها تغبطه .. تثمن الشرف الذي حل بين جدران منزله .. المدينة كلها إلا عيونًا كانت تتأمل من بعيد .. وقفت كما وقف عمر بن الخطاب وهو يرقب مشهد النازحين إلى أنهار الحبشة .. لكن هذه العيون المتلصصة لم تكن حزينة كحزن عمر .. ولا نادمة كندم عمر .. إنها منغمسة في دبق الأحقاد الأسود .. من هذه القلوب قلب رجل اسمه: عبد الله بن أُبي بن سلول- من عبد الله هذا .. وما هي قصته .. ؟ كان بين الأوس والحروب حروب مريرة وثارات أوشكت على إفنائهم .. وكان بين تلك الحروب فترات من التعب والهدنة والفتور .. تنطمر معها جمرة الحرب تحت رماد من التعقل أحيانًا والملل أحيانًا .. أو التحفز للانقضاض .. وكانت السنوات التي بايعوا فيها الرسول- صلى الله عليه وسلم - سنوات من الركود .. كانت المدينة فيها ترقد على بركان هادئ من الثارات والدماء .. في تلك السنوات تصالح الطرفان على تتويج رجل اسمه عبد الله بن أبي بن سلول ليكون زعيمًا ليثرب .. لكن شيئًا من ذلك لم ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ واللفظ للبيهقي (2/ 528).

أسد وأسيد وثعلبة

يحدث .. فرغم الاحتفاء بالهدنة وحقن الدماء .. إلا أن المدينة كانت لا تتنفس ابن أبي سلول في هوائها .. فهو مجرد هدنة هشةٍ لا أكثر .. وقد سئموا الهدن الهشة .. لقد كانت أجواء المدينة مشبعة بالقادم .. مرطبة بالانتظار .. المدينة وَثَنِيُّوها ويهودها يشعرون بغدٍ هابط لا يحمل على جناحه رجلًا مؤقتًا كابن سلول .. أما اليهود فكانوا ينتظرون نبيًا يفنون به العرب والوثنيين .. ويخلصهم من هذا الشتات المخيف .. تأثر بهم بعض الوثنيين من أهل المدينة فكانوا ينتظرونه .. ويريدون أن يسبقوا اليهود إليه .. حتى ولو اضطروا إلى مزاحمة اليهود في حصونهم .. وكان من هؤلاء المنتظرين ثلاثة من بني هذل هم: أسد وأسيد وثعلبة ثلاثة من الشباب ليسوا من اليهود .. انصهروا مع اليهود ليفوزوا معهم بهذا النبي القادم كالصباح .. يحدثنا عنهم رجلٌ من بني قريظة رجل عاش مع أسد وأسيد وثعلبة في حصون يهود بني قريظة .. يحدثنا ويحدث رجلًا جالسًا بقربه اسمه عاصم فيقول له: (هل تدري ما كان علامة إسلام ثعلبة بن سعنة، وأسيد بن سعنة، وأسد بن عبيد -نفرٌ من بني هذل ليسوا من بني قريظة ولا بني النضير، [كانوا فوق ذاك] نسبهم من بني [هذل] أتوا بني قريظة، كانوا معهم في الجاهلية ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟ قال عاصم: قلت: لا. قال: فإن رجلًا من يهود أهل الشام يقال له: ابن الهيبان، قدم علينا قبل الإسلام بـ[سنتين] فحل بين أظهرنا والله

ما رأينا رجلًا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط المطر قلنا له: يا ابن الهيبان قم فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فيقولون: كم؟ فيقول: صاعًا تمرًا، [أو مدين من شعير] عن كل إنسان. فنخرجها، فيخرج بنا إلى ظاهر حرتنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح من مجلسه حتى يمر السحاب السراح سائلة، ونسقى به، ففعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا، ثم حضرته الوفاة، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض الجوع والبؤس؟ قلنا: الله أعلم. قال: فإني قدمت إلى هذا البلد لتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا يسبقنكم إليه يا معاشر اليهود أحدٌ) (¬1). وسبق الأنصار اليهود فأسلموا ودعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة واستقبلوه استقبالًا كالحلم .. فانهارت آمال عبد الله بن أبي بن سلول بالزعامة .. بعد أن أدرك أهل المدينة أن وحدتهم لن تدوم بزعامته .. ولن تمتد تلك الزعامة في الأعماق والزمان إلا برسالة يخلع الجميع كل ما عليهم ليلبسوها .. فتنحوا عن ابن سلول وامتدت الأيدي والقلوب إلى الله ورسوله .. وكأني بابن سلول يتمنى لو لم يطل به العمر ليرى هذا الاحتفال .. وموقف ابن سلول هذا موقف قاصر .. فقد كان بإمكانه أن يصبح زعيمًا ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (2/ 80) وأبو نعيم في الدلائل (1/ 81) واللفظ له عدا ما بين المعقوفين .. حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة ... وشيخ ابن إسحاق تابعي ثقة وعالم جليل من رجال الشيخين .. التقريب (1/ 384) وشيخه صحابي من بني قريظة.

وعظيمًا وخالدًا لو صافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنه أبى وتولى .. هذا هو ابن سلول .. فهل هناك من يشاركه هذا الشعور؟. أجل .. هناك اليهود الذين تركوا أرض الخمر والخمير من أجله .. فهم ينتظرونه منذ سنوات وسنوات .. لكن ما الذي حدث .. كيف ينتظرونه .. فإذا رأوه وتحققوا أنه هو رفضوه وعادوه؟. طفلة بريئة لم تلوثها أحقاد اليهود اسمها صفية بنت حيي بن أخطب تحدثنا عن موقفهم وسبب عداوتهم .. والدها زعيم من زعماء يهود .. وعمها أيضًا زعيم .. أما هي فكانت أحب أولادهم على الإطلاق .. يهشون للقائها .. يبشون في وجهها ويبتسمون إلا في ذلك اليوم .. ذلك اليوم الذي تذكره صفية جيدًا .. فتقول: (لم يكن من ولد أبي وعمي أحدٌ أحب إليهما مني .. لم ألقهما قط مع ولد لهما أهش إليهما إلا أخذاني دونه. فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء ونزل قرية بني عمرو بن عوف، غدا إليه أبي وعمى "أبو ياسر بن أخطب" مغلسين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين، يمشيان الهوينى (¬1)، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمى أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم .. والله. قال: تعرفه بعينه وصفته؟ فقال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟. قال: عداوته والله ما بقيت) (¬2) ولكن ¬

_ (¬1) مشيٌ فيه فتور وضعف. (¬2) في سنده ضعف، رواه ابن إسحاق ومن طريقه أبو نعيم والبيهقيُّ (2/ 533) وفي سنده جهالة شيخ شيخ ابن إسحاق عبد الله بن أبي بكر وقد ورد اسم هذا الشيخ عند أبي نعيم =

يوشع يرفض الإسلام

لماذا هذه العداوة .. لماذا هذا الفتور والإحباط؟ .. إنها العنصرية. فهذا الرجلان يمثلان خطًا يسلكه معظم اليهود .. اليهود المغضوب عليهم .. وقد غضب الله عليهم لأنهم يعرفون الحق وينكرونه .. جاءهم عيسى فأنكروه بل حاولوا قتله .. وها هو محمد - صلى الله عليه وسلم -بين أيديهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لكنهم يرفضونه .. إن محمدًا عربي ليس من أبناء إسرائيل .. ليس من سلالة يهود إذًا فهو مرفوض وكما رفض حيي بن أخطب وأخوه الدخول في الإسلام فقد عاند وكابر يهودي آخر مثلهما تنصل من كل وعوده السابقة لليهود ولأهل المدينة فما هي وعوده السابقة .. وكيف تنصل منها؟ تلك قصة حضرها طفل مضطجع بفناء أهله .. حفظها لنا ثم قصها علينا بعد قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمدينة. يوشع يرفض الإسلام يقول سلمة بن سلام بن وقش: (كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل .. فخرج علينا يومًا من بيته حتى وقف علي بني عبد الأشهل -وأنا يومئذ أحدث من فيه سنًا علىَّ فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي (¬1) - فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار .. فقال ذلك لقوم أهل شرك، أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثًا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان .. أوترى هذا كائنًا، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ ¬

_ = وهو جد عبد الله بن أبي بكر ... واسمه محمد بن عمرو بن حزم وله رؤية وليس له سماع إلا من الصحابة (التقريب2/ 195) وحفيده تابعي صغير وثقة من رجال الشيخين (1/ 405 التقريب) وله شاهد عن الزهري عند البيهقي (2/ 532). (¬1) المتكلم هو سلمة بن سلام.

قال: نعم .. والذي يحلف به، [لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه، ثم تقذفوني فيه ثم تطينون علي، وأني أنجو من النار غدًا (¬1)] (¬2). قالوا: ويحك يا فلان فما آية ذلك؟ قال: نبيٌ مبعوث من نحو هذه البلاد. وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن. قالوا: متى تراه؟ فنظر إليَّ وأنا أحدثهم سنًا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بين أظهرنا (¬3)، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا. فقلنا: ويحك يا فلان .. ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى ولكن ليس به [وكان يقال له يوشع] (¬4). ويقول محمد بن سلمة رضي الله عنه: (لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له "يوشع" فسمعته - وإني لغلام في إزار يقول: ¬

_ (¬1) أي من شدة نار جهنم أعاذنا الله منها يتمنى أن يوضع في أعظم فرن في الدنيا ثم يطبق عليه ويحرق فيه أهون عليه من دخول نار جهنم. (¬2) ما بين المعقوفين لفظ البيهقي. (¬3) أي أن هذا اليهودي حي يرزق عند دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة. (¬4) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (2/ 78) حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن سلمة بن سلام رضي الله عنه: وشيخ ابن إسحاق تابعي صغير وثقة عن رجال الشيخين (التقريب 1/ 358) ويشهد له ما بعده.

إبراهيم وأبناؤه

قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت, ثم أشار بيده إلى "بيت الله" فمن أدركه فليصدقه .. فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمنا وهو بين أظهرنا لم يسلم حسدًا وبغيًا) (¬1) ولم يقتصروا على ذلك بل أنكروا أن يكون هو النبي المنتظر. وطمسوا أسماءه المكتوبة في التوراة .. لكن تبقى فيها عبارات قوية لا تنطبق إلا عليه مثل هذه العبارة الموجودة حتى الآن في التوراة المحرفة .. تقول التوراة: (وحي يأتي من بلاد العرب .. في الوعر في بلاد العرب .. قابلوا الهارب بخبره فهو قد هرب من السيوف والأقواس وشدة الاضطهاد .. ويقول الرب أنه خلال سنة سوف يتحطم مجد عدنان جد العرب .. وسوف يتلاشى بقية أبطال أبناء عدنان) (¬2) .. لقد ظن اليهود أن هذا النبي القادم من أرض العرب الوعرة الشديدة الوعورة -وهي مكة- .. ظنوا أنه سوف يفني أبناء عدنان وهم العرب على أيدي اليهود .. ولكن عندما تبين أن هذا النبي من أبناء عدنان العربي حسدوه .. لكن لماذا يحسدونه؟ السبب موجود في هذه القصة التي تروي انتقال النبوة من أبناء يعقوب -وهو إسرائيل- جد اليهود إلى أبناء عدنان -واسمه في التوراة: قيدار- وهو جد العرب فكيف انتقلت النبوة .. إبراهيم وأبناؤه كان لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ولدان إسماعيل وهو الأكبر وإسحاق .. وهما نبيان ¬

_ (¬1) ذكره الإمام ابن كثير في سيرته (1/ 293) فقال: وروى أبو نعيم في الدلائل عن عاصم ابن عمر بن قتادة, عن محمود بن لبيد, عن محمد بن سلمة .. وهذا الجزء من الإسناد صحيح, ويشهد له ما قبله. (¬2) ص 875 وانظر (محمد في الكتاب المقدس -33).

عليهما الصلاة والسلام .. إسماعيل هو جد العرب، وإسحاق هو والد يعقوب جد اليهود وليعقوب ابن إسحاق - صلى الله عليه وسلم - اسم آخر هو إسرائيل .. رزق يعقوب أو إسرائيل باثني عشر ولدًا أحدهم نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام .. وعندما صار يوسف عليه الصلاة والسلام وزيرًا عند عزيز مصر انتقل والده وإخوته إلى هناك .. فيوسف وإخوته هم أبناء إسرائيل والذين تحولوا إلى اثنتي عشرة عائلة وتزايدت أعدادهم في مصر .. حتى جاء زمن الطاغية فرعون ومن أبناء إسرائيل ولد موسى وأخوه هارون عليهما الصلاة والسلام .. وقد بعثه الله نبيًا بالتوحيد لإنقاذ بني إسرائيل من الشرك والاضطهاد .. ثم تولى القيادة من بعد موته في سيناء تلميذه النبي: يوشع عليه الصلاة والسلام .. ثم جاء أنبياء كثيرون من أبناء إسرائيل من بينهم داود وابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام .. حتى جاء الزمن الذي بعث فيه عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أيضًا من أبناء إسرائيل .. كل هؤلاء الأنبياء من بني إسرائيل جاءوا لإعادة قومهم إلى التوحيد وترك الشرك والبدع والانحراف .. ومع ذلك استمر انحراف اليهود -بني إسرائيل- حتى وصل بهم الأمر إلى اغتيال وذبح بعض الأنبياء كما حدث لنبي الله زكريا وابنه يحيى وهما في زمن عيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام .. بل حاولوا اغتيال عيسى ولما رفعه الله تعقبوا أتباعه بالقتل والتشريد .. وكان من أشرس اليهود الذين فتكوا بأتباع عيسى - صلى الله عليه وسلم - رجل اسمه "شاءول" (¬1) هذا الطاغوت أحس بأن الاضطهاد لا يفني الأديان ولا يفني أتباعها بل يزيدهم رسوخًا وثباتًا وتصفية .. لذلك بحث هو وأشرار اليهود عن طريقة للقضاء على تعاليم الله لعيسى بن مريم فاكتشف أن محاربة الدين من الداخل أجدى من محاربته من الخارج .. ¬

_ (¬1) واسمه الذي يشتهر به عند النصارى وفي الإنجيل المحرف هو: (بولس أو بول).

عبد الله بن سلام لا يقول: لا

فأظهر لأتباع عيسى بن مريم أنه قد تاب وندم على ما قام به من قتل وتعذيب .. وأظهر لهم الرهبنة والتنسك .. وبعد أن تأكد من اقتناع من حوله بتوبته وبعد مرور زمن على ذلك بدأ بتنفيذ مخططه اليهودي الخبيث .. فقد ادعى أنه رأى عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في البرق بين السحاب وأنه قد منحه حق النبوة .. ثم جاء بالطامة الكبرى فادعى أن عيسى بن مريم هو ابن الله .. وأن عيسى بن مريم نفسه أوحى له بذلك .. ثم تحول إلى تعاليم عيسى فنسخ كثيرًا منها .. كالختان وأكل لحم الخنزير .. وأدخل الوثنية إلى تعاليم نبي الله عليه الصلاة والسلام .. وأفسدها إلى اليوم .. فإذا كان اليهود قد فعلوا كل هذا وأكثر مع أنبياء من اليهود أنفسهم .. من إخوتهم .. فهل يُتوقع أن يستقبلوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالأحضان والقلوب المبتسمة .. وهو ليس من أبناء اليهود؟ الإجابة معروفة. فاليهود ينتظرون نبيًا منهم ليسحقوا به العرب وسائر الأمم لا ليهدوا به العرب .. فكيف يؤمنون بنبي يجعل من هؤلاء العرب سادة الدنيا وقادة العالم .. حسدُ بني إسرائيل يقول: لا .. وألف لا .. لكن عالمًا من يهود .. لا يقول: لا عبد الله بن سلام لا يقول: لا .. رجل من بني إسرائيل .. من اليهود .. عالم ومثقف كبقية علماء اليهود لكن صدره أبيض كالثلج .. واسع المدى .. متلهف للحقيقة كالضياع كالعطش .. عالم اسمه عبد الله بن سلام .. صادق اسمه عبد الله ابن سلام .. كان يحدث من حوله فيقول:

(لما أن قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وانجفل (¬1) الناس قبله فقالوا: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. فجئت في الناس لأنظر في وجهه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته منه أن قال: يا أيها الناس: أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) (¬2). كلمات قليلة تذوب فيها كل نظريات العدل والمساواة والإصلاح التي ينادي بها البشر .. أي مجتمع سيولد في المدينة .. مجتمع تفشو بين أهله التحايا والهدايا والسلام .. مجتمع يمد يديه للمحتاج .. ويشق الطرقات بين الأقارب والأرحام .. وعندما يهدأ النهار ويدلف إلى خبائه .. وتسكن الطيور في الأوكار .. تحلق أرواحٌ مؤمنة إلى ربها تناجي وتخاف وترجو بدموعها رحمة الرحيم .. أيقن ابن سلام أن هذا الرجل ليس بكذاب .. ولا يأتي كذاب بمثل هذا الحب والسلام .. لكن أين كان ابن سلام عندما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أنس بن مالك يقول إنه كان في نخلٍ لأهله يخترف لهم الرطب .. فجاء وأدوات الاختراف بيديه نسي أن يتركها من شدة ذهوله .. يقول أنس: (وقيل في المدينة: جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستشرفوا نبي الله ينظرون إليه، ويقولون: جاء نبي الله .. فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب .. ¬

_ (¬1) انطلق الناس نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. (¬2) سنده صحيح. رواه الترمذيُّ وابن ماجه والبيهقيُّ (2/ 531) من طرق عن عوف بن أبي جميلة وهو ثقة من رجال الشيخين عن زرارة بن أبي أوفى العامري وهو ثقة عابد وتابعي من رجالهما (التقريب 2/ 89) و (1/ 259).

فإنه ليحدِّث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم، فعجل أن يضع الذي يخترف فيها، فجاء وهي معه .. وسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى أهله .. وقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري .. وهذا بابي .. قال - صلى الله عليه وسلم -: "انطلق فهيئ لنا مقيلًا"، فذهب فهيأ ثم جاء .. فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد هيأت مقيلًا، قوما على بركة الله فقيلا) (¬1). لقد ذهب عبد الله بن سلام .. سمع وعاد فمتى أسلم وكيف أسلم؟ يقول أنس: (فلما جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم - جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك نبي الله حقًا، وأنك جئت بحق، ولقد علمت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم .. ، فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت، قالوا فيَّ ما ليس فيَّ، فأرسل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًا، وأني جئت بحق أسلموا" فقالوا: ما نعلمه) (¬2). ترى هل أسلم هذا العالم المثقف لمجرد رؤيته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون استفسار .. دون سؤال أو حصول على علامة وبيان .. ؟ هذا ما لا يفعله عادة المثقفون والعلماء وعبد الله بن سلام منهم .. فهو لم يسلم مباشرة .. أنس بن مالك مرة أخرى يتحدث .. مرة أخرى يخصص حديثه عن ابن سلام .. فيقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3911) والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 528). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3911) والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 528).

(سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في أرضٍ ... فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبى: ما أول أشراط الساعة (¬1)؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه وإلى أمه؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أخبرني بهن جبريل آنفًا" .. قال ابن سلام: جبريل؟! قال-صلى الله عليه وسلم-: "نعم" .. قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة .. ثم قرأ -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}. أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولد. قال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله .. يا رسول الله إن اليهود قوم بهت (¬2)، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسلهم عني بهتوني، فجاءت اليهود إليه .. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: خيرنا وابن خيرنا .. ¬

_ (¬1) علامات الساعة، وعلامات الساعة كثيرة ... منها بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن لها علامات كبرى عجيبة مفاجئة للعالم هذه أولها ومنها خروج اليهودى المسيح الدجال ونزول المسيح عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من جهة المغرب ... (¬2) أقوام يفترون ويكذبون ويلصقون في المرء ما ليس فيه.

وسيدنا وابن سيدنا .. قال -صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ " قالوا: أعاذه الله من ذلك .. ، فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قالوا: شرنا وابن شرنا .. وتنقصوه (¬1). قال ابن سلام: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله) (¬2). هذا هو الفرق بين اليهود والنصارى بل وغير النصارى غالبًا فالنصارى ضلوا الطريق فسماهم الله (الضالين) .. أما اليهود فهم يعرفون الحق ويتركونه ولذلك وصفهم الله بـ: (المغضوب عليهم) والتاريخ يحدثنا عن اليهود كثيرًا وعن رفضهم وقتلهم الأنبياء والمصلحين .. بل إنهم سبب ضلال النصارى (¬3) وبعدهم عن الحق .. فلا غرابة ولا عجيب أن رفضوا رسالة الإِسلام، لا سيما وأن النبي -صلى الله عليه وسلم - ليس منهم .. هؤلاء يهود .. وغبي كل الغباء من يظن أنهم غير ذلك .. والتاريخ شاهد والواقع على طرقاتنا يتلو علينا كل صباح مؤامراتهم .. فلننصرف عنهم كما انصرفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. ولندخل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى دار أبي أيوب .. الذي أصبح مقرًا مؤقتًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - ريثما يجد له منزلًا مستقلًا به وبزوجته القادمة سودة رضي الله عنها .. فتحنا الباب فوجدنا أبا أيوب رجلًا من كرم .. رجلًا من شعور .. مهذب وحساس ومحب لله ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم - وللإسلام أكثر من نفسه .. كان صدره أفسح من بيته .. وكانت يداه غيمتين .. جدران بيت أبي أيوب ¬

_ (¬1) عابوه. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 529). (¬3) كما مر معنا في قصة بولس أو شاءول.

تحكى لنا هذه القصة .. تروي لنا كم كان أبو أيوب مسلمًا .. كم كان عظيمًا .. يقول أبو أيوب: (لما نزل علىَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي نزل في السفل، وأنا وأم أيوب في العلو .. فقلت له: بأبي أنت وأمى يا رسول الله، إني أكره وأُعظِم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في سفل البيت". فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفله، وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حب (¬1) لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفًا أن يقطر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه شئ فيؤذيه. وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده (¬2) فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلًا أو ثومًا، فرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلم أر ليده فيه أثرًا .. فجئته فزعًا، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمى رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجى، فأما أنتم فكلوه .. فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة") (¬3) وما دام -صلى الله عليه وسلم- يكره رائحتها ¬

_ (¬1) وعاء يوضع فيه الماء كالزير والجرة. (¬2) أي بحثوا عن مواضع أصابعه وقصدوها. (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه ابن إسحاق وصرح بالسماع من شيخه يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن أبي رهم السماعى حدثنى أبو أيوب، ويزيد ومرثد فقيهان ثقتان وأبو رهم هو كلثوم بن الحصين أحد الصحابة رضي الله عنهم. انظر سيرة ابن كثير (2/ 277).

أبو أيوب محرج

فأبو أيوب يكرهها كذلك، لقد قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فإني أكره ما تكره) (¬1) .. ومع ذلك لم تسكن نفس أبي أيوب، لم يجد للراحة مكانًا .. لم يجد للراحة طعمًا رغم شدة فرحه برسول الله -صلى الله عليه وسلم- داخل بيته .. لماذا؟ .. لماذا؟ أبو أيوب مُحرج لو رأيته وهو يسير في منزله لأشفقت عليه .. فهو لا يتحرك إلا في مساحة ضيقة من بيته .. كأن الجن والأشباح تنزل في البقية الباقية .. لقد حدد له زاوية من المنزل يتحرك فيها وينتقل وينام .. أما البقية الباقية فلا .. ذلك لأن الإِسلام صنع منه قلبًا وحسًا مرهفًا .. فهو لا يريد أن يمشي فوق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .. فقد (انتبه أبو أيوب فقال: نمشي فوق رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!! فتنحوا فباتوا في جانب، ثم قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- يعني في ذلك فقال -صلى الله عليه وسلم-: "السفل أرفق بنا" .. فقال أبو أيوب: لا أعلو سقيفة أنت تحتها، فتحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العلو، وأبو أيوب في السفل) (¬2) .. لن تستغرب الدنيا ما قام به أبو أيوب رضى الله عنه فهو وابن سحابة هتون تحوم في سماء الإيثار والكرم .. ابن سحابة اسمها الأنصار .. الأنصار الذين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬3) .. هذه شهادة الله لهم تتنزل عليهم من فوق العرش تعبر السماوات سماءً سماءً يتغنّى بها الأنصار .. يتغنى بها بنو النجار أخوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو أيوب من الأنصار .. وأبو أيوب من بني النجار ولإن ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم والبيهقيُّ (2/ 509) (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم والبيهقيُّ (2/ 509). (¬3) سورة الحشر: الآية 9.

فمن هذا الشخص الغريب؟

كانت (خير دور الأنصار بني النجار) (¬1) فإن (في كل دور الأنصار خير) (¬2) ... فالله جعل (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار) (¬3) .. فـ (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله) (¬4). الأنصار الآن يتوافدون .. يتتابعون نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. يسلِّمون .. يثلجون صدورهم بالقرب من حبيبهم .. كانوا يحملون الولاء والحب وشيئًا من الطعام .. كلٌ حسب ما يجد .. لكن أحد الفقراء المعدمين الذين لا يملكون حتى ثيابهم كان على الباب ينتظر .. كانت هيئته رثةً تدمى القلب .. وتدمع العن .. ومع ذلك استطاع بعد جهد وعرق أن يحصل على شيء من طعام لا ليأكله .. لا ليتصدق به بل ليهديه. فمن هذا الشخص الغريب؟ أتذكرون ذلك المسكين الذي قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في قباء وقدم له صدقة من طعام فأكل الصحابة منه ولم يأكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. قباء تذكره .. وأنتم؟ .. ها هو يأتي مرة أخرى يحمل هدية من طعام تحملها يدان تشققتا من العبودية والكدح والشقاء .. تحمله أقدامه دامية .. عصفتها الدروب والثلوج والرمضاء والرياح .. وما إن وقف ذلك المسكين أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قال له: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. متفق عليه. (¬2) متفق عليه وهو أخر الحديث السابق. (¬3) صحيح. رواه البخاري (3784). (¬4) صحيح. رواه البخاري (3783).

قصة بناء المسجد النبوي

(إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها ... فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها وأمر أصحابه فأكلوا معه) (¬1). فقال ذلك المسكين في نفسه: (هاتان اثنتان) (¬2) ثم خرج من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أحر شوقًا مما كان عليه .. عاد لسيده اليهودي يكدح ويكدح .. وينتظر النهار بين نخيل المدينة .. فمن أجل النهار جاء .. جاء من مكان بعيد .. جاء سيدًا .. جاء مبتسمًا وباكيًا .. جاء عبدًا مقيدًا .. جاء من مر السنين .. ولن تضيره أيام قليلة من الانتظار .. فربما طلع النهار وانزاح ليله الدامي الطويل. أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمكث ما شاء الله له أن يمكث في ضيافة أبي أيوب .. ولم يكن هناك من مسجد للصلاة فـ (كان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم) (¬3). لكن المدينة اليوم عاصمة للإسلام .. وهي تتسع كل يوم بالوافدين والمهاجرين .. وكان لا بد لها من مسجد .. وقرب بيت أبي أيوب لمح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا لبني النجار .. لم يرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنسب منه مكانًا لمسجده .. فكانت هذه القصة: قصة بناء المسجد النبوي لقد جاء الأمر (ببناء المسجد .. فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا .. ؟ فقالوا: ¬

_ (¬1) حديث صحيح سيمر معنا. رواه ابن إسحاق. (¬2) حديث صحيح سيمر معنا. رواه ابن إسحاق. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (428).

والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عَزَّ وَجَلَّ .. قال: وكان فيه ما أقول لكم: كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خرب، وكان فيه نخل .. فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع ... فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضاديته حجارة، فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللَّهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة") (¬1) لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدًا .. يكحل عينيه. بمشهد السواعد تشتد أمامه وتعرق .. بل كان يعرق مثلهم ويحمل مثلهم .. لقد ساهم -صلى الله عليه وسلم- في بناء مسجده وبناء مسجد قباء كما ساهم وهو شاب في بناء مسجد الله الحرام في مكة التي طرد منها ومن كعبتها .. وفي المدينة كان الصحابة يتدفقدن نشاطًا وبناءً .. هذا عمار بن ياسر رضي الله عنه يتميز عن بقية الصحابة .. .. يحدثنا عما قام به عمار صحابي اسمه أبو سعيد الخدري فيقول: (كنا نحمل في بناء المسجد لبنة .. لبنة، وعمار يحمل لبنتين .. لبنتين .. فرآه النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل ينفض التراب عنه) (¬2) ثم يقول -صلى الله عليه وسلم- وحيًا .. يقول غيبًا .. يقول: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية .. يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) (¬3) أما عمار فكان رغم استبشاره بهذه الشهادة .. يخشى على أمة ¬

_ (¬1) حديث صحيح. وهو بقية الحديث السابق. (¬2) حديث صحيح. رواه البيهقي بإسناد صحيح (سيرة ابن كثير 2/ 307) والبخاريُّ ولكن بدون زيادة تقتله الفئة الباغية، لكنها زيادة صحيحة فقد رواها أبو سعيد عن أبى قتادة. أما الفئة الباغية فهي فئة معاوية رضى الله عنه ... والفئة المحقة هي علي رضى الله عنه (¬3) حديث صحيح. رواه البيهقي بإسناد صحيح (سيرة ابن كثير 2/ 307) والبخاريُّ ولكن بدون زيادة تقتله الفئة الباغية، لكنها زيادة صحيحة فقد رواها أبو سعيد عن أبى قتادة =

لكن ما قصة هذا اليمامى

الإِسلام .. يخشى عليها فيقول: (أعوذ بالله من الفتن) (¬1) ثم ينصرف إلى عمله والصحابة حوله حركة نشطة .. هذا أحدهم .. يغوص في الطين بمهارة .. ويعالجه بطريقة مدهشة أعجبت النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال لمن حوله ممتدحًا فعل ذلك الرجل الماهر بعمله الوافد من اليمامة ليكتب الله له شرف المساهمة في بناء المسجد النبوي .. يقول -صلى الله عليه وسلم -: "قربوا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم بناءً" (¬2). وتم بناء المسجد كما أراد -صلى الله عليه وسلم-: مبنيًا باللبن، وسقفه الجريد، وعمده من خشب النخل) (¬3). لكن ما قصة هذا اليمامى طلق بن علي اليمامي يحكي قصته .. يرويها بنفسه يفخر بها وحق له أن يفخر .. يقول رضي الله عنه: (بنيت مع النبي -صلى الله عليه وسلم - مسجد المدينة فكان يقول: ¬

_ = أما الفئة الباغية فهي فئة معاوية رضي الله عنه ... والفئة المحقة هي علي رضي الله عنه وأصحابه. (¬1) حديث صحيح. رواه البيهقي بإسناد صحيح (سيرة ابن كثير 2/ 307) والبخاريُّ ولكن بدون زيادة تقتله الفئة الباغية، لكنها زيادة صحيحة فقد رواها أبو سعيد عن أبي قتادة. أما الفئة الباغية فهي فئة معاوية رضي الله عنه ... والفئة المحقة هي علي رضي الله عنه وأصحابه. (¬2) سنده صحيح. رواه النسائي والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 542) وابن حبان (3/ 405) من طريق ملازم بن عمرو وهو يمامى صدوق (التقريب 2/ 291) حدثنا عبد الله بن بدر وهو يمامى ثقة (التقريب 1/ 403) وشيخه هو قيس ابن الصحابي طلق الذي ساهم في البناء وهو تابعى ثقة (التقريب 2/ 129) وقصة الوفادة عند الطبراني (8/ 399) وابن حبان (3/ 404) بالسند نفسه. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (2/ 541).

مكنوا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له مسًا) (¬1). ويحكي هذا الصحابي قصة قدومه فيقول: (خرجنا وفدًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرناه أن بأرضنا بيعة (¬2) لنا .. واستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء فمضمض ثم صبه لنا في إداوة، وقال: اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم (¬3)، وانضحوا مكانها من هذا الماء, واتخذوا مكانها مسجدًا فقلنا: يا نبى الله .. إن البلد بعيد والماء ينشف .. قال -صلى الله عليه وسلم -: "فمدوه من الماء فإنه لا يزيده إلا طيبًا" ... قال: فتشاححنا على حمل الإداوة أينا يحملها، فجعلناها نوبًا بيننا لكل رجل يوم وليلة، فلما قدمنا بلدنا فعلنا الذي أمرنا، وراهبنا ذلك اليوم رجل من طي، فنادينا للصلاة .. فقال الراهب: دعوة حق ثم هرب فلم يرَ بعد) (¬4) هذا ما حدث في أرض اليمامة أما في المدينة. فبعد أن تم بناء المسجد .. وعُمِّرَ بالصلاة والحياة .. وضع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - جذع نخلة يخطب عليها .. لكن الوفود تكثر كل يوم ... والمهاجرون في ازدياد .. والناس تريد أن تستمع إلى خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. إلى وحى ربها .. فلا بد من بناء منبر مرتفع يمكن الحاضرين من الاستماع ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه النسائي والبيهقيُّ واللفظ له (2/ 542) وابن حبان (3/ 405) من طريق ملازم بن عمرو وهو يمامى صدوق (التقريب 2/ 291) حدثنا عبد الله بن بدر وهو يمامى ثقة (التقريب 1/ 403) وشيخه هو قيس ابن الصحابي طلق الذي ساهم في البناء وهو تابعى ثقة (التقريب 2/ 129) وقصة الوفادة عند الطبراني (8/ 399) وابن حبان (3/ 404) بالسند نفسه. (¬2) البيعة: هى كنيسة النصارى. (¬3) البيعة: هى كنيسة النصارى. (¬4) هو باقى الحديث السابق الذي رواه النسائي والبيهقيُّ وابن حبان وهو صحيح.

عند صنع المنبر

والرؤية .. وافق -صلى الله عليه وسلم - على هذا الاقتراح .. لكن شيئًا محزنًا حدث فأحزن من في المسجد وأبكاهم .. شيء غريب ومؤثرٌ حقًا .. عند صنع المنبر أحد الذين حضروا تلك الدموع .. صحابي اسمه: سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقوم إذا خطب إلى خشبة كانت في المسجد، فلما ذاع الناس وكثروا قيل له: يا رسول الله لو جعلت منبرًا تشرف على الناس منه؟ فبعث إلى النجار فانطلق .. فانطلقت معه حتى أتى الغابة فقطع منها أثلًا .. فعمله وهيأه ثم أتينا نحمله، فكان "درجتين" والثالثة مقعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. فوالله ما هو إلا أن قعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. فتكلم، وفقدته الخشبة .. فخارت كخوار الثور لها حنين حتى فزع الناس .. وكثر البكاء مما رأوا بها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله ألا ترون إلى هذه الخشبة" (¬1). تأثر -صلى الله عليه وسلم - بذلك الحنين وهو على المنبر (فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت) (¬2) كأن هذا الجذع متفرع من جذور الحب .. كأنه أحد ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. رواه أبو نعيم في الدلائل (403)، أبو يعلى حدثنا كامل بن طلحة حدثنا ابن لهيعة عن عمارة بن غزية أنه سمع عباس بن سهل يخبر عن أبيه وهذا سند صحيح لولا اختلاط ابن لهيعة لكنه لم ينفرد فقد رواه البيهقي من طريقين عن أبي بكر بن أويس عن سعد بن سعيد بن قيس عن عباس عن أبيه (2/ 559) وعلته سعد بن سعيد وحديثه حسن بالشواهد فهو صدوق سيىء الحفظ. (¬2) حديث صحيح. رواه الإِمام البخاري والبيهقيُّ (2/ 560).

امرأة من الأنصار وغلامها تبرعا بالمنبر

المهاجرين والأنصار .. كأنه مكة .. مكة التي تفتقد إلى وجه ابنها وحبيبها -صلى الله عليه وسلم - .. كأنه تلك الحجارة التي كانت تسلم عليه -صلى الله عليه وسلم - كلما مر بها .. وتبادله حبًا بحب وشوقًا بشوق .. هذا الجذع بكى لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لن يخطب عليه بعد اليوم .. لن يحظى بدفء جسده بعد اليوم ... وسوف يفتقد إلى ذكر الله يفوح عطرًا وهدايةً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. لقد عبر -صلى الله عليه وسلم - عمَّا بأعماق هذه الشجرة عندما قال: (بكت على ما كانت تسمع من الذكر عندها) (¬1) إنها تغبط: امرأة من الأنصار وغلامها تبرعا بالمنبر فالأنصارية هي التي تطوعت وغلامها لبناء المنبر .. يحدثنا عن ذلك أحد كرام الأنصار: جابر بن عبد الله فيقول: (إن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله .. ألا أجعل لك منبرًا تقعد عليه فإن لي غلامًا نجارًا .. ، فقال -صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت" .. ، فعملت له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة قعد على المنبر الذي صنع له، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فترل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها، فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت. قال -صلى الله عليه وسلم -: "بكت على ما كانت تسمع من الذكر عندها" (¬2) ثم عاد -صلى الله عليه وسلم - إلى منبره. فماذا صنع يقول سهل الساعدي: إن المرأة أمرت غلامها (فعملها من طرفاء ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (2/ 560). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (2/ 560).

منبرا من الجنة

الغابة .. ثم جاء بها فأرسلته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فأمر بها فوضعت ها هنا .. ثم رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - صلى عليها .. وكبَّر وهو عليها .. ثم ركع وهو عليها .. ثم نزل القهقرى .. فسجد في أصل المنبر .. ثم عاد .. فلما فرغ أقبل على الناس فقال: "أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بى ولتعلموا صلاتي .. فعمل هذه الثلاث درجات" (¬1) إذًا فمنبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث درجات لا أكثر .. ثلاث درجات بسيطة لا أكثر .. فهنيئًا لتلك الأنصارية .. هنيئًا لغلامها وهنيئًا لذلك المنبر .. فمنبر الأثل لم يعد ينتمي إلى الأثل .. لم يعد ينتسب إلى الأرض .. منبر الأنصارية صار: منبرًا من الجنة فقد التفت -صلى الله عليه وسلم - إلى منبره يومًا فقال: "إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة" (¬2). وأما ما بين المنبر وبيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فمساحة من الربيع الخالد .. والفيض الغامر الواعد بالنعيم .. فقد قال -صلى الله عليه وسلم -: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" (¬3). أما المسجد فقد اكتمل بناؤه .. واكتمل العقد بجوهرة ثالثة تزين صدر السفر.، محطة ثالثة لقوافل المؤمنين بناها -صلى الله عليه وسلم - في المدينة .. يزيلون فيها ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ والبيهقيُّ (2/ 555). (¬2) حديث صحيح. انظر صحيح النسائي (1/ 150) والبيهقيُّ (2/ 564). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ (1195).

العناء والذنوب وينهلون الربيع والثواب "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا .. والمسجد الحرام .. ومسجد بيت المقدس" (¬1) ... لا تشد الرحال من أجل العبادة إلى أي مسجد في الدنيا إلا إلى هذه المساجد الثلاثة .. فمن أتعب مطاياه إلى غيرها فقد أتعبته البدعة والشيطان .. والإِسلام نبع صافٍ ورقراق .. والبدعة تلوثه .. والشيطان يلوث قلوب أصحابها .. لكن لماذا هذه المساجد فقط هي مناخ المرتحل ومستراحه؟ الإجابة لا تأتي من الهواء .. لا تأتي من الهوى .. الإجابة تتنزل وحيًا. تتزل أجرًا عندما قال -صلى الله عليه وسلم -: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" (¬2). فهم الصحابة ذلك وأدركوا أن السفر من أجل العبادة والصلاة لا يجوز مهما كان ذلك المكان المنشود مقدسًا .. إلا إلى هذه المساجد الثلاثة .. حتى ولو كان هذا المكان جبل الطور الذي كلم الله فيه موسى تكليمًا .. وأنزل عليه فيه التوراة .. وهذه القصة حدثت بين صحابيين تشهد بتفاني الصحابة من أجل بقاء الإِسلام جديدًا دون تشويه .. دون بدع .. (لقد لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وهو جاء من الطور، فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور .. صليت فيه، قال أبو بصرة: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد ¬

_ (¬1) حديث صحيح. متفق عليه. (¬2) حديث صحيح انظر صحيح الجامع (2/ 714).

الأقصى") (¬1) وبهذه التصفية والتربية يبقى الإِسلام جديدًا .. دون شوائب .. دون بدع .. كما أنزل على محمَّد -صلى الله عليه وسلم -. إذًا فقد سعدت المدينة باحتضانها لمسجد يؤسسه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على التقوى كما سعدت مكة من قبل بتأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لبيت الله الحرام .. وبنى -صلى الله عليه وسلم - له بيتًا ملاصقًا للمسجد عبارة عن حجرات صغيرة فسودة قادمة قريبًا من مكة .. أما عائشة فربما كانت مع هذا الركب الذي يلوح بين السراب .. وفيه امرأة حامل .. امرأة عظيمة كانت تحمل المسؤوليات والطعام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. كانت تقطع حزامًا لها نصفين ليستخدمه -صلى الله عليه وسلم - في هجرته إلى المدينة فيربط زاده وما يحتاجه .. إنها ذات التاريخ الأبيض .. ذات النطاقين .. أسماء بنت الصديق الأكبر .. والصاحب الأبر .. (هاجرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى) (¬2) .. لم تبال بثقل حملها فمدينة الأنوار والحب تنتظرها .. وهي لا تستطيع مقاومة ذلك الحب فيها .. أما ذلك الجنين في بطنها فكان على موعد مع السبق والشرف ليكون أولًا في سجلات الهجرة والإِسلام. أسماء الآن في طريقها إلى المدينة .. هي الآن في قباء قد أثقلها الحمل والتعب .. لا تستطيع المشى .. لا تستطيع الوصول إلى المدينة فآلام الولادة شديدة .. إنها المرة الأولى التي تعاني فيها من هذه الآلام .. فبقيت في قباء حتى تمت ولادتها بسلام وطفلٍ كالورد تحدثنا عنه فتقول: (خرجت وأنا متم .. فأتيت المدينة فنزلت بقباء .. فولدته بقباء .. ثم أتيت به رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه .. فكان أول شيء ¬

_ (¬1) حديث صحيح انظر إرواء الغليل (4/ 142) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري ومسلمٌ. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3909).

تنتظر أسعد أيام حياتها

دخل جوفه ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ثم حنكه بتمرة .. ثم دعا له وبرك عليه، فكان أول مولود في الإِسلام) (¬1). هذا الطفل هو عبد الله بن الزبير بن العوام .. أمه أسماء وجده أبو بكر أما خالته عائشة .. فبعد وصولها عانت من مرض تساقط منه شعرها تقول رضي الله عنها: (قدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج، فوعكت فتمزق شعري فوفى جميمة) (¬2) أي أنها شفيت فعاد شعرها جميمة وهو الشعر إذا سقط على المنكبين .. فرحت عائشة بجميمتها وهي ... تنتظر أسعد أيام حياتها فهي زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لكنها كانت في بيت أبيها لم تنتقل بعد إلى بيت الزوجية والنبوة والحب الطهور .. وتلك الحجرات الصغيرات كن يتلهفن عليها حتى إذا جاء شهر شوال من تلك السنة ... وشهر شوال محبوب لدى عائشة .. إنها تقول عنه: (تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في شوال .. وبنى بي في شوال .. فأي نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان أحظى عنده مني .. وكانت تستحب أن تدخل نساءها في شوال) (¬3). ولزفاف عائشة قصة تحب أن ترويها لنا فتقول رضي الله عنها: (أتتني أمى أم رومان وإني لفي أرجوحةٍ ومعى صواحب لي، فصرخت نبى، فأتيتها لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (ابن كثير 2/ 331). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3894). (¬3) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه الإِمام أحمد. انظر سيرة ابن كثير (2/ 332) حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن أبيه عن عائشة وهذا الإسناد صحيح: وكيع ثقة معروف ... إسماعيل ثقة ثبت ... عبد الله بن عروة ثقة ثبت ... وسفيان إمام ثقة ثبت معروف.

على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئًا من ماء فمسحت به وجهى ورأسى، ثم أدخلتنى الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأنى, فلم يرعني إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين) (¬1). هذه قصة الزفاف .. وهكذا صار لعائشة رضي الله عنها حجرة من تلك الحجرات المتواضعة .. وصار لها نصيب في حياته -صلى الله عليه وسلم - وقلبه .. يزداد مع الأيام حتى صارت أحب الناس إليه .. يقول أحد الصحابة واسمه عبد الله بن شقيق: (قلت لعائشة: أي الناس كان أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: عائشة .. قلت: فمن الرجال؟ قالت: أبوها) (¬2). وصحابي آخر قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فجرى بينهما حوار عن الحب .. يقول هذا الصحابي رضي الله عنه: (أتيته .. قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة .. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها .. قلت: ثم من؟ قال: عمر .. فعد رجالًا) (¬3). المرأة من جديد تقفز في المقدمة .. تتقدم فتسير أمام من يدخلون قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. وقلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان مدينةً منورةً أخرى للجميع .. سعدوا بدخولها .. واطمأنوا بالعيش فيها .. ومن آثار تلك الطمأنينة والحب ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3894). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (4358). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4358).

بين المهاجرين والأنصار هذه الخطوات التي يخطوها حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وهو يتجه إلى أحد بيوت الأنصار .. إلى بيت قيس بن فهد .. حمله حب مصاهرة الأنصار الكرام والتماهى معهم إلى يوم القيامة .. خطب حمزة رضي الله عنه خولة بنت قيس فوافقت ووافق أبوها .. وزفت إليه وسكنا معا في بيت تعمره السكينة والإيمان ويزوره النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقضى فيه وقتا كأنسام البحار عند المساء .. خولة رضي الله عنها تتحدث عن تلك الزيارات التي كان يقوم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيت عمه .. وتتحدث عن عذوبته عليه -صلى الله عليه وسلم -: (أن حمزة بن عبد المطلب لما قدم المدينة تزوج خولة بنت قيس بن قهد الأنصارية من بني النجار .. قال وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور حمزة في بيتها وكانت تحدث عنه -صلى الله عليه وسلم - أحاديث قالت جاءنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يومًا فقلت: يا رسول الله .. بلغني عنك أنك تحدث أن لك يوم القيامة حوضًا ما بين كذا وكذا .. قال أجل .. وأحب الناس إلى أن يروى منه قومك قالت فقدمت إليه برمة فيها خبزة أو حريرة .. فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده في البرمة ليأكل فاحترقت أصابعه فقال: حس .. ثم قال: ابن آدم إن أصابه البرد قال: حس .. وإن أصابه الحر قال: حس) (¬1) وتقول رضي الله عنها: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -دخل على حمزة فتذاكر الدنيا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن الدنيا خضرة حلوة فمن أخذها بحقها بورك له فيها .. ورب متخوض في مال الله ومال رسوله له النار يوم يلقى الله) (¬2) كان -صلى الله عليه وسلم - يزور أصحابه أيضًا يتفقدهم ويتحسس معاناتهم .. ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه أحمد 6/ 410 من طريق يحيى بن سعيد عن يحنس تابعي ثقة: التقريب 2/ 324 وللحديث شواهد قوية عند الطبراني: المعجم الكبير 24/ 227 تحت عنوان: خولة بنت قيس بن قهيد بن قيس بن ثعلبة الأنصاري امرأة حمزة بن عبد المطلب. (¬2) سنده قوى رواه أحمد 6/ 364 وغيره من طريق يحيى بن سعيد أن عمر بن كثير بن أفلح مولي أبي أيوب الأنصارى أخبره أنه سمع عبيد سنوطا يحدث عن خولة وعمر تابعي ثقة =

بيت أسعد بن زرارة

ولأنهم جميعًا بين أضلاعه -صلى الله عليه وسلم- فلا بد أن يدلف معهم شيء من الأحزان يشعر به ويشاركهم معاناته .. كان يتقاسم معهم الأحزان والأفراح .. فخلال تلك البهجة .. خلال فرح المدينة بعرس محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وعائشة .. خلال الفرح بالمهاجرين والإِسلام كانت قافلة الحياة الطويلة تمر .. تعبر لا تتوقف .. تحمل الفرح والأحزان والمفاجآت .. قافلة الحياة تحمل هذه المرة حزنًا يتأهب لدخول بيت أحد أبطال العقبة والبيعة الخالدة: بيت أسعد بن زرارة الذي كان في أيامة الأخيرة يعاني من المرض .. فيقول أنس بن مالك: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد كوى أسعد بن زرارة في الشوكة) (¬1). لكن سعدًا مات رضي الله عنه .. مات فترك جرحًا في قلوب المسلمين .. وترك دعاءً في قلب رجل اسمه كعب بن مالك رضي الله عنه .. كان كعب يدعو له كلما سمع صوت المؤذن ليوم الجمعة .. فلماذا هذا النداء بالذات وما هي ذكرياته .. الإجابة أخذها عبد الرحمن من والده كعب بن مالك .. بعد أن بلغ كعب من الكبر عتيًا وشاب رأسه وذهب بصره .. يقول عبد الرحمن: إن والده (كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة .. فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة .. قال: ¬

_ = من رجال مسلم انظر التقريب 2/ 62 وسنوطا ثقة قال العجلي في معرفة الثقات 2/ 122: عبيد سنوطا مدني تابعي ثقة. (¬1) سنده صحيح. رواه ابن جرير (ابن كثير 2/ 329) أخبرنا محمَّد بن عبد الأعلى، حدثنا يزيد بن زريع، عن معمر عن الزهري عن أنس ... ومحمَّد بن عبد الأعلى ثقة (التقريب 2/ 182) وشيخه أوثق منه (التقريب 2/ 364) والبقية أئمة أغنياء عن التعريف.

فمن هذا المتسلل؟

لأنه أول من جمَّع بنا في هزم النبيت .. من حرة بني بياضة. .. في نقيع يقال له نقيع الخضمات .. قلت: كم أنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون) (¬1) .. رحم الله أسعد بن زرارة .. ربما كان هو هذا الذي فوق الأعناق .. ها هم ينزلونه إلى قبره ويدفنونه .. النبي - صلى الله عليه وسلم - حزين عند قبره .. وها هم الصحابة يلفهم الوجوم ويتسلل الحزن بينهم .. ويتسلل بينهم رجل لم يعرف الحزن هذه اللحظة فقط .. بل تشربته عروقه وشبابه فأصبح من لحمه ودمه .. حزين تصرعه الدنيا وتشفيه وتحمله وترتحل به حتى أوصلته إلى هذا القبر. فمن هذا المتسلل؟ من هذا المتسلل بين المقابر .. ؟ إنه ذلك الرقيق المتسلل ليلًا إلى قباء عندما وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى هناك .. هل تذكرون تلك الصدقة التي حملها .. قدمها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - فلم يأكل منها وجعل أصحابه يأكلون .. إنه الشخص نفسه الذي حمل هدية من طعام إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في بيت أبي أيوب الأنصاري .. ذلك الشخص المحير .. ذلك الرقيق الملىء بالأسرار والعبودية والهموم هو هذا المتسلل الذي مشى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة الصحابي الجليل .. وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - شملتان .. لن أستمر .. سأترككم معه .. يفتح لكم قلبه ودروبه وتاريخه .. ليتحدث إليكم يقول رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 187): حدثني محمَّد بن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف عن أبيه أبى أمامة أن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أخبره ... وهذا السند صحيح. شيخ ابن إسحاق ثقة (التقريب 2/ 146) ووالده اسمه: أسعد بن سهل بن حنيف له رؤية وهو معدود في الصحابة (التقريب 1/ 64) وشيخه من كبار التابعين وثقاتهم (التقريب 1/ 496).

(جئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وهو ببقيع الغرقد (¬1) ... قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان (¬2) وهو جالس في أصحابه .. فسلمت عليه، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاجي. فلما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم - استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم (¬3) فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "تحول" .. فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثى) (¬4) إذًا فهذا المسكين يبحث عن نبي وقد وجده .. لكن من هو صاحبه وما هي قصته وما هو حديثه ... ؟ مرة أخرى سأترككم معه يحدثكم كما حدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حديثًا مبللًا بالدموع والشقاء والدلال .. حديثا طويلًا يقول فيه: (كنت رجلًا فارسيًا من أهل أصبهان .. من أهل قرية يقال لها جيء .. - وكان أبي دهقان (¬5) قريته .. وكنت أحب خلق الله إليه .. فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية -أي ملازم النار- واجتهدت في المجوسية (¬6) حتى كنت قطن (¬7) النار الذي يوقدها لا يتركها ¬

_ (¬1) بقيع الغرقد: هو مقبرة المدينة. (¬2) الشملة: كساء يتلفف به المرء (¬3) خاتم النبوة. (¬4) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير1/ 296) ومن طريقه رواه أحمد (5/ 441) فقال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي -من فيه- قال: كنت رجلًا فارسيًا .... وهذه السلسلة من الرجال كالذهب، عاصم بن عمر بن قتادة وهو تابعى ثقة وإمام في المغازي والبقية من الصحابة رضي الله عنهم. انظر التقريب (1/ 385). (¬5) الدهقان: هو رئيس القرية أو التاجر. (¬6) المجوسية: دين يعبد أهله النار. (¬7) أي خازن النار والمعتنى بها.

تخبو ساعة .. وكانت لأبي ضيعة (¬1) عظيمة ... فشغل في بنيانٍ له يومًا فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي .. فاذهب إليها فاطَّلعها .. وأمرني فيها ببعض ما يريد .. ثم قال لي: ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري .. فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها .. فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون .. وكنت لا أدري ما أمر الناس -لحبس أبي إياي في بيته- فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم انظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم .. وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه .. فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها .. ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام .. فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن أمره كله .. فلما جئت قال: أي بني .. أين كنت؟ ألم أكن أعهد إليك ما عهدته؟ .. قلت: يا أبت مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم .. فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس .. قال: أي بني ... ليس في ذلك الدين خير .. دينك ودين آبائك خير منه .. قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا .. فخافنى فجعل في رجلى قيدًا ثم حبسني في بيته .. ¬

_ (¬1) بساتين وأشجار وكروم.

وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام -تجار من النصارى- فأخبروني بهم .. فقدم عليهم ركب الشام -تجار من النصارى- فجاءوني النصارى فأخبروني بهم .. فقلت: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني .. فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبرونى بهم .. فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علمًا؟ قالوا: الأسقف (¬1) في الكنيسة .. فجئته فقلت له: إنى قد رغبت في هذا الدين .. وأحببت أن أكون معك .. وأخدمك في كنيستك وأتعلم منك فأصلى معك .. قال: ادخل .. فدخلت معه .. فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها .. فإذا جمعوا له شيئًا كنزه لنفسه ولم يعطه المساكين .. حتى جمع سبع قلال من ذهب ووَرِق (¬2) ... وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع .. ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه .. فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء .. يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها .. فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا. فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ فقلت لهم: أنا أدلكم على كنزه .. قالوا: فدلنا .. فأريتهم موضعه فاستخرجوا ¬

_ (¬1) رتبة نصرانية فوق رتبة القس وتحت رتبة المطران. (¬2) الورق: الفضة.

سبع قلال مملوءة ذهبًا وورِقًا .. فلما رأوها قالوا: لا ندفنه أبدًا .. فصلبوه ورجموه بالحجارة. وجاءوا برجل آخر فوضعوه مكانه .. فما رأيت رجلًا لا يصلى الخمس أرى أنه أفضل منه .. وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة .. ولا أدأب ليلًا ونهارًا .. فأحببته حبًا لم أحب شيئًا قبله مثله .. فأقمت معه زمانًا .. ثم حضرته الوفاة .. فقلت له: إني قد كنت معك .. وأحببتك حبًا لم أحبه شيئًا قبلك .. وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى .. فإلى من توصى بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني .. والله ما أعلم اليوم أحدًا على ما كنت عليه .. لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلًا بالموصل (¬1) وهو فلان .. وهو على ما كنتُ عليه فالحِقْ به. فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل .. فقلت: يا فلان .. إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك .. وأخبرني أنك على أمره .. فقال لي: أقم عندي .. فأقمت عنده فوجدته خير رجلٍ على أمر صاحبه .. فلم يلبث أن مات .. فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانًا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك .. وقد حضرك من أمر الله ما ترى .. فإلى من توصي بي وبِمَ تأمرنى؟ قال: يا بني .. والله ما أعلم رجلًا على مثل ما كنا عليه .. إلا رجلًا بنصيبين وهو فلان .. فالحق به .. ¬

_ (¬1) مدينة معظمها على الضفة اليمنى لنهر دجلة بالعراق.

فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين (¬1) .. فأخبرته خبري وما أمرني به صاحباي .. فقال: أقم عندي .. فأقمت عنده .. فوجدته على أمر صاحبيه .. فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت .. فلما حضر قلت له: يا فلان .. إن فلانًا كان أوصى بي إلى فلان .. ثم أوصى بي فلان إلى فلان .. ثم أوصى بي فلان إليك .. فإلى من توصي بي وتأمرني .. قال: يا بني .. والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه .. إلا رجلًا بعمورية (¬2) من أرض الروم .. فإنه على مثل ما نحن عليه .. فإن أحببت فأته .. فإنه على أمرنا. فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية .. فأخبرته خبري .. فقال: أقم عندي .. فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم .. واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة .. ثم نزل به أمر الله .. فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان .. ثم أوصى بي فلان إلى فلان .. ثم أوصى بي فلان إلى فلان .. ثم أوصى بي فلان إليك .. فإلى من توصي بي .. وبم تأمرني؟ قال: أي بني .. والله ما أعلم أصبح أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه .. ولكن قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم .. يخرج بأرض العرب .. مهاجره إلى أرض بين حرتين (¬3) .. ، بينهما نخل .. به ¬

_ (¬1) مدينة من مدن الجزيرة. (¬2) مدينة بآسيا الصغرى (تركيا الآن). (¬3) الحرة: أرض ذات أحجار سوداء.

علامات لا تخفى .. يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة .. بين كتفيه خاتم النبوة .. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .. ثم مات وغيب .. ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث .. ثم مر بي نفر من كلب -تجار- فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه .. قالوا: نعم .. فأعطيتهموها وحملوني معهم .. حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني .. فباعوني من رجل يهودي عبداً .. فكنت عنده .. ورأيت النخل .. فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي .. ولم يحق في نفسي .. فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة .. فابتاعني منه .. فاحتملني إلى المدينة .. فوالله ما هو إلا أن رأيتها .. فعرفتها بصفة صاحبي لها .. فأقمت بها. وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. فأقام بمكة ما أقام .. ولا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق .. ثم هاجر إلى المدينة .. فوالله إني لفى رأس عذق (¬1) لسيدي أعمل فيه بعض العمل .. وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: يا فلان .. قاتل الله بني قيلة (¬2) .. والله إنهم لمجتمعون الآن بقباءٍ على رجلٍ قدم من مكة يزعم أنه نبي .. فلما سمعتها أخذتني الرعدة .. حتى ظننت أني ساقط على سيدي .. فنزلت عن النخلة .. فجعلت أقول لابن عمه: ¬

_ (¬1) العَذق -بفتح العين- النخلة بحملها. (¬2) اسم جدة الأوس والخزرج.

ماذا تقول .. ماذا تقول .. ؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة .. ثم قال: ما لك ولهذا!! أقبل على عملك .. فقلت: لا شيء .. إنما أردت أن أستثبته عما قال .. وقد كان عندي شيء قد جمعته .. فلما أمسيت أخذته .. ثم ذهبت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء ..) (¬1). إذًا فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - يعرف وجه هذا الغريب ويعرف قصته معه في قباء عندما قدم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - صدقة من طعام فلم يأكل منها .. ولكنه أكل من هديته التي قدمها له في بيت أبي أيوب .. وها هو يرى خاتم النبوة على ظهره -صلى الله عليه وسلم -. ثلاث علامات ذاق من أجلها سلمان ألوان المر .. والترحال والتغرب والتشرد .. تشققت يداه من الكد والكدح وهو ابن النعيم والدلال .. حياة طويلة ترسف في قيود الحديد والعبودية والرق .. كان في غنى عنها لكنه ليس في غنى عن التوحيد .. فالتوحيد يعني له عالمًا من النعيم .. والحقيقة المدهشة المثيرة والانطلاق في آفاق الخلود والتحليق بلا حدود .. لم يجدها في رماد نار المجوس .. ولا بين تصاليب النصارى ولا وسط أحقاد اليهود .. وجدها بين يدي محمَّد -صلى الله عليه وسلم - .. فهدأت نفسه الثائرة وارتاحت روحه المتعبة ووجد الجدار الذي يسند إليه ظهره بعد طول العناء .. عثر على من يمسح دموعه وعرقه في طيبة الطيبة بين إخوة له في الشقاء والبحث والانتظار والوصول .. فقص عليهم ما وجده وما عاناه ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (ابن كثير 2/ 296) حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن عبد الله بن عباس وهذا السند فيه صحابيان وتابعي ثقة عالم بالمغازي هو عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري (التقريب 1/ 385).

(فأعجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه) (¬1). ولم يكتف -صلى الله عليه وسلم - بإبداء الإعجاب والرضا والابتسام .. فالرجل ما زال يلهث .. ويداه تنزفان وقدماه داميتان من صخور اليهود وأشواك حقولهم .. رَقَّ -صلى الله عليه وسلم - لحاله وضياعه فقرر كسر هذا الطوق الذي يخنق أنفاس هذا المسكين فالتفت -صلى الله عليه وسلم - إليه وقال: "كاتب يا سلمان" (¬2) .. أي تعاقد مع سيدك اليهودي على شيء تقدمه له مقابل حريتك .. لم يكن لدى سلمان شيءٌ يقدمه .. لكن كلمات النبي - صلى الله عليه وسلم -كانت نوافذَ مفتوحةً على الحرية والحرية .. نهض سلمان من بين المقابر وتوجه إلى ذلك اليهودي .. نهض سلمان وقد انتزع القلوب من حوله .. وغادر ونظرات الإشفاق والعطف تتابعه حتى اختفى .. ونهض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقد أثقلهم الحزن على صاحبيهم. ولم يكتفِ -صلى الله عليه وسلم - بالحزن على صاحبه الذي دفنه منذ قليل فأسعد بن زرارة ملء السمع والبصر وعائلته من بعده أصبحت بين حناياه -صلى الله عليه وسلم - .. رحل أسعد بن زرارة وترك زهرتين صغيرتين .. ها هو -صلى الله عليه وسلم - يمشي متوجهًا نحوهما في دار أبيهما أسعد .. نبى الله -صلى الله عليه وسلم - يحمل في يده هدية جميلة لهاتين الصغيرتين .. إنها أقراط ذهبية مرصعة باللؤلؤ .. وليس هناك ما يدخل السعادة على الفتاة مثل الحلى والزينة .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (ابن كثير 2/ 296) حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود ابن لبيد عن عبد الله بن عباس وهذا السند فيه صحابيان وتابعى ثقة عالم بالمغازي هو عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري (التقريب 1/ 385). (¬2) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (ابن كثير 2/ 296) حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود ابن لبيد عن عبد الله بن عباس وهذا السند فيه صحابيان وتابعى ثقة عالم بالمغازى هو عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري (التقريب 1/ 385).

تحدثنا عن هذه الزيارة حفيدة لأسعد بن زرارة اسمها زينب فتقول: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حلى أمها وخالتها -وكان أبوهما أسعد بن زرارة- أوصى بهما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فحلاهما رعاثًا من قبر ذهب فيه لولؤ) (¬1) .. لبست الفتاتان تلك الأقراط وتزينتا به .. وبقى عندهما زمنًا .. تقول زينب: (وقد أدركت الحلى أو بعضه) (¬2) .. هدية من نبي رقيق المشاعر يحاول تخفيف اليتم والحزن عن أهل بيت من بيوت الأنصار الكريمة. نبي أهداه الله رحمةً وحنانًا .. ها هو الغريب من جديد .. يعود بعد أيام .. سلمان ¬

_ (¬1) سنده حسن. رواه الحاكم (3/ 187) ... محمَّد بن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن محمَّد بن عمارة, عن زينب بنت نبيط قالت: وهذا الإسناد حسن من أجل محمَّد بن عمارة بن عمرو بن حزم وشيخته هنا هي زينب بنت نبيط زوجة أنس بن مالك وقد أدركت هذا الحلي وعرفت قصته (انظر التهذيب 9/ 359) ويقول الحافظ في التقريب (2/ 600): يقال لها صحبة ... وعلى أي حال فالحلي لأمها وخالتها وقد أدركته ... وحاتم بن إسماعيل حسن الحديث إذا لم يخالف (التقريب 1/ 37) وهو من رجال الشيخين ... وتلميذه من رجالهما وهو ثقة ثبت (التقريب 2/ 123) أما محمَّد بن إسحاق بن إبراهيم فهو شيخ الإِسلام الإِمام الثقة صاحب المسند الكبير ... وشيخ البخاري ومسلمٌ في غير الصحيح (سير أعلام النبلاء 14/ 388). (¬2) سنده حسن. رواه الحاكم (3/ 187) ... محمَّد بن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن محمَّد بن عمارة, عن زينب بنت نبيط قالت: وهذا لإسناد حسن من أجل محمَّد بن عمارة بن عمرو بن حزم وشيخته هنا هي زينب بنت نبيط زوجة أنس بن مالك وقد أدركت هذا الحلي وعرفت قصته (انظر التهذيب 9/ 359) ويقول الحافظ في التقريب (2/ 600): يقال لها صحبة ... وعلى أي حال فالحلي لأمها وخالتها وقد أدركته ... وحاتم بن إسماعيل حسن الحديث إذا لم يخالف (التقريب 1/ 37) وهو من رجال الشيخين ... وتلميذه من رجالهما وهو ثقة ثبت (التقريب 2/ 123) أما محمَّد بن إسحاق بن إبراهيم فهو شيخ الإِسلام الإِمام الثقة صاحب المسند الكبير ... وشيخ البخاري ومسلمٌ في غير الصحيح (سير أعلام النبلاء 14/ 388).

ماذا حدث لأبي بكر

الفارسي يعود إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - .. ويقول: (كاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالقفير وأربعين أوقية) (¬1) .. فرح -صلى الله عليه وسلم - بما سمع وهتف بأصحابه من حوله وقال لهم: "أعينوا أخاكم") (¬2) .. امتثل الصحابة وتفرقوا يبحثون .. يفتشون عن شيء يزيلون به بقايا الظلم عن أخيهم الفارسي الذي تداولته السنون والشقاء و (تداوله بضعة عشر من رب إلى رب) (¬3) وقد آن الأوان أن يستريح بفئ الإِسلام .. الصحابة اليوم حركة وعطاء إلا كبيرهم إلا أولهم إنه ليس في السوق .. وليس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - الذي يعود إلى بيته فيجد زوجته عائشة رضي الله عنها بانتظاره وهي قلقة على أبيها .. كانت تنتظر زوجها -صلى الله عليه وسلم - لتستأذنه في الذهاب للاطمئنان على أبيها .. فماذا حدث للصديق الأكبر ماذا حدث لحبيبنا أبي بكر رضي الله عنه .. ماذا حدث لأبي بكر لم يكن أبو بكر وحده يحتاج إلى الرعاية والمواساة .. بلال بن رباح كان مثله .. وعامر بن فهيرة أيضًا .. فقد (كانوا في بيت واحد) (¬4) .. وصل الخبر إلى عائشة فاستأذنت عائشة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في عيادتهم .. ¬

_ (¬1) هو بقية حديث سلمان الطويل الصحيح. (¬2) هو بقية حديث سلمان الطويل الصحيح. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (3946). (¬4) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (حدثني هشام بن عروة وعمر ابن عبد الله بن عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها -انظر ما بعده- (ابن كثير 2/ 316).

الحمى والحنين .. والشعر والهذيان

وعندما وصلت وجدت حمى المدينة الملتهبة تشتعل في أجسادهم .. وحمى المدينة شديدة فلقد (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهي أوبأ أرض الله) (¬1). لكن الله يجعل من الضيق منافذًا وأبوابًا .. ويجعل من المعاناة بشائرًا ووعودًا .. قال -صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "لا يصبر على لأواء المدينة وجهدها أحد إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا" (¬2). ويقول لهم: "الحمى حظ كل مؤمن من النار" (2). وما دامت الحمى من القدر فعلاجها من القدر أيضًا .. فالقدر يعالج بالقدر.، أرشد -صلى الله عليه وسلم - أصحابه إلى الصبر .. وأرشدهم أيضًا إلى العلاج فقال: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" (2) "الحمى كير من جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد" (2). هذه هي حال الحمى فكيف كانت حال أبي بكر وصاحبيه رضي الله عنهم .. لقد كانوا مزيجًا من: الحمى والحنين .. والشعر والهذيان وصلت عائشة فكان حوارها معهم حنينًا .. وشعرًا وهذيانًا .. عائشة تحكى ما جرى في تلك الزيارة فتقول رضي الله عنها: (لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - المدينة .. قدمها وهي أوبأ أرض الله من ¬

_ (¬1) حديث قوى السند (رواه البيهقي 2/ 567): الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ... الأصم إمام وثقة معروف وسماع شيخه للسيرة صحيح، ويونس بن بكير أحد رواه السيرة وهو حسن الحديث. (التقريب 2/ 384) وهشام ووالده لا يسأل عنهما وقد مرا معنا كثيرًا. (¬2) أحاديث صحيحة. انظر صحيح الجامع الصغير للإمام الألباني.

الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاءً وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه .. فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة وبلال -موليا أبي بكر- في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فدخلت عليهم أعودهم -وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب- وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك ... فدنوت من أبي بكر فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ .. فقال: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول .. ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ .. قال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه فقلت: والله ما يدري ما يقول .. وكان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي إذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مِجنةً ... وهل يبدون لي شامة وطفيل) (¬1) كان بلال يحترق من الحمى لكنه أشد احتراقًا بشوقه المستعر إلى مكة .. إلى سوق مجنة في أسفل مكة إلى جبلى شامة وطفيل اللذين يطلان كالحب على ذلك السوق .. كان يحن إلى مراتع الصبا بين تلك النبتات .. بين الإذخر والجليل .. ثم يزفر بأنفاسه الملتهبة بالحمى فيقول والحسرة في صدره: ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 316) وقد سبق الكلام عليه ... وهو عند البخاري ومسلمٌ أيضًا انظر ابن كثير (2/ 317).

(اللَّهم العن عتبة بن ربيعة .. وشيبة بن ربيعة .. وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء) (¬1). تأثر النبي -صلى الله عليه وسلم - بهذا الشوق والحنين .. وأخذته الشفقة بأصحابه وبالمدينة التي تسكن قلبه عندما سمع شكوى حبيبته عائشة التي تقول: (ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - ما سمعت منهم وقلت: إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى فقال -صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة (¬2) " (¬3). وفي ليلة من تلك الليالي المحمومة كان -صلى الله عليه وسلم - في فراشه وعيناه نائمتان .. في تلك الليلة رأى شيئًا مخيفًا ومفرحًا في منامه .. فبشر به أصحابه وبشر به المدينة وقال: (رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة .. فأولتها: أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة وهي الجحفة" (¬4) .. وارتحل الوباء .. وارتحلت الحمى عن أبي بكر وبلال وعن عامر بن فهيرة ليعودوا حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مع المهاجرين والأنصار ويكحل عينيه بهم .. لكن تلك المجالس الطيبة تفتقد إلى أحد عظماء الأنصار .. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - لا يعيش في أبراج بعيدًا عن أصحابه .. إنه منهم وبينهم يصافحهم ويبتسم في وجوههم .. يمشي في أسواقهم .. ويأكل من طعامهم .. ويزورهم في منازلهم .. ويسأل عن ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (سيرة ابن كثير 2/ 315). (¬2) الجحفة. (¬3) جزء من حديث ابن إسحاق السابق وهو حسن. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (2/ 568).

غائبهم .. ويتفقد أحوالهم. يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (كان نبي الله -صلى الله عليه وسلم - إذا جلس يجلس إليه نفر من الصحابة وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحبه؟ " فقال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه، فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه، فحزن عليه، ففقده النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما لي لا أرى فلانًا" .. فقالوا: يا رسول الله .. بنيه الذي رأيته هلك. فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن بنيه، فأخبره بأنه هلك، فعزاه عليه ثم قال -صلى الله عليه وسلم -: "يا فلان أيما كان أحب إليك: أن تمتع به عمرك .. أو لا تأتي غدًا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ " قال: يا نبي الله .. بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي، لهو أحب إلي. قال -صلى الله عليه وسلم -: "فذاك لك". فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله جعلني الله فداءك أله خاصة أو لكلنا؟ قال -صلى الله عليه وسلم -: "بل لكلكم") (¬1). هذه القصة الحزينة الجميلة .. ما أجل الحب والبراءة فيها. ما أجمل الطفولة في مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم - .. وما أجمل هذا النبي وهو يسأل الرجل عن حبه .. وما أجمله وهو يحرضه على البوح بشيء من أعماقه .. وهو يعزيه .. وهو يعده بعينين بريئتين تتلهفان له عند باب الجنة .. هذه البشرى من عند الله ليست للرجال وحدهم .. وهذه العناية منه - صلى الله عليه وسلم - ليست للرجال فقط .. يحدثنا صحابي آخر فيقول: (كان -صلى الله عليه وسلم - يتعهد الأنصار، ويعودهم، ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعًا شديدًا، فأتاها النبي -صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه، ¬

_ (¬1) حديث صحيح. صححه الإِمام الألباني في أحكام الجنائز (162) وقد رواه النسائي وأحمدُ والحاكم.

شجرة غريبة

فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله يريد أن يدخل: يعزيها، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: "أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك فأمرها بتقوى الله وبالصبر"، فقالت: يا رسول الله .. ما لي لا أجزع وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "الرقوب: الذي يبقى ولدها"، ثم قال: "ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة"، فقال عمر وهو عن يمين النبي -صلى الله عليه وسلم -: بأبي أنت وأمى .. واثنن؟ قال -صلى الله عليه وسلم -: "واثنين") (¬1). إذًا فالنبي -صلى الله عليه وسلم - (كان يتعهد الأنصار، ويعودهم ويسأل عنهم) (¬2). كان يتفقدهم رجالًا ونساءً .. أغنياء وفقراء .. كان يفرح معهم .. ويواسيهم في مصائبهم وأحزانهم .. كان يخفف عنهم بعض أعباء الحياة وهمومها .. ها هو يتهيأ للخروج .. سوف يعود مريضًا .. وهذه المرة لم يكن المريض رجلًا عاديًا إنه أحد أبطال الأنصار وزعمائهم .. لقد سمع -صلى الله عليه وسلم - بأن سعد بن عبادة يلازم فراشه فتحركت مشاعره نحو أخيه وحبيبه وتحركت دابته نحو هذا الأنصاري الكريم .. دعونا نمشى خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فسوف يصادف في طريقه. شجرةً غريبةً رآها - صلى الله عليه وسلم - في المدينة .. نبتة مشوهة تظهر لأول مرة .. أثارها غبار دابة ¬

_ (¬1) سنده حسن على شرط مسلم كما قال الإِمام الألباني في الجنائز (164) وقد عزاه للحاكم والبزار تبعًا للهيثمى. (¬2) سنده حسن على شرط مسلم كما قال الإِمام الألباني في الجنائز (164) وقد عزاه للحاكم والبزار تبعًا للهيثمى.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتجهة تحمل حبًا نحو سعد بن عبادة .. أثارها ذلك الغبار فاهتزت وتطايرت أشواكها فجرحت مشاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ما هذه الشجرة .. وهل وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت سعد بن عبادة .. ؟ لا أحد يستطيع وصف ما حدث مثل الطفل أسامة بن زيد حبيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يركب خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق تلك الدابة .. ها هو أسامة .. يحدثنا فيقول: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب حمارًا عليه إكاف (¬1) على قطيفة فدكية (¬2) .. وأردف أسامة بن زيد وراءه .. يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر .. حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا بالمجلس أخلاط من المسلمين .. ومن المشركين عبدة الأوثان .. واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة .. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة (¬3)، حمَّر (¬4) ابن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ .. وقرأ عليهم القرآن .. فقال عبد الله بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا .. فلا تؤذنا به في مجالسنا .. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه .. ¬

_ (¬1) سرج الحمار. (¬2) نسبة إلى فدك وهي بلدة قريبة من المدينة المنورة. (¬3) غبارها. (¬4) غطى.

فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله .. فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك .. واستب المسلمون والمشركون .. واليهود .. حتى كادوا يتثاورون (¬1) .. فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا .. ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دابته حتى دخل على سعد بن عبادة .. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي .. ؟ " قال: كذا- وكذا .. قال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح .. فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك .. ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة (¬2) على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة (¬3)، فلما رد الله بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت .. فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وكان وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمره الله عَزَّ وَجَلَّ ويصبرون على الأذى، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬4). وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬5). ¬

_ (¬1) يتواثبون للقتال. (¬2) أي القرية أي المدينة المنورة. (¬3) أي يجعلوه زعيمًا للأوس والخزرج. (¬4) سورة آل عمران: الآية 186. (¬5) سورة البقرة.

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتأول في العفو ما أمره الله عَزَّ وَجَلَّ به ..) (¬1). لأنه ظل وارف للجميع .. حتى لهؤلاء المشركين واليهود .. ولولا ذلك لما تجرأ أحد منهم حتى على الهمس .. وفي هذا الظل المتاح للجميع تحول ابن أُبي إلى كهفٍ للأصنام والمشركين وكهفٍ لليهود .. لقد تحول إلى كهفٍ لمشروعٍ يحاك في الظلام لتقويض هذه الدولة الجديدة .. عبد الله بن أبي لم يتأذَ من غبار الدابة .. ولم يخمر أنفه من أجل سلامة رئتيه .. فهو ليس غريبًا على الغبار .. والغبار ليس بغريب عليه .. لكنه خمر عقله وقلبه عن الحقيقة .. هو يضيق براكب الدابة وبكل ما يفعله ويقوله .. إنه يقرأ هزيمته في كل سعادة أدخلها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على كل بيت .. إنه يرى نكسته في فرح الرجال والنساء وابتسامات الأطفال وهم يلتصقون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لا أدري ما هو مصير المدينة لو توج عبد الله بن أبي بن سلول .. وإلى أي قاع سوف يرسو بها .. إن زعامة عبد الله بن أبي ليست -في حالة نجاحها- سوى تأجيل لوقت انفجار قنبلة موقوتة فالجاهلية هي الجاهلية .. والثأر لا يطفئه سوى الثأر ما دامت الأصنام رابضة في البيوت والأندية .. عبد الله بن أُبي بن سلول المشرك ضاق بهؤلاء الأضياف المهاجرين .. وطار صوابه لهذا الكرم الأنصاري .. لقد فقد صداقاته وزعامته .. فقومه يحبونهم أكثر مما يحبونه .. إنهم يلتقون في ذلك المسجد خمس مرات في اليوم .. كيف ذلك .. أليس من سبيل إلى استعادة أحد منهم .. أو شيءٍ منهم .. أليس من سبيل إلى إعادة هؤلاء المهاجرين وطردهم مع نبيهم من ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (4566).

ماذا يحدث في دار أنس

المدينة ... أليس من سبيل إلى تشريدهم خلف جبال المدينة .. ؟ المدينة تقول: لا يا ابن أبي بن سلول .. ليس هناك من سبيل .. فلقد تغيّر أصحابك .. غيّرهم نبي الله .. وغيّر نفوسهم .. وغيّر بلدتك وغيّر اسمها .. وإن لم تكن تحتمل هذا التغير وهذا الحب الذي تكرهه فاذهب إلى دار أنس بن مالك لتنظر ماذا يفعل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .. وماذا يفعل معه المهاجرون والأنصار .. اذهب إلى دار أنس بن مالك فهناك أمرٌ خطير لا أظنك سوف تحتمله. ماذا يحدث في دار أنس نبي الله - صلى الله عليه وسلم - الآن في دار أنس .. والمهاجرون والأنصار من حوله يتطلعون إليه .. ينتظرون كلماته والحماس يقفز في جوانحهم .. يتطلعون إلى هديةٍ للجميع .. ها هو أنس بن مالك بين المهاجرين والأنصار .. سألناه: ما الذي يحدث في داركم يا أنس؟ أخبرنا .. أجاب أنس إجابة كالعيد فقال: (حالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا) (¬1) يا الله .. ما أروعه من خبر .. هنيئًا للدنيا .. هنيئًا لك يا أنس .. وهنيئًا لداركم .. ها هم الصحابة يخرجون من الدار .. وقد صاروا أخوة .. فوق أخوة الإِسلام .. فالمسلم أخو المسلم .. لكن ميزة الأخوة في دار أنس أنها لم تحدث من قبل .. ولن تحدث من بعد .. إنها غيمة وحي .. أمطرتهم حبًا ثم ارتحل ولم تمطر أحدًا سواهم .. ها هي الغيمة بين شفتي أحد الصحابة وهو يحدثنا عنها فيقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري وأحمدُ واللفظ لأحمد (3/ 111).

(كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم) (¬1) لقد آخى - صلى الله عليه وسلم - بين صحابته .. فماهت الأرواح بالأرواح .. ها هو أبو عبيدة يمسك بيد أخيه .. نسأل أنسًا مرة أخرى فيجيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد (آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة) (¬2). ونسأل أنسًا رضي الله عنه: من هذا الذي يلح ويلح على عبد الرحمن ابن عوف فيقول رضي الله عنه: (إن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة، فآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري .. فقال له سعد: أي أخي .. أنا أكثر أهل المدينة مالًا .. فانظر شطر مالي فخذه .. وتحتي امرأتان .. فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك .. دلوني على السوق .. فدلوه .. فذهب .. فاشترى وباع فربح .. فجاء بشيء من أقط وسمن. ثم لبث ما شاء الله أن يلبث .. فجاء وعليه ودع زعفران .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مهيم؟ " فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة .. قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أصدقتها؟ " قال: وزن نواة من ذهب .. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْلِمْ ولو شاة". قال عبد الرحمن: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب ذهبًا وفضة) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (4580). (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم (مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه). (¬3) سنده صحيح. رواه الإِمام أحمد (سيرة ابن كثير 2/ 327) حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت وحميد عن أنس، عفان بن مسلم ثقة ثبت من رجال الشيخين (التقريب =

إن أخوة النسب تركض وتركض .. وتلهث وتتعب فلا تستطيع الإمساك بما أمسكت به أخوة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع .. لقد حولت دار أنسٍ سعد بن الربيع ربيعًا يتقلب فيه عبد الرحمن بن عوف .. ربيعًا أنصاريًا .. يتنقل فيه عبد الرحمن ويسافر فلا يجد له حدودًا .. يبحث عن أطرافه فلا يرى سوى الربيع أينما حل .. أينما اتجه .. وعندما يحاصره هذا الكرم يتوجه بقلب المتيم المأخوذ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتكى من هذا الحب .. ومن هذا الكرم .. يتوجه هو والمهاجرون .. ويقول هو و (المهاجرون: يا رسول الله: يا رسول الله .. ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل .. ولا أحسن بذلًا من كثير .. لقد كفونا المؤونة .. وأشركونا في المهنأ .. حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله .. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا .. ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" (¬1). يحق للمهاجرين أن يشتكوا ... ويحق لهم أن يحتاروا فلقد تساءلت الدنيا: من لهؤلاء الهاربن الهائمن .. المشردين .. من {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬2). ¬

_ = 2/ 25) وحماد وشيخاه أئمة ثقات معروفون. وهو عند البخاري دون قول عبد الرحمن في آخر الحديث (5072). (¬1) سنده ثلاثى صحيح. رواه الإِمام أحمد (ابن كثير 2/ 328) حدثنا يزيد أخبرنا حميد عن أنس، يزيد بن هارون بن زاذان ثقة متقن عابد من رجال الشيخين (التقريب 2/ 372) وشيخه حميد ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة سمع من أنس بن مالك. التقريب (1/ 202). (¬2) سورة الحشر: الآية 8.

فأجابت طيبة .. وأجابت الأنصار .. وتسابقت الأيدي إلى أحبابها المهاجرين .. وأشرعت الأبواب .. لم يكن هناك ازدحام من المهاجرين على أبواب إخوانهم الأنصار .. لكن كان هناك ازدحام بين القلوب الأنصارية على أحبابهم المهاجرين .. كانت الأنصار أمواجًا من الرحمة تغمر إخوانهم المهاجرين وتنعشهم بعد طول مسير وطول حرمان وعذاب .. حتى لقد (اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين) (¬1) .. أي حب هذا .. كانت أيدي الطواغيت تتخطفهم بالسياط واللكمات .. وهذه هي الأيدي المتوضئة تمسح آثار السياط وتمسح الدموع والجراح وتحمل هؤلاء الغرباء إلى حيث الرحب والسعة .. الفقراء من الأنصار كانوا أسرع من الأغنياء ينافسونهم ويطلبون القرعة أيضًا .. فالحب والكرم ليس حكرًا على أحد .. فالصدور أفسح من المنازل .. والكلمات ألذ من أطايب الطعام .. والشهادة تنزل من فوق سبع سماوات .. شرفًا للأنصار يفخرون وأبناؤهم بحمله .. الشهادة لهم لم تأت من بيت شعر مدفوع الثمن .. أو خطبة من فصيح يبتغى بها قربى .. الشهادة جاءت من أكرم الأكرمين .. من خالق الكرماء ومعطي الأغنياء .. آيات تتلى إلى يوم القيامة {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا (¬2) الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3) .. المرء يُمدح إذا كان كريما .. ويُمدح أكثر إذا كان يقدم للآخرين كل ما عنده .. لكن أن يكون محتاجًا أشد الحاجة فيقدم للآخرين حاجته الملحة فذلك كرم ¬

(¬1) حديث صحيح. رواه البخاري وهذا جزء منه. ومعنى اقترعت أي قاموا بإجراء القرعة لشدة تنافسهم في إكرام المهاجرين وإسكانهم. (¬2) سكنوا. (¬3) سورة الحشر: الآية 9.

انتزعه الأنصار .. وهذا أحدهم .. يشهد له الله .. يشهد له سراجه .. وهذه امرأة أنصارية سخية يشهد لها الله .. ويشهد لها سراجها .. في ليلة جاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها وجاعت عائشة وجاعت سودة .. ولم يكن في تلك الحجرات الكريمة سوى قطرات من الماء تعكس لمعان النجوم وكرم الأنصار مع ذلك القادم من بعيد .. تلك الليلة تقول لنا: (إن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى نسائه .. فقلن: ما معنا إلا الماء .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يضم .. أو يضيف هذا؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا .. فانطلق به إلى امرأته .. فقال: أكرمي ضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني .. فقال: هيئى طعامك، وأصبحى (¬1) سراجك، ونوِّمى صبيانك إذا أرادوا عشاءً .. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها .. فأطفأته .. فجعلا يُريانه أنهما يأكلان، فباتا طاوين .. فلما أصبحا غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: ضحك الله الليلة .. أو عجيب (¬2) من فعالكما: فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3)) (¬4). ضحك الله وعجب من بيت من بيوت الأنصار ليس فيه سوى طعام الصغار .. ليس فيه سوى الإيمان والكرم .. أي شيء حزته أيها الأنصاري ¬

_ (¬1) أي أوقدى مصباحك وأشعليه. (¬2) ضحك الله وعجب ضحكًا وعجبًا يليق بجلال الله وعظمته ليس كضحك المخلوق ولا كعجب المخلوق وليس كمثله شيء ... نؤمن به ونسلم كما جاء من عند الله ورسوله وصدق الله ورسوله ... فالله ليس كمخلوقاته وصفاته ليست كصفات مخلوقاته. (¬3) سورة الحشر: الآية 9. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري.

أنت وزوجتك الكريمة .. أي شيء فعلتماه بأخيكما المسكين .. أي كرم كان هناك عندما ردد الأنصار يا رسول الله .. (اقسم بيننا وبينهم النخل) (¬1) .. عرق السنن .. وحصاد العمر والجهد يبذله الأنصار كالماء البارد كالبسمة العذبة لإخوانهم المهاجرين .. من يلوم الدنيا في حب الأنصار .. من يلوم المهاجرين في حب الأنصار .. من يلومه - صلى الله عليه وسلم - عندما يعلن حبه للأنصار على الطرقات .. على النساء .. وعلى أطفال كالزهور (جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ومعها صبي لها، فكلمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي ... والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي") (¬2). يا طيبة .. يا عاشقة الأنبياء والمرسلن .. يا حاضنة الوحي والمهاجرين .. يا أرض الأناشيد والنخيل .. حاصرت القادمين بحبك حتى استسلموا فأعلنوه متفجرًا من أعماقهم .. ها هو - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم جميل كان فيه جالسًا على دروب أطفال الأنصار فلم يصبر .. قام معلنًا حبه .. حبًا رآه أنس ورواه فقال: (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والصبيان مقبلين -حسبت أنه قال من عرس (¬3) - فقام النبي ممثلًا (¬4) فقال: "اللَّهم أنتم من أحب الناس إلي .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3786). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3785). (¬3) الذي قال: حسبت ليس أنس ولكنه أحد الرواة عنه. (¬4) أي مكلفًا نفسه ... وجاء في رواية (ممتنًا).

اللَّهم أنتم من أحب الناس إلي .. اللَّهم أنتم من أحب الناس إلي" (¬1). إن بهجة النساء والأطفال والسامعين بما قاله - صلى الله عليه وسلم - تفوق بهجتهم بذلك العرس وأفراحه .. وإنهم والله ليستحقون هذا الحب، فالذي فعلوه لم يفعله أحد قبلهم .. ولم يفعله أحد بعدهم .. لقد تمادى حب الأنصار وتجاوز الكرم .. لقد تمادوا إلى حد (اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين) (¬2) .. تألق الأنصار فأوقفوا شمس التاريخ ونقشوا عليها .. ثم تركوها تنطلق للأجيال .. أوقفوا شمس التاريخ عندما توجهوا إليه - صلى الله عليه وسلم - بقلوب كالسحاب فأمطروه بقولهم: (اقسم بيننا وبينهم النخل) (¬3) لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بالانتهازي .. ولا يحب لصحابته أن يكونوا كذلك .. كان - صلى الله عليه وسلم - يربي الأمة ويلهم الأجيال .. كان يريد أمة حية تنبض بالحركة والمسير إلى لا حدود .. أدرك الأنصار ذلك فـ (قالوا: يكفوننا المئونة ويشركوننا في الثمر .. قالوا: سمعنا وأطعنا) (¬4). وبدأ المهاجرون بالعمل .. وهوت سواعدهم كالحديد تشق الأرض .. تحرثها وتقطف .. وبدأ المهاجرون والأنصار صفًا واحدًا .. صفًا يشكل ملامح الدولة الجديدة .. دولة تنهض نحو السماء بعد أن تشعبت جذورها في القلوب وفي المدينة .. الجميع يبتهجون بذلك .. الجميع إلا قلوبًا يحرقها ما يحدث حولها فهي حانقة دائمًا .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري لكن الذي في البخاري: ثلاث مرار. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3929) بلفظ: قرعت. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (774). (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري (774).

السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (قراءة جديدة) محمَّد الصويانى الجزء الثاني مكتبة العبيكان

مكتبة العبيكان، 1424هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الصوياني محمَّد السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة./ محمَّد الصوياني - الرياض، 1424 هـ 248 ص، 16.5 × 24 سم ردمك: 0 - 375 - 40 - 9960 (مجموعة) 7 - 377 - 40 - 9960 (ج2) 1 - السرة النبرية 2 - الحديث -مباحث عامة أ. العنوان ديوى 239 2878/ 1424 ردمك: 0 - 375 - 40 - 9960 (مجموعة) رقم الإيداع: 2878/ 1424 7 - 377 - 40 - 9960 (ج2) الطبعة الأولى الخاصة بمكتبة العبيكان 1424 هـ/2004 م حقوق الطباعة والنشر محفوظة للناشر الناشر مكتبة العبيكان الرياض -العليا- تقاطع طريق الملك فهد مع شارع العروبة ص. ب: 62807 الرمز: 11595 هاتف:4654424 فاكس:4650179

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

اليهود

اليهود يحرقهم ما يحدث حولهم .. ويموتون كل يومٍ بغيظهم .. إنهم يشرَقون بهذا النبي وبمن معه .. مع أنه كان يتقرّب إليهم .. كان يحب هدايتهم فهم كغيرهم يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم إلى الحق .. بل كان - صلى الله عليه وسلم - يشعرهم بأنهم أقرب من غيرهم إلى الإسلام -ومع أن القرب لا يكفي أبداً- فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يشعرهم بذلك و (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء) (¬1) فـ (كان أهل الكتاب يسدلون شعورهم .. وكان المشركون يفرقون رؤوسهم .. فسدل النبي - صلى الله عليه وسلم - ناصيته) (¬2) لكن اليهود لا يريدون استيعاب أي شيء من محمد - صلى الله عليه وسلم - .. إنهم يفضلون البقاء في معسكر الشيطان .. ولن يغادروه إلا إذا أرسل الله نبيًا يهوديًا يجدد أوراق هذه التوراة الممزقة .. وكان لليهود تعاليم سلمت من التمزيق أقرها الإسلام ولم ينكرها من هذه البقايا: صيام عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر محرم: ما هي قصة صيام يوم عاشوراء (يوم عاشوراء كان يصام في الجاهلية) (¬3) و (أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء) (¬4) ومنهم (قريش .. تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (1263). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (1263). (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم، الصيام، صيام عاشوراء (120). (¬4) حديث صحيح. رواه مسلم، الصيام (123).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه .. فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصيامه) (¬1) .. وذات يوم (ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء فقال رسول الله: "كان يومًا يصومه أهل الجاهلية فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه .. ومن كره فليدع") (¬2) .. ويقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده) (¬3). وليس أهل الجاهلية فقط هم من يحتفي بذلك اليوم (إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى) (¬4) .. وكان أهل خيبر أكثر احتفاءً من غيرهم فـ (هم يصومون يوم عاشوراء .. يتخذونه عيدًا ويلبسون .. نساءهم فيه حليهم وشارتهم) (¬5) .. لكن ما علاقة ذلك كله باليهود وهل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقلدًا لأهل الجاهلية وأهل الكتاب .. ؟ دونما تردد الإجابة: لا .. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - جاء وحيًا .. لا ينطق عن الهوى ولا يملك أن يشرع من عند نفسه .. وإذا كان سياق الحدث فيه موافقة للجاهلية ولليهود فهؤلاء القوم كالغريق بين الأمواج .. مرةً يتنفس هواءً كالحياة ومرةً .. يتنفس ماءً .. أما الثالثة فيتنفس فيها موتًا .. ومحمَّد - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس هواءً نقيًا .. ويتفوه وحيًا وعطرًا .. استغرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيام اليهود لذلك اليوم فكانت هذه القصة التي سجلت كم كان - صلى الله عليه وسلم - ودودًا .. كم كان محبًا لاخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (395) ومسلمٌ واللفظ له، الصيام (118). (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم، الصيام (124). (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم، الصيام (130). (¬4) حديث صحيح. رواه مسلم، الصيام (139). (¬5) حديث صحيح. رواه مسلم، الصيام (136).

يهودي ينتقد المسلمين

وكم كان محبًا لبني اليهود موسى عليه الصلاة والسلام .. فلقد (قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء .. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ " فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه) (¬1) لأن الله أمر بصيامه .. لا لأن يهودًا صاموه .. فالمسألة هنا مختلفة .. وليست كالحالة الأولى -حالة فرق الشعر وتسريحه- فالصوم عبادة .. وأي عبادة كانت فهي محرمة في الإِسلام إلا إذا جاء دليل من كلام الله أو كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بها أو يحث عليها .. وهكذا يبقي الإِسلام العبادة جديدةً صافيةً تستقى من النبع لا من ترسبات التاريخ والأهواء والفلسفات .. وهذا ما أغاظ اليهود وجعلهم من ثقوب حصونهم يترقبون .. ويتطلعون إلى أي خطأ قد يحدث منه -صلى الله عليه وسلم- أو من أحد الصحابة .. وها هو أحدهم يجد ما يريد: يهودي ينتقد المسلمين فقد سمع هذا الرجل بعض الصحابة يقولون: ما شاء الله وشئت وبعضهم يقول إذا حلف: والكعبة. فرح اليهودي بما سمع فأطلق قدميه ولسانه تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منتقدًا ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (الصوم 134).

هذا النوع من الشرك و (أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنكم تنددون (¬1) وإنكم تشركون .. تقولون: ما شاء الله وشئت .. وتقولون: والكعبة) (¬2). سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الكلمات من اليهودي .. وتأثر بها .. لكنه لم ينفجر في وجهه .. لم يقل له: من أنت حتى تعلمنا ديننا. لم يقل له: لماذا لا تنصحون أنفسكم أيها اليهود وأنتم تقولون (عزير ابن الله) لم يقل: أنت لست من أهل العلم حتى نستمع إليك .. لم يقل هذا شأن داخلي فيما بيننا ولا نقبل النقد سوى من جماعتنا الذين هم على ديننا .. لم يتفوه -صلى الله عليه وسلم- بشيء من ذلك .. بل ضرب لأتباعه المثل الأعلى في قبول الحق وأن الحق يقبل من أي شخص كان .. استمع -صلى الله عليه وسلم- لهذا النقد اللاذع وقبله ثم توجه نحو أصحابه مصححًا ذلك الانحراف الخطير و (أمرهم النبى -صلى الله عليه وسلم- إذا أردوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة) (¬3). وكررها -صلى الله عليه وسلم- قائلًا لهم: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" (¬4) مهما كان فلان هذا .. وقال أيضًا: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت" (¬5) .. "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم .. ولا بالأنداد .. ولا تحلفوا إلا بالله .. ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون" (¬6) ¬

_ (¬1) تجعلون لله ندًا ومثيلًا وشبيهًا. (¬2) حديث صحيح. (صحيح النسائى 3533 للإمام الألباني). (¬3) حديث صحيح. (صحيح النسائى 3533 للإمام الألبانى). (¬4) حديث صحيح. (صحيح الجامع الصغير للإمام الألباني). (¬5) حديث صحيح. (صحيح الجامع الصغير). (¬6) حديث صحيح. (المصدر السابق).

كيف ينادي إلى الصلاة

وبيّن خطورة ذلك فقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (¬1) وامتثل المسلمون فذهبوا بالأجر .. وذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصحابة والأجر ينسابون كالنور .. كالنهر .. يغسلون تلك الزوايا التي تخثرت فيها بقايا الشرك .. وذهب ذلك اليهودي بغيظه يجره ويجر قدميه الثقيلتين ورأسه المتحجر .. فلقد انتفع المسلمون بالحق ولم ينتفع هو بشىء .. بل أضاف إلى رصيد اليهود عنادًا آخر .. أضاف مساحة بينهم وبن المسلمين .. لقد اتضح ذلك البعد وبانت تلك المفارقة عندما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهمومًا يفكر ويفكر .. ويبحث عن وسيلة ينبه بها المسلمين إلى دخول وقت الصلاة فـ: كيف ينادي إلى الصلاة لقد (اهتم النبي -صلى الله عليه وسلم- للصلاة، كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة .. فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذُكر له: القنع -يعني الشَّبُّور- شبور (¬2) اليهود .. فلم يعجبه ذلك وقال: هو من أمر اليهود. فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر النصارى) (¬3) لم ينزل وحي بهذا الشأن .. والحيرة تملأ الجميع .. اجتهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- اجتهاد البشر (ثم أمر ¬

_ (¬1) حديث صحيح. (المصدر السابق). (¬2) الشبور: هو البوق الذي ينفح فيه. (¬3) حديث صحيح. انظر صحيح أبى داود للإمام الألباني (98) ...

رجل من حلم وأذان من وحي

بالناقوس فنحت ليضرب للمسلمين) (¬1) في وقت الصلاة .. أمر- صلى الله عليه وسلم- بذلك وهو كاره له .. عرف ذلك في وجهه أحد الأنصار الذين حضروا ذلك الحوار واسمه: عبد الله بن زيد بن عبد ربه (فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهمِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم) (¬2) .. وكان بين حرات المدينة من يحمل الحل .. إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. لكنه بالتأكيد لم يكن حاضرًا ذلك النقاش لذلك لم يقل ما عنده ولم يقص على أحد ما رآه في منامه .. انصرف الجميع .. وخيم الليل على المدينة .. وانتثرت نجومه فوق نخيلها .. نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونام الجميع .. ونام عبد الله بن زيد .. وبينما هو منسرب في أعماق النوم وجد في تلك الأعماق رجلًا يطوف به: رجلٌ من حلم وأذان من وحي يقول عبد الله: (لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة .. طاف بي وأنا نائم رجلٌ يحمل ناقوسًا في يده .. فقلت: يا عبد الله .. أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به .. ؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة .. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى. قال: تقول: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ¬

_ (¬1) حدثنا صحيح. رواه ابن إسحاق .. وهو من الطريق الصحيحة التي عند أبى داود ... وابن إسحاق لم يدلس. (¬2) حديث صحيح. انظر صحيح أبي داود للإمام الألباني (98) ...

أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله .. أشهد أن محمدًا رسول الله حى على الصلاة ... حى على الصلاة حى على الفلاح ... حى على الفلاح الله أكبر .. الله أكبر لا إله إلا الله ثم استأخر عني غير بعيد .. ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر .. الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن محمدًا رسول الله حى على الصلاة .. حى على الفلاح قد قامت الصلاة .. قد قامت الصلاة الله أكبر .. الله أكبر لا إله إلا الله .. فلما أصبحت أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. فأخبرته بما رأيت فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله .. فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن .. فإنه أندى صوتًا منك") (¬1) ولأن عذوبة الصوت تزيد القرآن والأذان ¬

_ (¬1) حديث صحيح. انظر صحيح أبى داود للإمام الألباني (98/ 99).

جاذبية وجمالًا لذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "زينوا القرآن بأصواتكم" (¬1) .. "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" (¬2) ولعذوبة صوت بلال فقد جعل الأذان من نصيبه رضي الله عنه. وها هو صوت بلال الذي ملأ شوارع مكة: .. أحدٌ .. أحدٌ .. ها هو عذبًا كأنهار الحبشة .. حرًا كطيورها .. ينساب في سماء المدينة يوقظ فجرها .. يوقظ شمسها وينادي المهاجرين والأنصار .. ويسحرهم بصوته: يقول عبد الله بن زيد: (فقمت مع بلال .. فجعلت ألقيه عليه .. ويؤذن به .. فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته .. فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله .. لقد رأيت مثل ما رأى .. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فلله الحمد") (¬3) .. لا بد أن ابن الخطاب رضي الله عنه لم يحضر تلك الآراء والاقتراحات وإلا لتكلم بما رآه .. فقد (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا .. ثم أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ما منعك أن تخبرني .. فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت) (¬4). إذًا لا بوق .. لا راية .. لا أجراس كأجراس النصارى .. لكنه التوحيد .. حمله طيفٌ جميل (عليه ثوبان أخضران) (¬5). ¬

_ (¬1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير للإمام الألباني. (¬2) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير للإمام الألباني. (¬3) هذا الحديث بقية حديث أبي داود (99). (¬4) حديث صحيح. صحيح سنن أبي داود (98). (¬5) جزء من حديث ابن إسحاق السابق.

فرحة لامرأة من الأنصار

فرحة جديدة للمؤمنين ... وتميز جديد .. فرحة لعبد الله بن زيد .. فرحة لعمر .. وصوت بلال يتدفق منعشًا في شوارع المدينة وسمائها .. لم يكن هناك مئذنة للمسجد ولا منارة ولكن كانت هناك: فرحة لامرأة من الأنصار وشرف تتغنى به .. وتنافس به تلك الأنصارية التي بنت المنبر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. امرأة من بني النجار جعلت من بيتها نبعًا للنداء الجديد .. جعلت من كل بيتها موضعًا لقدمي بلال وصوته .. تقول تلك المرأة الكريمة: (كان بيتي من أطول بيت حول المسجد .. فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة .. فيأتي بسَحَر .. فيجلس على البيت ينتظر الفجر .. فإذا رآه تمطى (¬1) .. ثم قال: اللَّهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك .. ثم يؤذن .. والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة .. يعني هذه الكلمات) (¬2). وتصحو المدينة .. المدينة كلها على ذلك الصوت الندي وتنتعش وتتوضأ .. المدينة كلها .. إلا بيوتًا ترتج مفزوعة الجدران والقلوب .. شاخصة الأعين .. فصوت بلال رصاص يخترق بيوت يهود .. وجدران ¬

_ (¬1) أي تمطى الفجر وامتد نوره في الأفق. (¬2) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (ابن كثير 2/ 338) ومن طريقه أبو داود (519): حدثني محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار: وابن إسحاق لم يدلس وشيخه ثقة (التقريب 2/ 150) وعروة غنى عن التعريف ... والمرأة صحابية من الأنصار رضي الله عنها.

المدينة حريقا ومذابح

عبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ... أما قريش فقد أدركت أن اليهود وأصحابهم من المشركين قد تورموا حقدًا وترقبًا .. وقد حان تفجير ذلك الورم في وجه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ووجوه أصحابه .. لقد حان تحويل حرات المدينة إلى أودية من الدماء والثارات والحروب التي لا تنتهى .. وجاءت شرارة تلك الحروب كالسهم من صدور قريش .. جاءت تلك الشرارة لتجعل من: المدينة حريقًا ومذابح كانت تلك الشرارة حروفًا مشتعلةً .. رسالةً تتقد تهديدًا ووعيدًا .. رسالةً تبشر بالمقابر .. (إن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج -ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر-: إنكم آويتم صاحبنا .. وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلكم ونستبيح نساءكم .. فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي (¬1) ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال النبى -صلى الله عليه وسلم- .. فلما بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لقيهم .. فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ .. ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم .. تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟!! فلما سمعوا ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- تفرقوا) (¬2) وتفرق الشر وهدأت الأنفاس .. وسكنت الأنفس المشحونة بالشر .. وسلمت المدينة من معركة ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن أبي بن سلول وهو ما يزال على شركه مجاهرًا معاندًا ... (¬2) صححه الإمام الألباني في صحيح أبي داود لكن اقرأ التعقيب على هذا التصحيح في بقية الحديث عند الكلام على: غزو بني النضير.

فماذا توقع أبو بكر؟

كادت تطحن أهلها وجدرانها .. كلماتٌ بسيطة وهادئة أعادت السيوف إلى أغمادها .. أعادت العقول إلى رشدها .. وخذلت قريشًا .. وخذلت اليهود المتربصين خلف شقوق الأبواب .. وتم الحفاظ على كيان الدولة الإِسلامية الوليدة من حركة عسكرية كادت تعصف بأحلامها وشبابها .. فالمدينة بحاجة إلى تلك الأحلام وإلى ذلك الشباب .. إلى ذلك النبي العظيم الحكيم -صلى الله عليه وسلم- .. ولم تكن يومًا من الأيام عطشى إلى تلك الدماء التي أدمنت سفحها أياد تمسحت بالجاهلية والأصنام .. ولن تسفك قريش مهما حاولت أكثر مما سيسفكه أهل المدينة بأيدي بعضهم البعض .. الأوس يدركون ذلك جيدًا .. والخزرج يدركون ذلك ويذكرونه .. وخطوات قليلة إلى مقابر ضحايا (بُعاث) تذكرهم متى ما تسلل النسيان إليهم .. إذًا فقد هدأت الأنفس بعد يوم مشحون .. نامت المدينة كطفل على تلك العبارات الحانية كصدر أم حنون .. وأشرقت الشمس من جديد .. تحمل تعليمات جادةً وأعينًا أكثر اتساعًا على المستقبل والآفاق .. فالمدينة .. المدينة وأهلها في خطر .. وتوقعات أبي بكر الصديق ورؤيته الثاقبة بدأت تتشكل على أرض الواقع. فماذا توقع أبو بكر؟ منذ أكثر من عام .. عندما أخرج من مكة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم المرير .. وقريش ثائرة الأنفاس مغبرة الأقدام والجياد تبحث عن محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه .. (لما أخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. ليهلكن .. فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .. قال أبو بكر

حراسة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

رضي الله عنه: فعرفت أنه سيكون قتال) (¬1) صدق أبو بكر .. فتلك الرسالة شرارة .. والمدينة في خطر والهشيم يحيط بها من كل ناحية وفي قلوب المشركين واليهود يتكوم هشيم أخطر .. ولا بد من الاحتراز والاحتياط .. لا بد من السلاح في جو مكفهر بالسلاح والشرك .. فهب الصحابة رضوان الله عليهم: حراسة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات ليلة كانت عائشة إلى جانبه -صلى الله عليه وسلم- وكان السهر إلى جانبهما أيضًا .. قلقت عائشة رضي الله عنها، فماذا حدث؟ تقول رضي الله عنها: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه .. فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليت رجلًا صالحًا من أصحابى يحرسني الليلة". فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح .. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من هذا .. " فقال: أنا سعد بن مالك .. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما جاء بك .. " قال: جئت لأحرسك يا رسول الله .. قالت -عائشة- فسمعت غطيط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نومه) (¬2) .. بعد أن تطوع سعد بن أبي وقاص لحراسته -صلى الله عليه وسلم. لم يكن الخطر سهمًا واحدًا نحو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل كان أسهمًا ورماحًا منطلقة نحو كل مؤمن .. نحو كل أنصاري ومهاجر .. ولا بد أن ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه الطبرانى في تفسيره (9/ 160) من طرق عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ومسلم البطين هو ابن عمران وهو ثقة من رجال الشيخين وشيخه إمام من أئمة التابعين ومجاهديهم ... وهو على شرط الشيخين وصححه الألباني في صحيح الترمذيُّ (3/ 79). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ وأحمدُ واللفظ لأحمد (6/ 141).

السلاح صباحا .. السلاح مساء

يكون الحذر دائمًا .. وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة لأتباعه لذلك صار: السلاح صباحًا .. السلاح مساءً يقول أبي بن كعب: (لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة .. وآوتهم الأنصار .. رمتهم العرب عن قوس واحدة .. وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح .. ولا يصبحون إلا فيه .. فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عَزَّ وَجَلَّ؟) (¬1). سؤال يرتعش خوفًا من هذه الجموع التي اتجهت بخيلها ورجلها ورماحها وأوثانها نحو مدينة التوحيد الوحيدة .. سؤال مُثقل بحمل السلاح والخوف .. ونزلت الإجابة وحيًا .. قرآنًا وبشرى .. نزل الوحي يحمل الأرض ... كل الأرض .. والدنيا .. كل الدنيا مشرعة الأبواب لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يقول أبي ابن كعب: (فنزلت: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ¬

_ (¬1) سنده حسن. رواه الطبراني في الأوسط (مجمع البحرين 6/ 58) والبيهقيُّ في الدلائل (3/ 6) واللفظ له: ... أحمد بن سعيد الدارمي، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبى، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: وأبو العالية تابعي ثقة (التقريب 1/ 252) وتلميذه حسن الحديث إذا لم يخالف (التقريب 1/ 243) والحسين ثقة من رجال مسلم (التقريب 1/ 180) وابنه حسن الحديث (السابق 2/ 35) وأحمدُ بن سعيد ثقة حافظ (التقريب 1/ 15).

نشاط عسكري

ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}) (¬1). آيات تتنزل بالأعياد والفتوح والبشرى .. أخذها الصحابة واستبشروا بها .. أخذوها كما يأخذون سلاحهم ليل نهار .. فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمهم أن هناك فداءً .. وأن هناك تضحيةً وهدفًا .. والهدف لا يأتي لمترددٍ أو جبان أو خائف .. خاصةً في مثل هذه الظروف .. فالمحنة تطل كالوحش فوق رؤوس الجبال على حصن الإِسلام الجديد .. لا بد من التحرك .. لا بد من عمل شيء يحمي المدينة ويعيد المظالم إلى أهلها .. ويزيح هذا الركام الهائل من الأصنام عن عقول وقلوب البشرية وأجيالها .. ولن يكون ذلك بالصلاة والدعاء والمعجزات وحدها .. لا بد من: نشاط عسكري فلن يمكِّن الله عباده من كل أرضه ما لم يقوموا بتحويلها ومن عليها إلى حركة تلهج بـ لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. محمَّد رسول الله وخاتم النبيين .. حتى تتسق وتتناغم مع حركة الكون كله والوجود كله المسبح بحمد ربه ليل نهار .. حمل الصحابة تلك البشرى وحملوا شروطها فحولت ضعفهم قوةً .. وخوفهم أمنًا .. ها هو سعد بن معاذ يتجه إلى مكة الطاهرة .. كالتحدي يتفجر بين أصنام قريش وسيوفها .. ثقةً يتحدى .. وثقةً يهدد .. فيتحول صناديد قريش حوله إلى خراف ترتجف خوفًا وتتصبب عرقًا: (انطلق سعد بن معاذ معتمرًا .. فنزل على أمية بن خلف -أبي ¬

_ (¬1) المصدر السابق.

صفوان- وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد .. فقال أمية لسعد: ألا انتظر، حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت .. فبينا سعد يطوف إذا أبو جهل .. فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ .. فقال سعد: أنا سعد .. فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة وقد آويتم محمدًا وأصحابه؟ فقال: نعم .. فتلاحيا بينهما .. فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم .. فإنه سيد أهل الوادي .. ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام (¬1) .. فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك -وجعل يمسكه- فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمَّد -صلى الله عليه وسلم- يزعم أنه قاتلك .. قال: إياي؟ قال: نعم .. قال والله ما يكذب محمَّد إذا حدث ..) (¬2) لكن ماذا فعل بعد أن بشره سعد بالقتل .. يحدثنا سعد صاحب البشرى فيقول إنه قد (قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا وقد آويتم الصبأة (¬3) وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم .. أما والله لولا أنك مع أبي صفوان (¬4) ما رجعت إلى أهلك سالمًا .. فقال له سعد -ورفع صوته عليه- أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه: طريقك على المدينة .. فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم -سيد أهل الوادي .. فقال ¬

_ (¬1) طريق تجارة قريش إلى الشام وهو يمر بالمدينة أو قربها. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3632). (¬3) يقصد المهاجرين الذين تركوا دين آبائهم وأجدادهم. (¬4) أبو صفوان هو أمية بن خلف.

غزوة العشيرة

سعد: دعنا عنك يا أمية .. فوالله لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنهم قاتلوك .. " قال: بمكة؟ قال: لا أدري .. ففزع لذلك أمية فزعًا شديدًا .. فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان .. ألم تري ما قاله لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ .. قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنهم قاتلي .. فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري .. فقال أمية والله لا أخرج من مكة) (¬1). لقد شلت كلمات سعد الواثقة بالله وبرسوله -صلى الله عليه وسلم- .. شلت هذا الطاغية فأمسى لا يرى سوى الموت يتربص له من منافذ مكة .. لقد جعل خوفه الأرض .. كل الأرض قبرًا يحاصره ويحاصر مكة معه .. أما سعد بن معاذ فعاد إلى حبيبه -صلى الله عليه وسلم- وهو أكثر قوة ويقينًا .. عاد ليجد المدينة غير المدينة .. عاد لينقل ما رآه وما سمعه من خوف يملأ طغاة مكة عندما هددهم بقطع طرق قوافلهم إلى الشام وهي شرايينهم وأوردتهم .. أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان أسبق من سعد إلى هذا التفكير .. لقد قرر -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل للمدينة قوتها إلتى تُشعر الآخرين بمنعتها .. وتشعر قريشًا خاصة .. أن هذا الدين الجديد صار خطرًا يهدد شركها وقوافلها .. بل وسلطتها ومكانتها بين العرب .. وبدأ -صلى الله عليه وسلم- رحلته إلى الأرض كلها .. بدأ بـ غزوة العُشَيرة ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3950) (ص 812).

غزوة الأبواء

وهى أول غزوة بدأها -صلى الله عليه وسلم- وقادها (¬1) .. وليس لدينا تفاصيل صحيحة عن أحداثها .. وبما أن العُشيرة قرب ينبع فهي على طريق قوافل قريش .. إذن فهي أول تهديد عملي لقريش وقوافلها .. كما غزا -صلى الله عليه وسلم: غزوة الأبواء ليس لدينا تفاصيل صحيحة الإسناد عنها .. ولكن وقوع المعركة ثابت في مكان يقال له الأبواء .. ذلك المكان الذي وقفت فيه المطايا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو طفل صغير .. وقفت فيه المطايا تودع أمه التي فقدها هناك وغابت عن عينيه وعن الدنيا حيث دفنت هناك .. ذلك المكان الذي أبكاه -صلى الله عليه وسلم- .. كان موعدًا لغزوة لا نعرف أحداثها الصحيحة بعد .. لكن المكان يقع في الطريق إلى مكة .. مما يعني تهديدًا آخر لقريش .. وخبرة جديدة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في الكشف عن طبيعة الأرض والأعداء المحيطين بدولة الإِسلام الجديدة .. كان تلميحًا لمن تسول له نفسه غزو المدينة والغدر بأهلها .. أزعجت تلك التحركات قريشًا .. لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعد لهم مفاجأة .. سرية بقيادة صحابي عظيم هو أبو عبيدة والذي حاز لقبًا عظيمًا فيما بعد هو: أمين الأمة .. فما ¬

_ (¬1) ورد أن الأبواء هي أول غزوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن هذا غير صحيح فالرواية في ذلك ضعيفة رواها كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ... وكثير هذا ضعيف. وهناك رواية أخرى عن عروة وقد وصلها ابن عائذ لكنها من طريق ابن لهيعة .. وليس فيها أن الأبواء أول غزوة بل إن سعدًا، أول من رمى سهمًا في سبيل الله .. وهذا صحيح ولكنه ليس دليلًا على أن الأبواء أول الغزوات ... لأن العشيرة -عند المؤرخين- لم يحدث فيها قتال ولم يرم بها بالسهام .. أما كون سعد أول من رمى بسهم فقد جاء على لسانه هو ولم يذكر رضى الله عنه متى كان ذلك ... والرواية عند الشيخين وستمر معنا قريبًا عند الحديث عن سرية عبد الله بن جحش.

سرية نخلة

قصة تلك السرية: سرية نخلة (بعث -صلى الله عليه وسلم- رهطًا .. فبعث عليهم أبا عبيدة .. فلما أخذ لينطلق .. بكى صبابة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. فبعث رجلًا مكانه يقال له: عبد الله ابن جحش) (¬1) حرارة الشوق أبكت أبا عبيدة .. وحبه لملازمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشفق عليه ويبقيه جواره .. ليبعث بطلًا آخر .. (بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن جحش في رجب .. [مقفلة من بدر الأولى] وبعث معه بثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد .. وكتب له كتابًا .. وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدًا .. وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين .. من بنى عبد شمس: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة .. ومن بني أمية بن عبد شمس ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب -وهو أمير القوم-[وعكاشة بن محصن بن حرثان أحد بني أسد بن خزيمة]. ¬

_ (¬1) سنده قوي .. رواه الطبراني (2/ 174) وابن أبي حاتم (ابن كثير 2/ 370): حدثنا محمَّد بن أبى بكر المقدمى حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه، حدثني الحضرمى عن أبي السوار عن جندب بن عبد الله وأبو السوار العدوي تابعي ثقة من رجال الشيخين واسمه حسان بن حريث (التقريب 2/ 432). وتلميذه الحضرمي لا بأس به (التقريب 1/ 185) أما معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي ووالده فثقتان وهما من رجال الشيخين (التقريب 1/ 326 , 2/ 263) وشيخ أبى حاتم محمَّد بن أبي بكر المقدمى ثقة من رجال الشيخين (التقريب 2/ 148).

ومن بني نوفل بن عبد مناف: عتبة بن غزوان -حليف لهم-. ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص. ومن نبي عدي بن كعب: عامر بن ربيعة -حليف لهم- وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة .. [وخالد ابن البكير - أحد بني سعد بن ليث .. حليف لهم]. ومن بني الحارث بن فهر: سهل بن بيضاء. فلما سار عبد الله بن جحش يومين .. فتح الكتاب ونظر فيه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف .. فترصَّد بها قريشًا وتعلَّم لنا من أخبارهم .. فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب: قال سمعًا وطاعة .. ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر .. وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم .. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع .. فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. (فرجع رجلان ومضى بقيتهم) (¬1). فمضى ومضى معه أصحابه فلم يتخلف عنه منهم أحد .. وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بُحران .. أضل سعد ابن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه .. فتخلفا عليه في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة .. فمرت به عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارةً من تجارة قريش فيها منهم: ¬

_ (¬1) هذه العبارة ليست في السياق بل هي جزء من الحديث الصحيح السابق. وفي السياق سبب رجوع هذين الصحابيين ... وهو أنهما فقدا بعيرهما.

عمرو بن الحضرمي .. عثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان. والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم .. فأشرف لهم عكاشة بن محصن -وقد كان حلق رأسه- فلما رأوه أمنوه وقالوا: عُمّار .. فلا بأس علينا منهم .. وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من جمادى .. فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم .. ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام .. فتردد القوم فهابوا الإقدام عليهم .. ثم شجعوا عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم .. فرمى واقد بن عبد الله التميمى عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان .. [وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم] .. وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة .. [وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما غنمتم الخمس وذلك قبل أن يفرض الخمس من الغنائم .. فعزل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمس العير .. وقسم سائرها على أصحابه] .. فلما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ["ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام" .. فوقف العير والأسيرين .. وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا .. فلما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك سُقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا .. وعنفهم المسلمون فيما صنعوا وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به .. وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال] .. وقالت قريش: قد استحل محمَّد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا

فيه الدم وأخذوا فيه الأموال .. وأسروا فيه الرجال .. فقال من يرد عليهم من المسلمين ممّن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى .. [وقالت يهود تتفاءل بذلك على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله .. عمرو عمرت الحرب .. والحضرمى حضرت الحرب .. واقد بن عبد الله وقدت الحرب .. فجعل الله عليهم ذلك وبهم] فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}. فلما نزل القرآن بهذا الأمر .. وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العير والأسيرين) (¬1). وكان عمار بن ياسر رضى الله عنه ضمن تلك السرية يحدثنا عن ذلك ابن مسعود وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم فيقولون في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم: عبد الله بن جحش ¬

_ (¬1) حديث صحيح عدا ما بين المعقوفين .. رواه الطبرى تفسير (2/ 360) واللفظ له والبيهقيُّ في الدلائل (3/ 17 - 18) عن عروة مرسلًا وهو صحيح إلى عروة لكن لم يذكر شيخه من الصحابة ... والحديث له شاهد عند الطبراني (2/ 174) وابن أبي حاتم (سيرة ابن كثير 2/ 370) من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه: حدثنى الحضرمي عن أبي السوار عن جندب بن عبد الله: عن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه بعث رهطًا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح ... كما رواه الطبري في التفسير (2/ 362) وأبهم الحضرمى فقال: إنه حدثه رجل عن أبي السوار وقال الهيثمى في المجمع (6/ 198) رجاله ثقات ... وله شواهد كثيرة عند الطبرى (2/ 363) عن ابن عباس ... وأبي مالك الغفاري .. وعن الزهري وعثمان الجزري ومقسم مولى ابن عباس ... أما ما بين معقوفين مثل تصرف ابن جحش في الغنائم وقول يهود فهو مرسل ... والحديث يشهد له ما بعده.

وفيهم: عمار بن ياسر .. وأبو حذيفة بن عتبة .. وسعد بن أبي وقاص .. وعتبة بن غزوان .. وسهل بن بيضاء .. وعامر بن فهيرة .. وواقد بن عبد الله اليربوعى حليف لعمر بن الخطاب .. وكتب لابن جحش كتابًا وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن ملل .. فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة .. فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... فسار وتخلف عنه سعد وعتبة أضلا راحلة لهما فأقاما يطلبانها، وسار هو وأصحابه حتى نزل بطن نخلة .. فإذا هو بالحكم بن كيسان والمغيرة بن عثمان وعبد الله بن المغيرة .. فذكر قتل واقد لعمرو بن الحضرمي .. ورجعوا بالغنيمة والأسيرين .. فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون .. وقال المشركون: إن محمدًا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب .. وقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى) (¬1). وسواء قتل ذلك المشرك في جمادى أو في رجب أو في رمضان فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بذلك .. إنما هي حماسة المهاجرين المقهورين المطرودين من ديارهم وأموالهم ولا ذنب لهم سوى أن يقولوا لا إله إلا الله .. لم يتمالكوا أنفسهم -وهم بشر- عندما رأوا أموالهم التي غصبتها ¬

_ (¬1) سنده قوي. رواه السدي في تفسيره (ابن كثير 2/ 370) عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا ضعيف من أجل أبى صالح وهو (باذام) لكن السدى رواه من طريق أصح عن مرة عن ابن مسعود جماعة من الصحابة، ومُرَّة بن شراحيل الهمداني تابعى كبير ثقة. وهو صحيح بما قبله.

قريش واغتصبتها تسيل أمامهم تجارةً تنمو بين أيدي المشركين وهم الحفاة الذين تشققت أقدامهم من العوز والفقر .. وأضناهم الجوع والتعب .. إنك تبحث بين هؤلاء الرفقة .. تسألهم أين سعد بن أبي وقاص .. أين عتبة بن غزوان ألم ينطلقا معكم من المدينة .. ؟ فتأتيك الإجابة حسرةً .. لقد إنطلق سعد وعتبة وسارا مع السرية .. لكن على جملٍ واحد جاءا .. يركب أحدهما وينزل الآخر .. ويركب الآخر فترة ليمشي صاحبه .. أما الآن فلا جمل لهما لقد ند وهرب وهما يركضان على أقدامهما المتشققة خلفه .. يذرعان بطون الأودية والشعاب ولا أحد غير الله يعلم ما سيحدث لهما .. ما هو موقف الإنسان .. أي إنسان حافي القدمين يبحث عن جمل ثم يرى جماله المسلوبة منه تتقاطر بالمال بينما تتقاطر قدماه بالدماء .. ما هو موقف من يرى حقه من اللباس والطعام والشراب .. يتجه نحو من؟ نحو خشبةٍ ملقاةٍ على ظهرِ الكعبة .. أو نحو كاهن من سدنة تلك الأصنام .. لا يعرف لله قدرًا ولا للتوحيد منزلةً .. ما هو شعور سعد المشرد الفقير الذي يصف الأجواء التي عاشها في مثل تلك المهمات الصعبة فيقول: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله .. وكنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا ورق الشّجر .. حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط) (¬1). إن رجلًا لا يجد سوى ورق الشجر لمعذور أن ينهب ما يسد به رمقه ويدفع به الموت عنه .. فكيف إذا كانت تلك الأموال أمواله وأموال أصحابه .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3728).

فما هو هذا الخبر

وبعد هذا كله يتنزل العذر من فوق سبع سماوات انتصارًا من الله لعباده .. وتبرئة لساحتهم البيضاء من دنس أهل الشرك .. الذين ارتكبوا الفظائع والشنائع بحق الله أولًا ثم بحق رسوله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام .. عاد الصحابة نصرًا وبراءةً .. عادوا ليجدوا في المدينة خبرًا .. ليجدوا في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرحًا .. وفي وجوه يهود كدرًا وظلمةً .. لقد فقدت يهود شيئًا عظيمًا .. وانقطع آخر الحبال التي كانت ترى أنه قد يربطها بنبي الإِسلام -صلى الله عليه وسلم- .. اليهودُ حداد .. اليهود سواد بعد أن طرق ذلك الخبر أبواب حصونهم المنيعة وآذانهم المسدودة. فما هو هذا الخبر هذا الخبر هدية قادمة من السماء .. كان في الماضي شوقًا وأمنية تتردد في صدره -صلى الله عليه وسلم- مذ كان في مكة .. مذ كان يخر ساجدًا لله في بيته المحرم .. متجهًا بقلبه نحو الله .. مستقبلًا الشام .. حيث المسجد الأقصى .. لكنه كان يقوم بحركة تعبر عن ذلك الحلم الذي لا يستطيع الإفضاء به .. كان -صلى الله عليه وسلم- يجعل الكعبة أمام وجهه بحيث تكون بينه وبين المسجد الأقصى .. لكن ماذا عنه الآن .. إنه ما زال ينفذ أمر ربه .. فيستقبل المسجد الأقصى .. أما الكعبة .. أما حبيبته الحزينة .. التي نشأ بالقرب منها .. وأحبها ووضع حجرها .. فالجاهلية بينهما .. حبيبته بعيدة .. لا يستطيع رؤيتها .. ولا الحديث إليها .. ولا تحسس لباسها .. ولا حتى استقبالها .. إنها هناك أسيرة .. وهو ها هنا مشتاق .. يتقلب وجهه في السماء .. ويطوف طرفه في أرجائها (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ

قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ}) (¬1). إذًا فالقبلة تحولت من بيت المقدس إلى البيت الحرام بمكة المكرمة لكن متى كان ذلك .. وما علاقة اليهود بالقبلة واتجاه المسلمين في صلاتهم .. وماذا حدث عند سماع الخبر. أما متى فخبر ذلك عند البراء بن عازب رضى الله عنه: يخبرنا البراء عن ذلك فيقول: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا .. وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت .. وأنه صلى أول صلاة صلاها: صلاة العصر .. وصلى معه قوم فخرج رجل ممّن كان صلى معه -صلى الله عليه وسلم- فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل مكة .. فداروا كما هم قبل البيت) (¬2) الحرام .. نفذوا .. امتثلوا دون تردد .. فالأمر وحي والتساؤل فيما بعد .. لكن إذا كان هناك تساؤل فهل هو اعتراض أو احتجاج كاحتجاج يهود .. المؤمنون أرقى من ذلك .. إن لهم قلوبًا رقيقة ومشاعر طيبة .. كان تساؤلهم ذلك رحمة وإشفاقًا على إخوانٍ لهم ماتوا ولم يصلوا تجاه المسجد الحرام. البراء ينقل تلك المشاعر لنا فيقول: (فقال رجال من المسلمين وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (تفسير ابن كثير، سورة البقرة 143): حدثنى. إسماعيل ابن أبى خالد، عن أبى إسحاق، عن البراء .... وشيخ ابن إسحاق وشيخ شيخه تابعيان ثقتان ثبتان. انظر التقريب (1/ 68) (2/ 73). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (40).

نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس) (¬1). بل إن البراء رضى الله عنه كان أحد المتسائلين .. هو نفسه يقول: (وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالًا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم .. فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}) (¬2) وهو أرحم من أن يخذل من قصده وأناخ رحله وقلبه ببابه .. ولعل تلك التساؤلات بدأت بُعيد الصلاة .. وبدت المدينة مشغولة بهذا الحدث الكبير ... فتأخر وصول الخبر إلى أهل قباء ومسجد قباء .. فـ (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها .. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) (¬3). كما استدار أصحابهم في المدينة .. كما امتثل إخوانهم هناك خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم. أما اليهود فقد استدارت قلوبهم عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعن قبلته الجديدة .. وتطايرت من حصونهم وألسنتهم ألفاظ الاستهجان والاحتجاج .. ها هم يجوبون شوارع المدينة - في سفاهة وسماجة يقولون: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها .. فأنزل الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}) (¬4) لله المشرق والمغرب ولا شيء ¬

_ (¬1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث ابن إسحاق السابق. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (40). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (403) ومسلمٌ من حديث ابن عمر (المساجد 13). (¬4) سنده صحيح. وهو جزء من حديث ابن إسحاق السابق.

لليهود .. الأمر وحي واليهود حاربوا الوحي وقتلوا حملة الوحي من الأنبياء .. فكيف لا يحاربون وحيًا نزل على غيرهم .. ونبيًا ليس من بينهم .. واكتملت الآيات وتلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتلاها أصحابه .. ومن بعدهم سيتلونها. سيتلونها هكذا: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ- (¬1) - مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ- (¬2) - الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ- (¬3) - لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا ¬

_ (¬1) أي اليهود. (¬2) أي باتجاه المسجد الحرام. (¬3) أي اليهود.

يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬1) .. إلى ما ضلت عنه اليهود وضل عنه النصارى .. كانت تلك الأحداث بعد منتصف شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة .. وبعد عودة سَريَّة عبد الله بن جحش .. حدثنا بذلك سعد بن أبي وقاص ربما بعد أن وجد بعيره .. يقول رضي الله عنه (صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ست عشر شهرًا .. ثم حول بعد ذلك قبل المسجد الحرام قبل بدر بشهرين) (¬2). إذًا فالنخل الذي كان في قبلة المسجد أصبح في مؤخرة المسجد وبما أن المسجد كان (مبنيًا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل) فيكون المسجد كله مسقوفًا .. وبناء جدار في قبلته السابقة -مؤخرته الآن- أو بناء جدار في أحد زواياه قد يفى بحاجةٍ ماسةٍ تحطم القلب وتدمع لها العين .. حاجة تطل من منافذ المدينة كل يوم .. كل يوم حيث يتهادى إلى المدينة مهاجر أو مهاجرون .. بعضهم ضاق بقومه .. والبعض ضاق به قومه وضيقوا عليه وسلبوا كل شئ لديه .. أو دفع كل شئ ثمنًا لهذا الهروب الحبيب .. دون مال يأتون .. البعض حفاة .. وبعضهم أشباه عراة .. وأحضان المدينة والأنصار تضمهم .. وهذه الدولة الصغيرة تستقبلهم ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآيات 142 - 150. (¬2) سنده صحيح. رواه البيهقي في الدلائل (2/ 573): ... حدثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، قال: سمعت سعد بن أبي وقاص .. وهذا السند صحيح، سعيد بن المسيب إمام التابعين ... وتلميذه تابعي ثقة من رجال الشيخين (التهذيب 11/ 221) أما ابن فضيل فاسمه: محمَّد بن فضيل بن غزوان وهو ثقة ثبت (التقريب 2/ 200) و (التهذيب 9/ 405) وسماع تلميذه للسيرة صحيح، وأبو العباس هو الإمام الثقة الثبت المعروف بالأصم.

أهل الصفة

وتحميهم .. لكن بيوت الأنصار قد امتلأت .. والهاربون والمطاردون قد كثروا .. نظر -صلى الله عليه وسلم- إليهم .. تأملهم .. تأمل أبيات الأنصار الممتلئة .. وتأمل فقره وفقرهم .. نظر-صلى الله عليه وسلم- إلى مسجده فجعله دار من ليس له دار .. ومأوى من ليس له مأوى .. فبنى ذلك الجدار داخل المسجد (¬1) .. فأصبح هناك حجرة (صفة) متواضعة .. تدافع القادمون إليها .. وعاش في تلك الصفة رجال يبيت معهم الفقر حيث باتوا .. يمسى بينهم ويصبح كظلهم .. يأكل ولا يأكلون .. ويشرب ولا يشربون .. عاشوا فيها أيامًا ليست كالأيام .. وميزهم الفقر بلقب كالفقر هو: أهل الصفة هم الذين فضلوا جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رغم العوز على أن يعيشوا عيشةً أيسر بجوار طاغية أو صنم .. يصفهم أحد الصحابة فيقول: (أهل الصفة أضياف الإِسلام .. لا يأوون على أهل ولا مال) (¬2) ويقول أحد الذين شاهدوهم: (كان أصحاب الصفة الفقراء) (¬3) لا يملكون شيئًا .. غرباء لا يعرفون أحدًا .. هذا هو أحد الفقراء .. أحد الذين عاشوا تلك المعاناة ودلفوا إلى تلك الصفة .. غريب اسمه طلحة بن عمرو رضى الله عنه يقول: (كان الرجل إذا قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان له بالمدينة عريف نزل ¬

_ (¬1) لا أعرف تحديدًا صحيحًا لموقع الصفة وإلا لذكرته وذكرت إسناده. (¬2) متفق عليه .. انظر البخاري (6452) وهو حديث طويل وما ذكرته جزء منه. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (440).

عليه، وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة .. وكنت فيمن نزل الصفة) (¬1) .. لكن ماذا عن شعور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو هؤلاء الضعفاء بعد أن بنى لهم تلك الصفة هل تخلى عنهم؟ .. يواصل طلحة حديثه فيقول: (وكنت فيمن نزل الصفة فوافقت رجلًا وكان يجري علينا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل يوم مد من تمر بين رجلين) (¬2) لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجد لهم أكثر من مدٍ للاثنين معًا .. نصف مدٍ يملأ الكف الواحدة هو طعام الرجل من أهل الصفة من الليل إلى الليل .. نصف مد للرجل الواحد يومه وليلته .. وقد يأكل الرجل منهم وقد يأكلون جميعًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجد ما يأكله، وقد لا يجدون ولا يجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يأكله .. يقول أحد الصحابة: (أهل الصفة أضياف الإِسلام لا يأوون على أهل ولا مال .. إذا أتته -صلى الله عليه وسلم- صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا .. وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها) (¬3). إذًا فنصف المد لم يكن متوفرًا يوميًا بل ربما مر يوم أو يومان والانتظار يحرق أهل الصفة .. ينظر بعضهم إلى بعض .. وينظرون إلى باب ¬

_ (¬1) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أحمد (3/ 287) وأبو نعيم (1/ 339) واللفظ له من طريق: داود بن أبى هند عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن طلحة بن عمرو ... وهذا الإسناد صحيح. داود ثقة متقن من رجال مسلم (التقريب 1/ 235) وشيخه تابعى ثقة قيل إن اسمه محجن أو عطاء (التقريب 2/ 410) وطلحة صحابى رضى الله عنه. (¬2) إسنادُهُ صحيحٌ. رواه أحمد (3/ 287) وأبو نعيم (1/ 339) واللفظ له من طريق: داود بن أبى هند عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن طلحة بن عمرو ... وهذا الإسناد صحيح. داود ثقة متقن من رجال مسلم (التقريب 1/ 235) وشيخه تابعى ثقة قيل إن اسمه محجن أو عطاء (التقريب 2/ 410) وطلحة صحابي رضي الله عنه. (¬3) متفق عليه قال أبو نعيم (1/ 339).

ماذا حدث يا فضالة

الصفة .. إلى باب المسجد .. إلى باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبحثون عن لقمة .. عن نصف لقمة عن أي شئ يسد جوعهم فلا يجدون سوى الجوع طعامًا وشرابًا .. ويخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بيته فتتعلق أعينهم به ويحدقون بيديه فيجدونها خالية كبطونهم .. فيدركون أنه ما من طعام .. يقول أحدهم: (والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) (¬1) مثل هذا كيف سيصلى وقد حان وقت الصلاة؟! ها هو -صلى الله عليه وسلم- يدخل المسجد فتقام الصلاة .. ويقوم أهل الصفة خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلاة وهم يترنحون من الهزال والجوع .. ويصطفون بين إخوانهم المصلين .. ويكبر -صلى الله عليه وسلم- فيكبرون .. وفي لحظات الخشوع الهادئة مع الله يسمع المصلون دويًا وارتطامًا بين الصفوف .. ويسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفه حركةً وأنينًا .. وتخفق القلوب القريبة من الحدث .. ويتألم الجميع بعد انقضاء الصلاة فماذا حدث .. هذا هو فضالة بن عبيد الأنصاري .. أحد الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. سألناه: ماذا حدث يا فضالة فيجيب فضالة وهو عالم من الشعور والألم فيقول: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم لما بهم من الخصاصية (¬2) وهم أصحاب الصفة حتى يقول الأعراب: إن هؤلاء مجانين .. فإذا قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاته انصرف إليهم فيقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (6452). (¬2) الجوع.

لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أنكم تزدادون حاجة وفاقة (¬1) .. قال فضالة: فأنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ) (¬2) حيث كان يواسيهم ويدفع عنهم ما يؤلمهم بشىء يهون معه الجوع .. وتحلو معه المعاناة .. يعزيهم بشيء يحول الموت وما بعده إلى أمنية وحلم لا حدود له .. ومع هذا العزاء .. ومع هذه المواساة كان -صلى الله عليه وسلم- يتألم لتألمهم .. ويتألم مثل ألمهم .. تقول حبيبته عائشة رضى الله عنها: (كان - صلى الله عليه وسلم- إذا دخل قال: هل عندكم طعام؟ فإذا قيل: لا .. قال: إني صائم) (¬3) لقد تحول الجوع إلى عبادة .. وتحول الشبع إلى عبادة .. قال -صلى الله عليه وسلم- مبشرًا إخوانه الموسرين: (الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر) (¬4) ويقول -صلى الله عليه وسلم- مندهشًا ومبشرًا: (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) (¬5) (عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاءً إلا كان خيرًا له) (¬6) .. يقول -صلى الله عليه وسلم- ذلك كله وهو يتمنى لو يدفع عنهم هذا الفقر وهذا الهزال لكنه لا يجد .. كانت تمر به لحظات لا يملك فيها سوى ¬

_ (¬1) الفقر والحاجة. (¬2) سنده صحيح. رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 17) من طريق حيوة وابن وهب: عن ابن هانئ أن أبا علي الجنبي حدثه أنه سمع فضالة بن عبيد وأبو هانئ اسمه حميد بن هانئ الخولاني وهو ثقة (التهذيب 3/ 51) وشيخه ثقة أيضًا واسمه: عمرو بن مالك الهمداني وهو أحد التابعين (التهذيب 8/ 95). (¬3) حديث صحيح. (صحيح الجامع الصغير 1/ 860). (¬4) حديث صحيح. (المصدر السابق 1/ 731). (¬5) حديث صحيح. (السابق 2/ 737). (¬6) حديث صحيح. (السابق 2/ 838).

المواساة .. يستمع إلى الشكوى تلو الشكوى في أجواء من الحرية والفاقة .. طلحة بن عمرو أحد أهل الصفة. يروي لنا حوارًا جرى بعد إحدى الصلوات بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أحد الفقراء .. يقول طلحة: (كان يجري علينا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل يوم مدٍ من تمر بين رجلين .. ، فسلم -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من الصلاة، فناداه رجلٌ منا فقال. يا رسول الله .. قد أحرق التمر بطوننا .. وتخرقت عنا الخنف .. ، فمال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى منبره فصعده .. ، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر ما لقي من قومه .. فقال: مكثت أنا وصاحبي بضعة عشر ليلة ما لنا طعام إلا البرير، فقدمنا على إخواننا من الأنصار وعظم طعامهم التمر، فواسونا فيه .. فوالله لو أجد لكم الخبز واللحم لأطعمتكم .. ولكن تدركون زمانًا -أو من أدركهم منكم- تلبسون فيه مثل أستار الكعبة، ويغدى (¬1) عليكم ويراح (¬2) بالجفان) (¬3) فرح أهل الصفة بهذا الوعد الصادق .. وتأثروا لما حدث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه من أذى ومعاناة حيث يمر معظم الشهر ليس عندهما ما يأكلانه سوى ثمر الأراك .. ما تعرض له أهل الصفة شديد .. ولكن ما تعرض له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه كان أقسى وأشد .. وينصرف أهل الصفة إلى صفتهم .. وقد طواهم الجوع والرضى .. والاحتساب وانتظار الفرج .. ولم يكن -صلى الله عليه وسلم- يواسيهم بالماضي أو بالمستقبل ¬

_ (¬1) يقدم لكم في الصباح. (¬2) يقدم لكم في المساء. (¬3) سنده صحيح. رواه أبو نعيم (1/ 374) من طريقين: عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب ابن أبى الأسود الدؤلي عن طلحة بن عمرو ورواه أحمد كذلك من الطريق نفسه وقد مر معنا تخريجه.

ملابسكم يا أهل الصفة

فقط .. بل كان إذا اشتدت حاجتهم يتحرك ويحرك المدينة كلها من حولهم .. يقول أحد أبناء أبي بكر الصديق: (إن أصحاب الصفة كانوا أناسًا فقراء، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث .. ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس" .. بسادس .. وأن أبا بكر جاء بثلاثة .. وانطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- بعشرة) (¬1). مأساة هم أهل الصفة وارتحال وقصص باكية .. تنصت لها الأجيال بإجلال .. هذا أحدهم: قرة بن إياس يقص لابنه ما جرى لهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان اسم ابنه معاوية .. معاوية ينصت لأبيه وهو يقول: (لقد عمرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما لنا طعام إلا الأسودان .. ثم هل تدري ما الأسودان؟ قال معاوية: قلت: لا .. قال: التمر والماء) (¬2) هذا هو الطعام وهذا هو الشراب فما هي: ملابسكم يا أهل الصفة لو شاهدتهم لبكيت .. ولاستحيوا منك وأنت تنظر إليهم .. وتنظر إلى تلك الأشياء التي ألقوها على أجسادهم .. يسمونها ملابس وما هي بملابس .. لو استمعت إليهم وهم يستغيثون: ¬

_ (¬1) متفق عليه قاله أبو نعيم ورواه في الحلية (1/ 338). (¬2) سنده صحيح. رواه أبو نعيم في الحلية من طريق روح بن عبادة ... ورواه جعفر بن سليمان، قالا: حدثنا بسطام بن مسلم عن معاوية بن مرة قال: قال أبى ... وروح وجعفر ثقتان ... وشيخهما بسطام بن مسلم العوذى ثقة من رجال التقريب (1/ 97) وشيخه هو التابعى الجليل، العالم الثقة معاوية بن قرة بن إياس المزني من رجال الشيخين (التقريب 2/ 261) انظر الحلية (2/ 22 - 33).

(يا رسول الله قد أحرق التمر بطوننا وتخرقت عنا الخنف) (¬1) الكتانية الغليظة الرديئة .. من يصدق أنه (كان من أهل الصفة سبعون رجلًا ليس لواحدٍ منهم رداء) (¬2) .. لقد كان ذلك .. رآهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورآهم أحد الصحابة وتحدث للجميع بما رآه فقال رضى الله عنه: (رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من هو أسفل من ذلك .. ، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته ..) (¬3) فهو لا يملك غيره ولا يملك ثمن سراويل أو ملابس داخلية تستر عورته .. وفي تفصيل آخر يقول: (رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته) (¬4). إن من يطلع على تلك المآسى التي تلوَّى منها أولئك الفقراء العظماء ليظن أن هؤلاء مجرد فقراء مساكن جاءوا يبحثون عن الطعام والشراب ¬

_ (¬1) مر معنا وهو صحيح. (¬2) سنده قوي. رواه أبو نعيم -الحلية- (1/ 339) حدثنا محمَّد بن محمَّد بن إسحاق حدثنا زكريا الساجى حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عمي عبد الله بن وهب، عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة ... وشيخ أبى نعيم هو أبو أحمد الحاكم إمام وحافظ عصره (طبقات الحفاظ 338) وشيخه ابن يحيى الساجى ثقة فقيه من رجال التقريب (1/ 262) وأحمدُ صدوق من رجال مسلم (التقريب 1/ 19) وعمه ثقة حافظ عابد (السابق 1/ 460) وابن غزوان ثقة من رجال الشيخين (المصدر السابق 2/ 113) والتهذيب (8/ 297) وأبو حازم هو الأشجعى واسمه سلمان وهو تابعى ثقة من رجال الشيخين (1/ 315). (¬3) رواه أبو نعيم (1/ 341) من طريق الإمام أحمد بسند قوي وانظر ما بعده فهو هو ... (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري (442).

والمأوى .. وهم -والله- ما قدموا من أجل لقمة أو رغيف .. ولم يتسللوا من أجل صُفة متواضعة إذا ضربها المطر ساعة أمطرت عليهم ساعات .. وابتلت ثيابهم وجنوبهم وظهورهم والأرض التي يتوسدونها .. إن هؤلاء العظماء .. فروا من العيش الرغيد وتركوا الأهل والأموال والعشيرة وربما الخدم .. تركوا الدنيا بكل زخارفها لأنها كانت تركن إلى صنم .. لأنها كانت تلوذ بغير الله .. واتجهوا بكليتهم .. بعواطفهم ومهجهم إلى الله سبحانه وتعالى .. وتسللوا والناس نيام إلى صفة لا تقي من البرد ولا من الجوع .. لكنها صفة تستدفئ بمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. يعمرها القرآن .. ويزينها الإيمان .. تمر بها عائشة رضي الله عنها ذات ليلة فتقف عندها مأسورةً مأخوذةً .. فتبطئ الخطا وتبطئ على زوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. ثم تعود .. وعندما تصل يسألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (أين كنت .. ؟ قلت: يا رسول الله سمعت قراءة رجل في المسجد ما سمعت مثله قط .. فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. وتبعته .. فقال لي: ما تدرين من هذا؟ .. قلت: لا .. قال: هذا سالم مولى أبي حذيفة .. ثم قال: الحمد لله الذي جعل في أمتى مثل هذا) (¬1). عبد فقير يفخر به -صلى الله عليه وسلم- .. ويشكر الله سبحانه أن وهب هذه الأمة مثله .. إن أمة تفخر بالموالي والعبيد كما تفخر بالأشراف لأمة عظيمة .. وإن دينًا يتساوى فيه البشر ليستحق الخلافة في الأرض .. كل الأرض .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن المبارك وأبو نعيم في الحلية (1/ 371) من طريق: حنظلة بن أبي سفيان عن عبد الرحمن بن سابط عن عائشة رضي الله عنها قالت: استبطأني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة، فلما جئت قال لي: أين كنت؟ هذا السند صحيح. حنظلة شيخ ابن المبارك وشيخ الوليد عند أبي نعيم ثقة حجة (التهذيب 3/ 60) والتقريب (1/ 206) وشيخه عبد الرحمن بن سابط تابعى ثقة (التقريب 1/ 480) والتهذيب (6/ 180).

ويستحق أن تنقطع الأعناق في الصحاري والقفار بحثًا عنه .. في يوم من الأيام يقرر أحد المؤمنين أن يترك أهله ودياره .. يقرر أن يلتحق بتلك الصفة المتواضعة خوفًا على دينه .. أيام تمر وليالي تمضي وهو يسير مع غلامه في طريق الهجرة .. وذات يوم وعندما خيَّم الليل .. يقرر ذلك الغلام الفرار والهرب من سيده فيفعل .. ويتركه وحيدًا مع الليل الخوف .. فيواصل سيده المسير دون تردد وتلك الليلة المشحونة بالهموم والوحدة والإرهاق تملأ صدره .. فيتنهد شعرًا ويقول: يا ليلة من طولها وعنائها ... على أنها من دارة الكفر نجَّت مسافر بلا رفيق .. وليل طويل .. وطريق غير آمنة .. كل ذلك يهون لأن كل ذلك يؤدي إلى المدينة .. سكن ذلك المسافر في الصفة وتخرج منها ليكون أعظم علماء الإِسلام في الحديث .. تخرج هو وغيره من تلك الصفة علماء لأنها لم تكن ملجأ فقط .. لقد تحولت إلى كتاب مفتوح منذ ذلك اليوم الذي خرج فيه -صلى الله عليه وسلم- على أهل الصفة وحدثهم .. عقبة بن عامر كان أحد الحاضرين سألناه ماذا قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يا عقبة فقال: (خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الصفة فقال: "أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم" .. فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك .. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا يغدو أحدكم إلى السجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع .. ومن أعدادهن من الإبل") (¬1) الإبل التي هي أنفس ما يملكه العربي .. حولها الإِسلام إلى أشياء رخيصة أمام أحرف العلم .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه الإمام مسلم، صلاة المسافرين.

وحدث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ذات يوم عن العلم والمال وأمرهم أن يحفظوا هذا الحديث فقال: "وأحدثكم حديثًا فاحفظوه .. إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: "عبدٍ رزقه الله مالًا وعلمًا .. فهو يتقى فيه ربه .. ويصل فيه رحمه .. ويعمل لله فيه حقًا .. فهذا بأفضل المنازل. وعبدٍ رزقه الله تعالى علمًا ولم يرزقه مالًا .. فهو صادق النية" .. يقول: "لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا يخبط في ماله بغير علم .. لا يتقى فيه ربه .. ولا يصل فيه رحمه .. ولا يعمل لله فيه حقًا .. فهذا بأخبث المنازل. .. وعبدٍ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان .. فهو بنيته .. فوزرهما سواء") (¬1) .. لذلك فقد انطلق أهل الصفة نحو العلم .. وانطلق أغنياء الصحابة نحو العلم ونحو أهل الصفة وغيرهم من الفقراء .. وانطلق الأنصار .. وتفجر كرمهم من جديد .. وفاح عبيرهم .. وتوهجت شمسهم نحو أهل الصفة والفقراء .. ها هم يقومون بأعمال أشبه بالمعجزات .. أشبه بالخيال .. لأنهم ينجزونها كلها في اليوم والليلة .. وفي كل يوم وليلة .. يحدثنا عنهم أنس بن مالك فيقول: إنهم رجال (من الأنصار يقال لهم "القراء" فيهم خالي "حرام" يقرأون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل ¬

_ (¬1) حديث صحيح. صححه الإمام الألباني في صحيح الجامع وصحيحي الترمذيُّ وابن ماجه.

الصفة وللفقراء) (¬1). ألم أقل إنه عمل أشبه بالمعجزات .. قبل شروق الشمس ينهضون .. يصلون .. ثم يستسقون لأهل المدينة .. يضعون لهم الماء في المسجد مسبلًا للعطشان وابن السبيل ولمن يمر أو يقيم في المسجد .. ثم يتوجهون كالحياة إلى خارج المدينة تهوي فؤوسهم وسواعدهم .. يحتطبون ويكدحون .. ثم يذهبون به إلى بيوتهم؟ لا .. بل إلى السوق حيث يمارسون البيع والشراء .. يبيعون الحطب ويشترون بثمنه طعامًا لأهل الصفة وللفقراء الآخرين .. هذا هو نهارهم سقاية .. وكدح .. بيع وشراء .. ثم صدقة طيبة يدخلون بها البسمة إلى قلوب إخوانهم المساكين .. فإذا جن الليل عليهم توجهوا إلى مدرسة الإِسلام ومنبع ثقافته .. إلى المسجد .. يقرأون القرآن .. ويتدارسون العلم ويصلون .. لا تدري أهم علماء .. أم عمال، أم عباد، أم تجار؟ ... إنهم الحياة إذا رسمها القرآن ونفثت فيها السنة .. إنهم العطاء بكل أبعاده وأعماقه وآفاقه .. إنهم الأنصار .. ولا تعرف الدنيا للأنصار مثيلًا .. أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد انطلق من جديد .. يكثف الشعور بالمساكين والفقراء. انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو الجميع بوحيٍ جميلٍ وجديد .. وحي يجعل من الإحساس بالفقر والفقراء عبادةً جديدةً .. الإِسلام من جديد يقدم للفقراء الهدايا والهبات والمشاعر .. فبعد أن مر شهر رجب من السنة الثانية .. وحل بعده شهر شعبان أصبح المؤمنون ينتظرون هذا الجديد الجميل الذي سيطل مع إطلالة هلال شهر رمضان القادم .. فرمضان هذه ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه الإمام مسلم، الإمارة.

صيام شهر رمضان

السنة يختلف عن أي رمضان مضى .. لقد أمر الله سبحانه بـ: صيام شهر رمضان وأنزل على نبيه -صلى الله عليه وسلم- آيات بينات يقول فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)} (¬1). إذًا فالصيام كان مفروضًا على الأنبياء السابقين .. كان مفروضًا على اليهود .. وكان مفروضًا على النصارى .. لكنهم حرفوا فيه كما حرفوا الكتب التي جاء بها أنبياؤهم .. وزادوا ونقصوا كما فعلوا في التوراة والإنجيل .. فصار لكل طائفة صيام .. وتشكل الصيام وتنوع حسب أمزجة الأحبار والرهبان .. أما الآن فقد جاء محمَّد -صلى الله عليه وسلم- .. وجاء رمضان .. وكتب الصيام من جديد .. فما هو هذا الصيام الذي ضيعه أهل الكتاب وأعاده الله طريًا بمحمد -صلى الله عليه وسلم؟. ما هو الصيام بدأ الصيام بـ: ترك الطعام والشراب والجماع من بعد صلاة العشاء إلى غروب الشمس .. فكان المسلم يأكل ويشرب من بعد الغروب إلى أن يصلى العشاء .. فإذا صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب. كما أن من نام في الليل ثم استيقظ في الليلة نفسها فلا يحل له أن يأكل أو يشرب شيئًا حتى غروب شمس الغد .. ¬

(¬1) سورة البقرة: الآيتان 183، 184.

أحكام جديدة في الصيام

هذا إذا كان المسلم سليم الجسم لا يشكو من أي مرضٍ .. وكان مقيمًا في بلدته غير مسافر .. فإن كان مريضًا أو مسافرًا فيجوز له أن يفطر لكن يجب عليه صيام الأيام التي أفطرها فيما بعد .. وقبل ذلك كله كان بإمكان أي مسلم سليمًا كان أو مريضًا .. مقيمًا كان أو مسافرًا .. كان بإمكان أي مسلم أن يفطر ولا يقضي أي يومٍ أفطره لكن بشرط .. هذا الشرط هو أن يقوم المفطر بتقديم وجبة تشبع مسكينًا واحدًا عن كل يوم أفطره .. لكن هذه الأحكام لم تدم .. لقد تغيرت ونسخت وجاءت بعدها: أحكام جديدة في الصيام وكان لهذه الأحكام الجديدة أسباب وقصص بعضها طريف وبعضها يتلوى من الجوع .. لكن الصيام لم يتغير .. ما زال هو: ترك الطعام والشراب وممارسة الزوجية .. فما هي هذه القصص: البراء بن عازب رضى الله عنه يقص علينا إحداها ويحدثنا عن أهل بيت صاموا وصام معهم بيتهم الذي كان خاليًا كبطون أهله .. ذلك البيت الذي لم يكن فيه ما يبل الريق أو يسد الجوع .. إنه باختصار صفة أخرى .. يقول البراء: (إن أحدهم كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئًا .. ولا يشرب ليلته ويومه من الغد حتى تغرب الشمس حتى نزلت: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ونزلت في أبي قيس بن عمرو، أتى أهله وهو صائم بعد المغرب فقال: هل من شئ؟ فقالت امرأته: ما عندنا شيء ولكن أخرج ألتمس لك

عشاء، فخرجت ووضع رأسه فنام، فرجعت إليه فوجدته نائمًا، وأيقظته فلم يطعم شيئًا وبات وأصبح صائمًا حتى انتصف النهار، فغشي عليه، وذلك قبل أن تنزل هذه الآية فأنزل الله فيه) (¬1) .. وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود .. فقط ولم ينزل الله كلمة: (من الفجر) بعد قوله تعالى: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} .. في بداية الأمر مما جعل بعض الصحابة يخطئ في معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود فكانت هذه القصة الطريفة التي رواها الصحابي سهل بن سعد رضى الله عنه فقال: (أنزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} .. ولم ينزل: (من الفجر)، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: (من الفجر) فعلموا أنما يعني الليل والنهار) (¬2). أما القصة الأخرى فهي تتحدث عن قِصر وقت الفطر وأنه مرهون بأداء صلاة العشاء .. يقول أحد الصحابة رضى الله عنهم وهو يتحدث عن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .. فكان الناس على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا العتمة (¬3) حرم عليهم الطعام والشراب والنساء, وصاموا إلى القابلة، فاختان رجل نفسه فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر، فأراد الله أن يجعل ذلك يسرًا لمن بقي ورخصة ومنفعة، فقال سبحانه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ ¬

_ (¬1) حديث صحيح. صححه الإمام الألباني في صحيح النسائي (2/ 467) وهو عند البخاري بلفظ آخر (1915). (¬2) حديث صحيح. رواه الإمام البخاري (4511). (¬3) العشاء.

ْأَنْفُسَكُمْ} .. وكان هذا مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر) (¬1) وجعل الأكل والشرب والجماع مباحًا حتى طلوع الفجر .. فيمتنع المسلم من الأكل والشرب و .. حتي يغيب قرص الشمس حيث قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" (¬2). أما عن الصوم الاختياري في أول الأمر فقد تغير وألغى كما قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .. كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل .. حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسختها) (¬3). فما هي الآية التي بعدها والتي نسختها وغيرت كل الأحكام السابقة التي مرت معنا؟. هذه الآية هي في قوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ¬

_ (¬1) حديث صحيح. صححه الإمام الألباني في صحيح سنن أبى داود (2/ 440). (¬2) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (1/ 127). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري وأبو داود واللفظ له (صحيح أبى داود 2/ 441).

الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} (¬1) .. هذا هو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن .. والذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان .. وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان .. وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان .. وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان .. وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) (¬2) .. شهر الكتب المنزلة التي ضاع بعضها .. وحرف بعضها .. ولم يبق منها سوى القرآن شاهدًا لها .. شَاهدًا على أممها .. التي ضيعتها وحرفتها .. ورغم الصوم .. رغم الجوع والعطش لم يتحول هذا الشهر إلى شهرٍ للخمول .. ولم تتحول المدينة فيه إلى جدران يغط تحتها الصائمون .. ويستندون كالكسل إليها وأعينهم إلى الشمس ينتظرون غروبها .. فالمدينة تعج بالحركة نهارًا .. وبالقيام والتهجد ليلًا .. بيوت المؤمنين في ليالي رمضان تشتعل بنور القرآن .. بالسجود والركوع والدموع .. في تلك الليالي كان هناك أنينًا صادرًا من إحدى الحجرات في بيت من بيوت المدينة .. أنين قادم من الحبشة .. قادم من المعاناة .. وما كادت تستقر به الأقدام بين حرات المدينة حتى كان موعده المحتوم مع المرض والآلام .. فلذة كبد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحشاشة جوفه هي تلك الأنين .. رقية بنت محمَّد -صلى الله عليه وسلم- أقعدها المرض وأسهر زوجها عثمان بن ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآيات 185 - 187. (¬2) حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 313).

رقية مريضة

عفان .. وآلمه .. رقية مريضة هاجرت من مكة .. خاضت البحر فألقاها في الحبشة .. وخاضته مرةً ثانية فتهادى بها حتى وضعها بين يدي والدها العطوف الحنون .. وما كادت تتنشق هواء الحرية والأمن حتى أطاح بها المرض فهي طريحة الفراش والوجع في ذلك الشهر الكريم .. رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزورها ويطمئن عليها ويوصى زوجها الحزين بملازمتها .. رقية بضعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. والأمة أمانة .. والرسالة أمانة .. هموم تتداعى إلى قلبه -صلى الله عليه وسلم- تتكتل أمام عينيه ولا بد لها من حلول .. رقية مريضة .. وأهل الصفة جائعون .. والمهاجرون قد سُلبوا أموالهم وبيوتهم لينجوا بأنفسهم وإيمانهم من سياط الشرك وأهله .. وهناك فرصة تلوح في الأفق لاسترجاع شيء مما سلبه الطواغيت منهم .. ترى هل يبقى -صلى الله عليه وسلم- قرب ابنته الحبيبة .. أم سيركب إلى تلك الفرصة .. هكذا كانت ليالي رمضان الأولى في المدينة .. لكن كيف كانت ليالي رمضان في مكة .. سندع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يقرر ولنتسلل إلى مكة لنرى: كيف كان ليل رمضان في مكة إذا كانت أنسام الليل تحمل أنين رقية ودموعها .. فإن أنسام مكة تحترق بزفرات نساء ورجال مستضعفين .. يمنعهم الضعف من البوح بتوحيدهم ودينهم وحبهم لنبيهم -صلى الله عليه وسلم .. أسرارهم كالجمر في صدورهم .. يرعبهم ليل مكة .. ويؤرقهم العيش بين الأصنام والشرك والمشركين الذي كان ليلهم خليطًا من الخمر والغطيط .. أنسام مكة تحترق بزفرات أخت رقية المريضة .. أختها الكبرى زينب

التي تتحرق شوقًا إلى أبيها .. إلى أخواتها الحبيبات .. فاطمة ورقية وأم كلثوم .. إنها لا تعلم شيئًا عنهم .. لا تدري هل ستلتقى بهم يومًا من الأيام أم لا .. ونبي الله -صلى الله عليه وسلم- يشتاق إليها ويحبها ويثني عليها ويتمنى قربها وقدومها .. إنها أكبر بناته وقد عانت وعانت الكثير في سبيل الله .. إنها ابنة نبي لكنها زوجة رجل لا يزال على شركه .. رجل صادق ووفي اسمه: أبو العاص بن الربيع وهو شغوف بها ويحبها .. لكن شركه يخنق ليلها وأنفاسها .. فتاة مستضعفة مبتلاة .. وهموم تزدحم في صدر والدها عليها وعلى أختها وعلى كل مستضعف ومستضعفة .. هذا هو ليل زينب الحزينة .. وهذا هو ليل مكة المخيف الذي كان يحمل الفزع إلى إحدى البيوت .. إلى إحدى النساء التي كانت غارقة في نومها حتى انتشلها الفزع وانتشلها فارس الأحلام .. فارس الأحلام أتاها .. لا ليحملها بين ذراعيه .. بل ليدك بيوت قومها .. فارس الأحلام هذا مخيف ومرعب .. يقفز في الهواء .. فوق الكعبة والجبال .. يحرك الصخور .. يصيح بأهلها .. صوته مخيف .. يتوعد بالموت والشظايا. تلك المرأة المفزوعة لم تكن بعيدة من زينب بنت نبي الله -صلى الله عليه وسلم .. إنها من أقرب الناس إليها ... وتعيش بالقرب منها .. امرأة من صلب قريش .. إنها ابنة عبد المطلب .. وعمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واسمها: عاتكة بنت عبد المطلب .. فهل يا ترى ستكون رؤياها كرؤيا والدها الذي غاص في الأعماق وحفر زمزم .. أم أن فارس القمم الذي رأته في منامها سيدمدم ما تبقى لقريشٍ من آبار تنضح بالشرك .. تلك الرؤيا حولت مكة إلى غبار وضجيج ونزاع وتشاتم .. سنخيم

رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب

على بيت عاتكة لننظر ما يحدث في منامها: رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب (كانت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساكنة مع أخيها العباس بن عبد المطلب .. فرأت رؤيا قبيل بدر ففزعت .. فأرسلت إلى أخيها عباس من ليلتها حين فزعت واستيقظت من نومها .. وقالت: رأيت رؤيا وقد خشيت منها على قومك الهلكة .. قال: وما رأيت؟ قالت: لن أحدثك حتى تعاهدني أن لا تذكرها .. فإنهم إن سمعوها آذونا فأسمعونا ما لا نحب .. فعاهدها عباس .. فقالت: رأيت راكبًا أقبل على راحلته من أعلى مكة يصيح بأعلى صوته: يا آل غدر .. ويا آل فجر .. اخرجوا [لمصارعكم] في ليلتين أو ثلاث .. ثم دخل المسجد على راحلته .. فصرخ في المسجد ثلاث صرخات ومال إليه من الرجال والنساء والصبيان .. وفزع الناس له أشد الفزع .. ثم أراه مَثُلَ على ظهر الكعبة على راحلته (¬1) .. فصاح ثلاث صرخات: يا آل غدر .. ويا آل فجر .. اخرجوا [لمصارعكم] في ليلتين أو ثلاث .. حتى أسمعَ من بين الأخشبن (¬2) من أهل مكة .. [ثم إن بعيره مَثُلَ به على رأس أبي قبيس (¬3) فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث] ثم عمد لصخرة عظيمة فنزعها من أصلها .. ثم أرسلها على أهل مكة .. ¬

_ (¬1) قفز بعيره الذي يركبه على ظهر الكعبة. (¬2) جبلان يحيطان بمكة. أي سمعه الناس الذين يسكنون بين هذين الجبلين. (¬3) اسم جبل. أي قفز به بعيره على رأس ذلك الجبل.

فأقبلت الصخرة لها دوي حتى إذا كانت عند أصل الجبل أرفضت (¬1) .. فلا أعلم بمكة بيتًا ولا دارًا إلا قد دخلها فلقة من تلك الصخرة .. فقد خشيت على قومك أن ينزل بهم شر .. ففزع منها عباس وخرج من عندها فلقي من آخر ليلته الوليد بن عتبة بن ربيعة -وكان خليلًا للعباس- فقص عليه رؤيا عاتكة وأمره أن لا يذكرها لأحد .. فذكرها الوليد لأبيه .. وذكرها عتبة لأخيه شيبة .. وارتفع حديثها حتى بلغ أبا جهل بن هشام واستفاضت .. فلما أصبحوا غدا عباس يطوف بالبيت حتى أصبح .. فوجد أبا جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وأبا البختري في نفر يتحدثون .. فلما نظروا إلى العباس يطوف بالبيت ناداه أبو جهل: يا أبا الفضل إذا قضيت طوافك فآتنا .. فلما قضى طوافه أتى فجلس فقال أبو جهل: يا أبا الفضل .. ما رؤيا رأتها عاتكة؟ قال: ما رأت من شيء .. قال: بلى .. أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء .. إنا كنا وأنتم كفرسي رهان (¬2) .. فاستبقنا المجد منذ حين .. فلما تحاذت الركب قلتم: منا نبي (¬3) .. فما بقى إلا تقولوا: منا نبية .. لا أعلم في قريش أهل بيت أكذب رجلًا ولا أكذب امرأة منكم .. فآذوه يومئذٍ أشد الأذى .. وقال أبو جهل: ¬

_ (¬1) تفرقت: أي تطايرت متحولة إلى حجارة صغيرة وشظايا عند أسفل الجبل. (¬2) أي كالمتسابقين إلي هدف. (¬3) يقول هذا الطاغوت: إنكم يا بني هاشم ادعيتم النبوة كذبًا عندما تساوينا وإياكم في الشرف والمجد حتى تتغلبوا علينا.

زعمت عاتكة أن الراكب قال: اخرجوا في ليلتين أو ثلاث .. فلو قد مضت هذه الثلاث تبينت لقريش كذبكم وكتبنا سجلًا .. ثم علقنا بالكعبة أنكم أكذب بيت في العرب رجلًا وامرأة) (¬1). يقول العباس [فوالله ما كان إليه مني من كبير إلا أني أنكرت ما قالت فقلت: ما رأت شيئًا ولا سمعت هذا .. فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد الطلب إلا أتتني فقلن: أصبرتم لهذا الفاسق (¬2) الخبيث أن يقع في رجالكم .. ثم تناول النساء وأنت تسمع فلم يكن عندك في ذلك غيرة .. فقلت: قد والله صدقتن وما كان عندي في ذلك من غيرة إلا أني قد أنكرت ما قال .. فإن عاد (¬3) لأكفينه .. فقعدت في اليوم الثالث أتعرضه ليقول شيئًا فأشاتمه .. فوالله إني لمقبل نحوه .. وكان رجلًا حديد الوجه .. حديد النظر .. حديد اللسان .. إذ ولى نحو باب المسجد يشتد .. فقلت -في نفسي-: اللَّهم العنه كلَّ هذا فرقًا (¬4) أن أشاتمه .. وإذا هو قد سمع ما لم أسمع: صوت ضمضم بن عمرو وهو واقف على بعيره بالأبطح .. قد حول رحله وشق قميصه وجدع بعيره (¬5) يقول: ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في نهاية القصة. (¬2) المقصود هو أبو جهل. (¬3) المقصود هو أبو جهل. (¬4) خوفًا. (¬5) أى قطع أنفه تعبيرًا عن هول الكارثة التي حلت بقريش.

يا معشر قريش .. اللطيمة .. اللطيمة .. أموالكم مع أبي سفيان .. وتجارتكم قد عرض لها محمَّد وأصحابه .. فالغوث .. الغوث .. فشغله ذلك عني .. وشغلني عنه .. فلم يكن إلا الجهاز حتى خرجنا] (¬1). لقد ثارت قريش وهاج الكفر كله .. فماذا أصاب القوم حتى صاروا كالمجانين .. لقد تحققت رؤيا عاتكة .. وصدقت .. وكذب أبو جهل وطار عقله .. وطار عقل أمية وصوابه .. فما الذي حدث .. وماذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي سفيان وقافلته هذه .. لقد كنا في المدينة عند رقية حيث كان بيتها ساكنًا إلا من أنينها .. حيث كانت المدينة ساكنة بالإيمان .. فما الذي كان يخطط له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس نائمون .. سنعود إلى المدينة حيث ترقد رقية .. ها هى طريحة الفراش والألم .. وهذا هو عثمان بقربها ¬

_ (¬1) هذا الخبر حسن بطرقه ... وهو عند الطبراني (24/ 346): ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير ... وهذا مرسل وابن لهيعة فيه ضعف .. لكن الرواية ثابتة عن عروة عند ابن إسحاق: حدثنى يزيد بن رومان عن عروة .. ويزيد هو مولى لآل الزبير وهو ثقة. انظر التقريب ... كما رواها ابن إسحاق بسند متصل فقال: حدثنى من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس: ... وقد صرح ابن إسحاق باسم شيخه الذي وثقه فقال: حدثنا حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة .. عن ابن عباس .. ورغم أن رواة السند كلهم من بيت العباس بن عبد المطلب إلا أن حسينًا هذا ضعيف .. لكن روايته تتقوى بمرسل عروة .. انظر البيهقي في الدلائل (3/ 29) والقصة عند الطبراني أيضًا من طريق عبد العزيز ابن عمران. حدثنا محمَّد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط عن عاتكة ... وإذا كان عبد العزيز قد توبع عند ابن منده فإن شيخه ضعيف أيضًا وبقية الرواة ثقات ... والقصة حسنة بهذه الطرق ...

الخروج وأسبابه

ينظر إلى حبيبته وردة تذبل يومًا بعد يوم .. تذبل ألمًا بعد ألم .. لقد عادها أبوها -صلى الله عليه وسلم- قبل أيام ورأى ما بها وأوصى عثمان الحزين بالمكوث عندها ثم ودعها بعد أن ألقى عليها نظرة الوالد المحب الحاني .. وودعته بعينين حزينتين .. كأني بعينيها تغرقان بالدموع .. تتعلقان بهذا الوالد الذي لا يستطيع البقاء عندها .. ولا يملك لها سوى الدعاء .. استودعها الله وتركها .. ومرارة الوداع في حلقها وقلبها .. ومرارة الوداع في كلماته لعثمان .. وعثمان صابر محتسب .. يفوته الخروج مع حبيبه -صلى الله عليه وسلم- فيصبر .. وقد تفوته رقية وترتحل عنه .. أي ليلٍ سيخيم على عثمان .. رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر صبرًا واحتسابًا .. ابنة في مكة لا يستطيع رؤيتها .. حبيسة الشرك .. وابنة حبيسة المرض .. وأصحاب معدمون يتزاحمون في صفة مليئة بالجوع .. وقريش تسرح وتمرح وتتاجر بأموال أصحابه .. وأمة تحتاج إلى قائد يحملها إلى المستقبل .. وإلى تلك الفرصة .. قدم -صلى الله عليه وسلم- حاجة أمته على حاجته .. ومصلحتها على هموم أسرته فخرج .. لكن إلى أين .. ؟ هذا أنس بن مالك يسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنعرف منه ما حدث .. إنه يتكلم فلننصت إليه: الخروج وأسبابه يقول أنس رضي الله عنه: (بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسيسة عينًا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان .. فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (¬1)) (¬2) .. ¬

_ (¬1) قال الراوى بعد هذه الكلمة: لا أدري ما استثنى بعض نسائه .. أي أن بعض نسائه كانت عنده -صلى الله عليه وسلم. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم (كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد).

ذهب الصحابي المدعو "بسيسة" في مهمة حددها -صلى الله عليه وسلم- .. وهى تحسس أخبار القافلة القرشية القادمة من الشام نحو مكة والتي يقودها أبو سفيان بن حرب .. وتحديد طريق سيرها .. وأتم بسيسة مهمته كما ينبغي .. ثم عاد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (فحدثه الحديث .. فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. فتكلم فقال: "إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرًا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو المدينة، قال: لا، إلا من كان ظهره حاضرًا) (¬1). جاء أبو بكر .. وجاء عمر .. وجاء على .. أما عثمان فاستبقاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وأمره بالمكوث .. وجاء بقية الصحابة من المهاجرين والأنصار .. وجاء عمر بن الخطاب بابنه الصغير عبد الله فتأمله -صلى الله عليه وسلم- فوجده طفلًا فأعاده مكسور الخاطر بعد أن كان يحلم بخطوات يسيرها في دروب البطولة والشهادة .. وجاء طفل آخر اسمه البراء بن عازب .. فأعاده -صلى الله عليه وسلم- أيضًا .. فراح فيما يتحدث إلى من حوله عن تلك الرفقة العظيمة ويصفها بالإيمان ويتمنى لو سار معها فيقول: (استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر .. وكنا -أصحاب محمَّد- نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر .. كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر .. وما جاوز معه النهر إلا مؤمن) (¬2). وجاء سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه ومعه فتى صغير اسمه عمير .. إنه أخوه وهو شجاع مثله .. لكنه كان خائفًا مضطربًا .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (كتاب الامارة، باب ثبوت الجنة للشهيد). (¬2) حديث صحيح. رواه البيهقي (3/ 36) وهو عند البخاري بلفظ آخر ... انظر البخاري (3955, 3956, 3957, 3958, 3959)

بل لقد بكى .. فكيف يكون شجاعًا وكيف يرغب في الشهادة وقد انتابه الخوف والبكاء .. تلك قصة عجيبة رويت عن أخيه سعد حيث يقول: (رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدر يتوارى .. فقلت: مالك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستصغرني، فيردني وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة .. [فعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستصغره .. فقال: ارجع .. فبكى عمير فأجازه رسول الله] فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره) (¬1) كأني بسعد يعقد سيور سِيفه لأخيه ويبتسم .. فيبتسم عمير لمن حوله وللجنة .. قصة مؤثرة ودموع من أجل الشهادة .. وشاب ملأت الجنة روحه وجوانحه .. إنها حال الشباب في أي زمان ومكان تحل فيهما قيادة إسلامية صافية ومخلصة .. لقد اجتاز عمير بن أبي وقاص آخر العقبات في حياته وها هو أمام بوابة مشرعة على الخلود .. عمير من ثمار الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. عمير وغيره .. انظروا إلى هذين .. إنهما صديقان يكبران عميرًا بقليل .. أسدان اسم أحدهما: معاذ بن عمرو بن الجموح واسم الآخر: معاذ بن عفراء .. ¬

_ (¬1) ما أريده من هذه القصة هو ما بين المعقوفين أما ما كان خارجهما فسنده ضعيف لأنه من طريق الواقدي كما في الإصابة -ترجمة عمير- وعند ابن سعد (3/ 149) وما بين المعقوفين عند الحاكم (3/ 47) من طريق يعقوب الزهريّ أخبرنا إسحاق بن جعفر بن محمَّد بن عبد الله بن جعفر عن إسماعيل بن محمَّد بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه .. وهذا السند صحيح ورجاله ثقات لولا أوهام يعقوب بن محمَّد الزهريّ وهو صدوق لكنه لم ينفرد فقد تابعه شيخ البزار في روايته (كشف الأستار 2/ 351) واسمه محمَّد بن قيس. ولعله توبع أيضًا عند البغوي فقد روى الحديث كما قال الحافظ في الإصابة.

المشورة قبل الانطلاق

وعلى أحد الأبواب وفي بيت من أبيات المدينة .. كانت الدموع وكان الوداع والعناق بين شاب وأمه .. ولك أن تتخيل ما تشعر به أم وهي تفارق ابنها .. تودعه وهي لا تدري هل سيعود إليها أم أنها بعثت به إلى الموت .. وبعثت بنفسها إلى الحزن والحداد .. أم الربيع بنت النضر -عمة أنس بن مالك .. وأخت الأسد الهصور: أنس بن النضر- تودع ابنها الذي يرتع في قلبها .. تودع ابنها الحارث (¬1) بن سراقة وداعًا حارًا باكيًا .. لكنها الجنة فليذهب الحارث إلى الجنة من أي طريق شاء .. وهناك فارس آخر .. ربما كان يشتري بعض التمر .. ربما كان قبل قليل بين النخيل يخترف منها .. وربما غير ذلك .. لكنه كان يضع بعض التمرات في جيبه .. ولما سمع النداء هب مسرعًا لنداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إنه .. عمير بن الحمام (¬2) .. اجتمع هؤلاء وغيرهم حول نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت المشورة وحرية الرأي قبل الانطلاق. المشورة قبل الانطلاق يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة: إيانا يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لإخضناها, ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث عن هذين الصحابيين رضي الله عنهما فيما بعد كما جاء في الأحاديث الصحيحة. (¬2) سيأتي الحديث عن هذين الصحابيين رضي الله عنهما فيما بعد كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

سرية في الانطلاق

برك الغماد لفعلنا. فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس، فانطلقوا) (¬1) ولئن كانت المشورة قبل الانطلاق فقد كان هناك: سرية في الانطلاق تقول عائشة رضي الله عنها: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر) (¬2) دون ضوضاء دون أجراس وضجيج انطلق - صلى الله عليه وسلم - وصحابته .. وسمح - صلى الله عليه وسلم - بالانطلاق معه لمن ليس معه راحلة وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالاشتراك والتناوب بين الاثنين والثلاثة على الراحلة الواحدة .. فامتثل الجميع وتحركوا نحو تلك القافلة مسرعين .. يطوون الأرض طيًا .. وفي طريقهم يرون راكبًا يسابق الريح إليهم فيلحق بهم .. ماذا حدث هل هو عثمان بن عفان جاء ليخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ابنته زينب اشتد بها المرض .. أم هو رجل لم يعلم إلا متأخرًا فلحق بهم بعد أن علم بالأمر؟ .. ليس هذا ولا ذاك .. إنه رجل مشرك ... لكن فيه من الشهامة والرجولة الشيء الكثير ... إنه يمتطي راحلته وشهامته .. ويتجه بهما نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلمه ثم يرد عليه ويسير - صلى الله عليه وسلم - .. ثم يكلمه مرة أخرى فيرد عليه ثم يسير - صلى الله عليه وسلم - ويتركه .. فمن هذا الرجل ولماذا تركه - صلى الله عليه وسلم - في مكان يقال له: حرة الوبِرة: تقول عائشة رضي الله عنها: ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه أحمد (سيرة ابن كثير 2/ 394) وروى مسلم نحوه .. وسند أحمد صحيح متصل رجاله أئمة ثقات هم ... عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس. (¬2) سنده صحيح. رواه أحمد (6/ 150) والنسائيُّ وغيرهما (سيرة ابن كثير 2/ 389): ... سعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بشر والصواب: سعيد بن بشير عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة وقد خالفهما هشام فرواه عن قتادة عن زرارة عن أبي هريرة ومع احتمال التعدد إلا أن سعيدًا رغم كونه مدلسًا فإنه أثبت الناس في قتادة وشيوخه ثقات. التقريب (1/ 259) و (1/ 289).

(خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبل بدر فلما كان بحرة "الوبرة" أدركه رجل يذكر منه جرأة ونجدة .. ففرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جئت لأتبعك وأصيب معك". قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فارجع فلن أستعين. بمشرك" .. ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة .. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال له أول مرة .. قال: فارجع فلن أستعين. بمشرك .. ثم رجع فأدركه بالبيداء .. فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فانطلق) (¬1) فانطلق الرجل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مسلمًا بعد أن دفن الشرك وأهله بالبيداء .. ورفرف مع شجاعته ونجدته في أجواء التوحيد الطاهرة الفسيحة .. وواصل المسلمون سيرهم نحو القافلة .. لكن مشكلة وقعت .. وأمرًا خطيرًا لم يحسب له المسلمون حسابًا .. لقد علمت قريش بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لكن كيف؟ ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (1817).

كيف علمت قريش بخروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

كيف علمت قريش بخروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مقبلًا من الشام .. ندب المسلمين وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم .. فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها .. فانتدب الناس .. فخف بعضهم .. وثقل بعضهم .. وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربًا .. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفًا على أموال الناس حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان: أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك .. فحذر عن ذلك .. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري .. فبعثه إلى مكة .. وأمره أن يأتي قريشًا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه .. فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة) (¬1) .. ووصل إلى مكة .. وسمعت قريش (صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي .. واقفًا على بعيره قد جدع بعيره .. وحول رحله .. وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش .. اللطيمة .. اللطيمة .. أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمدٌ في أصحابه .. لا أرى أن تدركوها .. الغوث .. الغوث ..) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه ابن إسحاق ومن طريقه رواه الطبرى (6/ 182) من طريقين الأول مرسل عروة وهو صحيح إلى عروة ... والثاني عن ابن عباس لكنه لم يذكر أسماء شيوخه وهم جمع. .. ويشهد له ما بعده. (¬2) حديثٌ حسنٌ. مر معنا عند الحديث عن رؤيا عاتكة وهو جزء من حديث الرؤيا.

وتجمعت قريش حول هذا المشهد الفاجعة .. وصرخت بوجه ضمضم ابن عمرو تسأله عن تفاصيل أكثر .. وثارت مكة .. وارتجت .. وتعالى الضجيج .. وسلت السيوف .. واحتقن الطواغيت .. طواغيت قريش كلهم .. كلهم إلا واحدًا أذهله الخبر فأصيب بالهلع إنه لا يدري ما يفعل وكيف يتصرف .. إنه يرتجف ويرتجف .. يهرول مسرعًا إلى منزله .. وعندما يصل لا يبحث عن سلاح ولا يفتش عن درع ورمح .. إنه خائف جدًا ويكاد يموت من الخوف .. لم يكن ذلك الخوف بسبب تجارة له مع أبي سفيان يخشى أن يفقدها .. الأمر أشد وأخطر .. إنه يحس بدنو أجله .. إنه يرى في كل شبر خارج مكة قبرًا مشرعًا ينتظره .. إنه أمية بن خلف .. وهو لا يستطيع التفريق بين من يقول: الغوث .. الغوث .. ومن يقول: الموت .. الموت .. كأني به وهو يستمع إلى صراخ ضمضم قد تذكر صراخ سعد بن معاذ في ذلك اليوم المشئوم عندما كان سعد بن معاذ في نزاع مع أبي جهل لأن أبا جهل يرفض أن يطوف سعد بالكعبة وهو من أنصار محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. وعندما حاول أمية إسكات سعد بن معاذ رضي الله عنه. بشره سعد بنهاية تصطك لها الركب .. بشره سعد وقال له: (دعنا منك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه قاتلك .. قال أمية: بمكة؟ .. قال سعد: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعًا شديدًا، فلما رجع أمية إلى أهله قال:

يا أم صفوان، ألم تري إلى ما قال لي سعد .. ؟ قال: وما قال لك .. ؟ قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنه قاتلي .. فقلت له: بمكة؟ .. فقال: لا أدري .. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة) (¬1) .. واليوم قد حان وقت خروج قريش .. ولن يتخلف أحد .. فهل سيتخلف سيد من ساداتها .. وما هو عذره .. هل سيقول لهم: إنه خائف .. هل سيقول لهم: إن محمدًا صادق في قوله ووعده .. حائر أمية .. حائر .. يلتفت إلى امرأته يحدثها .. أنه قد (جاء الصريخ .. قالت له امرأته: أما علمت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال أمية: فإني لا أخرج) (¬2) .. لقد قرر أمية البقاء ففي الخروج سفر إلى الموت على يد محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. لكن هل سيتركه أبو جهل ينعم بالبقاء .. لا أظن ذلك .. فأبو جهل الآن كالمجنون .. يجول في شوارع مكة .. يثير الغبار في أزقتها .. يطرق أبوابها .. لن يتركه أبو جهل ينعم بالطعام والشراب والرقاد وهم يواجهون الموت .. لقد (استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم .. فكره أمية أن يخرجه .. فأتاه أبو جهل .. فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك .. فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذا غلبتني فوالله لأشترين أجود بعيرٍ. بمكة .. ثم قال أمية: يا أم صفوان جهزيني .. فقالت له: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3950) والبيهقيُّ (3/ 27). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (3/ 26).

بدر

يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا .. ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا .. فلما خرج أمية أخذ لا يترك متزلًا إلا عقل بعيره فلم يزل بذلك) (¬1) كلما نزل منزلًا عقل بعيره السريع تأهبًا للهرب .. لم يزل كذلك خائفًا يرى الموت خلف الصخور وبين الشجر .. يرى الموت يسيل في الوادي .. يرى الموت مقبلًا مع السحاب .. وفي المساء يرى الظلام عباءة يرتديها الموت .. والنجوم عيون تحدق به. مضوا خلف أبي جهل مصطحبين المغنيات والخمر والموت حتى وصلوا إلى أرض بين مكة والمدينة يقال إنها كانت (موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام) (¬2) واسم هذه الأرض: بدر وقد قرر أبو جهل ومن معه تحويل أرضها إلى ساحة لاحتفالٍ صاخب .. سيجعلون أرض بدر خمرًا ونساءً .. ورقصًا ومقابر لمحمد وأصحابه .. سيجعل أبو جهل من تلك الأرض احتفالًا غير عادي .. احتفالًا لقريش وحدها .. في موعد هو الذي يحدده .. وقد وصف الله عَزَّ وَجَلَّ ذلك الخروج وتلك الغطرسة بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬3). مضت الجموع .. ومضى معهم أمية .. وخيم شبح الموت على كل شبرٍ يسير إليه .. إنه الآن يتوقع خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعض صحابته في أية لحظة ومن أي مكان ليقتلوه .. إنه ليتساءل .. ترى: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3950). (¬2) تفسير الطبرى (تفسير سورة الأنفال). (¬3) سورة الأنفال: الآية 47.

أين محمد

أين محمد أجل أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ لقد (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه [حتى بلغ واديًا يقال له: "ذفران" فخرج منه .. حتى إذا كان ببعضه نزل ..] وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم .. فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس .. وأخبرهم عن قريش) (¬1). لكن كيف علم - صلى الله عليه وسلم - بخروج قريش .. كيف عرف عددهم .. ولماذا يستشير أصحابه مرة أخرى وهم قد وافقوا على الخروج معه عندما كانوا في المدينة .. لنبدأ بالأمر الأول. كيف علم (صلى الله عليه وسلم) بخروج قريش يقول أحد الصحابة المشاركين بتلك الأحداث وهو أنس بن مالك: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ندب أصحابه فانطلقوا إلى بدر .. فإذا هم بروايا قريش فيها عبد أسود لبني الحجاج .. فأخذه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يسألونه: أين أبو سفيان؟ فيقول: والله ما لي بشيء من أمره علم .. ولكن هذه قريش قد جاءت فيهم أبو جهل وعتبة بن شيبة ابنا ربيعة .. وأمية بن خلف .. فإذا قال لهم ذلك ضربوه .. فيقول: دعوني .. دعوني أخبركم .. فإذا تركوه قال: والله ما لي بأبي سفيان علم .. ولكن هذه قريش قد أقبلت .. ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. دون ما بين المعقوفين. رواه ابن إسحاق وهو جزء من حديث ابن إسحاق الطويل وهو ضعيف إلا ما كان له شواهد تقويه.

كيف عرف (صلى الله عليه وسلم) عدد قريش

فيهم أبو جهل .. وعتبة وشيبة ابنا ربيعة .. وأمية بن خلف قد أقبلوا .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي -وهو يسمع ذلك- فلما انصرف (¬1) قال: "والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتدعونه إذا كذبكم، هذه قريش قد أقبلت لتمنع أبا سفيان" (¬2). هكذا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقدم قريش وطواغيتها .. كان الأمر خطيرًا وعصيبًا جدًا .. ولا بد لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - من أن يعيد حساباته من جديد .. لا بد من معرفة حجم الخطر القادم وهل في الإمكان مواجهته أم أن في مواجهته تهورًا ولا بد من الانسحاب للحفاظ على صفوة الأمة ونواتها .. ما غاب ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يغب .. حوار قصير بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين ذلك الغلام المشرك .. دون ضرب أو تعنيف أو إكراه .. دون سياط أو حبال .. ثم انتهى كل شيء. كيف عرف (صلى الله عليه وسلم) عدد قريش يتحدث عن ذلك بطل آخر من أبطال الإِسلام وشبابه .. علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يقول: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخبر عن بدر .. فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر -وبدر بئر- فسبقنا المشركون إليها فوجدنا فيها رجلين منهم .. رجلًا من قريش .. ومولى لعقبة بن أبي معيط .. فأما القرشي فانفلت .. وأما مولى عقبة فأخذناه .. فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم -والله- كثير عددهم .. شديد بأسهم. ¬

_ (¬1) انصرف من صلاته: انتهى والانصراف يعني أيضًا: التسليم. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم وأبو داود واللفظ له (صحيح أبى داود 2332).

عدد الصحابة

فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه حتى انتهوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فقال له: كم القوم؟ فقال: هم -والله- كثير عددهم .. شديد بأسهم .. فجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخبره كم هم .. فأبى .. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله كم ينحرون من الجزور (¬1) .. فقال عشرًا كل يوم .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القوم ألف .. كل جزور لمائة) (¬2). بذكائه توصل - صلى الله عليه وسلم - إلى عدد قريش .. لكن كم كان: عدد الصحابة إذا كانت قريش ألفًا فإن ذلك الطفل الذي منعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الخروج لصغر سنه .. يحدثنا عن عدد المسلمين .. البراء بن عازب رضي الله عنه يقول: (استصغرت أنا وابن عمر يوم بدرٍ وكنا -أصحاب محمَّد- نتحدث أن عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر .. كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر .. وما جاوز معه النهر إلا مؤمن) (¬3) لقد كان امتحانًا صعبًا لطالوت ومن معه .. وها هو امتحان آخر لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ¬

_ (¬1) الإبل. (¬2) حديث صحيح. رواه البيهقي (3/ 42) وأحمد (21/ 31 الفتح الرباني): إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة عن علي وهذا السند صحيح: إسرائيل ثقة وهو حفيد شيخه وسماعه منه قبل الاختلاط، وجده تابعي ثقة (التقريب 1/ 64) وهما من رجال الشيخين ... أما حارثة بن مضرب فهو تابعي كبير وهو ثقة (التقريب 1/ 64). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ واللفظ له (3/ 36).

إنهم ثلاثمائة وبضعة عشر فقط .. وهؤلاء الثلاثمائة إذا نظرت إليهم باحثًا عن خيل يركبونها .. لم تجد سوى فرسين .. يقول علي رضي الله عنه: (ما كان معنا إلا فرسان .. فرس للزبير .. وفرس للمقداد بن الأسود) (¬1). ثلاثمائة ليس معهم إلا فَرَسَان .. فماذا عن البقية .. إنك لو نظرت مرة أخرى إليهم .. لنظرت إلى مشهد خلاب .. رغم الفقر والحفاء والعوز .. لن تجد أحدًا يسير على قدميه كل الطريق .. ولن تجد أحدًا يركب كل الطريق .. كانت قافلةً من القلوب والمشاعر قادها - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر .. عبد الله بن مسعود أحد تلك القلوب التي تخفق بالإيمان والإيثار والنظام يقول رضي الله عنه وعنهم: (كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير .. كان أبو لبابة وعليذ زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فكانت إذا حانت (¬2) عقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولان له: نحن نمشي عنك .. فقال: ¬

_ (¬1) سنده حسن. رواه البيهقي (3/ 39): أخبرنا أبو عبد الله، أخبرنا أبو محمَّد عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا ابن وهب، وأخبرني أبو صخر عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ... وهذا السند حسن: أبو معاوية البجلي ... صدوق من رجال مسلم (التقريب 2/ 8) واسمه: عمار بن معاوية الدهني، وأبو صخر هو: حميد بن زياد بن أبي المخارق (التهذيب 3/ ...) من رجال مسلم وهو حسن الحديث إذا لم يخالف، وتلميذه ابن وهب إمام معروف وهو عبد الله بن وهب القرشي بالولاء, وتلميذه إسماعيل هو شيخ الإِسلام الحافظ شيخ المالكية وعالمهم في العراق كما قال الذهبي في التذكرة (325) وتلميذه هو مسند بغداد البغوي (التذكرة 889). (¬2) إذا جاء دور الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المشي.

ما أنتما بأقوى مني .. ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما) (¬1). رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع المسافات مشيًا رغم وجود من يبذل روحه فداءً لتلك الخطوات الشريفة .. لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه .. ويطمع مثلهم بالأجر من عند الله .. يشفق على أصحابه ويرأف بهم .. ويحنو عليهم. لقد رق لمنظرهم وهم يتعاقبون .. ورق لحالهم وهم يتساقطون من التعب والجوع وطول السفر .. فاتجه إلى أرحم الراحمين يستمطره رحمة لهؤلاء المساكين .. ابتهل ... لهج بقلبه ولسانه وقال: (اللَّهم إنهم عراة فاكسهم .. اللَّهم إنهم جياع فأشبعهم) (¬2). دعاء يقطر رحمةً وشفقة .. وحالة أصحابٍ يرثى لها .. وظرف صعب يفاجئ القافلة المؤمنة .. وعدو كشر عن أنيابه وسيوفه وحقده .. ومع ذلك كله لم تخف القلة المؤمنة ولم ترتجف .. لكن هناك من كره لقاء قريش بهذا الاستعداد الضعيف .. فما للقتال خرجوا .. وما لهذه الجموع احتسبوا .. لقد خرجوا يريدون مالًا لهم في قافلة .. فصاروا أمام جيش متأهب ¬

_ (¬1) إسناده حسن. رواه أحمد (1/ 411 - 418 - 422 - 424) من طريق حماد بن سلمة حدثنا عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن مسعود، .. وهذا السند صحيح لولا عاصم ابن أبي النجود فهو حسن الحديث إذا لم يخالف ... التقريب (1/ 383) وهو من رجال الشيخين وزر ثقة جليل مخضرم من رجال الشيخين (التقريب 1/ 259). (¬2) سنده حسن. رواه البيهقي (3/ 38) وأبو داود (2747): ابن وهب حدثنا يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ... ابن وهب إمام مر معنا، وحيي حسن الحديث إذا لم يخالف وهو قوي الحديث إذا روى عنه ثقة ... والحبلي من رجال مسلم وهو ثقة واسمه: عبد الله بن يزيد المعافري.

المشورة الثانية

لأخذهم .. لقد كرهوا ذلك خوفًا على دولتهم الفتية .. على رسولهم أن تناله أيدي المشركين ورماحهم .. لقد وصف الله سبحانه تلك المشاعر فقال: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} (¬1). يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (تخلفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب الله أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد) (¬2). لقد رأى - صلى الله عليه وسلم - في وجوه الصحابة العزم والشجاعة .. ورأى في وجوه البعض الشجاعة والكراهية معًا .. وذلك لعدم الاستعداد وقلة العدد والعدة .. رأى خوفهم عليه وعلى دينهم ودولتهم .. فتوقف - صلى الله عليه وسلم - لـ: المشورة الثانية (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه [حتى بلغ واديًا يقال له "ذفران" فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل،] وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضوان الله عليه فقال وأحسن .. ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن .. ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله .. امض إلى حيث أمرك الله فنحن معك والله لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآيتان 5، 6. (¬2) حديث صحيح طويل. رواه البخاري (4418).

قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .. [فوالذي بعثك بالحق لئن سرت بنا إلى برك الغماد (¬1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه]) (¬2) .. (لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} ولكن نقاتل عن يمينك .. وعن شمالك وبن يديك ... وخلفك .. قال ابن مسعود: فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرق وجهه وسره) (¬3). لقد تأثر ابن مسعود بما قاله المقداد وتمنى في تلك اللحظات لو كان هو صاحب تلك الكلمات .. ولم يستطع ابن مسعود أن يكتم ذلك في نفسه، لقد صرح به فيما بعد فقال: (شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إليّ مما عُدل به) (¬4) أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعد أن رأى تلك العواطف الجياشة تمتد أمامه .. وعن يمينه وعن شماله وتحميه من خلفه .. بعد أن رأى الفداء يظلله كالحب كالغمام .. صاح مرة أخرى بالفئة المؤمنة. ¬

_ (¬1) قال الراوي: مدينة الحبشة. (¬2) حسن. رواه ابن إسحاق وقد مر معنا .. وقد صرح بالسماع من شيوخه الثقات: الزهري، وعاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان .. وهؤلاء الثقات أخذوه عن شيخهم الإمام عروة بن الزبير ورواه شيوخ غيرهم عن ابن عباس لكن هؤلاء الشيوخ غير معروفين والحديث يشهد له ما قبله من الأحاديث وما بعده عدا ما بين المعقوفين فلم أجد له شاهدًا. والحديث جزء من حديث بدر الطويل وهو ضعيف إلا ما كان له شواهد. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري عن ابن مسعود (3952). (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري عن ابن مسعود (3952).

فتنبه أحد الأنصار لهذا النداء المتكرر .. وفهم مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لقد تحدث أبو بكر وعمر وتحدث المقداد .. ومع ذلك كله ينتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيًا آخر له في نفسه وزن لا يقل عن تلك الآراء السابقة .. كان - صلى الله عليه وسلم - (يريد الأنصار .. وذلك أنهم كانوا عدد الناس .. وذلك أنهم حين بايعوه على العقبة قالوا: يا رسول الله .. إنا براء من ذمامك (¬1) حتى تصل إلى ديارنا .. فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا .. نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا .. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممّن دهمه (¬2) بالمدينة من عدوه .. وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: أجل .. قال: فقد آمنا بك وصدقناك .. وشهدنا أن ما جئت به هو الحق .. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة .. فامض يا رسول الله لما أردت .. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك .. ما تخلف منا رجل واحد .. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا .. إنا لصُبُر عند الحرب .. صُدُق عند اللقاء .. لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك .. فسر بنا على بركة الله ... فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد .. ونشطه ذلك) (¬3). ¬

_ (¬1) الذمام: الحرمة. (¬2) هاجم المدينة. (¬3) هو بقية حديث ابن إسحاق الطويل وله شاهد عند ابن مردوديه من طريق محمَّد بن عمرو =

وجاءت البشرى من الله ..

وجاءت البشرى من الله .. وأنزل الله كلامه وعدًا صادقًا لا يتأخر .. وأمنًا يملأ الأجواء والصدور .. فأزال بقايا الخوف .. وطهر به القلوب المؤمنة .. نزل جبريل بقول الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}. والشوكة هي جيش قريش .. وغير ذات الشوكة هي القافلة .. أخذ - صلى الله عليه وسلم - تلك الآيات ونادى رفقة الدرب والإيمان وقال لهم: (سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ... والله لكأني انظر الآن إلى مصارع القوم غدًا) (¬1). قال أحد الأنصار وهو أبو أيوب الأنصاري: (فلما وعدنا إحدى الطائفتين إما القوم وإما العير طابت أنفسنا) (¬2) وطاب المسير إلى بدر (فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر) (¬3) ونزل المسلمون بالعدوة الدنيا .. أي بحافة الوادي من جهة المدينة (وجاء المشركون فقال ¬

_ = ابن علقمة عن أبيه عن جده وجده ولد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن الصحابة أما عمرو فهو حسن الحديث في الشواهد والمتتابعات. (سيرة ابن كثير 2/ 395). (¬1) المصدر السابق. (¬2) سنده قوي. رواه الطبراني (4/ 209) من طريق ابن لهيعة ورواه من الطريق نفسه الإمام الطبري (6/ 186) لكن الراوي عن ابن لهيعة عند الطبري وابن المبارك فصح بذلك هذا الجزء من السند: وشيخ ابن لهيعة هو يزيد بن أبي حبيب وهو ثقة من رجال الشيخين (التقريب 2/ 63) وهو تابعي صغير وقد رواه عن التابعي الثقة: أسلم بن يزيد التجيبي (التقريب 1/ 64) وأسلم رواه عن أبي طلحة رضي الله عنه. (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم.

16/ 9/ 2 هـ

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه) (¬1) وأقبل المشركون من هناك .. من الجهة الأخرى .. المسماة بالعدوة القصوى أي حافة الوادي البعيدة .. البعيدة عن المدينة جهة مكة .. وكان ذلك في: 16/ 9/ 2 هـ في السادس عشر من شهر رمضان بنى الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبة .. هي أشبه بغرفة العمليات اليوم .. كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيها ويدعو ويوجه ويبشر .. وكان أبو بكر معه فيها .. يقول ابن عباس: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في "قبة له" يوم بدر: اللَّهم إني أنشدك عهدك ووعدك .. اللَّهم "إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا .. " فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك .. حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك -وهو في الدرع- فخرج وهو يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) (¬2). خرج - صلى الله عليه وسلم - من القبة .. وخرج وراءه أبو بكر .. وخرجت معهما البشرى العظيمة: سيهزم الجمع ويولون الدبر .. وصار - صلى الله عليه وسلم - يتمشى ويشير .. ثم يمشي ويشير .. وإذا أشار إلى موضع من الأرض تكلم .. ولهج بالبشرى للجميع. لقد كان يشير بيده ويتحدث إلى من معه وحيًا .. فإلى أي شيء كان يشير وعن أي شيء كان يتحدث: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (4875 - 4877).

مصارع القوم

مصارع القوم يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبرنا عن مصارع القوم بالأمس: هذا مصرع فلان إن شاء الله غدًا .. هذا مصرع فلان إن شاء الله غدًا) (¬1) .. يتحدث أنس بن مالك عن تلك المواقع فيقول: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا مصرع فلان غدًا .. ووضع يده على الأرض .. وهذا مصرع فلان .. ووضع يده على الأرض .. وهذا مصرع فلان .. ووضع يده على الأرض) (¬2). لقد ملأت هذه البشرى المؤمنين حماسًا ونشاطًا .. وأيقنوا بنصر يشرق عليهم مع صباح الغد إن شاء الله .. فقضوا يومهم ذلك همةً وحركةً .. يستعدون وينفذون أوامر قائدهم - صلى الله عليه وسلم - .. ويدعون ربهم نصرًا طال انتظاره .. ويرجونه الظفر في هذه الحرب التي قبعت في طريقهم دون موعد .. حتى تنكسر شوكة الباطل وترتفع راية التوحيد وتتطاير فلول الشرك مع الرياح .. كان ذلك اليوم مليئًا بالدعاء والعمل والأحلام .. كان يومًا مرهقًا .. وكانت ليلة مقمرة .. ليلة فرش فيها القمر بساطًا للجميع .. لكن القمر افتقد أحبابه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقد خلدوا إلى نوم عميق بعد يوم شاق. كان العمل فيه مرهقًا .. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم (الجنة) والبيهقيُّ (3/ 48) واللفظ له. (¬2) حديث صحيح. رواه أبو داود ومن طريقه البيهقي (3/ 46): حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن أنس .. وهذا سند صحيح فموسى ثقة ثبت من رجال الشيخين والبقية أئمة ثقات.

المطر .. المطر

عن تلك الليلة: (لقد رأيتنا ليلة بدر وما من أحد إلا وهو نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح) (¬1) لقد نام بعض الصحابة بعد أدائهم لصلاة العشاء ثم ناموا جميعًا .. لقد استيقظ علي فرآهم نائمين .. وها هم الواحد تلو الآخر يهبون من نومهم العميق بعد علي بن أبي طالب فما الذي أيقظ علي وأيقظهم .. هل هو القمر .. هل هي الليل القمراء التي يحلو معها الحديث والسمر .. ؟ لا .. فالقمر قد اختفى .. والتعب أشد من أن يقاوم لكنه: المطر .. المطر تآلف السحاب .. وحجب القمر .. وتساقط المطر قطرات .. قطرات .. ثم ازدادت القطرات شيئًا قليلًا حتى تنبه الصحابة .. فإذا المطر يغسلهم .. ويخاطبهم القرآن كالمطر: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (¬2) .. تحرك الصحابة يستظلون من المطر .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن نائمًا ليستيقظ .. يقول علي رضي الله عنه: (ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف (¬3) نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه عز وجل ويقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا. رواه أحمد والبيهقيُّ (3/ 39) وابن حبان (موارد 409) من طريق شعبة أخبرنا أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي .. وهذا السند صحيح وقد مر معنا، رجاله رجال الشيخين عدا حارثة وهو تابعي ثقة. التقريب (1/ 145). (¬2) سورة الأنفال: الآية 11. (¬3) الحجفة ترس من جلد.

-الصلاة جامعة-

اللَّهم إن تلك هذه الفئة لا تعبد فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله - الصلاة جامعة- فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرض على القتال) (¬1) ثم احتضنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إغفاءة قصيرة رأى فيها: بشرى ومنام ربنا سبحانه يتحدث عن ذلك المنام القصير فيقول: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬2) .. وأشرقت في وجوه الصحابة شمس جديدة .. ويوم جديد .. فتنفسوا هواءً منعشًا .. وصباحًا طريًا بالصلاة والمطر .. الأرض أمامهم ساكنة ملبدة لا غبار فيها .. والأجواء تملأ صدور المؤمنين حماسًا وثقة بالله ووعده .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرضهم على القتال .. يشرع لهم أبواب الشهادة والجنة .. ويجعل من أصحابه أحبابًا لله فـ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) سنده حسن. رواه ابن جرير في التفسير (6/ 193): حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي .. والسند من علي إلى إسرائيل صحيح وقد مر معنا .. لكن الذي جعل السند حسنًا هو أنه من رواية مصعب بن المقدام وهو حسن الحديث ومن رجال مسلم. التقريب (2/ 252) وهارون الهمداني صدوق (التقريب 2/ 311). (¬2) سورة الأنفال: الآية 43.

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬1) .. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يكونوا كذلك .. لذلك نظمهم .. وجعلهم صفًا كأنهم بنيان مرصوص .. وصار يمشي بينهم .. يصفهم ويعدل صفهم ثم قال لهم: (إن جمع قريش عند هذا الضلع الحمراء من الجبل) (¬2) .. لقد بدأ المشركون بالنهوض مثقلين .. وصداع الخمر يرن في رؤوسهم .. بدأوا بالنهوض وقلوبهم شتى .. وأفكارهم شاردة .. والنظام عنهم شارد .. بعضهم لا يريد الخروج .. والبعض يرى أن من الخطأ قتال أبناء عمومتهم وإخوانهم وأبنائهم .. وهناك من خرج أشرًا وبطرًا وقد أغراه قلة عدد المؤمنين فضمن النصر واطمأن للنتيجة .. و (لما اطمأن القوم بعثوا عمر بن وهب الجمحي فقالوا: أحرز لنا القوم من أصحاب محمَّد .. فاستجال حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلًا أو ينقصون .. ولكن أمهلوني حتى انظر أللقوم كمين أو مدد .. فضرب في الوادي حتى أبعد فلم يرَ شيئًا .. فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئًا .. ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا .. نواضح يثرب تحمل الموت الناقع .. قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم .. فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم) (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الصف. (¬2) رواه أحمد بسند صحيح وهو جزء من حديث على الطويل الذي مر معنا. (¬3) أثرٌ رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري (2/ 42): حديث إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما اطمأن ... وهذا السند صحيح إلى هؤلاء الأشياخ فابن إسحاق سمع من والده ... ووالده ثقة وقد سمع من بعض الصحابة (التقريب 1/ 62) وهؤلاء الأشياخ ربما كانوا من الصحابة فإن كانوا كذلك فالسند متصل ... وإن =

سكت الجميع وهم يستمعون إلى هذا الوصف المرعب .. وتسلل من بين هذا الحشد الصامت رجلٌ حكيم .. اسمه أيضًا: حكيم .. حكيم بن حزام تأثر بكلام عمر بن وهب الجمحي وأحس بشيء خطير تحمله نواضح يثرب .. (فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد .. إنك كبير قريش الليلة وسيدها والمطاع فيها .. [هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت] (¬1). هل لك ألا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر .. قال: وماذا يا حكيم؟ قال: [إنكم لا تطلبون من محمَّد إلا دم ابن الحضرمي] (¬2) ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي .. قال عتبة: قد فعلت [أنا أتحمل بديته] (¬3) أنت علي بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله .. فأتِ ابن الحنظلية [يعني أبا جهل فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك] (¬4) فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبًا فقال: ¬

_ = لم يكن أحدهم من الصحابة فهم جمع من التابعين يقوي بعضهم بعضًا ... وللأثر شاهد يقويه أيضًا انظر ما بعده. (¬1) هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407). (¬2) هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407). (¬3) هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407). (¬4) هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407).

يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا .. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه .. قتل ابن عمه أو ابن خاله .. أو رجلًا من عشيرته .. فارجعوا وخلوا بين محمَّد وبن سائر العرب .. فإن أصابوه فذلك الذي أردتم .. وإن كان ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون) (¬1). كان عتبة بعيد النظر .. خائفا من مصير قومه الأسود الذي يقودهم إليه رجل طائش حاقد هو أبو جهل .. كانت عتبة على جمله الأحمر يدور بين المشركين .. يحاول ثنيهم عن عزمهم فهو يرى الموت سهامًا في نظرات أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. ويرى العار في قتل أبناء العم وقتالهم .. كان عتبة على تلك الحال يناشد ويمشي ويناشد ويحاول حقن دماءٍ توشك أن تُسفح على جنبات بدر .. يحاول ردم مقابر ومآسٍ كالهاوية .. لا بد أن أمية بن خلف كان في تلك اللحظات يستمع إليه .. ويستبشر به ويحتفي بكلماته وقلبه يرقص طربًا بما يقول .. ولسان حاله يقول: لله درك يا ابن عتبة كم أنت رائع .. أنت تنقذني من موت ينتظرني .. لم يكن من حول عتبة فقط هم الذين يثنون على رأيه .. رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يراقبه من بعيد .. من الجهة الأخرى كان ينظر إليه .. لم يعرف من هو .. لكنه أدرك من حركاته أنها حركات رجلٍ نصوح مشفق على قومه. (نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتبة وهو على جمل أحمر فقال: ¬

_ (¬1) هذا الأثر هو بقية الأثر السابق (انظر ابن كثير 2/ 407 - السيرة) وشاهده عند الطبري عن حكيم بن حزام، وفيه ضعف ليس بالشديد. (2/ 443).

إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر .. إن يطيعوه يرشدوا -وهو يقول: يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم لم يزل ذلك في قلوبكم .. ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه .. فاجعلوا جبنها برأسي وارجعوا) (¬1). كان عتبة يريد أن يتحمل عارها وشنارها .. ويجنب قومه جحيم الحرب ونارها .. أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يعرف من هو صاحب الجمل الأحمر (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير: ناد بعض أصحابك فسله من صاحب الجمل الأحمر؟ قالوا: عتبة ابن ربيعة وهو ينهى عن القتال وهو يقول: يا قوم إني أرى قومًا مستميتين، والله ما أظن أن تصلوا إليهم حتى تهلكوا) (¬2). والتفت - صلى الله عليه وسلم - فرأى عمه حمزة في موقع قريب من المشركين فأراد أن يتحقق من قول أصحاب الزبير ويتأكد: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي .. ناد لي حمزة -وكان أقربهم من المشركين- منْ صاحب الجمل الأحمر؟ .. وماذا يقول لهم؟ ¬

_ (¬1) سنده جيد وهو صحيح بالشواهد. رواه البزار (2/ 313 - زوائد) ... يزيد بن هارون أنبأنا جرير بن حازم، عن أخيه يزيد بن حازم، عن عكرمة عن ابن عباس .. : يزيد ثقة متقن عابد (التقريب 2/ 372) وشيخه جرير ثقة لكن حديثه عن قتادة فيه ضعف وهذا ليس منها فشيخه هنا هو أخوه يزيد وهو ثقة (التقريب 1/ 127) (2/ 63) وعكرمة غني عن التعريف وقد مر معنا كثيرًا .. وللحديث شواهد ترفعه إلى درجة الصحة. (¬2) سنده صحيح. رواه البزار (2/ 311) بالسند الصحيح الذي مر معنا كثيرًا وهو: إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة عن علي ... وتلميذ إسرائيل عند البزار هو عثمان بن عمر العبدى: ثقة من رجال الشيخين. (التقريب 2/ 13) وتلميذه هو شيخ البزار الثقة الثبت: محمَّد بن المثنى المعروف بـ (الزمن) (التهذيب 9/ 425).

فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم إني أرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم، اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم) (¬1) .. كان عتبة فوق جمله الأحمر يثير إعجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - برأيه السديد .. لكنه كان يثير حسرة لدى أحد الشباب المؤمنين خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. كأني بهذا الشاب يتطاول .. ويتطاول ليحظى بنظرة أخيرة لصاحب هذا الجمل الأحمر .. كأني به يرفع رأسه ليراه فيتحرك قلبه نحوه بالأسى والحزن .. والذكريات الحلوة المريرة .. عندما كان هذا الشاب طفلًا كان صاحب الجمل الأحمر يحمله ويداعبه .. كان يسير معه في طرقات مكة .. كان يكسوه أحسن الثياب .. ويطعمه أطيب الطعام .. كم مرة قبله .. وكم مرة عانقه .. وكم مرة تعثر فحمله .. وبكى فأسكته بما يرضيه .. ومرض فبحث له عمن يداويه .. ذكريات حلوة ومريرة .. فمن يكون هذا الشاب وما هي صلته بهذا الشيخ الكبير؟ إنه: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة .. وهذا الشيخ هو أبوه الذي رباه ورعاه وحنا عليه .. وهو اليوم عدوه .. والده اليوم أعقل وأحكم من في معسكر قريش .. فأين تلك الحكمة وأين هذا العقل قبل اليوم .. أين الحكمة في الخروج من أجل أصنام لا تستطيع الحراك من أماكنها .. أين الحكمة في عبادة حجر أو خشبة تفتقر إلى أبسط صفات السيادة ألا وهي إصدار الأمر أو النهي .. ؟ ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا. رواه أحمد (سيرة ابن كثير 2/ 422) إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي.

كان هذا الشاب يتحسر على أبيه مثلما تحسر علي بن أبي طالب على أبيه وهو يشاهد رجاءات النبي - صلى الله عليه وسلم - تتحطم على صخرة العناد في قلب أبي طالب .. ويموت أبو طالب وهو كتلة من العناد .. وها هي الصورة تتكرر على أرض بدر .. كان عتبة خائفًا أشد الخوف على مسجد قريش أن يدفن في هذا الصباح الممطر الجميل .. عتبة يرى الموت يطل عليهم من فوق الجبال .. يرى الموت في السحاب وفوق نواضح يثرب .. لذلك أرسل حكيم بن حزام إلى أبي جهل لعله يتراجع عن غيه .. أرسل حكيم بن حزام إلى أبي جهل ليعرف رأيه فهو صاحب شر مستطير .. وعقل صغير .. أبو جهل سفيه متهور .. قد يثير الفتنة والمشاكل بين جيش قريش نفسه .. فيكونون غنيمة سهلةً لمحمد وأصحابه .. غنيمة أسهل من قافلة أبي سفيان .. فلا بد من كلمة واحدة .. ورأي واحد ولو كان مرًا. توجه حكيم كما طلب منه عتبة وقال: (فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعًا فهو يهنئها (¬1) فقلت له: يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا .. فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدًا وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبن محمَّد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى محمدًا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه) (¬2). ¬

_ (¬1) أي يصلحها ويهيئها ويطليها بعكر الزيت. (¬2) أثر حسن. رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري (2/ 444) وهو حديث ابن إسحاق الطويل وهو ضعيف عدا ما كان له من الشواهد ما يقويه مثل هذا الجزء الذي يشهد له ما عند البزار وهو الحديث التالي.

كان أبو جهل يستخدم العواطف .. يثيرها .. يفجرها فتنةً يفجرها ثارات وسيوفًا .. ها هو يقلب الحقائق .. يجعل من رأي عتبة العاقل جبنًا .. يجعله خوفًا على ابنه الذي بين صفوف المؤمنين .. ويبرر هذا الرأي الساقط بأن عتبة يرى أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يأخذون من المشركين جهدًا أكثر من جهدهم في تناول وجبة من الطعام قد طبخ فيها جمل من الجمال .. إنه يرى المسلمين جزورًا شهيًا قد قدم على مائدة بدر وقد حان موعد تناولها .. وابن عتبة لقمة في هذه الوجبة الشهية .. وقد خشي عتبة على ابنه من أفواه قريش وسيوفهم المتلمظة .. المتعطشة .. أبو جهل يقول: (انتفخ والله سحره حين رأى محمدًا وأصحابه .. إنما محمَّد وأصحابه كأكلة جزور .. لو قد التقينا) (¬1) .. ويفقد أمية بن خلف آخر آماله في الحياة .. فلقد تحرك ابن الحنظلية مفتشًا عن إثارة أكثر لهذه القلوب السوداء .. مفتشًا عن جمر يلقيه في تلك النفوس كي تتحرق للثأر. فـ (بعث إلى عامر بن الحضرمي .. فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع الناس .. وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فأنشد خفرتك ومقتل أخيك .. فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه .. واعمراه .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث البزار السابق (2/ 313 - الزوائد).

فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره قال: سيعلم مصفر أسته من انتفخ سحره أنا أم هو) (¬1) .. لم يكتف أبو جهل ببلوغ صراخه إلى عتبة .. لقد تحرك الطاغوت نحو عتبة بن ربيعة لاستفزازه .. ليوظفه باتجاهٍ شقهُ أبو جهلٍ .. ليحوله من نقطة ضعف وسكينة إلى بركان تتفجر منه المعركة حالًا ... توجه أبو جهل إلى عتبة صارخًا بوجهه: (أنت تقول ذلك، والله لو غيرك يقوله لأعضضته قد ملأت رئتك جوفك رعبًا) (¬2) فثار عتبة وانفجر في وجه أبي جهل قائلًا: (إياي تعير يا مصفر أسته؟ ستعلم اليوم أينا الجبان) (¬3) (ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة (¬4) تسعه من عظم رأسه .. فلما رأى ذلك اعتجر (¬5) على رأسه بردٍ له) (¬6). لقد نجح أبو جهل بتحريضه لغضب عتبة فأوصله إلى حالة شديدة من التوتر والتهور .. وأفلح الطاغوت في إثارة حمية أخيه وابنه (فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية) (¬7) يريدون الحرب .. ¬

_ (¬1) جزء من حديث ابن إسحاق السابق وهو حسن. (¬2) حديث صحيح. وهو جزء من حديث الإمام أحمد وقد مر معنا. (¬3) حديث صحيح. وهو جزء من حديث الإمام أحمد وقد مر معنا. (¬4) الخوذة التي توضع على الرأس في الحروب. (¬5) لف البرد على رأسه كالعمامة ... والبرد قماشى يلتحف به. (¬6) جزء من أثر ابن إسحاق السابق وهو حسن. (¬7) حديث صحيح. وهو جزء من حديث الإمام أحمد وقد مر معنا.

سمع المسلمون ذلك الضجيج فتزينوا للجنة .. وتوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - .. إلى جبار السموات والأرض يناشده .. ويناشده ويستمطره رحمةً ونصرًا .. فنظر إليه الصديق فرق لحاله وأشفق عليه .. ثم تحرك نحوه بكل رفق والتف حوله وضمه ضمةً لا يجرؤ عليها إلا أبو بكر .. ومشاعر أبي بكر لا يعبر عنها إلا أبو بكر .. فكم أبكى ذلك المشهد من الصحابة عندما (نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف .. ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: اللَّهم أنجز لي ما وعدتني .. اللَّهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام فلا تعبد في الأرض أبدًا .. فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده -ألقاه على منكبيه (¬1) - ثم التزمه من ورائه ثم قال: كفاك يا نبي الله بأبي وأمي (¬2) مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك .. فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}) (¬3). ¬

_ (¬1) لفظ مسلم. (¬2) لفظ ابن جرير. (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم وأحمدُ (ابن كثير 2/ 417) وابن جرير في التفسير (6/ 188).

فعل السبب .. وجعل النتائج على الله

لقد فعل - صلى الله عليه وسلم - كلما يمكنه فعله .. فعل الأسباب كلها ثم توجه إلى الله يناشده ويدعوه .. هذا هو التوكل الصحيح الذي رسمه لأتباعه: فعل السبب .. وجعل النتائج على الله فعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك كله وما زال يفعل فبعد أن: شاور المهاجرين والأنصار قبل الانطلاق. ثم قطع الأجراس من أعناق الإبل إمعانًا في السرية. ورفض أن ينتظر أي شخص لم يكن جاهزًا وأبقى هدف السير سرًا عند انطلاقه. ورفض أن يصحبه أي مشرك حتى ولو كان صادقًا ذا حمية وشهامة. وسمح للقادرين على القتال فقط بمصاحبته. وأمرهم بالتعاقب على الرواحل حتى يهون عليهم المسير قليلًا وهو ليس بهين .. واستطاع أن يعرف عدد الخارجين للقتال من قريش. واستشار أصحابه في المضي أو العودة فوافقوا على المضي. وبعد أن سبق - صلى الله عليه وسلم - المشركين إلى العدوة الدنيا حيث الماء الآبار .. ثم بنى المسلمون لهم حوضًا يشربون منه أثناء المعركة. بعد ذلك كله توجه إلى الله يناشده ويدعوه. يقول علي رضي الله عنه: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصبح ببدر من الغد أحيى تلك الليلة كلها وهو مسافر) (¬1) .. والسفر إرهاق ومشقة .. ومع ذلك يقول علي رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. رواه أبو يعلى ومن طريقه رواه ابن حبان (موارد 409): حدثنا الأزرق ابن علي أبو الجهم، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يوسف بن أبي إسحاق عن أبي =

لماذا يرفض (صلى الله عليه وسلم) مشاركة حذيفة ووالده

(لقد رأيتنا ليلة بدر وما منا أحد إلا وهو نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح) (¬1) .. عمل ودعاء .. هذا هو منهج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو توكله على الله .. وبعد الدعاء بدأ العمل من جديد .. فالصحابة قليلون ولا بد من خطة محكمة وتطبيق صارم كالسيف .. فالخطأ يكلف كثيرًا وعدم تنفيذ الأوامر كارثة .. فالمعركة تحتاج إلى كل الجهود .. تحتاج للجميع دون استثناء .. وفي أمسّ الحاجة تلك .. وفي أحرج الظروف وأصعبها يصل صحابي ووالده للمشاركة مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك يرفض - صلى الله عليه وسلم - مشاركتهما رغم صدقهما وإخلاصهما وتحملهما المشاق في السير نحوه .. ذلك الصحابي هو حذيفة بن اليمان. لماذا يرفض (صلى الله عليه وسلم) مشاركة حذيفة ووالده سؤال بحجم المعركة .. والاجابة بحجم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. ليس هناك أزمة ثقة بحذيفة .. بل إن حذيفة فوق الشبهات .. كيف لا وقد سلمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يومًا قائمة سرية بالأسماء والأحداث التي سيفصح عنها التاريخ .. ؟ سلمها - صلى الله عليه وسلم - لأمانة حذيفة وأعماقه .. الأمر هنا لا يتعلق بالثقة .. الأمر يتعلق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبالقادة الإسلاميين والدعاة من بعده .. ¬

_ = إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي ... : وهذا السند حسن ... شيخ أبي يعلى ثقة (التقريب 1/ 51) وشيخه حسن الحديث إذا لم يخالف وهو من رجال الشيخين (التهذيب 2/ 245) ويوسف هو حفيد أبي إسحاق وهو ثقة من رجال الشيخين (التقريب 2/ 379) وبقية السند صحيح وقد مر معنا. وللحديث شاهد وهو ما بعده. (¬1) حديث صحيح مر معنا.

حذيفة مر من هناك .. هناك حيث صادفه المشركون هو ووالده حسيل .. سألنا حذيفة عن أمر يستطيع إخبارنا به .. إنه ليس سرًا .. ما الذي منعك يا حذيفة من المشاركة في غزوة بدر .. فيجيب حذيفة رضي الله عنه قائلًا: (ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنني خرجت أنا وأبي حسيل، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرف إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا .. نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) (¬1) إنها إجابة بحجم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. والتزام أعيى من يهتبلون ثمارًا ناضجة وغير ناضجة .. أعيى زعماء ودعاة ذوي نظرة آنية لا يرون إلا ما في رؤوسهم .. (نفي لهم بعهدهم) (¬2) وهم المشركون الذين يعبدون الأصنام ويحاربون الله ورسوله وقد خرجوا لطمس التوحيد وسفك دماء الموحدين .. خرجوا لذبح نبي الإِسلام وتدمير دولته ومع ذلك (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) (¬3) .. وإذا كان هذا هو حجم الاحترام للعلاقة - العهد مع الأعداء .. فكم هو حجمه بين المسلم وأخيه .. سؤال عرف الإجابة عليه حذيفة ووالده فانصرفا .. ¬

_ (¬1) إسناده حسن .. رواه ابن أبي شيبة (7/ 363): حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن جميع، حدثنا أبو الطفيل، حدثنا حذيفة بن اليمان ... وهذا الإسناد حسن من أجل الوليد بن جميع وهو تابعي حسن الحديث ومن رجال مسلم (التقريب 2/ 333) وتلميذه هنا هو الثقة المثبت شيخ ابن أبي شيبة: حماد بن أسامة (التهذيب 3/ 2) وعامر بن واثلة صحابيّ صغير رضي الله عنه وهو آخر من مات من الصحابة. (¬2) حديث صحيح وهو الحديث السابق. (¬3) حديث صحيح وهو الحديث السابق.

ودع النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبيه فانصرفا وهما ثقيلان لا يطيقان ذلك الوداع. تَوَجَّها والحزن إلى المدينة .. وتوجه - صلى الله عليه وسلم - إلى صحابته بعد هذا الدرس الذي تغلغل في أعماقهم وسرى في دمائهم .. وعاد - صلى الله عليه وسلم - إلى العمل من جديد .. فجعل - صلى الله عليه وسلم - لجيشه رايةً ولواءً .. والراية هي علم الجيش .. واللواء أصغر منها و (كانت رايته - صلى الله عليه وسلم - سوداء ولواؤه أبيض) (¬1) .. ورايته (كانت سوداء مربعة من نمرة (¬2)) (¬3). وتحت هذه الراية نظم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه صفوفًا أو صفًا .. لأن الله يحب ذلك {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (¬4) .. متماسك وقوي ولذلك فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى خللًا في الصف سارع إلى تقويمه .. يحدثنا أبو أيوب الأنصاري عن ذلك فيقول: (صففنا يوم بدر فندرت منا نادرة أمام الصف، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: معي .. معي) (¬5) .. وجعل جزءًا منهم خلف الصفوف وفي أماكن مناسبة تمكنهم من مراقبة تحركات الأعداء .. وتقديم المعلومات ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. صحيح ابن ماجة (2/ 133). (¬2) بردة من صوف. (¬3) حديث صحيح. صحيح أبى داود (2/ 491) عدا قوله: مربعة. (¬4) سورة الصف. (¬5) سنده قوى. رواه أحمد (5/ 420) من طريق موسى بن داود وعبد الله بن المبارك حدثنا .. وأخبرنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبى حبيب أن أسلم أبا عمران التجيبي حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: ... وهذا السند قد خلا من علة اختلاط ابن لهيعة لأن أحد تلميذيه هو ابن المبارك .. وشيخه يزيد بن أبي حبيب المصري ثقة فقيه من رجال الشيخين (التقريب 2/ 363) وقد سمع من التابعي المصري الثقة أسلم بن يزيد التجيبي (التقريب 1/ 64).

الصوف الأبيض شعارا للمسلمين

لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وكان من بين هؤلاء ذلك الغلام الذي يدعى: حارثة بن سراقة وهو أنصاري من بني النجار .. وقد أدرك - صلى الله عليه وسلم - أن هذه القلة المؤمنة تحتاج إلى شعار يعرف بعضهم بعضًا به إذا حمي الوطيس والتحمت السيوف بالأعناق والرؤوس فكان: الصوف الأبيض شعارًا للمسلمين قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان سِيْمَا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: الصوف الأبيض) (¬1). وقد كان لبعض الصحابة علامات يعرفون بها .. فحمزة مثلًا (معلم بريشة نعامة في صدره) (¬2) .. كان أسدًا عليه ريش النعام .. أما الزبير فعلامته يحدثنا بنفسه عنها فيقول: (كان على الزبير يوم بدر عمامة صفراء معتجرًا بها) (¬3). ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن أبي شيبة (7/ 354) بالسند الصحيح الذي مر معنا كثيرًا: إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة عن علي .. وشيخ ابن أبي شيبة الآخذ عن إسرائيل هو الإمام الثقة وكيع بن الجراح (التقريب 2/ 331). (¬2) رواه ابن إسحاق بسند صحيح (سيرة ابن كثير 2/ 438): حدثني عبد الواحد بن أبي عوف، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي أمية ... وهذا السند صحيح ابن إسحاق لم يدلس، عبد الواحد ثقة وليس كما قال الحافظ صدوق يخطئ .. راجع تعليقي على التقريب. وجرح ابن حبان هناك لا يعتد به، وقد وثق من أئمة في هذا الشأن ... (التقريب 1/ 526) وشيخه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف ووالده تابعيان من رجال الشيخين. (¬3) سنده صحيح. رواه ابن أبي شيبة (7/ 361) من طريقين أحدهما صحيح وهو: حدثنا عبدة، عن هشام، عن عباد بن حمزة عن الزبير، وعبدة بن سليمان الكلابي ثقة ثبت (التقريب 2/ 30) وهشام بن عروة إمام مر معنا كثيرًا .. وشيخه عباد بن حمزة بن عبد الله =

النعاس وشيء آخر

ولهذه العمامة الصفراء أصداء في السماء تنتظر النزول سنعرفها بعد قليل .. وسنعرف معها علامتين لا يراهما أحد .. علامة لأبي بكر وعلامة لعلي رضي الله عنهم أجمعين ولكن قبل ذلك كان هناك علامة للجميع .. علامة في العيون والنفوس علامة غشيت المؤمنين كلهم إنها: النعاس وشيء آخر يقول سبحانه وتعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (¬1) .. لقد ألقى الله النعاس على المؤمنين أمنًا منه وسلامًا وثقة بنصر الله ... وبث في نفوسهم شيئًا جعلهم يتحفزون للقتال (لقد شجع الله المسلمين على لقاء عدوهم وقللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم) (¬2) .. كان الصحابة مزيجًا من التحفز والنعاس الغريب .. وكان الوحي يتنزل على الملائكة أن يهبطوا إلى أرض المعركة لتثبيت المؤمنين حيث يقول سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬3). لكن أين الملائكة .. بل أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه اللحظات الحرجة التي بدأت فيها أصوات المشركين بالارتفاع والشجار من أجل المعركة .. ¬

_ = ابن الزبير تابعي ثقة (التقريب 1/ 391) وروايته عن أسماء وعائشة وجابر رضي الله عنهم وعن والده ... وللحديث شواهد انظر (الموسوعة، غزوة بدر، الملائكة). (¬1) سورة الأنفال: الآية 11. (¬2) رواه ابن إسحاق بسند صحيح .. حدثني الزهريّ عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ... والزهري تابعي ثقة وإمام معروف وشيخه صحابي صغير (سيرة ابن كثير 2/ 434). (¬3) سورة الأنفال: الآية 12.

أين رسول الله وأين الملائكة

أين رسول الله فهو ليس بين الصفوف .. وليس مع النظار وليس عند الحوض .. ؟ أين رسول الله وأين الملائكة لقد ذهب قبل قليل إلى العريش .. وتبعه أبو بكر .. إنه الآن داخل العريش وهو يعاني حالة من النعاس ورأسه يخفق .. ها هو لقد أفاق من نعاسه .. وخرج والبشرى تحمله ويحملها .. إنه ييشر صاحبه أبا بكر بشيء مفرح فما هو .. ؟! يقول أحد الصحابة: (خفق (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفقة في العريش ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل معتجر بعمامته آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع، أتاك نصر الله وعدته) (¬2). (هذا جبريل آخذ رأس فرسه عليه أداة الحرب) (¬3) .. هبط جبريل مُعتمًّا .. ما لون عمامته .. وهل هبط لوحده .. ؟ سنعرف بعد قليل .. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجه مبشرًا أصحابه بما حدث .. محرضًا شجاعتهم للتضحية بأرواحهم في سبيل الله .. إنه يحدثهم .. يوقظ فرحهم بالجنة والشهادة .. لقد (خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس فحرضهم) (¬4) وعندما يحرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا حقًا .. وإذا قال .. تحرك الجميع من حوله .. يقول - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حرك رأسه وهو ناعس. (¬2) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقة الأموي (سيرة ابن كثير 2/ 434): حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير .. وقد صرح ابن إسحاق بالسماع من شيخه التابعي الثقة، وعبد الله بن ثعلبة صحابيّ. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري. (¬4) رواه ابن إسحاق وهو جزء من حديثه الطويل وهو ضعيف إلا ما كان له من الشواهد ما يقويه. وهذه العبارة لها ما يقويها عند أحمد وسنده صحيح وقد مر معنا (سيرة ابن كثير 2/ 422).

وهو يتحدث عن الصفوف: (قيام ساعة في الصف للقتال في سبيل الله خير من قيام ستين سنة) (¬1) و (الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول، ولا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، فأولئك يلقون في الغرف العلا من الجنة يضحك إليهم ربك، إن الله تعالى إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه) (¬2) .. ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود) (¬3) وإن (للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان, ويزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين من أهل بيته) (¬4). إن من يسمع ذلك وغيره ليهون أمامه الموت والفناء .. بل إن الموت يهون ويسهل للشهيد حقًا .. فالموت يداعب الشهداء مداعبةً .. بشر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم مس القرصة) (¬5). إن من يستمع إلى هذه الأحاديث وهو على سريره سيبحث عن أي معركة يكون فيها شهيدًا .. فكيف لو سمعها رجل يحمل سلاحه وسط الصفوف .. لقد ثارت المعارك في نفوس الصحابة .. واستعر لهيبها في دمائهم .. فقال - صلى الله عليه وسلم - لهم قولًا ينظم حماسهم وتوثبهم .. ويسدد رميهم وسيوفهم قولًا يفتك بأعدائهم .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. صحيح الجامع (2/ 815). (¬2) حديث صحيح. المصدر السابق (1/ 695). (¬3) حديث صحيح. المصدر السابق (2/ 1127). (¬4) حديث صحيح. السابق (2/ 920). (¬5) حديث صحيح. السابق (1/ 696).

عبد الرحمن ابن عوف يتمنى مكانا آخر

ماذا قال لكم يا أبا أسيد الساعدي فقد كنت بين الصفوف .. ؟ يقول أبو أسيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اصطففنا يوم بدرٍ: إذا أكثبوكم يعني إذا غشوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم) (¬1). يكاد الصبر يفتك بالصف المؤمن .. وكان الصف كالبنيان المرصوص .. إلا لبنة قويةً كانت تتململ .. إنه عبد الرحمن بن عوف فماذا جرى له .. ولماذا يشعر بالإحراج وكأنه يريد أن يغير مكانه .. عبد الرحمن ابن عوف يتمنى مكانًا آخر أيتمنى ابن عوف أنه كان في بيته حتى لا يقاتل عشيرته وأبناء عمومته .. أم هو خائف .. ؟ الأمر ليس كذلك فليست هذه طباع عبد الرحمن بن عوف .. لكن القدر ساقه ليكون بين غلامين صغيرين في الصف .. كان ينظر يمينًا فيرى غلامًا وينظر عن يساره فيرى مثل ذلك .. ماذا سيفعل ابن عوف؟ لم يمهله الغلامان لقد بادراه بالهمس .. كان همسًا غريبًا .. كان كل واحد منهما لا يريد أن يُسمع صاحبه ما يقول .. ما هي قصة هذين الغلامين .. سألنا عبد الرحمن بن عوف عما جرى له مع هذين الغلامين فقال: (إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميى وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أظلع منهما، فغمزني أحدهما [سرًا من صاحبه] فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه] والذي نفسي بيده لئن رأيته لا ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري وأبو داود والبيهقيُّ (3/ 70).

هل أسلم أبو جهل

يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضًا [سرًا من صاحبه] مثلها، [فما سرني أنني بين رجلين مكانهما] فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه) (¬1) .. سلَّ كل فتىً سيفه ليسبق صاحبه إليه .. لكننا سنسبق الفتيان إلى أبي جهل لنرى ماذا يفعل .. إنه يحرض الناس على القتال .. بل إنه يفعل أمرًا عظيمًا طالما كفر به .. إنه يدعو الله وحده إنه لا يدعو الأصنام .. لماذا هل أسلم أبو جهل هل أسلم في اللحظات الآخرة .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم .. (إن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللَّهم [أينا كان] أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فاحنه الغداة، فكان المستفتح) (¬2). لم يسلم أبو جهل كان يريد استدراج قومه أكثر فأكثر للقتال .. لا يريد أن تقع كارثة .. فزعامته لقريش مرهونة بهذه المعركة وببقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيًا .. كأني بأمية بن خلف يستمع إلى دعائه فيقول: لعنة الله عليك من أفاك .. وقد أنزل الله على نبيه آيات تبشر أبا جهل بما أراد فقال سبحانه: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (سيرة ابن كثير 2/ 442) والزوائد بين المعقوفين عند البخاري أيضًا لكن في رواية أخرى. (¬2) رواه ابن إسحاق بسند صحيح ومن طريقه الإمام أحمد: حدثني الزهريّ عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير ... والزهري ثقة وشيخه صحابي والسند مر معنا من قبل.

تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1) .. وأبو جهل ليس منهم .. إنه يحاول أن يكرس وهمًا في نفوس أتباعه بأنهم على حق .. لم يكتف أبو جهل بالاستفتاح والاستنصار من الله .. لقد هرع إلى عتبة بن ربيعة ليسخر منه أمام الجميع .. وليجعله أضحوكة وعبرة لمن يفكر بالتراجع عن الحرب مجرد تفكير .. وقف أبو جهل أمام عتبة (فقال: أنت تقول ذلك .. والله لو غيرك يقول لأعضضته، قد ملأت رئتك جوفك رعبًا) (¬2) .. غضب عتبة من تلك الكلمات الجارحة ونجح أبو جهل في إثارته فأخذته العزة بالإثم .. التفت إلى أبي جهل وقد احتقن من الغضب فقال له شيئًا يمرغ رجولته وزعامته .. قال عتبة لأبي جهل: (إياي تعني يا مصفر أسته، ستعلم اليوم أينا الجبان) (¬3) (ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله إني لأرى قومًا يضربونكم ضربًا .. أما ترون .. كأن رؤوسهم الأفاعي، وكأن وجوههم السيوف) (¬4). تجمد الدم في عروق أمية .. وأدرك أبو جهل أن حمزة في الطريق .. وتهاوت معنويات الوثنيين .. لكن عتبة أصر على الخروج ليغسل عار الجبن الذي سكبه عليه أبو جهل .. ثم صاح بعد أن لف قطعة قماش على رأسه .. : يا شيبة بن ربيعة ... يا وليد بن عتبة .. لقد (دعا أخاه وابنه فخرج يمشي بينهما) (¬5) (فقالوا: من يبارز؟ فخرج فتية من الأنصار ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 19. (¬2) حديث صحيح مر معنا وهو جزء من حديث الإمام أحمد (سيرة ابن كثير 2/ 422). (¬3) هو جزء من الحديث الصحيح السابق (سيرة ابن كثير 2/ 422). (¬4) حديث صحيح. رواه البزار (زوائد 2/ 313) ... يزيد بن هارون أنبأنا جرير بن حازم عن عكرمة عن ابن عباس ... وهذا السند صحيح وجرير بن حازم ضعيف الحديث إذا روى عن قتادة وهو لم يروه عنه بل عن عكرمة ويزيد ثقة (التقريب 2/ 372) وتلميذه شيخ البزار هو الثقة إبراهيم بن سعيد الجوهري (التقريب 1/ 35) وللحديث شواهد. (¬5) جزء من حديث البزار السابق وهو صحيح (زوائد 2/ 313).

(قم يا حمزة .. وقم يا علي .. وقم يا عبيدة)

مشببة) (¬1) (ثلاثة نفر .. : عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء، ورجل آخر يقال له عبد الله بن رواحة .. فقال: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار .. فقالوا: ما لنا بكم حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمَّد أَخْرِجْ إلينا أكفاءنا من قومنا) (¬2) و (قال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بني عمنا من بني عبد المطلب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قم يا حمزة .. وقم يا علي .. وقم يا عبيدة) (¬3) ثلاثة من بني عبد المطلب كأن وجوههم السيوف .. ثلاثة أقبلوا كأنهم الموت .. فكان عتبة الضحية لحمزة هذا اليوم وهوت حكمته وشجاعته وشركه وعناده على أرض بدر .. وهوى أخوه شيبة جثة هامدة تحت قدمي علي رضي الله عنه .. لم يستغرقا وقتًا طويلًا أمام هذين الفارسين من بني عبد المطلب .. لكن ماذا حدث لعبيدة بن الحارث رضي الله عنه .. عليٌّ يقص علينا ما حدث فيقول: (أقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأثخن كل واحدٍ منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة) (¬4). ابتهج - صلى الله عليه وسلم - بفرسانه وفرح بانتصارهم .. وتحمس المؤمنون جميعًا لعناق الموت .. فرائحة الشهادة تعطر أجواء بدر .. وتأجج حماسهم عندما ازدادت زخات المدد من السماء فبشر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه .. وقال ¬

_ (¬1) جزء من حديث أحمد الصحيح وقد مر معنا (سيرة ابن كثير 2/ 422). (¬2) جزء من حديث ابن إسحاق حسن بحديث أحمد السابق وحديث ابن إسحاق ضعيف إلا ما كان له شاهد. (¬3) جزء من حديث أحمد الصحيح وقد مر معنا (سيرة ابن كثير 2/ 422). (¬4) حديث صحيح. صحيح أبي داود (2665).

الله في ذلك: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} (¬1) وكانوا خير مدد .. وكانوا خير الملائكة .. هذا كبيرهم: جبريل عليه الصلاة والسلام يصفهم بنفسه .. فقد (سأل جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف أهل بدر فيكم؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: خيارنا. قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة هم خيار الملائكة) (¬2). أما كبار الملائكة .. : ميكائيل وإسرافيل .. فقد كان في نزولهم تكريمًا لأبي بكر الصديق ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم فلقد (قيل لأبي بكر الصديق وعلي يوم بدر: مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم، يشهد القتال، أو يقف في الصف [ولا يقاتل] (¬3). شاهد - صلى الله عليه وسلم - ذلك وأيقن بالنصر فقد استجاب الله له، فصاح بأصحابه: (قوموا إلى جنة عرضها السموات الأرض) (¬4). سمع أحد الصحابة -وهو الذي كان يحمل تمرًا في جيبه ربما عند خروجه من المدينة- سمع ذكر الجنة فطار قلبه وتوجه نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالفرح .. وقف أمامه وقال: (يا رسول الله .. جنة عرضها السموات والأرض؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال: بخٍ .. بخٍ .. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: الآية 124. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (3993) والبيهقيُّ (3/ 151) واللفظ له. (¬3) سنده صحيح. رواه ابن أبي شيبة واللفظ له عدا ما بين المعقوفين (7/ 353) والبيهقيُّ (3/ 55) وأحمدُ والبزار (الزوائد 2/ 314) من طرق عن مسعر بن كدام الهلالي وهو ثقة ثبت فاضل (التقريب 2/ 187) عن شيخه أبي عون الثقفي وهو ثقة من رجال الشيخين (التقريب (2/ 187) عن شيخه التابعي الثقة أبي صالح عبد الرحمن بن قيس الحنفي (التقريب 1/ 495). (¬4) حديث صحيح. رواه مسلم وأحمد (سيرة ابن كثير 2/ 421).

شاهت الوجوه

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحملك على قول بخٍ. .. بخٍ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال - صلى الله عليه وسلم -: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن) (¬1). ما هذا الرجل ومن هو .. يبشره - صلى الله عليه وسلم - بالجنة فيأكل تمرًا .. سنعرف بعد قليل .. فلنعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث لا تمر في كفيه .. لكن كفه كانت مليئة بشيء غير التمر .. شيء لا يؤكل. فما هو هذا الشيء وماذا يريد أن يفعل به؟. لقد (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ كفًا من الحصى بيده، ثم خرج فاستقبل القوم، فقال: شاهت الوجوه تم نفحهم بها، ثم قال لأصحابه: احملوا) (¬2). انطلق الصحابة كالسهام .. كالموت .. ونظر صاحب التمرات إلى تمراته ثم قال: (لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل) (¬3) قتل شهيدًا رضي الله عنه وأرضاه .. هذا الشهيد أنصاري يدعى: عمير بن الحمام. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم وأحمدُ (سيرة ابن كثير 2/ 421). (¬2) سنده قوي. رواه الأموي (ابن كثير 2/ 434) حدثنا أبي حدثنا ابن إسحاق حدثني الزهريّ عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير .. وقد صرح ابن إسحاق بالسماع من شيخه التابعيّ الإمام الثقة الزهري، وشيخ الزهريّ صحابي رضي الله عنه، والأموي وولداه ثقتان. (¬3) هو باقي حديث مسلم السابق.

أما حمزة فقد شق صفوف الوثنيين بسيفه .. يتساقطون أمامه واحدًا واحدًا .. أحد الجبناء: أمية بن خلف كان ينظر إليه وينتفض وينتفض السيف في يده وتنتفض الريشة التي زين بها حمزة صدره .. أمية بن خلف كان يرتعد خوفًا ويقول لمن حوله: (ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل) .. وهو لم يحدد من ذلك الشخص بعد .. لم يعرف أنه حمزة بعد .. وكان أحد ضحايا حمزة رجل من مشاهير قريش اسمه: طعيمة بن عدي وهو أخو المطعم بن عدي .. ومن مكان آخر انطلق عبد الرحمن بن عوف وانطلق الشابان من حوله .. يتسابقان نحو رأس أبي جهل .. لكن كيف والمشركون كالشجر الملتف حوله .. يحمونه من سيوف المهاجرين والأنصار .. أي سيف سيشق طريقًا نحو أبي جهل .. أي سيف سيجز ذلك الشجر الوثني الملتف حول أبي جهل .. الذين صنعوا الأحداث يتحدثون .. عبد الرحمن بن عوف يقول للغلامين وسط الموت والسيوف: (نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه [فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين] فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ قال كل منهما: أنا قتلته، قال - صلى الله عليه وسلم -: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - في السيفين فقال: كلاهما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخر معاذ بن عفراء) (¬1) هذا ما حدث باختصار .. أما التفاصيل فعند من خاض سيفه في تفاصيل أبي جهل .. التفاصيل عند معاذ بن عمرو بن الجموح .. فبعد أن أشار عبد ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ وما بين المعقوفين عند البخاري (ابن كثير 2/ 442)

الرحمن بن عوف بيده إلى أبي جهل .. قال معاذ: (سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة (¬1) وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه .. فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربةً أطنت (¬2) قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني (¬3) القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها من خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق) (¬4). تركه يشقى بآخر أنفاسه .. تدوسه الأقدام وتدوس زعامته ويكسوه التراب الذي طالما نثره في وجوه الضعفاء والمساكين .. هوى الطاغية الشرس الذي قضى أكثر من عشر سنين في محاربة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. في اضطهاد الفقراء وقتل العجائز والمسنين من المؤمنين .. هوى هذا الكافر على يد شابين صغيرين اقتحما ثأرًا لله ولرسوله وللمؤمنين .. وخيم الموت على أبي جهل والتهمت الصحراء ساقه .. خيمة من الموت ضربها الأنصاريان عليه .. فلم يبق منه سوى عينين زائغتين .. تضعفان كما سقط طاغوت آخر .. ¬

_ (¬1) الشجر الملتف. (¬2) أطارت. (¬3) أي حال بينيه وبينه. (¬4) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 84) حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس، وعكرمة تلميذ ابن عباس تابعي ثقة مر معنا وثور بن يزيد الحمصي ثقة ثبت. انظر التقريب (1/ 121).

علي خائف من الموت

ها هو الطاغوت الآخر: عقبة بن أبي معيط يهوي إلى الأرض سقط سيفه .. وسقط شركه .. لكنه لم يمت ما زال حيًا .. إنه يرسف في قيوده .. وأحد فرسان الإِسلام يقتاده كذلٍ وديع .. وهذا هو طاغوت ثالث يرتطم بالأرض .. يرتج عند إرتطامه .. إنه أمية بن خلف وشحمه الذي يلف جسدًا يتموج من الرعب .. وبالقرب منه يسقط علي ويرتجف من الخوف .. أجل عليٌّ خائف جدًا فسيفه ليس بيده .. وهو يحشى طعنة من هنا أو هناك .. أو أن تدوسه الأقدام والحوافر .. فما الذي أصاب عليًا .. ومن الذي أسقطه وكيف يرتجف من الخوف؟ علي خائف من الموت أما كيف .. فلا بد أن أحد فرسان الإِسلام قد أسقطه عن ظهر دابته .. وأما لماذا .. لماذا أسقط ذلك الفارس عليًا عن ظهر دابته .. فالسبب بسيط .. لقد أسقطه .. لأنه علي بن أمية بن خلف وليس علي بن أبي طالب .. فعلي بن أبي طالب يصول ويجول كالأسد بين عجول الشرك .. يلتقي بمن شاء .. ويُسقط ما شاء منهم .. أما علي بن أمية فهو كالذبيحة قرب أبيه الجبان .. قرب أبيه الذي شاهد الموت عدة مرات .. لم ينفعه أبو جهل .. ولا هبل .. ولا بعيره الذي اشتراه بأغلى الأثمان .. فأبو جهل يتلبط في دمائه .. وهبل حجر تركه في مكة .. وبعيره وبعير ابنه بين غنائم المؤمنين .. والموت قادم .. قادم يا أمية .. لكن أمية -فجأة- يشعر أن الحياة قادمة .. إنه يرى من خلال الموت فرجة إلى الحياة يحملها أحد المهاجرين .. يحملها عبد الرحمن بن عوف وهو شاهر سيفه يجندل به جنود الشرك .. لكن أي أمل يحمله عبد الرحمن وسيفه يقطر دمًا .. يبدو أن أمية بن خلف يحمل سرًا .. فلقد تطلق وجهه واستبشر عندما رأى عبد الرحمن بن

قصة أمية وعبد الرحمن بن عوف

عوف .. ويبدو أن عبد الرحمن بن عوف يحمل في ذاكرته المزيد عن تفاصيل ما حدث في بدر .. دعونا نستمع إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يحكى سر أمية .. وآخر آمال أمية .. فهو إن لم ينج الآن على يد صديقه ابن عوف فسوف ينتن على أرض بدر .. قصة أمية وعبد الرحمن بن عوف كان أمية وعبد الرحمن صديقين في الجاهلية .. وكان بينهما تعامل تجاري بعد الإِسلام .. بل وبعد الهجرة .. هذه العلاقة تخللتها قصة مثيرة .. بدأت في مكة قبل الإِسلام فمتى ستنتهي .. ؟ يحدثنا عن بدايتها وعن نهايتها عبد الرحمن بن عوف فيقول: (كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت: عبد الرحمن، فكان يلقاني ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ فأقول: نعم هداني الله للإسلام فتسميت عبد الرحمن. قال: إني لا أعرف الرحمن) (¬1) .. ومضت الأيام والأحداث بالاثنين .. بقي أمية في مكة على شركه وأصنامه .. وهاجر عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة .. ومارس التجارة بعد أن دلوه على سوق المدينة فصار أحد تجارها .. ويمضي ابن عوف رضي الله عنه متحدثًا عن قصته مع أمية وهو في المدينة فيقول: ¬

_ (¬1) حسن. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 91): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قالا: كان عبد الرحمن بن عوف يقول: وفي الطريق الثانية انقطاع بين صالح وجده لكن عباد بن عبد الله بن الزبير تابعي كبير والحديث بعد هذا حسن بما بعده وحديث صالح موصول عند البخاري وهو ما بعده.

(كاتبت أمية بن خلف كتابًا: بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة) (¬1) .. (كان بيني وبين أمية بن خلف كتابٌ بأن يحفظني في ضياعي بمكة، وأحفظه في ضياعه بالمدينة، فلما ذكرت: الرحمن، قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته: عبد عمرو .. فلما كان يوم بدر) (¬2) (مررت به وهو واقف مع ابنه علي وهو آخذ بيده، ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها، فلما رآني قال: عبد عمرو .. فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك في، فأنا خيرٌ لك من هذه الأدراع التي معك؟ قلت: نعم، ها الله. فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن، ثم خرجت أمشي بينهما) (¬3) (خرجت به إلى شعب لأحرزه حتى يأمن الناس) (¬4). وتوجه الثلاثة إلى ذلك الشعب، ثم توجهوا (إلى جبل) (¬5) .. فارتاحت نفس أمية بن خلف .. يا لها من أيام عصيبة تلك التي كانت تحمل في دقائقها الموت والحياة معًا لأمية .. اطمأن أمية فتحدث عن اللبن الذي سيشربه ابن عوف وأصحابه من نياق أمية التي سيفتدي ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (2301) والصاغية: الحاشية والأتباع. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ واللفظ له (3/ 90). (¬3) حسن. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 91): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قالا: كان عبد الرحمن بن عوف يقول: وفي الطريق الثانية انقطاع بين صالح وجده لكن عباد بن عبد الله ابن الزبير تابعي كبير والحديث بعد هذا حسن بما بعده وحديث صالح موصول عند البخاري وهو ما بعده. (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ واللفظ له (3/ 90). (¬5) جزء من حديث البخاري (2301).

نفسه وابنه بها .. واسترخت أعصابه فاسترسل في الحديث وقال لعبد الرحمن بن عوف وهو يمشي (بينه وبن ابنه آخذًا بأيديهما: يا عبد الإله: من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: حمزة. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل) (¬1). وواصلوا المشي والمسير .. وفجأة دوت صرخة مرعبة من بعيد اتسعت لها عيون أمية وابنه .. صرخة قلبت أرض بدرٍ على رأس أمية من جديد .. صرخة من أعماق مضطهد لا تزال جراحه تلتهب .. يقول عبد الرحمن بن عوف: (فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي -وكان هو الذي يعذب بلالًا بمكة على الإِسلام- فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قلت: أي بلال، أسيري. قال: لا نجوت إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا) (¬2). ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (ابن كثير 2/ 439) حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف .. وهذا السند صحيح فإبراهيم بن سعد له رؤية وابنه تابعي ثقة فاضل عابد (التقريب 1/ 38، 1/ 286) وشيخ ابن إسحاق ثقة وليس كما توحي ترجمته في التهذيب فجرح ابن حبان لا يضره. (¬2) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (ابن كثير 2/ 439) حدثني عبد الواحد بن أبى عون عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف .. وهذا السند صحيح فإبراهيم بن سعد له رؤية وابنه تابعي ثقة فاضل عابد (التقريب 1/ 38، 1/ 286) =

(فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية بن خلف، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه، ثم أتوا حتى تبعونا، وكان رجلًا ثقيلًا فلما أدركونا قلت له: أبرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي) (¬1) (فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة (¬2)، فأنا أذب عنه، فأخلف رجل بالسيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط، قلت: انج بنفسك ولا نجاء، فوالله ما أغني عنك شيئًا، فهبروهما بأسيافهما حتى فرغوا منهما) (¬3) .. (قتلوه وأصاب أحدهم رجلي بسيفه) (¬4) .. يتذكر عبد الرحمن رضي الله عنه ذلك مبتسمًا ويقول: (يرحم الله بلالًا فجعني بأدراعي وبأسيري) (¬5). وانتهت قصة أمية الطويلة كما تنتهي قصص كثير من أمثاله الذين قضوا حياتهم في التعذيب والتنكيل. بمن يقع بين أيديهم من المؤمنين والضعفاء والمساكين .. ¬

_ = وشيخ ابن إسحاق ثقة وليس كما توحي ترجمته في التهذيب فجرح ابن حبان لا يضره. (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (2301). (¬2) ربما كان يعني البئر الصلبة التي لا تحتاج إلى طي. (¬3) حديث صحيح. جزء من حديث ابن إسحاق السابق. (¬4) حديث صحيح. جزء من حديث ابن إسحاق السابق. (¬5) حديث صحيح. جزء من حديث ابن إسحاق السابق.

انتهت حياته على يد من كان يتفنن في تعذيبه وكان يسلقه تحت شمس مكة المحرقة .. لقد (اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدفون بالحجارة) (¬1). دفنه أمية .. فهل سيدفن أمية بالحجارة .. لم تنته المعركة بعد .. والساحة حبلى بالمشاهد المثيرة .. المثيرة .. فهذا سعد بن أبي وقاص وقد سقط أخوه الصغير عمير شهيدًا ... يقاتل بضراوة وكأنه يقاتل عن اثنين .. كأنه يقاتل عن أخيه الصغير .. يشاهده عبد الله ابن مسعود فيتعجب من شجاعته .. ويقول: (كان سعد يقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر قتال الفارس والراجل) (¬2) .. وفي مكان آخر كان الزبير بن العوام فارسًا يقتحم قلعة من الحديد فتتهاوى بين يديه .. يقول رضي الله عنه: (لقيت يوم بدر عبيد بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش فحملت عليه بالعترة فطعنته في عينه فمات) (¬3). وسقط مع من سقط من الكفار الذين ملأت جثثهم أرض بدر .. ورأى المشركون ما يحدث لقادتهم وأبطالهم .. فجمعوا شظايا عزم ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا في المجلد الأول. (¬2) سنده قوي. رواه البزار (2/ 315) حدثنا محمَّد بن المثنى، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود .. وهذا السند صحيح لولا الانقطاع بين إبراهيم وابن مسعود .. لكن البزار روى الحديث متصلًا. حدثنا إبراهيم بن يوسف الكوفي حدثنا أبو معاوية .. به لكنه جعل علقمة بين إبراهيم وابن مسعود ... وحسب درجة إبراهيم الكوفي في التقريب فإنه صدوق له لين لكن الصواب أنه: ثقة فجرح النسائي غير مفسر انظر التهذيب (1/ 185). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (3998).

أشجع رجل في بدر؟

لديهم .. فشدوا على المسلمين في محاولة يائسة .. محاولة كالانتحار .. وهي في حركتها تشبه كتلة من اللهب تهوي على الأرض فتنطفئ لكنها تؤذي من يتصدى لها .. ومع ذلك كان أشجع الناس يتقدم كالموج يطفئها .. كالموت يخمدها .. وخلفه كان سعد الذي يقاتل كرجلين .. والزبير الذي يهزم الحديد .. وعلي بن أبي طالب بشجاعته المعروفة .. وعمه حمزة الذي فعل بهم الأفاعيل .. وعمر بن الخطاب الذي تهابه كل قريش .. وأبو بكر الصديق درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الذين صنعوا الأحداث والتاريخ .. هؤلاء وغيرهم قاتلوا في ساعة من ساعات بدر خلف ذلك الشجاع فمن هو: أشجع رجلٍ في بدر؟ إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأحد الذين كانوا يلوذون بشجاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أحد الذين كانوا يلوذون بسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا بنفسه فيقول: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا) (¬1) و (لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أشد الناس بأسًا) (¬2). وأمام هذا البأس تساقط المشركون من اليأس .. وتفتت آخر حلم وثني على أرض بدر .. وعلى سماء بدر أيضًا .. فجيش محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ليس على الأرض فقط .. بل وفي السماء له جيش .. أحد الذين كانوا يقاتلون ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه ابن أبي شيبة (7/ 354) وانظر ما بعده. (¬2) حديث صحيح. رواه أحمد (1/ 126) والبيهقيُّ (3/ 69) واللفظ ... وسنده وسند ما قبله هو: إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه .. وهو سند صحيح مر معنا كثيرًا.

المؤمنين .. أحد الذين أصابهم اليأس والإحباط رأى بين السماء والأرض شيئًا كالبساط .. شيئًا قادمًا لمحمدٍ ولأصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. فماذا رأى جبير بن مطعم .. وما هو أثره على قومه .. يقول جبير: (رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء مثل النمل الأسود، فلم أشكك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم) (¬1) الكافرين الذين تطايروا من جديد كالشظايا هربًا من الموت القاسي الذي يمتطي نواضح يثرب بعد أن أطلقه - صلى الله عليه وسلم - في وجوه المشركين .. أطلق شباب الإِسلام حماسًا يفتك بأوصال الوثنية .. حماسًا أوقده - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: (من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا، فسارع في ذلك شبان الرجال وبقي الشيوخ تحت الرايات) (¬2). وبين بريق الانتصار وبرق التسابق نحو رقاب الطغاة كان هناك من يسابق الشباب نحو تلك الرقاب .. هذا أحد شباب الإِسلام .. واسمه الحارث ويكنونه بأبي واقد الليثي .. يشتد مسرعًا نحو أحد الطغاة فيشاهد العجب .. العجب يقول رضي الله عنه: (إني لأتبع رجلًا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله) (¬3) .. ¬

_ (¬1) سنده قوى. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 61): حدثني أبي عن جبير بن مطعم ... وهذا السند قوى والد ابن إسحاق ثقة وقد روى عن معاوية ومعاوية توفي بعد جبير بن مطعم رضي الله عنهما. (¬2) حديث صحيح. وصححه الإمام الألباني في صحيح أبى داود (2/ 522). (¬3) سنده حسن. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 56) حدثني والدي إسحاق بن يسار حدثني رجال من بني مازن عن أبي واقد الليثي .. وهذا السند حسن لأن شيوخ والد ابن إسحاق وهو ثقة جمع ووالد ابن إسحاق يروي عن الصحابة وعن كبار التابعين ... فإن كانوا صحابة فالسند صحيح وإن كانوا من كبار التابعين فيقوي بعضهم بعضًا.

كان أحد الملائكة لا شك .. الملائكة التى تحز الرقاب .. وتلطم الأنوف والوجوه المشركة .. فبين السماء والأرض كان هناك صراخ .. كان هناك حيزوم .. ولا أدري ما هو هذا المخلوق الذي تردد اسمه في الفضاء .. هل هو جواد ذو أجنحة أم أن حيزومًا ملك من الملائكة .. لكنه كان مسرعًا لا شك .. يسابق أحد الفرسان نحو أحد المشركين .. فـ (بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم .. ، إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيًا، فنظرنا إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة) (¬1) ومدد السماء لم يقتصر على حز الرقاب ولطم الأنوف والوجوه وتمريغها في الذل .. مدد السماء كان يفعل شيئًا آخر .. عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. العباس بن عبد المطلب كان قد خرج مع قريش فوقع في الأسر .. وها هو الأنصاري الذي أسره يقتاده نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لكن العباس يصر على أن هذا الأنصاري القصير لم يأسره .. والأنصاري يصر على أنه أسره .. لم يكذب الأنصاري ولم يكذب العباس .. والحقيقة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لقد (جاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد الطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله، والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق ما أراه في القوم .. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم والبيهقيُّ واللفظ له (3/ 52).

اسكت فقد أيدك الله تعالى. بملك كريم) (¬1) .. لا بشيطان رجيم .. لكن يا ترى أين الشيطان الرجيم من هذه الأحداث .. لا شك أنه بين صفوف المشركين يتلقى نصيبه من الهزيمة والذل .. أخبرنا عن ذلك ربنا وهو يقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} (¬2) لقد هرب إبليس .. رآه بعض المشركين وكل الذي أعرفه عنه في تلك المعركة أنه أغواهم ثم تبرأ منهم وفر كفأرٍ جبان من أرض المعركة وهو على صورة ذلك الرجل الذي طارد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطارد أبا بكر في طريق الهجرة إلى المدينة .. لقد كان إبليس في صورة "سراقة بن مالك" (¬3) ولما تهاوت الأجساد من حوله وشخبت الدماء منها خاف أن يلقى المصير الذي لقيته تلك الجثث ففر .. وفر المشركون قبله .. تطايروا كالشظايا في الشعاب والجبال .. وانقشعوا عن أرض بدر .. وانقشع الغبار .. وهدأت الأنفاس .. تأمل - صلى الله عليه وسلم - ذلك المشهد .. وتأمل فرسانه من حوله .. فإذا الساحة صمت حزين ورهيب .. منظر لا يسر .. سبعون ¬

_ (¬1) هو جزء من حديث أحمد عن علي وقد مر معنا وهو صحيح. انظر الفتح الرباني (21/ 30) وسيرة ابن كثير (2/ 422). (¬2) سورة الأنفال: الآيتان 47، 48. (¬3) لم يأت ذلك بسند صحيح لكن هناك روايات متفرقة ضعيفة عن عروة مرسلًا عند ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 386) وعنده أيضًا وعند البيهقي (3/ 52) بسند فيه جهالة وهو متصل، وعند الطبراني بسند ضعيف (2/ 433) وعند البيهقي بسند فيه انقطاع (3/ 78) وعند الطبري (6/ 265) بأسانيد ضعيفة ويصح من مجموع هذه الروايات ذكر إبليس وأنه كان في صورة سراقة.

جسدًا من قريش بلا حراك .. سبعون جسدًا من أبناء العمومة والعشيرة .. بلا أرواح .. ما الذي أوصلهم إلى هذه المأساة .. من هو الذي قادهم إلى هذه النهاية المخيفة .. إلى الهزيمة وإلى جهنم .. ؟ أبو جهل قادهم .. والشيطان أجج الشرك في نفوسهم .. أما يكفيهم ثلاثة عشر عامًا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. من حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحمته وحرصه عليهم .. ؟ نهاية مخيفة تلك التي انتهى إليها أولئك السبعون .. لقد فر أصحابهم وتركوهم للشمس والغبار .. وتركوا مثل هذا العدد بين القيود والحبال .. سبعون أسيرًا يغشاهم الذل وتجللهم الهزيمة .. ها هو الشرير: عقبة بن أبي معيط مأسورًا .. وها هو أبو يزيد واسمه: سهيل بن عمرو مأسورًا أيضًا .. وها هم الصحابة يستجيبون لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيكتفون بأسر العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسر ابن عمه عقيل بن أبي طالب لأنهم خرجوا كارهين لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استطعتم أن تأسروا من بني عبد المطلب فإنهم خرجوا كارهين" (¬1) لكن لماذا لم ينه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أمية بن خلف وقد خرج كارهًا أيضًا .. ؟ السبب لا يحتاج إلى كثير من التفكير .. فأمية بن خلف كان من أشرس الناس على الإِسلام وأتباعه خاصة بلال بن رباح بعكس بني عبد المطلب .. ثم إن أمية لم يكن كارهًا لقتال المسلمين .. إنه يتمنى سحقهم وسحق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .. لكنه كان خائفًا على نفسه لأنه يدرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ولا ولن يكذب .. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 89) بسند حسن من أجل أبي سعيد شيخه وهو حسن الحديث من رجال البخاري (التقريب 1/ 487) قال الحافظ: صدوق ربما أخطأ، ولعل الصواب أنه ثقة ربما أخطأ. انظر التهذيب وقد قال أبو سعيد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي ... وهذا السند صحيح وقد مر معنا.

أين أبو جهل

وقد توعده بالموت وهو يدرك خطورة وعيده - صلى الله عليه وسلم - لذلك اشترى تلك الراحلة ليهرب عندما يلوح الخطر .. لكن الذي لاح لأميه لم يكن الخطر .. إنه شيء أكثر خطورة .. إنه بلال وقد (كان هو الذي يعذب بلالًا في مكة على الإِسلام) (¬1). ثم إن بني عبد المطلب دافعوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وشاركوه في المعاناة في الشُّعب .. لم يشذ عن هؤلاء الكرام إلا شرير يُسمى (أبو لهب) وهو لم يحضر إلى أرض المعركة .. ربما كان مريضًا .. وقد أسر بالاضافة إلى العباس وعقيل زوج حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. زوج ابنته زينب التي كانت كارهة لخروج زوجها .. وخائفة على دينها ونبيها وأبيها - صلى الله عليه وسلم - .. وقد كان من السهل أسر هؤلاء الثلاثة فهم لا يشعرون في أعماقهم بأي دافع لهذه المعركة سوى عنجهية أبي جهل وغطرسته .. أبو جهل!! أين أبو جهل يا ترى؟ إنه ليس بين القتلى ولا بين الأسرى والحبال .. أين أبو جهل ذلك المجرم .. الذي رفض الإِسلام حسدًا لأن النبوة لم تكن في بيته .. أين الطاغوت الذي أخرج قريشا وهي كارهة لترقص حوله وهو يشرب الخمر .. ؟ إنه ليس بين القتلى ولا بين الأسرى .. لذلك (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس في القتلى) (¬2) وقال لأصحابه: (من ينظر ما صنع أبو جهل) (¬3) ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا عند الحديث عن قتل أمية بن خلف. (¬2) حديث صحيح مر معنا عند الحديث عن انقضاض معاذ بن عمرو بن الجموح على أبي جهل. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (3/ 86 - 87).

ماذا فعل ابن مسعود بأبي جهل

(من يعلم ما فعل أبو جهل) (¬1) فتقدم رجل نحيل الجسم .. دقيق الساقين .. كان يرعى الغنم في مكة .. وكان أبو جهل قد استضعفه ذات يوم في مكة فآذاه .. تقدم هذا الرجل النحيل الصالح وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا يا نبي الله) (¬2) فانطلقت تلك الساقان تنفيذًا لإرادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وبعد قليل هدأتا وتهادتا نحو جريح ينزف .. قد طارت ساقه وطار صوابه .. حدق به ابن مسعود فإذا هو أبو جهل (فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل .. قال: وهل فوق رجل قتلتموه أو قتله قومه) (¬3). فقال ابن مسعود: (قد أخزاك الله. فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه) (¬4) أي حقد ينضح من جثة هذا الطاغية .. وأي روح خبيثة تلك التي بين جنبيه .. لقد كان أبو جهل جثّة .. كتلةً متورمة من العناد .. فهل سيتركه ابن مسعود ليخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم ماذا .. ؟ ماذا فعل ابن مسعود بأبي جهل قال رضي الله عنه: (أدركت أبا جهل يوم بدرٍ صريعًا فقلت: أي عدو الله قد أخزاك الله. قال: وبم أخزاني من رجل قتلتموه .. ؟! ومعي سيف لي، فجعلت أضربه ولا يحيك فيه شيء، ومعه سيف له جيد فضربت يده، فوقع السيف من يده، فأخذته، ثم كشفت المغفر عن رأسه فضربت عنقه، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: الله الذي لا إله إلا ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (3/ 86 - 87). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (3/ 86). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (3/ 86). (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (3/ 87).

هو .. قلت: الله الذي لا إله إلا هو -حتى حلفني ثلاثًا-[قال: انطلق فاستثبت، فانطلقت فأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرته] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فانطلق فأرني. فانطلقت معه فأريته، فلما وقف عليه - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا فرعون هذه الأمة) (¬1) رأسه هنا .. ورجله هناك .. وباقيه في مكان آخر. أبو جهل الذي جمع الشرك كله .. ورفض الحكمة كلها .. أبو جهل الذي وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم مجرد لقمة .. مجرد أكلة جزور .. أبو جهل الذي اتهم عقلاء قومه بالجبن يسقط على أرض بدر دون أن يمس أحدًا من المسلمين بأذى .. دون أن يشفي غليله ولو بضربة واحدة .. أما سيف أبي جهل الثمين فلم تصدر منه سوى ضربة واحدة متجهة نحو صاحبها .. نحو أبي جهل .. هلاك أبي جهل مروع .. والتاريخ يكتب للطغاة بحبر المضطهدين .. لكنهم لا يقرأون .. ولا يفيد من التاريخ سوى العقلاء .. مات أبو جهل بسيفه .. والذين مزقوه شباب صغار .. والذي أجهز عليه أحد الضعفاء الذين أخافهم وأذلهم في شوارع مكة ¬

_ (¬1) سنده قوي. رواه الطبراني (9/ 83) حدثنا الحسن بن إسحاق التستري حدثنا أبو المعافى محمَّد بن وهب بن أبي كريمة الحراني حدثنا محمَّد بن أبي تملة عن أبي عبد الرحيم عن زيد ابن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود .. وهذا السند قوي لولا محمَّد بن أبي تملة فلم أجد له من ترجمة. والصواب محمَّد بن سلمة الحراني ابن أخت عبد الرحيم الحراني فهو من تلاميذ خاله ومن شيوخ محمَّد بن وهب بن أبي كريمة الحراني. انظر التهذيب (9/ 506) (9/ 193 - 194) وهؤلاء ثقات كلهم، وعمرو بن ميمون مخضرم ثقة مشهور، التقريب (2/ 80) أما شيخ الطبراني فهو حافظ جليل. انظر سير أعلام النبلاء (14/ 57) وللحديث شواهد كثيرة منها شواهد عند الطبراني (9/ 81 - 82 - 83) وفيها انقطاع بين أبي عبيدة ووالده ... ومنها حديث سنده قوي عند البزار.

وأزقتها .. بل وفي بيت الله الحرام .. ترى هل يتذكر ابن مسعود وهو يقضي على أبي جهل ذلك اليوم الذي كان فيه خائفًا وهو في جوار الكعبة الآمنة ينظر إلى حبيبه ويتمزق حرقة لكنه لا يستطيع فعل شيء؟ فـ (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحابٌ له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور (بني فلان) فيأخذه فيضعه على كتِفَي محمَّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل إلى بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجأت وهي جويرية، فطرحت عنه ثم أقبلت عليهم تسبهم. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا .. دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم عليك بقريش .. اللَّهم عليك بقريش .. اللَّهم عليك بقريش .. فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته. ثم قال: اللَّهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط" (¬1) سقط هؤلاءكلهم .. كلهم إلا عقبة بن أبي معيط؟! فأين هو .. ؟ هذا المجرم لا يزال حيًا .. إنه بين الأسرى ولا أدري ماذا سيفعل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكنه يتعذب الآن بمنظر شركائه في الإجرام وقد بدأوا ينتنون وينتن شركهم .. وقد تحققت دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه مسلم كتاب الجهاد والسير، والبيهقيُّ (2/ 280) واللفظ له .. وما بين القوسين داخل الحديث من صحيح مسلم.

(استقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فدعا على نفر من قريش فيهم أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط. قال ابن مسعود: فأقسم بالله لقد رأيتهم صرعى على بدر، قد غيرتهم الشمس وكان يومًا حارًا) (¬1) وفي اليوم الحار تنتن الجثث سريعًا .. إذًا فلا بد من دفن تلك الجثث ولو كانت جثث كفار .. فالإِسلام دين صحة ونظافة .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأمته: (أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها عليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه على رقابكم) (¬2) لذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - أن تقذف تلك الجنائز في بئر خبيث كان موجودًا على أرض بدر .. فـ (نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث) (¬3) .. يعج برائحة الموت ونتن الشرك .. و (لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتلى أن يطرحوا في القليب، طرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا ليخرجوه فتزايل لحمه فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة) (¬4) ... هلك أمية بن خلف .. لم يحفر له قبر كبقية الناس .. تفسخ لحمه فتركوه ودفنوه بالحجارة بعد أن قتله بلال .. يال انتقام الجبار لبلال .. أيتذكر بلال وهو يرى عدوه مدفونًا بالحجارة .. أيتذكر تلك الأيام العصيبة عندما كان أمية ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ (2/ 335). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري. (¬4) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 449) حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة قالت: ... وهذا السند صحيح. يزيد بن رومان تابعي صغير ثقة وهو أحد موالي آل الزبير (التقريب 2/ 364) وشيخه لا يسأل عنه.

ثمانية عشر شهيدا

يدفنه بالحجارة في مثل هذه الأيام الحارة .. وتحت هذه الشمس المحرقة؟ لقد كان بلال حتى آخر لحظات الرق مدفونًا بالحجارة .. يقول أحد الذين أدركوا تلك الأحداث: (اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدفون بالحجارة) (¬1) وها هو أمية: الطاغوت الذي دفن بلالًا .. ها هو يدفن بالحجارة أمام عيني بلال المسكين .. سبحانك ما أعظمك .. إنها دعوة المضطهدين والمظلومين .. وقبل أن يتخلص الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تلك الجثث تهادى إلى شهداء الإِسلام .. شهداء بدر فكم كان عددهم: ثمانية عشر شهيدًا دفنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وتحدث عنهم ابن مسعود بحديث كالماء البارد فقال: (إن الثمانية عشر الذين قتلوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر تسرح في الجنة، قال: فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: يا عبادي .. ماذا تشتهون؟ قالوا: يا ربنا ما فوق هذا شيء .. قال فيقول: عبادي ماذا تشتهون؟ فيقولون في الرابعة: ترد أرواحنا في أجسادنا فنقتل كما قتلنا) (¬2) إنهم يبحثون عن الموت من جديد .. يريدون فعل شيء ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا في المجلد الأول. (¬2) سنده صحيح. رواه الطبراني (10/ 249): حدثنا سليمان بن الحسن العطار أبو أيوب حدثنا محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي: أخبرني الحسن بن واقد عن الأعمش عن شقيق أن ابن مسعود حدثه أن الثمانية: وهذا السند صحيح: شقيق بن سلمة أدرك الجاهلية والإِسلام التهذيب (4/ 361) وسمع منه التابعي الثقة الأعمش، قال الأعمش: قال لي أبو وائل: يا سليمان لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد ... وقال =

يجعلهم يستحقون كل ما حولهم .. ويستحقون ما هم فيه من الرفاهية والدهشة التي لا يمكن وصفها .. وماذا يساوي ألم الموت أمام عوالم السعادة والابتهاج والخلود .. ماذا يساوي الموت و (الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم مس القرصة) (¬1). دفن - صلى الله عليه وسلم - شهداء بدر بثيابهم ودمائهم .. وبشرهم .. وبشر أمثالهم فيما بعد فقال: (أنا شهيد على هؤلاء, لفوهم في دمائهم، فإنه ليس جريح يجرح في الله إلا جاء وجرحه يوم القيامة يدمي، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك) (¬2) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان, ويزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع ¬

_ = الأعمش عن إبراهيم: عليك بشقيق، فلا تضر عنعنة الأعمش، لا سيما وهما كوفيان، وتلميذه أي الحسن ثقة (التقريب 1/ 180) وعلي بن الحسن وولده ثقتان (التقريب 2/ 34 - 2/ 192) وشيخ الطبراني ثقة. انظر (سؤالات السهمي كما عزاه الشيخ عبد القدوس نذير في مجمع البحرين 6/ 147). (¬1) حديث صحيح. انظر صحيح الجامع (1/ 696). (¬2) سنده حسن. رواه البيهقي (4/ 11 السنن الكبرى) وابن سعد (3/ 13) واللفظ له: أخبرني خالد بن مخلد، حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري حدثني الزهريّ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه وهذا سندٌ حسنٌ من أجل عبد الرحمن وهو حسن الحديث إذا لم يخالف وهو من رجال مسلم (التقريب 1/ 489) وخالد صدوق وللحديث شاهد عند البخاري وغيره.

قضية الغنائم

الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنسانًا من أهل بيته) (¬1). هذا ما سيفرح به الشهداء من المهاجرين والأنصار ... وما في الجنة أجمل وأبقى .. أما ما سيلقاه قتلى قريش فشيء مخيف ومرعب .. بشرهم به - صلى الله عليه وسلم - .. خاطبهم وهم أكوام محشورون في تلك البئر المقرفة .. ولكن بعد ثلاثة أيام من انقضاء المعركة .. وقد كانت سنته - صلى الله عليه وسلم - إذا انتصر في معركة أن يقيم ثلاثة أيام (¬2) على أرض المعركة بعد انقضائها ثم يعود إلى المدينة .. ربما كان ذلك لتأكيد الانتصار والمحافظة عليه من آية محاولة -ربما- تقوم بها الفلول الخاسرة لتعويض خسارتها .. وفي تلك الأيام الثلاثة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مشغولًا بتركة هذا الانتصار .. مشغولًا بقضايا وهموم تحتاج إلى أكثر من التفكير .. ومن هذه القضايا والهموم. قضية الغنائم فالغنائم بالنسبة للذين حضروا بدرًا لا تعني رصيدًا ماديًا أبدًا .. إنها أكبر من ذلك .. والصحابة مهاجرون وأنصار أكبر من هذا التفكير فالمهاجرون تركوا أموالهم لله .. والأنصار شاطروا إخوانهم وأموالهم ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه الإمام أحمد (4/ 131) عن شيخيه قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام رضي الله عنه ... وهذا السند صحيح لرواية إسماعيل الحمصي عن شيخه بحير وهو حمصي ثقة ثبت .. التقريب (1/ 13) وخالد بن معدان تابعي وثقة عابد من رجال الشيخين (1/ 218 التقريب). (¬2) قال أبو طلحة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال) وهو حديث صحيح رواه البخاري وسيمر معنا.

ودورهم .. لكنها غنائم أول معركة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأول معركة ضد كفار قريش الذين أخرجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأول معركة في الإِسلام .. والمشاركة فيها والحصول على شيء من غنائمها له في النفوس أثر ينام ويصحو مع الإنسان ويظلله في كل مكان يسير ويخطو عليه .. أثر يتطهر معه أهل بدر من كل ذنوبهم .. لست أبالغ فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة) (¬1) ثم إن الصحابة بشر .. يصيبون ويخطئون فيقوم - صلى الله عليه وسلم - بتصحيح أخطائهم .. لتصحح الأمة أخطاءها وتأخذ أحكامها من هذه الأحداث .. وليس هناك أخصب من المعارك للانفعال والتأثر والخطأ .. فماذا حدث من الصحابة وما رأي بعضهم حول الغنائم؟ يقول أحد الصحابة رضي الله عنه وعنهم: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من أتى مكان كذا وكذا، فله كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا فله كذا وكذا، فتسارع إليه الشبان، وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا، فأنزل الله عليه هذه الآية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (¬2) والآية التي نزلت هي قوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (3983). (¬2) سنده صحيح. رواه ابن جرير (6/ 171 - 172) من طرق عدة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس، وداود تابعي صغير وثقة متقن من رجال مسلم (التقريب 1/ 235) وشيخه عكرمة مولى ابن عباس، وتلميذه تابعي عالم وثقة ثبت من رجال البخاري ومسلمٌ وقد مر معنا (التقريب 1/ 30).

مُؤْمِنِينَ} (¬1) ولكي تتضح الرؤية جيدًا دعونا نمشي خلف هذا الشاب الذي يحمل بيديه سيفين .. سيفه وسيف رجل من المشركين .. إنه يتوجه نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. يستأذنه ويرجوه أن يمنحه هذا السيف (فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله نفلنيه .. فقال: ضعه .. ثم قام فقال: يا رسول الله: نفلنيه .. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ضعه .. ثم قام فقال: يا رسول الله نفلنيه .. أُجعل كمن لا غَنَاء له؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ضعه من حيث أخذته) (¬2) هذا الشاب هو سعد بن أبي وقاص حيث يقول: (جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر بسيف فقلت: يا رسول الله .. إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو فهب لي هذا السيف .. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا السيف ليس لي ولا لك، فذهبت وأنا أقول: يعطاه اليوم من لم يبل بلائي، فبينا أنا إذ جاءني الرسول فقال: أجب .. فظننت أنه قد نزل في شيءٍ من كلامي، فجئت، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك، وإن الله قد جعله لي، فهو لك ثم قرأ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}) (¬3) .. إذًا كان السيف ليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا لسعد بن أبي وقاص وكذلك الغنائم .. فلمن كانت الغنائم في الحروب التي خاضها الأنبياء من قبل .. ؟ لقد كانت الغنائم تحرق .. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 1. (¬2) سنده قوي. رواه جرير (1/ 173) والبيهقيُّ في السنن (6/ 191) والحاكم (2/ 132) من طرق عن: سماك بن حرب، سمعت مصعب بن سعد بْنِ أبي وقاص عن أبيه ... وسماك صدوق من رجال مسلم (التقريب 332) وروايته قوية إلا عن عكرمة، وهذه ليست منها، وهو تابعي وسمع من تابعي هو مصعب بن سعد وهو ثقة من رجال الشيخين (التقريب 2/ 251). (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم والبيهقيُّ واللفظ له (6/ 291 من السنن).

إحراق الغنائم

إحراق الغنائم شيء غريب .. فمن هو الذي يحرق الغنائم ولماذا تحرق؟ يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرؤوس غيركم، وكان النبي (¬1) - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار فأكلتها فأنزل الله هذه الآية: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} (¬2). نزلت هذه الآيات فترك المجاهدون اجتهاداتهم لوحي السماء فليس مع الوحي الصريح اجتهاد .. وسلموا الأمر لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وسلمت الغنائم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فوزعها على المهاجرين والأنصار ففرحوا بها .. كانت أول هدايا الله للنبي وأصحابه على أرض معركة .. وكانوا أول أمة تباح لها الغنائم .. فرح سعد بن أبي وقاص بسيفه وبشيء آخر مع سيفه .. أما علي بن أبي طالب فكان نصيبه من الإبل .. حيث يقول رضي الله عنه: (كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ) (¬3) إذًا فعلي رضي الله عنه ¬

_ (¬1) من الأنبياء السابقين. (¬2) حديث صحيح. رواه أبو داود الطيالسي (2/ 19) واللفظ له والبيهقيُّ (6/ 290) عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وهو سند صحيح، والحديث رواه الترمذيُّ وصححه الألباني (3/ 53) ورواه أيضًا ابن حبان (الموارد 402). (¬3) رواه البخاري. كتاب فرض الخمس - باب فرض الخمس، فتح الباري (6/ 241).

قضية الأسرى

حصل على بعيرين بعير من نصيبه من الغنائم .. وبعير من الخمس .. فما هو الخمس الذي تحدث عنه علي بن أبي طالب هنا .. ؟ الإجابة بسيطة .. فقد أمر الله سبحانه بتقسيم غنائم الحرب إلى خمسة أجزاء .. أربعة أجزاء للمجاهدين المشاركين في المعركة .. أما الجزء الخامس فيقسم أيضًا إلى خمسة أجزاء: 1 - جزء لله وللرسول. 2 - جزء لقرابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 3 - جزء ليتامى المسلمين الذين فقدوا آباءهم. 4 - جزء للمساكين المحتاجين من المسلمين. 5 - جزء للمسافرين الذين فقدوا أموالهم أو نفذت أموالهم وليس لديهم ما يسد حاجتهم للمواصلة أو الرجوع إلى ديارهم. وفي ذلك يقول سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1) ويوم الفرقان هو يوم بدر .. انتهى المسلمون من قضية الغنائم وتقسيمها وبقيت قضية أخرى لا تقل عنها .. إنها: قضية الأسرى أما الأسرى فقد نظر إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرة أسف .. ثم نطق بالوفاء كله ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 41.

رأيا لأبي بكر ورأيا لعمر

لأحد رجالات قريش الكرام الذين كانوا مثالًا في احترام النفس واحترام الآخرين .. رجل شهم كأبي طالب .. إنه المطعم بن عدي، ذلك الرجل الذي حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة يومًا من الأيام .. تذكر - صلى الله عليه وسلم - موقف المطعم بن عدي فانطلقت مشاعر الوفاء منه فباح بها وقال: (لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتن لأطلقتهم له) (¬1) لكن المطعم بن عدي تحت الثرى .. ولم ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحي في أمرهم حتى الآن .. فكانت المشورة .. توجه - صلى الله عليه وسلم - نحو أبي بكر وعمر وعلي يستشيرهم: ماذا يفعل بهؤلاء الأسرى .. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم ينزل عليه الوحي لا يستبد برأيه ولا يفرضه على من حوله .. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في أول المعركة: أشيروا علي أيها الناس .. وها هو يتجه بالمشورة في آخر المعركة نحو أبي بكر وعمر وعلي .. فكانت الإجابة: رأيًا لأبي بكر ورأيًا لعمر فبأيهما سيأخذ .. يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (لما أسروا الأسارى، يعني يوم بدر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين أبو بكر وعمر وعلي؟) (¬2) .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (4024). (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم وأبو داود والترمذيُّ وابن جرير في التفسير (6/ 287) واللفظ له .. من طريق عكرمة بن عمار حدثنا أبو زميل، حدثني عبد الله بن عباس وتلميذ عكرمة عند ابن جرير هو الثقة عمر بن يونس اليمامي وتلميذه شيخ ابن جرير أوثق منه وهو محمَّد بن بشار الشهير بـ (بندار). انظر التقريب (2/ 64) و (2/ 147).

وجاء أبو بكر وجاء عمر وجاء علي رضي الله عنهم .. ولما وقفوا أمامه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: (ما ترون في الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو .. ما أرى الذي رأى أبو بكر يا نبي الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم: فتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه .. وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه .. وتمكنني من فلان -نسيب لعمر- فأضرب عنقه. فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت -قال عمر- فلما كان من الغد، جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء، ولقد عُرض علي عذابكم أدق من هذه الشجرة .. -لشجرة قريبة من رسول الله- فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ...} (¬1)) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآية: 67 - 69. (¬2) حديث صحيح. رواه مسلم وأبو داود والترمذيُّ وابن جرير في التفسير (6/ 287) واللفظ له .. من طريق عكرمة بن عمار حدثنا أبو زميل، حدثني عبد الله بن عباس وتلميذ عكرمة عند ابن جرير هو الثقة عمر بن يونس اليمامي وتلميذه شيخ ابن جرير أوثق منه وهو محمَّد بن بشار الشهير بـ (بندار). انظر التقريب (2/ 64) و (2/ 147).

بكى - صلى الله عليه وسلم - وبكى صاحبه من خشية الله .. وتلا على أصحابه عتاب الله له .. لم يخفه عنهم .. ولم يضمر هذه الآيات في نفسه .. بل أعلنها للجميع .. أعلنها لأنها وحي .. وأعلنها لأنه صادق .. ولو لم يكن صادقًا لما كان نبيا .. كانت تلك الآيات تحمل كرامة لعمر وتصويبًا لرأيه .. فهؤلاء الرجال خرجوا لحرب الله ورسوله .. صحيح أن بعضهم كاره والبعض قد استدرج واستفز من قبل أبي جهل .. لكن ألا يستطيع هؤلاء وهؤلاء أن يقولوا: لا؟! تألم - صلى الله عليه وسلم - لما حدث .. لكن الله رحيم بنبيه .. لم يتركه لآلامه ودموعه .. بعث له جبريل مرة أخرى .. يحمل بشرى بالفداء والجنة .. ها هو (جبريل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر فقال: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم أخذتم منهم الفداء واستشهد قابل منكم سبعون .. فنادى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه .. فجاءوا، أو من جاء منهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هذا جبريل يخيركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم واستشهد قابل منكم بعدتهم .. فقالوا: بل نفاديهم فنتقوى به عليهم، ويدخل منا الجنة سبعون، ففادوهم) (¬1). أي يستشهد منا سبعون في السنة القادمة. ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه الترمذيُّ والنسائيُّ وابن ماجه (سيرة ابن كثير 2/ 460) عن عبيدة عن علي ورواه ابن سعد (2/ 22) عن ابن سيرين عن عبيدة مرسلًا وهو كما ترى موصول عند أصحاب السنن المذكورين .. وسنده صحيح وهو: سفيان الثوري عن هشام ابن حسان، عن محمَّد بن سيرين عن عبيدة عن علي وهذا السند كالذهب: عبيدة السلماني تابعي كبير، ومخضرم ثقة ثبت، من رجال الشيخين (التقريب 1/ 547) وتلميذه تابعي ثقة ثبت عابد كبير القدر لا يرى الرواية بالمعنى قال عنه تلميذه الثقة وأثبت الناس عنه هشام بن حسان: حدثني أصدق من أدركته من البشر (التهذيب 9/ 215) وتلميذه ثقة (التقريب 2/ 318) وسفيان ثقة وعلم من أعلام الأمة.

إعدام طاغوت

وهكذا (فادى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسارى بدر، فكان فداء كل واحد منهم أربعة آلاف) (¬1) أي أربعة آلاف درهم .. إعدام طاغوت فقبل أن يطلبوا من أسراهم الفداء أمر - صلى الله عليه وسلم - بإخراج أحد المجرمين من بين الأسرى .. واسم هذا المجرم: عقبة بن أبي معيط .. أمر - صلى الله عليه وسلم - بإخراج عقبة هذا فهو لن يقبل منه فداءً ولا مالًا .. لأنه لا يقل شراسة وإجرامًا عن أبي جهل .. عقبة كان فرعونًا آخر لهذه الأمة .. إنه مجرم .. لقد عزم يومًا على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ليس في الطريق .. وليس في بيته ولا في الصحراء .. لقد قرر عقبة أن يقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وهو آمن مع ربه في بيته الحرام الذي يلقى فيه الرجل قاتل أبيه فلا يتعرض له .. لكن عقبة كان كتلة من الحقد والكفر والإجرام .. سأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: (حدثني بأشر شيء صنعه المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة فلوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذه بمنكبيه فدفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (5/ 206) عن معمر بن قتادة قال: وأخبرني عثمان الجزرى عن مقسم عن ابن عباس قال: وفي هذا السند إرسال قتادة لكن معمر رواه من طريق آخر وهي متصلة وفيها ضعف من أجل عثمان الجزري ففيه ضعف. انظر الجرح والتعديل. وللحديث شاهد -في مقدار الفدية- سيمر معنا بعد قليل عند الحديث عن فداء أحد المشركين واسمه ... وداعة. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري والبيهقيُّ من الطريق نفسه (2/ 274).

وفشلت محاولة عقبة .. أفشلها أسد من أسود الإِسلام .. أحبطها أبو بكر رضي الله عنه .. فانسحب عقبة وهو يضمر شرًا .. فلما خرجت قريش إلى بدر أشرًا وبطرًا خرج عقبة معها لينفس عن أحقاده وشروره .. لعله يحظى برأس محمَّد وصاحبه أبي بكر معًا .. لكنه فشل من جديد .. وها هو علي بن أبي طالب يجتره من بين الأسرى وهو يرتعد خوفًا من الموت فيحاول أن يدفع الموت عنه بكلمة يستدر بها رحمةً .. أي رحمة؟ .. لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتله بكلمة قبل أن يقول السيف كلمته .. حدث ذلك عندما (قام علي بن أبي طالب فقتله صبرًا .. قال: من للصبية يا محمَّد؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: النار) (¬1) عقبة يذكر الصبية لكنه لا يذكر الله ولا الإِسلام وكأن سبب هذه المعركة ثأر قديم أو خلاف في وجهات النظر بين أفراد قبيلة واحدة .. ومع ذلك فيمكن لعقبة أن ينجو من الموت .. وأن ينجو من النار لو أنه اختار الله ورسوله .. لكنه وهو على شفير الموت يرفض ذلك .. لو تشهد لنجا من سيف علي .. لكنه يرفض أن يكون عبدًا لله وحده ويرضى بأن يكون عبدًا لحجر ملقى على ظهر الكعبة هو صنعه بيديه .. بل حاول قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل ذلك الحجر .. فكان لعقبة ما اختار من لهيب السيف والنار .. وقذف عقبة مع أصحابه في تلك القليب النتنة المحشوة عفنًا وكفرًا وجحيمًا .. قذف عقبة باختياره .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يكره أن يسلم عقبة والأسرى جميعًا .. لقد نفذ أمر ربه الذي يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} (¬2) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رحيمًا فلم يكره أن يسلم عقبة ابن أبي معيط .. لم ¬

_ (¬1) هو أخر حديث عبد الرزاق السابق (5/ 206). (¬2) سورة الأنفال: الآية 70.

بقية الأسري في نعيم

يكره أن ينجو من سيف علي .. فدخول عقبة في دار الإيمان يكفل حمايته من السيف .. ومن سيوف المؤمنين جميعًا .. ها هو أحد فرسان بدر .. المقداد بن عمرو .. يبعث برسالة إلى العالم .. من أقصاه إلى أقصاه .. من خلال حوار متحضر جدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قال المقداد لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسول الله .. أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله. أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقتله. فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) (¬1). هذا هو الإِسلام .. وهذا هو خطابه لأتباعه والعالم: لا شأن لكم بالنوايا .. لا شأن لكم .. ولا يعرف ما في القلوب إلا من خلقها .. وقد رفض عقبة هذا الخطاب الجميل .. فغادر إلى الجحيم غير مأسوف عليه .. بقية الأسري في نعيم بقية الأسرى لم يسحبوا إلى قليب .. ولم يُقتادوا إلى معسكرات تجويع وتعذيب .. ولم يؤمروا بالقيام بأعمال شاقة .. فمنذ أغمد الصحابة سيوفهم تحولت الساحة من أنهار دم إلى واحات سلام .. شرب فيها الأسرى وأكلوا وناموا أكثر من الصحابة وأكثر من نبيهم عليه الصلاة ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4019).

والسلام .. شيء لا يصدق لأنه لم يحدث من قبل .. شيء لا يصدق .. أيعقل أن يعامل المسلمون هؤلاء المشركين الذين حملوا السيوف وطردوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - واغتصبوا المال والدار .. أيعقل أن يعاملوا معاملة المسكين .. والطفل اليتيم .. أجل يعقل إذا كان القائد هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وكان الجيش من الصحابة .. ها هم يقدمون طعامًا للأسرى أفضل من طعامهم رغم جوعهم ورغبتهم الملحة فيه .. ليس لأنهم أبناء العمومة والعشيرة .. ولا لطمعهم بفدية أكثر فإن من المشركين من لا يملك إلا سيفه .. السبب ببساطة هو وعد نزل كالمطر من السماء .. فأنبت في قلوب المؤمنين تلك الرياض وتلك الرعاية وذلك الفيض من العطاء .. وحي من الله يقول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (¬1). هذه هي معسكرات الأسر في الإِسلام مهما كان الأسير مجرمًا أو مشركًا أو حتى ملحدًا .. هذا هو مفهوم الحبس في الإِسلام إن كان في الإِسلام حبس .. أسير مشرك خرج لسفك الدماء يخجل من كرم آسره .. وآسر يستحي أن يقدم لأسيره طعامًا أقل من طعامه أو مساويًا له .. يكتفي الصحابة بالتمر والماء .. ويقدمون الخبز واللحم -إن وجد- لأسراهم .. أخلاق زرعها - صلى الله عليه وسلم - في أعماق أصحابه .. أخلاق تعادل درجات من الصلاة والصيام لا يطيقها الإنسان .. بشرهم - صلى الله عليه وسلم - بذلك عندما قال لهم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار) (¬2) .. ومن هو الذي يصلي ليله كله لا يفتر .. ويصوم كل يوم ولا يفطر .. قال ¬

_ (¬1) سورة الإنسان: الآيات 5 - 9. (¬2) حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 334).

لهم - صلى الله عليه وسلم -: (إن أقربكم مني مزلًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا في الدنيا) (¬1) (إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقًا) (¬2) و (من كان سهلًا هينًا لينًا حرمه الله على النار) (¬3) غرس - صلى الله عليه وسلم - تلك الأخلاق عندما قال لهم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة .. والساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) (¬4) و (أنا زعيم ببيت في .. أعلى الجنة لمن حسن خلقه) (¬5). سحابة عطر كان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. بعد أن كانوا قبل قليل عاصفة من السلاح والموت .. سحابةٌ شعر الأسرى تحتها بالارتياح .. شعروا بنسيم الإِسلام البارد يغمرهم ويلطف لفح الصحراء من حولهم .. وانتشى الأنصار من جديد وتوهج كرمهم وحبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإيثار من جديد .. يقول أحد أبنائهم: (إن رجالًا من الأنصار استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إيذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه، فقال: لا والله .. لا تذرون منه درهمًا) (¬6) وطالب رسول الله عمه العباس بالفداء .. بل كان فداء العباس أكثر من فداء غيره .. مكث - صلى الله عليه وسلم - على أرض المعركة ثلاثة أيام كان فيها مشغولًا بأصحابه .. يعالج قضاياهم وجرحاهم ويتلقى الوحي من الله سبحانه في علاجه ذلك .. لم يكن - صلى الله عليه وسلم - مشغولًا. بمن معه فقط بل كان يعيش بقلبه وشعوره مع أحباب لا يراهم حوله .. كان بقلبه وشعوره بين حرات المدينة .. يتذكر ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. صحيح الجامع (1/ 327). (¬2) حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 438). (¬3) حديث صحيح. صحيح الجامع (2/ 1105). (¬4) حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 310). (¬5) حديثٌ حسنٌ. صحيح الجامع (1/ 306). (¬6) حديث صحيح. رواه البخاري (4018).

أصحابه .. وأهله .. وحبيبته التي لا يدري ما فعل المرض بها .. لا يدري أي حالة تعيشها ابنته رقية .. ترى هل تعافت من مرضها أم أن الأوجاع تداعت على شبابها .. تذكر - صلى الله عليه وسلم - المدينة ومن فيها فأرسل ابنه زيد -زيد بن حارثة (¬1) - ليبشر المدينة بنصر الله .. والقضاء على طواغيت قريش .. يبشر بأسر أشرافهم في يوم الإِسلام العظيم .. يوم الفرقان .. وقد كان ابنه أسامة ابن زيد ملازمًا لعثمان ورقية في مرضها .. وكان مع أول من استقبل والده وأخباره .. أسامة يحدثنا عن ذلك فيقول: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف عثمان بن عفان، وأسامة بن زيد على رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيام بدر، فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبشارة، قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فإذا زيد قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأيت الأسارى، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان بسهمه) (¬2) وهذا يعني أن عثمان كان يريد الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بالبقاء لتمريض زوجته رقية .. قال عبد الله بن عمر بن الخطاب إن عثمان بن عفان (كانت تحته ¬

_ (¬1) كان يسمى في ذلك الوقت زيد بن محمَّد. (¬2) سنده حسن. رواه البيهقي (3/ 130) أخبرنا أبو الحسن المقرئ وهو إمام حافظ ناقد. انظر السير للذهبي (17/ 305) وشيخه الحسن الدقاق صحيح السماع من أهل القرآن والصلاح. المصدر السابق (15/ 535) وتاريخ بغداد (7/ 422) وشيخه هو الثقة يوسف ابن يعقوب القاضي. تاريخ بغداد (14/ 310) وشيخه أحد رجال الشيخين: الثقة محمَّد ابن أبي بكر المقدمي. التقريب (2/ 148) وشيخه حسن الحديث فهو صدوق في حفظه شيء. التهذيب (8/ 58) والتقريب (2/ 72) وهو من رجال الستة واسمه عمرو بن عاصم الكلابي وشيخه ومن فوقه أئمة ثقات: حماد عن هشام عن عروة عن أسامة بن زيد. وللحديث شاهد يأتي ص 196.

ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنها مرضت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لك أجر رجل ممّن شهد بدرًا وسهمه) (¬1). لكن أين رقية .. أين حبيبتك يا عثمان .. أين حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته .. ؟ الإجابة حزن على وجه عثمان وعلى وجه أسامة. ماتت رقية ووالدها بعيد عنها .. ماتت قبل أن ترى والدها وتطمئن على سلامته .. دون أن ترى أختها الحزينة زينب .. ها هو الحزن من جديد يخيم على بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فاطمة تبكي وأم كلثوم تبكي حزنًا على رقية .. زهرة تذبل وشباب يختفي أمام عينيهما .. كم لعبوا سويًا .. كم ضحكوا وتراكضوا وتسابقوا إلى حضن خديجة .. كم تواثبوا وتزاحموا ليركبوا على ظهر محمَّد .. ما أحوج فاطمة وأم كلثوم إلى أبيهما .. ما أحوجهما إلى خديجة .. ما أحوجهما إلى أختهما الكبيرة زينب .. ينثران على صدرها شيئًا من الدموع .. فزينب بعيدة هناك .. حزينة هناك .. في مكة لا يعلمان عنها شيئًا ... ولا تعلم عنهم شيئًا .. ماتت رقية قبل أن يصل زيد بالخبر .. فقد (وافق زيد بن الحارثة ابنه أسامة حين سوى التراب على رقية بنت رسول الله، فقيل له: ذاك أبوك حين قدم، قال أسامة فجئت وهو واقف للناس يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، ونبيه ومنبه وأمية بن خلف، فقلت: يا أبت أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بني) (¬2) ويختلط الحزن في أجواء المدينة بالفرح، ويبتهج بقية المهاجرين والأنصار بالخبر الذي لا يصدقه إلا ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (4066). (¬2) حديثٌ حسنٌ. رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 217): حدثني عبد الله بن أبي بكر، وصالح بن أبي أمة عن أبيه .. وهذان طريقان يقوى بعضهما بعضا لأن صالحًا لم يوثقه إلا ابن حبان. ويشهد للحديث حديث أسامة السابق.

مؤمن .. ويخفف النصر من الحزن والدموع المنثورة على رحيل رقية .. ويخيم الليل والوجد على عثمان .. إنه يعود إلى منزله فلا يجد فيه رقية .. كم هو مشتاق إليها .. كم هو وحيد دون رقية .. وكم هو وحيد وقد انقطع نسبه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يا له من ليل حزين لا تبدده إلا الصلاة .. هذا ما يحدث في المدينة أما على أرض المعركة فتتسلل خيوط الفجر إلى سماء بدر .. ويشرق بلالٌ بالأذان .. ويستيقظ من كان نائمًا .. ويصلى الجميع خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. إنه فجر اليوم الثالث بعد انقضاء المعركة .. حيث يأمر - صلى الله عليه وسلم - بالاستعداد للعودة إلى المدينة .. ويطلب تهيئة راحلته .. ويفرغ الجميع مما أمروا به .. وينطلق - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ما توقع الصحابة .. فهذا ليس بطريق المدينة .. إنه يتوقف ويتحدث إلى أقوام بشيء مفزع ومخيف جعل أحد الصحابة يستفسره عن ذلك .. أنس بن مالك يحدثنا عن ذلك المسير وعن ذلك التساؤل فيقول: (فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدت عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفى الركى (¬1) فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم [يا أبا جهل بن هشام .. يا أمية بن خلف .. يا عتبة بن ربيعة .. يا شيبة بن ربيعة .. أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟] يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان .. أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا .. فقال عمر: يا رسول الله .. ما تكلم من أجساد لا أرواح لها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم [ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا (¬2)] (¬3) ولا يقدرون على أن يعودوا فيتوبوا .. مصير أسود رسموه ¬

_ (¬1) حافة البئر. (¬2) أي أنهم يستمعون لقوله - صلى الله عليه وسلم - حقًا أثناء خطابه لهم. (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري عن أنس (3976) وما بين المعقوفين عند مسلم عن أنس.

لأنفسهم .. وجحيم مرعب تسابقوا إليه وهم يحملون أصنامهم .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تركهم وما تسابقوا إليه .. وانعطف براحلته نحو عواطف جياشةٍ تنتظره في طيبة الطيبة .. ليت شعري كيف استقبله أحبابه هناك .. أيهنئون أنفسهم به ويهنئونه بنصر الله .. أم يعزونه في رقية .. ؟ كيف استقبله عثمان هناك .. كيف كانت حالته - صلى الله عليه وسلم - عندما زاحم الحزن فرحًا يزين صدره .. كيف كانت حالته عندما التقت عيناه بعيني فاطمة وعيني أم كلثوم .. وكيف شكتا له الوجد على أختهما الحبيبة .. ؟ هذه الحياة لم تصفُ لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. لم تصفُ لحبيب الله .. فالحزن والمعاناة جزء من حياته .. يفقد ابنته الشابة ويصبر ويحتسب .. ويتوهج بوعد الله فيخفف عن غيره مصيبته ولوعته رغم ما هو فيه .. ويقول لعثمان: (لك أجر رجل شهد بدرًا وسهمه) (¬1) أما حارثة .. ذلك الشاب المكلف بالمراقبة والرصد والذي استشهد هناك في بدر .. فأمه هنا في المدينة تتلقى الركب تسأل عن حبيبها ... فيقع الخبر عليها كالموت .. فيحملها الحزن والسؤال إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .. لقد (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا وهو عند البخاري (4066).

عفراء حزينة تنوح

فقال - صلى الله عليه وسلم -: ويحك .. أَوَهبلت؟ أَوَجنةٌ واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس) (¬1) و (الفردوس ربوة الجنة وأعلاها وأوسطها، ومنها تفجر أنهار الجنة) (¬2). سافر حارثة إلى الفردوس .. وعادت أمه إلى بيتها صابرة محتسبة .. لقد حول الإِسلام الحزن إلى مبعث للسعادة .. واختلطت دموع الحزن بالفرح عند المؤمنين فـ (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) (¬3) .. وعجبًا لهذا النبي ما أرحمه .. إنه يتجاوز أحزانه إلى الآخرين ليخفف عنهم .. ليحثهم على الإبحار مع شهدائهم في أنهار الجنة .. وأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مثله .. يواسون تلك البيوت الحزينة .. كهذا البيت الذي تنوح فيه عفراء رضي الله عنها: عفراء حزينة تنوح عفراء حزينة على صغيريها .. عاد الرجال من القتال .. عادوا بالأسرى والجمال ولم يعودوا بالصغار .. لم يعودوا بعوف ولا بمعوذ .. ولن تراهما عفراء بعد الآن .. ولن تناديهما لقضاء حوائجها بعد اليوم .. لن تبحث عن عروس لعوف أو لأخيه ولن تسعد مع نساء المدينة بزفاف بهيج لهما .. عفراء مشتاقة إلى صغيريها .. يحترق جوفها من الحزن .. وتحمر عيناها من البكاء عليهما .. ولا يدرك وجد الأم إلا الأم .. خيمة حزن ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري - المغازي. (¬2) حديث صحيح. (صحيح الجامع الصغير 2/ 789). (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم (صحيح الجامع 2/ 737).

ماذا قالت سودة

بيت عفراء .. أما بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان غيمةً من المشاعر .. تمتد إلى الجميع .. ها هي سودة وقد سمعت بما حدث لعوف وأخيه تتوجه إلى بيت أمهما .. تواسيها وتعزيها وتخفف أحزانها ببشرى الشهادة .. فصغيراها قد اجتثا فرعون الأمة وعدو الله ورسوله .. وهو أمر يسر أهل السماوات والأرض .. ويُخلد ذكرهما وذكر أمهما .. مكثت سودة رضي الله عنها وقتًا عند عفراء لكن مفاجأةً أخرجتها فعادت إلى بيت زوجها - صلى الله عليه وسلم - متأثرةً بحال تلك الأم الوالهة الجريحة .. وتأثرت كذلك بوقع تلك المفاجأة فتحولت مشاعر سودة إلى كلمات عاتبها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها فـ: ماذا قالت سودة هذه هي القصة كما رواها صحابي اسمه: عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة رضي الله عنهما: (قُدم بالأسارى حين قدم بهم المدينة، وسودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء -وذلك قبل أن يضرب الحجاب- قالت سودة: فوالله إني لعندهم إذ أُتينا فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتي بهم، فرجعت إلى بيتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبلٍ، فوالله ما ملكت حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كرامًا .. فما انتبهت إلا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت: يا سودة أعلى الله ورسوله تحرضين، فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما

ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت) (¬1) .. لقد غمرت سودة أجواءٌ مشحونة بالأحزان والأحداث والمفاجآت .. تتدافع نحوها .. تتهاوى عليها وكأن العالم يتقوض فوق رأسها .. فتنفلت منها تلك الكلمات دون أن تشعر .. موت رقية .. ومناحة عفراء .. وأسير من سادات قريش وكرمائها في حجرتها .. خطيب قريش وحكيمها مجموعة يداه إلى عنقه .. متكوم كالذل في زاوية الحجرة .. منظر يثير الشفقة والرأفة .. وامرأة رقيقة المشاعر زادها الإيمان شفافية تشهد ذلك كله .. لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعنفها .. لم يكفرها بتلك الحروف الشاردة .. كان - صلى الله عليه وسلم - مربيًا. أشعرها دون أن يخدش مشاعرها .. وأعادها دون أن يجرحها .. سألها سؤالًا .. سأل إيمانًا متجذرًا في كل أعماقها .. فأفاقت واعتذرت لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وأفاقت المدينة كلها على وقع الحوافر والخفاف .. الجمال والخيول والأحمال تملأ شوارع المدينة .. والحقد والغيظ يملأ قلوب اليهود والمنافقين .. فقد استجاب الله لرسوله (حين خرج فقال: اللَّهم إنهم عراة فاكسهم .. اللَّهم إنهم جياع فأشبعهم، ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا) (¬2) فرح وعناق في الشوارع وعلى الأبواب وخلف الأبواب .. ورغم هذا الفرح المتدفق في الشوارع والقلوب كان - صلى الله عليه وسلم - مأخوذًا بهموم وهموم .. الدعوة والقيادة ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 22): حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن جده .. وشيخ ابن إسحاق ثقة (التقريب 1/ 405) ويحيى تابعي ثقة (التقريب 2/ 352) وجده صحابيّ. (¬2) حديثٌ حسنٌ مر معنا وقد حسنه الإمام الألباني في صحيح أبي داود (2/ 525).

والأسرى .. وبيته الحزين على رقية .. وعلى زينب البعيدة بين جبال مكة .. يا له من شوق حمله - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجها وابن خالتها أبي العاص بن الربيع .. إنه الآن بين الأسرى ولا أدري في أي حجرة هو .. لكن شوق النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ريحانته زينب يأخذه إلى حيث يقبع أبو العاص ليحدثه في شأن زينب فلا يتركه حتى (أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه) (¬1) ولكن هذا لا يعني أن يعفى زوج ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفداء .. فهو أحد الأسرى ولا فرق بينه وبينهم .. وما طلبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه كان طلبًا شخصيًا لا علاقة له بالحرب .. فزينب هي ابنة خديجة بنت خويلد .. وأبو العاص هو ابن هالة بنت خويلد .. هالة التي كان تحلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أجواء من الذكريات الحبيبة .. فتثير المغيرة في قلب الشابة عائشة رضي الله عنها .. تحدثنا أم المؤمنين عن غيرتها فتقول: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعرف استئذان خديجة .. فارتاع .. فقال: اللَّهم هالة! فغرت) (¬2) .. وسوف ينقذ أبو العاص ويفي بوعده .. فهو رجل كريم حسن الخلق وإلا لما زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنته وريحانته .. غادر - صلى الله عليه وسلم - أبا العاص بن الربيع إلى أصحابه .. وتحدث معهم ذات يوم عن الأسرى .. فجرى الحديث على ذكر أحد شيوخ قريش في الأسر .. فكانت: ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. رواه أبو داود وحسنه الإمام الألباني (2/ 512). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ (سيرة ابن كثير 2/ 134).

المعجزة

المعجزة لقد قيل إن (في الأسرى أبو وداعة بن صبرة السهمي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن له بمكة ابنًا تاجرًا كيسًا ذا مال كأنكم به قد جاءكم في فداء أبيه) (¬1) وابنه هذا اسمه: المطلب بن أبي وداعة .. معجزة ينطق بها - صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى .. لكن ما هو السبب الذي جعل المطلب ينهض مسرعًا نحو المدينة .. دعونا ننتقل إلى أجواء كئيبة بين منازل مكة وجبالها .. حيث أصاب الحجر الذي رأته عاتكة بنت عبد المطلب في منامها كل منزل من منازل قريش .. وشظايا ذلك الحجر الآن نزيف في كل قلب يسكن مكة .. امتلأت البيوت والأخبية بالبكاء والعويل .. وشقت الثياب وارتفع النواح ونثر التراب على الرؤوس .. فأبو سفيان الذي نجا بالقافلة لم ينج من جراح بدر .. فقد أثخنته في أعماقه .. ها هي هند زوجته تنوح وتنوح .. وقد أصيب بما لم يصب به غيرها. التهمت الصحراء والدها عتبة وعمها شيبة وأخاها الوليد .. وهم شجعان العرب، لكن حمزة وعلي وعبيدة رضي الله عنهم كانوا أشجع وأشد بأسًا .. ترى ماذا فعلت هند بثيابها .. وإلى أي مدى ارتفع نشيجها ونواحها .. وهناك أم جميل .. حمالة الحطب المجرمة .. لا بد أنها احترقت بما سمعت .. وزوجة أبي جهل ماذا فعلت عندما أخبرها عكرمة بقصة هلاك والده .. وزوجة أمية بن خلف لا بد أنه قد جن جنونها عندما علمت بتلف زوجها وابنها علي .. أبو لهب هل طار صوابه ودوي انتصار ابن أخيه يطرق المدى والآفاق .. مناخ بائس .. ومكة تكاد تحترق بأنفاس أهلها اليائسين الحانقين .. الذهول تجده في كل زاوية وعلى كل وجه .. ¬

_ (¬1) تخريجه في الحديث التالي فهو جزء منه.

لكن هناك من اختلطت في نفسه مشاعر البهجة بالأسى .. عاتكة بنت عبد المطلب تفرح بتحقق رؤياها وهلاك طواغيتها لكن العباس وعقيلًا قد وقعوا في الأسر. وفي بيت عقبة بن أبي معيط كانت ابنته المحبوسة أم كلثوم لا بد أنها حزنت كثيرًا لموت أبيها مشركًا. .. فإذا تخطينا عدة أبيات ثم توقفنا ودلفنا البيت وجدنا زينب ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والوجوم يلفها .. زوجها أسير ووالدها وأخواتها بعيدون عنها. وبعض أهل مكة يقتلونها بنظراتهم الحاقدة .. لكنها تصبر وتحتسب المرارة والحزن عند الله .. وتسمع عن الفداء فترفع يديها خلف رقبتها وتحل رباط قلادة لها .. وتبحث عن أمين يبعث هذه القلادة إلى والدها لعل هذه القلادة تحرر أسيرها وحبيبها .. أما المطلب بن أبي وداعة والذي تنبأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقدومه إلى المدينة ليفك أسر أبيه .. فها هو يسير نحو مجلس لبعض رجالات قريش الذين ندموا على كثرة النواح والعويل على من التهمتهم الصحراء في بدر .. فماذا قال المطلب في ذلك المجلس .. لقد (كانت قريش ناحت على قتلاها ثم ندمت، وقالوا: لا تنوحوا عليهم، فيبلغ ذلك محمدًا وأصحابه فيشمتوا بكم، ... ، فلما قالت قريش في الفداء ما قالت، قال المطلب: صدقتم والله لئن فعلتم ليثأرن عليكم، ثم انسل في الليل، فقدم المدينة ففدى أباه بأربعة آلاف درهم) (¬1) واصطحبه معه إلى ¬

_ (¬1) إسناده حسن. رواه الطبراني من طريقين: .. وهب بن جرير و ... عبيد بن عقيل قالا: حدثنا جرير بن حازم، حدثنا ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير .. وهذا السند حسن من أجل ابن إسحاق وقد صرح بالسماع من التابعي يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير هو ثقة (التقريب 2/ 350) وأبوه تابعي ثقة كان قاضي مكة =

إطلاق الأسرى دون مقابل

مكة ورأى الصحابة معجزة نبوية أخرى .. وتتابع المشركون يفدون أسراهم بأموالهم، لكن هناك من يحلم بـ: إطلاق الأسرى دون مقابل أحدهم كان يحمل طموحًا أكبر .. فهو يطمح إلى إطلاق جميع الأسرى .. إنه الذي رأى الملائكة على أرض بدر وهو أحد وجهاء قريش: جبير بن مطعم بن عدي .. ابن ذلك الشهم الكريم .. "المطعم بن عدي" .. يمتطي راحلته متجهًا نحو المدينة .. ليجتمع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محاولة منه لإطلاق سراح الأسارى من قومه .. لكنه يقع في الأسر .. لم يأسره أحد من الصحابة .. ولا حتى من قطاع الطرق .. أسره القرآن وهو يمشي بهدوء بمحاذاة جدار مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في سويعات هادئة بعد الغروب .. يقول جبير إنه (جاء في فداء أسارى أهل بدر، قال: فوافقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة المغرب: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} فأخذني من قراءته فكان ذلك أول ما سمعت من أمر الإِسلام) (¬1) (فسمعته وهو يقرأ وقد خرج صوته من المسجد {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} فكأنما صدع قلبي) (¬2) .. ¬

_ = زمن أبيه (التقريب 1/ 392) وجرير بن حازم ثقة إلا في حديثه عن قتادة وهذا ليس منه (التقريب 1/ 127) ووالده أوثق منه (2/ 338). (¬1) حديثٌ حسنٌ من أجل أسامة بن زيد الليثي وهو حسن الحديث إذا لم يخالف ويشهد له ما بعده عند البخاري .. والحديث رواه الطبراني (2/ 117). (¬2) حسن. رواه الطبراني (2/ 117 - 118) من طريقين عن هشيم وعزاه لأبي يعلى وهشيم رواه من طريقين: حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن محمَّد بن جبير عن أبيه .. وأخبرنا إبراهيم بن محمَّد بن جبير عن أبيه عن جده .. وقد صرح هشيم بالسماع من شيخيه، وسفيان ثقة في غير الزهري، فهذه الطريق ضعيفة وأما الطريق الثانية فلم أجد =

(وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) (¬1) فاستجاب جبير بن مطعم لقلبه الذي تعلق هذا الصوت المنساب من المسجد .. فتوقف يستمع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا ¬

_ = ترجمة له لكن هشيمًا ذكر أنه سمعه من الزهريّ ومع ذلك فهو معلول لأن هشيمًا كتب عن الزهريّ فطيرت الريح أوراقه بعد خروجه من عنده فأصبح معلول الحديث إذا روى عن الزهريّ .. وهذان الطريقان يقوي بعضهما البعض بالإضافة إلى حديث البخاري. (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري (4023).

صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)} (¬1). يقول جبير: (فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)}. كاد قلبي أن يطير) (¬2). كان جبير خلف الجدار يشقى بقلبه بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة ينعمون بالقرآن والصلاة .. حتى أتموا صلاتهم .. ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم الصحابة من خلفه وبعد قليل انصرفوا وانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فتوجه إليه جبير بن مطعم .. فاستقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل الوفاء والعرفان مذكرًا إياه بكرم أبيه "المطعم بن عدي" .. قدَّم جبير للنبي - صلى الله عليه وسلم - التماسًا يطلب فيه إطلاق الأسرى من قريش .. لكن إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت مخرسة .. لقد قال له: (لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (¬3) .. فهِمَ جبير بن مطعم إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فانصرف بغير القلب الذي جاء به .. يحمل إيمانًا يصارع كفرًا .. يحمل همَّ عمه الذي قتله حمزة .. ويحمل تقديرًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلالًا بعد أن سمع ما يسر من ثناء على أبيه واحتفاظ بالجميل .. عاد جبير إلى مكة ولم يعد الأسرى .. وما زال أبو العاص بن الربيع بينهم .. وذات يوم يصل إلى المدينة رجل يحمل مالًا ويحمل قلادة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأخذ عليه السلام تلك القلادة .. وتهتز نياط قلبه وهو يقلبها .. وتتعلق عيناه بها ¬

_ (¬1) سورة الطور: الآيات 7 - 37. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (4854). (¬3) حديث صحيح. رواه البخاري (4023).

فتحمله بعيدًا .. بعيدًا حيث خديجة .. حيث زينب وحيث مكة الحبيبة .. فينضح قلبه بالحزن .. ولسانه بالرجاء لأصحابه أن يخففوا أحزانه وأحزان حبيبته .. فيتأثر من حوله بمشهد الحرمان والشوق .. والغربة الذي يحيط بهذا النبي وأهل بيته صلوات الله عليهم جميعًا .. تقول عائشة رضي الله عنها: (لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا .. فقالوا: نعم يا رسول الله .. فأطلقوه وردوا عليها الذي لها) (¬1) وقبل أن ينطلق أبو العاص إلى زينب أكد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيبعث بزينب وذلك بتحديد مكان تلاقي فيه من سيرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمرافقتها في طريق هجرتها .. هذا المكان هو أحد بطون الأودية واسمه (بطن يأجج) وهو قريب من مكة .. ثم توجه أبو العاص إلى مكة .. ولما وصل إلى زينب فرحت به وفرح بها وسلمها قلادتها وحريتها .. فاختارت الله ورسوله وتوجهت إلى (بطن يأجج) أما في المدينة فقد (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار فقال: (كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحبانها حتى تأتياني بها، فخرجا مكانهما وذلك بعد بدر بشهر أو ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 484): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة .. وهذا السند قد مر معنا فيحيى ثقة (التقريب 2/ 350) ووالده أوثق منه (التقريب 1/ 392) وهو تابعي تولى القضاء زمن أبيه والحديث عند أحمد (6/ 276).

ماذا عن بقية الأسرى

شيعة .. فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت جهرة) (¬1) بعد أن سلمها أبو العاص قلادتها وحريتها وأبقى لنفسه الهواجس والحرمان .. ورافقها أخوها زيد وصاحبه إلى أبيها .. إلى المدينة المنورة بالإِسلام .. فرح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فرحت بها فاطمة وفرحت بها أم كلثوم .. لكن وصولها لامس جرحًا في أعماقهن على رقية الراحلة .. الراقدة تحت أطباق الثرى .. ذكرى رقية وما أصابها في سبيل الله من غربة وآلام .. آذاها المشركون في مكة فهاجرت مع عثمان إلى الحبشة ثم عادت إلى مكة ثم هاجرت إلى المدينة .. ولم يطل بقاؤها في المدينة حتى اجتاحتها أوجاع خطفتها وخطفت شبابها .. لقد كان ذلك كله في سبيل الله .. وهذا ما يهون من الحرقة عليها فهي راحلة إلى النعيم الخالد .. هذه هي قصة زينب وأسيرها فـ: ماذا عن بقية الأسرى غادر الأسرى إلى مكة بعد أن دفعوا الفدية ولكن بقي أناس منهم لا يملكون فداءً ولا مالًا .. استخفهم أبو جهل فأطاعوه .. وقد ذهب أبو جهل إلى النار وتركهم بين القيود .. وهناك آخرون رفض أهلهم دفع الفداء .. فماذا سيفعل بهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل سيقتلهم أم سيكون الأسر مصيرهم حتى تجمع لهم قريش مالًا .. لا هذا ولا ذاك .. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) هذه الزيادة هي آخر الحديث السابق وبالسند نفسه عند الطبراني (22/ 28) وأبي داود (2692) وهي زيادة قوية صرح فيها ابن إسحاق بالسماع من شيخه يحيى، وتلميذ ابن إسحاق هو محمَّد بن سلمة الباهلي وهو ثقة من رجال مسلم (التهذيب 9/ 194) وتلميذ ابن سلمة الذي هو شيخ أبي داود هو الثقة الحافظ عبد الله بن محمَّد بن علي بن نفيل (التقريب 1/ 448) وتلميذ النفيلي - شيخ الطبراني هو عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب وهو ثقة كما قال الدارقطني (بلغة القاصي 88).

الخدمة الاجتماعية بدلا من الحبس

أكبر من أن يكلفهم ما لا يطيقون .. والإِسلام ما جاء ليصادر الحريات بل ليدعمها .. ويطلقها في طرقات البناء والإِسلام .. نزل القرآن الكريم يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)} (¬1) كلمات تسقط بذور الخير في قلوب هؤلاء الأَّسرى .. وتجعلهم أصحاب أفق أبعد وتفكير أرقى .. كلمات تقدم المغفرة والجنة .. فمن أراد الإِسلام فلا حاجة لأسره فليعش بين أهل المدينة على الرحب والإيمان والسعة .. أما من يأبى ذلك فلا حاجة للمسلمين في حبس حريته .. أبواب الحرية أمامه مشرعة .. لكن عليه قبل ذلك أن يؤدي. الخدمة الاجتماعية بدلًا من الحبس وبذلك يستفاد منه ومن بقائه بين أظهر المسلمين بدلًا من إرهاق ميزانية الدولة المسلمة الفقيرة بالإنفاق عليهم رغم أن هذا الإنفاق فيه أجر عظيم وعظيم جدًا .. كما قال تعالى في وصف أصحابه أنهم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ..} (¬2) لذلك أمروا بالخدمة الاجتماعية. فما هي الخدمة التي أداها هؤلاء مقابل حريتهم؟ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة) (¬3) وقد حدثت قصة طريفة بين ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: الآية 70. (¬2) سورة الإنسان: الآية 8. (¬3) سنده قوله. رواه أحمد (1/ 247) والحاكم (2/ 140) من طريق شيخ أحمد: علي بن عاصم حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس .. وهذا سند صحيح لولا أخطاء =

أحد هؤلاء الأسارى وبين والد أحد أولئك الأطفال .. عندما (جاء غلام من أولاد الأنصار إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي. قال: الخبيث يطلب بذحل بدر؟ والله لا تأتيه أبدًا) أي يأخذ ثأره مما حدث له في غزوة بدر بضرب ذلك الطفل. وبذلك يؤكد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبدأ العلم وأنه (فريضة على كل مسلم) (¬1) كما يفتح - صلى الله عليه وسلم - باب خدمة المجتمع كبديل للحبس. فتعلم جزء كبير من أبناء الأنصار القراءة والكتابة .. وتفوق المسلمون على عدوهم حربًا وعلمًا .. وعاد بقية الأسرى إلى مكة بعد أن أدوا تلك الوظيفة الاجتماعية .. أصابت الدهشة جزيرة العرب لهذه النتيجة .. وتفاقم الحقد في نفوس اليهود وضاقوا بما جرى .. ولا أدري لماذا كل هذا الحقد والحسد والأمر كوجه الشمس .. إنه النبي الذي جاء ليحررهم من الاضطهاد والطغيان ويخفف عنهم بعض الأحكام التي عوقبوا بها لتمردهم .. لا أدري لماذا كل هذا التبرم والعناد وهم يعرفون أنه {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬2) .. وقد استطاع الأحبار والرهبان بعد موت موسى ورفع عيسى عليهما الصلاة والسلام أن يحذفوا اسم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - من التوراة والإنجيل .. لكنهم لم يتمتعوا ¬

_ = علي بن عاصم فهو صدوق يخطئ (التقريب 2/ 39) وجل من لا يخطئ لكنه يصر .. وهو هنا لم يخطئ فقد تابعه الثقة خالد بن عبد الله الطحان وهو ثقة ثبت من رجال الشيخين (التهذيب 3/ 100). (¬1) حديث صحيح. (صحيح الجامع 2/ 727). (¬2) سورة الأعراف: الآية 157.

بقدر من الذكاء يمكنهم من طمس كل شيء يتعلق بمحمد في التوراة والإنجيل .. لقد كانوا من الغباء بحيث أبقوا على وصف أحداث وأماكن لا يمكن أن تنطبق إلا على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فمثلًا غفلوا عن هذه الكلمات في التوراة (هذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: أقبل الرب من سيناء، وأشرق لهم من جبل ساعير وتجلى من جبل فاران) (¬1) حذف المغفلون اسم محمَّد ونسوا كلمة فاران .. فجبال فاران هي جبال مكة .. وموسى وعيسى وكل أنبياء بني إسرائيل ليس لهم علاقة بجبال فاران أي جبال مكة حسب التوراة والإنجيل. فمن هو النبي الذي أوحى إليه وهو فوق جبال فاران .. كما أوحي إلى موسى بين جبال سيناء .. هل هناك غير محمَّد - صلى الله عليه وسلم -؟! شيء آخر إنه حادث الهجرة .. وحتى غزوة بدر أيضًا كان لهما إشارة في التوراة .. وقد حذف الأحبار اسم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لكنهم نسوا أن الاسم وحده ليس كل شيء فالأحداث مفصلة على محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وحده .. هكذا تقول توراتهم: (وحي على بلاد العرب، في الوعر في بلاد العرب، بيتوا في صحراء العرب يا قوافل الدّدانين، هاتوا ماءً للعطشان يا سكان تيماء استقبلوا الهارب الجائع بالخبز (¬2). هم هاربون من أمام السيوف، ومن أمام القوس المشدودة وويلات الحرب، وهذا ما قاله لي الرب. بعد سنة يفنى كل مجد قيدار (عدنان)، ولا يبقى من أصحاب الأقواس من جبابرة بني (عدنان) قيدار غير القليل) (¬3). ¬

_ (¬1) الكتاب المقدس 875 وانظر محمَّد ... (¬2) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ... وتيماء واحة عربية والدّدانيين شعب عربي. (¬3) الكتاب المقدس، إصحاح إشعيا، 21، ص 875.

هذه هي النبوءة التي غفل عنها الأحبار وتعسف في تأويلها الشراح هل تنطبق على نبي غير محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. من هو الذي جاء بالوحي من جهة بلاد العرب .. من هو الذي هرب وأصحابه من شدة العذاب ولظى السيوف؟ من هو النبي الذي هرب من قومه (بني عدنان) ثم حاربهم بعد عام وأفنى جبابرتهم ولم يبق من جبابرتهم سوى القليل .. ؟ من هو النبي الذي أفنى هيبة قريش وهم بنو عدنان .. بعد سنة من هجرته وهروبه .. ثم إن هناك حقيقة كالشمس تزداد سطوعًا كلما حاول اليهود إخفاءها. هذه الحقيقة هي أن التوراة تخاطب اليهود .. اليهود وحدهم .. وهي تطلب منهم أن يستقبلوا حامل الوحي القادم من بلاد العرب بالترحاب والخبز وأن ينصروه فهو هارب من السيوف المسلولة والأقواس المشدودة .. فلماذا انتقل اليهود من أرض الشام إلى المدينة (يثرب) لماذا تركوا الديار المقدسة الباردة إلى يثرب ذات المناخ الحار والحمى القاتلة .. ؟ السبب بسيط: هو أن التوراة كانت فيها تفاصيل أكثر عن هذا النبي وعن مكان هجرته وعن وقت خروجه .. وإلا فما الذي حشر اليهود وجعلهم يزاحمون العرب في (يثرب) ذات الحمى والجبال الوعرة .. ما الذي جعلهم يتحملون كل هذه المعاناة .. إلا لأنهم كانوا يريدون أن يوافوا الهارب بالخبز ويحطموا به العرب والعالم .. لكن ويا لأسفهم .. هذا الهارب عربي من بي عدنان (قيدار) .. إنها كارثة كيف ينقاد بنو إسرائيل لنبي عربي بعد ذلك التاريخ الحافل بالكتب والوحي .. بعد تلك السلسلة الطويلة من الأنبياء العظام من اليهود .. ؟

كيف ينقاد اليهود المثقفون إلى نبي من هؤلاء العرب الذين تغلب عليهم الأمية وتتغلغل في نفوسهم الوثنية .. كيف يرضى اليهود بنبي عربي من بني إسماعيل .. ؟ إنه ليس يهوديًا .. ليس من بني إسرائيل (يعقوب) لا ولا حتى من بني إسحاق .. أمر صعب وحقيقة مرة يرفضها اليهود .. إنها تعني في نظرهم أن يبقى اليهود وكتبهم وتاريخهم على الأرفف وفي الخزائن لإفساح المجال لهذا الجديد الذي يحمله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. هذه قصة عجيبة تبين لنا سبب قدوم يهود إلى يثرب .. وهي تتفق مع ما ورد قبل قليل في التوراة .. دعونا نستمع إلى رجال تأثروا بالتوراة أكثر مما تأثر بها اليهود أنفسهم .. يقول هؤلاء الرجال: (إن مما دعانا إلى الإِسلام مع رحمة الله تعالى وهداه لنا: أن كنا نسمع من رجل من اليهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكنا كثيرًا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}) (¬1) إذًا فهم في الحقيقة لا ينتظرون ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 1/ 291) فقال: حدثني عاصم بن عمر ابن قتادة عن رجال من قومه قالوا: وعاصم تابعي ثقة عالم بالمغازي وقد سمع من هؤلاء الصحابة. .. (التقريب 1/ 385).

نبيًا يهديهم إلى الحق وينقلهم من الظلمات والشرك إلى التوحيد والنور .. لقد كانوا ينتظرون ملكًا يبيدون به الجيويش ويتحكمون به في العالم .. نبيًا يريدونه من نسل يعقوب وإسحاق لا من أبناء العمومة - أبناء إسماعيل .. وهذا أحد اليهود يتلفظ قبل وفاته بهذه الأمنية .. ويبين لمن حول فراشه وهو يموت سبب قدومه إلى يثرب التي يسميها أرض البؤس والجوع .. تاركًا وراءه أرض الخضرة والخمر والأنهار .. يروي لنا هذه القصة رجل من يهود بني قريظة هداه الله للإسلام .. ويحدث من نقل لنا هذه الرواية فيقول: (هل تدري عمَّ كان إسلام ثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد -وهم نفر من بني هذل إخوة بني قريظة- كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإِسلام؟ قلت: لا. قال: فإن رجلًا من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيِّبان قدم علينا قبل الإِسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلًا قط لا يصلى الخمس أفضل منه. فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيِّبان فاستسق لنا. فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مدين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقى لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقي. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا. ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود .. ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم. قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف

كعب بن الأشرف

خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مُهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه، فلا تُسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري ممّن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه) (¬1) لكن ماذا فعل بنو قريظة بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. لقد ظلوا على يهوديتهم المحرفة ولم يسلم إلا القليل .. القليل منهم .. لكن بعض اليهود لم يكتفوا بالكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. بل حاولوا نقض المصالحة وهدم الجسر الذي شيده - صلى الله عليه وسلم - بعد وصوله للمدينة بين أهلها جميعًا كفارًا ويهودًا ومسلمين .. وكان أحد هؤلاء وأبرزهم يهودي حاقد .. يهودي شرير أطلق لسانه بالشتم والسباب .. ووظف موهبته الشعرية في الهجاء والسخرية من الله ورسوله وكتابه ودينه ومن دولة الإِسلام وأهلها .. ومع ذلك يأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالعفو والصفح والتحمل وعدم فتح جبهة مع هذا الخائن أو ذاك .. صالحهم - صلى الله عليه وسلم - وأمرهم بأن يعيشوا في دولة واحدة متعاونين على أعدائها متناسين ما بينهم من خلاف .. لكنهم خانوا العهد والميثاق .. وتنكروا لحسن الجوار والأخلاق .. وكان رأس الفتنة هذا يسمى: كعب بن الأشرف يحدثنا عنه وعن شعره أعلم الناس بشعره .. شاعر الأنصار كعب بن مالك يتحدث عن كعب بن الأشرف فيقول: (إن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وأهلها أخلاطًا: منهم ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 1/ 294) حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال لي .. وهذا الشيخ صحابيّ وتلميذه تابعي ثقة سبق الحديث عنه في الحديث السابق.

المسلمون الذين تجمعهم دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم المشركون الذين يعبدون الأوثان .. ومنهم اليهود وهم أهل الحلقة والحصون، وهم حلفاء للحيين الأوس والخزرج، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم، وكان الرجل يكون مسلمًا وأبوه مشرك، والرجل يكون مسلمًا وأخوه مشرك، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يؤذونه أشد الأذى، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر والعفو، فقال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}. وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ أن يبعث رهطًا ليقتلوا كعبًا .. فبعث إليه سعد محمَّد بن مسلمة وأبا عبس والحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط) (¬1) فقال - صلى الله عليه وسلم -: (من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمَّد بن مسملة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: فأذن لي رسول الله أن أقول شيئًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: قل) (¬2) أي سمح له ببعض الكلمات التي يمس فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكي يخدع بها ¬

_ (¬1) سنده صحيح. أرسله البيهقي (3/ 197) ووصله أبو داود (3000) ومن طريقه رواه البيهقي: حدثنا محمَّد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم، قال: أخبرنا شعيب عن الزهريّ عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه وكان أحد الثلاثة الذين تيب عليهم والحديث صححه الإِمام الألباني في صحيح أبى داود (3000) فالزهري وعبد الرحمن تابعيان ثقتان وشعيب ثقة ثبت من أثبت الناس في الزهريّ (التهذيب 4/ 351: وتلميذه ثقة ثبت من رجال الشيخين (التقريب 1/ 193) وتلميذه هو الحافظ الجليل والإمام الثقة المشهور (الذهلي). (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ والبيهقى (3/ 195).

كعب بن الأشرف ويتمكن من استدراجه حتى يجهز عليه ويتخلص منه ومن خيانته. وجاءت ساعة التنفيذ فـ (مشى معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله .. اللَّهم أعنهم) (¬1). إذًا فقد (بعث إليه سعدُ؛ محمدَ بن مسلمة وأبا عبس والحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط أتوه عشية، وهو في مجلسهم بالعوالي، فلما رآهم كعب أنكرهم وكاد يذعر منهم، فقال لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءت بنا إلك الحاجة. قال: فليدن إلي بعضكم فليحدثني بها. فدنا إليه بعضهم، فقال: جئناك لنبيعك أدراعًا لنا لنستنفق أثمانها. فقال: والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم، قد نزل بكم هذا الرجل. فواعدهم أن يأتوه عشاءً حين يهدأ عنهم الناس، فجاءوا، فناداه رجل منهم، فقام ليخرج فقالت امرأته: ما طرقوك ساعتهم هذه لشيء مما تحب، فقال: بلى إنهم قد حدثوني حديثهم، فاعتنقه أبو عبس وضربه محمَّد بن مسلمة بالسيف، وطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته) (¬2) فغرق الحاقد بدمائه .. وكان لهذا الغرق تفاصيل أخرى يرويها أحد الأنصار وهو جابر بن عبد الله فيقول: (قام محمَّد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فَأْذَنْ لي يا رسول الله أن أقول شيئًا. قال: قل. فأتاه محمَّد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنَّانا، وإني قد أتيتك ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 200): حدثنى ثور بن زيد الديلى عن عكرمة عن ابن عباس .. وفي هذا السند صرح ابن إسحاق بالسماع من شيخه ثور الديلى وشيخه ثقة من رجال الشيخين. التقريب (1/ 120) وشيخ زيد هو الإمام الثقة تلميذ ابن عباس رحمه الله. (¬2) جزء من حديث أبي داود والبيهقيُّ السابق.

أستسلفك. قال كعب: وأيضًا والله لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين .. فقال كعب: نعم أرهنوني .. قالوا: أي شيء تريد؟ قال: أرهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: أرهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا ولكن نرهنك اللامة (¬1). فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلًا ومعه أبو نائلة -وهو أخو كعب من الرضاعة- فدعاهم إلى الحصين، فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمَّد بن مسلمة وأخي أبو نائلة .. قالت: أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمَّد بن مسلمة ورضيعى أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب .... فقال محمَّد: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فترل إليه متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت اليوم ريحًا أطيب. قال كعب: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب. فقال محمَّد: أتأذن لي أن أشم رأسك؟ قال: نعم فشمه، ثم أشم أصحابه ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم فلما استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه) (¬2) .. وبشروه بالقضاء على هذا اليهودي .. أحد سادات يهود بني النضير .. هذا الحدث لم يكن بسيطًا .. كان أثره عميقًا في نفوس يهود بن النضير بل إنه قد هز أعماق ¬

_ (¬1) أي الدروع أو السلاح. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ والبيهقيُّ (3/ 195 - 196).

وثيقة مكتوبة بين النبي والمسلمين واليهود

المشركين من عبدة الأوثان أتباع الوثني المسمى بـ (عبد الله بن أُبي بن سلول) .. لقد اختفى ذلك اليهودي الشرير و (لما قتلوه فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين، فغدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبحوا فقالوا: إنه طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا فقتل، فذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يقول في أشعاره وينهاهم به، ودعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يكتب بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبينهم وبن المسلمين عامة صحيفة كتبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت العذق الذي كان في دار ابنة الحارث) (¬1). إذًا فقد تحول العهد والميثاق الشفهي إلى: وثيقة مكتوبة بين النبي والمسلمين واليهود وها هو أحد الصحابة يحدثنا بتفاصيل أدق لتلك العملية فيقول: (مشى معهم رسول الله إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله .. اللَّهم أعنهم، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته وهو في ليلة مقمرة، فانطلقوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: أنت امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، قال لها كعب لو دعي الفتى لطعنة أجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم. ¬

_ (¬1) جزء من حديث أبى داود والبيهقيُّ. السابق وهو صحيح.

فخرجوا، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط. ثم مشى ساعةً ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها فأخذ بفودي رأسه ثم قال: اضربوا عدو الله. فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئًا، قال محمَّد بن مسلمة: فذكرت مغولًا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رجله أو في رأسه أصابه بعض سيوفنا، فخرجنا حتى سلكنا على بني أمية بن زيد ثم على بني قريظة ثم على بعاث حتى أسندنا في حرة العريض وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول - صلى الله عليه وسلم - آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جرح صاحبنا، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو خائف على نفسه) (¬1) بعد أن رأوا مصير هذا المتآمر .. لا سيما وهو أحد زعماء يهود بني النضير وساداتهم .. وملأ الخوف نفوس مشركي المدينة أمثال عبد الله بن أبي بن سلول وغيره .. اهتزت حصون اليهود وأوثان المشركين فعقدوا اجتماعًا خائفًا وقصيرًا .. فيدُ الموت أصبحت طويلة تمتد نحو كل خائن .. حتى ولو كان زعيمًا ككعب بن الأشرف فماذا حدث بعد ذلك الاجتماع .. (فزعت ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير) وروى البيهقي أوله (3/ 200) من طريق ابن إسحاق: حدثني ثور بن زيد الديلي عن عكرمة عن ابن عباس .. وقد صرح ابن إسحاق بالسماع من شيخه ... وشيخه ثقة من رجال الشيخين. التقريب (120، 1) وعكرمة تابعى وإمام معروف.

اليهود ومن كان معهم من المشركين، فغدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أصبحوا، فقالوا: إنه طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا فقتل، فذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يقول في أشعاره وينهاهم به، ودعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يكتب بينه وبينهم وبن المسلمين عامة صحيفة كتبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت العذق الذي كان في دار ابنة الحارث) (¬1). وتحول بذلك العهد والميثاق الشفهى إلى وثيقة مكتوبة تحد من خيانة هؤلاء اليهود ومن يتعاون معهم من المشركين أمثال عبد الله بن أُبي بن سلول وغيره من عباد الأوثان .. لقد أفحم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوم كعب بن الأشرف وأتباعه من يهود بني النضير وأذنابهم من المشركين حينما هرولوا يحتجون على اغتيال ذلك الخائن .. لقد أسمعهم - صلى الله عليه وسلم - قصائده التي تنخر في عظام المدينة كلها .. وكانت تلك القصائد تحرض على انفجار حرب أهلية تلون جدران المدينة بالموت والدماء .. تلك القصائد كانت تحرض قريشًا على التحالف مع اليهود ضد هذه الدولة الفتية .. ولا أعرف سببًا واحدًا يجعل كعبًا وغيره يقدمون على إثارة الفتن والدماء .. لقد عاملهم - صلى الله عليه وسلم - بكل لطف واحترام .. وجاء من أجل إنقاذهم من الكفر والشرك .. كان - صلى الله عليه وسلم - حليمًا حكيمًا في التصرف معهم رغم إساءاتم المتكررة له ولدينه ولأصحابه .. لقد سكت اليهود، عندما سمعوا تلك القصائد وكان في سكوتهم إدانة لهم .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشملهم بالعقاب إنما دعاهم إلى كتابة وثيقة عهد وصلح بينهم يأمن بعضهم شر بعض على أساسها .. ويُلزم كل طرف بعدم التعاون مع أطراف خارجية ضد أحد أطراف تلك الوثيقة ولو بالشعر فالشعر آنذاك هو الإعلام .. وافق بنو النضير على ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا وقد رواه أبو داود والبيهقيُّ (3/ 198).

أعلن يهود النضير وقريظة الحرب

ذلك .. لكن دماء الحقد المتجمدة الآن في عروق كعب بن الأشرف لا تزال حارةً متدفقة في شرايين بني النضير وغيرهم .. لم يمر سوى زمن يسير حتى: أعلن يهود النضير وقريظة الحرب يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (إن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم) (¬1) لكن ما هي: قصة إجلاء بني النضير وكيف خانوا وحاربوا، وكيف تصرف رسول - صلى الله عليه وسلم - معهم ومع خيانة بني قريظة عندما نقضوا تلك الصحيفة التي أجمع عليها يهود المدينة كلهم .. ؟ يحدثنا أحد أصحاب النبي فيقول رضي الله عنه: (إن كفار قريش كتبوا إلى عبد الله بن أُبي بن سلول ومن كان يعبد الأوثان من الأوس والخزرج -ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ بالمدينة- قبل وقعة "بدر" يقولون: إنكم آويتم صاحبنا، وإنكم أكثر أهل المدينة عددًا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنستعن عليكم العرب، ثم لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك ابن أبي ومن معه من عبدة الأوثان تراسلوا فاجتمعوا، وأرسلوا وأجمعوا لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقيهم في جماعة فقال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ والبيهقيُّ (3/ 183).

لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت لتكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، فأنتم هؤلاء تريدون أن تقتلوا أبناءكم وإخوانكم، فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، وكانت وقعة "بدر" فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا, ولا يحول بيننا وبن خدم نساءكم شىء -هو الخلاخل- فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعت بنو النضير على الغدر، فأرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك، ولنخرج في ثلاثين حبرًا حتى نلتقي في مكان كذا، نصف بيننا وبينكم فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبرًا من يهود، حتى إذا برزوا في براز (¬1) من الأرض قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلًا من أصحابه، كلهم يحب أن يموت قبله، فأرسلوا إليه: كيف تفهم ونفهم ونحن ستون رجلًا؟ أخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا، فليسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة نفر من أصحابه. واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى بني أخيها -وهو رجل مسلم من الأنصار- فأخبرته خبر ما أرادت بنو النضير من الغدر برسول - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أخوها سريعًا، حتى أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فسارَّه بخبرهم قبل أن يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان من الغد غدا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب، فحاصرهم وقال لهم: ¬

_ (¬1) في مكان مرتفع.

إنكم لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه، فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم، وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحلقة -والحلقة: السلاح- فجاءت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت إبل من أمتعهم وأبواب بيوتهم وخشبها، فكانوا يخربون بيوتهم، فيهدمونها فيحملون ما وافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام، وكان بنو النضير من سبط من أسباط بني إسرائيل لم يصبهم جلاء منذ كتب الله على بني إسرائيل الجلاء، فلذلك أجلاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما كتب الله عليهم من الجلاء لعذبهم في الدنيا كما عذبت بنو قريظة، فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} وكان نخل بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة فأعطاه الله إياها وخصه بها فقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} يقول: بغير قتال، فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم -

أكثرها للمهاجرين وقسمها بينهم ولرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة، لم يقسم لرجل من الأنصار غيرهما) (¬1). هذه هي قصة يهود بني النضير .. قدموا إلى المدينة بحثًا عن النبي المنتظر فلما بعث هذا النبي وجدوه عربيًا وليس من بني إسرائيل .. كرهوه .. وعاهدوه على مضض ولما حانت لهم الفرصة خانوه ونقضوا كل عهودهم ومواثيقهم معه فعاقبهم الله بالشتات فاستأنفوا رحلة الضياع من جديد بعد أن حاصرهم المسلمون .. فصاروا يخربون بيوتم غيظًا وحسدًا حتى لا يستفيد منها المسلمون .. من بعدهم .. لكن الغيظ القاتل جلل اليهود. ورافقهم عندما وجدوا المسلمين أنفسهم يخربون تلك البيوت ولا يكترثون .. فالمسلمون لم يحاصرا بني النضير من أجل بيوتهم وأموالهم .. بل لأنهم خونة .. وإذا كان اليهود يرون في تلك البيوت ثروة للمسلمين فالمسلمون لا يريدون تلك الثروة ولا يقبلون بقاء الخونة بينهم أو في جوارهم .. بل لقد أقدم المسلمون على تصرف يحرقون به آثار اليهود .. يخبرنا عن ذلك (أحد الصحابة رضي الله عنه في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ¬

_ (¬1) صحح إسناده الإِمام الألباني في كتابه. صحيح سنن أبي داود (2/ 582) حديث (3004) فقد قال: صحيح الإسناد .. وليس كما قال حفظه الله .. فإسناده عند أبي داود: حدثنا محمَّد بن داود بن سفيان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهريّ عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وهذا الإسناد ضعيف لأن شيخ أبي داود مجهول الحال وهذه هى ترجمته في التهذيب (9/ 154): روى عن عبد الرزاق ويحيى بن حسان، وعنه أبو داود ثم إنه أخطأ في سند هذا الحديث فقد ذكر أن شيخ الزهريّ هو عبد الرحمن بن كعب والذي عند عبد الرزاق (5/ 357) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك .. وهذا الراوي قال عنه الحافظ: فيه نظر (التعجيل 227) أما عبد الرحمن فثقة مع احتمال الانقلاب في الاسم ولمزيد من التفصيل راجع موسوعة السيرة.

قال: يستنزلونهم من حصونهم، وأمروا بقطع النخل فحاك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضًا، تركنا بعضًا، فلنسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ}) (¬1) أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله .. هذا هو الإِسلام .. وهؤلاء هم المسلمون .. وهذه هي التربية الإِسلامية التي لا تنحصر بين أروقة المساجد وجدران البيوت .. تربية تنتشر في كل اتجاه وتصاحب المؤمن في كل مكان وتحت أي ظرف .. في أوج الحروب وبين بريق السيوف والدماء يتوقف المسلمون ليسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صحة تصرفهم مع سحوق أو فسيلة نخل .. الإِسلام يربي أصحابه في التعامل مع كل شيء حتى مع جذوع النخل بعد أن أرشدهم إلى التعامل مع جذوع الخيانة وجذورها اليهودية. غادر اليهود من بني النضير إلى الشام .. إلى غير رجعة .. غادروا يبحثون عن نبي غير عربي يأتيهم حسب رغباتهم ويأتيهم بما يرغبون .. وبقي منهم في المدينة من اختار الله ورسوله ودخل في الإِسلام مكرمًا بين حفاوة المؤمنين .. غادر اليهود فهدأت المدينة .. وعاد إليها المؤمنون بنصر جديد وفرح جديد .. وعاد عثمان إلى بيته فعاد الحنين إلى رقية .. شعر - صلى الله عليه وسلم - بشوق عثمان وحزنه .. لا بد أنه شعر .. ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكتفي بالشعور لمواساة المحتاجين إلى المواساة .. إنه يشع كالحب في المكان والإنسان .. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (تفسير ابن كثير- سورة الحشر): أخبرنا الحسن بن محمَّد بن عفان، حدثنا حفص بن غياث حدثنا حبيب بن أبي عمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .. وسعيد ابن جبير تابعى مجاهد وثقة معروف وحبيب وحفص بن غياث ثقتان من رجال الشيخين، التقريب (1/ 150 - 189) أما الحسن بن محمَّد بن عفان فالصواب هو: الحسن بن محمَّد عن عفان لأنه لا يوجد شيخ للنسائي بهذا الاسم .. وعفان ثقة وهو من شيوخ الحسن بن محمَّد الزعفراني والحسن هذا ثقة من شيوخ النسائي. انظر التهذيب (7/ 230، 2/ 318 - 415).

ها هو يواسي عثمان .. وها هو يواسي عمر وعليًا أيضًا .. يجعل منهم نسيجًا وأوشاجًا بارعة الجمال .. تعال معي إلى البداية .. إلى بيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم .. فقد كان لعمر بن الخطاب ابنة سماها حفصة .. زوَّجها من أحد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنهم وكان اسم هذا الصحابي: (خنيس بن حذافة السهمى) وكان أحد المهاجرين إلى الله ورسوله .. لم يعش خنيس مع حفصة طويلًا لقد توفي في المدينة رضي الله عنه .. وبعد فترة من الزمن حدثت هذه القصة التي يرويها عبد الله بن عمر يحدث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تأيمت حفصة (¬1) بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمى وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي بالمدينة فقال عمر: أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة بنت عمر فقلت: إن شئت أنكحتك. فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر. فصمت أبو بكر فلم يرجع إلى شيئًا، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ قال عمر: نعم. قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلتها) (¬2). ¬

_ (¬1) يعني مات زوجها. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (5122) والبيهقيُّ (3/ 158) واللفظ له.

أبو بكر وعمر وعلي يريدون فاطمة

فرح عمر. بمصاهرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفازت حفصة بنبي الأمة عليه السلام وقبل عمر اعتذار أبي بكر .. أما عثمان بن عفان فعذره لا يحتاج إلى بيان .. وحزنه يملأ حياته .. لكن الله ورسوله أرحم بقلب عثمان من أن تذهب به الهموم أبعد من هذا .. لقد زوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ابنته أم كلثوم رضي الله عنها .. فعاد النبض والحياة إلى النسب بين عثمان وبيت النبوة الكريم .. ابتهج عثمان وابتهجت أم كلثوم وابتهجت المدينة بهذا العرس الجميل .. فشع في صدر أبي بكر طمع مباح وطموح كالأماني .. رغب أبو بكر بقرب أكثر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت عيناه وقلبه باتجاه آخر أمل في ذلك .. إما فاطمة بنت محمَّد - صلى الله عليه وسلم - خير نساء العالمين وريحانة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصغر بناته .. ولم يكن أبو بكر وحيدًا في حلمه كان هناك من ينافسه فمن سيفوز بفاطمة من بين هؤلاء الأفذاذ. أبو بكر وعمر وعلي يريدون فاطمة تقدم أبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاطبًا فاطمة .. لم يرده النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه اعتذر منه بأسلوب نبوي مدهش وكذلك فعل عمر .. فاعتذر - صلى الله عليه وسلم - بالأسلوب نفسه فماذا قال - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه وصهريه .. الإجابة عند أحد الصحابة رضي الله عنه واسمه: بريدة حيث يقول: (خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها صغيرة) (¬1) إنه اعتذار مؤدب .. لم يكذب - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: إنها صغيرة .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح. رواه النسائي (6/ 62) حدثنا الحسين بن حريث، حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه: وعبد الله تابعي وثقة معروف وتلميذه الحسين ثقة من رجال مسلم (التقريب 1/ 180) والفضل ثقة ثبت من رجال البخاري ومسلمٌ (التقريب 2/ 111) وشيخ النسائي ثقة من رجال الشيخين (التقريب 1/ 175).

ففاطمة صغيرة حقًا لكن ليس على الزواج .. فعائشة بنت أبي بكر الصديق أصغر منها بسنوات وهي الآن زوجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكبر وأسن من أبي بكر ومن عمر أيضًا .. إذًا فالأمر غير ذلك .. ثم إن أبا بكر وعمر هما أفضل الأمة .. وهما أفضل من عثمان رضي الله عنه ومع ذلك اعتذر لهما وزوج عثمان ابنتيه: رقية وأم كلثوم بل إن ابنته الكبرى زينب متزوجة من رجل مشرك حتى الآن (¬1) وهو أبو العاص بن الربيع .. إذًا فالأمر لله من قبل ومن بعد .. انصرف أبو بكر وانصرف عمر رضي الله عنهما وقد رضيا بما رضيه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وتسربت أخبارهما إلى مسامع امرأة فأقلقها ما سمعت فهبت مسرعة إلى سيدها تحرضه وتحرضه على الزواج من سيدة نساء العالم .. ماذا فعل هذا السيد وماذا قال عندما سمع الخبر .. يحدثن بنفسه عن ذلك فيقول: (خُطبت فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت لي مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: لا. قالت: فقد خطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيزوجك. فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم زوجك، فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). لكن لماذا كل هذا التردد في خطبة فاطمة والقلب ميال إليها .. أسباب كثيرة جعلت علي بن أبي طالب يتردد في خطبة فاطمة وهي ¬

_ (¬1) أقصد وقت خطبة أبي بكر وعمر لفاطمة رضي الله عنها وعنهم. (¬2) سنده صحيح. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 160): حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن علي وشيخ ابن إسحاق ثقة من رجال الشيخين (التقريب 1/ 456) وهذا ليس من التفسير فهو لم يسمعه من مجاهد أما ما عداه فقد قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: ابن أبي نجيح عن مجاهد أو خصيف؟ قال: ابن أبي نجيح. التهذيب (6/ 54).

هل وقع شجار بين حمزة وعلي

بنت ابن عمه .. لعل أحدها كونه معدمًا لا يملك ما يقدمه مهرًا لهذه الوردة الطاهرة .. وهي التي تستحق الكثير الكثير .. لكن كيف أصبح علي معدمًا وهو يملك شارفين من غنائم بدر .. ؟ لقد ذهب كل شيء .. واختفت الناقتان .. ذهبتا مع الريح والخمر .. وبقي علي وحيدًا يملؤه الهم .. وتفيض عيناه من الحزن .. لقد رأى شيئًا مكدرًا .. رأى ناقتيه قد بقرت بطونها وسال دمهما واقتطعت أسنمتهما وهو لم يرتكب خطأ في حق أحد .. والذي زاد في حزن علي وكدره أن الذي فعل ذلك بمهر فاطمة كان عمه وعمها حمزة بن عبد المطلب .. ذلك الأسد الهصور والفاتك الجسور .. لقد شق بطني الناقتين وقطع سناميها وانتزع كبديهما .. فـ: هل وقع شجار بين حمزة وعلي هذا ما سنعرفه من علي نفسه حيث يقول: (كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاني شارفًا من الخمس يومئذ، فلما أردت أن أبتني بفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعدت رجلًا صواغًا من بني "قينقاع" يرتحل معي، فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين (¬1) فأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي متاعًا من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، وجمعت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد اجتبت أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذت من أكبادهما، فلم أملك عينيَّ حِين رأيت ذلك المنظر منهما، قلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن ¬

_ (¬1) الذين يعملون في صياغة الذهب والفضة.

ألا يا حمزة للشرف النواء

عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شَرْب (¬1) من الأنصار، غنته قينةٌ وأصحابه، فقالت في غنائها: ألا يا حمزة للشرف النواء فقام حمزة بالسيف، فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما، فأخذ من أكبادهما. قال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده زيد بن حارثة، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهي الذي لقيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالك؟ قلت: يا رسول الله، والله ما رأيت كاليوم قط، عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيتٍ معه شَرْب. قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بردائه فارتداه، ثم انطلق يمشي، واتبعته أنا وزيد بن حارثة، حتى جاء الباب الذي فيه حمزة، فاستأذن، فأذنوا له، فإذا هم شرب، فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة محمرةٌ عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم صعد النظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر فنظر إلى سرته، ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه، فقال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ثمل، فنكص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عقبيه القهقري، وخرج وخرجنا معه) (¬2). فلا فائدة من العتاب واللوم إذا لم تذهب الخمرة من رأس شاربها .. فالانسحاب هو أفضل قرار في مثل هذا الظرف .. انسحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن حارثة وانسحب علي وسحب معه حزنًا أفاض عينيه .. إنها الخمر وما زالت حتى اليوم مباحة .. ولعلي مع الخمر قصة أخرى لا تقل فداحة عن هذه .. يحدثنا عنها فيقول: (صنع لنا عبد الرحمن بن عوف ¬

_ (¬1) الشرب: هم الجماعة الذين اجتمعوا على شرب الخمر. (¬2) حديث صحيح. رواه البخاري (4003) ومسلمٌ.

طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني، فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} ونحن نعبد ما تعبدون. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬1) فالصلاة حضور كامل والخمرة غياب كامل .. لذلك بدأ الإِسلام يفتح القلوب والعيون على قوائم الفواجع التي يحدثها ذلك الغياب وترتكبها الخمرة باسم النشوة .. لكن هذه الآية لم تشر إلى تحريم الخمر إنما تنهى عن الصلاة في حالة السكر .. مما جعل عمر بن الخطاب يبتهل إلى الله قائلًا: (اللَّهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا) (¬2) فهناك من يشربها في الأوقات الطويلة التي لا صلاة فيها .. كالوقت بين العشاء والفجر أو بين الفجر والظهر .. لكن أثر الخمرة لم يقتصر على إفساد الصلاة .. إنها تنتهك العقل .. تغيبه فينطلق الإنسان متحررًا من كل قيد .. من كل شيء .. تمحي أمامه الفواصل .. وتنهار في طريقه الأخلاق والآداب .. يذوب الخطأ بالصواب والجريمة بالفضيلة .. الخمرة تنطلق بالإنسان من الإنسان .. تمسخه حيوانًا لا يفكر بشيء ولا يعبأ بشيء .. جسدًا يدوس كل شيء حتى ولو كان هذا الشيء أبًا .. وينتهك كل شيء حتى ولو كان هذا الشيء أمًا .. عمر بن الخطاب يبحث عن بيان شاف .. وعلي بن أبي طالب يبحث عن مهرٍ لفاطمة فهذا المهر قد ضاع .. يبحث عليٌ فلا يجد سوى ما يسد به رمقه .. ويواصل بحثه فلا يجد شيئًا .. لكنه يجد مولاةً له تشعر بتجوال فاطمة بين أضلاعه .. فتقول له: (هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: لا، قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول ¬

_ (¬1) حديث صحيح. صححه الألباني (صحيح الترمذيُّ 3/ 39). (¬2) حديث صحيح. رواه أبو داود وصححه الإِمام الألباني (2/ 699).

الله - صلى الله عليه وسلم - فيزوجك. فقلت: وعندي شيء أتزوج به! فقالت: إنك إذا جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجيني، حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -جلالة وهيبة، فلما قعدت بين يديه أفحمت فوالله ما استطعت أن أتكلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما جاء بك، ألك حاجة؟ فسكت. فقال: ما جاء بك، ألك حاجة؟ فسكت، فقال: لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فقلت: نعم. فقال: وهل عندك من شيء تستحلها به؟ فقلت: لا، والله يا رسول الله. فقال: ما فعلت درع سلحتكها؟ -فوالذي نفس عليٍّ بيده إنها لحطمية ما ثمنها أربعة دراهم- فقلت: عندي. فقال - صلى الله عليه وسلم -: قد زوجتكها فابعث إليها بها فاستحلها به. فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) وريحانة حبيب الله وخير نساء الدنيا والآخرة .. وتغادر الفتاة بيت أبيها إلى بيت ليس فيه شيء سوى الحب وأحلام الشباب .. بيت لو تجولت فيه عيناك لفاضت بدموعٍ كما فاضت عينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى بيتًا شبيها ببيت فاطمة وعلي .. يقول عمر رضي الله عنه: (دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو على حصير، فجلست، فإذا عليه إزار، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرظ (¬2) في ناحيةٍ في الغرفة، وإذا إهاب (¬3) معلق، ¬

_ (¬1) سند قوي. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 160) حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن علي رضي الله عنه، وقد صرح ابن إسحاق بالسماع من شيخه الثقة عبد الله بن أبي نجيح (التقريب 1/ 456) وشيخه هو الإِمام والتابعي الثقة مجاهد بن جبر المخزومي بالولاء. (التقريب 2/ 229) وسماع عبد الله بن مجاهد صحيح في غير التفسير. (¬2) القرظ: شيء يدبغ به الجلد. (¬3) الإهاب: هو الجلد قبل دبغه, قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" رواه مسلم.

فابتدرت عيناي (¬1)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك يا ابن الخطاب؛ فقلت: يا نبي الله، وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار، وأنت نبي الله وصفوته، وهذه خزانتك، قال - صلى الله عليه وسلم -: ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى) (¬2) فالدنيا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سجن المؤمن وجنة الكافر) (¬3) سجن المؤمن عن الجنة .. الدنيا معاناة نحو الجنة .. وجنة عند الكافر إذا أدخل إلى النار يوم القيامة يتمنى الرجوع إليها .. الدنيا سجن المؤمن وإلا لما (كان ضجاع (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدمًا (¬5) حشوة ليف) (¬6) .. الدنيا سجن المؤمن وإلا لما عاشت فاطمة في ذلك البيت المتواضع ومهرها درع بأربعة دراهم .. وبنات كسرى وقيصر بين الوصيفات والخادمات في مروج وقصور مبحرة عبر الأنغام والأوتار .. أما أثاث بيت فاطمة فكان يثير الشفقة .. قدمه - صلى الله عليه وسلم - هدية إلى حبيبيه .. لقد (جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة في خميل، وقربة، ووسادة أدم حشوها إذخر) (¬7) أثاثها رضي الله عنها: كساء من الصوف .. وقربة للماء .. ¬

_ (¬1) سالت الدموع. (¬2) حديثٌ حسنٌ. حسنه الإِمام الألباني في صحيح ابن ماجه (2/ 401). (¬3) حديث صحيح. رواه مسلم وغيره (صحيح الجامع 1/ 641). (¬4) فراش. (¬5) جلد. (¬6) حديث صحيح. صححه الإِمام الألباني في صحيح ابن ماجه (2/ 401). (¬7) سنده قوي. رواه ابن ماجة (4152) بسند ضعيف من أجل عطاء بن السائب رحمه الله وقد اختلط، والراوي عنه هو محمَّد بن فضيل، قال أبو حاتم، وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب (التهذيب 7/ 205) لكنه قد توبع عند البيهقي (3/ 161) تابعة زائدة وقد قال الطبراني رحمه الله: ما رواه عنه المتقدمون فهو صحيح مثل: سفيان وشعبة وزهير وزائدة (التهذيب 7/ 207).

ووسادة من الجلد محشوة بحشيشة الإذخر .. فقر تصعب معه الحياة إلا إذا كان الحب والإيمان عميقًا وفسيحًا كما هو في قلبي فاطمة وعلي رضي الله عنهما .. فرح علي بفاطمة .. وفرحت المدينة بعلي وفاطمة .. وفي مثل هذا الفرح الغامر يقول - صلى الله عليه وسلم -: (أعلنوا النكاح) (¬1) فإعلان الزواج ابتهاج بالجميل .. وابتهاج بالاجتماع والمصاهرة والحلال ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - لأمته: (فصل ما بين الحلال والحرام الدف، والصوت في النكاح) (¬2) .. وها هو - صلى الله عليه وسلم - يستمع إلى الدف والصوت .. أي الغناء في مناسبة كهذه فيعلن الحب لهؤلاء الذين يضربون الدف ويحلف بالله على حبه لهؤلاء الذين يغنون. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحي من بني النجار، وإذا جوار يضربن بالدفوف يقلن: نحن جَوار من بني النجار ... يا حبذا محمَّد من جار فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم الله أن قلبي يحبكم) (¬3) ويقول رضي الله عنه: (أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءً وصبيانًا مقبلين من عرس فقام ممتنًا فقال: اللَّهم أنت من أحب الناس إلي) (¬4) .. وها هو عامر بن سعد بن أبي وقاص وهو ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. (صحيح الجامع 1/ 243). (¬2) حديثٌ حسنٌ. (صحيح سنن النسائي 2/ 709). (¬3) سنده صحيح. رواه البيهقي (2/ 508) وابن ماجة (الصحيح للألباني 1/ 320). (¬4) حديث صحيح. رواه البخاري (5180).

ليس بصحابي يستنكر جلوس اثنين من الصحابة عند الدف والغناء وهما من أهل بدر فماذا قالا له؟ يقول عامر رحمه الله: (دخلت على قريظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أهل بدر، يفعل هذا عندكم؟ فقال: اجلس إن شئت، فاسمع معنا، وإن شئت اذهب، قد رخص لنا في اللهو عند العرس) (¬1) .. وغمرت المدينة فرحة .. وغمرت بيت النبوة التهاني من المهاجرين والأنصار .. وقدم المحبون للمشاركة في أفراح الزهراء .. وتسلسل بين القادمين رجال يبتسمون في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجوه أصحابه .. بينما كانت قلوبهم جامحة مولية .. تكاد تميز -تتقطع- غيظًا كما تهادى سرور إلى قلبه أو بيته - صلى الله عليه وسلم - .. كانت قلوب هؤلاء تتلمظ كالحيات .. أحد هؤلاء المزعجين المخيفين .. رجل يدعى: عبد الله بن أبي بن سلول .. تحت عباءة هذا الرجل يختبئ عشرات المشركين الذين يرون المدينة سجنًا لا يطاق بمحمد وصحبه .. يرون المدينة غريبة دون أصنام دون شرك دون سحر وشعوذة .. وبعد تفكير قرر عبد الله بن أبي بن سلول أن يحمل أقدامه إلى حيث محمَّد ليبايعه وخلفه تثاقل عشرات الحاقدين فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام ومدوا أيديهم المسمومة إلى يده الطاهرة مصافحين معلنين الولاء .. فقد أدرك عبد الله بن أبي ومن معه أنه لا مكان لهم في قلوب الناس ولا بين حرات المدينة وهم على شركهم .. أدركوا ذلك بالتحديد بعد إنتصار المسلمين في بدر .. لذلك ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ. (سنن النسائي 2/ 712).

مولد النفاق

كونوا صفًا من الخفافيش .. تشرك في الظلام وتتظاهر بالإيمان تحت الشمس .. كونوا صفًا خطيرًا عرف فيما بعد باسم المنافقين: مولد النفاق يقول أسامة بن زيد رضي الله عنه: (لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرًا، فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الإِسلام فأسلموا) (¬1) بألسنتهم وخوفًا ممّن حولهم من المؤمنين .. وإلا فهم ما زالوا على كفرهم .. يتمنون القضاء على هذا النبي ومن معه .. وينتظرون يومًا تثأر فيه قريش لصرعاها في بدر .. أو تنفجر يهود أو تثور هذه الجبال المحيطة بالمدينة فتدك هذا الإِسلام وأهله .. ومرت الأيام والمنافقدن ينتظرون شيئًا من هذا أو ذاك .. وفي يوم من الأيام لاح أمل للمنافقين .. وفركوا أيديهم فرحًا بخبر قادم من مكة .. فرح النافقدن بخطر قادم من قريش لعله يجسد أحلامهم .. سننتقل إلى مكة لنعرف ذلك الخبر .. ها هو أبو سفيان بن حرب وقد حصل على زعامة مكة بعد أبي جهل وأمية. ها هو وبعد مشاورات وندوات واجتماعات يقرر الثأر لطواغيت قريش .. ولأصنام قريش .. إنه يحشد الرجال والجمال والأموال .. والنفوس .. وبعد أن توافر له جيش ضخم يفوق جيش الشرك في بدر عزم على التحرك به نحو المدينة للإجهاز على دولة الإِسلام هناك .. فتحركت قلوب المنافقين واليهود فرحًا به. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. رواه البخاري ومسلمٌ.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر بالانتفاع بالخمر

النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر بالانتفاع بالخمر وبيعها بعد تلك الأحداث التي تسببت فيها الخمرة .. وبعد ذلك النكد الذي أحدثته -قام - صلى الله عليه وسلم- على منبره .. يخاطب أصحابه وهو يتوجس أمرًا سيحدث في المستقبل .. يقول أحد الصحابة وهو أبو سعيد الخدريّ: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بالمدينة، قال: يا أيها الناس .. إن الله تعالى يعرض بالخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرًا، فمن كان عنده منها شيء فليبعه، ولينتفع به) (¬1). كان للخمر تأثير على مهر فاطمة .. وكان للخمر تأثير أشد على بيت أنس بن مالك .. لقد فرق بين أمه وأبيه .. بل لقد فرق بين أبيه والمدينة .. فبعد نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬2)، وبعد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك أحس مالك بن النضر والد أنس بضيق الإِسلام ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من الخمر .. وهو مدمن خمر لا يصبر عنها - لم يحرم الإِسلام الخمر حتى الآن .. لكن مالك لا يشعر بالتفاؤل تجاه هذا الموضوع .. ولذلك استدعى زوجته "أم سليم بنت ملحان" وهي أم أنس .. وصارحها بما في نفسه .. وأنه يرفض تحريم الخمر إن حرم .. وأن حبّه للسكر أكثر من حبه لزوجته وابنه الوحيد الصغير أنس .. لكن الله لم يترك أم سليم ولا ابنها .. فالله أرحم بالمؤمنين من أنفسهم .. هذه هى قصة أم سليم مع الخمر وزوجها .. يقصّها ابنها أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (1578) تحريم بيع الخمر. (¬2) سورة النساء: الآية 43.

أبو طلحة ومهر أم سليم الغالي

(قال مالك أبو أنس لامرأته أم سليم -وهي أم أنس-: إن هذا الرجل يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرم الخمر، فانطلق حتى أتى الشام فهلك هناك) (¬1). وبقيت أم سليم وابنها في المدينة صابرين مؤمنين .. حتى علم رجل مشرك من أهل المدينة بما حدث فمال قلبه إلى أم سليم ورغب في الزواج منها .. وكان هذا الرجل يدعى "أبو طلحة" .. فهل لديه قدرة على تقديم أغلى مهر تطلبه امرأة؟ أبو طلحة ومهر أم سليم الغالي يقول أنس رضي الله عنه: (جاء أبو طلحة فخطب أم سليم، فكلمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة .. ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة لا يصلح لي أن أتزوجك، فقال: ما ذاك مهرك؟ قالت: وما مهري؟ قال: الصفراء والبيضاء , قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء .. أريد منك الإِسلام [أتزوجك وأنت تعبد خشبة نجرها عبدي فلان؟] "فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك غيره". قال: فمن لي بذلك؟ قالت: لك بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أبو طلحة يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه- فلمّا رآه قال: جاءكم أبو طلحة غرة الإِسلام بين عينيه. فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك (¬2)، ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أبو داود الطيالسي (2/ 159): حدثنا سليمان بن المغيرة وحماد بن سلمة وجعفر بن سليمان كلهم عن ثابت، عن أنس، وثابت تابعي ثقة سمع مع أنس بن مالك. انظر: التقريب (1/ 115) وللحدبث بقية تأتي فانظر ما بعده. وبعض الحديث عند الشيخين. (¬2) بعد هذه الكلمة قال ثابت البناني -مرت ترجمته في الحديث السابق-: (فما بلغنا أن =

وكانت امرأة مليحة العينن، فيها صغر، فكانت معه حتى ولد له بني، وكان يحبه أبو طلحة حبًا شديدًا، ومرض الصبي "مرضًا شديدًا" وتواضع أبو طلحة لمرضه أو تضعضع له، "فكان أبو طلحة يقوم صلاة الغداة يتوضأ، ويأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي معه، ويكون معه إلى قريب من نصف النهار، ويجيء ويقيل ويأكل، فإذا صلى الظهر تهيّأ وذهب، فلم يجيء إلى صلاة العتمة". فانطلق أبو طلحة عشية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات الصبي، فقالت أم سليم: لا ينعينّ إلى أبي طلحة أحد ابنه حتى أكون أنا الذي أنعاه له، فهيأت الصبي "فسجت عليه" ووضعته "في جانب البيت"، وجاء أبو طلحة من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل عليها، "ومعه ناس من أهل المسجد من أصحابه" (¬1). فقال: كيف ابني؟ فقال: يا أبا طلحة ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة, "وأرجو أن يكون قد استراح"، فأتته بعشائه "فقربته إليهم فتعشوا، وخرج القوم"، "فقام إلى فراشه فوضع رأسه" ثم قامت فتطيبت "وتصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك"، "ثم جاءت حتى دخلت معه الفراش، فما هو إلا أن وجد ريح الطيب كان منه ما يكون من الرجل مع أهله"، "فلما كان آخر الليل" قالت: يا أبا طلحة .. أرأيت لو أن قومًا أعاروا قومًا عارية لهم، فسألوهم إيَّاها، أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا. قالت: فإن الله عَزَّ وَجَلَّ كان أعارك ابنك عارية، ثم قبضه إليه، فاحتسب واصبر. فغضب ثم قال: ¬

_ = مهرًا كان أعظم منه أنها رضيت الإِسلام مهرًا، فتزوجها) وقد فصلت هذه العبارة لأنها من كلامه لا من كلام أنس. (¬1) هم أهل الصفة وهم أهل المسجد .. جاء بهم ليطعمهم.

جبير بن مطعم والهموم

تركتني حتى إذا وقعت بما وقعت به نعيت إليَّ ابني، "فاسترجع وحمد الله"، "فلما أصبح اغتسل"، ثم غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فصلى معه" فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بارك الله لكما في غابر ليلتكما"، فثقلت من ذلك العمل، وكانت أم سليم تسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، تخرج إذا خرج، وتدخل معه إذا دخل، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولدت فأتوني بالصبي، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وهي معه) (¬1). أم سليم الآن بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها زوجها ومعهم رجال كثيرون ونساء أيضًا .. ولكن إلى أين .. المكان الذي يقصدونه ليس ببعيد لكنه خطير جدًا .. وسبب السفر أخطر وله قصة مثيرة .. فهل لديكم وقت للسفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأم سليم وأبي طلحة وأصحابهم رضي الله عنهم. هي بنا .. ولكن قبل ذلك أستأذنكم للّحاق هذا الرجل المهموم بالإيمان والكفر وأشياء ثقيلة تملأ رأسه وقلبه .. إنه جبير بن مطعم والهموم عاد جبير بن مطعم منكسرًا إلى مكة .. يحمل الحسرة والهزيمة .. تاركًا طواغيت قريش في تلك البئر المنتنة .. تاركًا عمه "طعيمة" مجندلًا على أرض بدر تحرقه السوافع .. بعد أن أحرقه حمزة بسيفه الملتهب .. ثم عاد جبير إلى المدينة مرة أخرى يطلب إطلاق الأسرى دون مقابل .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) هو حديث أبى داود الطيالسي السابق وما بين المعقوفين عند البزار بسند صحيح (زوائد- 3/ 246)، والزيادة الأولى للنسائي والزيادة الرابعة لابن سعد (8/ 432) والسادسة والثامنة والثالثة عشر للبخارى ولتفصيل أكثر انظر كتاب الجنائز للشيخ الألباني حفظه الله (24).

حمزة بابا للحرية

أجابه تلك الإجابة العظيمة التي يعترف بها - صلى الله عليه وسلم - بمعروف والده المطعم ابن عدي .. فقال له: (لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (¬1) .. فانكسر جبير بن المطعم بن عدي مرة أخرى .. ومضى إلى مكة كالحيرة بين الاحترام لوالده والاحتراق لعمه .. عاد يحمل إيمانًا يرزح تحت أطنان من العادات والتقاليد والأصنام .. وكان أشدّ هذه الموروثات على نفسه شيطان كالجحيم .. شيطان اسمه: الثأر. حوصر جبير بن مطعم بعد وصوله إلى مكة بالنواح على عمه .. بشقِّ الجيوب ولطم الخدود .. حوصر بالاستفزاز الجاهلي حتى غلى الثأر في رأسه وعروقه .. جمع أبو سفيان الكفر وأهله متجهًا بهم نحو المدينة .. فأحسّ جبير بوخز الثأر .. فنادى عبدًا مملوكًا له اسمه "وحشى" .. وكان أمهر الناس برمي الحربة فهو نادرًا ما يخطئ هدفه .. نادى جبير "وحشيًا" ليفتح له بابًا للعتق من الذل .. ناداه ليخلصه من هذا الرق والحصار الكريه .. ناداه وأغراه بأحلام كل العبيد .. أغراه بـ: حمزة بابًا للحرية يقول وحشي: (كنت غلامًا لجبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أُحُد قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمَّد بعمي فأنت عتيق. فخرجت مع الناس، وكنت رجلًا "حبشيًا" أقذف بالحربة قذف الحبشة قلَّ ما أخطئ بها شيئًا) (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4023). (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق (سيرة ابن كثير-3/ 35): حدثني عبد الله بن الفضل بن عياش بن ربيعة بن الحارث عن سليمان بن يسار, عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن وحشى مباشرة ... وهذا السند صحيح: عبد بن الفضل بن عباس وليس عياشًا كما =

رؤيا النبي (صلى الله عليه وسلم)

خرج وحشي لا يبحث عن شيء سوى الحرية .. لا يبحث سوى عن حمزة .. ليس لديه ثأر مع أحد .. كان يبحث عن ثأر من قيود العبودية والرقّ الذليل التي طوّقته بها قريش .. كان وحشي مشركًا .. لا يفرّق بين الوسائل نحو الحرية .. ولا يهمّه سواها .. حتى ولو خاض في دماء طاهرة كدماء حمزة .. كان جيش الثأر المشرك يسير في اتجاه .. وكان وحشي معهم لكنه يسير في اتجاه آخر .. اتجاه من الأحلام والوعود المخضبة بالدماء .. حتى وصلوا إلى مكان قريب من جبل أُحد حول المدينة .. التي أفاقت على هول الخبر ومفاجأته .. وأفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نومه ورؤياه. رؤيا النبي (صلى الله عليه وسلم) كان - صلى الله عليه وسلم - نائمًا .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) (¬1)، وفي نومه ذلك رأى رؤيا قال عنها: (إني رأيت أني في درع حصينة، فأوّلتها: المدينة، وأني مردف كبشًا فأوّلته كبش الكتيبة، ورأيت أن سيفي ذا الفقار فُلَّ، فأوّلته: فلا فيكم، ورأيت بقرًا تذبح، فبقرٌ والله خير .. فبقرٌ والله خير) (¬2). ¬

_ = جاء عند ابن كثير .. ثقة وتابعى من رجال الشيخين (التقريب-1/ 440) وشيخه أحد الفقهاء السبعة وهو تابعى ثقة (التقريب-1/ 331) وجعفر تابعى أيضًا وثقة أيضًا (التقريب-1/ 131). (¬1) حديث صحيح -صحيح الجامع (12/ 576). (¬2) سنده صحيح رواه أحمد (1/ 271) والبيهقيُّ من طريق ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عبيد الله بن عبد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، وابن أبي الزناد ووالده ثقتان -التقريب (1/ 413 - 4861) وعبيد الله تابعى ثقة فقيه- التقريب (1/ 535).

دعاهم ليستشيرهم

نهض - صلى الله عليه وسلم - من نومه .. وهبّ لجمع أصحابه .. لا ليقرّر .. ولا ليأمر بل: دعاهم ليستشيرهم وبعدما اجتمعوا شاورهم جميعًا دون استثناء .. وكان رأيه - صلى الله عليه وسلم - ورأي بعض الصحابة أن يقاتلوا داخل المدينة .. وقص عليهم - صلى الله عليه وسلم - رؤياه .. لكن أناسًا منهم لم يحضروا غزوة بدر .. غمرهم الحماس وأصرّوا على الخروج لتأديب أولئك الوثنيّين .. لعل أحدهم عمّ أنس بن مالك واسمه أنس بن النضر .. يقول أنس عن عمّه رضي الله عنهما: (عمي أنس -سمّيت به- ولم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، فشقّ عليه، وقال: أول مشهد (¬1) شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبتُ عنه، ولئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أصنع ..) (¬2) قال أنس بن مالك: إن عمه (هاب أن يقول غيرها) (¬3) .. إن رجالًا بهذه المعنويات لا يمكن أن يقنعوا بقتال الشوارع والمدن .. إنهم يريدون ساحات ومساحات يعانقون فيها الخلود .. وينتشون فيها بريق الشهادة والسيوف. لكن الحماس لا يعني الانتصار .. والمعنويات لا تكفي .. فخارج هذه المدينة يربض عدو استعدّ وأعدّ وكشرّ .. عدو حمل كل ما يمكن حمله للانتقام والثأر .. فالبقاء في المدينة أحكم وأسلم عسكريًا في ظلّ عدم الاستعداد والمفاجأة التي لم تكن في الحسبان .. لدرجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدّث أصحابه وهو في ثيابه العادية حتى الآن .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله .. وأبدى رأيه وترك الاختيار لأصحابه رضي ¬

_ (¬1) يقصد رضي الله عنه غزوة بدر. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم وأحمدُ واللفظ له (سيرة ابن كثير- 3/ 62). (¬3) سنده صحيح وهو جزء من حديث أحمد والبيهقيُّ السابق.

الله عنهم .. (فقال له ناسٌ لم يكونوا شهدوا بدرًا: يخرج بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم نقاتلهم - ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. حتى لبس أداته (¬1)، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله .. أقم فالرأي رأيك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه) .. وقبل أن ينطلق - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض المعركة أحب أن يستعرض جيشه الذي تداعى من كل مكان في المدينة متلهفًا .. فأجاز من يستطيع القتال وردّ صغار السن .. هذا أحدهم: البراء بن عازب يقول رضي الله عنه: (عرضت أنا وابن عمر يوم بدر فاستصغرنا وشهدنا أحدًا) (¬2)، لكن ابن عمر أرجع لأنه لم يتجاوز الخامسة عشر. يقول ابن عمر رضي الله عنه: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أُحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه) (¬3) للخروج مع الجيش .. عاد ابن عمر مكسور الخاطر بعد أن ودّع والده الحبيب .. لكنه لم يكن أكثر انكسارًا ولا حماسًا من ذلك الشيخ الكبير الذي يحاصره أبناؤه الأربعة وتحاصره الإعاقة .. إنه: (عمرو بن الجموح .. أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنون "مثل الأُسد يشهدون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد" .. يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا، فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ¬

_ (¬1) أي أداة الحرب. (¬2) سنده حسن، رواه الطبراني (2/ 8) حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثني عمي أبو بكر، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن مطوف، عن أبي إسحاق عن البراء ... وشيخ الطبراني ثقة من أوعية العلم قال عنه الإِمام الألباني: فيه كلام، لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن (الصحيحة- (4/ 156) وشيخه أبو بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف والإمام المعروف، وعبد الله بن إدريس ثقة فقيه عابد - التقريب (1/ 401) ومطوف ثقة فاضل - التقريب (2/ 253) وأبو إسحاق تابعي علم مر معنا كثيرًا. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4097).

يتوجه إلى أُحد "أرادوا حبسه"، قال له بنوه: إن الله عَزَّ وَجَلَّ قد جعل لك رخصة، فلو قعدت فنحن نكفيك، فقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: إن بني هؤلاء "يريدون أن يحبسوني" .. يمنعوني أن أخرج معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد معك، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعلّ الله عَزَّ وَجَلَّ يرزقه الشهادة) (¬1). كان رضي الله عنه يحلم بشوارع الجنّة تلامسها تلك العرجة وتتدلّى من شرفاتها وتخوض في مياهها العذبة .. لذلك توجّه بسؤال ينبض بالشوق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لقد (أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ -وكانت رجله عرجاء- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم) (¬2). إجابة ملأت صدر عمرو بن الجموح بالنهار .. إجابة ألجمت الأسود الأربعة .. فخرجوا كالأشبال حول هذا الشيخ الجسور .. خرجوا دون أن يودعوا أمّهم فاطمة .. فهي ليست في البيت الآن .. لأنها تسير مع رفيق دربها وحبيبها .. أخرجها الشوق إلى الجنّة مثلما أخرج زوجها وأبناءها .. وكان لفاطمة العظيمة هذه أخ اسمه: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري .. وعبد ¬

_ (¬1) رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 246) والزوائد عند ابن كثير: حدثني والدي عن أشياخ من بني سلمة: ووالد ابن إسحاق تابعي ثقة يروي عن الصحابة ولعل هؤلاء منهم -وهو الأرجح- لأنه يروي هذه الصيغة عن الصحابة، وهؤلاء جمع ومن بني سلمة- وهم قوم جابر وعمرو بن الجموح ... وإلا فالسند مرسل ... (¬2) سنده حسن رواه أحمد (5/ 299) وابن أبي شيبة (الإصابة- 7/ 96) .. حدثنا أبو صخر ابن زياد أن يحيى بن النضر حدثه عن أبي قتادة ... وأبو صخر حسن الحديث إذا لم يخالف (التهذيب- 3/ 41) وشيخه تابعي ثقة (التقريب- 2/ 359).

البنات والمعركة

الله هذا صديق حميم لزوجها عمرو بن الجموح .. لكن أحوال عبد الله بن عمرو بن حرام مختلفة عن أحوال صديقه .. كان لعمرو بن الجموح أربعة أبناء يحاولون إبقاءه في بيته .. أما عبد الله فله ولد وحيد اسمه جابر .. وهو يمنعه الآن من الخروج .. إنه يأمره بالبقاء في المدينة .. فظروف بيت عبد الله تستدعي أن يبقى أحد الاثنين .. ولابد للابن من أن يطيع والده .. لكن لماذا لا يخرج الاثنان إلى المعركة كما خرج عمرو وأبناؤه وأمّهم جميعًا .. ؟ دعونا نتوجّه إلى بيت جابر بن عبد الله إنه ليس ببعيد .. ها هو البيت .. بيت جميل بالإيمان والأحلام والفتيات .. بيت يغرق بالمشاعر والدموع والرجال. في عالم بين: البنات والمعركة حديث حزين يدور بين جابر بن عبد الله ووالده الذي يصرّ على الخروج .. فيخاطب رجولة ابنه وبرّه وإيمانه فيقول: (يا جابر .. لا عليك أن تكون في نظاري المدينة حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي) (¬1) .. جابر ووالده لهف على الموت في سبيل الله .. لكن الدموع التي تفيض من العيون البريئة .. وتلك النظرات الخائفة التي تعصف بقلب هذا الشيخ الكبير .. تتعلّق به وتريد الاحتفاظ به .. تتغلغل كالجروح .. تسع فتيات حزينات .. يتساءلن هل سيعود والدنا من المعركة أم أنه الوداع الأخير لهذا الشيخ الحبيب. عناق ونظرات ودموع تحاصر هذا الشيخ .. فيتفطر قلبه ويحسّ بدبيب الموت يسري في عروقه .. ويشعر بخطوات اليتم المخيفة تتجه نحو ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4097).

والد جابر يشرب خمرا قبل المعركة

حبيباته الصغيرات .. اللواتي طالما انتظرنه في البيت وعلى عتبة الباب .. فإذا ما رأينه مقبلًا تراكضن نحوه كالزهرات .. أيهنّ تحظى بقبلة قبل أخواتها .. يتزاحمن على ما يحمله بيديه .. كلهنّ يردن التخفيف عنه ورؤية ما أحضر لهنّ .. كلهنّ يردن خدمته .. طالما أعددن شرابه وطعامه .. وغسلن ثيابه .. وغطّينه وهو نائم .. ولطالما مرّضنه من حمى المدينة القاسية .. تسع زهرات .. كم حملهن على ظهره .. ولاعبهن وضاحكهن وقصّ عليهن .. كم ألححن عليه ليشتري الملابس والحلي .. فيستجيب مهزومًا بالحب .. ذكريات وهموم تثقل الشيخ العطوف وتملأ قلبه .. فتخرج الكلمات منه بصوت متهدّج بالحزن .. ويقول لابنه جابر: (ما أراني إلَّا مقتولًا في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي أعزّ عليّ منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن عليّ دينًا فاقضِ، واستوصِ بأخواتك خيرًا) (¬1). لكن الكلمات لا تطفئ هذه النار المستعرة بين أضلاع هذا الشيخ .. لا تكفي لمقاومة ألم الفراق واليتم القادم .. فيتّجه به الحزن إلى شيء لا يزال حلالًا حتى الآن .. يتجه به الحزن إلى شيء قد ينسيه بعض الحزن .. قد ينسيه ذلك الشوق المنبعث من تلك العيون البريئة التي لا تُنسى. والد جابر يشرب خمرًا قبل المعركة يتجه رضي الله عنه إلى الخمر فيحتسي شيئًا منها علّها تخرجه مما هو فيه .. علّها تسليه حتى تحين ساعة العراك حيث تذوب الخمر ويشتدّ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1351).

الأمر .. ويذهل عبد الله عن كل شيء سوى الشهادة .. يقول جابر رضي الله عنه: (اصطبح -والله - أبي يوم أحد الخمر ثم غدا فقاتل) (¬1)، ولم يكن والد جابر هو الوحيد الذي شرب خمرًا ذلك الصباح .. فلقد (صبح أناس غداة أحد الخمر) (¬2) .. فهل كانت أحزانهم كأحزان عبد الله الذي يغادر بيته وبناته .. ويترك لابنه جابر من الهموم والمسؤوليات الشيء الكثير .. لكن جابرًا أهلٌ لتحمّلها .. لأن الإِسلام جعل من جابر بن عبد الله إحساسًا مرهفًا .. غيمة تهمي حنانًا وربيعًا على أخواته المسكينات .. يقول جابر رضي الله عنه إن والده (ترك عليه دينًا) (¬3) و (ترك تسع بنات كن لي تسع أخوات) (¬4) مسؤولية جسيمة لا تنقضي. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (من عالَ جاريتين حتى يدركا، دخلت أنا وهو الجنّة كهاتين) (¬5)، أي كالأصبعين المتجاورين .. هذا إذا عال الرجل فتاتين .. فكيف إذا كان تحت رعايته تسع بنات .. ؟ كم يحب الإِسلام البنات ويعتني بهن .. ويطالب بحبهنّ والعناية بهنّ .. هنيئًا لجابر .. وهنيئًا له موقعه بين نظاري المدينة الذين يحرسون ثغورها .. ويسهرون حمايةً لها .. بشَّرهم - صلى الله عليه وسلم - وبشَّر غيرهم عندما قال: (عينان لا تصيبهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) (¬6). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 202): حدثني وهب بن كيسان عن جابر، ووهب تابعي ثقة سمع من جابر انظر: التهذيب (11/ 166). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4618). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4052). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4053). (¬5) حديث صحيح: صحيح الجامع (2/ 1092). (¬6) حديث صحيح ... صحيح الجامع (2/ 756).

إنهما من الأوائل

بقي جابر على ثغور المدينة .. وغادر والده عبد الله بصحبة رفيقه عمرو بن الجموح وأبنائه وأخته فاطمة .. غادروا المدينة صاخبة .. مزدحمة بالعناق والدموع .. ها هو حذيفة بن اليمان ووالده "حسيل" اللذان أرغمهما المشركون على أن يقسما ألا يشاركا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر .. ها هما اليوم على أُهبة الاستعداد والإعداد للفتك بالشرك .. لكن الأمر جاء على غير ما يحبّان .. إن حذيفة يودع والده الآن .. لكن الذي سيبقى هذه المرة هو الوالد والذي سيغادر هو حذيفة رضي الله عنهما .. فلقد أمر - صلى الله عليه وسلم - حسيلًا بالبقاء لحراسة المدينة، كما أمر شيخًا آخر بالبقاء مع حسيل .. واسم هذا الشيخ: "ثابت بن وقش"، فبقيا كارهن أن تفوتهما الشهادة. انظروا إلى هذا المنزل العظيم .. ففيه تستعرّ نار الفراق والوجد .. إنه منزل الكريم .. الكريم سعد بن الربيع الذي عرض نصف ماله وإحدى زوجاته على عبد الرحمن بن عوف .. تناثرت الدموع دموع ابنتيه الوحيدتن ودموع زوجته التي بقيت معه .. إن حاله كحال والد جابر .. لقد خرج سعد وخرجنا معه إلى ناحية أخرى .. إنها الناحية التي انزوى فيها صحابيان عن الناس .. ماذا يفعلان؟ إنهما يدعوان .. يبوحان فيبحر الدعاء بهما .. دعونا نبحر معهما إلى جزيرة هذا وجزيرة ذاك .. ولكن قبل ذلك نودّ التعرف إليهما .. إنهما من الأوائل أمّا الأول، فأوّل من رمى بسهم في سبيل الله .. وهو سعد بن أبي وقاص .. أمهر من رمى السهام. وأمّا الآخر .. فأوّل من قاد سرية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولدولة الإِسلام

الجديدة .. إنه عبد الله بن جحش رضي الله عنهما .. ها هو سعد يحدّثنا عما جرى في تلك الناحية .. فيقول: (إن عبد الله بن جحش، قال له يوم أُحد: ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا ربّ إذا لقيت العدو، فلقّني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه .. فأمَّن عبد الله بن جحش ثم قال: اللهمّ ارزقي رجلًا شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: يا عبد فِيمَ جدع أنفك وأذنك؟ من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك. فتقول: صدقت) (¬1). يا لهذه الجزر الحالمة الساحرة .. يا لهذه الأنفس ما أعظمها .. ترى هل سيجيب الله هذه الابتهالات .. ستبوح بالإجابة أرض المعركة .. وجبل عينين وجبل أُحد سيشهدان على ذلك .. لماذا كل هذه الحرقة ¬

_ (¬1) سنده قوي: رواه الحاكم (2/ 86) وأبو نعيم في الحلية (1/ 108) من طرق عن ابن وهب حدثني أبو صخر عن يزيد بن قسيط الليثي عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، وأبو صخر هو حميد بن زياد بن أبي المخارق (التهذيب- 3/ 41) وهو حسن الحديث إذا لم يخالف قال الحافظ: (صدوق يهم) (التقريب- 1/ 202) وشيخه يزيد تابعى ثقة: التقريب (2/ 367) وأما إسحاق ابن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص فهو ثقة .. وثقه الإِمام العجلي في ثقاته توثيقًا لفظيًا فقال: مدني تابعى ثقة (60) ووثقه ابن حبان. وللحديث شاهد عند ابن سعد بسند ضعيف مرسلًا عن سعيد بن المسيب، وعن المطلب ابن حنطب مرسلًا أيضًا (3/ 90 - 91)

على الموت .. كل هذا الاحتفاء والعشق الذي يحرق الأكباد .. إنها الجنّة. وهؤلاء الرجال يحتقرون أعمارهم وأعمالهم وفداءهم إذا ما قارنوها بثوابها عند الله .. إنهم مسافرون إلى الخلود .. فلو ضرب المؤمن سنين عمره في عدد حبات الرمال المنثورة على وجه الأرض لما حصل على عدد يقارب سنين عمره في الجنّة .. فكيف يلام شيوخ كعمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام وحسيل .. كيف يلام هؤلاء الشيب إذا ما نافسوا الشباب على ظهور الخيل والموت وهم يسمعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يدخل أهل الجنةِ الجنةَ جردًا، مردًا، كأنهم مكحلون، أبناء ثلاثٍ وثلاثين) (¬1) (لا يسقمون ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون) (¬2)، قال بعض الصحابة للنبى - صلى الله عليه وسلم -: (فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك) (¬3)، (ينادي منادي: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا) (¬4) فـ (إذا دخل أهل الجنة الجنّة وأهل النارِ النارَ يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنّة والنار، فيقال: يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، فينظرون، ويقولون: نعم .. هذا الموت. وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، فيقولون: نعم .. هذا الموت .. وكلّهم قد رآه، فيؤمر ¬

_ (¬1) حديث صحيح انظر: صحيح الجامع (2/ 341). (¬2) حديث صحيح متفق عليه - المشكاة (3/ 1564). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم - المشكاة (3/ 1564). (¬4) حديث صحيح رواه مسلم - المشكاة (3/ 1564).

به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنّة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت) (¬1). وقد خطف - صلى الله عليه وسلم - أرواحهم وعقولهم وقلوبهم عندما تحدّث عن الجهاد في سبيل الله، فقال: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنّة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا , ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) (¬2)، كل هذا السحر .. كل هذا الجمال .. كل هذه الفتنة لنساء الجنّة من المؤمنات ومن الحور .. فلا عجيب أن نرى ضمن الجيش نساءً خرجن للمشاركة في المعركة .. يداوين الجرحى ويسقين العطشى .. كان في مقدمتهن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجته عائشة بنت أبي بكر الصديق .. وصفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخت حمزة رضي الله عنهم .. وأم سليم بنت ملحان المشهورة بـ (الرميصاء) وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنهما .. وهنّ من الأنصار .. كما شاركت أنصاريات أُخر منهنّ: أم سليط رضي الله عنها وفاطمة (¬3) بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله وعمّة جابر وزوجة عمرو بن الجموح ونساء أخريات من المهاجرين والأنصار .. ولئن استطاع بعض النساء أن يخرجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حروبه فإن هناك من الرجال من لا يقدر على الخروج .. والحرج يحاصرهم بعد نزول هذه الآيات: ¬

_ (¬1) حديث صحيح، صحيح الجامع (1/ 152). (¬2) حديث صحيح: رواه البخاري (المشكاة- 3/ 1562). (¬3) سيأتي ذكرهن أثناء المعركة وبعدها في أحاديث صحيحة إن شاء الله.

{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله}

{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن بدر والخارجون إلى بدر) (¬1)، وكانت الآيات قد نزلت كما يحدثنا أول من سمعها وأوّل من كتبها: زيد بن ثابت رضي الله عنه .. فيقول: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ}، فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي، قال: يا رسول الله .. والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -وفخذه على فخذي- فثقلت عليَّ حتى أن تُرضَّ فخذي، ثم سُرِّي عنه، فأنزل الله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}) (¬2)، فصارت الآية تقرأ هكذا: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ الله الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} (¬3)، لكن ماذا عن أجر القاعدين المعذورين؟ يقول - صلى الله عليه وسلم -: (لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادِ إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؛ قال: حبسهم العذر) (¬4). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4595). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4592). (¬3) سورة النساء: الآية 95. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري وأحمدُ وأبو داود واللفظ له (تفسير ابن كثير- النساء- 95) (2/ 339).

المرابطون

فلم يحبس عنهم الأجر .. فالمسلم ليس بأعماله فقط .. بل بنواياه أيضًا .. وإذا كان ابن أم مكتوم قد حبسه العمى .. فإن هناك رجالًا حبسهم عن الجهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. رغم أنهم لا يشكون من شيء في أجسادهم .. ولا يشكّ - صلى الله عليه وسلم - في إيمانهم .. وإنما حبسهم عليه الصّلاة والسّلام ليكلفهم. بمهمة جهادية داخل المدينة هي الرباط والحفاظ على المدينة من أي عدو .. سواءً كان غدر يهودي أو منافق .. أو كرّ مشرك من خارج المدينة .. المرابطون على الآطام (¬1) والحصون .. هم رجال شجعان أوكل إليهم - صلى الله عليه وسلم - حراسة المدينة والرباط فيها .. وبشّر المرابطين بأجر عظيم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات مرابطًا جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان) (¬2) و (رباط شهر خير من صيام دهر، ومن مات مرابطًا في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغدي عليه برزقه، وريح من الجنّة، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله) (¬3) .. وكان من بين الذين حظوا هذا الأجر والأمر والد حذيفة بن اليمان ذلك الرجل الذي منعه العهد والوعد من مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في معركة بدر .. وصحابي آخر اسمه: ثابت بن وقش بن زعوراء رضي الله عنهما .. فـ (لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُحد وقع اليمان بن جابر -أبو حذيفة- وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان) (¬4). ¬

_ (¬1) الحصون. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (انظر: صحيح الجامع- 655). (¬3) حديث صحيح رواه الطبراني (انظر: صحيح الجامع- 655). (¬4) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 202): حدثني عاصم بن عمر بن =

استعدّ الجميع .. وتأهبوا للخروج إلَّا رجلين .. الأول لا حاجة به إلى الاستعداد .. فهو لا يملك من هذه الدنيا شيئًا يحتاج إلى وداع أو وصية .. فأملاكه كلّها بين يديه وفي صدره .. مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف .. ابن الأم الثرية .. الشاب المنعم أيام شركه .. لا يملك الآن إلَّا سيفه وقرآنًا يملأ صدره ويملأ بيوت المدينة بعد أن سافر في بيوت الأنصار .. وزرع فيها العلم والإيمان .. هذا هو مصعب بن عمير الذي لقبه الأنصار بـ "المعلم" .. أمّا الآخر فهو شاب يتمتّع بأحلى أيام عرسه .. إنه الآن مع عروسه .. يتبادلان عذب الكلام والأحلام .. صفو المشاعر والغرام .. وفجأة يدوي في المدينة داعي الجهاد فينسل حنظلة بن أبي عامر من فراشه ويتحول العاشق إلى محارب يودع عروسه بحرارة المحبِّ الذي لن يعود .. فتهمي دموع حبيبته وتستودعه الله الذي لا تضيع ودائعه .. فهو أغلى ما تملكه .. ويغيب حنظلة عن عينيها .. وتغيب في همومها وأحزانها التي لا تدري متى تنتهي .. أحزانها التي لا يخفّفها سوى الإيمان. خرج - صلى الله عليه وسلم - من المدينة متوجهًا نحو أُحد .. حاملًا سيفه "ذا الفقار" الذي غنمه من غزوة بدر .. ولم يكتف - صلى الله عليه وسلم - بلبس درعه .. بل لبس عليه درعًا آخر .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر يوم أُحد بين درعين -أو لبس درعين-) (¬1). وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يحفظه الله من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله ومن فوقه ومن ¬

_ = قتادة عن محمود بن لبيد، وعاصم تابعي ثقة من علماء المغازي ... ومحمود بن لبيد صحابي رضي الله عنه. (¬1) حديث صحيح انظر: صحيح أبي داود (2/ 491).

تحته يحتاط كل هذا الاحتياط .. فصحابته أولى .. يقول الزبير رضي الله عنه: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر بين درعين يومئذ) (¬1). انطلق - صلى الله عليه وسلم - لملاقاة حشود الشرك المحتقنة .. كانت رايته ترفرف في الهواء (كانت سوداء من نمرة) (¬2) صوف .. أما لواؤه - صلى الله عليه وسلم - فكان لواؤه (أبيض) (¬3) .. كان كل شىء في هذا الجيش يرفرف للجنّة وعوالمها الساحرة. كان الرجال يتجمّلون للشهادة .. إلَّا أشباه رجال خرجوا بأجساد نخرة .. وبمعنويات يجرّونها خلفهم كالذلّ .. رجال يرتجفون من كل شيء حولهم .. يحسبون كل صيحة عليهم .. خوفًا خرجوا .. خوفًا صحبوه - صلى الله عليه وسلم - .. لكن هلعهم تفاقم عندما اقتربوا من الحقيقة -المعركة .. تحركت الخيانة في في دمائهم .. ونهضت كالشيطان تشير بأصبعها إلى الوراء .. تأمرهم بالعودة إلى المدينة وترك محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. فاستجابوا ورجعوا .. صدم الصحابة بما حدث ولم يصدم - صلى الله عليه وسلم - لأنه يعرفهم .. صعق الصحابة بما يجري .. هل هؤلاء مسلمون .. هب أنهم غير مسلمين هل هذا التصرّف- العار من شيم العرب وأخلاق العروبة .. أين الرجولة .. أين النخوة؟ .. هباء .. كل شيء داخل هؤلاء الخونة هباء .. إلَّا الكفر والحقد .. لكن الصحابة لم يسكتوا .. ولم يتحمّلوا هذا الموقف المخزي .. قرّر بعضهم أن ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 238) حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير رضي الله عنه .. يحيى ثقة (التقريب- 2/ 350) ووالده تابعى ثقة - التقريب (1/ 392). (¬2) حديث صحيح انظر: صحيح أبي داود (2/ 491) وقد حذفت لفظًا ضعيفًا من الحديث هو "مربعة". (¬3) المصدر السابق (2/ 491).

يبدأوا بقتال هؤلاء الأنذال الجبناء قبل أن يقاتلوا جيش مكّة المشرك .. لكن البعض فضّل عدم إهدار طاقتهم وتدنيس أيديهم بدمائهم القذرة .. وهذا ما مال إليه - صلى الله عليه وسلم - .. فلا بدّ من التركيز على الخطر الداهم - العاجل .. يقول زيد بن ثابت ملخصًا ما حدث من خيانة: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أُحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم .. وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: {فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ الله وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة) (¬1). شعّت الفضّة ولمعت بعد أن تعرضت لنار الشدائد فانسلخ خبث النفاق عنها .. ورجع الخونة دون أخلاق إلى جحورهم في المدينة كالحيات .. كالعقارب .. وأصبح جيش محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قليلًا .. ضعيفًا إلَّا بالإيمان .. لكن قلّة العدد والخيانة واستعداد العدو خيّم للحظات على بعض الأنصار وهم بنو حارثة وبنو سلمة .. فقد كاد الإحباط والفشل أن يستولي عليهم .. لكن القرآن يفعل المعجزات .. نزل القرآن يغسل ما بهم من هموم وإحباط .. فثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالجبال .. بل لقد صار ذلك الموقف مبعث فخر لهم إلى يوم القيامة .. لقد فرحوا بما نزل من آيات تصف حالهم وتثني عليهم .. هذا أحد أبنائهم يفرح بنزول كلام الله على نبيه فيهم، فيقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4589) ومسلمٌ - المنافقين، وأحمدُ (5/ 184) واللفظ لأحمد والآية عندهم إلى قوله تعالى: {بما كسبوا} وأكملتها للفائدة.

بين عينين وأحد

(فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا}، قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب -وما يسرّني- أنها لم تنزل لقول الله تعالى: {وَاللهُ وَلِيُّهُمَا}) (¬1). إذًا فهم أولياء الله .. وهم بشر .. يتعرّضون لما يتعرض له البشر .. لكن القرآن زاحم ذلك الضعف حتى نفاه .. وذكرهم بنصر لم يتوقعوه .. فدبّ الحماس في عروقهم وأرواحهم .. يقول سبحانه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). صفت النفوس من الضعف .. وتخلّص الجيش من معظم الخونة .. وتوجّه الجميع إلى منطقة: بين عينين وأُحد وعينين جبل .. وأُحد جبل آخر وبينهما وادٍ (¬3) .. وصل الجيش المؤمن، فتوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وتوقف أصحابه .. وعندما لامست أقدامهم تلك الأرض .. تأمّلها - صلى الله عليه وسلم - جيدًا .. وتأمل أصحابه فوجدهم قلّة .. فأدار المعركة من مخيلته قبل أن تدور على الأرض .. فرأى جبل أُحد .. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلع له أُحد فقال: هذا جبل يحبّنا ونحبه) (¬4)، تأمل - صلى الله عليه وسلم - أُحدًا فوجده حبيبًا للمؤمنين يتمنى خدمتهم في مثل هذه الظروف القاسية .. فوظفه - صلى الله عليه وسلم - توظيفًا يرجح به كفة جيش صغير ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4558). (¬2) سورة البقرة: الآيتان 121 - 123. (¬3) هذا ما جاء في البخاري في حديث طويل (4072). (¬4) حديث صحيح رواه الإِمام البخاري (4084).

على جيش كبير كجيش قريش .. لقد قرر - صلى الله عليه وسلم - أن يستخدم هذا الجبل كدرع خلفي للجيش .. ليس هذا فحسب .. بل جعل من هذا الجبل قاعدة جوية تنتشر من أعلاه مظلّة تساند الجيش أثناء المعركة وتحميه من أي التفاف قد يقوم به المشركون من خلف الجبل .. لا سيما وأنّهم قد سبقوا المسلمين إلى موقع المعركة .. وهذا ما أوجب دقّة التخطيط وضرورة الدقّة في التنفيذ .. وأهمية الانضباط في العمل .. أخرج - صلى الله عليه وسلم - من الجيش مجموعة من الرماة وحدّد لهم موقعًا على الجبل وأمرهم بالبقاء فيه مهما كانت الظروف .. مهما كانت النتيجة .. و (جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرماة يوم أُحد عبد الله بن جبير) (¬1) قائدًا لا يجوز لهم أن يعصوه .. لقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدرك خطورة الموقف وشدّته .. كان واضحًا وصارمًا في تعاليمه للرماة .. لقد (أقامهم في موضع ثم قال: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا) (¬2)، لا مكان للتوقعات والظنون .. ولا للحماس الزائد .. كان - صلى الله عليه وسلم - يريد عزلهم عن كل هذه الأمور كي يركزوا ويكرّسوا كل طاقاتهم واهتمامهم لوظيفتهم التي حدّدها - صلى الله عليه وسلم - هي واضحة جدًا .. جدًا .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه الإِمام البخاري (3986). (¬2) ظاهر إسناده الضعف لكنه صحيح رواه الإِمام أحمد (1/ 87 - 2/ 2818) حدثنا سلمان ابن داود، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبيد الله عن ابن عباس .. وعبيد الله تابعى ثقة ثبت - التقريب (1/ 535) وأبو الزناد تابعى ثقة أيضًا (التقريب- 1/ 413) وعبد الرحمن بن أبي الزناد ثقة تغير حفظه عندما قدم بغداد .. وسليمان بن داود سكن بغداد وهو ثقة فقيه جليل .. لكن الناقد الثقة المعروف علي بن المديني رحمه الله له رأي في رواية سليمان عن عبد الرحمن حيث يقول: (ما روى سليمان الهاشمي عنه فهي حسان، نظرت فيها فإذا هى مقاربة وجعل علي يستحسنها، ذلك من علي يعقوب ابن شيبة وذكره الإِمام الترمذيُّ في علله (2/ 606).

وهل هناك أشدّ صرامة من قوله - صلى الله عليه وسلم - للرماة (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم) (¬1). سمع الرماة وأطاعوا .. وصعدوا خلف قائدهم عبد الله بن جبير وأخذ كل منهم موقعه على الجبل .. أمّا على الأرض .. فقد كان هذا النبي والقائد العبقري - صلى الله عليه وسلم - ينظم صفوفه .. سندعه يكمل تنظيم جيشه بينما نلقى نظرة على ذلك الجيش الوثني المحتقن بالثأر وبهزيمة بدر .. إنه يقبع قرب جبل "عينين" وهذا ما جعلهم يسمونه "عام عينين" (¬2)، بينما كان المسلمون يسمّونه "عام أُحُد" .. كان جيش قريش يفتقد إلى أشياء كثيرة .. أهمّها الهدف الموحد والبعيد للمعركة .. كانت المعركة بالنسبة لهم ذات أهداف شخصية بالدرجة الأولى .. فعكرمة خرج للثأر لأبيه .. وأبي بن خلف جاء ليقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثأرًا لمصرع أخيه أمية بن خلف .. وجبير بن مطعم لا أدري هل كان ضمن الجيش أم لا .. لكنه يحلم بالثأر لعمّه من حمزة .. وبما أنه لا أحد يقدر على مواجهة حمزة .. فقد فضّل أن يقدم عرضًا لمن يقوم بهذه المهمة .. فعرض على عبده "وحشي" القيام بذلك مقابل حريّته .. ووحشي لن يواجه حمزة ولا يستطيع .. لكنه يجيد الرماية بالحربة وهو أمر ممكن لأن حمزة سيكون بعيدًا عندها .. ولا تحتاج هذه المهمة سوى إلى ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3039). (¬2) دليلي على ذلك تسمية وحشي لغزوة بـ "عام عينين" كما جاء ذلك عند البخاري (4072) وكان وحشي ضمن جيش المشركين.

البداية دعاء

الانتظار والترقّب .. قدم المطعم عرضه فقبل وحشي القيام بهذه المهمة من أجل الحرية .. والحرية فقط .. فوحشي ليس بينه وبن المسلمين أي عداء .. عدوّه الوحيد هو الرق .. أمّا أبو سفيان فربما أخرجته للمعركة زعامته الجديدة لقريش بعد هلاك الطواغيت السبعة ومصرعهم على ساحة بدر .. وربما حرضته على ذلك زوجته هند التي كانت تتحرق للثأر .. بعد هلاك أبيها وعمّها وأخيها على يد حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم .. ومن الأشياء التي يفتقدها الجيش الوثني: حب الموت والاستبشار بالشهادة .. فهم يحرصون على الحياة كحرص المؤمنين على الشهادة .. وهذا الشىء هو سرّ تحطّم أعتى الجيوش على أيدي المؤمنين .. ومن الأشياء التي يفتقدها جيش قريش: النظام .. فمن الصعب جدًا أن تسيطر على جيش يبحث كل فرد فيه عن فرد ضمن جيش آخر .. هناك تشتّت في الاتجاه والهدف .. وهذا ما حرص - صلى الله عليه وسلم - على إبعاده عندما قال للرماة: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم) (¬1). واقتربت المعركة بين جيشين: جيش قوي .. وجيش ذكى .. فكانت: البداية دعاء بدأ - صلى الله عليه وسلم - كعادته .. بالدعاء .. لقد (قال يوم أُحد: اللهمّ إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض) (¬2) .. فمن أجل عبادة الله وحده لا شريك خرج - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3039). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (1743)

بشائر النصر

وأصحابه .. لا يريدون مالًا ولا جاهًا .. خرجوا ينشرون دين الله ويدافعون عن نشره .. ومن أجل الأصنام خرج أولئك الوثنيون .. وكان لهذا الدعاء بشائر بالإجابة و: بشائر النصر ها هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يشخص ببصره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرى منظرًا أبيض لا يدري من هو ولا ما هو .. فيقول: (رأيت بشمال النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمينه رجلين عليهما ثياب بيض يوم أُحد، وما رأيتهما قبل ولا بعد) (¬1). لا شكّ أنهّا الملائكة .. لكن هل ستشارك كما شاركت في غزوة بدر؟ سنعرف الإجابة بعد قليل .. فهل بقي من بشائر بالنصر على أرض أُحد؟ أجل .. كان ذلك بعد ما صف النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين صفًا خلف صف .. غشيت البشارة بعض الصحابة .. وكان أبو طلق أحدهم .. حيث يقول: (غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أُحد) (¬2) و (كنت فيمن تَغَشَّاه النعاس يوم أُحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه) (¬3)، رفع طلحة رأسه فرأى منظرًا غريبًا يترنح تحت الدروع والتروس .. يقول رضي الله عنه: (رفعت رأسي يوم أُحد، وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته (¬4) من النعاس) (¬5)، لكن بين ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (5826). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4562). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4068). (¬4) أي تحت ترسه. (¬5) سنده صحيح رواه الترمذيُّ (3007) والحاكم (2/ 325) والنسائيُّ في الكبرى =

هل من مبارز

صفوف المؤمنين بعض المنافقين الذين لم يجرؤوا على الفرار .. إنهم الآن يرتجفون وهم يرون هذا الجيش القليل العدد والعدّة .. ويزيد من ارتجافهم وغيظهم هذا النعاس الذي يحرق الأعصاب .. كأني بالمنافقين ولسان حالهم يقول: انهضوا أيها .. من نومكم أما ترون الموت يملأ المكان .. لقد كان النعاس أمنًا للمؤمنين وخوفًا ورعبًا للمنافقين .. وفي ذروة الخوف والأمن .. وخلال ذلك الصمت المخيم يشقّ الساحة صوت ينطلق من معسكر الأصنام بالتحدي .. فارس جاهلي شجاع اسمه سباع بن عبد العزى يصرخ ويقول: هل من مبارز من سيبارز هذا الشجاع .. دعونا نطرح هذا السؤال على رجل يهمّه جدًا ما حدث .. وشاهد -جيدًا- ما حدث .. إنه وحشي الذي جاء من أجل مهمة واحدة .. هي طعن حمزة فقط .. يقول وحشي: (خرجت مع الناس إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع .. يا ابن أم أنمار مقطعة البظور .. أتحادّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم شدّ عليه فكان كأمس الذاهب) (¬1)، لفظ جميل يعبّر عن سهولة هلاك الشجعان على يد حمزة .. سقط ذلك الفارس وارتفع سيف حمزة يطلب المزيد .. وارتفعت معنويات المؤمنين وزاد حماسهم .. فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = (6/ 349) وأبو يعلى (3/ 14) من طرق عن الثقة المعروف حماد بن سلمة عن التابعيّ الثقة ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه .. وثابت سمع من أنس. (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4072).

أن يؤجج ذلك الحماس فصرخ بجموع المؤمنين رافعًا سيفًا: (من يأخذ مني هذا السيف بحقه؟ فبسطوا أيديهم، كل إنسان فيهم يقول: أنا .. أنا ... فقال - صلى الله عليه وسلم -: من يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم، فقال له سماك "أبو دجانة": أنا آخذه بحقه. فأخذه ففلق به هام المشركين) (¬1) الذين أذهلتهم هذه المعنويات .. لقد أفنى حمزة مبادرتهم .. ومزّق أبو دجانة من أمامه منهم .. والتحم الجيشان فبان الفرق بين جيش همجى غاشم .. وبن جيش متحضر له هدف وتخطيط وأسلوب رفيع في التنفيذ .. جاء أحد الصحابة يبحث عن سبق .. بعد أن تفوّق حمزة وأبو دجانة فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنّة، فألقى تمرات في يده ثم قاتل) (¬2). وبدأ الرماة بنشر مظلتهم الجوية .. ففوجئ المشركون بجيش يحصدهم على الأرض ويمطرهم من السماء .. فالرماة يؤدّون مهمّتهم بإتقان .. وسهامهم زخات من الموت .. زخات من القبور .. فرّقت جموع الوثنيين .. فصاروا يهربون في كل اتّجاه .. ولم تكن السهام تنطلق من قمة أحد فقط .. كان بقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهر راميَيْن .. سعد بن أبي وقاص كان الأمهر .. شاهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما يحدث بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبن سعد .. وسمعه ورواه فقال: (ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أبويه لأحد إلَّا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أُحد: "يا سعد ارم فداك أبي وأمي") (¬3)، ويقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (جع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد أبويه كلاهما) (¬4) .. لقد (نثل لي ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم فضائل الصحابة (2470) وابن أبي شيبة بسند صحيح. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4046). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4059). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4057).

النبي - صلى الله عليه وسلم - كنانته يوم أُحد فقال: ارم فداك أبي وأمي) (¬1) .. كان سعد يمتع ناظري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. بل ويضحكه .. يقول رضي الله عنه: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ارم فداك أبي وأمي، فترعت له بسهم ليس فيه نصل، فأصبت جنبه، فسقط فانكشفت عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نظرت إلى نواجذه) (¬2) ولم يكتف سعد بالرماية بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لقد كان فارسًا يفتك بمن أمامه .. لقد استجاب الله له فلقي كما تمني: (رجلًا شديدًا حرده أقاتله ويقاتلني ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه) (¬3) .. لكن ماذا عن عبد الله بن جحش هل استجاب الله لدعائه؟ ليس بعد .. فهو مازال يجالد بسيفه ويجتثّ من يواجه من المشركين .. لم ننس رامي النبى - صلى الله عليه وسلم - الآخر .. إنه أبو طلحة (كان راميًا شديد النزع كسر يومئذٍ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمرّ معه الجعبة من النبل، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انثرها لأبي طلحة، ثم يشرف إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمى، لا تشرف .. ألا يصيبك سهم، نحري دون نحرك) (¬4). ماهت الأرواح بالأرواح في جلاد يزهق الأرواح .. نبي قائد يفدي جنوده بأمّه وأبيه .. وجنود يفدون نبيّهم بأمّهاتهم وآبائهم وأرواحهم .. كانت الصدور درعًا دونه - صلى الله عليه وسلم - .. حتى الملائكة كانت درعًا دونه - صلى الله عليه وسلم - .. يقول سعد بن أبي وقاص: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4055). (¬2) حديث صحيح مر معنا قبل قليل. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (3811). (¬4) حديث صحيح رواه مسلم (2412).

ضيفان على المعركة

عنه -عليهما ثياب بيض- كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد) (¬1) .. كان - صلى الله عليه وسلم - مسرورًا بما يرى من تنفيذ لتعليماته .. وانتصار وحماس بين فرسانه .. مصعب بن عمير الذي لا يملك سوى سيفه وقرآنًا يملأ صدره وأجواءه .. يلقن المشركين دروسًا كما يلقن الأنصار الآيات والسور .. وذلك الشيخ الأعرج ورفيق دربه عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح يقاتلان كالشباب .. لكن للسنّ أحكام قاسية .. سقط عبد الله والد جابر شهيدًا على أرض المعركة .. أوّل شهيد في سجلات أُحد .. وها هي الملائكة من فوقه ومن حوله .. (الملائكة تظلّله بأجنحتها) (¬2) يا لها من شهادة .. يا لها من كرامة .. وبعده بزمن يسقط رفيق دربه عمرو بن الجموح ليطأ بعرجته أرض الجنّة .. ويدليها على أنهارها ومياهها .. وبينما كانت المعركة تتأجج بركانًا يقذف حممًا .. يقذف جثثًا ودماءً وصل: ضيفان على المعركة إنهما: حسيل والد حذيفة وصحابي آخر هو ثابت بن وقش رضي الله عنهما .. لقد ضاقت بطموحهما أسوار المدينة وحصونها .. تلفتا فأحسا أن هذا المكان لا يليق بشجاعين مثلهما .. ففرّا إلى حيث الوغى .. إلى حيث السيوف والشهادة .. وعندما وصلا إلى أُحُد .. وجدا أن المعركة قد حمي وطيسها .. فتسلّلا بين المؤمنين دون أن يعلموا بهم فماذا كانت العاقبة؟ يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد وقع اليمان بن جابر أبو حذيفة، ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4054). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1244).

ضيف ثالث على المعركة

وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام (¬1) مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه -وهما شيخان كبيران-: لا أبا لك ما ننتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منّا من عمره إلا ظمأ حمار، "إنما نحن هامة اليوم أو غدًا"، إنما نحن هامة القوم، ألا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخلا في المسلمن -ولا يعلمون بهما-) (¬2)، وقاتلا المشركين، ولكنهما شيخان كبيران .. وللسن أحكام وفي الشيخوخة ضعف (فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما أبو حذيفة) (¬3)، فله قصة عجيبة سنعرفها بعد قليل .. ضيف ثالث على المعركة اسمه: عمرو بن أقيش .. أراد أن يسلم في يوم من أيام السلام والسكون .. لكنه كان يتعامل بالربا مع بعض المشركين .. ولم يكن في عجلةٍ من أمره لكي يسلم .. ففضل أن يذهب ليأخذ رباه بصفته مشركًا ثم يعود لكي يعلن إسلامه .. سافر إلى المكان المقصود قبل غزوة أحد ثم عاد ليجد المدينة لا تضحي بأموالها فقط .. بل تضحي بأرواحها طاعة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .. فهانت أموال عمرو أمام عينيه .. وهان رِبَاه .. وهان كل شيء في نظره .. وكشفت الشدائد عن معدنه .. وكشف لنا أحد الصحابة عن خبره .. فقال: (إن عمرو بن أقيش كان له رِبًا في الجاهلية، فكره أن ¬

_ (¬1) الحصون أو البيوت المرتفعة. (¬2) سنده صحيح رواه إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 202): حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن محمود بن لبيد .. وعاصم تابعي عالم بالمغازي وهو أحد الثقات .. التقريب (1/ 385) وشيخه صحابيّ رضي الله عنه. (¬3) سنده صحيح رواه إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 202): حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن محمود بن لبيد .. وعاصم تابعي عالم بالمغازي وهو أحد الثقات .. التقريب (1/ 385) وشيخه صحابي رضي الله عنه.

يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأُحُد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأُحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأُحد. فلبس لأمته، وركب فرسه ثم توّجه قِبَلهم، فلما رآه المسلمون، قالوا: إليك عنا يا عمرو. قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح فحمل إلى أهله جريحًا، فجاء سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه حمية لقومك، أو غضبًا لهم، أم غضبًا لله عَزَّ وَجَلَّ؟ قال: بل غضبًا لله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله، فمات، فدخل الجنّة وما صلّى لله صلاة) (¬1) .. دخل الجنّة كما دخلها عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام. دخل الجنّة وما صام لله يومًا .. يا لكرم الله .. الجنّة - خلودها وسحرها وعوالمها لهذا الفارس من أجل لحظات .. لكنها لحظات من التوحيد .. لحظات شارك فيها عمرو بن أقيش في هزيمة الأصنام وأهلها .. شارك فيها أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا .. شارك فيها طلحة وأبا عبيدة وسعيد بن زيد وسعد وعبد الرحمن بن عوف والزبير .. وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأبا دجانة .. وأنس بن النضر .. أنس بن النضر الذي بهر من يراه بشجاعته .. لقد برّ بقسمه .. ها هو كالأسد بين الصفوف لا تزيده الجراح الكثيرة إلَّا شراسة وإقدامًا في الفتك بأعداء الله .. لا يتفوّق عليه إلَّا حمزة الذي كان يقاتل بطريقة جديدة ويصرخ بمعنويات شهيد .. شاهده سعد بن أبي وقاص ونقل ما شاهد .. فقال: ¬

_ (¬1) سنده لا بأس به رواه الأئمة: أبو داود (2/ 482) والبيهقيُّ في السنن (9/ 167) والحاكم (2/ 124) كلهم من طريق شيخ أبي داود: موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبا هريرة .. وموسى ثقة ثبت من رجال الشيخين وشيخه مثله إلا أنه من رجال مسلم - التقريب (1/ 197) (2/ 280) ومحمَّد بن عمرو حسن الحديث إذا لم يخالف انظر التهذيب (9/ 367) وشيخه التابعيّ الثقة ابن الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف (التقرب- 2/ 430).

(كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل يوم أُحُد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسيفين، ويقول: أنا أسد الله) (¬1) .. كان حمزة يحزّ الرقاب .. ويذل الطغاة .. فهم يتساقطون أمامه .. لا شيء يصمد في وجهه .. لم يترك فرصة لأحد كى ينال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ولم يترك فرصة لأحد لينال منه .. حتى ذلك البعيد عنه .. الذي لم يشترك في القتال .. ولم يحمل سيفًا للدفاع حتى عن نفسه .. ذلك الأسمر الذي يراقب حمزة وحربته بيده لم يجد -حتى الآن- فرصة للإجهاز عليه .. وهو لا يجسر على اقتحام أهوال حمزة وجحيمه .. إنه يقول: إنني (انظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق يهدّ الناس بسيفه هدًّا .. ما يقوم له شيء) (¬2)، وما يجرؤ أحد من قريش على التصدّي لهذا الحتف الذي يصرخ: أنا أسد الله. لقد فرّق حمزة والأسود معه جمع قريش ومزّقوهم .. إنهم يهربون ينهزمون خلف الصخور ووراء الجبال .. ها هو الزبير يلاحق فلولهم ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه: البيهقي، حدثنا أبو عبد الله، حدثنا أبو بكر محمَّد بن أحمد بن بالويه، حدثنا محمَّد بن شاذان الجوهري، حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق، عن سعد: أبو عبد الله هو الحاكم، وشيخه محمَّد بن بالويه هو أبو علي كما جاء في ترجمته في تاريخ بغداد (1/ 282) والصواب أبو بكر: وقد أورد الحافظ البغدادي عن الحاكم تاريخ وفاته وقال فيه البرقاني: ثقة، وشيخه ثقة من رجال التقريب (2/ 169) وشيخه معاوية بن عمرو بن المهلب .. ثقة من شيوخ البخاري -التهذيب (10/ 215) والتقريب (2/ 260) وإبراهيم بن محمَّد الفزاري ثقة حافظ من رجال الشيخين- التقريب (1/ 41) وعمير بن إسحاق تابعي قال الحافظ: مقبول .. والصواب أنه: ثقة لأن قول ابن معين: ليس شيء يعني أنه قليل الحديث .. ثم إن ابن معين قال عنه: ثقة. انظر: (قواعد في علوم الجرح للتهانوي - 263) وقال النسائي: ليس به بأس- ولم يورده العقيلي إلا أنه لم يرو عنه إلا واحد. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق (ابن كثير-3/ 35) وقد مر معنا عند الكلام على وحشي.

المنهزمة .. المهرولة من هنا وهناك .. ويقول: (والله لقد رأيتني انظر إلى خدم (¬1) هند بنت عتبة وصواحباتها مشمّرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير) (¬2)، ورأى منظر الهزيمة شاب صغير هو البراء بن عازب الذي يقول: (فأنا والله رأيت النساء يشددن قد بدت خلاخلهنّ وأسوقهن رافعات ثيابهن) (¬3)، ويقول رضي الله عنه عن هزيمه المشركين: (فهزموهم، فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الخيل، قد بدت خلاخيلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن) (¬4). الساحة الآن للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. هرب الوثنيون تاركين نساءهم في متناول الزبير وأصحابه .. أما نساء المسلمين فكنّ كرجالهم يمارسن التمريض والإسعاف بالماء والدواء .. يقول أنس بن مالك: (لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمّرتان أرى خدم سوقهما تُنْقِزان القرب على متونهما، فتفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم) (¬5)، وعائشة رضي الله عنها وهي في أوج نشاطها وحماسها .. تصف ما حدث بعبارة مختصرة، فتقول: (هزم المشركون يوم أُحد هزيمة بيّنة تعرف فيهم) (¬6). ¬

_ (¬1) الخدم: هي الخلاخيل. (¬2) سنده صحيح: رواه إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد، عن عبد الله بن الزبير عن أبيه .. وشيخ ابن إسحاق ثقة -التقريب (2/ 351) ووالده تابعي ثقة- التقريب (1/ 392). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4043). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4043) والبيهقيُّ (3/ 229) واللفظ له. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4063). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (6668) والبيهقيُّ (3/ 230) واللفظ له.

وروى أحد الصحابة ما حدث لحملة الراية من المشركين شيئًا مذهلًا .. لقد استبدلتهم سيوف حمزة ورفاقه سبع مرات أو أكثر .. يقول رضي الله عنه: (وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوّل النهار، حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة) (¬1)، يتساقطون كجدران الطين القديمة وقد داهمتها الرياح والأمطار .. وخلت الساحة من ثأر المشركين ومكرهم .. خلت الساحة إلَّا من ركضهم بحثًا عن بقايا حياة بعد أن مات ثأرهم .. وسافر بعضهم إلى الجحيم .. كانت الساحة مليئة بجثث الطواغيت المنتنة .. المتناثرة في كل مكان .. وكان عدد الجثث حتى الآن قريبًا من السبعين جثة .. أحد هذه الجثث كان حيًا مصابًا يتظاهر بالموت خشية أن يجهز عليه أحد فرسان محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. لقد سقط هو وحلمه الذي حمله معه من مكة .. فقد خرج ليقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن رفاق حمزة أسقطوهما معًا .. هذا الرجل يدعى (وهب بن عمير) ومازال لديه أمل بالحياة .. يقول أنس بن مالك: (كان وهب بن عمير شهد أُحدًا كافرًا، فأصابته جراحة، فكان في القتلى، فمرّ به رجل من الأنصار فعرفه فوضع ¬

_ (¬1) ظاهر سنده الضعف لكنه صحيح رواه الإمام أحمد (1/ 87 - 2/ 288): حدثنا سليمان ابن داود أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، وعبيد الله تابعي ثقة فقيه -أحد الفقهاء السبعة (التقريب- 1/ 535)، وأبو الزناد تابعي ثقة (التقريب-1/ 413) وأما ابنه فمن أجله قلت ما قلت .. فهو ثقة لكنه تغير عندما قدم بغداد، فالنقاد يضعفون ما رواه في بغداد، وسليمان ابن داود بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس -وهو ثقة فقيه جليل- ممّن سكن بغداد، لكن الناقد المعروف علي بن المديني رحمه الله قال -مستثنيًا رواية هذه الثقة عن شيخه عبد الرحمن: (ما روى سليمان الهاشمي عنه فهي حسان، نظرت فيها فإذا هي مقاربة، وجعل علي يستحسنها) ذكر ذلك الإمام الترمذيُّ في علله: (2/ 606).

ماذا فعل الرماة

سيفه في بطنه حتى خرج من ظهره ثم تركه) (¬1)، ماذا حدث لوهب بعد ذلك هل مات .. أم مازال حيًا؟ سنعرف الإجابة بعد نهاية المعركة التي انتهت حتى الآن إلى هزيمة كالجحيم .. سقط فيها أكثر من ستين مشركًا .. أما الأسرى فقد بلغ عددهم سبعين أسيرًا .. إن الساحة الآن تذكر بانتصار بدر .. سبعون للأسر وسبعون للقبر .. ومحمَّد - صلى الله عليه وسلم - يكحل ناظريه. بمشهد يسرّ النفس ويشرح الصدر. لكن هذا المهرجان لم يدم طويلًا .. لقد كانت الساحة جميلة .. مكتنزة بالغنائم والانتصار .. كأن كل شيء قد انتهى .. المشركون انتهوا .. والمؤمنون انتهوا إلى القمة .. لكن بعض الصحابة الذين كانوا على القمة ارتكبوا كارثة .. لقد حوّلوا تلك القمة إلى قاع دموي .. خاض فيه المشركون وشربوا وانتشوا .. ماذا فعل الرماة كان بعض الرماة يشاهدون الانتصار والغنائم .. وفي لحظة من لحظات الضعف الإنساني أغرتهم الغنائم فقرّروا النزول .. لقد قال - صلى الله عليه وسلم - لهم: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن ¬

_ (¬1) سنده: رواه الطبراني (17/ 62): حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا محمَّد بن سهل بن عسكر، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجرنيّ لا أعلمه إلا عن أنس. وأبو عمران اسمه عبد الملك بن حبيب وهو تابعي ثقة: التقريب (1/ 518) وقد صح سماعه من أنس بن مالك: التهذيب (6/ 389) وتلميذه جعفر بن سليمان صدوق من رجال مسلم - التقريب (1/ 131) وعبد الرزاق الصنعاني هو صاحب المصنف المعروف. أما محمَّد بن سهل فهو ثقة من رجال مسلم التقريب (1/ 167) وشيخ الطبراني هو تاج المحدثين من أحفظ أهل عصره .. انظر البلغة للعلامة حماد الأنصاري (89).

رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم. .) (¬1)، تأخر الأمر عليهم لم يرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا .. فظنّوا أن كل شيء قد تمّ على ما يرام .. حكّموا رأيهم واجتهدوا مع أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزال مدويًا في آذانهم .. فخالفوا أمره وأمر أميرهم عبد الله بن جبير .. وهتفوا ببعضهم (الغنيمة أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة) (¬2) وانحدر الرماة وانحدرت الكارثة معهم .. شاهدهم المشركون المنهزمون .. فلاح لهم بريق الانتصار .. واستجمعوا قواهم من جديد في محاولة للانقضاض ما دام خطر الأسهم المربك والشائك قد زال عن سماء المعركة .. عاد أبو سفيان والمشركون وهم يرون هذا الفراغ في السماء .. والارتباك على الأرض .. الارتباك الذي أحدثه الرماة عندما زاحموا إخوانهم المكلفين بجمع الغنائم .. وكان أمر الغنائم لم تنزل به الآيات .. كان الرماة النازلون من الجبال يحسبون أن من سبق فهو أحق .. حدثت فوضى عارمة داخل الصف المؤمن .. وانفلت الزمام .. وضاع النظام .. لقد تحوّل الجيش إلى شبكة لا يعرف لها أوّل ولا آخر .. تلك الصفوف المنظمة التي تقاتل كبنيان مرصوص .. حولها الرماة -رضي الله عنهم- بمخالفتهم إلى شيء كالفوضى .. وصفه أحد الصحابة أدقّ الوصف .. فقال: (لما غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأناخوا عسكر المشركين، أكبّ الرماة جميعًا فدخلوا في العسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم: كذا -شبك أصابع يديه- والتبسوا، فلما أخلّ الرماة تلك الخلّة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3039). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3039).

المعركة بأيدي المشركين

فضرب بعضهم بعضًا، والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير) (¬1) بسبب واحدٍ فقط .. هو عدم الالتزام بتعليمات القيادة الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم - .. وقد كلّف هذا الخطأ الكثير والكثير .. فالمعركة الآن .. المعركة بأيدي المشركين والمبادرة بأيديهم .. الجيش المؤمن يقتل بعضهم بعضًا من الفوضى .. والمشركون يعينوهم على ذلك .. وفي قلب الظلمة والفوضى تعالى الصياح والضجيج .. وصار المسلمون يصدقون كل شىء ويستجيبون لكل صارخ .. فقد دوت على أرض أُحد صرختان حوّلت كل واحدة منها جيش الإِسلام إلى زوبعة من الفوضى. صرخة تقتل حسيلًا فبينما كان حسيل والد حذيفة يتمتع بالنصر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن حرم منه هو وابنه حذيفة في غزوة بدر .. إذ بصارخ يصيح بالمؤمنين ليتشفّى بمرأى الدماء .. كانت عائشة هناك .. تصبّ الماء للجرحى وتداوي وتصغي لما حدث .. وتقول: (هزم المشركون يوم أُحُد هزيمة تعرف فيهم، فصرخ إبليس: أي عباد الله .. أخراكم. فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فنظر حذيفة بن اليمان فإذا هو بأبيه، فقال: أبي .. أبي، قالت: فوالله ما انحجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر الله لكم، قال عروة بن الزبير بن العوام: فوالله مازالت في حذيفة منها بقية حتى لقي الله) (¬2). ¬

_ (¬1) سنده قوي وهو حديث ابن عباس السابق عند أحمد (1/ 87 - 2/ 288). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (6668).

استشهاد حمزة

يا لإيمان حذيفة .. يا لعتاب حذيفة .. والده المؤمن المجاهد .. تقطعه السيوف .. فلا يتلفظ بكلمة نابية .. ولا حتى بعتاب مجروح .. تنهد قائلًا: غفر الله لكم .. ذرفها حذيفة كالدموع وهو يرى حبيب قلبه .. وصديقه ووالده الحنون يهوي بسيوف أحبابه خطأ .. إن لحذيفة إيمانًا صافيًا كأنهار الجنّة .. رحم الله حسيلًا ورحم الله الرماة .. ورضي الله عنهم جميعًا .. وفي غمار المعركة الثانية .. كانت سيوف المشركين تنهش لحوم الفرسان ودماءهم .. بينما كان وحشي ينتظر دور الحربة والحرية .. ليجهز على حمزة وليبشّر جبير بن مطعم بـ: استشهاد حمزة كان حمزة يشاهد ما يحدث ويصمد له حتى لاح فراغ كبير وسط المعمعة .. فانكشف حمزة لوحشي .. سأترك الكلام لوحشي ليحدثنا عما فعله بأسد الله ورسوله حيث يقول: (خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس كأنه الجمل الأورق يهدّ الناس بسيفه هدًّا، ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيّأ له، أريده، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني) (¬1). هكذا كان وحشي يستتر .. يلبس الأحجار والأشجار .. يتقنّع بها خشية أن يراه هذا الموت الهائل الذي يهدّ الناس بسيفين أحمرين .. يهدّ الناس بصوته .. رعدًا يدوي: أنا أسد الله ورسوله .. كان حمزة فارسًا يجوب الشجاعة إلى أقصاها .. بينما كان وحشي ينتظره كي يردفه إلى عالم الحرية .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا وهو حديث وحشي السابق عند ابن إسحاق والزيادة عند البخاري.

كان حمزة يجوب الساحة بحثًا عن مُنازل .. حتى كان آخر ضحاياه قرب مخبأ وحشي .. سقط ضحية حمزة .. فنهض وحشي وقال: (هززت حربتي حتى رضيت منها دفعتها إليه "رميته بحربتي"، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه) (¬1). انفجرت دماء حمزة .. تساقطت على الأرض ولم يسقط .. التفت إلى طاعنه ولاحقه .. وطاعنه خائف يقول: (وذهب لينوء نحوي، فغلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر، وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتق) (¬2). ودّع حمزة الدنيا .. وقدم وحشي لسيده أغلى مبلغ في الدنيا يُدفع ثمنًا لعبد .. كان المسلمون في تراجع وانكسار .. كانوا في غفلة عن جسد حمزة الطاهر .. الذي تقدم إليه شخص مجهول .. فأخرج أداة حادةً فجدع بها أنف حمزة .. وشقّ بطنه وشوّه جسده الطاهر .. ومثّل به .. وهكذا يفعل الجبناء .. وماذا لديهم سوى ذلك .. ؟ شاهد أحد الصحابة ما فعل بأسد الله- بحمزة عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره بالفاجعة. لكن أين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط هذا الغبار والفوضى .. ؟ إنه ليس على جبل أُحُد .. فالرماة نزلوا ولم يبقَ إلَّا قائدهم عبد الله بن جبير وقلّة معه من الصابرين .. لكن المشركين باغتوهم بأعداد كثيرة .. فاستشهدوا على قمة الامتثال والجبل .. أمّا على الأرض .. فالأمر غامض جدًا .. بل هو مفجع .. ها هو أحد المشركين يدوي بالجموع المشتبكة .. صرّح كالشيطان وقال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا وهو حديث وحشي السابق عند ابن إسحاق والزيادة عند البخاري. (¬2) حديث صحيح مر معنا وهو حديث وحشي السابق عند ابن إسحاق والزيادة عند البخاري.

إن محمدا قد قتل

إن محمدًا قد قتل سمعه الزبير وأذهله ما سمع .. يقول رضي الله عنه: (مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأُتينا من أدبارنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدًا قد قتل، فانكفأنا، وانكفأ علينا القوم) (¬1). لكن أنس بن النضر عم أنس بن مالك لم ينكفئ .. كان يقاتل عن رجلين .. عن معركتين .. عن بدر وعن أُحُد .. يقول أنس رضي الله عنه: إن عمّه (غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لئن أشهدني الله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليرينّ الله "ما أصنع"، ما أجد، فلقي يوم أُحد .. فهُزم الناس فقال: اللهمّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ) (¬2)، (فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ واهًا لريح الجنّة "إني" أجده دون أحد ..) (¬3). (فقال سعد: أنا معك - قال سعد: فلم أستطع أصنع ما صنع) (¬4)، قال أنس: (فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضعٌ وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية) (¬5)، كان وجه أنس مشوّهًا لا يعرف .. كان جسد ¬

_ (¬1) سنده صحيح وقد مر معنا وهو بقية حديث الزبير عند ابن إسحاق. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4048). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (الإمارة - ثبوت الجنة ..) والزيادة عند البخاري. (¬4) حديث صحيح رواه أحمد .. وهو ثلاثي على شرط الشيخين كما قال ابن كثير .. حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس .. وشيخ أحمد ثقة وهو ابن هارون .. وشيخه تابعي ثقة سمع من أنس وهو حميد الطويل. (¬5) حديث صحيح رواه مسلم (الإمارة - ثبوت الجنة ..) والزيادة عند البخاري.

استشهد مصعب

أنس بن النضر ميدانًا لمعركة أخرى انتصر فيها الوفاء .. وخرج منها أنس مزينًا بالطعنات والشهادة .. فلئن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهيدًا .. فليلحق به أنس بن النضر .. أما بعض الصحابة فقد أذهلهم الخبر وأسقط في أيديهم وانهارت معنوياتهم فولّوا عن أرض المعركة لا يلوون على شيء بعد أن رأوا هذه الكارثة .. وسمعوا بمقتله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحد هؤلاء (عثمان بن عفان وسعد بن عثمان -رجل من الأنصار- حتى بلغوا الجلعب -جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص) (¬1)، وكأنهم يقولون لأنفسهم: وماذا نحن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أمّا البقية ففضلوا الموت على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أحدهم هذا الفارس المجهول الذي يقول عنه سهل بن سعد: (ما رأينا مثل ما أتى فلان، لقد فرّ الناس وما فرّ، وما ترك للمشركين سادة ولا قادة إلا أتبعها يضربها بسيفه) (¬2) .. وما زال يضربهم حتى الآن .. في الوقت الذي استشهد فيه صاحب التمرات فقد (قاتل حتى قتل) (¬3)، كما سقط على أرض المعركة رجل فقير لكنه كان بحجم الدنيا .. لقد استشهد مصعب مصعب بن عمير .. الذي خرج من ثروته وزينته ليلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. مصعب الذي خرج من مكة وحيدًا ليثقف جيلًا من أجيال المدينة .. مصعب الذي خرج من المدينة نحو أُحُد .. لا يملك من الدنيا إلَّا سيفه ورداءه .. وقرآنًا يملأ صدره ويغنيه عمّا يراه من حطام الدنيا .. سقط ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الأموي (ابن كثير- 3/ 55) حدثني يحيى بن عباد، عن أبيه عن جده .. وقد مر معنا هذا الإسناد، وهو صحيح. يحيى ثقة، وعباد تابعي ثقة. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4202) وأبو يعلى - زوائد (1/ 428) واللفظ له. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري وقد مر معنا.

مصعب على أرض أُحُد .. تبكيه المدينة ومكّة .. ويبكيه أحد الصحابة بعد مدة .. والطعام بين يديه .. فيقول عندما شاهد الطعام وكان صائمًا: (قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في برده، إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا -أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام) (¬1) .. وتذكره أيضًا رفيق دربه وعذابه خباب بن الأرتّ فقال: (هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنّا من مضى بسبيله ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير .. قتل يوم أحد، ولم يترك إلَّا نمرة، كنّا إذا غطّينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه) (¬2) رضي الله عن مصعب ما أعظمه .. سافر والدموع من حوله .. بعد أن ملأ الصدور والنفوس علمًا وحبًا .. نالت منه سيوف الشرك وهو يدافع عن دينه وعن نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. ونالت السيوف من ذلك الشاب العروس .. الذي ترك فتاته ليموت دون دينه ونبيّه - صلى الله عليه وسلم - .. ليكمل احتفالاته في الجنّة .. وكان قبيل سقوطه في صراع مع رجل شجاع من صفوف المشركين هو أبو سفيان .. وهو ليس أبو سفيان زعيم قريش .. لا .. ولكنه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب .. ابن عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما يزال حتى الآن مشركًا .. وقد تغلب عليه حنظلة وعلاه بسيفه وكاد أن يطيح برأسه ولكن ماذا حدث؟ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1/ 1275). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1276) وقد حذفت كلمات بين عمير ... وقتل. وهو قوله رضي الله عنه: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها.

حنظلة بن أبي عامر وأبو سفيان بن الحارث

حنظلة بن أبي عامر وأبو سفيان بن الحارث حنظلة .. (التقى هو وأبو سفيان بن الحارث، فلما استعلى حنظلة رآه شداد بن شعوب، فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان) (¬1)، لكن أبا سفيان نجا .. وليس لحنظلة أكثر من ذراعين .. باغته شداد وأرسله إلى الموت شهيدًا .. تتحدث عنه الدنيا .. وعن شهادته .. سافر حنظلة وسافر معه شاب يحتفل بالشهادة على طريقته المحبّبة إلى نفسه. شهادة هو اختارها وانتقى من المولى كيفيّتها .. إنه عبد الله بن جحش الذي دعا الله قبل المعركة، وقال: (اللهمّ ارزقني رجلًا شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك - صلى الله عليه وسلم -، فتقول: صدقت) (¬2)، فاستجاب الله لعبد الله بن جحش، فالتقى بمحارب عنيف وشديد فقتله .. ولما هوى عبد الله على الأرض أخذه ذلك المشرك ومثّل به .. فشقّ أنفه وأذنه .. وعلّق أنفه وأذنه بخيط .. كل هؤلاء سافروا .. كل هؤلاء الشهداء كانوا في طريقنا ونحن نبحث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. تعالوا خلف هذا الفاتك المغوار .. الذي يجول ويصول دون أن يصدق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل .. لكنه في الوقت نفسه لا يعتقد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على ساحة أُحد ولا خلف جبالها ولا حتى على ساحة بدر أو في المدينة. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق، ومن طريقه السراج (الإصابة- 13/ 299) ومن طريقهما رواه الحاكم (3/ 204): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عن جده وهذا السند مرَّ معنا كثيرًا وهو صحيح، فيحيى ووالده عباد تابعيان ثقتان. (¬2) سنده جيد وقد مر معنا.

رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في السماء

لقد عاد هذا الشجاع من جولة كالفجيعة .. كان يقلّب الجثث .. فتؤلمه وجوه أصحابه وأحبابه من الشهداء وهو يبحث بمرارة عن حبيبه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. لكنه لم يجده فأين ذهب .. وأين ذهبت الظنون بهذا الشاب المكسور الحزين. تعالوا نتعرف عليه وعلى حيرته .. إنه زوج فاطمة الزهراء .. إنه علي ابن أبي طالب .. وهو يظن أن: رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في السماء يقول رضي الله عنه: (لما انجلى الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، نظرت في القتلى فلم أرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: والله ما كان ليفرّ، ولا أراه في القتلى، ولكن أرى الله غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم فأفرجوا لي، فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم) (¬1) كان - صلى الله عليه وسلم - غارقًا في أحزانه ودمائه لقد (جرح وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه) (¬2) هشمت البيضة التي كان يغطي بها رأسه فشجّ رأسه، (وذلق من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه) (¬3)، رأى عليّ بن أبي ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه أبو يعلى (زوائد-2/ 430) (حدثنا أبو موسى -وهو ثقة ثبت حافظ التهذيب (9/ 425) حدثنا محمَّد بن مروان العقيلي وهو حسن الحديث إذا لم يخالف قال الحافظ: (صدوق له أوهام -التقريب-2/ 206) ومن هو الذي ليس له أوهام، ومحمَّد أخذ حديثه عن شيخه عمارة بن أبي حفصة وهو ثقة من رجال الشيخين (التقريب -2/ 49). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4075). (¬3) سنده صحيح رواه أبي شيبة (7/ 371): حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير .. وعفان ثقة ثبت إذا شك في حرف من الحديث تركه (التقريب =

أول من عرفه (صلى الله عليه وسلم)

طالب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتألم لما حدث .. لكنه كان في أشدّ حالات الارتياح لأنه لم يزل على الأرض .. لكن كيف علم الآخرون بمكانه وكيف أحاط كل هذا الجمع به .. فقد كان حوله أبو بكر وعمر وطلحة والزير وسعد والحارث بن الصمة وأبو طلحة وابن مسعود وأكثر من اثني عشر رجلًا من الأنصار .. لن يحدّثنا أيًا من هؤلاء فالكلمة لـ: أول من عرفه (صلى الله عليه وسلم) الكلمة للشاعر المجاهد .. كعب بن مالك حيث: (كان كعب أوّل من عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهزيمة وقول الناس: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال كعب: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشار إليّ أن انصت "اسكت") (¬1) .. ربما لكي لا يعلم المشركون بمكانه .. سمع هذا الصرخة سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وسبعة من الأنصار .. فهبوا نحو صاحبها .. وسمع الصرخة جمع من المشركين فلحقوا بهم .. فماذا حدث يا أنس؟ أجب بالله عليك .. يقول أنس رضي الله عنه: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أُحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه (¬2)، قال - صلى الله عليه وسلم -: من يردهم عنّا وله الجنّة، أو هو رفيقي ¬

_ = -2/ 25) وشيخه ثقة معروف من رجال مسلم وبقية السند لا يسأل عنها وقد مرت معنا كثيرًا. (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه (الطبراني في الأوسط -مجمع البحرين- 5/ 105) والبيهقيُّ في الدلائل (2/ 482): حدثني الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك .. وهذا السند صحيح متصل. الزهري إمام معروف وشيخه له رؤية وهو تابعي ثقة له رؤية رواه عن والده (التقريب-1/ 442). (¬2) أي اقتربوا منه.

في الجنّة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه، فقال: من يردّهم عنّا وله الجنّة أو هو رفيقي في الجنّة، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحبيه: ما أنصفنا أصحابنا) (¬1) يعني الأنصار .. لكن الأنصار كانوا حضورًا غامرًا .. مفعمًا بالحب والفداء .. يصنعون الأحداث .. فيتحدث التاريخ وفاءً. لقد التحق بالأنصار الشهداء شهداءٌ آخرون .. فزاد مجد الأنصار وفخرهم على أرض أُحُد .. يقول أحد الأنصار كأنه يكمل حديث أنس السابق: (لما كان يوم أحد وولّى الناس، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية "في اثني عشر رجلًا. منهم طلحة"، فأدركهم المشركون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من للقوم؟ "قال طلحة: أنا. قال - صلى الله عليه وسلم -: كما أنت"، فقال رجل: أنا، قال - صلى الله عليه وسلم -: أنت، فقاتل حتى قتل. ثم التفت فإذا المشركون، فقال - صلى الله عليه وسلم -: من لهم؟ "قال طلحة: أنا، قال - صلى الله عليه وسلم -: كما أنت". فقال رجل من الأنصار: أنا، قال - صلى الله عليه وسلم -: أنت، فقاتل حتى قتل .. فلم يزل كذلك حتى بقي مع نبي الله طلحة، "فقال - صلى الله عليه وسلم -: من للقوم؟ قال طلحة: أنا" فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى قطعت أصابعه، فقال حسّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قلت: باسم الله، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون، ثم ردّ الله المشركين) (¬2) الذين سمعوا بمكانه - صلى الله عليه وسلم - ولم يبق معه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (الجهاد- غزوة أحد). (¬2) حديثٌ حسنٌ بما قبله عدا ما بين الأقواس الصغيرة وسنده فيه ضعف، لأنه من رواية أبي الزبير عن جابر وهو مدلس ولم يصرح بالسماع من جابر هنا والرواية عند النسائي- (6/ 30) والطبرانيُّ (8/ 304) والحاكم (4/ 570) ولآخر الحديث شواهد ضعيفة تقويه =

في هذا الوقت سوى اثنين من الصحابة .. يقول أحد الصحابة: (إنه لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأيام الذي يقاتل فيهن غير طلحة وسعد" (¬1)، وقد قاتل طلحة حتى قطعت أصابعه وشلّت يده .. رآها أحد الذين أدركوا الجاهلية والإِسلام واسمه: قيس بن أبي حازم فقال: (رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شلّت) (¬2). أثناء هذه الظروف العصيبة والجراح الدامية .. انتشر الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزال على قيد الحياة .. تداعى الصحابة من كل مكان (فلما عرفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهضوا به معهم نحو الشعب، ومعه أبو بكر وعمر وعليّ وطلحة والزبير والحارث بن الصمة في رهط من المسلمين، ولما أسند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب، أدركه أُبيّ بن خلف وهو يقول: يا محمَّد .. لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: أيعطف عليه يا رسول الله رجلٌ منّا؟ فقال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصمة) (¬3)، أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحربة وهو في أشدّ حالات الإعياء والعطش .. لدرجة أنه كان يمشي ويسقط .. ولكنه استجمع قواه ليبعث بها مع حربة الحارث بن الصمة إلى هذا الطاغوت النزق .. ¬

_ = عند المقدسي في المختارة (3/ 42) والطبرانيُّ في مسند الشاميين بسند فيه تابعي مجهول عن أنس (2/ 128). (¬1) حديث صحيح رواه البخاري عن أبي عثمان النهدي (4060 - 4061). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3724). (¬3) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه أبو نعيم (482) وقد مر معنا وللحديث شواهد .. ولم أذكر بقية الحديث لأنه من بلاغات ابن إسحاق دون سند وهو قوله: يقول بعض القوم -فيما ذكر لي-: فلما أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أى الحربة- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشُّعْر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله فطعنه بها طعنة تدأد منها عن ظهر فرسه مرارًا. والشُّعُر: ذباب أزرق يؤذي الإبل.

الرسول يستسقي دماء

الرسول يستسقي دماءً لا يستسقى مطرًا .. بل الساحة والصحابة بأشدّ الحاجة إلى دماء هذا الطاغوت الجريء .. الذي سفك هو وأخوه من الدماء ما يكفي .. سأترك الحديث للزبير ليكمل لنا القصة: يقول رضي الله عنه: (شجَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد في وجهه، وكسرت رباعيته، وذلق من العطش حتى جعل يقع على ركبتيه، وتركه أصحابه. فجاء أبي بن خلف يطلبه بدم أخيه: أمية بن خلف، فقال: أين هذا الذي يزعم أنه نبيّ فليبرز لي، فإنه إن كان نبيًا قتلني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطوني الحربة، فقالوا: يا رسول الله .. وبك حراك؟ فقال: إني قد استسقيت الله دمه، فأخذ الحربة ثم مشى إليه، فطعنه، فصرعه عن دابّته، وحمله أصحابه فاستنقذوه، فقالوا له: ما نرى بك بأسًا. قال: إنه قد استسقى الله دمي، إني لأجد لها ما لو كانت على ربيعة ومضر لوسعتهم) (¬1)، ثم هلك مع من هلك من الطواغيت قبله .. ولحق بأخيه إلى الجحيم- أعاذنا الله منها .. وهرب أتباعه بعد أن رأوا تلك الضربة النبوية المميتة .. وتراكضوا نحو أصحابهم يخبرونهم عن رمح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وعن قوّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكدر عليهم بقية نصرهم .. أمّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعد أن زرع الرمح في جسد أبي بن خلف رجع إلى مكانه متعبًا يشير إلى سنّه المكسورة وجثّة ذلك الطاغوت .. فقال - صلى الله عليه وسلم -: (اشتدّ غضب الله على قوم فعلوا بنبيّه -يشير إلى رباعيته- اشتدّ غضب الله ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن أبي شيبة (3/ 371): حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وشيخ ابن أبي شيبة ثقة ثبت إذا شك في حرف من الحديث تركه التقريب- (2/ 25) وشيخه ثقة عابد (التقريب-1/ 197) من رجال مسلم وهشام ووالده أعلام مروا معنا كثيرًا.

على رجلٍ يقتله رسول الله في سبيل الله) (¬1) (اشتدّ غضب الله على قوم دموا وجه نبيّ الله) (¬2) (اشتدّ غضب الله على من دمى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ") (¬3). رجع - صلى الله عليه وسلم - بينما كان أبو طلحة وغيره كالقلاع حوله - صلى الله عليه وسلم - .. يقول أنس رضي الله عنه: (لما كان يوم أُحد انهزم ناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو طلحة بين يديه مجوبًا عليه بحجفة، وكان راميًا شديد النزع، كسر يومئذ قوسين، أو ثلاثة، وكان الرجل يمرّ معه الجعبة من النبل، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انثرها لأبي طلحة، ثم يشرف على القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، لا تشرف .. يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك) (¬4) (وكان أبو طلحة يدفع صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ويقول: يا رسول الله هكذا لا يصيبك سهم، وكان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: يا رسول الله إني قوي جلد فوجهني في حوائجك وابعثني حيث شئت) (¬5). لم تصب السهام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنها نقشت الشهادة على صدر أحد شباب الصحابة .. كانت شهادة غريبة .. غريبة لأن صاحبها لم يمت في أُحد ولا بعد أُحد .. ولا حتى في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فما هي قصة هذا: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4073). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4074). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4075). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4064). (¬5) سنده كالذهب رواه عبد بن حميد (399) حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس .. وسليمان ثقة إمام حافظ.

الشهيد الذي يمشي على الأرض

الشهيد الذي يمشي على الأرض شاب اسمه رافع بن خديج .. شهيد .. لكنه يعيش بين الناس يأكل معهم ويشرب ويصلّي. ويصوم .. بل ويجاهد في معارك أخرى في هذه الدنيا .. مع أنه من شهداء أحد .. كيف ذلك .. ؟ تقول زوجته رضي الله عنها: (إن رافعًا رمى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد بسهم، في ثندوته، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أنزع السهم؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: يا رافع .. إن شئت نزعت السهم والقطبة جميعًا، وإن شئت نزعت السهم وتركت القطبة، وشهدت لك يوم القيامة أنك شهيد .. فنزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السهم وترك القطبة فعاش بها) (¬1)، حتى مات حاملًا شهادته على ثندوته .. على صدره .. بينما كانت ذقون المؤمنين على صدورهم .. فأمن الصحابة من جديد بعد أن أنزل الله: النعاس من جديد يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: (لقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اشتدّ الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منّا من رجل إلَّا ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير -ما أسمعه إلَّا كالحلم- يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا .. فحفظتها منه، وفي ذلك ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن المنهال (ح) وحدثنا محمَّد بن محمَّد التمار، حدثنا أبو الوليد ومحمَّد بن كثير .. قالوا: حدثنا عمرو بن مرزوق الواشحي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد بن رافع بن خديج عن جدته وهي امرأة رافع رضي الله عنه .. ويحيى تابعي ثقة (الجرح والتعديل-9/ 168) وتلميذه صدوق (التهذيب- 8/ 101) (التقريب-2/ 78) وتلاميذ عمرو كلهم ثقات انظر: (التقريب- 2/ 203) (1/ 154) وأبو الوليد هو الطيالسي (التقريب- 2/ 319) وشيخ الطبراني وتلميذ الحجاج هو الثقة علي بن عبد العزيز بن المرزبان البغوي (البلغة- 228).

أنزل الله: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، لقول معتب) (¬1) والآيات التي نزلت في هذا المنافق المدعو: معتب بن قشير وبقايا المنافقين الذين أبقاهم الخوف .. وأفصح عن نفاقهم الخوف .. هذه الآيات هي قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬2)، أما أولئك الذين لاذوا بالفرار بعد نزول الرماة وحدوث الانتكاسة، فقد تاب الله عليهم وعفى عنهم وأنزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬3). أمّا على أرض المعركة الآن .. فهذا أنس يقول: (ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمِّرتان، أرى خدم سوقهما، تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم) (¬4). أمّا عمر بن الخطاب فيحدّثنا عن امرأة عظيمة أخرى هي "أم سليط"، فيقول: (إنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد) (¬5). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق (تفسير ابن كثير-2/ 126): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير وهذا السند صحيح مر معنا وسوف يمر معنا إن شاء الله ... ويحيى ووالده تابعيان ثقتان. (¬2) سورة آل عمران: الآية 154. (¬3) سورة آل عمران: الآية 155. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (3811). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4071).

هذا الفارس من أهل النار

شرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرب العطشى .. وانحاز كل جيش إلى معسكره .. إلَّا مسلمًا كان يطارد فلول المشركين .. ويطارده الإعجاب في كل مكان يصول فيه ويجول .. لقد كان هذا الفارس المتغلغل في جموع المشركين وأجسادهم ملء السمع والبصر من الصحابة .. كانوا يمدحونه يرون أنه أكثر من صارع الكفار وصرعهم .. وأنه لا أحد ممّن بقي حيًا من المسلمين قاتل مثل قتاله .. وسمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمره فسأل عن اسمه ونسبه فأخبروه فلم يعرفه .. ووصفوا له وجهه وجسده ولباسه فلم يعرفه .. وبينما كان يطارد إحدى ضحاياه مرت ضحيته ومرّ كالسهم وراءها بين عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة آلمت الصحابة جدًا: هذا الفارس من أهل النار سهل بن سعد رضي الله عنه كان حاضرًا يسمع ويرى ويروي فيقول: (إنه قال: يا رسول الله -يوم أُحد- ما رأينا مثل ما أتى فلان .. أتاه رجل .. لقد فرّ الناس وما فرّ، وما ترك للمشركين سادةً ولا قادةً إلا أتبعها يضربها بالسيف. قال - صلى الله عليه وسلم -: ومن هو؟ فنسب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبه فلم يعرفه، ثم وصف له بصفة فلم يعرفه، حتى طلع الرجل بعينه، فقال: ذا يا رسول الله الذي أخبرناك عنه. فقال: هذا؟ فقالوا: نعم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنه من أهل النار. فاشتدّ ذلك على المسلمين، قالوا: أيّنا من أهل الجنّة إذا كان فلان من أهل النار؟ فقال رجل من القوم: يا قوم .. أنظروني فوالذي نفسي بيده لا يموت على مثل الذي أصبح عليه، ولأكونن صاحبه من بينكم. ثم راح على جده في العدو، فجعل الرجل يشدّ معه إذا شدّ، ويرجع معه إذا

رجع، فينظر ما يصير إليه أمره، حتى أصابه جرح أذلقه (¬1)، فاستعجل الموت، فوضع قائم سيفه بالأرض، ثم وضع ذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه حتى خرج من ظهره. وخرج الرجل يعدو ويقول: أشهد أن لا إله إلَّا الله .. وأشهد أنك رسول الله .. حتى وقف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: وذاك ماذا؟ فقال: يا رسول الله .. الرجل الذي ذكر لك، فقلت: من أهل النار، فاشتدّ ذلك على المسلمين، وقالوا: أيّنا من أهل الجنّة إذا كان فلان من أهل النار؟ فقلت: يا قوم أنظروني، فوالذي نفسي بيده لا يموت على مثل الذي أصبح عليه، ولأكونن صاحبه من بينكم، فجعلت أشدّ معه إذا شد، وأرجع معه إذا رجع، انظر إلى ما يصير أمره، حتى أصابه جرح أذلقه، فاستعجل الموت، فوضع قائم سيفه بالأرض، ووضع ذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه حتى خرج من بين ظهره، فهو ذاك يا رسول الله، يضطرب بين أضغاثه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنّة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وإنه لمن أهل الجنّة) (¬2)، كما في قصة عمرو بن أقيش الذي لم يسلم إلَّا وسط المعركة واستشهد ودخل الجنّة .. وهو لم يصلّ لله ركعة واحدة .. وأمّا هذا البطل المجاهد فهو من أهل النار .. ليس ¬

_ (¬1) بلغ به الألم أشده. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4202) وأبو يعلى (زوائد- 1/ 428) واللفظ له وسنده عنده، حسن: حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن القاصد عن أبي حازم، عن سهل بن سعد .. وهذا السند حسن من أجل سعيد ... ملاحظة ورد في الزوائد أنه: سعيد القاص والصواب: القاضي، فهو قاضي بغداد وليس في ترجمته ما يدل على إنّه قاص .. وأبو حازم تابعي لم يسمع إلا من سهل (جامع التحصيل- 227).

لأنه غير مسلم .. بل هو مسلم .. لكن هناك فرق بين الاستشهاد والانتحار .. وهذا البطل المجاهد قد انتحر .. لم يصبر لتقتله جروحه أو ليشفى منها .. لم يقتله أحد .. بل هو الذي قتل نفسه .. ولو أدرك ما للجراح والآلام من منافع لطلب المزيد، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: أكتب له صالح عمله، فإن شفاه غسله وطهّره، وإن قبضه غفر له ورحمه) (¬1)، ويقول تعالى: (إذا ابتليت عبدي المؤمن، فلم يشكني إلى عواده، أطلقته من إساري، ثم أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ثم يستأنف العمل) (¬2)، ويبدأ من جديد مطهرًا من كل ذنب .. ويقول - صلى الله عليه وسلم - عن الذين يكثر ابتلاؤهم وامتحانهم في الدنيا: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وأن الله تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط) (¬3). أمّا عن مثل هذا المسلم الشجاع .. فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم، خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا، فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم، خالدًا مخلدًا فيها أبدًا) (¬4). أمّا الشهيد .. فـ (للشهيد عند الله سبع خصال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح (صحيح الجامع-1/ 110). (¬2) حديث صحيح (صحيح الجامع-2/ 793) وهو حديث قدسي. (¬3) حديث صحيح (صحيح الجامع- 1/ 424). (¬4) حديث صحيح (صحيح الجامع-2/ 1102).

أوجب طلحة

1) يغفر له في أوّل دفعة من دمه. 2) ويرى مقعده من الجنّة، ويحلى حلة الإيمان. 3) ويزوّج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين. 4) ويجار من عذاب القبر. 5) ويأمن الفزع الأكبر. 6) ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها. 7) ويشفع في سبعين إنسانًا من أهل بيته) (¬1). مات ذلك الفارس .. ونهض - صلى الله عليه وسلم - إلى مكان عند صخرة ليستريح وحوله من حوله من الصحابة .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن يستريح أراد الاطلاع إلى ما آلت إليه المعركة .. فحاول الصعود على الصخرة فلم يستطع .. لأنه كان مرهقًا .. ولأنَّه كان يلبس درعين .. فتأمّله طلحة رضي الله عنه وتأمّل يده تشخب دمًا .. فهانت عليه آلامه ومتاعبه ويده .. فنثرها جميعًا تحت قدميه - صلى الله عليه وسلم - .. حقًا لقد: أوجب طلحة يقول الزبير رضي الله عنه: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أُحد "وكان على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد درعان"، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينهض على صخرة، فلم يستطع، فبرك طلحة بن عبيد الله تحته، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ظهره حتى جلس على الصخرة، قال الزبير: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أوجب طلحة) (¬2)، أي فعل ما يوجب دخوله الجنّة .. نظر - صلى الله عليه وسلم - إلى ما أراد أن ينظر ¬

_ (¬1) حديث صحيح (صحيح الجامع-2/ 920). (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه- ابن حبان (زوائد- 546) واللفظ له والحاكم (3/ 374) وأحمدُ (1/ 165): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن =

إليه (ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأتى بالمهراس، فأتاه بماء في درقته، فأراد أن يشرب منه فوجد له ريحًا فعافه، فغسل به الدم الذي في وجهه وهو يقول: اشتدّ غضب الله على من دمى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1)، لكن الله سبحانه وفي هذه الساعة المريرة يرسل جبريل عليه السلام إلى نبيه مصححًا .. شارحًا صدره ليتسع لأكثر من هذه المعركة ومآسيها .. ليكون صدرًا من تسامح وهداية لكل الأرض .. فبعد أن (شج في وجهه، وكسرت رباعيته، ورمي رمية على كتفه فجعل يسيل الدم على وجهه، وهو: يمسحه ويقول: كيف تفلح أمة فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}) (¬2) امتثل - صلى الله عليه وسلم - فمسح قوله ودمه .. بدعاء كالمطر (اللَّهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (¬3) .. وجاءت ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها لتغسل الدم عن وجه أبيها كما غسلته أيام مكة المضنية .. يقول أحد الصحابة عليهم السلام: (أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن كان يسكب الماء، وبما دووي .. قال: كانت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغسله، وعليّ بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن، ¬

_ = عبد الله بن الزبير عن أبيه: ويحيى تابعي ثقة .. والزيادة للحاكم. (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه - ابن حبان (زوائد- 546) واللفظ له والحاكم (3/ 374) وأحمدُ (1/ 165): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن الزبير عن أبيه: ويحيى تابعي ثقة .. والزيادة للحاكم. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (1791) والترمذيُّ (3003) واللفظ له وسند الترمذيُّ صحيح. (¬3) سنده حسن رواه ابن حبان (3/ 254) والضحاك (4/ 123) من طريق محمَّد بن فليح عن موسى بن عقبة عن الزهري عن أنس، ومحمَّد حسن الحديث- التقريب (1/ 201) وموسى والزهرى إمامان ثقتان ثبتان.

فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلَّا كثرة، أخذت قطعة من حصير وأحرقتها، وألصقتها فاستمسك الدم) (¬1). وبعد أن استمسك الدم وهدأت الساحة .. أخبر - صلى الله عليه وسلم - باستشهاد حمزة ورفاقه، فتكدّر وحزن حزنًا شديدًا .. ثم قال: (من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل أعزل: أنا رأيت مقتله، قال - صلى الله عليه وسلم -: فانطلق أرناه. فخرج - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) في الوقت الذي يتحدث البعض عن مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لم يروه حتى الآن .. فهم هناك مهمومون في البحث عنه .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (فما زلنا كذلك ما نشكّ أنه قتل حتى طلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين السعدين نعرفه بتكفئه إذا مشى ففرحنا كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فرقي نحونا وهو يقول: اشتدّ غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويقول مرة أخرى: اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا، حتى انتهى إلينا فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: أعل هبل .. أعل هبل -يعني آلهته-) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4075). (¬2) سنده حسن رواه ابن أبي شيبة (7/ 372): حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، حدثنا الزهريّ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه -وهذا السند حسن رجاله ثقات إلا أن في عبد الرحمن بن عبد العزيز كلامًا لا ينزل به عن رتبة الحسن، فهو ثقة كما قال يعقوب بن شيبة .. وهو كثير الحديث عالم بالسيرة كما قال ابن سعد ووثقه ابن حبان وهو من رجال مسلم. أما جرحه فهو غير مفسر. قال الأزدي: ليس بالقوي عندهم .. وقال ابن أبي حاتم شيخ مضطرب الحديث (التهذيب 6/ 220) وقال الحافظ ملخصا أقوال العلماء في التقريب (1/ 489) صدوق يخطئ. وليس هناك من لا يخطئ. (¬3) حديث صحيح وهو حديث ابن عباس عند أحمد وقد مر تخريجه وهو من طريق سليمان =

أطلق أبو سفيان هذه الكلمات المنحطّة منتشيًا بنصر غير مؤكّد .. فقد هزم هو وجيشه في أوّل المعركة .. وكاد الزبير أن يسبي زوجته هند ورفيقاتها .. وجُندل من جيشه سبعون .. ومازال المسلمون يحتفظون بسبعين آخرين في الأسر .. أما المسلمون .. فقد استشهد منهم سبعون .. ولم يؤسر منهم أحد .. لو كان نصر أبي سفيان وجيش الشرك من خلفه حقيقيًا لخلصوا رفاقهم من الأسر وطاردوا المؤمنين إلى المدينة .. وهي قريبة من أُحد. لكن المشركين لم يصدقوا أنهم قتلوا حمزة .. لم يصدقوا أنهم نجوا مما حدث في أوّل النهار .. وكان أعلى ما حصلوا عليه هو إطلاق إشاعة موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - .. هم أطلقوها .. وهم صدّقوها .. أمّا المسلمون .. فيعتبرونها خسارة إذا ما قارنوها ببدر .. أو قارنوا أوّل النهار بآخره .. لكن المعركة في الميزان العسكري .. نصر للمؤمنين .. وهم الأعلون الآن فوق الجبل .. وأبو سفيان في أسفل الجبل يزعج الجبال والفضاء ويقول: أعل هبل .. ولما لم يجد إجابة لهذا الاستفزاز .. ألحق به استفزازًا آخر فقال: (أين ابن أبي كبشة .. أين ابن أبي قحافة .. أين ابن الخطاب) (¬1)، فلم يجبه أحد فأصبح أكثر تعقّلًا وتأدّبًا، فقال: (أفي القوم محمَّد .. أفي القوم محمَّد .. أفي القوم محمَّد .. فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة .. ¬

_ = ابن داود أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد. (¬1) حديث صحيح وهو حديث ابن عباس عند أحمد وقد مر تخريجه وهو من طريق سليمان ابن داود أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد.

أفي القوم ابن أبي قحافة .. أفي القوم ابن أبي قحافة، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب .. أفي القوم ابن الخطاب .. أفي القوم ابن الخطاب .. ثم رجع إلى أصحابه فقال: أمّا هؤلاء فقد قتلوا. فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلّهم، وقد بقي لك ما يسوؤك) (¬1) .. (هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر. فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دول، وإن الحرب سجال. فقال عمر: لا سواء .. قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار، قال: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا. ثم قال أبو سفيان: أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلًا (¬2) .. ولم يكن ذلك عن رأي سراتنا .. ثم أدركته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه قد كان ذلك فلم نكره) (ستجدون في القوم مثلة (¬3) لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز: أعل هبل .. أعل هبل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تجيبوه؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ قال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزّى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3041) والحديث جاء دون تكرار إنما قال الراوي: ثلاث مرات. (¬2) أي ستجدون تشويها بجثث أصحابكم وتقطيعًا. (¬3) أيضًا ستجدون تشويهًا بجثث أصحابكم وتقطعًا.

تجيبوه؟ قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) (¬1)، عندها خسئت ألفاظ الشرك .. وتهاوى تمجيد الأصنام .. أمام هذا التوحيد النقيّ الذي لا تشوبه شائبة .. لكن أحد المشركين أراد التطاول على هذا الإخلاص المتوهّج في صدر محمَّد وصحبه عليهم الصّلاة والسّلام .. أراد أن يحمل أصنامه إلى رحاب الله .. فكيف كانت العاقبة .. ؟ يقول بريدة رضي الله عنه: (إن رجلًا قال يوم أُحد: اللهمّ إن كان محمَّد على الحق فاخسف به .. قال: فخسف به) (¬2)، ورأى المشركون المعجزة بأعينهم .. فالتهمت بقية معنوياتهم كما التهمت الأرض ذلك المتطاول .. فولّوا مدبرين إلى مكّة على عجل خشية أن يهبّ المؤمنون مرة أخرى .. فيخطفوا بقايا الفرح التي التقطوها من أرض أُحد .. وقد يتساءل بعض المشركين وهو في طريق عودته: إذا كان الله قد أعطى محمدًا المعجزات كقتل أبي بن خلف .. والخسف بهذا الرجل .. فلماذا لم ينصره علينا وعلى الدنيا نصرًا مؤزرًا حتى الآن .. ؟! وقد غاب عن ذهن هذا المتسائل المسطح .. أن الإِسلام لا ينتشر بالمعجزات ولا بالخوارق .. لأنها تأتي مع الأنبياء وتغادر معهم .. أمّا الإِسلام فقد جاء للبشر .. وبجهدهم -بعد الله- ينتشر وينداح .. وينتصر .. وبانحطاطهم ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3041). (¬2) سنده حسن رواه البزار (زوائد-2/ 329) حدثنا عبدة بن عبد الله أنبأنا زيد بن الحباب، أنبأنا الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال الهيثمي رحمه الله: رجاله رجال الصحيح .. وهو كما قال إلا أن زيدا من رجال مسلم فقط وحديثه حسن إذا لم يخالف -التقريب (1/ 273) شيخ البزار من رجال البخاري فقط وهو الصغار- ثقة: التقريب (1/ 530) والحسين بن واقد ثقة من رجال مسلم (السابق-1/ 180) وعبد الله تابعي ثقة من رجال الشيخين.

وتخلّفهم وسطحية فهمهم يتحوّل الإِسلام إلى ضحية .. إلى خزانةٍ ضخمةٍ مليئة بالتهم .. يلقي فيها الناس عيوبهم .. ها هم أفضل الناس .. أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. عندما عصوه -مجتهدين- انقلبت المعركة على رؤوسهم ورؤوس أصحابهم الملتزمين بأوامره .. ولم تسعفهم المعجزات ولا الدعوات .. (إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه) (¬1). أمّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد هبّ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. بعد إدبار المشركين .. فبدأ بالدعاء لجبر ما انكسر من الداخل .. دعاء الواثق .. لا دعاء ذلك الغارق بين طبقات الأرض .. وذلك: (لما كان يوم أُحد وانكفأ المشركون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استووا حتى أثني على ربيّ، فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: اللهمّ لك الحمد كلّه، اللهمّ لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضلّ لمن هديت، ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مبعد لما قرّبت، اللهمّ أبسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك، اللهمّ إنّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، "اللهمّ إني أسألك النعيم المقيم يوم القيامة"، اللهمّ إني أسألك النعيم يوم الغلبة، والأمن يوم الخوف، اللهمّ إني عائذ بك من شرِّ ما أعطيتنا، وشرِّ ما منعت منّا، اللهمّ حبِّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهمّ توفّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا ¬

_ (¬1) حديث صحيح انظر صحيح الجامع الصغير.

مفتونين، اللهمّ قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك، اللهمّ اجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهمّ قاتل "كفرة أهل الكتاب" إله الحق) (¬1). هدأت الأنفس مع الله .. واطمأنت الأرواح بهذا الدعاء .. فالأمر لله من قبل ومن بعد .. ولا رادّ لقضائه .. لله خرجوا وبه قاتلوا .. والحمد لله على كل حال .. تهادى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه خلف ذلك الرجل الأعزل الذي مشى أمامهم ليدلّهم على مقتل حمزة .. مشى الرجل (حتى وقف على حمزة، فرآه قد بقر بطنه، وقد مُثّل به، فقال: يا رسول الله .. مثّل به والله، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينظر إليه) (¬2) (وقد جدع ومُثّل به، فقال: لولا أن تجد صفية في نفسها تركته حتى تأكله العافية، فيحشر من بطونها) (¬3) أي من بطون الوحوش .. وصفية هذه التي خاف عليها - صلى الله عليه وسلم - هي عمّته .. صفية بنت عبد المطلب .. وهي شقيقة حمزة وأم الزبير بن العوام .. وهي المقصودة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطير وبطون السباع) (¬4) .. (ثم ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه البزار (زوائد-2/ 130) والحاكم (1/ 686) والبخاريُّ في الأدب المفرد (حديث 699) والبيهقيُّ في الاعتقاد (2/ 453) كلهم من طريق عبد الواحد بن أيمن المكي. حدثني عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه قال: وعبيد بن رفاعة تابعي ثقة ولد على عهده (ص) وثقه العجليّ- التقريب (1/ 543) وعبد الواحد تابعي صغير من رجال مسلم قال في التقريب: لا بأس به (1/ 525) وقد روي عنه هذا الحديث ثقتان هما خلاد بن يحيى وهو من كبار شيوخ البخاري ومروان بن معاوية وهو ثقة حافظ. (¬2) سنده جيد رواه ابن أبي شيبة (7/ 372) لكن يشهد لأوله ما بعده. (¬3) سنده حسن رواه جماعة عن أسامة بن زيد الليثي عن الزهريّ عن أنس .. وأسامة حسن الحديث إذا لم يخالف وهو من رجال مسلم انظر التقريب (1/ 53) والحديث رواه أبو داود (3136) والترمذيُّ (1016) والبيهقيُّ (4/ 10 سنن) والدارقطنيُّ (4/ 116) والحاكم (1/ 519) والطبرانيُّ (3/ 144) وحسنه الشيخ الألباني. (¬4) سنده ضعيف لكنه حسن بما قبله .. رواه ابن أبي شيبة (7/ 372) والبيهقيُّ (سنن - =

دعا بنمرة، فكانت إذا مدت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مدت على رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مدوها على رأسه واجعلوا على رجليه الحرمل) (¬1)، وهو نبات صحراوي يستعمل في الطب .. استعمله - صلى الله عليه وسلم - لتكفين الراقد الذي كان يزرع الرعب في قلوب المجرمين وينثر الاطمئنان على صدور المومنين .. هذا الراقد الذي قال عنه - صلى الله عليه وسلم -: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب) (¬2) .. ثم توجه - صلى الله عليه وسلم - إلى راقد آخر .. وقف عند قبره وتأمّله طويلًا .. راقد جمع المجد من أطرافه .. جمع العلم والفروسية .. على يديه تعلمت المدينة كتاب الله وأصغت إليه طريًا من فمه الطاهر .. إنه شاب ترك مال أمه وأبيه .. ترك الجاه والثراء .. لا لأنه حرام .. ولكنه كان مرهونًا بالشرك .. فرفض الشرك ورفض كل شيء يقدمه الشرك وأهله .. التحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعلّم منه وتعلم القرآن .. ثم أرسله - صلى الله عليه وسلم - وحيدًا إلى المدينة .. يشع في دورها ويفوح عبيره في أبياتها .. وها هي قصة حياته وشقائه ومعاناته تمرّ في مخيلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. ها هو مصعب راقد بسلام والحزن من حوله أثقل من جبل أحد .. ها هو أحد الذين كانوا يعانون الأمرّين مثل مصعب .. خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول عن رفيقه مصعب: (هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير ¬

_ = 4/ 12) والطبرانيُّ (3/ 142) والبزار- زوائد (2/ 372) كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن مقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس. ويزيد ضعيف. (¬1) سنده حسن رواه جماعة عن أسامة بن زيد الليثي عن الزهريّ عن أنس .. وأسامة حسن الحديث إذا لم يخالف وهو من رجال مسلم انظر التقريب (1/ 53) والحديث رواه أبو داود (3136) والترمذيُّ (1016) والبيهقيُّ (4/ 10 سنن) والداردطني (4/ 116) والحاكم (1/ 519) والطبرانيُّ (3/ 144) وحسنه الشيخ الألباني. (¬2) انظر صحيح الجامع للشيخ ناصر.

قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلَّا نمرة، كانوا إذا وضعوها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعوها على رجليه خرج رأسه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر) (¬1). وهو نبات طيّب الرائحة لكن مصعبًا أطيب منه .. يقول أبو ذر رضي الله عنه: (لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحُد مرّ على مصعب مقتولًا على طريقه فقرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}) (¬2) {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬3). هذه الآية التي نزلت قبل قليل .. تلاها - صلى الله عليه وسلم - وهو يمر بجسد مصعب ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1276) وابن أبي شيبة (7/ 367) واللفظ له. (¬2) إسناده حسن رواه الحاكم (3/ 200) حدثني محمَّد بن صالح بن هانئ، حدثنا يحيى بن محمَّد بن يحيى الشهيد، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، حدثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الأعلي بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير عن أبي ذر .. وعبيد: وعمير ولد على عهد النبي (ص) وذكر البخاري أنه رأى النبي (ص) وقد أجمع على توثيقه، انظر: التهذيب (7/ 71) وجامع التحصيل (285) وتلميذه الذي يروي عنه صدوق أظن الحافظ قد أخطأ بحعله من السادسة، والأَولى أن يكون من الخامسة أو الرابعة لأن ابن عمر توفي قبل عبيد .. وعبد الأعلى ثقة فقيه- التقريب (1/ 464) وحاتم حسن الحديث إذا لم يخالف .. قال الحافظ: صحيح الكتاب صدوق يهم وهو من رجال الشيخين- التقريب (1/ 137) وعبد الله الحجبي ثقة من رجال البخاري (التقريب- 1/ 430) يحيى هو الذهلي الثقة الحافظ (التقريب-2/ 357) وتلميذه هو الثقة الحافظ الزاهد أبو جعفر الوراق .. قال ابن الجوزي .. كان له فهم وحفظ وكان من الثقات لا يأكل إلا من كسب يده. وقال عنه ابن يعقوب: صحبت محمَّد بن صالح ما رأيته أتى شيئًا لا يرضاه الله ولا سمعت منه شيئًا يسأل عنه وكان يقول الليل (المنتظم-6/ 370) وقد رواه البيهقي (3/ 284) من طريق الحاكم (3/ 24) بسند صحيح. (¬3) أكملت الآية للفائدة.

الطاهر .. وكان في نزولها تكريم لهؤلاء الرجال الذين صدقوا مع الله في عهودهم .. فمنهم من قضى نحبه ووفى بعهده كمصعب وحمزة .. وهناك من قضى نحبه وهو لا يزال حيًا مثل طلحة بن عبيد الله .. الذي شلت يده وارتقى - صلى الله عليه وسلم - على ظهره ثم قال له: أوجب طلحة .. أي أتى بعمل صالح أوجب له الجنّة .. وهناك من ليس بين الأحياء ولا يتبين بين الأموات .. إنه أنس بن النضر عم أنس بن مالك الذي يقول: (نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}) (¬1) لكن أين أنس .. ؟ لا أحد يدري .. كما أن المشركين لم يأخذوا معهم أسرى وإلاّ لقلنا إنه معهم .. سنترك بعض الصحابة ليبحثوا عن أنس بينما نتعقب هذه المرأة لنرى ما تفعله على أرض أُحُد .. إنها فاطمة بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله بن عمرو بن حرام .. وزوجة عمرو بن الجموح .. وعمّة جابر بن عبد الله .. وهي تحمل حزنًا كالجبال .. فقد فقدت آخاها وزوجها .. فأذهلها الوجد عمّا يجري حولها .. فاتّجهت إلى زوجها فحملته على بعير .. واتجهت إلى أخيها فحملته أيضًا وعادلتها على ذلك البعير .. ثم أمسكت بخطام البعير ومضت مهمومة نحو المدينة .. مهمومة لكنها متماسكة بالإيمان بقضاء الله وقدره. لقد مضى عبد الله ومضى عمرو وربما استشهد أبناؤها الأربعة أو بعضهم .. فأي حزن تحمله هذه المرأة المسكينة .. وماذا ستقول لجابر وأخواته .. تابعت هذه المسكينة سيرها وحزنها وصبرها نحو المدينة .. بينما كان جابر لا يزال مرابطًا مع النظارين على مشارف المدينة .. فإذا به ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4783).

يشاهدها ويشاهد فجيعتها على ظهر البعير .. يقول رضي الله عنه: (فبينا أنا في النظارين، إذ جاءت عمتي بأبي وخالي) عادلتهما على ناضح، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي: ألا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعنا بهما) (¬1) إلى أُحد حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يشرف على تكفين الشهداء استعدادًا لدفنهم .. وعاد من حَمَل قتيله بقتيله من المدينة .. ووصل جابر وعمتّه وربما بعض أخواته المسكينات .. وترجّل الفارسان عن البعير .. فانهمرت دموع جابر على وجه والده الحنون .. وتعالى نشيجه وحرقته عليه .. فرآه الصحابة .. فنهوه عن ذلك .. بينما كان - صلى الله عليه وسلم - شاخصًا إلى هذا الكرب .. متألمًا ومبشرًا .. يقول جابر الحزين رضي الله عنه: (لما قتل أبي يوم أحُد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهوني وهو لا ينهاني، وجعلت عمتي فاطمة تبكيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تبكيه، أو لا تبكيه، مازالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى رفعتموه) (¬2)، هذه هى البشرى الأولى .. أما الثانية فهي في طريقها من السماء إلى هذا الراقد بسلام. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (3/ 397) وأبو داود والنسائيُّ مختصرًا: حدثنا أبو عوانة وشعبة وسفيان كلهم عن: الأسود بن قيس عن نبيح العنزى عن جابر. فالأسود بن قيس تابعي ثقة من رجال الشيخين (التقريب- 1/ 76) وشيخه ثقة وقد أخطأ الحافظ رحمه الله عندما قال في التقريب إنه: (مقبول) فهو ثقة وإن لم يعرفه الحافظ ابن المديني رحمه الله فقد عرفة أبو زرعة فقال: ثقة، والعجليّ فقال: ثقة، وصحح حديثه كل من ابن خزيمة والترمذيُّ، وابن حبان، والحاكم انظر الجرح والتعديل (8/ 508) والتقريب (2/ 297) والتهذيب (10/ 417). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1244).

كانت البشائر كالمطر على أجساد وأرواح الشهداء .. ها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يشاهد إحداها .. تحلّق فوق جثمان حنظلة بن أبي عامر .. الذي انسلّ من فراش حبيبته ليسلّ سيفه وروحه دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى فقدهما على أرض أحد .. إنه منظر مهيب .. الملائكة تقوم بتغسيله .. فيتساءل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سرّ هذه الكرامة .. سمع الزبير ذلك التساؤل فقال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قتل حنظلة بن أبي عامر بعد أن التقى هو وأبو سفيان بن الحارث "فلما استعلى حنظلة رآه شداد بن شعوب، فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن صاحبكم تغسله الملائكة "فاسألوا صاحبته" فسألوا صاحبته فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جنب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لذلك غسلته الملائكة) (¬1)، ومنذ ذلك اليوم صاروا يسمونه "غسيل الملائكة" .. عُرف الشهداء كلّهم إلَّا واحدًا .. الجميع يبحث عنه .. والجميع يتحدّث عن بسالته .. فأين هو .. أين عمّك يا أنس بن مالك .. أين أنس ابن النضر .. ؟ إنه ليس بين الأحياء ولم يتعرف إليه أحد بين الشهداء .. وتأتي إجابة أنس ممزوجة بالحزن والإعجاب .. بالوفاء والبطولة النادرة .. لم يتعرف أحد على جثته .. لكن أخته الربيع بنت النضر قدمت من المدينة من أجله .. طافت بين الشهداء وقتلى المشركين فلم ترَ وجه أخيها أنس .. وبينما هي تطوف توقفت أمام جسد أثار انتباهها .. ثم جلست ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه السراج (الإصابة- 13/ 299) ومن طريقهما رواه الحاكم (3/ 204): حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده .. وهذا السند مر معنا كثيرًا وهو صحيح .. فيحيى ووالده تابعيان ثقتان.

النبي يبشر الشهداء

وأخذت إحدى يديه تقلّبها ثم بكت .. هذه أنامل أخيها وحبيبها ورفيق طفولتها .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه عن عمّه: (قاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة، ورمية، فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفتُ أخي إلَّا ببنانه .. ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، قال: فكانوا يرون أمّا نزلت فيه وفي أصحابه) (¬1). ومضى أنس بعد أن برّ بيمينه .. وتلقّى السيوف بكل جسده حتى تزيّن كله بها .. كان جسد أنس أرضًا ثانية للمعركة .. حتى أن وجهه لم يعرف من الجراح والشقوق وتشويه المشركين له .. فنزلت هذه الآيات العظيمة فيه وفي رفاقه .. فقرأها - صلى الله عليه وسلم - وبشّرهم وبشّر من بعدهم. النبي يبشّر الشهداء فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه، ودعا له، ثم قرأ هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلَّا ردوا عليه) (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2805) ومسلمٌ (1903) واللفظ له. (¬2) سنده صحيح رواه الحاكم (3/ 24) ومن طريقه البيهقي (3/ 284): أخبرنا أبو الحسين: عبيد الله بن محمَّد القطيعي ببغداد من أصل كتابه، حدثنا أبو إسماعيل محمَّد بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الأعلي بن عبد الله بن أبي فروة, عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: =

وقف - صلى الله عليه وسلم - أمام هؤلاء الأبرار وبشّرهم .. هؤلاء الأبرار الذين سافروا إلى جناتهم .. التي لا تعرف مللًا ولا شقاءً ولا رتابة .. جناتهم التي علت كل طموح وفاقت كل تصوّر .. أمّا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو بينهم وسيبدأ بعد قليل بدفنهم .. لكن امرأة مذهولة تركض نحو الشهداء .. يحملها الحزن والوجد وتحمل في يديها شيئًا .. أشفق - صلى الله عليه وسلم - عليها .. وخاف على مشاعرها فأمر الصحابة أن يحولوا بينها وبين فضائع التشويه التي فعلها الوثنيون بأجساد الشهداء .. يقول الزبير رضي الله عنه: (إنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تراهم، فقال: المرأة .. المرأة. قال الزبير: فتوسمت أنها صفية، فخرجت أسعى إليها، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى. فلدمت في صدري -وكانت امرأة جلدة- قالت: إليك عني لا أرض لك. فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزم عليك. فوقفت، وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله، فكفنوه فيهما. قال الزبير: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل، فعل به كما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضة وخنى أن يكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فقدرناهما، فكان أحدهما أكبر من ¬

_ = وهذا السند صحيح. عبيد مجمع على ثقته، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (التقريب- 1/ 544) وتلميذه صدوق (التقريب-2/ 127) وعبد الأعلى: ثقة فقيه (السابق- 1/ 464) وسليمان التيمي ثقة من رجال الشيخين (السابق-2/ 322) والأويسي ثقة أيضًا (السابق-1/ 510) وتلميذه ثقة حافظ (التهذيب- 9/ 62) والتقريب (2/ 145).

الآخر، فأقرعنا بينهما، فكفنّا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له) (¬1) .. إذًا فقد حصل حمزة على كفن بعد أن كان ثوبه هو كفنه .. واقتسم المهاجرون والأنصار الأشجان والكفان .. وها هو أمير الاقتسام والكرام .. سعد بن الربيع مضرجًا بدمائه .. ينظر إليه عبد الرحمن بن عوف .. مودعًا أخًا لم تلده أمه .. محتفظًا بجميله .. محتفظًا بجماله الأنصاري .. في ذلك اليوم الذي قدم فيه عبد الرحمن بن عوف من مكة معدمًا لا يملك شيئًا .. في ذلك اليوم توهج سعد بن الربيع بدرًا في ليل ابن عوف وأحزانه .. قدم المهاجرون من مكة و (لما قدموا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلقها فإذا انقضت عدّتها فتزوّجها) (¬2) .. ها هو الكريم راقد رقدة الموت .. قد ترك خلفه زوجة واحدة وابنتين (¬3) يبكينه بحرقة .. وها هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أمام جسد والده الطاهر يبكي .. وفي مكان آخر يذرف هشام بن عامر بن أمية الأنصاري يذرف دموعًا على والده الحبيب .. كانت الساحة تغصّ بالأحزان والدموع .. كثر البكاء .. ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه أحمد (1/ 165) والبزار (3/ 195) والحارث زوائد (2/ 701) وأبو يعلى (2/ 45) من طريق سليمان بن داود الهاشمي أخبرني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن عروة أخبرني أبي الزبير ... وهذا السند رجاله ثقات لكن علته هو عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو صدوق لكنه تغير عند قدومه بغداد وكون سليمان بغدادي يعكر صفو هذا السند .. لكنه لم ينفرد فقد تابعه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة متقن والراوي عنه ثقة إلا إذا روى عن علي بن مسهر، وهذه ليست منها وقد وثقه أبو حاتم وابن قانع ومدحه ابن معين التهذيب (1/ 169) وهذه المتابعة عند البيهقي في السنن (3/ 401). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3780). (¬3) سيمر معنا الدليل لاحقًا.

الصلاة على الشهداء

(وكثر القتلى، وقلّت الثياب) (¬1). يقول هشام بن عامر رضي الله عنه: (شكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدّة الجراح يوم أُحد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا في القبر الاثنين والثلاثة، وقدموا أكثرهم قرآنًا، فقدموا أبي بين يدي رجلين) (¬2) .. (وكان يكفن الرجل أو يكفن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن أكثرهم قرآنًا، فيقدمه إلى القبلة فدفنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬3) دون أن يغسلهم .. دفنهم بجراحهم الطاهرة ودمائهم العبقة .. (أمر بدفنهم في دمائهم- ولم يغسلوا) (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أنا شهيد على هؤلاء، لفّوهم في دمائهم فإنه ليس جريح يجرح في الله إلَّا جاء وجرحه يوم القيامة يدمي، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك) (¬5). هذا ما جرى حول الدفن والكفن .. لكن ماذا عن: الصلاة على الشهداء هل صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - على شهداء أحد، أم أنه لم يفعل كما حدث لشهداء بدر رضي الله عنهم جميعًا .. ¬

_ (¬1) سنده حسن وقد مر معنا وهو حديث أنس السابق وقد حسنه الشيخ ناصر حفظه الله. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد (4/ 19) وأبو داود (3214) والترمذيُّ (1713) وابن ماجه (1560) والنسائيُّ (4/ 81) والبيهقيُّ (4/ 34) وأبو يعلى (3/ 124) وعبد الرزاق (3/ 508) والطبرانيُّ (22/ 172) من طرق عن حميد بن هلال عن هشام بن عامر .. وحميد تابعي ثقة عالم وهو لم يسمع هذا الحديث من هشام .. سمعه من ابنه التابعي الثقة: سعد بن هشام .. ومن أبي الدهماء وهو ثقة أيضًا واللفظ لابن شيبة (3/ 372) وانظر أحكام الجنائز للإمام الألباني (142). (¬3) هو الحديث قبل السابق. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (1343). (¬5) حديثٌ حسنٌ مر معنا من حديث الزهريّ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وله شواهد قوية.

يحدّثنا عن ذلك أحد الذين لم يحضروا المعركة، لكنه حضر إلى أرضها بعد انتهائها .. وشاهد عمليات التكفين والدفن .. إنه ذلك الشاب الذي كانت دموعه تتساقط كالمطر على وجه أبيه- الشهيد .. إنه جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما، وهو يقول: (لما قتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهوني وهو لا ينهاني، وجعلت عمّتي تبكيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تبكيه أو لا تبكيه مازالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى رفعتموه) (¬1)، ثم (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحد قدّمه في اللحد، وقال - صلى الله عليه وسلم -: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلّ عليهم ولم يغسلهم) (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1244). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1347). ملاحظة: ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة وحده .. وورد أنه صلى على حمزة وعلى بقية الشهداء كمجموعات معه رضي الله عنهم .. والذي جعلني لا أذكر هذا في المتن هو إشكال في أسانيد ومتون تلك الروايات وهذا الإشكال يتلخص في النقاط التالية: 1 - حديث ابن إسحاق عن ابن الزبير وهو جيد الإسناد وابن إسحاق قوي الحديث إذا لم يخالف من هو أوثق منه. 2 - حديث أنس بن مالك اضطرب فيه أسامة الليثي -وهو صدوق يهم- فمرة قال: لم يصل عليهم، ومرة قال: لم يصل على أحد من الشهداء غير حمزة .. والصواب القول الأول ثم وجدت ما يؤيد قولي هذا: وهو نقد للإمام البخاري رحمه الله حيث قال إن القول الثاني غير محفوظ غلط فيه أسامة فالحمد لله. 3 - حديث ابن عباس جيد السند لكنه مخالف لحديث أنس ولحديث جابر أيضًا لأنه ذكر أنه صلى على جميع الشهداء. 4 - إن مما يرجح حديث جابر هو حضوره ومشاهدته للأحداث في الوقت الذي كان فيه ابن الزبير يبلغ الثانية من عمره .. بينما كان ابن عباس مع والده في مكة لكن هذا لا يلغي إمكانية الجمع والله أعلم. ولتفصيل أكثر راجع موسوعة السيرة.

هكذا أمر الله سبحانه وهكذا فعل - صلى الله عليه وسلم - وامتثل .. فسينهض هؤلاء الفرسان يومًا من مراقدهم مزينين بالشهادة والطعنات .. ولون الدم ورائحة العطر تفوح من جراحهم وتعطر المكان من حولهم .. كان الجو مشحونًا بالحزن .. ليس هناك أقسى ولا أكثر دموعًا وانتحابًا من لحظات الدفن ومغادرة القبر والأحباب تحت التراب .. لحظات كان فيها جابر حزنًا ودموعًا .. لكن الله أنزل ما يخفف حزنه .. فالتفت - صلى الله عليه وسلم - إلى جابر المجروح وقال له: (يا جابر .. ما لي أراك منكسرًا؟ قال: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالًا ودينًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: [ما كلم الله أحدا قطّ إلَّا من رواء حجاب، وكلّم أباك كفاحًا]، "يا جابر أما علمت أن الله أحيا أباك" فقال: يا عبدي .. تمنّ علي أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية. فقال الرب سبحانه: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون [قال: يا رب .. فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}) (¬1) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ¬

_ (¬1) حسنه الإمام الألباني في صحيح ابن ماجه -واللفظ له- (190) - (2800) والترمذيُّ (3210) والذي يبدو لي أن الحديث ليس حسنًا كله .. لذلك وضعت المعقوفين بين الألفاظ التي لم أجد لها شاهدًا .. وذلك لأن هذا اللفظ تفرد به -حسب علمي- موسى بن إبراهيم ابن كثير وهو وإن روى عنه جمع من الثقات إلا أنه لم يوثق لفظيًا بل جاء عكس ذلك فقد جرحه ابن حبان في ثقاته وقال: كان ممّن يخطئ (7/ 449) ولعل هذه الزيادة من أوهامه .. قال الحافظ في التقريب (2/ 280): صدوق يخطئ وسكت عنه ابن أبي حاتم (8/ 133). ولبقية الحديث شاهد حسن عند أحمد عن جابر .. حدثني ابن المديني عن سفيان بن عيينة عن محمَّد بن علي بن ربيعة عن ابن عقيل عن جابر .. ومحمَّد بن علي ثقة (ذيل الكاشف- 254) =

ما سر حفاوة الله بوالد جابر؟

مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، فرح جابر بهذه البشرى، فرح بحفاوة الرب الكريم بأبيه .. فخفّفت البشرى كثيرًا من أحزانه، لكن: ما سر حفاوة الله بوالد جابر؟ ما سرّ هذا الشيخ المحلّق في النعيم .. إنه لم يقاتل كما قاتل حمزة .. ولم تمزقه الطعنات كما مزقت أنس بن النضر .. لقد شرب الخمر -وهو لا يزال مباحًا- ثم انصرف إلى المعركة فكان أول من سقط من الشهداء .. ومع ذلك يلقى كل هذا الفيض الغامر من النعيم .. ؟! ليس هكذا يُنْظرَ إلى والد جابر رضي الله عنه .. دعونا نتأمل عالم هذا الشيخ من كل زواياه .. دعونا نجعل أنفسنا مكانه .. إن هذا الشيخ الكبير لم يحارب عن اثنين كما فعل سعد في بدر .. ولم يحارب بسيفين كحمزة .. لكنه كان يحارب في معركتين شرستين .. أحدهما على أرض أُحُد .. أمّا الثانية فكانت ساحتها داخل أعماقه وبين حناياه .. وهي معركة أكثر ضراوة وقسوة .. إنها معركة مع الذات .. مع الدنيا .. مع عواطف الأبوة الجياشة التي تتغلغل في أعماقها تسع بنات مسكينات .. والدنيا .. كل الدنيا .. تعلم أن الشيخ أكثر حنانًا وعطفًا علي بنيه منه وهو شاب .. والدنيا .. كل الدنيا تعرف للبنات رحمة لا تعادل في قلوب الآباء .. فكيف إذ كنّ تسع بنات يترصّد لهن اليتم والفقر .. إن عبد الله بن عمرو بن حرام ينتزع نفسه من بين بناته .. من بين أبوّته وأحزانه ليتّجه بها نحو ¬

_ = وابن عقيل حسن الحديث إذا لم يخالف انظر: الفتح الرباني للبنا (22/ 308). والزيادة له. (¬1) سورة آل عمران: الآيات 169 - 171.

الجنّة .. نحو الله .. فحب الله متشعب في كل خلاياه ومشاعره .. وهو بحاجة إلى الله أكثر من حاجة بناته إليه .. هكذا نتأمل هذا الشيخ .. وهذه الطريقة نتحسّس بعض سرّه وسر حفاوة الله به. والد جابر ورفاقه الآن أحياء عند ربّهم يرزقون .. قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬1). سأل الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى هذه الآية .. عن تلك الحياة الفسيحة التي ينعم بها الشهداء .. وعن ذلك الكرم الإلهي المدهش .. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سألنا عن ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنّة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنّة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب .. نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا) (¬2)، وقال أحد الصحابة رضي الله عنهم: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما أصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنّة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم، قالوا: ياليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: أنا أبلّغهم عنكم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هؤلاء الآيات: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: الآية 169. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم -الإمارة- باب: بيان أرواح الشهداء في الجنة.

بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها) (¬1). زخّات من النعيم أمطرتها تلك الكلمات على قلوب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فحفرت فيها الأخاديد والشقوق .. حسرة على ما فاتهم في هذا اليوم من لذّة الحديث إلى أحبّ حبيب .. لذّة الاستماع إلى الله .. إن الإنسان ليعرف من حال العاشق حالة من الذهول عن كل ما يحيط به عند لقاء المحبوب. فليت شعري من يصف مشاعر من يتحدث إلى أحب حبيب وأعظم محبوب .. ؟ تمنى فرسان أحد وهم يغادرون تلك المقابر الطيبة .. تمنوا لو كانوا فيها .. بين أولئك المسافرين في النعيم .. وتمنى - صلى الله عليه وسلم - لو كان مجندلًا على أرض أحد لينعم بلقاء اليوم .. تحدث - صلى الله عليه وسلم - بذلك وباح به لأصحابه .. فازداد شوقهم وحنينهم إلى الله وإلى الجنّة وإلى هذا الحبيب الذي يبوح بمشاعره .. ويقول: (أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بحضن الجبل -يعني سفح الجبل) (¬2)، يقول جابر رضي الله عنه أنه قصد: ليتني (قتلت معهم) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح بما قبله: رواه ابن إسحاق ومن طريقه أحمد (1/ 265 - 266) وابن جرير في التفسير (3/ 513): حدثنا إسماعيل بن أبي أمية عن أبي الزبير عن ابن عباس وهذا السند صحيح لولا عنعنة أبي الزبير .. وقد دلس أبو الزبير اسم شيخه الذي صرح به في الرواية لابن إسحاق عند أبي داود (2520) والحاكم (2/ 88) وهو الإمام المجاهد سعيد ابن جبير .. كما أن للحديث شاهدًا سنده حسن عند ابن جرير (3/ 513). (¬2) سنده صحيح رواه إسحاق ومن طريقه: أحمد (3/ 375) والحاكم (2/ 86) (3/ 30) حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه .. وهذا سند صحيح .. عاصم ثقة عالم بالمغازي: التقريب (1/ 385) وعبد الرحمن تابعي ثقة (475). (¬3) هو الحديث السابق.

أبو سفيان وجيشه نادمون

تلك هي مشاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاعر من حوله من المؤمنين .. لكن ماذا عن مشاعر جيش المشركين الذي يرجع الآن إلى مكة .. ؟ إنهم الآن في أرض تسمّى: (الروحاء) .. وأبو سفيان يتحدّث إليهم .. أبو سفيان وجيشه نادمون ليس على قتالهم للمؤمنين .. بل على أشياء فاتتهم في المعركة .. أشياء عجزوا عن تحقيقها فـ (لما انصرف أبو سفيان والمشركون عن أُحد وبلغوا الروحاء، قالوا: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، شرّ ما صنعتم) (¬1) .. ماذا تعني هذه الكلمات وهي تتحسّر على بقاء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في سجلات الأحياء .. وتتحسّر على عدم التمكن من سبي فتيات المسلمين .. ؟ ربما كانت تعني أن هناك نية للعودة إلى أرض المعركة من جديد .. ومحاولة أخرى للإجهاز على ما تبقى من المؤمنين وهم يدفنون شهداءهم .. وربما كانت مجرد زفرات وأماني .. لكن كل ذلك لم يكن خارج نطاق تفكير النبي - صلى الله عليه وسلم - العسكري .. كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ أفكار القوم ويتصفح أحلامهم .. لذلك قرّر أن يقوم بحركة عسكرية لتغطية أسوأ الاحتمالات .. تحدّثنا عن ذلك فتاة شاركت في المعركة .. عائشة رضي الله عنها تتحدّث إلى أحد أبناء أختها- أحد أبناء الزبير بن العوام وتخبره عن سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبراني (11/ 247): حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمَّد بن منصور الجواز، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس وهذا السند صحيح، عكرمة وعمرو وسفيان أئمة ثقات ومحمَّد بن منصور ثقة- من رجال التقريب (2/ 210) وشيخ الطبراني ثقة مأمون انظر: البلغة (228).

غزوة حمراء الأسد

وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} .. قالت: يا ابن أختي، كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أُحُد، وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال - صلى الله عليه وسلم -: من يذهب في إثرهم؟ فانتدب سبعون رجلًا- كان فيهم أبو بكر والزبير) (¬1). وامتثل أبو بكر والزبير وامتثل معهم ثمان وستون فارسًا .. نهضوا تحملهم جراحهم .. وتحملهم تلك الأحاديث المعطرة عن أولئك الشهداء الذين سبقوهم قبل قليل .. نهض سبعون محاربًا نحو باب من أبواب الجنّة يلوح في الأفق .. لكن يبدو أنهم ظفروا ببعض المعلومات الخطيرة عن أبي سفيان وجيشه .. وتوصّلوا إلى معرفة ما جرى من حوار دار بين المشركين حول التحسّر على عدم قتل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وسبي المؤمنات .. فعادوا ليخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتّخذ إجراءً أقوى .. إنه الآن يأمر الجيش كلّه بالنهوض والتحرك نحو جيش الوثنين وبسرعة .. فكانت غزوة على هامش أُحد .. سميت فيما بعد بـ: غزوة حمراء الأسد فعندما (انصرف أبو سفيان والمشركون عن أُحد، وبلغوا الروحاء قالوا: لا محمدًا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، شرّ ما صنعتم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فندب الناس، فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد، أو بئر أبي عيينة، فأنزل الله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} (¬2)) .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4077). (¬2) سنده صحيح وهو جزء من حديث الطبراني قبل السابق.

شبح على أرض أحد

من بعد ما أصابهم ما أصابهم من فقد الأحباب والأصحاب .. لكن قريشًا لاذت بالفرار خشية أن يصيبها ما أصابهها في أوّل المعركة .. أو يحدث لها ما كان في غزوة بدر .. فجيش محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كالأسود الجريحة .. الرماة يريدون التكفير عن معصيتهم لأوامر قائدهم - صلى الله عليه وسلم - .. وبقية الصحابة يريدون اللحاق بحمزة وعبد الله بن حرام وأصحابهم .. لعل الله أن يخاطبهم هذا المساء .. لكن قريشًا لاذت بالفرار. فمكث - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنه بعض الوقت ثم عادوا مثقلين إلى المدينة الحزينة .. المشتاقة إلى نبيّها وفرسانها .. سأستأذنكم قليلًا لأسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لا إلى المدينة .. بل سأعود إلى أرض أُحد .. فقد خيّم اللّيل على جبالها وشعابها .. وهناك حركة غريبة تحدث بين تلك الشعاب .. هناك شبح ينهض من بين الأموات .. شبح على أرض أُحُد دعونا نقترب منه .. إنه يقف على قدميه .. يترنّح من الألم والبرد يزيد من آلامه .. ها هو .. إنه ليس من الجنّ .. إنه أحد أفراد جيش أبي سفيان .. وقد كان طوال اليوم يتظاهر بالموت والدم ينزف منه .. يقول أنس بن مالك: (كان وهب بن عمير شهد أُحدًا كافرًا، فأصابته جراحة، فكان في القتلى، فمرّ به رجل من الأنصار، فعرفه فوضع سيفه في بطنه حتى خرج من ظهره ثم تركه، فلما دخل الليل وأصابه البرد لحق بمكة، فبرأ، فاجتمع هو وصفوان بن أمية في الحجر، فقال وهب: لولا عيالي ودين عليّ لأحببت أن أكون أنا الذي أقتل محمدًا، فقال له صفوان: كيف تصنع؟

فقال: أنا رجل جواد لا ألحق، آتيه فأغترّه، ثم أضربه بالسيف، فألحق بالخيل ولا يلحقني أحد. فقال له صفوان: فعيالك مع عيالي، ودينك علي) (¬1). لن أكمل هذا الحوار .. سأترك الرجلين وما يكيدان لألحق بحبيبي - صلى الله عليه وسلم - .. ها هو يسير نحو المدينة الحزينة .. دون حمزة .. دون سبعين من الشهداء الأبرار .. والبيوت تضجّ بالحزن والنواح .. يدخل - صلى الله عليه وسلم - المدينة ويمشي بين أبياتها .. فيحاصره النواح والبكاء في كل الطرقات والدروب .. لم يتوقف النواح في المدينة ولم تتوقف الدموع .. ولا الأحزان .. إنها تتقاطر من قلوب المؤمنين .. كما يتقاطر سيف هذا المحارب المخيف .. الذي يسلم لحبيبته سيفًا أحمر يتقاطر موتًا .. سيفًا حنته المعركة لكنها لم تَحْنِ حامله .. إنه عليّ بن أبي طالب وهو الآن برفقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ولا أعلم هل هما في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أم في بيت فاطمة .. ؟ يبدو أنهما في بيت فاطمة رضي الله عنها، فقد (جاء علي رضي الله عنه بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة رضي الله عنها: هاكي السيف ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه الطبراني (17/ 62) وابن منده -ذكره في الإصابة .. وسند الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا محمَّد بن سهل بن عسكر، حدثنا عبد الرواق، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني- لا أعلمه إلا عن أنس بن مالك: ... وقد توبع ابن عسكر عند ابن منده تابعه أبو الأزهر .. وأبو الأزهر حسن الحديث إذا لم يخالف، ومحمَّد بن سهل ثقة، انظر التقريب (2/ 167) وعبد الرزاق معروف، وجعفر بن سليمان صدوق من رجال مسلم- التقريب (1/ 131) وأبو عمران الجوني اسمه: عبد الملك بن حبيب الأزدي تابعي ثقة من رجال الشيخين، التقريب (1/ 518). وابن منده من شيوخ الطبراني.

حميدًا فإنها قد شفتني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة وعاصم بن ثابت الأقلح، والحارث بن الصمة) (¬1). توجّه - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته خلال النواح والبكاء .. إنه يستمع إلى النائحات والوجد يحرق أكبادهن .. فيتذكر عمّه حمزة رضي الله عنه .. وتعاوده الأحزان من جديد .. فيستجيب لها بكلمات تفيض حزنًا ووفاءً لذلك الفقيد الحميم .. فقد (مرّ - صلى الله عليه وسلم - بنساء بني الأشهل) (¬2) عندما (رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد فسمع نساء بني الأشهل يبكين على هلكاهنّ، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة عنده .. ورقد - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظ وهن يبكين، فقال: ويلهنّ إنهن لها هنا حتى ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحاكم (3/ 24) واللفظ له والطبرانيُّ (7/ 122) (11/ 251) وسند الحاكم هو حدثنا أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الصفار، حدثنا أبو الحسن علي بن محمَّد الثقفي بالكوفة حدثنا منجاب بن الحارث التميميّ، قال: وزعم سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار عن عكرمة عن ابن عباس ... وهذا السند صحيح فسفيان وعمرو وعكرمة أئمة ثقات معروفون ومنجاب التميميّ ثقة من رجال مسلم (التقريب-2/ 264) فقول الحاكم رحمه الله إن الحديث على شرط البخاري فيه نظر .. بل العكس لأن منجاب من رجال مسلم فقط فالحديث على شرط مسلم .. وأبو الحسن الثقفي ثقة انظر: تاريخ بغداد (12/ 63) وشيخ الحاكم عالم ثقة قال عنه تلميذه الحاكم: أنه محدث عصره. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 437) وقد توبع الثقفي عند الطبراني وفيه تصريح بسماع سفيان من عمرو. (¬2) سنده حسن رواه ابن ماجه (الصحيح 1/ 26) والحاكم (3/ 195) ابن وهب وعبيد الله ابن موسى أخبرنا أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر وأسامة بن زيد حسن الحديث إذا لم يخالف (التقريب- 1/ 53) وصحح الحديث الإمام الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 265) وبقية السند كالذهب.

تحريم النياحة على الميت

الآن) (¬1) (ويحهن ما انقلبن بعد) (¬2) ولا انصرفن إلى بيوتهن حتى الآن .. إنها بعض عادات الجاهلية التي لا زال التمسك بها مباحًا حتى الآن .. لكنها عادة لا تعبّر عن الحزن العميق فقط .. إنها تتجاوز الحزن إلى شيء خطير جدًا .. شيء جاء الإِسلام ليمحوه من أعماق كل مؤمن ومؤمنة.، وهذا الشيء هو الجزع من أقدار الله والاحتجاج على قضائه .. وهذا قد يؤدي إلى هدم أحد أركان الإيمان الستّة التي جاء بها الإِسلام .. وهو الركن السادس. فأركان الإيمان هي: 1) الإيمان بالله. 2) وملائكته. 3) وكتبه. 4) ورسله صلّى الله عليهم جميعًا. 5) والإيمان باليوم الآخر والبعث والنشور. 6) الإيمان بقضاء الله وقدره. ولهذا نزل الأمر من الله بـ: تحريم النياحة على الميت يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: (رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد فسمع نساء بني الأشهل يبكين على هلكاهن، فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة عنده .. ورقد - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظ وهنّ يبكين، فقال: ويلهن إنهن لها هنا حتى الآن .. ¬

_ (¬1) هو الحديث السابق. (¬2) هو الحديث السابق.

مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم) (¬1)، ولم يقف الأمر عند التحريم فقط .. فبعد فترة من الزمن نزل الوحي يشدّد تحريم النياحة على الميت .. يجعلها من كبائر الذنوب .. وهو بذلك يتغلغل داخل أعماق المؤمنين والمؤمنات .. يتتبّع آثار الجاهلية، يمحوها ويغرس مزيدًا من الإيمان مكانها .. يقول - صلى الله عليه وسلم -: (النياحة على الميت من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت، فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران، ثم يغلى عليها بدروع من لهب النار) (¬2)، وسرابيل القطران تعني ثيابًا من نحاس مذاب أعاذنا الله من ذلك .. النياحة من أمر الجاهلية .. وهي ليست -أبدًا- مقياسًا لمدى الشعور بالحزن وفقدان الحبيب .. إنها نوع من التطرّف والغلوّ في إظهار المشاعر .. ولذلك نزل الوحي مرّة أخرى مذكرًا .. وواصفًا تلك الممارسات بشيء خطير جدًا .. فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (اثنتان من الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت) (¬3) توقف النواح .. ولم تتوقف الدموع وكذلك الحياة لم تتوقف .. ففي المدينة كانت الرسالة هي الحياة .. على الأحياء أن يؤدّوها كما أدّاها أولئك الشهداء .. وتمرّ الأيام ويتبقى لأُحدٍ وشهدائها ذكريات وعطر يفوح في أجواء ¬

_ (¬1) سنده حسن ورواه ابن ماجه (الصحيح 1/ 265) والحاكم (3/ 195) ابن وهب وعبيد الله بن موسى أخبرنا أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر وأسامة بن زيد حسن الحديث إذا لم يخالف (التقريب- 1/ 53) وصحح الحديث الإمام الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 265) وبقية السند كالذهب. (¬2) حديث صحيح - صحيح الجامع الصغير (2/ 1151). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم وأحمدُ (صحيح الجامع-1/ 90).

أحب الأسماء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

المدينة وأحاديث أهلها .. وتمرّ الأيام فيولد لأحد الأنصار غلام فيحتار في تسميته .. فتتجه به الحيرة إلى أحب الناس إليه .. إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فيبحر به - صلى الله عليه وسلم - إلى أبهج الذكريات وأقساها .. يبحر به إلى أحب الأسماء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول جابر بن عبد الله: (ولد لرجل منّا غلام، فقالوا: ما نسمّيه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سمّوه بأحب الأسماء إليّ، حمزة بن عبد المطلب) (¬1)، فحمزة ما زال عالقًا في الذاكرة .. متجذرًا في القلب النبوي الكريم .. لكن الله سبحانه ينزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد أحب الأسماء إليه .. فيقولها - صلى الله عليه وسلم - لمن حوله: (إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن) (¬2). ولما رزق أحد الأنصار بغلام .. سماه محمدًا فاحتجّ الأنصار على هذا الاسم .. وبخلوا به عليه إكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فكان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما حدث .. ما نقله جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (ولد لرجل منّا غلام، فسماه محمدًا، فقال له قومه: لا ندعك باسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسمّوا باسمي ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه الحاكم (196) حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، أنا عبد الله بن صالح البخاري، حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن جابر .. أبو علي شيخ الحاكم أحد جهابذة الحديث، واحد عصره في الحفظ والإتقان والورع والمذاكره، والتصنيف (التذكرة- 902) وشيخه ثقة ثبت انظر: المنتظم (6/ 145) وسفيان وعمرو بن دينار ثقتان ثبتان معروفان .. التقريب (1/ 312) (2/ 69) وعمرو بن دينار سمع من جابر .. فيتبقى في السند يعقوب بن حميد ولولاه لكان السند صحيحًا لكنه به حسن .. فهو كما لخص الحافظ أقوال العلماء: صدوق ربما وهم فحديثه حسن ومن هو الذي لم يهم. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم- الأدب (2132).

ولا تكتنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أقسم بينكم) (¬1) .. إذًا فاسم محمَّد اسم محبّب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبب إلى الله سبحانه .. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لرجل: (من الأنصار ولد له غلام، فأراد أن يسمّيه محمدًا، فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أحسنت الأنصار. سمّوا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي) (¬2)، فما هي هذه الكنية التي نهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن التكنّي بها .. جابر بن عبد الله أيضًا .. يحدّثنا عن ذلك .. فيقول: (ولد لرجل منّا غلام، فسمّاه القاسم. فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم، ولا ننعمك عينًا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له فقال: اسم ابنك عبد الرحمن) (¬3)، وعندما (نادى رجلٌ رجلًا بالبقيع: يا أبا القاسم .. فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني لم أعنك، إنما دعوت فلانًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تسمّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) (¬4). حدثنا جابر رضي الله عنه عن أشياء كثيرة حدثت بعد غزوة أُحد .. فماذا عن جابر نفسه .. ماذا عنه .. ماذا عن أخواته الصغيرات .. ماذا عن دين والده الذي رحل وتركه أمانةً يثقل كاهله .. والدَّيْن لصاحبه همٌّ بالليل وذلّ في النهار .. إلى أي شيء تحولت أحوال جابر .. الذي وجد نفسه وحيدًا .. مسؤولًا عن تسع بنات .. مسؤولًا عن دين ضخم لا يستطيع أداءه وهو ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم كتاب الأدب (2133) - 5. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم- كتاب الأدب (2133) - 6. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم- كتاب الأدب (2133) - 7. (¬4) حديث صحيح رواه مسلم- كتاب الأدب (2131).

إلى أين تتجه الهموم بجابر

شاب صغير لم يتعرض من قبل لمثل هذه المسؤوليات .. إنه شاب صغير أعزب أفاق على أمانة كالجبال تحاصره .. فإلى أين يتجه و: إلى أين تتجه الهموم بجابر ليس هناك أرحب من رحمة الله لجابر .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - مساحة من هذه الرحابة والرحمة فهو (رحمة مهداة) (¬1) من الله لهذه الأمة .. ولكل فرد منها .. لم يكن بينه وبن أصحابه حواجز ولا حرس .. (كان - صلى الله عليه وسلم - لا يدفع عنه الناس، ولا يضربوا عنه) (¬2)، ومن رحمته وتواضعه أن جاءه رجل فشعر ذلك الرجل بخوف ورعدة من لقائه - صلى الله عليه وسلم - .. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد) (¬3) .. ذلك اللحم المملح المجفّف في الهواء والشمس .. إذًا فلا داعي للخوف ولا للرعدة والانتفاض .. وعلى عكس هذا الرجل كان هناك من الناس من يملك جرأة أكثر مما هو مطلوب مع هذا النبي المتواضع عليه السّلام .. فقد (كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاء يتقاضاه) (¬4) (فأغلظ (¬5) .. فهمَّ به أصحابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوه فإن لصاحب الحق مقالًا. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: أعطوه سنًا مثل سنه) (¬6) (فطلبوا سِنَّهُ فلم يجدوا إلا سنًا فوقها (¬7)، فقال: أعطوه. ¬

_ (¬1) حديث صحيح صحيح الجامع. وقد رواه بسند جيد كل من الحاكم (1/ 91) الطبراني في الصغير (1/ 168). (¬2) حديث صحيح - صحيح الجامع (2/ 876). (¬3) حديث صحيح - صحيح الجامع (2/ 1185). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2305). يعني أن النبي استلف بعيرًا. (¬5) تكلم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب غليظ. (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (2306). (¬7) أي أكبر منها في السن وأغلى في الثمن.

على باب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان جابر يتعلم أدبا

فقال: أوفيتني أوفى الله بك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن خياركم أحسنكم قضاءً) (¬1) .. رضي الرجل وذهب مسرورًا بما حصل عليه .. وتعلّم الصحابة منه - صلى الله عليه وسلم - حسن الوفاء وحسن الأخلاق .. لكن جابر بن عبد الله لا يملك ما يقضي به كل دينه .. فاتّجه إلى الرحمة المهداة يسأله العون وتفريج هذا الكرب الشديد .. فكان - صلى الله عليه وسلم - له في المكان المطلوب والزمان المناسب .. وعلى باب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان جابر يتعلم أدبًا يقول جابر رضي الله عنه: (إن أبي قتل يوم أُحُد وترك تسع بنات كنّ لي تسع أخوات) (¬2) (وترك عليه ثلاثين وسقًا (¬3) لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره) (¬4)، ولم يكن هذا اليهودي هو الوحيد الذي له حق عند جابر .. فوالده (ترك عليه دينًا) (¬5) غير هذا. يقول جابر: (إن أبي ترك عليه دينًا وليس عندي إلَّا ما يخرج نخلهُ، ولا يبلغ ما يُخرج سنين ما عليه) (¬6) من دين (فطلبت إلى أصحاب الدين أن يضعوا بعضًا فأبَوْا) (¬7)، ورفضوا التنازل عن أي شيء (فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه فأبوا، ولم يروا أن فيه وفاءً، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬8) (فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2305). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4052). (¬3) الوسق يساوي ستين صاعًا. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2396). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4053). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (3580). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (2405). (¬8) حديث صحيح رواه البخاري (2709).

فقال - صلى الله عليه وسلم -: أنا .. أنا -كأنه كرهها-) (¬1) لأن كلمة: (أنا) ليست إجابة ولا تعريفًا بالطارق .. بل هي استدعاء لمزيد من الاستفسار والتساؤل .. ولو قال جابر: (أنا جابر) لما كره - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولكان أفضل .. تعلّم جابر أدبًا رفيعًا من نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. ثم بثّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - شكواه وديونه وتعنّت الدائنين .. فوجده رحيمًا معينًا على النوائب والشدائد .. قال جابر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (قد علمت أن والدي قد استشهد يوم أُحُد وترك دينًا كثيرًا، وإني أحب أن يراك الغرماء) (¬2) (فانطلق معي لكي لا يفحش عليّ الغرماء) (¬3)، يقول جابر رضي الله عنه: (فاستشفعت به عليهم فأبوا) (¬4) و (استعنت النبي - صلى الله عليه وسلم - على غرمائه أن يضعوا من دينه، فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فلم يفعلوا) (¬5) (فاشتد الغرماء في حقوقهم، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلّمته فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي .. فأبوا. فلم يعطهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكسره لهم، ولكن قال: سأغدو عليك إن شاء الله تعالى، فغدا علينا حين أصبح، فطاف في النخل، فدعا في ثمره بالبركة فجددته) (¬6). فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا جددته فوضعته في المربد) (¬7) (فبيدر كل تمر على ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (6250). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4053). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (3580). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2405). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (2127). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (2601). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (2127) والمربد هو مكان يجفف فيه الثمر.

جاءت المعجزة

ناحية) (¬1) (فصنّف تمرك أصنافًا: العجوة على حدة، وعذق ابن زيد على حدة، ثم أرسل إليّ. ففعلت، ثم أرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء) (¬2)، وجاءت المعجزة (ثم قال: ادع غرماءك) (¬3) (فلما نظروا إليه أغروا بي (¬4) تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرًا ثلاث مرات، ثم جلس عليه) (¬5) (ثم دعا) (¬6) (ثم قال: ادع أصحابك .. فما زال يكيل لهم حتى أدّى الله أمانة والدي، وأنا والله راض أن يؤدي الله أمانة والدي ولا أرجع إلى أخوتي تمرة، فسلّم والله البيادر كلّها حتى أني انظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه لم ينقص تمرة واحدة) (¬7) (فأوفاهم الذي لهم وبقي مثل ما أعطاهم) (¬8) (فما تركت أحدًا له على أبي دين إلَّا قضيته .. وفضّل ثلاثة عشر وسقًا، وسبعةً عجوة وستةً لون، أو ستةٌ عجوةً وسبعةٌ لون، فوافيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فذكرت له ذلك، فضحك، فقال: أئت أبا بكر وعمر فأخبرهما. فقالا: لقد علمنا إذ صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2781). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2127). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2709). (¬4) هيجوا بي .. أي أثاروا. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (2781). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (3580). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (2781). (¬8) حديث صحيح رواه البخاري (3580).

من أخذ مال سعد بن الربيع؟

ما صنع أن سيكون ذلك) (¬1) (ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس فأخبرته بذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: اسمع -وهو جالس- يا عمر: فقال عمر: ألا يكون قد علمنا أنه رسول الله، والله إنك لرسول الله) (¬2). وانصرف جابر إلى أخواته مبشّرًا بكرامة الله لوالدهن في حياته وبعد مماته .. فقضاء الدين بهذه الطريقة لا يمكن إلَّا أن يكون إكرامًا من الله لذلك الشيخ الراحل .. ذلك الشيخ الذي عانى الكثير .. الكثير من أجل لقاء الله .. وهو إكرام لهذا الشاب الذي رضي بقضاء الله وقدره .. وحمل وهو صغير أمانة ضخمة وثقيلة .. وهل هناك أثقل من إعالة أسرة كبيرة كهذه .. وهل هناك أثقل من دين يطالبك به يهودي .. ؟! أجل هناك .. وفي بيت سعد بن الربيع الشهيد الكريم .. الذي ناصف عبد الرحمن بن عوف ماله وأهله .. في بيت هذا الربيع الممتد كالبصر حلَّ الجفاف والفقر .. لقد ذهب مال سعد بن الربيع وثروته مع الريح والجشع .. سعد بن الربيع رضي الله عنه لم يترك سوى زوجته وابنتيه وثروته .. ولا أدري هل طلّق زوجته الثانية أم توفّيت .. ؟ لكن الذي أعرفه أن ماله قد ذهب، فـ: من أخذ مال سعد بن الربيع؟ ها هي أم الفتاتين .. زوجة سعد بن الربيع وبعد مرور أيام وشهور تخرج حزينة على زوجها وبناتها .. تتجه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله حلًّا .. تسأل الله فرجًا .. فلا سعد ولا بناته يستحقون كل هذه المعاناة .. تقف تلك الحزينة أمام الرحمة المهداة .. (جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2709). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2601).

إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أُحد "معك" شهيدًا وإن عمّهما أخذ مالهما، فاستفاءه (¬1)، فلم يعد لهما مالًا، والله لا تنكحان إلَّا ولهما مال (¬2)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقض الله في ذلك، فأنزل الله عليه آية الميراث) (¬3)، وهي ضمن قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} (¬4). (فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمّهما، فقال: أعطِ ابنتي سعد الثلثين، وأمّهما الثمن، وما بقي فهو لك) (¬5)، إنها قسمة الله .. لا قسمة الجاهلية والعادات والتقاليد .. آية تغسل قلب سامعها من الجشع .. تغسله بأنهار العطف والرأفة .. ¬

_ (¬1) أخذه غنيمة له مثل المال الذي يؤخذ دون حرب ولا جهد. (¬2) أي انه لن يرغب أحد فيهما وهما معدمتان. (¬3) حديثٌ حسنٌ انظر: ما بعده فهو جزء منه. (¬4) سورة النساء: الآيات 9 - 11. (¬5) سنده حسن رواه ابن سعد (3/ 524) وأحمدُ (3/ 352) وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه (تفسير ابن كثير- سورة النساء) واللفظ لابن سعد عدا؛ "معك" من طرق عن عبد الله ابن محمَّد بن عقيل وهو تابعي حسن الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. والراوي عند أحمد وابن سعد عن ابن عقيل هو عبيد الله بن عمرو الرقي وهو: ثقة. انظر التقريب (1/ 537) حيث قال: ثقة ربما وهم .. وليس هناك من لا: يهم.

تجعله في مكان المفجوع بنفسه .. تجعله يشعر بمرارة اليتم .. بليل اليتم يخيّم على أبنائه .. فإذا لم يكن صاحب قلب رقيق ومرهف .. فالآية التي بعدها تصدع قلبه المتحجر .. وتملأ بطنه الجشع بالجمر والنار .. وتقذف به في الجحيم والسعير الذي لا ينطفئ .. أما الآية الثالثة .. فهي رحمة من الله الرحيم بالأولاد أكثر من رحمة الآباء بأولادهم .. والأبناء بآبائهم .. إن الله يوصي الآباء بأبنائهم .. والموصي أرحم من الموصى. وقد جعل الله نصيب الذكر أكثر من نصيب الأنثى في الميراث مرتين .. لأن عليه مسؤوليات تجاه الأنثى عديدة .. فالرجل يجب عليه الإنفاق على أمه وأخته وزوجته وابنته .. وهو الذي يدفع المهر لزوجته .. بل يجب عليه أن يكسو زوجته .. وأن يقدم لها الطعام جاهزًا للأكل، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى) (¬1) إنها فريضة من الله .. وهو الذي خلق هذا الإنسان- المعجزة .. وهو أعلم به وأحكم وأدرى بما يجعل حياته سعيدة مشرقةً دائمًا .. وقد بيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن الفتاتين لهما حكم ما فوق الاثنتين .. عندما خاطب شقيق سعد بن الربيع .. أخبرنا بذلك جابر بن عبد الله .. الذي تراكمت عليه المسؤوليات .. وربما كانت هي سبب مرضه الآن .. إنه يعاني من وعكةٍ ألزمته الفراش بين أخواته يمرضنه ويخفن أن يغادرهن كوالدهن رضي الله عنه .. لقد اشتدّ به المرض فلم يعد يعقل شيئًا .. وانتقل خبر مرضه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتجه هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه إلى حي بني سلمة لزيارته .. يقول جابر رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) حديث صحيح -صحيح الجامع (1/ 602).

(مرضت فجاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني وأبو بكر وهما ماشيان) (¬1) (في بني سلمة) (¬2) (فأتاني وقد أغمي علي) (¬3) (فوجدني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعقل، فدعا بماءٍ، فتوضأ منه ثم رشّ علي، فأفقت. فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟) (¬4) (يا رسول الله إنما لي أخوات) (¬5) (يا رسول الله لا يرثني إلَّا كلالة فكيف الميراث) (¬6) (كيف أقضي في مالي، كيف أصنع في مالي؟ فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث) (¬7)، وهي الآية التي بعد الآية السابقة .. وهي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} (¬8)، فهو أعلم بخلقه وأدرى بما يجعلهم سعداء في الدنيا والآخرة .. إنه يكرمهم بآيات الميراث ويحفظ حقوق الأيتام والورثة .. وفي ذلك تكريم للكريم سعد بن الربيع .. وتكريم لعبد الله بن حرام .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (7309). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4577). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (7309). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4577). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (6743). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (5676). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (7309). (¬8) سورة النساء: الآية 12.

وتمرّ أيام فينهض جابر من مرضه الذي ألمّ به .. ولئن كان المرض قد غادر جابر .. فإن هناك من تغلغل المرض في جسده ولم يغادره حتى الآن .. في المدينة رجل هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحيدًا بعد أن أرغم على مفارقة زوجته وهو في الطريق فقد أرغمه أهلها على تركها والرحيل دونها ودون ابنها .. إنه الصحابي الجليل أبو سلمة الذي يهاجمه المرض بضراوة الآن .. وتنقض على جسده جراحات أحُد .. وحوله أبناؤه وزوجته المجاهدة الصابرة .. ذات الهجرة العسيرة .. والذكريات المريرة .. إنها تبكي الآن وهي تعاني وداع زوجها الحبيب .. إنه لن يرى هذا الجنين الذي يسكن أحشاءها .. لن يداعبه ولن يتمتع بطفولته .. مات أبو سلمة رضي الله عنه .. فبكت أم سلمة وأبناؤها .. لكن مرارة الحزن لم تنس هذه المؤمنة الصابرة نفسها .. لقد صبرت في السابق وها هي الآن تتحامل على جراحها .. تنهض من بين آلامها .. تتوجه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله ماذا تقول في مصابها الأليم هذا .. تسأله حتى لا تقع في ذنب النواح والاعتراض على قضاء الله وقدره .. تقول أم سلمة رضي الله عنها: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا حضرتم الميت فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، فلما مات أبو سلمة قلت: يا رسول الله، كيف أقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: قولي: اللهمّ اغفر لنا وله، وأعقبني منه عقبى حسنة). فدعت أم سلمة بتلك الدعوة .. وارتفعت دعوتها إلى الباري فاستجاب الله .. فـ

ما هي عقبى أم سلمة

ما هي عقبى أم سلمة سنعرف ذلك لاحقًا .. أما الآن فسنترك "هند" أم سلمة وأحزانها ودعاءها إلى أحزان أخرى .. تراكمت على صدر صحابي كريم وملأت بيته حتى ضاق به .. عثمان بن عفان الذي فقد حبيبته رقية بعد غزوة بدر .. وفقد قوته في غزوة أحد فهرب من المعركة بعد هزيمة المسلمين ونزول الرماة من الجبال .. عثمان يعيش حالة من الحزن والأسف لا يحسد عليها .. لا أدري ما هي مبرّرات هروبه من المعركة وهو الذي شارك في صناعة الانتصار وإلحاق الهزيمة بالمشركن في أوّل النهار .. مهما كانت المبرّرات .. لقد حدث ما حدث لهذا الصحابي العظيم وهو بشر غير معصوم .. والله أرحم من أن يدعه للأحزان تفتك به وتغتاله .. لقد ضاقت به الدنيا ففرجها الله مرتين .. أما الأولى فقد أنزل الله فيه قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة .. أنزل الله عفوه ورحمته به .. فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬1). وفي ذلك يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب عن عثمان: (أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له) (¬2). وهو غفور رحيم .. فرح عثمان بهذه الآية وانزاح همّه الثقيل .. وأقبل ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: الآية 155. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3698).

رؤيا أم الفضل

عليه النبي يبشره - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات .. ويبشّره بعودة الصهر بينه وبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقد وافق - صلى الله عليه وسلم - على تزويجه من ابنته أم كلثوم .. فأي سعادة يعيشها عثمان الآن .. لقد عرف الناس بعد هذا من هو عثمان .. وما هي منزلته عند الله ورسوله .. فلقبوه بلقب يشع من بيت النبوة .. لقبوه بـ: (ذي النورين) وهو أسعد الناس بعرسه ونسبه .. وحبّ الله ورسوله .. وأم كلثوم تشاطره كل ذلك وتتعطّر به .. أما أختها فاطمة فهي سعيدة بأختها أم كلثوم .. وسعيدة بهدية جميلة تقدمها لأبيها ولزوجها عليّ رضي الله عنهم جميعًا .. وبينما كان الجميع يترقّبون الهدية بفرح .. كانت هناك امرأة مهمومة .. يتملكها الفزع مما قد يحدث للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لفاطمة .. الرؤيا من جديد تخيم كالخوف على عالم امرأة صالحة تدعى أم الفضل وهي زوجة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب التي تركت مكة والعباس إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. فما هي: رؤيا أم الفضل تقول رضي الله عنها: (رأيت كأن في بيتي عضوًا من أعضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فجزعت من ذلك، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال - صلى الله عليه وسلم -: خيرًا .. تلد فاطمة غلامًا، فتكفلينه بلبن ابنك قثم. فولدت) (¬1) فاطمة .. ولدت حبًا جديدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ملك عليه قلبه. ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه أحمد (6/ 339) واللفظ له، والطبرانيُّ (3/ 5 - 9) وروى آخره من الطريق نفسها ابن خزيمة (1/ 143) وحسنه أستاذنا الشيخ محمَّد مصطفى الأعظمي حفظه الله، ووافقه الإمام الألباني فلم يعلق عليه، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 85) وصحيح أبي داود (1/ 75) .. وسند أحمد هو: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا =

فاطمة تلد حربا

فاطمة تلد حربًا وقد سماه والده: (حربًا) .. إنه يملأ بيت النبوة برائحة الأحفاد المنعشة البريئة .. (حرب) يزاحم أمه وأباه في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقد بُشّر. بمولد هذا الطفل الجميل فجاء - صلى الله عليه وسلم - والسعادة تملأ صدره .. فوجد الابتسام والفرح يغمران المكان .. عليٌّ سعيدٌ وفاطمة أكثر سعادة .. يقول عليّ رضي الله عنه: (لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أروني ابني .. ما سميتموه؟ قلت: حربًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: بل هو حسن) (¬1) .. غيّر - صلى الله عليه وسلم - ذلك الاسم الحاد باسم جميل يدخل البهجة على النفوس. فحمل المولود الطاهر اسمه الجميل .. وحمله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه .. وقبّله .. وفعل شيئًا رآه أحد موالي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يشارك بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فرحتهم بهذا القادم الحسن .. أخبرنا يا أبا رافع .. ماذا رأيت .. ؟ ¬

_ = إسرائيل عن سماك عن قابوس بن المخارق عن أم الفضل. وقابوس تابعي لا بأس به -التقريب (2/ 115) ولا يضره أن يكون قد جاء- عند الطبراني أنه رواه عن أبيه عن أم الفضل فأبوه صحابيّ. وسماك تابعي صدوق وروايته هذه ليست عن عكرمة -التقريب (1/ 332) وإسرائيل ثقة معروف مر معنا كثيرًا- التقريب (1/ 64) وقد توبع .. وتلميذه ثقة من رجال البخاري ومسلمٌ (السابق-2/ 344). (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (1/ 98 - 118) واللفظ له والبخاريُّ في الأدب (286) والحاكم (3/ 180) والطبرانيُّ (2/ 96) وابن حبان والبيهقيُّ في السنن (6/ 166) من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن هاني بن هاني عن علي وأبو هاني ثقة وثقه العجلي توثيقًا لفظيًا فقال: تابعي ثقة .. ووثقه النسائي فقال: ليس به بأس .. ومن علم حجة على من لم يعلم حاله كالشافعي وابن المديني انظر التهذيب (11/ 22) ووثقه ابن حبان .. وقال الشيخ شعيب حفظه الله: إسناده حسن "صحيح ابن حبان-15/ 409) وأبو إسحاق معروف وله شاهد عند الطبراني بسند منقطع.

عقيقة الحسن

يقول رضي الله عنه: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في أذني الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة) (¬1)، ويواصل أبو رافع رضي الله عنه وصف ذلك المشهد المفرح الذي لم يدخل السرور على بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط .. بل امتدت بهجته وبركته إلى أحوج الناس إلى البهجة .. يواصل أبو رافع حديثه الجميل فيقول: (لما ولدت فاطمة حسنًا قالت: ألا أعقّ عن ابني بدم "بكبشين"؟. قال - صلى الله عليه وسلم -: لا ولكن احلقى رأسه وتصدّقي بوزن شعره من فضّة على المساكين والأوفاض -وكان الأوفاض ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتاجين في المسجد أو الصفة- ففعلت ذلك) (¬2)، وتصدّقت على الفقراء والمحتاجين .. لكن ماذا عن: عقيقة الحسن ماذا عنها والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كل غلام رهينة بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه، ويسمى) (¬3) لقد أحب - صلى الله عليه وسلم - أن يقدم هو عقيقة الحسن .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه أحمد (6/ 9) وأبو داود (5105) والترمذيُّ (1514) والحاكم (3/ 197) والبيهقيُّ في السنن (9/ 305) والطبرانيُّ (3/ 30) والطيالسيُّ (970) كلهم من طريق عاصم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه. (¬2) سنده حسن رواه الطبراني (3/ 30) وابن الجعد (334) وأحمدُ (6/ 390) من طريق شريك عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل عن علي بن الحسين عن أبي رافع .. ورواه أحمد بمتابعة شريك تابعه أبو النضر .. وهذا الإسناد حسن من أجل ابن عقيل. انظر التقريب (1/ 447). (¬3) صحيح الجامع (2/ 835).

أم الفضل تضرب الحسن

(إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقّ عن الحسن) (¬1) (كبشين) (¬2) .. ووقت العقيقة الأفضل هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (العقيقة تذبح لسبع، أو لأربع عشرة، أو لإحدى وعشرين) (¬3) وفي يوم جميل بالحَسَن أكل الفقراء وأهل الصفة من العقيقة .. وشاركوا النبي وأهل بيته الاحتفاء بالحسن .. أما الحسن رضي الله عنه فقد أرضعته أمّه فاطمة .. ثم بعث به - صلى الله عليه وسلم - إلى تلك المرأة الصالحة التي رأت في منامها بشرى ولادة الحسن .. بعث - صلى الله عليه وسلم - بالحسن إلى أم الفضل .. وها هي تحدّثنا عن رضاعته .. وعن ضربه وعن حبه. أم الفضل تضرب الحسن تقول رضي الله عنها: (رأيت كأن في بيتي عضوًا من أعضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزعت من ذلك فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت له ذلك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: خيرًا .. تلد فاطمة غلامًا، فتكفلينه بلبن ابنك قثم. قالت رضي الله عنها: فولدت حسنًا فأعطيته، فأرضعته حتى تحرك أو فطمته، ثم جئت به إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأجلسته في حجره فبال، فضربت بين كتفيه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ارفقي بابني رحمك الله -أو أصلحك الله- أوجعت ابني. قلت: يا رسول الله اخلع إزارك والبس ثوبا غيره حتى أغسله. قال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) حديث صحيح روواه أبو داود (1/ 28) عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، والنسائيُّ عن حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه (7/ 164) والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (4/ 265) وأبو يعلى عن أبي الزبير عن جابر (5/ 323) وعن جرير عن قتادة عن أنس (3/ 441) وغيرهم. (¬2) حديث صحيح عند الحاكم وأبي يعلى. (¬3) صحيح الجامع (2/ 759).

إنما يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام) (¬1)، يرشّ بول الصبي إلَّا إذا صار يأكل الطعام، عند ذلك يغسل بوله .. والحسن ما زال رضيعًا .. ينعم بقلب جده - صلى الله عليه وسلم - وقبلاته وأحضانه .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمصّ لسانه أو شفته -يعني الحسن بن علي صلوات لله عليه- وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصّهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬2). ذلك الطفل البريء .. ذلك البرد الطهور .. الحسن بن علي رضي الله عنه ملأ قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وملكه .. تمرّ الأيام فيكبر .. ويزداد شبهه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .. فيقول أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن أحد أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن بن علي) (¬3) .. يكبر الحسن ويكبر حبّه بين حناياه - صلى الله عليه وسلم - .. فيقول البراء رضي الله عنه: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - والحسن بن علي على عاتقه يقول: اللهمّ إني أحبه فأحبه) (¬4)، ويبدأ الحسن يلثغ بالكلمات .. يتعثّر في نطقها .. يقلّبها .. يعبث لسانه الصغير بأحرفها فيزداد حسنًا وبهاءً .. ويبدأ الخطو واللعب ويخرج إلى الطريق ليلعب مع الأطفال .. فيراه والده وأبو بكر رضي الله عنهما وهما يمشيان .. فيسرع إليه أبو بكر ويأخذه من فوق ¬

_ (¬1) سنده حسن وهو حديث أم الفضل السابق. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد (4/ 93) حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا حريز عن عبد الرحمن ابن أبي عوف الجرشي عن معاوية: هاشم بن القاسم ثقة ثبت -التقريب (2/ 314) وحريز أوثق منه التقريب (1/ 159) والتهذيب (2/ 237) وعبد الرحمن بن أبي عوف تابعي كبير ثقة- التقريب (1/ 494) .. ولك أن تتصور مدى الأمانة العلمية لدى رجال هذا السند رغم سلوكيات بعضهم تجاه علي رضي الله عنه .. فمعاوية حاربه .. وحريز ناصبي ومع ذلك يأبى عليهم إيمانهم وصدقهم أن يخفوا مثل هذا الخبر .. وهي شهادة لعلم الجرح والتعديل الإسلامي ونقاده رحمهم الله- في التوثيق والجرح ومدى دقتهم في ذلك. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (3752). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (3749).

الأرض ليجعله فوق عنقه ويدلي قدميه الناعمتين على كتفيه .. ويفديه بأبيه ويردّد كلمات تضحك والده عليًا .. يقول أحد الصحابة الذين شاهدوا حب أبي بكر للحسن: (صلّى بنا أبو بكر العصر، ثم قام وعلي يمشيان، فرأى الحسن يلعب مع الغلمان، فأخذه أبو بكر، فحمله على عنقه، وقال: بأبي شبيه النبي ... ليس شبيهًا بعلي وعليّ يبتسم) (¬1) (ويضحك) (¬2). ولا يلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك .. إنه ابن حبيبه وصاحبه ونبيّه .. وحبّه من الإيمان وأبو بكر متضلع بالإيمان وحب آل بيته وحب هذا الطفل الجميل .. أبو بكر يفعل ما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعله بالحسن .. يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - واضعًا الحسن على عاتقه "وهو يقول: اللَّهم إني أحبه فأحبه": وقال: من أحبني فليحبه) (¬3) لم يكن الحسن فوق عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - .. كان يحتل قلبه وجسده ومشاعره .. ها هو رجل من الأزد يبلغ الدنيا وصية نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يحتضن الحسن داخل حبوته .. فيقول: (أشهد لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعه في حبوته وهو يقول: من أحبّني فليحبه، وليبلغ الشاهد الغائب) (¬4) .. ولم يقتصر الطفل ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (3/ 249) بسند البخاري وهو عند البخاري (3542). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3542). (¬3) سنده صحيح رواه أبو داود الطيالسي (732) واللفظ له والترمذيُّ (3783) والزيادة له عن شعبة عن عدي بن ثابت سمعت البراء .. وعدي ثقة من رجال الشيخين -التقريب (2/ 16). (¬4) سنده صحيح رواه البخاري - خلق أفعال العباد (ص) (91) والحاكم (3/ 190) وأحمدُ (5/ 66) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن الحارث يحدث عن زهير =

البريء على اقتحام قلبه - صلى الله عليه وسلم - بل تجاوزت براءته كل ذلك فصار يقتحم على جده - صلى الله عليه وسلم - صلاته .. ها هو الحسن يدخل على جدّه وهو يصلّى بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة رضي الله عنهم .. يركض الحسن .. يلهو داخل المسجد يتّجه نحو جده - صلى الله عليه وسلم - فيقفز على ظهره الشريف .. ويمتطيه كفارس مغوار .. فماذا فعل - صلى الله عليه وسلم -؟ .. وما هو رد والده وبقية الصحابة على لهو ذلك الطفل واقتحامه عالم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خاشع مع ربه .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلّي فإذا سجد وثب الحسن على ظهره وعلى عنقه، فيرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفعًا رفيقًا لئلا يصرع -فعل ذلك غير مرة- فلما قضى صلاته، قالوا: يا رسول الله رأيناك صنعت بالحسن شيئًا ما رأيناك صنعته. قال - صلى الله عليه وسلم -: إنه ريحانتي من الدنيا) (¬1). فتعلم الصحابة أن الطفولة عطر جذاب .. وبراءة لا تقاوم .. منحها الإِسلام مساحة من الحب والرحمة والتسامح .. مساحة فسيحة .. فسيحة تمتّع بها الحسن ونعم فيها بطفولته وعفويّته .. وتمتع بها أطفال المسلمين من بعده .. و .. ¬

_ = ابن الأقمر عن الرجل الأزدي وهذا سند صحيح: زهير تابعي ثقة وليس كما قال الحافظ: مقبول .. (2/ 465) وتلميذه ثقة: التهذيب (5/ 182) وعمرو بن مرة أوثق من الاثنين (2/ 78) ويشهد للحديث ما قبله. (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (5/ 51) وابن حبان (15/ 418) والطبرانيُّ (3/ 34) من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أخبرني أبو بكرة .. وفي هذا السند مدلسان الحسن ومبارك .. رحمهما الله أما الأول فصرح بالسماع من أبي بكرة رضي الله عنه وأما مبارك فقد توبع عند الطبراني (3/ 34) تابعه إسماعيل بن مسلم فإن كان العبدي فهو ثقة، وإن كان المكي فهو ضعيف.

تتمادى البراءة فيتمادى الحب

تتمادى البراءة فيتمادى الحب وتتّسع الرحمة .. رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المرة لا يذهب إلى المسجد وحده .. بل يحمل حفيده معه وهو يعلم ما قد يفعل الطفل أثناء الصلاة .. أحد الذين رأوا ورووا تلك القصة المفعمة بالطفولة والعبادة يتحدّث إلينا .. صحابي اسمه شداد يقول: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنًا (¬1)، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه، ثم كبّر للصلاة، فسجد بين ظهراني صلاته سجدةً أطالها. فرفعت رأسي، وإذا بالصبي على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك. قال - صلى الله عليه وسلم -: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضى حاجته) (¬2)، إنها رحمة يشعر بها - صلى الله عليه وسلم - ويجعل أصحابه يشعرون بها .. تقول عائشة رضي الله عنها: (جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: تقبّلون الصبيان؟ فما نقبلهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة) (¬3). و (قبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: من لا يرحم لا يُرحم) (¬4). ¬

_ (¬1) أو حسينًا كما جاء في النص وفعلت ذلك من أجل السياق. (¬2) حديث صحيح رواه أحمد (3/ 493) والنسائيُّ (صحيح الألباني-1/ 246). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (5998). (¬4) حديث صحيح، رواه البخاري (5997).

الرحمة تذهله (صلى الله عليه وسلم)

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن نفسه: (إنما أنا رحمة مُهداة) (¬1) .. فهل هناك أجمل من الرحمة .. ومن الهدية .. لقد كان بين أضلاعه قلب كالنسيم البارد خلال القيظ والهجير .. كان قلبه مطرًا لذيذًا على شفتي صحراء تتلمظ عطشًا. ذات يوم وبينما كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب أصحابه على منبره .. إذا به يذهل عن خطبته وعن الناس من حوله .. بل وعن نفسه. الرحمة تذهله (صلى الله عليه وسلم) عبد الله بن عمر بن الخطاب رأى وسمع ما حدث .. يقول رضي الله عنه: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يخطب الناس، فخرج الحسن بن علي رضي الله عنه في عنقه خرقة يجرّها، فعثر فيها، فسقط على وجهه فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المنبر يريده، فلما رآه الناس أخذوا الصبي فأتوه به، فحمله فقال: قاتل الله الشيطان، إن الولد فتنة، والله ما علمت أني نزلت عن المنبر حتى أوتيت به) (¬2)، ولم تكن الرحمة للحسن وحده .. كانت هناك طفلة ¬

_ (¬1) حديث صحيح، صحيح الجامع الصغير (1/ 463). (¬2) سنده قوي، رواه الطبراني (3/ 35) (حدثنا عبد الله بن علي الجارودي، حدثنا أحمد بن حفص، حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن عباد بن إسحاق، عن زيد بن أبي العتاب، عن عبيد بن جريج عن ابن عمر .. وعبيد وزيد تابعيان ثقتان من رجال التقريب، وعباد بن إسحاق صدوق وأسمه عبد الرحمن انظر التهذيب (6/ 137) وإبراهيم ثقة من رجال الشيخين - التقريب (1/ 36) وأحمدُ ووالده صدوقان من رجال البخاري انظر: التقريب (1/ 13 - 186) وشيخ الطبراني حافظ من أئمة الأثر أثنى عليه الحاكم والناس انظر: البلغة لفضيلة الشيخ حماد الأنصاري حفظه الله (194).

تنافسه .. وردة اسمها "أمامة" بنت ابنته زينب رضي الله عنها .. كانت أمامة ملء سمعه وبصره .. حتى أنه كان يأخذها معه إلى المسجد وهو يريد الصلاة بصحابته رضي الله عنهم .. يقول أحدهم وهو "أبو قتادة": (خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلّى، فإذا ركع وضع، وإذا رفع رأسه رفعها) (¬1)، (فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها) (¬2) .. يفعل ذلك أثناء صلاته بالمؤمنين. ولم تكن تلك الرحمة والملاطفة منه - صلى الله عليه وسلم - لأولاده فقط، بل كان يشمل بها أبناء المسلمين .. ها هو يزور دار أحد الأنصار .. دار الربيع بن سراقة الخزرجي، فيجد طفلًا صغيرًا اسمه محمود .. فيبدأ - صلى الله عليه وسلم - بملاطفته وملاعبته .. تناول - صلى الله عليه وسلم - دلوًا .. ثم ملأ فمه الطاهر بالماء ثم اقترب من الصغير فطشّ الماء في وجهه .. حركة تثير الضحك والركض والاختباء البريء لدى الأطفال .. حركة تجلب السعادة .. ما زال محمود يذكرها ويذكر الناس بها، وهو يقول: (عقلت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجّة مجّها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين) (¬3) (مجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دلو في دارنا) (¬4). قد يفعل الرجل هذا مع أبنائه وبناته .. فهل يفعل حاكم أو عالم أو وجيه مع أطفال غيره .. ماذا سيقول الناس عن ذلك .. ماذا سيقول الجهل عن ذلك .. لكن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك مع ذلك الطفل (من بئر في دارهم) (¬5). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (5996). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (516). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (77). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (6422) ومسلمٌ. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (1185). حديث صحيح رواه البخاري (مشكاة المصابيح -3/ 1617).

النبي (صلى الله عليه وسلم) والإماء والمعاقين

بل لقد بلغ به التواضع والرحمة أعماقًا وآفاقًا بعيدةً .. بعيدة .. تعال معي إلى هذا المشهد المضحك المبكي في طرقات مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. مشهد لـ النبي (صلى الله عليه وسلم) والإماء والمعاقين حيث نرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي في الطرقات تقوده أمةٌ أو امرأة في عقلها شيء .. دون أن ينهرها .. أو يطالبها بالتوقف أو يطالب أهلها بردعها عن مجلسه .. كان يجعل لها من قلبه ووقته نصيبًا كالآخرين .. يقوم من مجلس قد يجلس فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي إلى امرأة في عقلها اضطراب .. يستمع إليها وينصت حتى تنتهي وتقضي حاجتها .. يقول أنس رضي الله عنه: (كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت) (¬1)، ويقول رضي الله عنه: (إن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان .. انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها) (¬2). كان - صلى الله عليه وسلم - جنّة من المشاعر .. ينعم بها الجميع، حتى ضعاف العقول .. حتى العصافير والطيور .. كان - صلى الله عليه وسلم - جدول حب يشرب منه الجميع .. فيرتوون. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (6072). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (2326).

في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من فجع هذه بولده؟ ردوا ولدها إليها. ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلَّا رب النار) (¬1) .. كان - صلى الله عليه وسلم - يتغيّر وجهه ويتألم لمنظر الفقراء .. فلا يقرّ له قرار حتى يذهب ما بهم .. فإذا لم يجد سوى الكلمات بذلها يريح بها نفوسهم ويقوّيهم بها .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (كنّا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار، فجاء قوم عراة، حفاة، متقلّدي السيوف، عامتهم من مضر -بل كلّهم من مضر- فتغيّر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلّى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}) (¬2)، و {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (¬3). تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشقّ تمرة. فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفّه تعجز عنها -بل لقد عجزت- ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلّل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سنّ في الإِسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من ¬

_ (¬1) حديث صحيح: انظر: صحيح سنن أبي داود (3/ 1618). (¬2) سورة النساء: الآية 1. (¬3) سورة الحشر: الآية 18.

قصة أولها رحمة وآخرها جحيم

أجورهم شيئًا، ومن سنّ في الإِسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا) (¬1)، أي من أحيى سنة من سنن الإِسلام، ودلّ عليها فله ذلك الأجر .. ومن ابتدع في الإِسلام سنة لم يأت بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فعليه ذلك الوزر المخيف .. ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (من دلّ على خير فله مثل أجره فاعله) (¬2)، و (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) (¬3) .. وكانت تلك الصدقات سنة حسنة تهلّل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما رآها .. لأن الجوع والعري سوف ينزاح عن أولئك المساكين .. الذين أحسّوا بالحياة تسري في عروقهم من جديد .. لكن الرحمة أحيانًا تستغل .. يستغلها الأوغاد واللئام .. وذلك لا يعني أن يتوقف تدفقها للتوقعات والظنون .. رحمته وكرمه - صلى الله عليه وسلم - متدفقة دون توقف .. حتى مع الخونة إلى أن يظهروا الخيانة ويمارسوها جهارًا كما في هذه القصة: قصة أولها رحمة وآخرها جحيم مجموعة من اللصوص من عكل وعرينة .. مجموعة من الأوغاد سمعوا برحمته - صلى الله عليه وسلم - .. وبشفقته على أصحابه وعلى الناس جميعًا .. فظنّوا أن بإمكانهم استدرار رحمته واستدراج طيبته ثم الضحك عليه بعد نوال عطائه .. جاء هؤلاء إلى المدينة، أظهروا الإِسلام (وبايعوه - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) لكن حمى المدينة أصابتهم .. شَمَلهم - صلى الله عليه وسلم - بقلبه وكرمه قالوا: (يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة) (¬5) (فقال لهم رسول ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (1017) الزكاة والنسائيُّ (الصحيح-2/ 539). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (1893). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2697). (¬4) حديث صحيح -رواه مسلم- القسامة. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4192) ومعنى استوخموا أي لم يوافق مناخها أجسادهم.

الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ألبانها وأبوالها) (¬1) (فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذودٍ (¬2)، وراعٍ، أمرهم فيه، فيشربوا من ألبانها وأبوالها) (¬3) (فانطلقوا، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحوا وسمنوا) (¬4) (فلما صحوا قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا النعم) (¬5) و (سملوا أعين الرعاء) (¬6) أي فقأوا عينيه بالحديد. (فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم) (¬7) (فجاء الخبر في أوّل النهار، فبعث - صلى الله عليه وسلم - في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بقطع أيديهم، وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرّة، يستسقون فلا يسقون) (¬8) (ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا) (¬9) .. ما هو ذنب ذلك الراعي المسكين الذي اعتنى بهم وبصحتهم .. سقاهم ومرّضهم وأطعمهم .. فكان جزاؤه أن فقأوا عينيه ثم قتلوه .. إن فقأهم لعيني الراعي قبل قتله دليل على توغّل الإجرام والحقد في نفوس أولئك المجرمين الأنذال .. الذين جمعوا كل صفات الخسّة والدناءة .. كفروا وقتلوا ومثّلوا وخانوا وسرقوا .. فكان عقابهم شَرسًا بحجم جريمتهم .. إن أمثال هؤلاء الرعاع والجهلة وقطاع الطرق يشكلون خطرًا على كل أرض يطأونها بأقدامهم .. ولا يمكن أن يوقف نزيف ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (1671) القسامة. (¬2) الذود هو القطع من الإبل. (¬3) حديث صحيح رواه البخارى (4192). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (3018). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (233). (¬6) حديث صحيح رواه مسلم -القسامة (1671). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (4192). (¬8) حديث صحيح رواه البخاري (3018). (¬9) حديث صحيح رواه مسلم -القسامة (1671).

اغتيال خالد بن سفيان

الخوف والدم الذي يسفكونه سوى السيف البتّار .. أمثال هؤلاء يغريهم ضعف الضعيف .. وحلم الحليم وتسامح الكريم .. فينشرون من خلال ذلك الرعب في قلوب الحجاج والتجار والمسافرين .. وربما أغرى هؤلاء الأجلاف ذلك الإنكسار الذي حدث للمؤمنين في غزوة أحد .. وربما كانوا طلائع خيانة واستكشاف لمجرم قابع في عرنه يجمع جيشًا لاقتحام المدينة ونهبها .. مجرم يثير القشعريرة .. اسمه خالد بن سفيان بن نبيح يقود بني لحيان .. علم - صلى الله عليه وسلم - بذلك المخطط .. لكنه فكّر بطريقة آمنة يتخلّص فيها من حرب ضروس بطعنة واحدة .. يحقن فيها دماء جيوش تحتاج إلى دمائها ورجالها .. فكّر - صلى الله عليه وسلم - بـ: اغتيال خالد بن سفيان وقع اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فارس مغوار يختصر المسافات والأحداث .. يجمع الجيوش والآلام والنواح بطعنة واحدة .. وقع اختياره - صلى الله عليه وسلم - على فارس يدعى عبد الله بن أنيس .. فتعالوا إلى الأحداث والحديث .. وفارسنا الذي يقول: (دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بعرنة، فأته فاقتله. قلت: يا رسول الله، انعته (¬1) لي حتى أعرفه. قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيته وجدت له قشعريرة [قلت: والذي أكرمك ما هبت شيئًا قط]، فخرجت متوشحًا سيفي، حتى وقعت عليه بعرنة "مع ظعن (¬2) يرتاد لهن ¬

_ (¬1) أي صفه لي. (¬2) نساء.

منزلًا"، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت له ما وصف لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصلّيت وأنا أمشي نحوه، أومئ برأسي الركوع والسجود. فلما انتهيت إليه، قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لهذا. قال: أجل، أنا في ذلك [قلت: باغي حاجة فهل من مبيت؟ قال: نعم فالحق بي] فمشيت معه شيئًا، حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركته ظعائنه مكبّات عليه [ثم غشيت الجبال ولجمته حتى إذا ذهب الناس خرجت حتى] قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرآني، فقال: أفلح الوجه. قلت: قتلته يا رسول الله. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدقت". ثم قام معي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل في بيته، فأعطاني عصا، فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس، فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا؟ قلت: أعطانيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرني أن أمسكها. قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتسأله عن ذلك؟ فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقلّ الناس المتخصرون يومئذ يوم القيامة، فقرنها عبد الله بسيفه) (¬1) .. الذي حطم صنمًا وخطرًا في دروب المؤمنين .. إن هذا النوع ¬

_ (¬1) حديث صحيح عدا ما بين الأقواس الصغيرة ... وقد حسن الحافظان ابن حجر وابن كثير رحمهما الله سنده الذي عند أحمد وأبي داود وهو سند ضعيف ... وبقية الحديث هو: فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها، فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا، والحديث عند أحمد (3/ 496) والطبرانيُّ (مسند العبادله- 76) وأبي داود (1249) مختصرًا. وقد ضعفه =

من الاغتيال لم يكن باجتهاد فردي .. لم يقم به أحد من أصحابه حماسًا وتطوعًا .. وهم قادرون على أكثر من ذلك .. إنها دماء لا يجوز الخوض فيها دون الرجوع إلى النبي -الإِمام- النص .. وإلا فإنها ضرب من التهور غير المبرر. لم يكن عبد الله بن أنيس وحده الذي يبعث في سرية مكوّنة من فرد واحد .. كان هناك من ينافسه .. رجل شديد البأس .. قويّ البنية .. جسور لا يهاب الموت .. يعشق الشهادة .. كان - صلى الله عليه وسلم - يبعثه إلى أعماق قريش .. يتغلغل فيها .. لا ليقتل .. بل لينقذ .. ليخلص بعض أولئك المستضعفين في مكة الذي أبقاهم ذووهم في مكة .. وقهروهم ومنعوهم من الهجرة .. فكانت تلك المهمات: ¬

_ = الإمام الألباني في ضعيف أبي داود (123) وسنده عند أحمد وأبي داود محمَّد بن إسحاق عن محمَّد بن جعفر عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه. لكن ابن إسحاق صرح بالسماع من شيخه الثقة عند أحمد (3/ 496) فتبقى مشكلة ابن عبد الله بن أنيس .. وعند رجوعنا إلى التقريب نجد أن الحافظ قال: إن اسمه: ضمرة أو عمرو .. أو دون اسم .. ولكن عندما نرجع إلى سنن البيهقي (3/ 256) نجد أنه قد سماه بـ عبيد الله .. وهو الأصوب والأصح للتصريح من تلميذه باسمه .. لكن معرفتنا باسمه لا تفي بالغرض .. فالرجل تابعي لكنه لم يوثق فحديثه يحتاج إلى شاهد أو متابعة وقد وجدت هذه المتابعة والشاهد عند الطبراني. حدثنا مصعب بن إبراهيم، حدثني أبي، حدثنا عبد العزيز الدراوردي، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمَّد بن كعب القرظي، قال، قال عبد الله بن أنيس .. وفي هذا السند خطأ فالصواب يزيد بن عبد الملك بن الهاد وهو تابعي ثقة وكذلك محمَّد بن كعب القرظي وسائر رجال السند ثقات وهو متصل انظر: التقريب (1/ 34 - 512) (2/ 203 - 367) وشيخ الطبراني ثقة انظر: مجمع البحرين (3/ 155) ورواية الدراوردي ليست عن عبيد الله العمري. فالسند حسن والحديث صحيح بالسندين والزيادات بين المعقوفين من رواية الطبراني.

سرايا لمرثد بن أبي مرثد

سرايا لمرثد بن أبي مرثد وكان لمرثد رضي الله عنه صديقة في مكة .. ينزل عليها سرًّا .. كان يحبها وتحبه وتحفظ سره وعلاقته بها .. اسمها: (عناق) .. لكن أمرًا حدث في المدينة أثار غضب تلك الحسناء .. فخانت مرثد ونادت قريشًا لكي يحاصروه ويقبضوا عليه .. فماذا حدث لمرثد بن أبي مرثد. يقول أحد الصحابة: إن (مرثد بن أبي مرثد، كان رجلًا "شديدًا" يحمل الأسرى من مكة، حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغيٌّ بمكة يقال لها: عناق، وكانت صديقة له، وأنه كان وعد رجلًا من أسارى مكة يحتمله، قال مرثد: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط، من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني فقالت: "من هذا" مرثد؟ فقلت: مرثد. قالت: مرحبًا وأهلًا، هلم فبِتْ عندنا الليلة "انطلق الليلة فبت عندنا في الرحل". حرم الله الزنا قلت: يا عناق، حرّم الله الزنا، "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم الزنا". قالت: يا أهل الخيام، "هذا الدلدل، هذا الذي يحمل أسراءكم من مكة إلى المدينة". فتبعني ثمانية، وسلكت الخندمة (¬1)، فانتهيت إلى غارٍ أو كهفٍ، فدخلت، فجاءوا حتى قاموا على رأسي، فبالوا، "فطار بولهم علي"، فظلّ ¬

_ (¬1) جبل عند أحد مداخل مكة.

بولهم على رأسي، وعمَّاهم الله عني. ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي، فحملته، وكان رجلًا ثقيلًا، حتى انتهيت إلى الإذخر، "فلما انتهيت به إلى الأراك" فككت عنه أكبله، فجعلت أحمله ويعينني، حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله أنكح عناقًا؟ "فسكت عني"، فأمسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عليّ شيئًا حتى نزلت: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا مرثد الزاني لا ينكح إلَّا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلَّا زان أو مشرك .. فلا تنكحها) (¬1). لأنها تحترف الزّنا وتصرّ عليه .. أما إذا تابت الزانية وتاب الزاني وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة .. فيجوز عند ذلك .. أمّا إذا لم يتوبوا فهم أمراض متنقلة .. تنخر الأجساد والمجتمعات .. إذًا فهناك رجال يمكن الاعتماد عليهم للقيام بمهام خطيرة ودقيقة .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتردّد في بثّهم هنا وهناك .. فالمدينة في خطر .. والدعوة إلى التوحيد تحتاج إلى دولة قوية وذكية لنشرها .. كان لمرثد دور .. وكان لعبد الله بن أنيس دور آخر .. وللذين داخل المدينة أدوار يؤدّونها تحت قيادة هذا النبي الحكيم. ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه النسائي (الصحيح-3027) والترمذيُّ (الصحيح- 3538) واللفظ له والزوائد للنسائي .. من طريق عبيد الله بن الأخنس أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .. وعبيد الله بن الأخنس أبو مالك النخعي، ثقة قاله الأئمة: أحمد وابن معين وأبو داود والنسائيُّ، وانظر: التهذيب. والتقريب (1/ 530) وبقية السند حسن أي عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وهو سند معروف.

عامر بن الطفيل يهدد النبي (صلى الله عليه وسلم)

في إحدى هذه المهمات أراح النبي - صلى الله عليه وسلم - دولته وأصحابه من فتنة عمياء .. ومن حرب قد تكون فادحة الخسائر .. وأراح بني لحيان من كارثة قد تحلّ بهم على يد قائدهم المتهور خالد بن نبيح .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكتف بهذه السرية ذات الفارس الواحد والفذّ .. فقريش وبنو لحيان وبعض القبائل أغراهم ذلك الانكسار الذي حدث للمسلمين في أُحُد .. لذلك لا بدّ من الحذر واليقظة .. لا بدّ من دراسة المنطقة والتعامل معها بحرص فقد يكون فيها أكثر من خالد بن نبيح .. هناك مناطق توتّر مخيفة بين مكة والمدينة .. أشدّها تلك التي تسكنها هذيل تلك القبيلة التي ينتمي لها بنو لحيان .. ويسكنها بجوارهم بني سليم .. وإليها ينتمي بطون: رعل وذكوان وعصية .. وهؤلاء جميعًا يسكنون قريبًا من مكّة .. وقد تمّ القضاء على إحدى بؤر التوتّر وهو خالد بن نبيح .. لكن بقي من هو أشدّ خطورة منه .. بقى طاغوت من غطفان اسمه: عامر بن الطفيل .. هذا الطاغوت كان وقحًا لدرجة أنه جاء إلى المدينة يهدد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يرض بمطالبه. عامر بن الطفيل يهدد النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وهو يتحدّث عن عامر بن الطفيل: (كان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، وكان أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل السهل، ولي أهل المدر. أو: أن أكون خليفتك من بعدك. أو:

أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء) (¬1). رفض - صلى الله عليه وسلم - تلك المطالب الطاغوتية .. فقد بعثه الله للناس كافةً .. لنشر التوحيد وإزالة الشرك عن هذه الأرض كلها .. وإزالة الطواغيت أمثال عامر بن الطفيل .. ولذلك أخذ - صلى الله عليه وسلم - حذره من ذلك الأهوج .. ومن بني لحيان وبني سليم .. فقام بعقد عهدٍ بينه وبن جيرانهم بني عامر حتى يأمن اتفاقهم عليه أو مساندتهم لقريش إذا ما قامت قريش بعمل عسكري في المستقبل .. لكن ذلك كلّه لا يكفى، فعامر بن الطفيل وأتباعه يحتاجون إلى رصد ومراقبة أكثر .. فالظروف الحالية دقيقة وخطيرة. وقريش ما زالت تحتفظ بقائمة من الأسماء .. لها معها ثأر منذ غزوة بدر .. ولم تتمكن منهم في غزوة أُحُد .. وكان على رأس تلك القائمة عاصم بن ثابت الذي شهد له - صلى الله عليه وسلم - بإجادة القتال في غزوة أحد .. عاصم .. هذا الأسد .. كان قد فتك بعظيم من طواغيت قريش ورأسه مطلوب بأي ثمن .. والفارس الآخر اسمه: خبيب بن عدي .. وقد اجتثّ خبيب رضي الله عنه طاغوتًا آخر يدعى: الحارث بن عامر بن نوفل .. وهناك آخرون مطلوبون .. لكنني ذكرت هذين الفارسين لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استدعاهما واستدعى معهما ثمانية من الشجعان .. هؤلاء العشرة كوّنوا سرية استطلاع للمنطقة الواقعة بين مكة والمدينة .. ومهمتهم تغطي أراضي يسكنها بنو لحيان وسليم وبنو عامر .. وأطلق فيما بعد على هذه السرية: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4091) والبيهقيُّ (3/ 345) واللفظ له.

سرية الرجيع

سرية الرجيع لكن ما علاقة بني لحيان. بمن هلك من طواغيت قريش على أرض بدر؟ .. أحد الصحابة يجيب ويسرد علينا قصة عاصم قائد هذه السرية وأصحابه، فيقول: (بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - "عشرة رهط" عينًا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت -وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب- فانطلقوا حتى كانوا "بالهدأة" بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلًا نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزوّدوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب. فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما "رآهم" عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد (¬1)، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهد والميثاق، إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلًا. فقال عاصم "أمير السرية": أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهمّ أخبر عنا نبيّك. فقاتلوهم حتى قتل عاصمًا في سبعة نفر بالنبل (¬2). وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث الذي معهما رضي الله عنه: هذا أول الغدر. فأبي أن يصحبهم، فجرّوه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد .. حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل - وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر. ¬

_ (¬1) الرابية المرتفعة. (¬2) أي قتلوا سبعة من الصحابة أحدهم عاصم رضي الله عنهم جميعًا.

فمكث "خبيب" عندهم أسيرًا، حتى إذا أجمعوا قتله (¬1)، استعار موسي من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها (¬2)، فأعارته. قالت: فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه (¬3) حتى أتاه فوضعه في فخذه. فلما رأيته فزعت فزعةً عرف ذلك مني وفي يده الموسي. فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى. وكانت تقول: ما رأيت أسيرًا قطّ خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف (¬4) عنب وما بمكة يومئذ ثمرة - وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله "خبيبًا". فخرجوا به من الحرم (¬5) ليقتلوه "في الحل"، فقال رضي الله عنه: دعوني أصلى ركعتين "ذروني أركع ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين" ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن "تظنوا" أن ما بي جزع من الموت لزدت "لطوّلتها"، فكان أوّل من سن الركعتين عند القتل هو. ثم قال: اللهمّ أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا. ثم أنشأ يقول: فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي شقّ كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع ¬

_ (¬1) قرروا قتله ثأرًا لقتله والدهم الحارث. (¬2) طلب موسي ليحلق بعض شعره. (¬3) مشى الطفل حتى دخل على خبيب والموسى بيده. (¬4) القطف هو العنقود ساعة قطفه. (¬5) كان المشركون يحترمون منطقة الحرم لذلك خرجوا به إلى منطقة الحل.

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله) (¬1)، لكن عقبة بن الحارث ينكر ذلك ويقول لمن حوله: (والله ما أنا قتلت خبيبًا؛ لأنا كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة أخا بني عبد الدار أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله) (¬2). ويكمل الصحابي حديثه .. فيقول: (وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدرٍ، فبعث الله عليه مثل الظلّة من الدبر (¬3)، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا "على أن يقطعوا من لحمه شيئًا") (¬4) .. فكانت كرامة من الله لعاصم رضي الله عنه .. حيث حمى الله جسده الطاهر بسحابة من الزنابير أو ذكور النحل .. وهكذا سافر خبيب وعاصم وزيد ورفاقهم شهداءً إلى ربهم .. لكنها بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأحياء مصيبة أخرى بعد أُحُد .. خيانة قام بها بعض بني لحيان كلفت المؤمنين الكثير .. خيانة خسيسة ليست من طباع العرب الكريمة .. تأثر منها المومنون واستفادت منها قريش .. وحزّت في أنفس الشرفاء من العرب .. خاصة أولئك الذين كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4086) والزيادات عنده أيضًا. (¬2) سنده صحيح رواه إسحاق (سيرة ابن كثير-3/ 131) حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير، عن أبيه عباد، عن عقبة بن الحارث قال: سمعته يقول .. أي أن عباد سمعه من عقبة وعباد تابعي ثقة من رجال الشيخين (التقربب-1/ 392) وابنه يحيى ثقة وهو تابعي صغير (التقريب-2/ 350). (¬3) أي سحابة من الزنابير أو ذكور النحل. (¬4) هو بقية حديث البخاري السابق.

عهد وهم بنو عامر .. لذلك جاءت مجموعة منهم بقيادة رجل اسمه: عامر ابن مالك .. أبو البراء ويلقب بـ "ملاعب الأسنة" .. قدم ملاعب الأسنة من أجل تلطيف الأجواء .. حاملًا معه هدية للرسول - صلى الله عليه وسلم - .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حالة حزن على أصحابه .. فعرض الإِسلام على ملاعب الأسنة ودعاه إلى الدخول في دين الله .. فرفض .. فرفض - صلى الله عليه وسلم - هديته لأنه مشرك .. فحاول ملاعب الأسنة أن يخفّف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض ما في صدره من حزن على أصحابه .. فعرض عليه أن يرسل بعض الصحابة لنشر الإِسلام في نجد وتعهّد بحمايتهم والدفاع عنهم .. حتى يطمئن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لن يصيبهم ما أصاب خبيبا وأصحابه .. ومما دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الموافقة أن رجالًا من أحياء: رعل وذكوان وعصية كانوا قد قدموا مع "ملاعب الأسنة" وتظاهروا بالإِسلام وادّعوا أنهم بحاجة إلى مجموعة من الصحابة تعلّمهم القرآن والتوحيد .. بل وتعينهم على أعدائهم .. فاستجاب - صلى الله عليه وسلم - واثقًا بعهد ملاعب الأسنة .. ومصدّقًا أولئك الذين أظهروا الإِسلام، وبعث معهم شَبابًا من الأنصار .. ها هو أحدهم يودع أخته أم سليم .. إنه خال أنس بن مالك واسمه: حرام .. وهؤلاء الشباب الذين معه صفوة من تلاميذ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. شباب لا تعرف كيف تصفهم .. هل هم عباد .. أم تجار .. أم علماء .. ؟ أم عمّال .. إنهم الإِسلام في صورة شباب .. يقول كعب بن مالك: (جاء ملاعب الأسنة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهدية، فعرض عليه الإِسلام، فأبي أن يسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإني لا أقبل هدية مشرك. قال: فابعث إلى أهل نجد من شئت فأنا لهم جارٍ، فبعث إليهم) (¬1) ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه الطبراني (19/ 70 - 71 - 81) عن يونس ومعمر والأوزاعي وعن =

شبابًا (كنّا ندعوهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرّاء .. فذكر أنس سبعين رجلًا من الأنصار، كانوا إذا أجنّهم الليل آووا إلى معلم بالمدينة، فيبيتون يدرسون، فإذا أصبحوا فمن كان عنده قوّة أصاب من الحطب، واستعذب من العذب (¬1)، ومن كانت عنده سعة أصابوا الشاة فأصلحوها، فكان معلقًا بحجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصيب خبيب) (¬2) (جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان" فقالوا: أن ابعث معنا رجالًا يعلّمونا القرآن والسنّة، فبعث "إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد" سبعين رجلًا من الأنصار، يقال لهم: القرّاء -فيهم خالي حرام- يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلّمون، وكانوا بالنهار يجيؤون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم "حتى كانوا ببئر معونة") (¬3) (فأتوا على حي من بني سليم فقال حرام لأميرهم: دعني فلأخبر هؤلاء أنّا ليس إياهم ¬

_ = الزهريّ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن كعب رضي الله عنه .. وهذا السند صحيح وقد مر معنا .. (¬1) أي الماء العذب. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ في مواضع عديدة والطبرانيُّ (1/ 323) والبيهقيُّ (3/ 349) واللفظ له. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (677 - وبين 1902 - 1903).

نريد فيخلون وجوهنا) (¬1) (وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل) (¬2) (فاستجاش عامر بن الطفيل بني عامر، فأبوا أن يطيعوه، وأبوا أن يخفروا ملاعب الأسنة، فاستجاش عليهم بني سليم، فأطاعوه) (¬3) (فانطلق حرام أخو أم سليم ورجلان معه: رجل أعرج، ورجل من بني فلان. قال: كونا قريبًا مني حتى آتيهم، فإن أمنوني كنتم كذا، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم. فأتاهم حرام فقال: أتؤمنوني أبلغكم رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: نعم. فجعل يحدّثهم، وأمأوا إلى رجل فأتاه من خلفه، فطعنه، فأنفذه بالرمح "فلما وجد حرام مسّ الرمح في جوفه قال: الله أكبر .. فزت وربّ الكعبة") (¬4)، ولما سال دمه من جرحه اغترفه بيديه ثم (فقال بالدم هكذا: فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: فزت ورب الكعبة) (¬5) (فانطووا عليهم فما بقى منهم مخبرٌ "فلحق الرجل، فقتلوا كلهم إلَّا الأعرج كان في رأس الجبل") (¬6) (قتلوهم وغدروا بهم) (¬7) (قبل أن يبلغوا المكان. فقالوا رضي الله عنهم: اللهمّ بلّغ نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا) (¬8)، فأنزل الله ¬

_ (¬1) هو حديث البيهقي السابق وهو صحيح. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4091). (¬3) حديث صحيح وهو حديث الطبراني السابق. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4091 - 4092) والبيهقيُّ (3/ 345) واللفظ له. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4092). (¬6) حديث صحيح وهو حديث الطبراني السابق والزيادة للبخاري (4091). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (4090). (¬8) حديث صحيح رواه مسلم (677).

قرآنًا يتلى في هؤلاء الشباب الأطهار الأبرار .. فقال تعالى: (إنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) (¬1). نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم - فحزن حزنًا لم يحزن مثله أبدًا .. وخيّم الوجوم على المدينة .. على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وأحرق الدمع والحزن أجواف الأمّهات والآباء والأبناء .. وبكى أهل الصفة أرحم الناس بحالهم .. بكى أهل الصفة أحبابهم الذين طالما كدحوا وشقوا ليخفّفوا مما بهم .. ليمنحوهم بعض السعادة .. هذا قد منحوه ثوبًا .. وهذا اشتروا له طعامًا .. وذاك أعطوه فراشًا .. ورابع قلّموا له غطاءً .. وخامس قدموا له حذاءً .. لك أن تتصوّر حجم الفراغ الذي يتركه سبعون بمثل هذا الجمال والحب والسخاء. أهل المدينة يتذكرونهم عندما يرون تلك القرب التي كانوا يملأونها بالماء لهم على باب المسجد .. فكم من عطشان فقد تلك السحابة. أمّا النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوجّه والحزن في عينيه وقلبه إلى أصحابه. فقال: (إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهمّ بلّغ عنّا نبينا أن قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا) (¬2). لقد بلغ به الهمّ والحزن أن فعل شيئًا لم يكن قد فعله من قبل .. كيف لا وهو قد فجع بخبيب وعاصم ومن معهما .. ثم فجع بسبعين من خيرة الشباب الذين سافروا من أجل نشر دين ربهم ورسالة نبيّهم ولا ذنب لهم سوى ذلك .. لقد دعا - صلى الله عليه وسلم - على أولئك المشركين الأنذال شهرًا كاملًا في صلواته كلّها .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: (قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) هذه الآية منسوخة وهي في البخاري (4091). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (677).

شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على أحياء من بني سليم: على رعل، وذكوان، وعصية "وبني لحيان" ويؤمِّن من خلفه) (¬1)، ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (وذلك بدء القنوت وما كنّا نقنت) (¬2). واستجاب الله لنبيّه - صلى الله عليه وسلم - .. فأصيب الطاغية عامر بن الطفيل .. أصيب بمرض عضال وصفه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (غدة كغدة البعير (¬3)، وسماه - صلى الله عليه وسلم - بـ "الطاعون" .. وهو وصف دقيق للطاعون الدبلي الذي يتميز (بارتفاع درجة الحرارة وتضخم العقد الليمفية في منطقة الإرب وتحت الإبط وكذا تضخم الطحال) (¬4)، وهو ما أصيب به عامر بن الطفيل حتى أصبح حبيسًا في بيت امرأة من قومه .. أصيب عامر بالطاعون وتلاشت أحلامه بالتملّك على أهل المدن في الجزيرة العربية .. أو خلافة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أما تلك الجيوش التي هدّد النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، فقد تحوّلت إلى آلام تحبسه في بيت امرأة قد ولّى عنه الناس ونفروا منه خشية العدوى ففقد صوابه .. وصرخ بمن بقي ¬

_ (¬1) سنده جيد رواه أحمد (1/ 301) وأبو داود (1443) من طريق عبد الله بن معاوية وعبد الصمد وعفان، حدثنا ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس وثابت ثقة ثبت (التقريب-1/ 118) وشيخه ثقة تغير ولعله وهم في ذكره لصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والذي عند البخاري من رواية أنس وهو الذي روى القصة وعاصرها وصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الصلوات لم يذكر سوى الفجر .. و"بني لحيان" عند البخاري. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4088). (¬3) سنده صحيح رواه الإمام أحمد (6/ 145) من طرق أخبرنا جعفر بن كيسان حدثتنا معاذة بنت عبد الله قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها .. ومعاذة تابعة ثقة -التقريب (2/ 614) وجعفر ثقة انظر ذيل الكاشف (62). (¬4) انظر تعليق فضيلة الدكتور: قلعجي على الدلائل (3/ 346).

ماذا حدث لأم سليم رضي الله عنها

حوله .. فقال: (غدة كغد البكر في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي، فركبه فمات على ظهر فرسه) (¬1)، هلك ذلك الطاغية كالمجنون .. بعد أن تطاير الناس من حوله متقزّزين. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعد أن مكث شهرًا يدعو على عامر والخَوَنة الذين غدروا بالمؤمنين .. قرّر - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني لحيان وبني سليم: رعل وذكوان وعصية .. فأعدّ جيشًا ليتحرك نحوهم .. وكان أحد الصحابة يريد صحبته لكنه هذه المرة في حيرة من أمره .. فامرأته ثقيلة .. وهو يريد البقاء معها ويريد مصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وهي كذلك كانت تصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل غزوة لكن حالتها هذه المرة لا تساعدها على المسير .. فـ: ماذا حدث لأم سليم رضي الله عنها يقول ابنها البار أنس بن مالك رضي الله عنه: (كانت أم سليم تسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. تخرج معه إذا خرج، وتدخل معه إذا دخل) (¬2) (فضربها المخاض واحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو طلحة: يا رب .. إنك لتعلم أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج، وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى. تقول أم سليم: يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد، فانطلقا) (¬3). انطلق النبي وأصحابه إلى تلك الأرض التي غُدِرَ فيها بأولئك الشباب الأطهار. انطلق - صلى الله عليه وسلم - بجيشه جنوبًا إلى تلك الأرض التي تقع بين عسفان ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1091) والبيهقيُّ واللفظ له (3/ 346). (¬2) سنده صحيح وقد مر معنا عند الحديث عن الانتفاع بالخمر في أول الكتاب وهو عند أبي داود الطيالسي (2/ 160). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (2144) وأحمدُ (3/ 196).

غزوة بني لحيان

ومكّة .. أرض بني سليم: رعل وذكوان ولحيان وعصية التي عصت الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. فماذا حدث في: غزوة بني لحيان يبدو أن بني سليم: رعل وذكوان وعصية .. وكذلك لحيان قد علموا بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وأدركوا فداحة جرمهم وشناعة خيانتهم للعهد .. وانتهاكهم لحقوق جارهم ملاعب الأسنة .. ورأوا بأعينهم ما حدث لذلك الشيطان الذي عبث بعقولهم من عقاب إلهي .. وأدركوا بركان الغضب الإِسلامي الزاحف نحوهم .. فهربوا كحمير مستنفرة فرّت من قسورة .. هؤلاء الخونة يحتاجون إلى من يجرّهم من جحورهم فردًا فردًا .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - وجيشه ليس لديهم وقت لهذا .. فالعودة إلى المدينة أنسب في الوقت الحاضر .. لكن لا بدّ من التخطيط للقضاء على مصادر الشرّ والجريمة المحيطة بالمدينة .. لا بدّ من تأديب تلك القبائل التي تتآمر على الإِسلام والمسلمين .. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء للأرض كلّها .. جاء بالسلام للعالم أجمع .. ولا يجوز حرمان العالم من هذه الرسالة الإلهية بسبب مجرم أو مجرمين من المشركين أو من اليهود .. عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة .. وبعد عودته كان بانتظاره وانتظار صاحبه أبي طلحة خبر سعيد: أم سليم تلد طفلًا (أخذها الطلق ليلة قربهم من المدينة، فقالت: اللهمّ إنني كنت أدخل إذا دخل نبيّك وأخرج إذا خرج، وقد حضر هذا الأمر فولدت غلامًا) (¬1). ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا عند الحديث عن زواج أم سليم. رواه الطيالسي (2/ 160).

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال لأبي طلحة وأنس بن مالك قبل سفره: (إذا ولدت فائتوني بالصبي) (¬1)، يقول أنس بن مالك: (فقالت لي أمي: يا أنس "انطلق بالصبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يرضعنه أحد حتى تغدو به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبحت احتملته وانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصادفته ومعه ميسم "وهو يسم إبلًا وغنمًا" فلما رآني قال: لعل أم سليم ولدت؟ قلت: نعم. فوضع الميسم (¬2)، فجئته به فوضعته في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعجوة من عجوة المدينة، فلاكها في فيه حتى ذابت، "فجعل يحنك الصبي، وجعل الصبي يتلمظ (¬3)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: انظروا إلى حب الأنصار التمر فحنكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فمسح وجهه وسمّاه عبد الله) (¬4) (وكان يعدّ من خيار المسلمين) (¬5) .. عاد الصغير إلى أمه .. واستجاب الله دعوة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - لأم سليم وزوجها عندما مات ابنها الأكبر ففعلت أم سليم ما فعلت تلك الليلة .. سعيدة هي أم سليم وسعادتها لا توصف .. سعيدة بزوجها وابنها .. ولا أحد في مثل فرحها إلَّا امرأة تلد مثلها وتفرح أكثر منها .. امرأة رزقت بنتًا يتيمة مات والدها قبل ولادتها .. ومع ذلك فهي أسعد من أم سليم .. إنها: ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا عند الحديث عن زواج أم سليم. رواه الطيالسي (2/ 160). (¬2) آلة أو حديدة يكوى بها الحيوان لتمييزه. (¬3) يذوقه بلسانه. (¬4) حديث صحيح مر معنا وهو عند مسلم (2144) وأحمدُ (3/ 196) والزوائد للطيالسي (2/ 160). (¬5) ليس من كلام أنس بل من كلام التابعي ثابت البناني.

أم سلمة تلد بنتا

أم سلمة تلد بنتًا كانت رضي الله عنها في فترة حداد وهي حامل .. ولما وضعت ابنتها سمّتها زينب .. لكن سعادتها لم تكن في ولادتها فقط .. بل بشيء يحملها من عالم إلى عالم آخر يضفي عليها جلالة ومهابة وكرامة وألقابًا .. عالم تكون فيه حبيبة رجل هو حلم كل امرأة .. فقد استجاب الله لها كما استجاب لأم سليم .. فعند وفاة زوجها أبي سلمة دعت بتلك الدعوات: (اللهمّ اغفر لنا وله، وأعقبني منه عقبى حسنة) (¬1). أخبرينا يا أم سلمة ما هي العقبى الحسنة التي وهبك الله وأكرمك بها. تقول رضي الله عنها: (لما وضعت زينب، جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخطبني، فقلت: ما مثلي ينكح .. أما أنا فلا ولد فيَّ، وأنا غيور ذات عيال، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أنا أكبر منك، وأما الغيرة فيذهبها الله عنك، وأمّا العيال فإلى الله جلّ ثناؤه ورسوله. فتزوّجها - صلى الله عليه وسلم - فجعل يأتيها، فيقول؛ أين زناب) (¬2)، أين زينب؟ سؤال يفيض حياءً وأدبًا .. سؤال ينضح بالأحاسيس النبوية المرهفة .. تزوّج - صلى الله عليه وسلم - من أم سلمة ومع ذلك فهو لا يصل إليها .. لا يطارحها الغرام .. لأنه صاحب أسلوب راقٍ ومهذب في التعامل مع الآخرين .. كان - صلى الله عليه وسلم - يستحي أن يفرق بين تلك اليتيمة المسكينة وأمّها ولو لدقائق .. كان - صلى الله عليه وسلم - يحول ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا انظر: صحيح النسائي (1721) وصحيح ابن ماجه (1447). (¬2) انظر: تخريجه في الحديث التالي فهو هو.

لحظات الكبت المزعومة إلى أجواء فرح ودعابة يضفيها على تلك اليتيمة "زينب" .. وعلى أمّها التي كان يدهشها ويسرّها أن ترى حبًا يتسع لها ولأيتامها .. وهم أحوج الناس إلى مثل هذا الإنسان النبي المحب .. ومرّت أيام والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يتذمّر ولم يتغيّر في تعامله مع ربيبته وزوجته .. لكن الخبر وصل إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه .. وهو أخٌ لأم سلمة من أمها "سمية" الشهيدة التي قتلها الطاغية الهالك أبو جهل .. علم عمار بحال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأطلق قدميه نحو بيت أخته أم سلمة .. فأخذ ابنة أخته ليسترضعها في بيته أو عند أحد النساء .. أخذها عمار و (اختلجها (¬1)، وقال: هذه تمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت ترضعها، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين زناب؟ فقالت قريبة ابن أبي أمية -ووافقها عندها (¬2) - أخذها عمار بن ياسر. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني آتيكم الليلة. قالت: "فقمت" فوضعت ثفالي (¬3)، وأخرجت حبات من شعير كانت في جرتي، وأخرجت شحمًا فعصدته له، ثم بات، ثم أصبح، وقال حين أصبح: إن بك على أهلك كرامة، فإن شئت سبّعت (¬4) لك، وإن أسبع لك أسبع لنسائي) (¬5) (وإن شئت ثلثت ثم درت. قالت: ثلِّث) (¬6)، فأقام - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخذها. (¬2) أي: توافق مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع زيارة تلك المرأة لأم سلمة. (¬3) هو ما يبسط تحت الرحى عند الطحن. (¬4) أي أقمت عندك سبعة أيام. (¬5) حديثٌ حسنٌ رواه ابن سعد (8/ 93) وأحمدُ (3/ 307) من طريق: روح بن عبادة وعبد الرزاق حدثنا ابن جريج، أخبرني حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الحميد بن عبد الله والقاسم ابن محمَّد حدثاه: أنهما سمعا أبا بكر بن عبد الرحمن يخبر أن أم سلمة أخبرته .. وأبو بكر ابن عبد الرحمن تابعي ثقة فقيه عابد -التقريب (2/ 398) وعبد الحميد بن عبد الله المخزومي بحتاج إلى توثيق لكنه متابع في هذا السند تابعه القاسم بن محمَّد المخزومي وهو مثله في الدرجة انظر: التقريب (2/ 120) والتهذيب (6/ 118) وحبيب ثقة فقيه جليل، وابن جريج لم يدلس. وللحديث شاهد بسند ضعيف عند كل من ابن سعد (8/ 90) وأحمدُ (6/ 313) والحاكم (4/ 17). (¬6) حديث صحيح رواه مسلم: ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج.

تغيير اسم برة بنت أبي سلمة

ثلاثة أيام عند أم سلمة .. ثلاثة أيام هى أسعد أيام أم سلمة رضي الله عنها. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (للبكر سبع، وللثيب ثلاث) (¬1) .. هي مدة إقامة المتزوج عند زوجته إذا كان عنده غيرها. أقام - صلى الله عليه وسلم - عند أم سلمة ثلاثة أيام سعيدة .. ثم رتّب لها يومًا كبقية زوجاته. وفي تلك الأيام الثلاثة كان يفيض على أم سلمة وعلى يتيمتها الصغيرة حبًا ورحمة .. كان اسم زينب الصغيرة "برة" .. فغيره - صلى الله عليه وسلم - إلى اسم آخر هو زينب وذلك حالما سمعه: تغيير اسم برة بنت أبي سلمة تقول تلك الطفلة اليتيمة رضي الله عنها إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دخل على أم سلمة حين تزوجها واسمي برة، فسمعها تدعوني برة، فقال: لا تزكوا أنفسكم، فإن الله هو أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سميّها زينب. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. صحيح الجامع (2/ 919).

فقالت أم سلمة: فهي زينب، فقلت لها: اسمي؟ فمالت: غيّر إلى ما غيّر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). كان - صلى الله عليه وسلم - يحب الأسماء الجميلة. علم - صلى الله عليه وسلم - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمّى ابنته "عاصية"، فماذا فعل .. يقول أخوها عبد الله: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيّر اسم عاصية، وقال: أنت جميلة) (¬2) .. فأصبح اسمها جميلة بنت عمر بن الخطاب .. هي جميلة حقًا وأبوها أجمل منها .. ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يغيّر أسماء الأطفال فقط .. بل كان للرجال والنساء والعجائز نصيب من ذلك الجمال. فقد (ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل يقال له: شهاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أنت هشام) (¬3). و (كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الرجل وله اسم لا يحبه حوّله) (¬4) إلى اسم أجمل ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه ابن إسحاق ومن طريقه البخاري في الأدب المفرد (821) وأبو داود (4953): حدثني محمَّد بن عمرو بن عطاء أنه دخل على زينب بنت أبي سلمة، فسألته عن اسم أخت له عنده، قال: فقلت: اسمها برة قالت: غير اسمها، ثم ذكرت كلامًا وبقية الحديث .. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم. (¬3) سنده حسن رواه البخاري في الأدب المفرد (825). (¬4) حديثٌ حسنٌ رواه الطبراني (17/ 119) حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي وأبو زيد الحوطي، قالا: حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد قال: قال عتبة بن عبد السلمي: "رضي الله عنه" وقد صحح الإمام الألباني سند هذا الحديث في السلسلة (209) فقال: سنده صحيح رجاله كلهم ثقات معروفون وهو يتحدث عن سند الخلال وهو من طريق أبى اليمان .. وهذا الحكم صحيح لولا إشكالية سماع شريح من عتبة فهو كثير الإرسال، حتى لقد قيل لمحمد بن عوف: هل =

وألطف .. في هذه الأجواء المنعشة .. أجواء الجمال واللطف والأعراس والأسماء المحبوبة .. تشرق علينا قصة حدتث في بيت عائشة الحبيبة .. حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عندها .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عند عائشة أو غيرها من زوجاته كان غاية في اللطف والرقّة والتواضع .. بينما كان - صلى الله عليه وسلم - هناك .. جاءت عجوز لا تعرفها عائشة .. تقول رضي الله عنها: (جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية. فقال: بل أنت حسانة المزنية. كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. "فقرب إليه لحم، فجعل يناولها، فقلت: يا رسول الله لا تغمر يدك". فلما خرجت قلت: يا رسول الله .. تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان) (¬1). ¬

_ = سمع من أبي الدرداء؟ فقال: لا. فقيل: فسمع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما أظن ذلك وذلك أنه لا يقول في شيء من ذلك: سمعت. التهذيب (4/ 328) لكن الحديث حسن بالروايات الأخرى. (¬1) سنده قوي رواه الحاكم (1/ 62) والبيهقيُّ في شعب الإيمان (6/ 517) وابن عبد البر في الاستيعاب من طريق: الضحاك بن مخلد حدثنا صالح بن رستم حدثنا ابن أبي مليكة .. وابن أبى مليكة تابعي أدرك ثلاثين صحابيًا وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وهو ثقة فقيه -التقريب (1/ 431) والضحاك ثقة ثبت التقريب (1/ 373) أما صالح فحسن =

ما أجل هذا النبي الوفي .. تطلق وجهه لما رأى تلك العجوز .. التي كانت تزورهم أيام خديجة .. وأضاف إلى جمال وفائه جمالًا آخر عندما غيّر اسمها .. نزع عنها ذلك الاسم الثقيل الذي جمع في معناه أشياء كثيرة وكريهة .. فهو يعني الكابوس .. والبليد الذي لا ينهض للمكارم .. والكسلان الذي يتبرّم بالحركة .. غيّره .. استبدله بـ "حسانة" .. اسم كالابتسامة .. في بيت النبوة أفراح وأعراس .. يهفو لمثلها شاب حزين .. يرنو إلى غسل ما بداخله من هموم .. شاب مثقل بالمسؤوليات .. لكن الحيرة في اختيار زوجة تشغله .. فهو جديد على مثل هذه التجربة .. ولديه من الأيتام الكثير .. هل يتزوج فتاة صغيرة في مثل سنّ أخواته .. يقضى معها أيام مرح وسعادة .. أم يضحي بسعادته من أجل أخواته المسكينات ويتزوج امرأة سبق لها أن تزوجت .. سبق لها أن كانت ربّة بيت لتعتني بأخواته الصغيرات وبه أيضًا .. سنترك هذا الصحابي ليقرّر .. فنحن على عجلة من أمرنا .. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قرّر أن يتوجّه إلى أرض نجد .. حيث تعدّ له قبيلة غطفان جيشًا لحربه .. تزوّج ذلك الشاب .. ولما دعا داعي الجهاد ودّع زوجته وأخواته ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو أرض نجد .. فهو لن يتخلّف عن أي غزوة ¬

_ = الحديث، إذا لم يخالف .. توثيقه قوي وجرحه غير مفسر، قال أبو داود: ثقة، وقال الطيالسي وهو تلميذه: ثقة، وقال البزار: ثقة، وقال ابن وضاح: ثقة وقال ابن عدي: عزيز الحديث روى عنه يحيى القطان مع شدة استقصائه وهو عندي لا بأس به ولم أر له حديثًا منكرًا، وقال العجلي جائز الحديث .. أما جرحه فقد قال الدارقطى: ليس بالقوي. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوي عندهم أما ابن معين فقال مرة: ضعيف وقال مرة: لا شيء .. وهو يعني هذه من ليس له من الحديث إلا القليل .. وهذا الجرح غير مفسر ولا ينهض أمام ذلك التوثيق المعتبر- التهذيب (4/ 391).

ذات الرقاع

يغزوها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد اليوم .. فوالده رحمه الله ورضي عنه قد توفي وهو السبب الوحيد في منعه من حضور غزوتي: بدر وأُحُد .. إنه جابر بن عبد الله وهو الآن في مكان يقال له: ذات الرقاع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث تقف أمامهم حشود بني محارب وغطفان .. ويبدو من المشهد أن حربًا لم تقع بين الطرفين .. لكن الوضع متوتّر للغاية .. والأعصاب مشدودة .. خاصة أعصاب المشركين .. أمّا المؤمنون .. فبعضهم كان في حالة حراسة والبعضى في حالة استرخاء أو نعاس .. أما نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - فقد علق سيفه بشجرة ثم نام .. يقول جابر رضي الله عنه: (أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنّا بذات الرقاع، وكنّا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) (فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرّق الناس في العضاة يستظلّون بالشجر، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت سمرة فعلق بها سيفه. "ثم نام". قال جابر: فنمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا فجئنا، فإذا عنده أعرابي جالس) (¬2) من بني محارب .. ماذا يفعل هذا الأعرابي، هل جاء ليعلن إسلامه .. أم جاء ليفاوض؟ ما قصة هذا الأعرابي .. ولماذا يمسك بسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4136) ومسلمٌ (843)، واللفظ له. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4135) والزوائد عنده (2913).

أعرابي يحاول قتل النبي (صلى الله عليه وسلم) بسيفه

أعرابي يحاول قتل النبي (صلى الله عليه وسلم) بسيفه يقول جابر رضي الله عنه: (قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محارب خصفة بنخل، "فأدركتهم القائلة في وادٍ كثير العضاه، فتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة، فعلق بها سيفه ثم نام"، فرأوا من المسلمين غرة، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث، "فاستيقظ - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل لا يشعر به" حتى قام على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: الله عَزَّ وَجَلَّ. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال - صلى الله عليه وسلم -: أتشهد أن لا إله إلَّا الله، قال: لا. ولكنى أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلّى سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: جئتكم من عند خير الناس) (¬1). إذًا فقد (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعًا من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضًا، فصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتي الخوف) (¬2). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (3/ 365) والبيهقيُّ (3/ 376) من طريق: عفان، وعاصم بن علي، وأبو بكر الإسماعيلي، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر. وسليمان تابعي ثقة (التقريب- 1/ 329) وتلميذه أبو بشر اسمه جعفر بن إيأس انظر: التهذيب (4/ 214) وهو تابعي ثقة - التقريب (1/ 129) وأبو عوانة ثقة ثبت من رجال الشيخين اسمه: الوضاح بن عبد الله اليشكرى. وزوائد الحديث عند البخاري بلفظ آخر (2913). (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق وعلقه البخاري فقال: قال ابن إسحاق سمعت وهب بن =

صلاة الخوف

صلاة الخوف يقول جابر رضي الله عنه: (فنودي بالصلاة، فصلّى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلّى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات، وللقوم ركعتن) (¬1). أَمَّهم - صلى الله عليه وسلم - جميعًا ولم يقصر .. لكنه صلّى بهم مرة أخرى في هذه الغزوة وقصر معهم .. صفة ثانية لصلاة الخوف يقول صحابي (صلّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: إن طائفة صفت صلت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلّى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا وأتمّوا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا وأتمّوا لأنفسهم، ثم سلّم بهم) (¬2). فصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين .. وصلّت كل طائفة ركعتين أيضًا .. كانت غزوة ذات الرقاع حافلةً بالمشاعر لا بالدماء .. حافلةً بالمعجزات والكرامات .. لم يكن فيها قتال .. لكن ذلك المكان المسمى ¬

_ = كيسان، سمعت جابرًا (4126) وابن إسحاق لم يدلس ووهب ثقة من رجال الشيخين- التقريب (2/ 339). (¬1) حديث صحيح رواه مسلم عن جابر (843). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم عن صالح بن خوات عن أحد الصحابة "صلاة الخوف" (843).

جابر وجمله الهزيل

بـ: "ذات الرقاع" كان ساحة للخوف والتوتّر .. أخاف الناس بعضهم بعضًا .. ثم تفرّقوا دون دماء (¬1) .. أخاف النبي أعداءه وكسب ثناء بعضهم .. وحقّق - صلى الله عليه وسلم - بجيشه نصرًا معنويًا له رصيده في النفوس .. ثم عادوا إلى المدينة والشوق يحملهم .. وكان أشدّهم شوقًا ذلك الشاب "جابر" الذي رقص قلبه طربًا عندما اقترب الجيش من المدينة .. لكن شيئًا كان يعيقه عنها .. يعيقه حتى عن أصحابه .. حتى كان آخر من يسير في الجيش .. لقد كانت في طريق العودة قصة لـ: جابر وجمله الهزيل فبينما كان جابر بأحرّ الشوق إلى عروسه .. كان ذلك الجمل لا يبالي بتلك المشاعر .. يبدو أنه كان يستمتع بالراحة ومشاهدة ما حوله من مناظر .. فهو يسير بطريقة مملّة ومزعجة .. شاهد - صلى الله عليه وسلم - ما يحدث ¬

_ (¬1) أقول ذلك لأنه قد روي بسند ضعيف عند الأئمة: من طريق ابن إسحاق حدثنا عمي صدقة عن عقيل عن جابر، أحمد (3/ 344 - 359) وأبي داود (198) والبيهقيُّ (3/ 379) وابن خزيمة (36) وحسنه شيخنا الفاضل محمَّد مصطفى الأعظمي حفظه الله ووافقه الإمام الألباني. وحسنه كذلك في صحيح سنن أبى داود: إن امرأة أصيبت من المشركين .. ثم ذكر قصة الصحابيين اللذين أصيب أحدهما بثلاثة أسهم بينما كان الآخر نائمًا .. وهذه القصة ضعيفة السند رغم ما سبق لأنها من طريق عقيل بن جابر .. وهو لم يوثق إنما ذكره ابن حبان في ثقاته وسكت وهذا ليس بتوثيق ولذلك قال الحافظ في التقريب (2/ 29) إنه "مقبول" أي عند المتابعة .. ولم أجد له متابعًا .. ومما يوحي بضعفه عند الإمام البخاري رحمه الله أنه قال في الفتح -كتاب الوضوء- 34 - : ويذكر عن جابر .. وعلق الحافظ بقوله: عقيل بفتح العين، لا أعرف راويًا عنه غير صدقة، ولهذا لم يجزم به المنصف، أو لكونه اختصره، أو للخلاف في ابن إسحاق. والذي يبدو لي أن السبب الأول هو الصحيح لأن البخاري ذكر ابن إسحاق وسنده الصحيح في غزوة ذات الرقاع بصيغة الجزم فقال: قال ابن إسحاق. والسبب الثاني بعيد. فبقي السبب الأول نظرًا لجهالة حال عقيل رحمه الله.

فتحرك قلبه نحو جابر .. فكانت هذه القصة المنسوجة بالمشاعر والأشواق والمعجزات: يقول جابر رضي الله عنه: (خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة ذات الرقاع من نخل على جمل لي ضعيف، فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلت الرفاق تمض، وجعلت أتخلّف "على بعير قطوف" (¬1) "جل ثفال إنما هو في آخر القوم" (¬2) "قد أعيى فلا يكاد يسير" (¬3) حتى أدركني النبى - صلى الله عليه وسلم -، ((فمرّ بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من هذا؟ قلت: جابر" (¬4) فقال: مالك يا جابر؟ قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا. قال - صلى الله عليه وسلم -: أنخه، فأنخته، وأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قال - صلى الله عليه وسلم -: أمعك قضيب؟ قلت: نعم، قال: أعطنيه" (¬5) أعطني هذه العصا التي في يدك، فأعطيته إياها أو قطعت له عصية من شجرة، فأعطيته إياها، فنخسه بها نخسات، "فدعا له" (¬6)، ثم قال: اركب يا جابر، فركبت "فسار سيرًا ليس يسير مثله" (¬7)، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة، "فكان من ذلك المكان من أوّل القوم" (¬8)، فتحدث مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كيف ترى بعيرك" (¬9)، أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: بل أهبه لك. ¬

_ (¬1) البخارى (5245). والقطوف هو البطىء. (¬2) البخاري (2309). الثفال هو الثقيل. (¬3) البخارى (2967). يعى أنه يعاني من الهزال والتعب. (¬4) البخاري (2309). (¬5) البخاري (5245). (¬6) البخاري (2718). (¬7) البخاري (2718). (¬8) البخاري (2309). (¬9) البخاري (2385).

قال: لا ولكن بعنيه. قلت: فسُمْنيه. قال - صلى الله عليه وسلم -: قد أخذته بدرهم. قلت: لا .. إذًا تغبنني يا رسول الله، قال: فبدرهمين، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ الأوقية. قال - صلى الله عليه وسلم -: "بعنيه بأوقية. قلت: لا، ثم قال: بعنيه بأوقية. فبعته، فاستثنيت حملانه إلى أهلي" (¬1)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ولك ظهره إلى المدينة" (¬2)، فقلت: أفقد رضيت؟. قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم. قلت: فهو لك. قال - صلى الله عليه وسلم -: قد أخذته. "فانطلق بعيري كأجود ما أنت راءٍ من الإبل" (¬3)، "فلحقني راكب من خلفي فالتفت فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما يعجلك؟ قلت: إني حديث عهد بعرس" (¬4) "فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم. فقال: بكرًا أم ثيبًا؟ قلت: بل ثيبًا. قال: فهلّا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك" (¬5)، "ما لك وللعذارى ولعابها" (¬6)، "قلت: يا رسول الله، إن أبي قتل يوم أُحد وترك تسع بنات، كنّ لي تسع أخوات، فكرهت أن أجمع إليهن جارية خرقاء مثلهن" (¬7)، "فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن" (¬8) "تعلّمهن وتؤدّبهن" (¬9)، "امرأة تمشطهن وتقوم عليهن، قال - صلى الله عليه وسلم -: أصبت" (¬10) إن ¬

_ (¬1) البخاري (2718). أي اشترط جابر أن يسلمه في المدينة. (¬2) البخاري (2718). (¬3) البخاري (5079). (¬4) البخارى (5079). (¬5) البخاري (5367). (¬6) البخاري (5080). (¬7) البخاري (4052). (¬8) البخاري (5080). (¬9) البخاري (2406). (¬10) البخاري (4052).

شاء الله "بارك الله عليك" (¬1)، "بارك الله لك" (¬2)، قال - صلى الله عليه وسلم: أما إنا لو جئنا صرارًا (¬3) أمرنا بجزور، فنحرت، فأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها. فقلت: والله يا رسول الله ما لنا نمارق. قال - صلى الله عليه وسلم -: إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فأعمل عملًا كيسًّا "الكيس الكيس" (¬4)، فلما جئنا صرارًا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بجزورٍ "أو بقرة فذبحت فأكلوا منها" (¬5) وأقمنا عليها ذلك اليوم، "فلما ذهبنا لندخل قال - صلى الله عليه وسلم -: أمهلوا حتى تدخلوا ليلًا -أي عشاءً- لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة" (¬6)، فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل ودخلنا، فحدثت المرأة الحديث .. وما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فدونك .. فسمع وطاعة) (¬7)، تأثرت تلك المرأة الصالحة بذوق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرفيع .. وأسلوبه الرائع في منح الأنوثة توهجها وعطرها الذي لا يقاوم .. حتى ينهار ذلك الحبيب القادم أمام هذا السحر الحلال .. ويستسلم ذلك المحارب مهزومًا بالحب الطاهر .. وهو الذي لا يستسلم إذا هاجت الحرب والحراب .. ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - وحده في رقي الذوق والأسلوب .. زوجاته رضي الله عنهن كن كذلك .. كن نسيجًا من الرقّة والإحساس .. ذات يوم (دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأينها سيّئة الهيئة، فقلن لها: ما لك؟ فما في قريش أغنى من بعلك. قالت: ما ¬

_ (¬1) البخاري (6387). (¬2) البخاري (5080). (¬3) مكان قريب من المدينة. (¬4) البخاري (2097) (5245). (¬5) البخاري (3089). (¬6) البخاري (5079). (¬7) سنده صحيح رواه ابن إسحاق: حدثني وهب بن كيسان عن جابر .. ووهب تابعى ثقة من رجال الشيخين - التقريب (2/ 339).

المرأة والرجل

لنا منه شيء، أما ليله فقائم، وأما نهاره فصائم، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرن ذلك له، فلقيه، فقال: يا عثمان بن مظعون .. أما لك بي أسوة؟ فقال: يا بأبي وأمي، وما ذاك؟ قال: تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: إني لأفعل. قال - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعل، إن لعينيك عليك حقًا، وإن لجسدك حقًا، وإن لأهلك حقًا، فصلّ ونم، وصم وأفطر "يا عثمان .. إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك فيّ أسوة؟ أما والله إن أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده لأنا". فأتتهن بعد ذلك عطرة كأنها عروس. فقلن: مه؟ قالت: أصابنا ما أصاب الناس) (¬1) من ودٍّ ووصال .. في أجواء يمطر الإِسلام فيها حبًا وقلوبًا .. فما بين المرأة والرجل أكثر من الجسد .. إنها أشياء حميمة تجعل للدنيا مذاقًا أجمل .. المرأة بالنسبة للرجل -إذا تحضّر بالإسلام- عبق لا ينقطع .. ربيع في كل الفصول .. مطر صيفي .. هل هناك أرقّ من قوله - صلى الله عليه وسلم - لحادي العيس ذي الصوت الجميل: (رويدك بالقوارير) (¬2) .. هل هناك أبهى من قوله: (حبّب إلي من دنياكم النساء والطّيب) (¬3). إن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أراد أن ينقطع للعبادة صيامًا ¬

_ (¬1) رجال ثقات لكنه مرسل، رواه ابن سعد (3/ 394) أخبرنا الفضل بن دكين، أخبرنا إسرائيل وأخبرنا الحسن بن موسى، أخبرنا زهير، أخبرنا أبو إسحاق، عن أبي بردة .. وهذا مرسل إلا إن كان أبو بردة هو الصحابي -وللحديث شاهد بسند صحيح رواه عبد الرزاق (6/ 167) عن معمر عن الزهرى عن عروة وعمرة عن عائشة .. وما بين الأقواس الصغيرة هو ما جاء فيه من حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - .. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (6161). (¬3) حديث صحيح رواه الترمذيُّ والنسائيُّ وأبو يعلى وأحمدُ والحاكم والبيهقيُّ واللفظ له من طرق عن ثابت عن أنس.

زريبة للنساء

وقيامًا .. حتى لقد باح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنيّته أن يجري عملية تنقطع بها صلته بالمرأة تمامًا .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه .. وقال له: (إن الرهبانية لم تكتب علينا) (¬1). إذًا فلا رهبانية في الإِسلام .. فالرهبانية هناك عند النصارى .. وخلف حصون بني المصطلق وقريظة وغيرهم من يهود .. تعالوا -قبل أن ننتهي من قصة جابر وجمله- نزور حصون اليهود لنرى مدى علاقتهم بالمرأة في تلك الأيام .. تعالوا نزور: زريبة للنساء هذا هو أقل وصف أصف به أماكن تواجد المرأة اليهودية .. أمّا المرأة نفسها عند أولئك القوم فهي أقل رتبة من الحيوان .. أقل رتبة من الخنازير القذرة .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جامعوهن في البيوت، واصنعوا كل شيء غير النكاح، فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئًا من أمرنا إلَّا خالفنا فيه) (¬2)، ها هو - صلى الله عليه وسلم - مع زوجته أم سلمة رضي الله عنها نائمان فأصابها الدم .. فهل طردها - صلى الله عليه وسلم - من بيته أو من فراشه .. لن أجيب .. أم سلمة ستجيب .. تقول رضي الله عنها: ¬

_ (¬1) مر معنا. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم - الحيض وأبو داود (231).

(بينا أنا مع النبى - صلى الله عليه وسلم - مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أنفست؟ قلت: نعم. فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة) (¬1). أما عائشة فتروي لنا أشياء تغيض اليهود حتى الموت .. فتقول رضي الله عنها: (كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن ورأسه في حجري، وأنا حائض) (¬2)، وتقول عائشة: (إنها كانت ترجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ مجاور في المسجد، يدني لها رأسه وهي في حجرتها فترجله وهي حائض) (¬3) أي تسرّح شعره .. وناداها ذات يوم لتعطيه السجادة ليصلّي عليها وهو في المسجد وهي حائض .. تقول رضي الله عنها: (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناوليني الخمرة من المسجد. فقلت: إني حائض. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليست حيضتك في يدك) (¬4). إذًا فالطمث أذى يتخلّص منه جسم المرأة كما يتخلص جسمها وجسم الرجل من البول وغيره .. قد يقول قائل إن اليهود كانوا يعتقدون ذلك ومعهم النصارى .. لكنهم اليوم يدعون إلى تحرير المرأة .. وإلى إعطائها حقوقها كاملة .. فأقول: لننسَ لدقائق كلام أنس بن مالك السابق .. ولننسَ ما كان يفعله اليهود والنصارى في السابق .. ولنقل إنهم يمثلون أنفسهم فقط ولا يمثلون الدين اليهودي ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (298). ومعنى أنفست: أي هل حضت. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (7549). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (296). (¬4) حديث صحيح رواه مسلم (الحيض)، والنسائيُّ- (371).

والنصراني .. لننس ذلك ولنتوجه إلى يهود اليوم ونصارى اليوم الذين أزعجونا وأزعجوا نساءنا حول تحرير المرأة .. والمناداة بحقوقها .. ماذا يقول دينهم الآن .. ماذا يقول كتابهم المقدّس اليوم وبعد ألفي عام من المراجعة والتمحيص والدراسة .. ربما نجد سرّ هذا الضجيج .. أمامي الآن كتابهم المقدس وهو يتحدّث عن المرأة .. فيقول: (وإذا كان بامرأة سيلان دم من جسدها كعادة النساء: فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من لمسها يكون نجسًا إلى المغيب وجميع ما ترقد عليه أو تجلس عليه يكون نجسًا وكل من لمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجسًا إلى المغيب. ومن لمس شيئًا مما تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بالماء، ويكون نجسًا إلى المغيب. إن كان فراشها أو ما هي جالسة عليه شيء: فمن لمسه يكون نجسًا إلى المغيب. إن ضاجعها رجل فأصابه شيء من دم الحيض - فكم تتوقعون مدة نجاسته؟ إلى المغيب؟ لا. الكتاب المقدس يقول: يكون نجسًا سبعة أيام. وكل فراش يستلقي عليه يكون نجسًا) (¬1)، إن معنى هذا الهراء أن الرجل يحيض أيضًا .. ¬

_ (¬1) الكتاب المقدس -اللاويين- شريعة ما يفرزه الجسد- 14.

أين هذا الهراء من قول عائشة رضي الله عنها: (كنت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبيت في الشعار الواحد (¬1)، وأنا طامث حائض، فإن أصابه مني شيء غسل مكانه، لم يعدُهُ (¬2)، وصلّى فيه، ثم يعود، فإن أصابه منه فعل مثل ذلك غسل مكانه لم يعدُهُ، وصلّى فيه) (¬3). بل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرّ على أن تأكل عائشة وتشرب قبله وهي حائض بل يقسم عليها .. ثم يقوم بحركة تتوهج منها الرقة والحب .. حركة تدخل السرور إلى قلبها ونفسها .. لقد جاء رجل فسأل عائشة رضي الله عنها: (هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟ قالت: نعم، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوني فآكل معه وأنا عارك، كان يأخذ العَرْقَ (¬4)، فيقسم علىّ فيه، فأعترق منه (¬5)، ثم أضعه، فيأخذه، فيتعرق منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من العرق، ويدعو بالشراب، فيقسم عليّ فيه من قبل أن يشرب منه، فآخذه فأشرب منه، ثم أضعه، فيأخذه فيشرب منه، ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح) (¬6)، أين هذا من دين اليهود والنصارى الذي يعاملون المرأة كمخلوق من الدرجة العاشرة .. مخلوق نجس .. أنجس من النجاسة نفسها .. كل شيء تلمسه يتنجس .. كل شيء يلمسها يتنجس .. كل من لمس شيئًا لمسته ينجس .. أي أن المرأة لا يمكن أن تبقى في المنزل وإلاّ أصبح المنزل نجسًا ملوّثًا تجوبه الآثام والشياطين .. لا بدّ من وضع النساء اليهوديات والنصرانيات في زرائب خاصة نجسة .. حتى ينقطع دم الحيض عنهن .. ¬

_ (¬1) أي الثوب الذي يلاصق الجسم مباشرة. (¬2) أي يغسل مكان الدم فقط ولا يغسل ما حوله. (¬3) حديث صحيح - انظر صحيح أبى داود (1/ 51) والنسائيُّ (1/ 125). (¬4) عظم في لحم. (¬5) آكل منه. (¬6) حديث صحيح .. صحيح سنن النسائي (1/ 80) ورواه مسلم مختصرًا.

لا .. حتى لو انقطع الطمث فانقطاعه لا يكفي للخروج من الزريبة .. لأن كتابهم المقدس يقول: (وإذا طهرت من سيلانها فلتنتظر سبعة أيام ثم تطهر) (¬1)، هل يكفي هذا أيّها الكتاب المقدس؟ لا .. فالحيض ليس نجاسة فقط، بل هو ذنب ترتكبه المرأة ولا بدّ من تكفيره .. كيف؟ يقول كتابهم المقدس: (وفي اليوم الثامن تأخذ لها يمامتين أو فرخي حمام، وتجيء بهما إلى الكاهن "العالم المسؤول عن دار العبادة" فيذبح واحدة ويحرق الأخرى ويكفّر عنها الكاهن بعد ذلك أمام الرب سيلان نجاستها) (¬2)، ترى كم بقي للمرأة من أيام حياتها تعامل فيها كإنسان .. يبدو من كلامهم السابق أن المرأة قذفت من كوكب مليء بالشياطن والنفايات .. دعونا من اليهود والنصارى الآن .. سنعود لهم فيما بعد .. فالأيام حبلى بالمثير والجديد .. سنعود إلى جابر رضي الله عنه: الذي يخرج الآن من بيته قاصدًا النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسلمه جمله الذي باعه عليه .. لكنه يمرّ على خاله ليسلّم عليه ويخبره ببيعه الجمل، يقول جابر: (فقدمت فأخبرت خالي ببيع الجمل .. فلامني، فأخبرته بإعياء الجمل .. وبالذي كان من النبي - صلى الله عليه وسلم -ووكزه إياه) (¬3)، ثم توجه جابر نحو بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ملاصق للمسجد .. وصل جابر في وقت (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد في طوائف أصحابه، فدخلت عليه، وعلقت الجمل في ناحية البلاط، فقلت له: هذا جملك) (¬4) (فقال - صلى الله عليه وسلم -: صلّ ركعتين) (¬5) وبعد أن صلّى جابر ركعتين ¬

_ (¬1) الكتاب المقدس -سفر اللاويين- شريعة ما يفرزه الجسد. (¬2) المصدر السابق. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2406). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2861). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (443).

زيد بن محمد ليس زيد بن محمد

(خرج - صلى الله عليه وسلم - فجعل يطيف بالجمل، ويقول: الجمل جملنا، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أوقية من الذهب، فقال: أعطوها جابرًا) (¬1) (فوزن لي بلالًا فأرجح في الميزان) (¬2) (قال - صلى الله عليه وسلم -: يا بلال .. اقضه وزده، فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطًا. قال جابر: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلم يكن القيراط يفارق قراب جابر بن عبد الله) (¬3)، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (استوفيت الثمن؟ قلت: نعم) (¬4) (فانطلقت حتى وليت فقال: ادعوا لي جابرًا. قلت: الآن يردّ علىّ الجمل ولم يكن شيء أبغض إليّ منه. قال: خذ جملك ولك ثمنه) (¬5) (الثمن والجمل لك) (¬6)، فانطلق جابر بالمال والجمل وحبّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشّر أخواته وزوجته هذا اللطف والعطف الأبويّ عندما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا ابن أخي خذ برأس جملك فهو لك) (¬7) .. وكما كان هذا الشاب في أوج فرحه اليوم .. فقد جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - شاب يوشك أن يخسر زوجته .. اسمه زيد بن محمَّد زيد بن محمد ليس زيد بن محمد هو زيد بن حارثة رضي الله عنه .. اشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة وأحبه فأعتقه .. وكان قد أخذ من قومه .. فلما علموا. بمكانه جاء أخوه "جبلة" إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - مطالبًا بتسليم أخيه إليه ليردّه إلى أمّه وأبيه وقومه .. يقول ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2861). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2097). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2309). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2862). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (2097). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (2861). (¬7) هو حديث ابن إسحاق السابق.

جبلة: (قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: يا رسول الله، ابعث معي أخي زيدًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: هو ذا .. فإن انطلق معك لم أمنعه. قال زيد: يا رسول الله، والله لا أختار عليك) (¬1). قال جبلة بعد أن سمع كلمات أخيه الشاب: (فرأيت رأي أخي أفضل من رأيي) (¬2). فبادل - صلى الله عليه وسلم - حب زيد بحب يسير معه أينما سار .. ويُعرَّف به إذا ما رؤي .. لقد وهبه - صلى الله عليه وسلم - اسمه وتبنّاه .. وسماه زيد بن محمَّد بن عبد الله. يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب: (ما كنّا ندعو زيد بن الحارثة، إلَّا: زيد بن محمَّد) (¬3)، ثم زوّجه - صلى الله عليه وسلم - امرأة حبشية صالحة تدعى: "أم أيمن" فولدت له حبيبًا آخر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ولدت له: أسامة بن زيد بن محمَّد .. ذلك الطفل الأسمر العذب الذي دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو في بيت عائشة فـ (أراد النبى - صلى الله عليه وسلم - أن ينحي مخاط أسامة. قالت عائشة: دعني حتى أكون أنا الذي أفعل. قال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) سنده قوى رواه الترمذيُّ (3185) والحاكم (3/ 237) والطبرانيُّ (2/ 286) من طريق علي بن مسهر عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني حدثني جبلة .. وأبو عمرو ثقة مخضرم واسمه سعد بن إياس وهو من رجال الستة - التقريب (1/ 286) وإسماعيل تابعى صغير وثقة من رجال الستة - التقريب (1/ 68) وعلي بن مسهر ثقة من رجال الستة أيضًا - التقريب (2/ 44). (¬2) المصدر السابق. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4782) والترمذيُّ واللفظ له.

ماذا كان يفعل (صلى الله عليه وسلم) بأسامة لو كان فتاة

يا عائشة أحبيه فإني أحبه) (¬1) ولا يكتفي - صلى الله عليه وسلم - بمطالبة عائشة رضي الله عنها بأن تحبه .. بل إنه - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربّه أن يحبه. يحدّثنا أسامة عن أحضانه - صلى الله عليه وسلم - .. عن قبلاته ودعواته له وهو طفل .. فيقول: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن ابن علي على فخذه الآخر، ثم يضمّهما، ثم يقول: اللهمّ ارحمهما فإني أرحمهما) (¬2) (اللهمّ أحبّهما فإني أحبهما) (¬3) .. كان ذلك الطفل الأسمر عنبرًا في ثياب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. إليك ما فعله - صلى الله عليه وسلم - بأسامة بعد أن رأى الدم ينبع من جبهته السمراء الطاهرة .. ماذا فعل لعينيه البريئتين وهما تفيضان بالدمع .. بل ماذا كان يفعل (صلى الله عليه وسلم) بأسامة لو كان فتاةً عائشة تجيب عن ذلك كلّه بقصة تأخذ بنياط القلب .. ذات يوم اشتاق أسامة إلى جدّه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. فتهادى إليه في بيت عائشة رضي الله عنها .. وعندما همت قدمه الصغيرة بالدخول (عثر أسامة بعتبة الباب، فشجّ وجهه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أميطي عنه الأذى، فتقذرته. فجعل - صلى الله عليه وسلم - يمصّ عنه الدم، ويمجه عن وجهه ثم قال: لو كان أسامة جارية لحليته وكسوته حتى أنفقه) (¬4). تعلمت عائشة الصغيرة الكثير من هذا المشهد .. وتشربت حب هذا الطفل البريء .. ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ صحيحٌ الترمذيُّ (4098) وابن حبان (15/ 534). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (6003). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (3735). (¬4) حديثٌ حسنٌ انظر سلسلة الأحاديث للإمام الألباني (2019).

أمّا والده زيد بن محمَّد .. فقد حلاه والده - صلى الله عليه وسلم - بشي أنفس .. لقد زوّجه النبى - صلى الله عليه وسلم - من ابنة عمّته أميمة بنت عبد المطلب واسمها: زينب بنت جحش .. فكان الزواج دليلًا على حبّ - صلى الله عليه وسلم - لزيد .. وعلى تحطيمه - صلى الله عليه وسلم - لقيود الجاهلية التي كانت تعيق وتشوّه تناغم المجتمع الإِسلامي ومساواته وتآخيه .. فزيد في نظر المشركين لا يزال عبدًا .. لكنه عند المسلمين ابن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. وهو في نظر الوثنيين لا يستحق الزواج بزينب .. لا يستحق الزواج إلَّا بأمةٍ .. لكنه عند المؤمنين: حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وهو في عين النبى - صلى الله عليه وسلم - أمير من أمراء الإِسلام -وإن طعن من طعن في إمارته- قال - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو يتحدث عن أسامة بن زيد: (كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليّ بعده) (¬1). هذا هو زيد في عالم الإِسلام وميزانه .. أمّا أولئك الذين يرفضون ميزان الإِسلام ويصرّون على التطاول بأنسابهم فقد بشّرهم - صلى الله عليه وسلم - باحتقار شنيع لا يطيقونه .. قال - صلى الله عليه وسلم -: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا -إنما هم فحم جهنم- أو ليكونّن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو: مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلّهم بنو آدم، وآدم خلق من التراب) (¬2) ولئن كان التراب أصلًا للجميع .. ولئن جعل الإِسلام زيدًا ابنًا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .. فقد توهج الإِسلام حتى امحت فيه الفوارق .. كل الفوارق .. فكانت هذه القصة .. التي امحى فيها كل شيء بين النبى - صلى الله عليه وسلم - وأحد الشباب الفقراء الذين لا يملكون مالًا ولا نسبًا .. ذاب كل شيء بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4469). (¬2) حديث صحيح انظر: صحيح الترمذى (3/ 254).

شاب اسمه جليبيب

الشاب حتى تحدث - صلى الله عليه وسلم - عنه .. فظن الناس أنه يتحدث عن نفسه .. شاب ليس له سرير سوى سواعد محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وقلبه شاب اسمه جليبيب يتحدث عنه أنس بن مالك فيقول: (كان رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له: جليبيب، في وجهه دمامة، فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التزويج، فقال: إذا تجدني كاسدًا، فقال: غير أنك عند الله لست بكاسد) (¬1). كان جليبيب ظريفًا يهوى المزاح والدعابة .. لكنه لا يملك المال ولا الجاه ولا النسب .. لكن ذلك كله لا يهم ما دام النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتبره جزءًا منه .. ويتحدّث نيابة عنه .. ما دام يملك مساحة في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. تحدّث عنها الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي .. فقال: (إن جليبيبًا كان امرأً يدخل على النساء يمرّ بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي: لا يدخلن عليكم جليبيب، فإنه إن دخل عليكم لأفعلن .. ولأفعلن. وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيم (¬2) لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حاجة أم لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك. فقال: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أبو يعلى (6/ 89) (حدثنا محمَّد بن أبي بكر المقدمي حدثنا ديلم بن غزوان، حدثنا عن ثابت عن أنس .. وثابت تابعي ثقة سمع من أنس وتلميذه سمع منه وهو صدوق -التقريب (1/ 236) وكذلك شيخ أبي يعلى فهو ثقة من رجال الشيخين- السابق (2/ 148). (¬2) فتاة عزباء.

نعم وكرامة يا رسول الله، ونعم عيني. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: لجليبيب. فقال: يا رسول الله أشاور أمّها. فأتى أمّها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يخطب ابنتك. فقالت: نعم ونعم عيني. فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب. فقالت: أجليبيب ابنه؟ أجليبيب ابنه؟ أجليبيب ابنه؟ لا لعمر الله لا تزوّجه "ما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلَّا جليبيبًا وقد منعناها من فلان وفلان - والفتاة في سترها تسمع"، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره بما قالت أمّها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمّها، فقالت: أتردّون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره؟ "إن كان رضيه لكم فأنكحوه"، ادفعوني إليه فإنه لن يضيّعني "فكأنها جلت عن أبويها، وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال - صلى الله عليه وسلم -: فإني قد رضيته"، قال: شأنك بها، فزوّجها جليبيبًا) (¬1)، فزوّجها - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الشاب الفقير .. الذي اختارته هي واختاره لها النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وهي تعلم أنه لن يختار لها إلَّا ما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ولن يختار لها إلَّا ما يسعدها .. واحتجّت تلك الفتاة على شروط أمّها وتحكماتها التي لا تمتّ للإسلام .. واقتنع الجميع رضي الله عنهم بخيار النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأبحر الشابان في أيام بيضاء سعيدة .. حتى جاء ذلك اليوم الذي فزع فيه أهل المدينة واستعدّوا لمواجهة عدوّ .. عندها انسحب جليبيب من ¬

_ (¬1) حديث صحيح انظر: ما بعده فهو باقيه.

معركة جليبيب

ذراعي حبيبته إلى ذراعي المعركة .. وأخذ سيفه وانطلق خلف حبيبه - صلى الله عليه وسلم - في معركة أحب أن أسميها): معركة جليبيب معركة انتصر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. وحاز فيها جليبيب على أشياء ثمينة .. غبطه كل من حوله وهو يحملها في سفره ذلك .. غَبطه كل من حوله وهو بين ذراعي النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ليت شعري ما الذي أوصل جليبيبًا إلى هذا الحب النبوي الجارف .. دعونا نتمشى بقلوبنا بين غنائم جليبيب في تلك المعركة .. يرينا إياها أبو برزة ويصفها فيقول: ("ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب" فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة له، فلما أفاء الله عليه، قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانًا .. ونفقد فلانًا. قال - صلى الله عليه وسلم -: انظروا هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال - صلى الله عليه وسلم -: لكني أفقد جليبيبًا؟ فاطلبوه في القتلى. فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه. فقالوا: يا رسول الله .. ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عليه، فقال: قتل سبعة وقتلوه! هذا مني وأنا منه. هذا مني وأنا منه (¬1). ثم وضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ساعديه وحفر له .. ما له سرير إلَّا ساعدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم وضعه في قبره) (¬2)، أمام أعين الصحابة ¬

_ (¬1) قال الراوى: مرتين أو ثلاثًا. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد (4/ 421 - 422 - 425): حدثنا عفان، حدثنا حماد بن =

ودموعهم .. السواعد نعش لجليبيب .. والكلمات أكفان كالغمام: هذا مني وأنا منه .. لكني أفقد جليبيبًا .. ما أسما هذا النبي وأعظمه .. ما أرقّ مشاعره .. يخطب باسم هذا الفقير الذي يموت في المعركة بعد أن فتك بسبعة .. ومع ذلك لا يأبه له أحد .. لا يذكر إذا ذكر الشهداء .. ولا يفقد إذا فقد الأبطال .. لكن أحضان النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجاويف قلبه تفتقده .. لأنه مسلم .. مهما كان نسبه .. مهما كان لونه .. حتى لو ارتحل عن هذه الدنيا دون أن يترك جاهًا أو مالًا .. هل يضر جليبيبًا ذلك .. هل يضرّه أن لا يفتقده أحد إذا افتقده محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. وحمله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. وجعل ساعديه له نعشًا وسريرًا .. وتوجع بكنز تمنّاه كل من حوله عندما قال: هذا مني وأنا منه .. هذا مني وأنا منه .. أما فتاته التي أحبّته لأن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يحبّانه .. لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختاره لها .. فقد بلغها الخبر والحزن .. وبلغ المدينة كلّها ما حدث لجليبيب فأصابها الحزن .. وافتقد بعض البيوت تلك الملاحة والظرف والضحكات التي يثيرها رحمه الله بدعاباته .. ذهب رضي الله عنه وترك لزوجته مجدًا لا يبارى .. وجعلها ملء السمع والبصر في المدينة .. حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه بعد أن انتهت فترة حدادها على زوجها: ¬

_ = سلمة، عن ثابت عن كنانة بن نعيم عن أبي برزة وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرط مسلم .. وعفان وثابت من رجال الشيخين. وكنانة تابعي ثقة من رجال مسلم (التقريب- 2/ 137): وحماد إمام معروف وثقة مشهور. من رجال مسلم.

(فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة) (¬1)، أي أن خطابها كثروا بعد جليبيب حتى صار بيت أهلها من أوائل البيوت التي يتهافت إليه الخطاب .. هذا ما جرى لجليبيب رضي الله عنه .. لكن ماذا عن زيد بن محمَّد .. فلنعد إلى زيد الذي تزوّج بذات النسب الرفيع زينب بنت جحش رضي الله عنها .. ها هو بيت زيد وزينب .. دخلناه فوجدنا الوجوم يخيّم عليه بعد فترة من الزمن .. القلوب في هذا المنزل الكريم على غير ما يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لم يكن هناك توافق بين زيد وزينب .. وسبحان مقلّب القلوب والأبصار .. ولا أدري أيّهما الذي كان مباعدًا للآخر بشعوره .. هل هو زيد أم زينب .. أم هما جميعًا .. لم يتحمل زيد ما يحدث في صدره وصدر زوجته .. فحمله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - و (جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك) (¬2)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلمات والألم يسافر به .. والحرج يحاصره .. قال - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلمات بعد أن نزل عليه الوحي بشيء يخص زيدًا وزينب ويخصّه هو بالدرجة الأولى .. فقد أخبره الوحي أن زينب زوجة ابنه زيد سوف تصبح زوجته وإحدى أمّهات المؤمنين .. فأخفى - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأمر على زيد خشية أن يتأثر ابنه .. خشية أن يلوك المنافقون وضعاف النفوس ذلك الحدث ثم يلفظونه قيحًا في طرقات المدينة وفتنةً في بيوتها .. أخفى - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه سيحدث لا محالة .. وانصرف زيد إلى زوجته وبيته .. لكن القلوب تسافر دون أن تستأذن أصحابها .. بقي الزوجان على غير وفاق حتى تفاقم الصدع ¬

_ (¬1) هو جزء من الحديث الصحيح السابق. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (7420).

تطلق زوجها لأنها لا تحبه

فأصبح أكبر منهما ومن منزلهما .. فكان الطلاق هو الحل الوحيد .. والمخرج الآمن لحياتهما ومعاناتهما .. فأطلق زيد زينب وطلّقها بعد أن شعر أن البقاء معها شبه مستحيل .. فالإِسلام جعل الطلاق بيد الرجل لأنه المكلف بالمهر والنفقة والحماية والرعاية .. والرجل السويّ لا يقدم على الطلاق إلَّا بعد أن يستهلك كل وسائل البقاء الممكنة .. لكن ماذا عن المرأة المسكينة .. هل اضطهدها الإِسلام لأنها لا تنفق ولا تدفع مهرًا .. هل يرغمها على البقاء في بيت رجل لا تطيقه لهذا السبب فقط .. الجواب قصة هذه المرأة التي تطرق باب النبي - صلى الله عليه وسلم - تبحث عن مخرج كمخرج زيد وزينب .. تطلب ذلك وهي زوجة سيد من سادات الأنصار .. وخطيب من أعظم خطبائهم وبلغائهم .. صاحب خلق ودين .. ليس بالبخيل ولا بالذليل .. اسمه ثابت ابن قيس بن شماس الأنصاري .. لكن زوجته فتّشت داخل قلبها عن مكان له فلم تجد .. لذلك ذهبت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تشكو ذلك الفراغ الذي يؤرقها مع ثابت .. فهل تستطيع تلك المرأة أن: تطلق زوجها لأنها لا تحبه ففي الظلام .. وعندما بدأ الفجر يمزق خيمة ليل ثقيل على امرأة اسمها: حبيبة بنت سهل .. عندما صدع بلال أسوار الليل بالأذان نهضت تلك المرأة من ليلها الطويل الشاحب .. توجّهت نحو الباب وفتحته ثم خرجت مثقلة بالهموم والشكوى .. تاركة البيت وصاحبه .. وبعد خطوات ثقيلة وحزينة توقفت أمام باب كالفرج .. أمام باب كالفجر .. أمام باب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. لم تطرق الباب .. بل مكثت تنتظره كي يبدّد ليلها

الطويل .. ثم (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصبح (¬1)، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس (¬2)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هذه؟ فقالت: أنا حبيبة بنت سهل. قال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس "يا رسول الله إني لا أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني لا أطيقه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم". فلما جاء ثابت بن قيس، قال له - صلى الله عليه وسلم -: هذه حبيبة بنت سهل -وذكرت ما شاء الله أن تذكر- وقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لثابت: خذ منها. فأخذ منها، وجلست هي في أهلها "وأمره - صلى الله عليه وسلم - يطلقها") (¬3)، فطلقها ثابت رضي الله عنهما .. ولم يستطع إرغامها على العيش معه .. وانتزعت حبيبة حقها في الانفصال والخلع وحق غيرها من النساء من بعدها .. فالزواج ليس سجنًا ولا إكراهًا .. إنه حب ومشاركة .. ألفة وود وتكامل .. فإن لم يكن كذلك فإن باب الطلاق وباب الخلع مفتوحان إلى يوم القيامة .. وهذا ما لا يعرفه النصارى حتى اليوم .. فالقسّ في الكنيسة يربط الزوجين برباط يسمّيه رباط الله المقدس .. ثم يقول: إن ما يربطه الله لا يفكّه ابن آدم .. أي أن الطلاق محرم .. والزواج حتى ولو كان فاشلًا لا بدّ أن يكون مؤبدًا .. وفي ذلك يقول كتابهم المقدس: ¬

_ (¬1) أي صلاة الصبح. (¬2) اي الظلام. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (5275 - 5274) وأبو داود (2227) واللفظ له والزوائد للبخاري.

(أما أنا فأقول لكم: من طلّق امرأته -إلَّا في حالة الزّنا- يجعلها تزني، ومن تزوّج مطلقة زنى) (¬1). أي أن المطلقة تعتبر زانية .. ومن تزوّج امرأة مطلقة فهو أيضًا زان .. فلا غرابة أن نرى انتشار الزنا عند النصارى بشكل مخيف ومقزز .. وما دامت المطلقة المسكينة قد حكم عليها الزنا المؤبدّ فلن يغير من الأمر شيء أن تمارسه فعلًا .. أمّا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقد أحب المطلقة وتزوجها .. وزوَّجها .. وأفضل زوجاته خديجة تزوجت قبله أكثر من رجل .. وها هو الوحي يخبره بأنه سيتزوج مطلقة زيد .. فرق كبير جدًا بين سماحة الإِسلام وتطرّف النصارى .. الذين يرون الزواج بالمطلقة زنا .. بل يعتبرون الزواج بالبكر لا يليق بالنصراني المستقيم .. وفي ذلك كتابهم المقدس: (أبناء هذه الدنيا يتزاوجون، أما الذين هم للحياة الأبدية والقيامة من بين الأموات فلا يتزاوجون، هم مثل الملائكة لا يموتون، وهم أبناء الله) (¬2) .. لا أدري ما هو مصير البشر لو أخذوا هذه المقولة المتطرّفة .. حقًا إن الدين ليثير السخرية متى ما عبث بكتبه ونصوصه العلماء والعباد .. فحرّفوا وبدّلوا وغيّروا ظنًا منهم أنهم يخدمونه .. وهذا ما حدث للتوراة والإنجيل .. اللذين أصبحا مثار سخرية اليهود والنصارى أنفسهم .. الإِسلام شرّع الزواج وأشرع أبوابه ونوافذه .. وجعله فسحة للمرأة والرجل ومسؤولية وتلبية لحاجة بشرية ملحة .. ولم يجعله قيدًا وسجنًا لا يستطيعان الفكاك منه والهرب .. ولكي يبقى الزواج سليمًا من النغص ¬

_ (¬1) الكتاب المقدس -متى- الطلاق. (¬2) الكتاب المقدس -لوقا- قيامة الأموات.

كيف فتحت توراتهم بيوت الدعارة؟

والنكد والأمراض الجسدية والاجتماعية .. أنزل الله على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - تحريم الزنا .. حتى تبقى ساحة الزواج نقيّة طاهرة .. هذه الأحكام النقية .. وبهذا القرآن العذب والسنّة المطهّرة .. أعاد الإِسلام للإنسان توازنه الذي اختلّ على أيدي اليهود والنصارى .. فاليهود حرّفوا التوراة .. فتحوا بين سطورها بيوتًا للدعارة .. والنصارى حاولوا إقفال تلك البيوت بأحكام تحرم الطلاق وتنهى عن الزواج أصلًا .. فبقي الإنسان محتارًا بين قريتين: قرية للرهبان .. وقرية للشيطان .. قد تتساءل فتقول: كيف فتحت توراتهم بيوت الدعارة؟ افتح التوراة .. تجد الاتهامات القبيحة لأنقى من مشى على الأرض .. وهل هناك أطهر من نبي .. التوراة المحرّفة تقول لليهود .. تقول لشعب الله المختار: إن إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام زنى بزواجه من أخته من أبيه سارة (¬1) .. إن لوطًا عليه السلام زنى بابنتيه وأنجب منهما (¬2) إن أحد الأسباط وأكبرهم -ابن يعقوب- واسمه رابين زنى بزوجة أبيه وأم أخوته .. ويطير صوابك عندما تقول التوراة إن يعقوب لما علم دعا لابنه رابين وباركه ومدحه وسماه بالفاضل في العزّ والرفعة (¬3) .. إن يهوذا وهو أخٌ لرابين زنى بزوجة ابنه "لعير" واسمها "شامار" (¬4) .. ¬

_ (¬1) سفر التكرين- (20 - 12). (¬2) سفر التكوين (19 - 31). (¬3) سفر التكوين (35 - 55) (49 - 3). (¬4) سفر التكوين (19).

إن داود عليه السلام رأى زوجة جاره الجميلة فناداها وزنى بها (¬1) .. إن ابن داود زنى بأخته (¬2) .. وغيرهم .. وغيرهم .. أمّا كتابهم التلمود .. فيبيح لليهودي كل شيء خاصة مع المرأة غير اليهودية .. لأنها عبارة عن حيوان .. بل وحثّ الزوجة اليهودية على عدم الغيرة من المرأة غير اليهودية .. لأن الأخرى حيوان لا كرامة له .. فماذا تتوقع من شعب هكذا يُصوَّر له أنبياؤه -في كتابهم المقدس- وعندما جاء النصارى رأوا اليهود في حالة تثير الاشمئزاز والقرف .. فابتدعوا الرهبانية كرد فعل على إباحية اليهود .. فكرهوا الزواج ونهوا عنه .. وحرّموا الطلاق وجعلوا المطلّقة زانية والمتزوج منها أيضًا زان. وبهذا أصبح اليهود والنصارى بين جحيمين .. فجاء الإسلام راحة ورحمة للإنسان يتقلّب فيها .. عامله لا كملاك ولا كشيطان .. بل إنسان يسعى نحو الأفضل .. لكنه في سعيه ذلك يتعرّض للعثرات والسقوط لأنه بشر .. لكن الإِسلام يدفعه لمقاومة ذلك السقوط والنهوض من جديد .. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) (¬3). جاء أحد الصحابة يستفسر عن حالة التغيّر عند المسلم عندما يغادر المسجد وقد تأثّر بكلمة أو موعظة أو محاضرة .. فإذا ذهب إلى بيته أو دكانه خفّ تأثره ذلك .. فأجاب - صلى الله عليه وسلم - عن هذا التساؤل الذي يطرأ على ¬

_ (¬1) الكتاب المقدس -صموئيل الثاني- 11. (¬2) الكتاب المقدس -صموئيل الثاني- 13. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (2749).

المسلم .. وعلى ذلك الصحابي المدعوّ حنظلة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده، لو كنتم تكونون في بيوتكم على الحالة التي تكونون عليها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولأظلّتكم بأجنحتها، ولكن يا حنظلة: ساعة وساعة) (¬1) وعندما حاول ذلك الصحابي العظيم عثمان بن مظعون .. أن يمحو الساعة الثانية ويبقى في ساعة عبادة ممتدة من النوم إلى النوم أوقفه - صلى الله عليه وسلم - وأعاده إلى سنّته .. إلى بشريّته .. فلا رهبانية في الإِسلام ولا تطرّف .. تقول عائشة رضي الله عنها: (دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأينها سيئة الهيئة، فقلن لها: مالك؟ فما في قريش أغنى من بعلك. قالت: ما لنا منه شيء، أما ليله فقائم، وأما نهاره فصائم، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرن ذلك له، فلقيه، فقال: يا عثمان بن مظعون .. أما لك بي أسوة؟ فقال: بأبي وأمي، وما ذاك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: تصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: إني لأفعل. قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا .. أما لك فيّ أسوة؟ أما والله إن أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده لأنا" فأتتهن بعد ذلك وهي عطرة كأنها عروس، فقلن: مه؟ قالت: أصابنا ما أصاب الناس) (¬2) .. لم تشتك تلك المرأة الفاضلة من بخل ولا قلّة مال .. لم تشتك حتى من زوجها .. لكنها بثّت ما بصدرها لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - .. عبرت عن حاجة المرأة إلى وصال الزوج وحبّه .. وإلّا فإذا ستذبل .. وذبول المرأة يعرف بعدم اهتمامها بنفسها وأناقتها وأنوثتها .. أعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل النقى التقي إلى أجواء ¬

_ (¬1) حديث صحيح - صحيح الجامع (2/ 1190) وهما عند مسلم. (¬2) حديث صحيح مر معنا. ورواه عبد الرزاق بسند صحيح (6/ 167) عن معمر عن الزهريّ عن عروة وعمرة عن عائشة.

الإسلام البيضاء الرحبة .. يحلّق فيها طائرًا أبيض بالحب والإيمان .. ثم يعود إلى عشّ حبيبته الجميل .. كما يعود النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته محملًا بالشوق والحب .. وإذا كانت الحياة الزوجية تقتضى ذلك .. فإن الحياة بكرامة إسلامية تقتضي أن يعود عثمان بن مظعون ورفاقه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض بدر مرة أخرى بعد أن فرض الشرك ذلك عليهم متحديًا .. معركة حددها أبو سفيان .. حدد موعدها .. ومكانها .. أما الموعد فهو بعد عام من غزوة أُحُد .. أي الآن .. وأمّا المكان .. فعلى أرض بدر وفي موسم بدر المشهور بالشعر والفخر والتجارة ..

السييرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (قراءة جديدة) محمد الصوياني الجزء الثالث مكتبه العبيكان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

معركة ثانية على أرض بدر

معركة ثانية على أرض بدر فقد اغترّ أبو سفيان -قائد قريش- بما حدث في أُحُد .. فصاح بالنبي - صلى الله عليه وسلم - متحديًا: (موعدك موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا) (¬1)، كان أبو سفيان ومن معه يريدون أن يملأوا آبار بدر بأجساد المؤمنين مثلما حشر المؤمنون جثث طواغيت قريش في تلك البئر المنتنة على أرض بدر .. حلم لقريش .. فهل يتحقّق .. كان أبو سفيان يريد استغلال مناسبة إقامة موسم بدر .. وهو موسم للعرب يجتمعون فيه تجارةً وأدبًا وشعرًا .. لكن أبا سفيان أراد أن يجعل للحرب نصيبًا في هذا الموسم .. حرب تستعيد بها قريش بعض ما تناثر من هيبتها .. حرب يشهدها العرب جميعًا .. فليكن لأبي سفيان ما يريد .. ها هو - صلى الله عليه وسلم - عندما اقترب موعد إقامة سوق بدر يستعدّ للسفر .. لا للحرب فقط .. بل للحرب والتجارة .. متجاهلًا كل صيحات المخذلين والجبناء في المدينة الذين يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم). فقد ردّ - صلى الله عليه وسلم - على أولئك المخذلين والجبناء بعزم شاركه به أصحابه رضي الله عنهم فقالوا: (حسبنا الله ونعم الوكيل) .. فامتدح الله هذا الإيمان المتجذّر وهذه الثقة الراسخة بالله .. فقال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬2)، فـ (قد كان أبو سفيان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: موعدك موسم بدر، حيث قتلتم أصحابنا. ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا عند الحديث عن غزوة حمراء الأسد. (¬2) سورة آل عمران: الآية (173).

فأمّا الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أُهبة القتال والتجارة فأتوه) (¬1). وصل الشجعان إلى أرض بدرٍ فرحبت بهم وتذكرت نصرهم .. كانت أرض بدرٍ أرضًا للانتصار .. هكذا هي في عقول وقلوب المؤمنين .. أمّا بالنسبة لقريش فهي تذكرهم بالهزيمة .. لم يستطع أبو سفيان وجيشه مغادرة مكّة ولا الحركة منها .. فالتشاؤم يعيقهم عن الحركة .. يشلّهم عن الوفاء بالوعد والتحدّي .. أبو سفيان وكبار القوم خائفون .. يخشون أن تحشر جثثهم في بئر أخرى .. فلم يحضروا .. وهكذا: انتهت غزوة بدر الثانية قبل أن تبدأ .. فليس على الساحة سوى المؤمنين .. إنهم يتلفتون فلا يرون أحدًا .. يذرعون أرض بدر .. يمشطونها بحثًا عن جيش الوثنيين فلا يرون أحدًا .. وهكذا انهزمت قريش في معركة هي التى طلبتها وحدّدت مكانها وزمانها .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجنده .. فقد مالوا بمطاياهم نحو موسم بدر (فأتوه فلم يجدوا به أحدًا، وتسوقوا فأنزل الله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}) (¬2)، فطلب - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه أن يكتبوا هذه الآية وأن يجعلوها بعد الآية السابقة، لتقرأ هكذا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (¬3). تفضّل سبحانه على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم بانتصار لم ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا عند الحديث عن غزوة حمراء الأسد وهذا هو آخر ذلك الحديث. (¬2) حديث صحيح مر معنا عند الحديث عن غزوة حمراء الأسد وهذا هو آخر ذلك الحديث. (¬3) سورة آل عمران: (173 - 174).

تحريم الخمر

ترق فيه قطرة دم .. فباعوا واشتروا وكسبوا .. ودعوا إلى التوحيد، وربما كسبوا بدعوقم تلك أتباعًا ومؤمنين جددًا ينشرون التوحيد في قومهم أو يهاجرون .. ثم عادوا شوقًا إلى أهلهم .. شوقًا إلى المدينة .. كانت المدينة غادة مكتنزة بالجميل والجديد .. كان هواؤها صافيًا نقيًا .. بعد أن تطهّر من ذلك الوباء .. الذي لوّث الصحة والعقول .. وأنزف الدماء والأموال .. المدينة الآن نقية. لأنه قد نزل تحريم الخمر الخمر التي تؤرق بعض الصحابة ويحيّرهم أمرها .. كانت تصنع في المدينة من خمسة أطعمة .. يقول ابن عمر رضي الله عنه: (نزل تحريم الخمر، وإن في المدينة يومئذٍ لخمسة أشربة) (¬1) (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير) (¬2). وكان نزول تحريمها لأسباب ما زالت ممتدة حتى الآن .. ما زالت شنيعة وخطيرة حتى الآن .. وما جاء الإِسلام إلَّا لتطهير المجتمع من مثل هذه الأسباب .. التي تهدّد أخوّة الإيمان وودّه ووصاله .. من هذه الأسباب قول أحد الصحابة: (إنما نزل الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه، ورأسه، ولحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان -وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن- والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4616). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4619).

حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}) (¬1)، ويقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (صنع رجل من الأنصار طعامًا فدعانا، فشربنا الخمر قبل أن تحرم، حتى انتشينا، فتفاخرنا، فقالت الأنصار: نحن أفضل .. وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لحى جزور، فضرب به أنف سعد، ففزره، وكان أنف سعد مفزرًا، فزلت آية الخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬2) عن هذه الخمر .. هل أنتم منتهون عن هذه الخمر التي تذيب العقل .. وتمحو اللياقة الأدبية .. إن في الخمر لذّة لا شكّ في ذلك ولولا ما فيها من نشوة ما شربها أحد .. لكنها تسبّب الصداع والغثيان بعد تلك النشوة .. وهي تحيل شاربها إلى إنسان مريض .. وقح يتفوّه بكل بذيئة .. ويفشي كل ما ينبغي إخفاؤه من رغبات ونزوات تكدّر النديم والجليس والصاحب والقريب .. الخمر يدمر ذلك التحكم المهذب الذي يحفظ للإنسان شخصيّته ووقاره واحترامه .. إنسانيته وكرامته .. بالخمر يتحوّل السكران إلى حيوان يهذر بكل قبيح .. وينزو على كل محرم .. بالخمر يختلط الخطأ بالصواب .. والحلال بالحرام .. والأدب باللا أدب .. أما ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآية 90. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم والبيهقيُّ في السنن (8/ 285).

تحريم الميسر

تحريم الميسر فالميسر -وهو القمار- مرض آخر من أمراض التخلّف واللامسؤولية .. فالإنسان الذي يكدّ ويكدح من أجل تحصيل مال .. وبعد أن يجمعه يقف على شرفة جبل تطل على بحر فيرمي كل ما جمعه في سنين في ذلك البحر .. الإنسان الذي يفعل ذلك أبسط ما يقال عنه إنه: مجنون .. والمجنون لا يترك ولا يسمح له أن يؤذي نفسه ولا غيره. الميسر يدمر الأسر والدول والأخلاق .. الخمر والميسر نوعان من أنواع الجنون .. ورسالة الإِسلام توقظ العقول .. توقدها تحضّرًا ورقيًا وتمدّنًا .. فكيف تلقى الصحابة هذا الخبر .. كيف استقبلته قلوبهم ونفوسهم .. كيف استقبله أولئك الذين كانوا لا يصبرون عنها .. تعالوا إلى بيت أم سليم وأبي طلحة حيث كان: أبو دجانة .. وأبو عبيدة .. ومعاذ بن جبل .. وسهيل بن بيضاء .. وأبي بن كعب رضي الله عنهم في ضيافة أبي طلحة رضي الله عنه .. كانوا ندامى .. يحتسون أقداحًا من الخمرة .. وكان ساقي أولئك الندامى الأخيار ابن أم سليم .. أنس بن مالك رضي الله عنه .. الذي يقول: (بينما أنا أدير الكاس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، "وأبي بن كعب" حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر، "فإذا مناد ينادي، قال: أخرج فانظر" فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، "فما قالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس .. اكف ما بقى في إنائك فوالله ما عادوا فيها" "فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فهرقتها" "يا أنس .. قم إلى هذا الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربته بأسفله حتى تكسرت" فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا

الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى السجد، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬1)، فانتهى الصحابة بعد سماعهم لهذه الآية في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - .. رغم إدمان بعضهم لها .. والمدمن يحبس في مصح أحيانًا كي يتخلّص من إدمانه .. لكن إيمان الصحابة وتربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم كانت من العمق والسموّ والامتداد بحيث يتلاشى أمامها أي إدمان. تخلّصت المدينة من أمّ الخبائث .. وأم الأمراض والمشاكل .. لكن ماذا لو استفاد البعض من الخمرة في غير الشرب .. في البيع والشراء مع غير المسلمين .. في العلاج مثلًا .. ؟ أما العلاج فلا تصلح الخمر أبدًا لأنها مرض .. النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك .. والطب أيضًا يؤيّد ذلك ويرفضها .. قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنها ليست بدواء، ولكنها داء) (¬2). أمّا عن التجارة .. فقد كان تاجر خمر من الصحابة رضي الله عنه يقال له: كيسان (كان يتجر في الخمر زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق -يريد بها التجارة- فأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب طيّب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2464) ومسلمٌ (1980) والبيهقيُّ سنن (8/ 286) واللفظ له والزيادة عند البخاري ومسلمٌ ومالك (1544) وأحمدُ. (¬2) حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 478).

يا كيسان، إنها قد حرمت بعدك، قال: فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها قد حرمت، وحرّم ثمنها، فانطلق كيسان إلى الزقاق، فأخذ بأرجلها ثم هرقها) (¬1)، ويقول أبو سعيد رضي الله عنه: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى حرّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء، فلا يشرب، ولا يبع) (¬2) .. وهذا رجل آخر (أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل علمت أن الله قد حرمها؟ قال: لا .. فسارَّ (¬3) إنسانًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل علم أن الله قد حرمها؟ قال: لا. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها، فقال: إن الذي حرّم شربها حرّم بيعها، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها) (¬4). و (سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر تتخذ خلًا؟ فقال: لا) (¬5). لا .. بهذه الكلمة انتهت علاقة الإِسلام بالخمر .. قطيعة وحرب لا هوادة فيها ضدها .. ليبدأ أولئك المؤمنون بالاستفادة من أوقاتهم التي كانت تسفكها الخمر .. انتهت علاقة الإِسلام بالخمر، و¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن، عن نافع بن كيسان أن أباه أخبره أنه كان يتجر ... (4/ 337) وهذا السند صحيح، نافع صحابي، وسليمان البصري تابعى ثقة (التقريب- 1/ 328) وأما ابن لهيعة فحديثه هنا صحيح؛ لأن الراوي عنه هو قتيبة بن سعيد .. وقتيبة بن سعيد بن جميل ثقة ثبت من رجال الشيخين (التقريب-2/ 123). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (باب تحريم بيع الخمر). (¬3) أي كلم رجلًا سرًا بينه وبينه دون أن يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) حديث صحيح رواه مسلم (باب تحريم الخمر). (¬5) حديث صحيح رواه مسلم (باب تحريم تخليل الخمر).

انتهت عدة زينب بنت جحش

انتهت عدة زينب بنت جحش مرّ على طلاقها من زيد بن ثابت ثلاثة أشهر .. أي ثلاث حيضات .. والمرأة لا بدّ أن تنتظر ثلاث حيضات حتى تتأكّد من خلوّ رحمها من أي علاقة من زوجها الأوّل .. تتأكّد من عدم وجود حمل حتى لا تختلط الأنساب وتتفشّى الأمراض .. يقول سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1). وبعد أن مرت تلك الأشهر أمر الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزواج من زينب رضي الله عنها .. لسبب واحد ذكره الله في القرآن .. ونزل به جبريل عليه الصلاة والسّلام .. فما هو سبب زواج النبي (صلى الله عليه وسلم) من زينب كان الناس في ذلك الوقت يعتبرون الابن بالتبنّي كالابن الحقيقي .. أي أن الابن إذا طلّق زوجته فهي حرام على أبيه والعكس .. فأنزل الله نسخ ذلك الشىء وأبطله بتزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش .. التي كانت زوجة لابنه -بالتبني- زيد بن حارثة. أنزل الله ذلك الأمر بعد أن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى كلام الناس حول ذلك .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع أن يخفى شيئًا من الوحي ولا القرآن .. فإذا نزل الأمر فما عليه سوى السمع والطاعة لربّه سبحانه وتعالى .. ولذلك يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (جاء زيد بن حارثة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتّق الله وأمسك عليك زوجك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: الآية 228.

زيد يخطب زينب للنبي (صلى الله عليه وسلم)

قال أنس: لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتمًا شيئًا لكتم هذه) (¬1). زيد يخطب زينب للنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: فاذكرها عليّ. فانطلق زيد حتى أتاها -وهي تخمر عجينها- قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن انظر إليها -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها- فولّيتها ظهري، ونكصت على عقي، فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أوامر ربي. فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن) (¬2)، أي نزل قول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}. (وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها بغير إذن) (¬3) لأنه لا يحتاج إلى ذلك .. فقد زوّجها الله إياه من فوق سبع سماوات .. فكان ذلك تكريمًا لها .. فرحًا لها .. حبًا لها .. كانت رضي الله عنها تبتهج بذلك (كانت زينب تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - .. تقول: زوجكنّ أهاليكن، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات) (¬4) .. وكان في ذلك الزواج تكريم لزيد رضي الله عنه .. فقد خصّه الله بذكر اسمه من بين جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن .. حقًا لقد كان: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (7420). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (زواج زينب). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (زواج زينب). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (7420).

زواج زينب فرح وتحول

زواج زينب فرح وتحول في حياة الصحابة والأمّة .. أحداث كثيرة في ذلك الزواج .. آداب وتشريعات .. ومظاهر سرور صاحبت ذلك الزواج الكريم .. تعالوا نتجوّل في تقاسيم ذلك الفرح المليح .. سنبدأ أولًا بـ: الوليمة والهدايا والمعجزات يقول أحد الذين حضروا وشاركوا في تلك الوليمة: (ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاةً) (¬1)، (ما أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة من نسائه أكثر أو أفضل مما أولم على زينب) (¬2) (أطعمهم خبزًا ولحمًا حتى تركوه) (¬3) شبعًا. لم يشارك أنس بن مالك في الأكل فقط .. بل ساهم مع أمّه أم سليم رضي الله عنها في زيادة مساحات الفرح .. يقول رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار، فخرج الناس وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتّبعته، فجعل يتتبع حُجُرَ نسائه يسلّم عليهن، ويقلن: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك) (¬4). ويحدّثنا أنس عن هدية أمّه فيقول: (فصنعت أمي -أم سليم- حيسًا، فجعلته في تور (¬5) "من حجارة" فقالت: يا أنس .. اذهب ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم زواج زينب. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم زواج زينب. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم زواج زينب. (¬4) حديث صحيح رواه مسلم زواج زينب. (¬5) إناء. والحيس تمر وسمن وأقط.

بهذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقل: بعثت هذا إليك أمى، وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منّا قليل يا رسول الله .. فذهبت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن أمي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منّا قليل يا رسول الله. فقال: ضعه. ثم قال: اذهب، فادع لي فلانًا، وفلانًا، وفلانًا، ومن لقيت "من المسلمين" وسمّى رجلًا، قال: فدعوت من سمّى ومن لقيت. قلت لأنس: عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنس .. هات التور "وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على الطعام، فدعا فيه، وقال ما شاء الله أن يقول" فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليتحلّق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه. فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلّهم، فقال لي: يا أنس ارفع، فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت، وجلس طوائف منهم يتحدّثون في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فأطالوا عليه الحديث"، فجعل النبي يستحي منهم أن يقول لهم شيئًا "فأخذ كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام من القوم، فقعد ثلاثة" فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم على نسائه، "فمشى، فمشيت معه حتى بلغ حجرة عائشة، ثم ظنّ أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم، فرجع، فرجعت الثانية، حتى بلغ حجرة عائشة" ثم رجع "فرجعت"، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، فابتدروا الباب، فخرجوا كلّهم، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أرخى الستر، ودخل وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث

لنزول الحجاب قصة

إلَّا يسيرًا حتى خرج عليّ، وأنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرأهن على الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ (¬1) إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (¬2)، (قال أنس: أنا أحدث الناس عهدًا بهذه الآيات، وحجبن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬3)، بعد هذا الموقف المحرج أمرت نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب .. وكان: لنزول الحجاب قصة فقد كان عمر بن الخطاب قبل نزول الحجاب يقترح على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحجب نساءه .. أنس بن مالك أيضًا يحدّثنا بذلك فيقول: (قال عمر بن الخطاب: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو حجبت عن أمّهات المؤمنين، فإنه يدخل عليك البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب) (¬4)، وتقول ¬

_ (¬1) أي لا تتطفلوا تترقبون نضج الطعام ثم تعرضون أنفسكم للدخول دون دعوة. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم والزوائد له أيضًا -باب زواج زينب .. وأكملت الآية لأن الحديث يقول: إلى آخر الآية بعد كلمة: يؤذي النبي. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم والزوائد له أيضًا -باب زواج زينب .. وأكملت الآية لأن الحديث يقول: إلى آخر الآية بعد كلمة: يؤذي النبي. (¬4) سنده صحيح رواه ابن جرير (10/ 324) حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي -عدي، عن حميد عن أنس، وحميد تابعي ثقة سمع من أنس، واسم ابن أبي عدي: محمَّد بن إبراهيم وهو ثقة- التقريب (2/ 141) وابن بشار هو الثقة محمَّد بن بشار -التقريب (2/ 147).

عائشة رضي الله عنها: (إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يخرجن بالليل إذ تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر يقول: يا رسول الله، احجب نساءك، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة -حرصًا أن ينزل الحجاب- قال: فأنزل الله الحجاب) (¬1)، وفي حادثة أخرى .. كرّر عمر بن الخطاب تلك الأمنية .. كان رضي الله عنه أجرأ من غيره في البوح بما يضمره ويضمره غيره من إجلال لبيت النبوّة .. تقول عائشة رضي الله عنها: (كنت آكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حيسًا في قعب، فمر عمر، فدعاه، فأكل، فأصابت أصبعه إصبعي، فقال: أوه، لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزل الحجاب) (¬2) ولكن فيما بعد .. فالحجاب لم ينزل بعد هذه الأحداث مباشرة .. تعالوا نسأل أنس بن مالك .. من أعلم الناس بنزول الحجاب؟ قال رضي الله عنه: (أنا أعلم الناس بالحجاب، لقد كان أُبيُّ بن كعب يسألني عنه، قال أنس: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروسًا بزينب بنت جحش، وكان تزوجها بالمدينة، فدعا الناس للطعام بعد ارتفاع النهار، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجلس معه رجال بعد ما قام القوم، حتى قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمشى، ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه جرير من طريقين أحدهما قوي عن الزهري عن عروة عن عائشة، وهذا إسناده كالذهب، والطريق القوية هي: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثني عمرو ابن عبد الله بن وهب حدثني يونس .. وأحمدُ صدوق من رجال مسلم، وعمه ثقة من رجال البخاري ويونس بن بكير حسن الحديث من رجال مسلم. والطريق الثانية: حدثني أبو أيوب النهراني، حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثني ابن حرة عن الزبيدي. (¬2) سنده قوي رواه ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير- الأحزاب 53) حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن أبي كثير عن مجاهد عن عائشة ..

الشبخ يتسلل لاغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم)

فمشيت معه، حتى بلغ حجرة عائشة، ثم ظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، فإذا هم جلوس مكانهم، فرجع فرجعت الثانية حتى بلغ حجرة عائشة، فرجع فرجعت، فإذا هم قد قاموا، فضرب بيني وبينه بالستر، وأنزل الله آية الحجاب) (¬1) .. وكانت هذه الآية تتحدّث عن زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط .. ثم أنزل الله سبحانه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2). ففرض الحجاب على المؤمنات جميعًا. وبينما كانت المدينة تعيش فرحًا .. وتشريعًا يمنح سلامًا في كل زاوية .. كان هناك خطر ينذر بفاجعة .. كان هناك خطر قادم من مكّة .. يطفح بالغلّ والثأر .. أتذكرون ذلك الشبح الذي نهض من بين جثث أحد .. ثم توجه نحو مكة نازفًا .. ها هو يعود ولكن لوحده هذه المرة .. فقد آلمه ما حدث في بدر .. وما أصابه في أُحُد .. ها هو: الشبخ يتسلّل لاغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم) أنس بن مالك كما حدّثنا عن الحجاب من قبل .. يحدّثنا الآن عن قصة هذا القادم .. الذي حمله حقده وثأره نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسجل له التاريخ حادثة تهزّ الجزيرة من البحر إلى البحر .. يقول أنس رضي الله عنه: (كان وهب بن عمير شهد أُحُدًا كافرًا، فأصابته جراحة، فكان في القتلى، فمرّ به رجل من الأنصار، فعرفه، فوضع سيفه في بطنه حتى خرج من ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4792) ومسلمٌ (1428) واللفظ له. (¬2) سورة الأحزاب: الآية 59.

ظهره، ثم تركه، فلما دخل الليل وأصابه البرد لحق بمكة، فبرأ، فاجتمع هو وصفوان بن أمية في الحجر، فقال وهب: لولا عيالي ودين عليّ، لأحببت أن أكون أنا الذي أقتل محمدًا، فقال له صفوان: فكيف تصنع؟ فقال: أنا رجل جواد لا ألحق، آتيه فأغترّه، ثم أضربه بالسيف، فألحق بالخيل، ولا يلحقني أحد. فقال له صفوان: فعيالك مع عيالي، ودينك عليّ، فخرج يشحذ سيفه وسمه، ثم خرج إلى المدينة، لا يريد إلَّا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدم المدينة رآه عمر بن الخطاب، فهاله ذلك، وشقّ عليه، فقال لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت وهبًا، فرابني قدومه، وهو رجل غادر، فأطيفوا نبيكم (¬1)، فأطاف المسلمون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء وهب، فوقف على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنعم صباحًا يا محمَّد، قال - صلى الله عليه وسلم -: قد أبدلنا الله خيرًا منها (¬2). قال: عهدي بك تتحدّث بها وأنت معجب. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أقدمك؟ قال: جئت أفدي أساراكم. قال - صلى الله عليه وسلم -: ما بال السيف؟ قال: أما إنّا قد حملناها يوم بدر فلم نفلح ولم ننجح. قال - صلى الله عليه وسلم -: فما شيء قلت لصفوان في الحجر: لولا عيالي ودين عليّ لكنت أنا الذي أقتل محمّدًا بنفسي .. فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - خبره. فقال وهب: هاه .. كيف قلت؟ ¬

_ (¬1) أي كونوا حوله. (¬2) يعني تحية الإِسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

متى أهدى عمر قلبه

فأعاد عليه. قال وهب: قد كنت تخبرنا خبر أهل الأرض، فنكذّبك، فأراك تخبر خبر أهل السماء "أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله". قال: يا رسول الله، أعطني عمامتك، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عمامته، ثم خرج إلى مكة. فقال عمر رضي الله عنه: لقد قدم وإنه لأبغض إليّ من الخنزير، ثم رجع وهو أحبّ إليّ من بعض ولدي) (¬1)، قال عمر ذلك لأنه لا يملك قلبه .. لقد أهداه إلى أحب الخلق إليه .. بعد أن أهداه إلى خالقه .. قلب عمر ليس ملكًا له .. ولذلك أحب وهبًا بعد أن كان كالخنزير أمامه. متى أهدى عمر قلبه أهدى عمر قلبه عندما كان يمشي مع حبيبه - صلى الله عليه وسلم - يحمله الشوق .. يحمله الحب .. فالتفت نحو ذلك الحبيب فباح له بحب عظيم: يقول الصحابي عبد الله بن هشام: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن .. والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الآن يا عمر) (¬2). تنازل عمر عن قلبه وعن نفسه .. فتماهى هواه وقلبه بحب الله ورسوله .. فعاش عمر مأخوذًا. بمراد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ¬

_ (¬1) سنده قوي وقد مر معنا تحت عنوان: شبح على أرض أحد. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (6632).

دعوني أحدثكم عن الحب

دعوني أحدّثكم عن الحب دعوني أحدثكم عن رجك كان يدخل البهجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. كان يضحكه .. أُتي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو سكران .. شرب الخمرة بعد أن لعن شاربها .. وعاصرها .. وحاملها .. والمحمولة إليه .. وبائعها .. ومشتريها .. وآكل ثمنها .. ومعتصرها .. وساقيها .. ولعنت هي قبل ذلك .. أُتي بذلك الرجل لمدعو "عبد الله" فجلده الصحابة .. ثم أتي به فجلد .. لكن ما علاقة ذلك بالحب .. ؟ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن رجلًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه: عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأمر به فجلد، قال رجل من القوم: اللهمّ العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنوه، فوالله ما علمته إلَّا يحب الله ورسوله) (¬1)، فحبّه لله ورسوله حماه من اللعن .. وليس إقامة الحد عليه .. هذا ما صرّح به النبي - صلى الله عليه وسلم - .. الخمرة تغلي في بطنه ورأسه ومع ذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فوالله ما علمته إلَّا يحب الله ورسوله ..) لكن هواه غلبه فهوى .. والإِسلام لا يلغي نقاط الضعف لدى الإنسان ولا يتجاهلها .. لكنه لا يبالغ في وصفها ووصف المعاناة منها .. الإِسلام يقف أمامها ريثما يرفع ذلك المنحدر عنها .. ريثما يضمد جراحه وعواطفه من سنانها .. ثم ينفث فيه من جديد حب الانطلاق والتجديد والتشييد .. لقد كان ذلك الصحابي يمازح النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (6780) وابن حزم (13/ 417) واللفظ له، لفظ البخاري: فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله. والمعنى واحد.

تعالوا أحدثكم عن الحب والرحمة

ويرغمه على الابتسام والضحك: (لقد كان يهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - العكة من السمن، والعكة من العسل، فإذا جاء صاحبها يتقاضاه، جاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: يا رسول الله: أعط هذا ممّن متاعه، فما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يبتسم ويأمر به فيعطى، فجىء به يومًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شرب الخمر، فقال رجل: اللَّهم العنه ما أكثر ما يؤتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله) (¬1) .. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في قصة مماثلة عندما قال بعض الصحابة لأحد الذين شربوا الخمر: (أخزاك الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا هكذا، ولا تعينوا الشيطان عليه، ولكن قولوا: رحمك الله) (¬2). هذا هو الحب في الله .. وهذا هو الحب في الإِسلام .. وهذه هي الرحمة عند المؤمن الذي يحب الله ورسوله .. هذه هي العلاقة الحقّة بين المؤمنين .. فـ: تعالوا أحدّثكم عن الحب والرحمة في قصة أشد تأثيرًا على النفوس .. قصة قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه أبو يعلى (1/ 161) حدثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر .. أسلم مخضرم وابنه ثقة وعبد الله بن نمير وابنه ثقات أما هشام فحسن الحديث إذا لم يخالف فهو صدوق له أوهام _ومن ليس له أوهام .. وهو من رجال مسلم- التقريب (2/ 318). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (6771) والبيهقيُّ (8/ 312) واللفظ له.

يا هزال لو سترته بثوبك

يا هزال لو سترته بثوبك ها هو ابن هزال .. حدثنا يا نعيم ما هو ذلك الشيء الذي تمنى - صلى الله عليه وسلم - لو ستره والدك بثوبه .. أو من هو؟ قال نعيم رضي الله عنه: (كان ماعز بن مالك في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك - وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج، فأتاه، فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم عليّ كتاب الله "يا رسول الله طهّرني. فقال: ويحك ارجع، فاستغفر الله وتب إليه. فرجح غير بعيد ثم جاء، فقال: يا رسول طهّرني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويحك ارجع، فاستغفر الله وتب إليه. فرجح غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهّرني. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": إنك قد قلتها أربع مرات، فيمن؟ قال: بفلانة. "فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: أشرب خمرًا؟ فقام رجل فاستنكهه (¬1)، فلم يجد منه ريح خمر". قال - صلى الله عليه وسلم -: هل ضاجعتها؟ قال: نعم، قال: هل باشرتها؟ قال: نعم. قال: هل جامعتها؟ قال: نعم [قال - صلى الله عليه وسلم -: فهل أحصنت؟ (¬2) قال: نعم] فأمر ¬

_ (¬1) أي شمه. (¬2) بالزواج.

به أن يرجم، فلما رجم، فوجد مسّ الحجارة جزع، فخرج يشتدّ (¬1) "واشتددنا خلفه" فلقيه عبد الله بن أنيس وقد أعجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير (¬2) فرماه به، فقتله، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له. فقال: هلَّا تركتموه، لعله يتوب، فيتوب الله عليه. "فكان الناس فيه فرقتين: قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، إنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة. فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم جلوس، فسلّم، ثم جلس، فقال: استغفروا لماعز بن مالك، فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم") (¬3). لله حدود يجب تنفيذها .. دون مجاملة أو مداهنة .. وللنبي - صلى الله عليه وسلم - حدود لا يستطيع تجاوزها .. فتح - صلى الله عليه وسلم - لماعز أكثر من عشرة أبواب .. أشرعها ليهرب منها .. لكنه أصرّ على تنفيذ حدّ الله فيه .. فعل - صلى الله عليه وسلم - ما ¬

_ (¬1) يركض هاربًا. (¬2) عظم الساق أو الذراع. (¬3) سنده صحيح رواه أحمد (5/ 217) وأبو داود (4419) وما بين الأقواس لمسلم، وما بين المعقوفين للبخاري .. وسند أحمد وأبي داود هو: حدثنا وكيع حدثنا هشام بن سعد أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال: ونعيم صحابيّ وابنه قال عنه الحافظ: مقبول والصواب أن يقول: صدوق فقد وثقه العجلي توثيقًا لفظيًا فقال: ثقة، وهو من رجال مسلم .. ولا أدري لماذا ضعف الإمام الألباني كلمة لعله أن يتوب .. وهي من هذا السند.

يمكنه أن يفعله لماعز .. ثم نفذ حكم الله فيه .. ومازال في صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز الكثير الكثير .. توجّه - صلى الله عليه وسلم - بحديثه نحو الرجل الذي أشار على ماعز بالاعتراف .. فهل شكره على فعله ذلك .. الإجابة رحمةً كالعادة .. فما محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إلَّا رحمة مهداة .. التفت - صلى الله عليه وسلم - بحديثه إلى هزال معاتبًا وقال له كلمة كالحزن: (يا هزال لو كنت سترته بثوبك كان خيرًا مما صنعت به) (¬1) (لو كنت سترته بثوبك كان خيرًا لك) (¬2)، لم يقل - صلى الله عليه وسلم -: لكان خيرًا لماعز رضي الله عنه .. بل قال: خيرًا لك أنت يا هزال .. أنت أيها المبلغ .. ولك أنت أيضًا أيها المتلذّذ بفضح المستترين .. بدعوى الغضب لله ورسوله .. ومن أراد أن يمنح لنفسه حق اختراق جدران الآخرين وحريتهم المستورة.، فإن عمر ابن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما يقدمان له درسًا متحضرًا .. يقول: (عبد الرحمن بن عوف: أنه حرس ليلة مع عمر بن الخطاب، فبينما هم يمشون، شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، حتى إذا دنوا منه، إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر - وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف: أتدري بيت من هذا؟ قلت: لا قال: "هذا بيت" ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ قال عبد الرحمن بن عوف: أرى أنا قد أتينا ما نهنا الله "عنه قال الله تعالى": {وَلَا تجَسَّسُواْ}. فقد تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم) (¬3) لكن كم هو حجم ذلك ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (5/ 217) وأبو داود (4419) وهو الحديث السابق. (¬2) صحيح الجامع الصغير (2/ 1323). (¬3) سنده صحيح رواه عبد الرزاق (10/ 231) والبيهقيُّ (8/ 333) وابن حبان في الثقات (4/ 267) والحاكم (4/ 419) عن الزهريّ حدثنا زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسرر بن مخرمة أخبره أن عبد الرحمن بن عوف أخبره .. وزرارة تابعي ثقة -التقريب (1/ 260) والمسور صحابي رضي الله عنهم جميعًا.

المقارنة بين العرض وغيره

الخير الذي يحصل عليه من ستر على مسلم .. وحافظ على نقاء صورته أمام المجتمع .. (من ستر أخاه المسلم ستره الله في الدنيا والآخرة) (¬1)، ولما (أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا. فقال عبد الله: إنا قد نهينا عن التجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) (¬2) لـ (أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) (¬3) والإِسلام لا يريد إفسادهم .. ولا أذيّتهم .. هذه بعض حقوق الإنسان -أي إنسان- في الإِسلام .. دمه وماله وعرضه مكفولة الحماية .. بل إن الدهشة لتحاصر المرء عندما يعلم فداحة الجرم الذي يرتكبه أولئك السابحون في أعراض إخوانهم .. المنقّبون عن عيوب الناس لينشروها .. إليك هذه: المقارنة بين العرض وغيره قال - صلى الله عليه وسلم - في قليل الربا: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشدّ عند الله من ستة وثلاثين زنية) (¬4). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ وأبو داود (4946) وابن حبان (534) واللفظ له. (¬2) حديث صحيح رواه أبو داود (4890) والحاكم (8135) والبيهقيُّ في السنن (8/ 334) والطبرانيُّ (9/ 350) من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: قيل لابن مسعود .. وزيد ثقة مخضرم .. والحديث صححه الإمام الألباني (1/ 277). (¬3) حديثٌ حسنٌ رواه (أبو داود- 4889) وابن أبي عاصم في الآحاد (5/ 303) والحاكم (4/ 419) والطبرانيُّ (8/ 108) وغيرهم عن إسماعيل بن عياش وهو صحيح الرواية عن أهل بلده عن ضمضم بن زرعة وهو حسن الحديث إذا لم يخالف وهو حمصي مثل إسماعيل، عن شريح بن عبيد وهو حمصى تابعي ثقة عن صحابيين وهو لم يسمع منها وعن مخضرمين وتابعي كبير .. لكن له شاهد عند البخاري في الأدب (248). (¬4) حديث صحيح .. صحيح الجامع (636).

خطر قادم من قبيلة بني المصطلق

وقال في أقلّ الربا: (أهون الربا كالذي ينكح أمّه) (¬1). ترى ما هو الذنب الذي يعادل أشدّ الربا إذا كان أهونه يعادل ذلك الفعل الشنيع والجريمة القذرة: الإجابة التي تذهل المسلم هي في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أربى الربا شتم الأعراض) (¬2) (أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه) (¬3). فلنعد إلى أقدس الأعراض والدماء .. عرض محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ودمه .. الذي كان وهب بن عمير قبل قليل يريد نثره على طرقات المدينة .. لكنه عاد إلى مكّة بغير القلب الذي جاء به .. عاد إلى مكة يحمل الحب والإيمان وعمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. عاد وهب مسلمًا .. لكن فعله قبل أن يسلم أثار لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حالة اليقظة والحذر .. فقد يكون هناك أكثر من مشروع لتصفية النبي - صلى الله عليه وسلم - جسديًا .. وقد صدق التوقع .. وأفاد الحذر .. تسرّبت الأخبار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خطر قادم من جهة مكة .. لكنه ليس من قريش .. خطر قادم من قبيلة بني المصطلق وبنو المصطلق قبيلة عربية تسكن قرب مكة .. في المنطقة الواقعة ما بين مكة والمدينة .. وقد أراد - صلى الله عليه وسلم - استغلال واستثمار الوقت بمفاجأة تلك القبيلة قبل أن تتحرّك ويتكامل استعدادها .. أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يباغتها بضربة سريعة تشلّها .. لأن أي تأخير قد يضاعف من خطر تلك القبيلة .. وذلك لقربها من عدو النبي - صلى الله عليه وسلم - الأول "قبيلة قريش" .. أي تأخير يعني مزيدًا من ¬

_ (¬1) حديث صحيح .. صحيح الجامع (496). (¬2) حديث صحيح .. صحيح الجامع (212). (¬3) حديث صحيح .. صحيح الجامع (496).

غزو بني المصطلق

الأعوان والعتاد والخطر .. فمباغتة ذلك الجيش الوثني وهو مسترخٍ على أرضه هو أسرع الطرق وأيسرها للقضاء عليه وإراحة المدينة من خطره .. استعد - صلى الله عليه وسلم - يحيش قوي لـ غزو بني المصطلق وقد انضمّ إلى هذا الجيش مجموعة من المنافقين .. على رأسهم كبير المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول -ربما- لشعوره بقوة جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وتأكده من هزيمة بني المصطلق. وقبل أن ينطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيشه ذلك أقرع بين سودة وعائشة وأم سلمة، وزينب، لتصحبه إحداهن في رحلته تلك: فالنبى - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) (¬1). القرعة تقع على عائشة وبعد إجراء القرعة خرج سهم عائشة الحبيبة .. لتصحب حبيبها - صلى الله عليه وسلم - في سفره ذلك .. تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه .. فلما كانت غزوة بني المصطلق، أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهنّ، فخرج بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه- وكان النساء إذ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه الشيخان رحمهما الله وسيأتي بقيته.

ذاك إنما يأكلن العلق (¬1)، لم يهيجهن اللحم فيثقلن (¬2)، وكنت إذ رحل بعيري (¬3) جلست في هودجي (¬4)، ثم يأتي القوم الذين يرحلون بي بعيري، ويحملوني، فيأخذون بأسفل الهودج، يرفعونه فيضعونه على ظهر البعير، فينطلقون به) (¬5) (وذلك بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أُحمل في هودجي، وأنزل فيه، فسرنا) (¬6) وانطلق الجيش، وانطلقت الهوادج تتمايل عبر الصحاري والقفار .. وخلال الأودية والشعاب .. تتمايل بعائشة ورفيقاتها رضي الله عنهن .. كما تتمايل القلوب بصوت حادي العيس أنجشة .. ذلك الصوت العذب .. الذي يأخذ الأسماع .. وربما أخذ الإبل أيضًا .. سمع - صلى الله عليه وسلم - ذلك الصوت الشجي في بعض أسفاره .. فخاف على أجساد النساء وقلوبهن .. يقول أنس رضي الله عنه: (كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاد حسن الصوت "غلام أسود يقال له أنجشة، يحدو، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنجشة، رويدك سوقًا بالقوارير" رويدًا يا أنجشة لا تكسر القوارير) (¬7)، كان - صلى الله عليه وسلم - من الرقّة والذوق .. بحيث لا يلهيه هدفه العسكري والخطر الذي يكمن له عن تفقد رفاقه والعناية بهم .. لدرجة أنه (كان يتخلّف في المسير، فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو لهم) (¬8). ¬

_ (¬1) الطعام اليسير. (¬2) التهييج هو الورم من الشحم. (¬3) أي جهز للرحيل. (¬4) الهودج هو ما تجلس داخله النساء مثبتًا فوق ظهر البعير. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ وابن إسحاق وهذا لفظ ابن إسحاق. (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (4141) ومسلمٌ (2770) وأحمدُ (6/ 194) واللفظ له. (¬7) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ (2323) واللفظ له. (¬8) سنده رواه أحمد (2/ 126) حدثني إسماعيل بن علية حدثنا الحجاج بن أبي عثمان عن أبي =

ويدعو أنجشة أن يخفّف من سيره حتى لا تتعب أجساد النساء الرقيقة .. وكان وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء بـ (القوارير) منتهى الذوق والرقّة .. فالقوارير ناعمة وجميلة .. وتحتاج إلى عناية فائقة .. وأماكن تليق بها وبرقّتها وجمالها .. والمرأة هي الرقّة والجمال والفتنة .. تحتاج إلى مستوى رفيع من التعامل والملاطفة بالقول والفعل .. وهو ما فعله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال - صلى الله عليه وسلم - لأنجشة: (ويحك يا أنجشة .. رويدًا بالقوارير) (¬1). وها هو - صلى الله عليه وسلم - يحاول طرد الملل والسأم عن نفس حبيبته عائشة .. في ذلك السفر. لقد أمر - صلى الله عليه وسلم - فرسانه الشجعان بالتقدّم .. ثم نادى حبيبته وطلب منها أن تتأخر معه .. فالسفر طويل وشاق .. ولا بأس ببعض اللهو يدخل البهجة ويجدّد النشاط .. فماذا طلب منك الحبيب يا ابنة الصديق؟ تقول رضي الله عنها: (إنها كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر -وهي جارية- فقال لأصحابه: تقدموا. فتقدّموا، ثم قال: تعالي أسابقك. فسابقته، فسبقته على رجلي) (¬2). ¬

_ = الزبير أن جابر حدثهم .. وهنا صرح أبو الزبير بالسماع .. وتلميذه ثقة حافظ -التقريب (1/ 53) وإسماعيل مثل شيخه- التقريب (1/ 65). (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (2323). (¬2) حديث صحيح رواه النسائي في الكبرى (5/ 304) عن هشام عن رجل عن أبي سلمة عن عائشة وهذا السند فيه جهالة، لكن هشام رواه عن أبيه عن عائشة عند أحمد (6/ 264) وعند النسائي أيضًا في الكبرى (5/ 304).

إغارة كالبرق

لا بدّ أن هذا الفوز أسعد عائشة وأضحكها .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تقبّل الخسارة بروح طيبه .. لكنه يضمر لعائشة ثأرًا وسباقًا آخر قد ينتصر عليها فيه .. وصل الجيش إلى أراضي بني المصطلق .. فكانت: إغارة كالبرق فوجئ بها القوم وصعقوا .. وحدث قتال غير متكافئ لهول المفاجأة، لأن (النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقي الماء، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم) (¬1)، فكسرت شوكة بني المصطلق، وبدأت جذوة قريش والشرك تخبو في نفوسهم بعد أن رأوا (مائة أهل بيت) (¬2) وأكثر يساقون سبايا نحو المدينة .. وكان من هؤلاء السبايا شابة هي ابنة زعيم بني المصطلق واسمها (جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه) (¬3) (وكانت امرأة حلوة، ملاحة، لا يراها أحد إلَّا أخذت بنفسه) (¬4). سارت جويرية والألم يعتصر قلبها .. وهي تساق جارية بعد أن كانت سيدة نساء قومها .. أحسّت بفداحة الجرم الذي ارتكبه زعماء قبيلتها في حقّها وحق مائة بيت اقتيدوا نحو المدينة .. ورغم حسن المعاملة .. ولطف العناية التي حظي بها هؤلاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. إلَّا أن للوطن والأهل حبًا زرعه الله في قلب الإنسان .. وقد أثار هذا الذلّ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2541). (¬2) سنده صحيح عند ابن إسحاق وسيأتي تخريجه عند نهاية القصة. (¬3) سنده صحيح عند ابن إسحاق وسيأتي تخريجه عند نهاية القصة. (¬4) سنده صحيح عند ابن إسحاق وسيأتي تخريجه عند نهاية القصة.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يسبق عائشة

الذي أصاب جويرية وقومها ذلك الشوق والحنين إلى تلك المرابع .. رغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يكرمون أسراهم .. (ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا) .. رغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يؤثرون الأسرى بالطعام الجيد على أنفسهم إلَّا أن قطرات الذلّ تفسد أشهى الأطباق .. وهو ذلّ جلبه الشرك لبني المصطلق .. فلولا استعدادهم وإعدادهم للهجوم على المدينة وأهلها لما أصابهم ما أصابهم .. كان بنو المصطلق يحلمون بسبايا المدينة يقتادونها نحو مرابعهم .. يحلمون بدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ودعوته .. لكن الله ردّ كيدهم في نحورهم .. وها هي بيوتهم وأحلامهم قد خلت منهم .. وها هو جيش محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يعود إلى المدينة بهم .. وفي الطريق يتوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتوقف جيشه للاستراحة قرب المدينة .. فتنبث الجموع هنا وهناك .. ومع حلول الليل تتلاشى تلك الحركة .. وبعد أداء صلاة العشاء يأوي كل إلى فراشه .. ويقوم من يقوم منهم في سياحة مع الله وصلاة .. وكان أحد أفراد الجيش واسمه: صفوان بن معطل متأخرًا عن الجيش -ربما بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكون عينًا خلفية للجيش ونذيرًا لهم إذا ما لحق بهم أحد أو هاجمهم من الخلف .. وبعد منتصف الليل أمر - صلى الله عليه وسلم - جيشه بالحركة نحو المدينة .. النبي (صلى الله عليه وسلم) يسبق عائشة لكن دون سباق .. دون ركض .. دون ابتسامات وضحكات .. سبق النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة في قصة تفيض بالأحزان والدموع والبراءة .. تحرك الجيش ولم تتحرك عائشة .. وأشرقت الشمس والأحزان على ذلك الموقع فلم تجد فيه سوى فتاة صغيرة منكسرة .. أضاعت عقدها وهودجها .. ورحل عنها حبيبها ووالدها وصويحباتها .. أشرقت الشمس والأحزان على عائشة ..

ووصل صفوان بن معطل ليجد ذلك الحزن في طريقه .. ليحمله إلى بحر أسود من الأحزان والهموم .. بحرٌ تقول عنه عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه .. فأقرع بيننا في غزوة غزاها "غزوة بني المصطلق"، فخرج فيها سهمى، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، مسيرنا "وكنت إذا رحل بعيري، جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين يرحلون هودجي في بعيري، ويحملوني، فيأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه، فيضعونه على ظهر البعير، فيشدّونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير، فينطلقون به"، حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوه، وقفل، ودنونا من المدينة، "نزل منزلًا، فبات فيه بعض الليل، ثم" آذن (¬1) ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقدي من جزع ظفار (¬2) قد انقطع "انسلّ من عنقي ولا أدري" فرجعت، "عودي على بدئي إلى المكان الذي ذهبت إليه" فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط (¬3) القوم الذين كانوا يرحلون لي، فحملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذا ذاك خفافًا، لم يهبلهن (¬4) ولم يغشهن اللحم "لم يهيجهن (¬5) ¬

_ (¬1) أعلنوا الاستعداد للرحيل. (¬2) خرز من مدينة ظفار. (¬3) هم الرجال أقل من عشرة. (¬4) يمتلئن بالشحم واللحم. (¬5) التهييج هو الورم من الشحم أو المرض.

اللحم فيثقلن"، إنما يأكلن العلقة (¬1) من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنن (¬2) الجمل وساروا، "ولم يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به"، ووجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش، "ورجعت إلى العسكر"، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فتيمّمت (¬3) منزلي الذي كنت فيه "فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني الذي ذهبت إليه" وظننت أن القوم سيفقدوني، فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، "فوالله إني لمضطجعة، إذ مرَّ بي صفوان بن المعطل السلمي" وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرّس من وراء الجيش "قد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته، فلم يبت مع الناس في العسكر" فأدلج (¬4)، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ، "فلما رآني، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أظعينة رسول الله! وأنا متلفّفة في ثيابي". فاستيقظت باسترجاعه (¬5) حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه (¬6)، حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها "واستأخر عني، فركبت وجاء فأخذ برأس البعير"، فانطلق يقود بي الراحلة "سريعًا يطلب الناس، فوالله ما ¬

_ (¬1) الطعام اليسير. (¬2) وكان عمرها رضي الله عنها أنذاك بين الثالثة عشر والرابعة عشر. (¬3) قصدته وذهبت إليه. (¬4) سار أخر الليل. (¬5) قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. (¬6) قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.

مهلا يا أماه

أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودني" حتى أتينا الجيش. بعدما نزلوا موغرين في نحو الظهيرة (¬1)، "فقال أهل الإفك فيَّ ما قالوا، فارتجّ العسكر" فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولّى كبره (¬2) عبد الله بن أبي بن سلول، "ووالله ما أعلم بشىء من ذلك" فقدمنا المدينة ..) (¬3). مهلًا يا أمّاه ما هو الإفك ومن هم أهله .. وما هي الفرصة التي غرز فيها هذا المنافق أنيابه ونفث فيها سمومه .. عندما رأى المنافقون عائشة الصغيرة .. عائشة الطاهرة المسكينة على راحلة صفوان بن المعطل رضي الله عنه .. رقصت الفتنة في قلوبهم .. وتراقص الشيطان بينهم .. وطالت أنيابهم تنهش أطهر الأعراض .. عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - .. انطلقت ألسنتهم في جرأة وقحة .. في حقد متربّص تتهم عائشة النقية بالزنا .. وتتّهم صفوان البريء بعائشة رضي الله عنها .. عاصفة من الحقد والتشفّي أطلقها المنافقون .. وعاصفة أخرى للنفاق معها علاقة .. عاصفة كادت أن تدفن الجيش وهو يقترب من المدينة .. عاصفتان ونفاق العاصفة الأخرى يحدّثنا عنها جابر رضي الله عنه، فيقول: ¬

_ (¬1) شدة حر الظهيرة. (¬2) أي صاحب النصيب الأكبر في إشاعة الإفك ونشره. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم والزوائد لابن إسحاق.

توزيع الغنائم .. توزيع الرحمة

(إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب، فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثت هذه الريح لموت منافق، فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات) (¬1). فرح النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بهلاك ذلك الطاغوت .. ذلك الكهف الذي تتسلّل إليه الأفاعي والعقارب الآدمية إلى تعيش بين المؤمنين وتتكلّم بألسنتهم وتتظاهر أمّا منهم .. وفرح - صلى الله عليه وسلم - بقدوم عائشة .. وفرحت عائشة بحبيبها وهي لا تعلم .. وهو لا يعلم ما تتلقّفه ألسنة المنافقين من جريمة .. وبعد الوصول قام - صلى الله عليه وسلم - بـ: توزيع الغنائم .. توزيع الرحمة عائشة المسكينة البريئة .. التي تلوك عرضها ألسنة المنافقين وهي لا تعلم شيئًا عن ذلك حتى الآن .. عائشة التي أتعبها السفر .. فانهار جسمها الضعيف على فراش المرض .. تحدّثنا عن معاناة لها مع توزيع الغنائم والسبايا، فتقول: (لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عمة له، فكاتبته على نفسها (¬2)، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلَّا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تستعينه في كتابتها. قالت عائشة: فوالله ما هو إلَّا أن رأيتها على باب حجرتي، فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها - صلى الله عليه وسلم - ما رأيت، فدخلت عليه) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم -صفات المنافقين (2782). (¬2) أي يحررها مقابل مال تدفعه له. (¬3) سنده صحيح انظر: تخريجه في نهاية القصة.

دخلت فدخلت الرحمة على قومها

دخلت فدخلت الرحمة على قومها تقول عائشة رضي الله عنها في حديثها عن جويرية: (فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله .. أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من النبلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس، أو لابن عمٍ له، فكاتبته على نفسي (¬1)، فجئتك أستعينك على كتابتي. قال - صلى الله عليه وسلم -: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: أقضى عنك كتابتك وأتزوّجك. قالت: نعم .. يا رسول الله، قد فعلت. قالت عائشة: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تزوّج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار. فقال الناس: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرسلوا ما بأيديهم (¬2). قالت عائشة: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها) (¬3)، وما أعلم أحدًا أعظم بركة ¬

_ (¬1) أي يحررها مقابل مال تدفعه له. (¬2) حرروهم وأطلقوهم. (¬3) سنده صحيح رواه ابن إسحاق وغيره من طريقه: حدثني محمَّد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة، محمَّد ثقة من رجال التقريب (12/ 150) وعروة مر معنا كثيرًا.

عليها وعلى قومها وعلى الناس جيعًا من محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. لقد وجدت في رحمته وسماحته مكانًا لمطالبها الصعبة .. فهي أسيرة عنده .. ومع ذلك تطلب منه أن يعينها للفكاك بماله .. فيأخذ بيديها .. ويشرع لها بابًا يطل على كنوز الدنيا والآخرة .. وهل هناك كنز في الدنيا أعظم لها من أن تكون شريكة حياته - صلى الله عليه وسلم - .. وهل هناك كنز في الآخرة إلَّا كنوز الجنّة .. لم تقتصر بركته - صلى الله عليه وسلم - على تلك الكريمة الجميلة .. لقد كانت بركة كالشمس ينساب شعاعها على أكثر من مائة بيت من بني المصطلق .. فانطلقوا في دفئها وشعاعها يحملون الحرية والعرفان للنبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام .. وفي وسط تلك الأجواء الاحتفالية .. كانت عائشة تحسّ بآلام السفر والإعياء الشديدين .. سقطت بعد أيام قليلة في فراشها .. وطال رقادها على فراشها وأنينها .. لكن ألمها ازداد عندما أحست بجفوة غريبة من النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أحسّت بتغيّر معاملته لها .. وهي التي تعوّدت منه الرقّة واللطف .. خاصة عندما تكون مريضة .. حيث يتدفق عليها - صلى الله عليه وسلم - يغمرها بكلماته ولمساته الحانية المحبة .. تقول عائشة رضي الله عنها: (فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرًا والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى، "أنكرت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض لطفه بي، كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك في شكواي تلك، فأنكرت منه" إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "عليَّ وأمي تمرّضني" فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم؟ "لا يزيد في ذلك" ولا أشعر بالشر) (¬1). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (2770) واللفظ له والبخاريُّ (4141) والزوائد لابن =

شهر من المعاناة

شهر من المعاناة وعائشة لا تدري عما يدور حولها .. لقد تطاول المنافقون على حصنها المنيع .. حاولوا تشويهه .. قذفوا عائشة بالزنا .. وأرجفوا في البلاد .. فارتّجت المدينة .. ووصل الخبر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فتكدّر لإلقاء التهم جزافًا على مسلمة طاهرة .. هي زوجته وأحب الناس إليه .. وتأثر بتلك الشائعة أناس مؤمنون .. وضعفوا أمام لغط المنافقين .. وهم بشر كبقية البشر .. ولكل إنسان هفوات وأخطاء .. تلقف ثلاثة من المؤمنين الإفك، فاتهموا عائشة الطاهرة .. الذين رموا عائشة بالزنا من المؤمنين ثلاثة أشخاص .. رجلان وامرأة .. ثلاثة أشخاص لا تحوم حولهم شبه النفاق .. لكنهم يظلّون بشرًا ناقصين .. معرّضين للإثم والخطأ في كل لحظة وثانية .. أما الرجل الأشهر منهم فهو شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يؤيّده روح القدس في أشعاره التي دافع بها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. حسان بن ثابت .. والآخر رجل من أهل بدر وقد (اطّلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) (¬1) واسمه: مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب .. وقد كان أبو بكر الصديق ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره .. ومع ذلك حدث منه ما حدث .. أما المرأة فهي أخت زينب بنت جحش واسمها: حمنة .. ولا أدري ما هو دافع الرجلين .. أما حمنة فكان دافعها الحمية لأختها زينب التي كانت تنافس عائشة في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أما رأس الحية وسمّها ومنبع قيح الإفك فهو زعيم المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول الذي ذهب ¬

_ = إسحاق وقد مر معنا. (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3007) ومسلمٌ (2494).

متى علمت عانشة بالإفك

يزرع المدينة .. شوارعها ومجالسها .. بلسانه المتعفّن .. حوله الحقد إلى رجل بلا قيم .. بلا أخلاق .. رجل لا يحترم مكانته بين قومه .. رجل فقد عقله فأصبح كالأبله لا همّ له ولا شأن سوى عائشة الصغيرة .. يتشفّى بذكرها واتّهامها .. بعد أن فقد الأمل في الحصول على زعامة أو حتى مكانة محترمة في المدينة .. بعد أن أحرقته عيون أهلها باحتقار شأنه .. والتقزّز منه ومن مجالسه وجلسائه .. الذين هم خليط من عفن الشرك واليهود والخونة .. هذا هو ابن سلول وهذه هي عقيلته الصغيرة .. فهو الذي تولّى كبر الإثم ومعظمه .. لكن: متى علمت عانشة بالإفك تقول رضي الله عنها: (كان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرًا، "اشتكيت شكوى شديدة، لا يبلغني شيء من ذلك، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أبوي، ولا يذكران لي من ذلك قليلًا ولا كثيرًا" والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني، ولا أشعر بالشر "كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك في شكواي تلك، فأنكرت منه، وكان إذا دخل علىّ وأمي تمرضني قال: كيف تيكم؟ لا يزيد على ذلك، حتى وجدت نفسي مما رأيت من جفائه عني، فقلت له: يا رسول الله .. لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني؟ قال: لا عليك. فانتقلت إلى أمي ولا أعلم بشيء مما كان"، حتى خرجت بعدما

نقهت (¬1)، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (¬2) وهو متبرزنا، ولا نخرج إلَّا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف (¬3) قريبًا من بيوتنا، وأمرنا العرب الأول في التنزّه (¬4)، وكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح ابن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها (¬5)، فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت .. أتسبّين رجلًا قد شهد بدرًا [أي أم، تسبين ابنك؟ وسكتت، ثم عثرت الثانية، فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح. فانتهرتها. فقالت: والله ما أسبّه إلَّا فيك. فقلت: في أي شأني؟] قالت: أي هنتاه! أوَلم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني يقول أهل الإفك [فبقرت لي الحديث (¬6). فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم والله]. ¬

_ (¬1) فترة النقاهة هي الأيام الأولى للشفاء من المرض حيث عادت إلى بيتها. (¬2) مكان خارج المدينة. (¬3) المكان الساتر. (¬4) الخروج للنزهة في الصحراء. (¬5) ثوبها وهو كساء من الصوف. (¬6) أي فصلت الحديث وسردته.

فازددت مرضًا إلى مرضى، فلما رجعت إلى بيتي، "فمازلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع قلبي"، فدخل علىّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: كيف تيكم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي .. وأنا أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أبوي [فأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فوجدت أم رومان (¬1) في الأسفل، وأبا بكر فوق البيت يقرأ. فقالت أمي: ما جاء بك يا بنية؟ فأخبرتها، وذكرت لها الحديث وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني] فقلت لأمي: يا أمتاه .. ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هونّي عليك [خفضني عليك الشأن]، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة [حسناء] عند رجل يحبها، ولها ضرائر إلَّا كثرن (¬2) عليها، [إلَّا حسدنها وقيل فيها، وإذا لم يبلغ منها ما بلغ مني. قلت: وقد علم به أبي؟ قالت: نعم. قلت: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: نعم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: سبحان الله، وقد تحدث الناس بهذا؟ "تحدث الناس بما تحدّثوا به وبلغك ما بلغك، ولا تذكرين لي من ذلك شيئًا" [واستعبرت وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي -هو فوق البيت يقرأ- فنزل، فقال لأمي: ما شأنها؟ قالت: بلغها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، قال: أقسمت عليك أي بنية إلَّا رجعت إلى بيتك، فرجعت]. ¬

_ (¬1) هي أم عائشة رضي الله عنها. (¬2) أي أكثرن من ذكرها بما يعيبها.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل زينب

فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع (¬1)، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي) (¬2). أفاقت عائشة من مرضها على مرض أشدّ .. أفاقت رضي الله عنها والعالم ينهار على رأسها .. بكت بكاءً مرًا حتى أحرق البكاء كبدها .. أما النبي الحزين الحائر - صلى الله عليه وسلم - فالوحي لم ينزل عليه حتى الآن .. والإشاعات تحاصره وتخنق أنفاس حبيبته .. اجتهد - صلى الله عليه وسلم - اجتهاد البشر .. فاستدعى عليًا وابنه أسامة بن زيد بن محمَّد .. فقد ضاق به الحال وتأذى كثيرًا وهو يسمع المنافقين يلوكون عرضه الطاهر ليل نهار .. فهل هناك نهاية لهذا الأمر .. إلى أين يأخذه الحزن .. إلى أين تأخذه قدماه الشريفتان .. ؟ توجّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد أبياته .. إلى بيت زينب بنت جحش رضي الله عنها بالتحديد .. ليسألها عن عائشة .. فهي التي تنافسها من بين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فلعلّها تقول شيئًا يزيل حيرته - صلى الله عليه وسلم - .. ثم إن أخت زينت "حمنة" كانت من الذين قذفوا عائشة الطاهرة بالزنا .. النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل زينب وزينب كالمطر .. ستقول الحقيقة .. ولن تأبه بحمية أختها لها .. وغيرتها من عائشة .. تقول عائشة: إن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل زينب بنت جحش- زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمري: ما علمت أو ما رأيت؟ ¬

_ (¬1) أي أن دمها لم يتوقف تلك الليلة ولم يغش النوم عينها. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (2770) والزوائد بين الأقواس الصغيرة عند ابن إسحاق .. وما بين المعقوفين عند البخاري (4141).

فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلَّا خيرًا. قالت عائشة: وهي التى كانت تساميني (¬1) من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعصمها الله بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك) (¬2) (وكان الذي يتكلم به فيه: "مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، والمنافق عبد الله بن أبي بن سلول" وهو الذي كان يستوشيه (¬3)، ويجمعه، وهو الذي تولّى كبره (¬4) منهم هو وحمنة) (¬5)، التي لم تكن تعرف النفاق .. لكنها الغيرة إلى تورد من يبقيها بين أضلاعه موارد الضياع والهلاك .. والهوى يعمي ويصم .. والصحابة بما فيهم حمنة وحسان ومسطح بشر غير معصومين .. أما نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقد توجهت به الهموم إلى مزيد من التساؤل والاستشارة .. فقد آذاه ابن سلول في أهله وصاحبه .. وقد تجاوز أذاه كل الحدود. النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشير ويسأل عن حل تقول عائشة رضي الله عنها: (ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين ¬

_ (¬1) تنافسني. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم -التوبة. (¬3) ينشره ويحث غيره على نشره وإشاعته. (¬4) معظمه. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري والزيادة للطبراني (23/ 110).

استدعاء بريرة

استلبث الوحي (¬1)، يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود. فقال: يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلَّا خيرًا "وهذا الكذب والباطل". وأمّا علي بن أبي طالب فقال: "يا رسول الله" لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، "وإنك لقادر على أن تستخلف" وإن تسأل الجارية تصدقك) (¬2)، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - برأي علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه في سؤال جارية عائشة واسمها "بريرة" .. ولم يأخذ رأيه بتطليقها الذي يلوح بين كلماته ليريحه من همّ التفكير والحرة التي طالت عليه - صلى الله عليه وسلم -. استدعاء بريرة تقول عائشة رضي الله عنها: (فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة، فقال: أي بريرة .. هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمرًا قط أغمصه (¬3) عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن (¬4) فتأكله) (¬5) (وانتهرها بعض أصحابه (¬6)، فقال: اصدقي ¬

_ (¬1) تأخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم واللفظ له والبخاريُّ والزوائد لابن إسحاق. (¬3) أعيبها به. (¬4) الشاة التي تألف البيت ولا تخرج للمرعى. (¬5) حديث صحيح رواه مسلم والزوائد لابن إسحاق. (¬6) هو علي بن أبي طالب .. وقد ورد أنه ضربها ضربًا شديدًا .. لكنني لا أستطع الجزم بصحة سند هذه العبارة .. فربما كانت من المراسيل التي عند ابن إسحاق.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أسقطوا لها به (¬1)) (¬2) (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لست عن هذا أسألك. قالت: فعمه .. فلما فطنت قالت: سبحان الله .. "والله" ما أعلم من عائشة إلَّا كما يعلم الصائغ من التبر (¬3) الأحمر) (¬4)، وماذا يعلم الصائغ من الذهب النقي قبل صياغته واختلاطه بغيره سوى النقاء .. كانت بريرة تتحدّث عن الصفاء .. عن الطهارة .. عن عائشة .. أمّا المنافقون فكانوا يتحدّثون قيحًا وصديدًا ينزّ من نفوسهم السوداء الحاقدة .. لكن ماذا عن البريء الآخر .. صفوان بن معطل ذلك الشاب الذي قُذف هو الآخر .. ولوّثه المنافقون بأنفاسهم الموبوءة .. تنامى إلى سمعه ما يقال عنه وعن أمّه عائشة .. فما زاد على كلمات تحدثنا عنها عائشة، فتقول: (وبلغ الأمر إلى ذلك الرجل الذي قيل له: فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كنف أنثى قط) (¬5). لكن عبد الله بن أبي بن سلول يصرّ على تشويهه والافتراء عليه ويتشهى بذكره وذكر أمّه عائشة في مجلسه حتى طفح الكيل .. فأغضب صنيعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فماذا فعل؟ .. ¬

_ (¬1) أي: صرحوا لها بالتهمة. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4757). (¬3) الذهب النقى الخالص. (¬4) سنده صحيح رواه الطبراني (23/ 106) وأبو يعلى (8/ 335) ومن طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. (¬5) هو بقية حديث البخاري (4141) ومسلمٌ (2770) واللفظ له.

رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخطب حزنا

رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يخطب حزنًا فبعد أن سمع - صلى الله عليه وسلم - رأي أقرب الناس من عائشة وأعلمهم بحالها .. خاصة أسامة وزينب وبريرة .. تحرك نحو منبره وجمع أصحابه يطلب منهم أن يعذروه .. أن ينصروه على ذلك المنافق الذي يبحث عن أي قذارة يلطخ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله وأصحابه. تقول عائشة رضي الله عنها: "فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه"، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، فاستعذر (¬1) من عبد الله بن أبي سلول. فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا (¬2) أهلي، ما علمت عليهم من سوء قط، وابنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط، ولا تغيب قط إلَّا وهو معي، ولا دخل بيتي قط إلَّا وأنا شاهد". يا معشر المسلمين .. من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلَّا خيرًا. ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلَّا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلَّا معي. فقام سعد بن معاذ الأنصاري (¬3)، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله (¬4)، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، ¬

_ (¬1) من يقوم بعذري ولا يلومني إن جازيته على فعله القبيح. (¬2) رموهم بخلق قبيح وقذفوهم بالزنا. (¬3) وهو سيد الأوس. (¬4) أي أنا أنصرك.

وإن كان من إخواننا الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج وكان رجلًا صالحًا، ولكن اجتهلته الحمية- فقال لسعد بن معاذ: كذبت .. لعمر الله، لا تقتله، ولا تقدر على قتله "أما والله أن لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم". فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت .. لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان: الأوس والخزرج "حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شرٌّ في المسجد"، حتى همّوا أن يقتتلوا) (¬1). تأزم الموقف .. ورقص الشيطان طربًا لما يحدث .. وتمايل قلب عبد الله ابن أبي بن سلول فرحًا بالمسافة التي وصلت إليها الأمور .. كلمة واحدة .. لا دليل عليها ولا برهان سوى الكذب .. أوصلت الأمور إلى حد كادت السيوف أن تُسلّ .. والدماء أن تغرق المسجد ومن فيه .. وتلك الكلمات التي تفوّه بها سعد بن عبادة رضي الله عنه .. في دفاعه عندما اجتهلته الحمية .. تلك الكلمة التي قيلت دفاعًا عن رأس المنافقين وخبيثهم في ساعة غضب وحمية .. كانت كلمات خطيرة جدًا .. كانت مليئة بالدماء .. قالها أحد عظماء الإِسلام ورجاله السابقين .. ولا تقل عنها في الخطورة تلك الكلمات التي أطلقها أسيد بن حضير رضي الله عنه غضبًا لله ورسوله .. وهو من عظماء الإِسلام ورجاله السابقين كسعد بن عبادة .. لكنه غضب لله ورسوله غضبًا جعله يصف ابن عبادة بالنفاق. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (2770) والزوائد للبخارى (4757).

تلك الكلمات التي انطلقت كالرصاص الطائش داخل المسجد كانت أمام سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصره .. أمام سمع نبي مجروح في عرضه وشرفه ومكانته وهو قائد هذه الأمة .. وفي بقعة هي من خير البقاع على وجه الأرض .. داخل المسجد النبوي الكريم .. موقفان خطيران .. حدثا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومازالت مشاهدهما تتكرّر في كل زمان .. موقفان يتجسدان أكثر ما يتجسدان بين الدعاة وبين العلماء .. بين من يحملون الإِسلام خطًا ومنهاجًا وإن تحوّرت القبيلة إلى جماعة في بعض المشاهد .. موقفان لا يمكن وصفهما إلَّا بالتطرف .. موقف من تجتهله الحمية وتقوده فينسى نفسه وحدوده .. وموقف من يغضب لله ومحارمه غضبًا ينسيه نفسه وحدوده .. فإذا غضبه يقتحم النوايا والقلوب والضمائر .. لا هذا يهم .. ولا ذاك .. لا موقف سعد بن عبادة رضي الله عنه ولا موقف أسيد بن حضير رضي الله عنه .. لأنها تسر وتفرح ابن أُبَيّ ومن معه .. أما نحن فأمامنا موقف هذا الواقف فوق منبره .. هذا النبي الذي لا ينطق عن الهوى .. صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم .. فهو الحكم والحكمة .. محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والبقية تبع لمحمد .. ماذا فعل بأبي هو وأمي .. وهو يحس بالمنايا تموج تنتظر السيوف والدماء .. لقد قتل الفتنة في مهدها .. وأعاد الطرفان إلى الصواب والحكمة .. فسعد بن عبادة ملء السمع والبصر .. وأسيد بن حضير ملء السمع والبصر .. لكنهما غاضبان .. والأمر لا يستحق أن تسفك من أجله

الدماء .. وما سفكت الدماء في مثل هذه المواقف إلَّا لغياب تلك الحكمة التي انطلقت من فوق منبره - صلى الله عليه وسلم -. تقول عائشة رضي الله عنها وهي تكمل حديثها: (همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا، وسكت. قالت عائشة: وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدى) (¬1). أمّا عائشة نفسها فقد كاد الحزن أن يهلكها ويفنيها .. إنها تصف ما وصلت إليه .. فتقول: (لما بلغني ما تكلّموا به، هممت أن آتي قليبًا فأطرح نفسي فيه) (¬2) .. لكنها لم تفعل لخوفها من الله .. وثقتها به .. وأنه لن يتركها وحيدة في هذا العالم الحائر في أمرها .. وتواصل حديثها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جرى في مسجده .. فتقول: (وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، "فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا"، وأبواي يظنّان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ (2770) واللفظ له. (¬2) سنده حسن رواه الطبراني (23/ 121). حدثنا أحمد بن القاسم حدثنا خالد بن خداش، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة .. ابن أبي مليكة تابعي أدرك ثلاثين من الصحابة - التقريب (1/ 431) وهو ثقة فقيه وتلميذه السختياني ثقة ثبت حجة وحماد ثقة ثبت فقيه .. وشيخ الطبراني ثقة - البلغة (61) والسند حسن من أجل ابن خداش وقد وثقه أئمة النقد وجرحه غير مفسر - التهذيب (3/ 74).

دعوة مكروب

جالسان عندي، وأنا أبكى، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكى "معي". فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وقد صلّى العصر"، فسلم. ثم جلس -ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل- وقد لبث شهرًا لا يُوحى إليه في شأني بشىء -"وقد اكتنفني أبواي عن يميني وشمالي"- فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة .. فإنه قد بلغني عنك كذا .. وكذا .. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب "إلى الله" تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته (¬1)، قلص دمعى (¬2) حتى ما أحس منه قطرة. فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله فيما قال. فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬3). سكت الجميع فتحررت من صدر عائشة المظلومة: دعوة مكروب انفجرت داخل صدرها كالبركان .. دعوة نبيّ الله يعقوب عندما فقد أحبّ أبنائه إليه .. يوسف وبنيامن عليهما السّلام .. دعوة أطلقها يعقوب ¬

_ (¬1) حديثه. (¬2) توقف دمعها. (¬3) هو حديث البخاري ومسلمٌ السابق.

بعدما أصابه العمى وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم .. لكن حزن عائشة أنساها اسم ذلك النبيّ المكروب .. حاولت تذكره فلم تستطع لكنها عاشت معاناته ودعاءه .. توجهت عائشة الصغيرة نحو أبيها الذي لا يدري ما يقول .. نحو أمها الحيرانة .. نحو حبيبها الذي آذاه الناس وتأخّر عنه الوحي .. فقالت كلمات كالجمر .. قالت رضي الله عنها: (فقلت: وأنا جارية حديثة السن، لا أقرأ كثيرًا من القرآن، "تشهدت، فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه بما هو أهله ثم قلت: أما بعد": إني والله، لقد عرفت أنكم قد سمعتم هذا حتى استقرّ في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدقوني بذلك، "والله عَزَّ وَجَلَّ يشهد إني لصادقة، ما ذاك بنافعي عندكم لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم"، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ -والله يعلم أني بريئة- لتصدقونني "إن قلت إني فعلت -والله يعلم أني لم أفعل- لتقولن قد باءت به على نفسها". وإني والله .. ما أجد لي ولكم مثلًا إلَّا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} "والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه") (¬1)، حاولت عائشة تذكر اسم يعقوب فلم تستطع .. فألقت بجسدها وقلبها المتعبين علي فراش كالمرض .. وألقت بكمدها وبثها إلى الله وسكتت .. دعوة فتاة مظلومة بلغ بها المرض والكرب مسافات أتعبتها .. ولكن الله أرحم هذه المسكينة التي أنحفها الضَّيْم والحزن .. ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .. هبطت رحمة الله ونزل عدله سبحانه .. فسمعت عائشة في تلك الحجرة حركة غريبة وهمهمة .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4757).

براءة عائشة رضي الله عنها

فاعتدلت ونظرت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - مغشى عليه والعرق يتحدّر من جبينه الشريف .. وهو يعاني ثقلًا وشدّة من نزول الوحي عليه .. بـ: براءة عائشة رضي الله عنها تقول أم المؤمنين بعد أن لهجت بدعائها: (فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون .. ثم تحولت، فاضطجعت على فراشي، وأنا والله يعلم أني بريئة، وأن الله مبرّئي ببراءتي. ولكن -والله- ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله عَزَّ وَجَلَّ فيّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها. فوالله ما رام (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيّه - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه (¬2) ما كان يأخذه من البرحاء (¬3) عند الوحي، حتى إنه كان ليتحدّر منه مثل الجمان (¬4) من العرق في اليوم الشات (¬5)، من ثقل القول الذي أنزله عليه، "وأنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ساعته، فسكتنا، فرفع عنه وإني لأتبيّن السرور في وجهه وهو يمسح جبينه" فلما سرّي (¬6) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -هو يضحك- فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال: أبشري يا عائشة، أما الله فقد برّأك "أنزل الله براءتك"، فقالت لي أمي: قومي إليه. فقلت: والله .. لا أقوم إليه، ولا ¬

_ (¬1) أي: ما فارق. (¬2) جاءه أصابه. (¬3) الحمى الشديدة إلى تسيل العرق. (¬4) مثل حبات اللؤلؤ. (¬5) أي أن ذلك يسيل منه حتى في أيام الشتاء الباردة. (¬6) انتهى ما به من معاناة نزول الوحي.

أحمد إلَّا الله هو الذي أنزل براءتي، "وكنت أشد ما كنت غضبًا، فقال لي أبواى: قومي [فقبلي رأس رسول الله]- فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمده، ولا أحمدكما، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيّرتموه". فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ (¬1) مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ (¬2) وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (¬3) (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ (¬4) فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ (¬5) بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ (¬6) فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ ¬

_ (¬1) جماعة. (¬2) المقصود حسان وحمنة ومسطح وهم من المؤمنين رضي الله عنهم. (¬3) المقصود رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول. (¬4) خضتم فيه. (¬5) تتلقونه ويرويه بعضكم عن بعض وهو كذب. (¬6) تنتشر.

الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1)، عشر آيات، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ هؤلاء الآيات براءتي) (¬2). وتصف عائشة رضي الله عنها حالها وحالة والديها أثناء نزول هذه الآيات الكريمات والنبي - صلى الله عليه وسلم - مغشى عليه من شدّة الوحي .. فتقول: (فوالله ما برح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه، ووُضعت وسادة من أدم (¬3) تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت وما باليت، قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سرّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقًا (¬4) من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس (¬5). ثم سرّي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس، وإنه ليتحدّر من وجهه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: أبشري يا عائشة، قد أنزل الله براءتك. قلت: الحمد لله) .. ثم قام - صلى الله عليه وسلم - وخرج من البيت .. متجهًا نحو الناس .. نحو المدينة .. نحو العالم .. ليخبرهم ببراءة حبيبته .. وكذب ابن سلول ومن معه .. وليضع أمام الدنيا .. كل الدنيا حقيقة طاهرة .. وحكمًا لا يزول .. أن من سيقذف عائشة بعد اليوم فقد كذب الله وكفر بكتابه .. خرج - صلى الله عليه وسلم - لـ: ¬

_ (¬1) أكملت الآيات العشر للفائدة. (¬2) هو حديث البخاري مسلم السابق. (¬3) جلد. (¬4) خوفًا. (¬5) أي خوفًا من أن تصدق تلك التهمة الكاذبة.

إعلان البراءة واستدعاء الجناة

إعلان البراءة واستدعاء الجناة تقول عائشة رضي الله عنها: (ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس، وتلا عليهم ما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ من القرآن في ذلك و"لما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصة التي نزل بها عذري على الناس، نزل فأمر برجلين وامرأة، ممّن تكلم بالفاحشة في عائشة فجلدوا حدهم": أمر. بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا مما أفصح بالفاحشة فضربوا حدّهم) (¬1) .. أي جلد كل واحد من هؤلاء الثلاثة ثمانين جلدة .. لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ (¬2) ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} (¬3)، وقد تاب الثلاثة رضي الله عنهم بعد أن نزلت الآيات وتأكدوا من تهوّرهم .. واستخفاف ابن أبي بن سلول بعقولهم .. وكان لأبي بكر موقف من مسطح تبيّن من خلاله مدى الجرح الذي كان يئن منه أبو بكر ويعاني .. لكن إيمان أبي بكر كان أعظم من أي موقف .. أسما من أي قرار يتّخذه ساعة غضب .. لأنه أبو بكر .. ولأنه الصدّيق .. موقف أبي بكر الغاضب تقول عائشة رضي الله عنها: (فقال أبو بكر -وكان ينفق على مسطح ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق من رواية الإفك الصحيحة والزوائد رواها فقال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة وعبد الله تابعي ثقة من رجال الشيخين (1/ 405 - التقريب) وعمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة تابعية ثقة تتلمذت على عائشة وأكثرت الرواية عنها وهي من رواة الشيخين (التقريب- 2/ 607). (¬2) يتهمونهن بالزنا. (¬3) سورة النور: الآيتان 4، 5.

مشادة بين أبي بكر وعمر

لقرابته منه وفقره-: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا، بعد الذي قال لعائشة "فحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا"، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)}. فقال أبو بكر: "بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا"، والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كانت ينفق عليه، "وعاد له بما كان يصنع"، وقال: لا أنزعها منه أبدًا) (¬1). أفاق مسطح بن أثاثة على نسمات أبي بكر الباردة .. فأدرك عظمة الصديق وكرمه .. وأدرك فداحة الخطأ الذي ارتكبه في حقه وحق ابنته الطهور .. أبو بكر الذي تغلغل في سويداء النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتلّ ما لم يحتله غيره .. لا يستحق كل هذا العقوق .. ولكى تعرف مساحة أبي بكر في عالم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليك هذه القصة التي حصلت فيها: مشادة بين أبي بكر وعمر سوء خلاف بين أعظم رجلين في أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. سوء الخلاف ذلك أثار غبارًا انقشع .. فلم تر الدنيا بعد انقشاعه إلَّا أبا بكر .. ثم عمر والباقين رضي الله عنهم جميعًا .. صحابي اسمه أبو الدرداء شاهد ما حدث ورواه، فقال: (كانت بين أبي بكر وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه عمر مغضبًا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4757) ومسلمٌ -التوبة-.

أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو الدرداء: -ونحن عنده- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما صاحبكم فقد غامر (¬1). وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلّم، وجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقصّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر. قال أبو الدرداء: وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر (¬2) حتى أشفق (¬3) أبو بكر، فجثا على ركبتيه" (¬4)، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله، لأنا كنت أظلم "يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت "وواساني بنفسه وماله" "فما أوذي بعدها") (¬5)، فإذا كانت هذه الغضبة من أجل أبي بكر وفي أمر بسيط .. ومع من؟ مع عمر وما أدراك ما هذا العظيم المسمّى عمر .. فماذا يقال عن إيذاء مَنْ هم دون عمر .. وافتراء من هم أقل .. على أبي بكر رضي الله عنهم جميعًا. هذه المرة لم ينتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر .. لقد انتصر له الله .. وآزره ¬

_ (¬1) أي خاصم. (¬2) يتغير لونه. (¬3) خاف. (¬4) جلس على ركبتيه. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4640) والزوائد عنده (3661).

عبد الله بن أبي بن سلول هل كان قوادا

الله .. وأنزل فيه وفي ابنته آيات تتلى إلى يوم القيامة .. أما عدوّه وعدّو الله وعدوّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بن سلول .. جرثومة النفاق الخبيثة فقد وجدت له سببين لكل هذه الحملة القذرة التي شنّها ليلوّث بها عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرض صاحبه الصديق .. السبب الأول هو كفره وحقده وحسده للنبي - صلى الله عليه وسلم - على زعامته وإقامته دول مسلمة في عقر داره ودار قومه .. أما السبب الثاني، فهو سؤال حول: عبد الله بن أبيّ بن سلول هل كان قوادًا والقواد هو الذي يقوم بتنظيم حفلات البغاء .. وتأجير البغايا .. مقابل مبالغ قذرة مثله .. وكان عبد الله بن أبيّ يقوم بذلك .. بل كان يرغم جاريته على الزنا إرغامًا .. ويبدو أنه تضايق كثيرًا عندما نزل تحريم الزنا .. وهو يريد تعميم تجربته المثيرة في هذا المجال وإشاعتها .. وعندما لم يجد بدًّا من التخلص من قذارته رماها على عتبة دار عائشة النظيفة النقيّة .. يقول أحد الصحابة: (في قول الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}، قال: نزلت في عبد الله بن أبي، كانت عنده جارية "يقال لها مسيكة"، وكان يكرهها على الزنا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1)، بهنّ .. إذًا فهذا هو عالم ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البزار (3/ 61 - زوائد) والطبرانيُّ (11/ 284) والطبريُّ في تفسيره والزيادة له: قال الطبري: حدثني الحسن بن الصباح حدثنا حجاج بن محمَّد عن ابن جريج =

قصة ابن عبادة مع القذف

ابن سلول المليء باليهود والعفن والبغايا والنفاق .. إنه كبعض الحشرات التى لا تجد نفسها إلَّا عند القذارة .. وهم لم يكن كذلك في جاهليته .. لكنه الحسد .. يطيح بالقامات ويجتث من النفوس المكرمات .. أمّا من حاول الدفاع عنه في لحظة من لحظات الضعف البشري حين تمسّها العصبية فله قصة أخرى جعلته يفيق من لحظة السهو القصيرة تلك .. أقصد سعد بن عبادة رضي الله عنه الذي تحدّى سعد بن معاذ أن يقتل عبد الله ابن أبي بن سلول .. قصة ابن عبادة مع القذف ابن عبادة الكريم .. والصحابي العظيم الجليل .. يحب قبيلته .. ويتمزّق قلبه لأفعال أحد زعماء قومه المشينة .. يؤلمه ما يقوله عبد الله بن أبي ويتمنى هدايته لكن ابن أبي كان حجرًا .. نزلت الآية تبيِّن أن من قذف يجلد فتحركت الغيرة في دم سعد بن عبادة وغلت .. فتكلم بكلام لم يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فابتلاه الله بمصيبة وقعت في قومه .. فكانت عارًا على قوم ابن أبي بعد أن كان يتمنى تعليق العار على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فعندما (نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}، قال سعد بن عبادة: لهكذا أنزلت يا رسول الله؟! لو أتيت لكاع (¬1) قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه، حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء، حتى يفرغ من حاجته! "إن أنا رأيت لكاع متفخذها ¬

_ = أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر وهذا السند صحيح الحجاج والحسن صدوقان وابن جريج وأبو الزبير صرحا بالسماع ورواه البزار عن ابن السائب عن ابن جبير عن ابن عباس، وعن ابن إسحاق عن الزهريّ عن أنس واللفظ له والزيادة للطبري. (¬1) وصف يطلقه سعد هنا على الزوجة التي يراها زوجها وهي تزني.

رجل، فقلت بما رأيت، إن في ظهري لثمانين"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الأنصار، أما تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ قالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج فينا قط إلَّا عذراء، ولا طلّق امرأة له، فاجترأ رجل منّا أن يتزوجها "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإن الله يأبى إلَّا ذاك" (¬1). قال سعد: "صدق الله ورسوله" يا رسول الله بأبي وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله، وأنهّا حق، ولكن عجبت لو وجدت لكاع قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه، حتى آتي بأربعة شهداء، والله لا آتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته، فوالله ما لبثوا إلَّا يسيرًا حتى جاء هلال بن أميّة -"ابن عم له"- من حديقة له، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فأمسك حتى أصبح، فلما أصبح غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء، فوجدت رجلًا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أتاه به، وثقل عليه جدًا، حتى عرف ذلك في وجهه، فقال هلال: والله يا رسول الله، إني لأرى الكراهة في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق، وما قلت إلَّا حقًا، فإني لأرجو أن يجعل الله فرجًا. واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال بن أمية، وتبطل شهادته في المسلمين؟ "فشق ذلك على المسلمين، فقال: لا والله لا يجعل في ظهري ثمانين أبدًا، لقد نظرت حتى أيقنت، ولقد استسمعت حتى استشفيت". ¬

_ (¬1) أي أن الله لا يقبل إلا حكمه سبحانه.

ما هي الملاعنة

فهمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضربه، فإنه لكذلك يريد أن يأمر بضربه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أصحابه، إذ نزل عليه الوحي، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل، حتى فرغ، فأنزل الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ- (¬1) - وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ- (¬2) - عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)}. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبشر يا هلال، فإن الله قد جعل لك فرجًا. فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرسلوا إليها. فجاءت، فلما اجتمعا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل لها: فكذَّبت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ فقال هلال: يا رسول الله بأبي وأمي لقد صدقت، وما قلت إلَّا حقًا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لاعنوا بينهما) (¬3). ما هي الملاعنة الملاعنة تكون بين الزوجين .. في حالة اتّهام الزوج لزوجته بالزنا .. فيحلف قائلًا أربع مرات: أشهد بالله أنني صادق في اتهامي .. وفي المرة الخامسة يقول أن لعنة الله عليَّ إن كنت كاذبًا عليها .. فيقام عليها الحد ¬

_ (¬1) يقذفون زوجاتهم. (¬2) يمنع ويدفع عنها الحد. (¬3) حديث صحيح انظر: تخريجه عند نهاية القصة.

والعقوبة إلا في حالة أن تشهد زوجته بالله أربع مرات أنه لمن الكاذبين في اتّهامه لها .. ثم تقول في الخامسة: أن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لاعنوا بينهما. قيل لهلال: يا هلال .. اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. فقيل له عند الخامسة: يا هلال، اتق الله، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس، وإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب. فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهد الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فقيل لها عند الخامسة: اتقى الله، فإن عذاب الله أشدّ من عذاب الناس، وإن هذه الموجبة التي توجب عليها العذاب، فتلكأت (¬1) ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي. فشهدت الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرّق بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقضى أن الولد لها، ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها) (¬2). وكان اسم الرجل المتهم بالمرأة "شريك بن سمحاء"، يقول أحد الصحابة وهو يروي القصة: ¬

_ (¬1) ترددت وأحجمت. (¬2) سنده صحيح رواه الطبري في تفسيره حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا عباد، وسمعت عكرمة عن ابن عباس: عباد بن منصور الناجي صدوق وقد صرح بالسماع من عكرمة التقريب (1/ 393) وخلاد والنضر: ثقتان (1/ 229 - 2/ 301) التقريب. ومعنى لا يرمي ولدها: أي لا يقال له يابن الزنا.

(قامت فشهدت، فلما كان في الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها موجبة، فتلكأت (¬1) ونكصت حتى ظننّا أنها ترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين (¬2)، سابغ الإليتين (¬3)، خدلج الساقين (¬4)، فهو لشريك بن سمحاء. فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) (¬5)، فقد صدق هلال وكذبت .. ولكن لا يطبق الحدّ بعد نزول هذه الآية إلَّا بالاعتراف أو البيِّنة .. كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيّنة رجمت هذه) (¬6). كان حادث الإفك افتراءً .. ظلمًا وتجنّيًا على عائشة .. لكن رحمة الله وانتصاره للمظلوم وعدالته .. أحالته إلى دروس وأحكام وبراءة .. ها هي عائشة بريئة كيوم ولدتها أمّها .. ها هي وقد غمرها - صلى الله عليه وسلم - بأمواج حبّه وفؤاده .. ها هي وقد رفعها الله بآيات كريمات .. وتكلّم في شأنها ودافع عنها جبار السموات والأرض .. كان الفرج بحجم الدنيا في صدر عائشة .. لكنها غاضبة غضبًا شديدًا .. وعاتبة عتابًا شديدًا على من يسكنون قلبها .. زوجها - صلى الله عليه وسلم - ووالديها رضي الله عنهما .. فلم تقدم لهم أي نوع من أنواع الامتنان ¬

_ (¬1) ترددت. (¬2) وورد في الصحيح أدعج وأسحم. (¬3) أي عظيم كما جاء في بعض الألفاظ. (¬4) ممتلئ. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4747). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (5310).

بساتين الحب

والشكر .. ومع ذلك لم يلمها أحد منهم .. فالذي مرّ على هذه الفتاة المسكينة ثقيل جدًا .. ومرير جدًا .. إن سمعة المرأة وشرفها عند العرب تعادل حياتها .. وهم لم يدفنوا بناتهم وهنّ صغار إلَّا خشية أن يتّهمن بما اتّهمت به عائشة .. ومن يستطيع أن ينفي تهمة في ذلك المجتمع .. والهدم أسهل من البناء .. فهل تُلام عائشة إذا غضبت على من أحبّتهم .. لم يلمها - صلى الله عليه وسلم - .. بل استرضاها وأرضاها بلطفه ورقته وحبّه .. كان - صلى الله عليه وسلم - يقول لها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليّ غضبى. فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين، لا، وربّ محمَّد. وإذا كنت غضبى، قلت: لا، وربّ إبراهيم. قلت: أجل يا رسول الله، ما أهجر إلَّا اسمك) (¬1). نهضت عائشة من الموت .. وتهادت كالنهر .. كالبدر .. نحو: بساتين الحب بساتين الحب التي زرعها - صلى الله عليه وسلم - ونسق شجيراتها وأزهارها .. تدلّلت فيها عائشة .. ورفرفت فيها كالطير .. كالعبير .. حتى (كان الناس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة "يبتغون مرضاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة (¬2)، وإنا نريد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم -فضائل عائشة. (¬2) أي يهدون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي يكون فيه عند عائشة رضي الله عنها.

حزبين في بيت النبوة

الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان، أو حيثما دار، فذكرت ذلك أم سلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت: فأعرض عني، فلما عاد إليَّ، ذكرت له ذلك، فأعرض عني، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكنّ غيرها) (¬1). وانقسم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى: حزبين في بيت النبوّة تقول عائشة رضي الله عنها: (إن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنّ حزبين: فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية (¬2) وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخّرها حتى إذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت عائشة، فكلّم حزب أم سلمة فقلن لها: كلّمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلّم الناس) (¬3)، فذهبت أم سلمة وكلّمته وحدث ما حدث كما في القصة السابقة .. لكن حزب أم سلمة لم يستسلم .. واصل المطالبة .. وهذه المرة قرّر الحزب أن يضغط على النبي - صلى الله عليه وسلم -، مستخدمًا جانب العاطفة الأبوية .. مدركًا مدى رقّته - صلى الله عليه وسلم - ورحمته ببناته وأولاده خاصة فاطمة الزهراء رضي الله عنها .. قرّر حزب أم سلمة ذلك ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3775). (¬2) زوجة قادمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - سوف تأتي قصتها فيما بعد. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2581).

عن طريق حبيبته فاطمة .. مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي عند كل واحدة يومًا .. تقول عائشة - رضي الله عنها -: (أرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي، فأذن لها، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة -وأنا ساكتة- فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي بنية .. ألست تحبين ما أحب؟ فقالت: بلى. قال: فأحبّى هذه. فقالت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجعت إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرتهن بالذي قالت، وبالذي قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلن لها: ما نراك أغنيت عنّا من شيء، فارجعى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقالت فاطمة: والله لا أكلّمه فيها أبدًا. قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي التي تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ولم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب إلى الله تعالى، ما عدا سورة من حدة (¬1) كانت فيها، تسرع منها الفيئة. فاستأذنت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عائشة في مرطها ¬

_ (¬1) سرعة غضب لكنها سرعان ما تنطفئ.

على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها. فأذن لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله .. إن أزواجك أرسلنني إليك، يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت بي، فاستطالت عليّ "فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة، فسبّتها". وأنا أرقب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرقب طرفه، وهل يأذن لي فيها. فلم تبرح زينب "حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينظر إلى عائشة: هل تكلم؟ ". حتى عرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكره أن أنتصر. "فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها"، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حين أنحيت عليها [أن أثخنتها غلبة] "فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبسّم: إنها ابنة أبي بكر) (¬1)، وقد انتصرت وانتصر حزبها .. لأنها لم تفعل ما يجرح شعورهن رضي الله عنهن .. لكنهن يطالبن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدل وهو عادل إلَّا في شيء واحد لا يستطيع التحكّم فيه .. وهو قلبه .. فهو بشر كبقية البشر لديه ما لديهم من الأحاسيس والمشاعر والميول .. ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يتدخّل في كل ما يحدث بين زوجاته من أمور طبيعية تحدث عادة بين النساء عند زوج واحد .. إلَّا إذا تجاوزت إحداهن الحد .. عندها يحكم - صلى الله عليه وسلم - بالعدل ويقوم بفضّ الاشتباك. رضي حزب أم سلمة بمكانة عائشة .. بل قدم تنازلات أكثر ليحظى بحب الله ورسوله .. فبدلًا من أن يطالب حزب أم سلمة مرة أخرى بأن ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم وما بين المعقوفين له .. والزوائد للبخاري (2581).

أم سلمة تهدي للنبي (صلى الله عليه وسلم) وهو عند عائشة

تكون هدايا الناس في أوقات وأبيات مختلفة .. قام هذا الحزب الطيّب بتقديم الهدايا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. لكن متى وأين .. أم سلمة تهدي للنبي (صلى الله عليه وسلم) وهو عند عائشة هكذا انقلب الحال .. ومن كان له حيلة فليحتال .. وما دام الهدف هو الوصول إلى قلب الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - والمنافسة عليه .. فلا بأس بالتضحية .. ولا بأس بكتم الغيرة مؤقتًا .. فعلت ذلك أم سلمة رضي الله عنها .. لكن عائشة أدركت أهداف أم سلمة وأدركتها الغيرة .. وخافت أن تزحزحها أم سلمة عن عرض الحب الذي تنعم به .. فقامت للتصدي لأم سلمة ولمحاولاتها ولكن بطريقة أكثر انفعالًا مما فعله حزب أم سلمة .. وأشدّ قسوة مما قالته زينب .. فما الذي جرى بين أم سلمة وعائشة رضي الله عنها .. تحدثنا أم سلمة نفسها عن محاولتها وهديتها .. فتقول: (إنها أتت بطعام في صحفة (¬1) لها، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء، ومعها فهر (¬2)، ففلقت (¬3) به الصحفة، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين فلقتي الصحفة .. ويقول: كلوا .. غارت أمكم .. كلوا .. غارت أمكم. ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحفة عائشة، فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صحفة أم سلمة لعائشة) (¬4) فانتصرت أم سلمة رضي الله عنها هذه المرة ¬

_ (¬1) إناء. (¬2) حجر. (¬3) كسرت. (¬4) سنده صحيح رواه النسائي (7/ 70): أخبرنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت عن أبي المتوكل عن أم سلمة .. وأبو المتوكل تابعي ثقة اسمه علي بن =

عائشة تدعو على نفسها بالموت

وانتصر حزبها .. ليست الغيرة فقط تحدث بين حزب وحزب .. بل -حيانًا- داخل الحزب الواحد تغلي الغيرة .. وليست هذه المرة الوحيدة التي تندفع فيها عائشة نحو تصرّف تندم عليه .. مأخوذة بالغيرة وحبّها الشديد للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. ففي أحد الأيام تصرّفت تصرفًا تمنّت بعده أن تلاقي حتفها .. رغم أن الأمر لا يستدعي الموت .. لكنها الغيرة .. عائشة تدعو على نفسها بالموت تقول رضي الله عنها: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فخرجتا معه جميعًا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالليل سار مع عائشة، يتحدث معها، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك، فتنظرين وأنظر؟ قالت: بلى. فركبت عائشة على بعير حفصة، وركبت حفصة على بعير عائشة، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلّم، ثم سار معها حتى نزلوا. فافتقدته عائشة، فغارت، فلما نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر (¬1)، وتقول: ¬

_ = داود الناجي (التقريب-2/ 36) وتلميذه تابعي ثقة عابد وهو البناني -التقريب (1/ 115) وحماد ثقة من رجال مسلم وهو أثبت الناس في ثابت البناني (السابق-1/ 197) وأسد صدوق (التقريب-1/ 63) ويلقب بـ (أسد السنة) وشيخ النسائي ثقة انظر (التقريب- 1/ 425) فالسند بذلك صحيح وصححه الإمام الألباني في الأرواء (5/ 360). (¬1) نبات طيبت الرائحة توجد به الهوام غالبًا في البرية.

حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لعائشة إلى أي درجة؟

يا رب سلط عليَّ عقربًا، أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئًا) (¬1) .. ولا تستطيع أن تقول لحفصة شيئًا .. فهي التي جنت على نفسها .. فأي غيرة تسكن عائشة .. وأي حب ذلك الذي يأكل معها ويشرب .. ويحلّ ويرتحل .. كان حب عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم - سماءها وأرضها وبحارها التي لا شاطئ لها .. لكن ماذا عن حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة إلى أي مدى هو .. وما هي المسافات التي قطعتها عائشة في قلبه وبين حناياه .. ؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه .. في ساعة حب وعشق لعائشة .. في ساعة لم يكن فيها سوى محمد وعائشة والحب .. تحدّث - صلى الله عليه وسلم - بحديث يتقاطر شهدًا وحبًا .. حديث لم تسمع مثله حبيبة قط .. حديث جعل عائشة تشعر أن الشمس والقمر والدنيا كلّها بين يديها. حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لعائشة إلى أي درجة؟ تقول رضي الله عنها: (جلست إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن، وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا. قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينقل (¬2). قالت الثانية: زوجي لا أبثّ خبره، إني أخاف أن لا أذره، إن أذكره، أذكر عُجره وبجره (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم - الفضائل. (¬2) تصفه بأنه كلحم الجمل الهزيل ويصعب الوصول إليه أيضًا، فالوصول إليه شاق، ليس فيه مصلحة حتى تنقله الناس إلى بيوتها وتستفيد منه. (¬3) تقول إنها لا تشيع خبر زوجها ولا تذكره .. لأنها لن تنتهى من إكماله لكثرة عيوبه .. والعجر تعقد العروق والعصب ونتؤها .. والبجر هو نتؤ في البطن.

قالت الثالثة: زوجي العشنق: إن أنطق أطلق، وإن أسكت أعلق (¬1). قالَ الرابعة: زوجي كليل تهامة: لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة (¬2). قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد (¬3). قالت السادسة: زوجي إن أكل لفّ، وإن شرب اشتفّ، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البثّ (¬4). قالت السابعة: زوجي غيأياء، أو عيأياء، طباقاء، كل داء له داء، ثجك، أو فلك، أو جع كُلالك (¬5). قالت الثامنة: زوجي الريح ريح زرنب، والمس مس أرنب (¬6). قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد (¬7). ¬

_ (¬1) العشنق هو الطويل أي ليس فيه إلا طول دون نفع .. فإن ذكرت عيوبه طلقها .. وإن سكتت عن عيوبه علقها لا مطلقة ومتزوجة أي أهملها مع بقائها في ذمته. (¬2) تمدحه أنه مثل ليل منطقة تهامة ليس فيه أذى .. بل هو لذيذ كريم الأخلاق لا تخشاه، لا يسأم منها ويملها. (¬3) شبهته بالفهد لكثرة نومه كما يقال، أنوم من فهد، غافل عن تعاهد منزله وما ذهب منه وما بقي، وهو بين الناس شجُاع كالأسد. (¬4) أي أنه يلف الطعام لفًا ويكثر منه، ويشرب كل ما في الإناء أما عند نومه فهو يلتف بثيابه وغطائه عن زوجته دون اهتمام بها، ولا يلمسها بكفه ولا يتحسسها ليعلم إن كانت تشتكي من شىء. (¬5) أي أنه خائب لا يقترب منها .. وأموره مطبقة عليه لحمقه، وكل داء ومرض يجتمع فيه .. وهي معه غير آمنة فإما أن يشج رأسها أو يكسر بعضها أو يجمع لها الأمرين. (¬6) أي ريحه طيبة كرائحة الزرنب وهو نوع من أنواع الطيب .. وأما مسه فلين لكرمه ورقته ولطفه (¬7) رفيع العماد هو الشريف المذكور في قومه، طويل حمائل السيف لطول قامته .. كريم كثير =

قالت العاشرة: زوجى مالك، وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهنّ هوالك (¬1). قالت الحادية عشر: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع: أناس من حلي أذني (¬2)، وملأ من شحم عضدي (¬3)، وبجحني فبجحت إلي نفسي (¬4)، وجدني في أهل غُنيمة بشق (¬5)، فجعلني في أهل صهيل وأطيط (¬6)، ودائس ومنق (¬7)، فعنه أقول فلا أقبح (¬8)، وأرقد فأتصبح (¬9)، وأشرب فأتقنح (¬10). أم أبي زرع، فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح (¬11). ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة (¬12)، ويشبعه ¬

_ = الرماد لكثرة ما يوقد نار لأضيافه .. وبيته قريب من النادي وهو مجتمع القوم ومنتداهم. (¬1) إبله كثيرات .. لا يرسلهن للسرح إلا قليلًا .. إذا سمعن العزف على العود لوجود الضيفان أدركن أنهن منحورات لهم. (¬2) أي حلاني أقراطًا فهن تنوس أي تتحرك لكثرتها. (¬3) أي أسمنني وملأ بدني شحمًا. (¬4) أي فرحني ففرحت .. وعظمني فعظمت عند نفسي .. والتبجح هو التعاظم والتفاخر. (¬5) أي أنه وجدها عند أهل غنم قليلة وحياتهم فيها مشقة وفقر. (¬6) نقلها إلى أرضه حيث صهيل الخيل وأطيط الإبل. (¬7) أي أنه صاحب زرع يدوسه وينقيه. (¬8) لا أحد يرد قولها ويقبحه. (¬9) أي أنها تأخذ كفايتها من النوم لأن هناك من يخدمها. (¬10) لا تترك الشراب حتى تقض حاجتها. (¬11) واسع. (¬12) أي خفيف اللحم كالسيف سل من غمده.

ذراع الجفرة (¬1). بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها (¬2)، وغيظ جارتها (¬3). جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثًا (¬4)، ولا تنقث ميرتنا تنقيثًا (¬5)، ولا تملأ بيتنا تعشيشًا (¬6). قالت: خرج أبو زرع، والأوطاب تمخض (¬7)، فلقى امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين (¬8)، فطلّقني ونكحها، فنكحت بعده رجلًا سريًا، ركب شريًا (¬9)، وأخذ خطيًا (¬10)، وأراح عليَّ نعمًا ثريًا (¬11)، وأعطاني من كل رائحة زوجًا (¬12)، قال: كلي أم زرع وميري أهلك (¬13). فلو جمعت كل شيء أعطاني ما بلغ أصغر آنية أبي زرع. ¬

_ (¬1) الجفرة الأنثى من ولد الماعز أو الضأن إذا تجاوزت أربعة أشهر. (¬2) ممتلئة الجسم. (¬3) لديها من العفاف والجمال والأدب ما يغيظ ضرتها. (¬4) لا تفشي أسرارنا. (¬5) لا تفسد الطعام ولا تفرقه لأمانتها. (¬6) لا تترك القمامة متفرقة تشوه المنزل كعش الطير. (¬7) أي أنه خرج في وقت الربيع. (¬8) أي أن كفلها عظيم بحيث أنها لو استلقت رفعها عن الأرض حتى تصير تحتها فجوة يجري فيها الرمان. (¬9) السري هو الشريف والشري هو الفرس الذي لا يفتر في سيره. (¬10) الرمح. (¬11) كثيرة والمقصود الثروة. (¬12) أي من كل ما يروح من الإبل والبقر والغنم. (¬13) أعطيهم.

آثار غزوة بني المصطلق

قالت عائشة: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنت لك كأبي زرع لأم زرع) (¬1). هذه هي منزلة عائشة في قلبه - صلى الله عليه وسلم - .. هي منزلة أم زرع عند أبي زرع .. غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحبّها أكثر من حب أبي زرع لزوجته، لأن ذاك طلق والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلق .. هذا الحب لا شكّ أغاظ المنافقين في المدينة .. أغاظ ابن سلول ومن معه من الخفافيش .. كما أغاظهم من قبل انتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق .. التي تشعبت آثارها حتى زلزلت قريش .. آثار غزوة بني المصطلق انتهت غزوة بني المصطلق بانتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على المشركين .. وانتصار عائشة رضي الله عنها على المنافقين .. لكن تلك المعركة تركت لدى قريش وحلفائها شعورًا أسودًا .. ورعبًا ترتعد منه أوصالها .. كأن الجبال تتزلزل من حولها .. كأن الكواكب تتهاوى على رؤوسها .. فقد امتدّت يد محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى طالت جيرانهم بني المصطلق .. الذين عادوا بعد المعركة أحرارًا بعد مصاهرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقريش الآن تخشى أن تمتد إليهم يد محمد - صلى الله عليه وسلم - فتأخذهم إلى غير رجعة .. ويبدو أن تلك الضربات التي تلقاها المسلمون من قريش وغيرهم من الوثنين في أحد .. والرجيع وبئر معونة .. وغرها لم تزدهم إلَّا صلابة وعزمًا واتّقادًا .. كأنها النار التي تذيب صدأً .. كانت لقاحًا عاد بعده الجسم صحيحًا منيعًا .. فها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل جيشًا لرصد قوافل قريش ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (5189) ومسلمٌ (2448).

غزوة سيف البحر

التي تمر بمحاذاة الساحل .. في غزوة يحلو للبعض تسميتها: غزوة سيف البحر كان قائد هذا الجيش هو أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح .. وكان ضمن ذلك الجيش كبار الصحابة منهم سعد بن عبادة .. وجابر بن عبد الله الذي يقص علينا بعض أحداث تلك الغزوة فيقول: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثا قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة فخرجنا وكنا ببعض الطريق فني الزاد .. فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش .. فجمع فكان مزودي تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة .. فقلت: ما تغني عنكم تمرة) (¬1) تمرة في اليوم الواحد مما اضطر ذلك الجيش إلى أكل نبات الخبط وهو علف للحيوانات .. ولذلك سمي ذلك الجيش فيما بعد: (جيش الخبط) .. يقول جابر رضي الله عنه لمن سأله عن تلك السرية: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمَّر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرًا لقريش .. وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره .. فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة .. فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؛ قال: نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل .. وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله (¬2). كان سعد بن عبادة وابنه قيس رضي الله عنهما يأكلان من أشجار الخبط وهي علف للإبل .. كانا يعانيان ما تعانيه تلك السرية ويشعران بما تشعر به .. فكأن لسيد الأنصار وابنه موقف عظيم .. الكرم الأنصاري يتدفق حتى يعانق أمواج البحر .. قام سعد بن عبادة بشراء مجموعة من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1585. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1535.

النياق من أصحابها ثم سلمها لابنه قيس وأمره بنحرها للسرية التي أحرق أجوافها شجر الخبط .. يقول قيس رضي الله عنه: (كنت في الجيش فجاعوا قال: انحر قالك: نحرت .. ثم جاعوا .. قال: انحر .. قال: نحرت .. ثم جاعوا .. قال: انحر .. قال: نحرت ثم جاعوا .. قال: انحر .. قال: نهيت) (¬1) ترى كم نحر من ناقة جزور .. يقول جابر رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه (نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه) (¬2) لأن هذا الكرم الأنصاري ليس له حدود .. وسيقضي على مراكب السرية .. وقد تعودُ إلى المدينة على الأقدام إذا لم يتم إيقاف تدفقه .. كانت أياما عصيبة ومريرة .. كان فارسها سعد بن عبادة الكريم .. وكانت رحمة الله فوق ما يتصورون .. فقد رأى بعضهم صخرة كبيرة جداء .. وكانت سوداء وملساء تتمدد على الساحل .. اقترب الجميع منها فإذا هي ليست بصخرة .. إنها حوت عملاق يسمونه العنبر .. كان ميتا ينبض بالحياة لهذه السرية .. وقد فرح الجميع بهذه المفاجأة السارة وشكروا الله عليها .. لكن أبا عبيدة تذكر أن الميتة لا تجوز .. ثم تذكر كم يفتح الإِسلام من أبواب الفرج في أشد ساعات الضيق .. تذكر أن هناك ضرورة الإبقاء على هذه الأرواح والأجساد المنهكة .. فسموا الله وكلوا واستخرجوا من زيت الحوت وشربوا دهنوا أجسادهم المتعبة وشعورهم الشعثة .. لمدة تقارب الشهر .. ثم قاموا بقياس ارتفاع أحد أضلاعه فغرز الضلع .. ثم نادى أطول رجل في تلك السرية وأمره بأن يركب أرفع جمل أيضًا .. ثم أمر بالمرور فمر تحت تقوس ذلك الضلع العملاق .. يقول جابر رضي الله عنه وهو يتحدث عن تلك ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1585. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1585.

المشاهدات العجيبة: (انطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر قال أبو عبيدة: ميتة .. ثم قال: بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الله وقد اضطررتم .. فكلوا) (¬1) (فأكلنا نصف شهر وادهنا بودكه حتى صلحت أجسامنا) (¬2) (حتى سمنا ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن .. ونقتطع منه القدر كالثور أو كقدر الثور .. فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلًا فأقعدهم في وقب عينه .. وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها) (¬3) وبعد مرور نصف شهر من عثورهم على هذا الحوت الهائل أمر أبو عبيدة جنده بالعودة للمدينة فقد أدوا المهمة التي أرسلوا من أجلها .. وعادوا أحسن أجسادًا وأكثر قوة .. ثم اقتطعوا ما قدروا على حمله من بقايا لحم الحوت .. ولما وصلوا إلى المدينة أخبروا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بذلك ففرح بفضل الله عَزَّ وجَلَّ على جنده .. وطلب منهم أن يطعموه من ذلك اللحم الطيب .. يقول جابر رضي الله عنه: (وتزودنا من لحمه وشائق فلما .. قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا .. فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكله) (¬4). أما قريش فقد شعرت بخطورة الوضع بعد تلك السرايا وبعد غزوة بني المصطلق .. فلا بد من التحرك .. ولا بدّ من حسم الأمر قبل أن يستشري الخطر .. وتفاجأ قريش بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجيشه يطوفون حول الكعبة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1535. (¬2) صحيح البخاري 5 - 2093. (¬3) صحيح مسلم 3 - 1535. (¬4) صحيح مسلم 3 - 1535.

اليهود يجمعون الأحزاب

ويحطّمون الأصنام .. هذا هو الكابوس الذي يقضّ مضجع أبي سفيان ومن معه من الوثنين .. هذا هو الخوف الذي تعيشه مكة .. لكن ماذا عن المدينة .. هناك شعور لا يختلف عن هذا الشعور .. فداخل دول الإسلام لم يكن الأمر كما يحبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته تمامًا .. كان هناك المنافقون الذين خرجوا للتوّ من هزيمة الإفك. وهناك أيضًا اليهود الذين أغاظهم نصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق .. وزاد غيظهم نصر الله لعائشة في حادثة الإفك .. فتحوّلت حصون اليهود إلى قدور ضخمة تطبخ فيها الخيانة والمؤامرات .. اليهود يجمعون الأحزاب في مؤامرة كالانتحار .. فالذي يقومون به الآن ضرب من الانتحار .. لأن فشل مؤامرتهم هذه تعني نهايتهم .. اليهود اليوم خناجر تسافر في الظلام ولا تدري من تصيب .. إن بينهم وبين قائد الدولة المسلمة عهدًا بألَّا يخونوا ولا يعتدوا ولا يتآمروا .. وإلاّ فإن مصيرهم سيكون مصير بني النضير .. لقد سامحهم - صلى الله عليه وسلم - بعد خيانتهم الأولى .. وهم الآن طامعون في تسامح آخر إن فشلوا في مؤامرتهم، يقول أحد الصحابة: (إن يهود النضير وقريظة حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير وأقرّ قريظة) (¬1)، وذلك بعد غزوه بدر عندما (كتبت كفار قريش بعد واقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء -وهي الخلاخيل- فلما بلغ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4028) وأبو داود (3005) واللفظ له.

كتابهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، أجمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرًا حتى نلتقي بمكان المنصف، فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك، آمنّا بك، فقصّ خبرهم، فلما كان الغد، غدا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكتائب، فحصرهم، فقال لهم: إنكم والله لا تأمنون عندي إلَّا بعهد تعاهدوني عليه. فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم. وغدا على بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلّت الإبل من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم وخشبها) (¬1)، منظر حزين يتكرّر على اليهود .. ويتباكى عليه اليهود .. وهم يجيدون التمثيل والتباكي .. لكن أكثر ما يجيدونه هو سبب التباكي .. أكثر ما يجيده اليهود هو المؤامرات والخيانات .. والطعن من الخلف .. والطعن في الظلام .. وعندما يتلقون العقاب الرادع .. تسيل أنهار الدموع والبكاء والشعر على مصيرهم البائس وكأنهم لم يفعلوا شيئًا. وبنو قريظة يستحقون مصير بي النضير .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - منحهم فرصة .. فإن فشلت مؤامرتهم فإن عقابهم سيكون مضاعفًا .. دعونا نراقب هذا الوفد اليهودي الذي سافر سرًا إلى مكة ليجتمع بأبي سفيان وقيادات المشركين هناك .. ليعرضوا عليهم مشروعًا عسكريًا يسحقون به دولة الإِسلام والتوحيد .. بعد أن فشل مشروع كعب بن الأشرف اليهودي مع قريش فتم اغتيال ¬

_ (¬1) حديث مر معنا رواه أبو داود (3004) وقد صححه الإمام الألباني وانظر تعليق قوله حفظه الله هناك - غزوة بني النضير.

المشروع اليهودي من جديد

كعب على يد محمد بن مسلمة رضي الله عنه .. وها هو: المشروع اليهودي من جديد يحمله يهود من بني النضير فشلت خيانتهم .. فاحتقنوا من الحقد .. ومعهم يهود آخرون تثيرهم هذه التجربة وهذا المشروع .. لم تنطلق الرصاصة من مكّة .. بل من حصون اليهود فـ: (إنه كان من حديث الخندق أن نفرًا من اليهود، منهم: سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري "وكنانة بن أبي الحقيق النضري" وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خرجوا حتى قدموا على قريش مكّة، فدعوهم إلى حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود .. إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمَّد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحقّ منه. فهم الذين أنزل الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا ¬

_ (¬1) سبق أن خرج كعب بن الأشرف لكنه قتل قبل إكمال مشروعه.

غطفاق تطلب ثمن انسحابها من الأحزاب

عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} (¬1). لم يكتفِ اليهود بالتآمر عليه - صلى الله عليه وسلم - .. بل أضافوا إلى خيانتهم ونقض عهدهم والوثيقة المكتوبة بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أضافوا إلى قائمة جرائمهم جريمة هي الأشنع والأحقر .. جريمة تنزّ بالخسّة والوقاحة .. زوّر اليهود وأباحوا لنفسهم القفز على كل مبدأ وعقل وحقيقة .. فمنحوا للوثنيين المشركين صكًّا بالبراءة من كل إثم في كل ما يرتكبونه من جاهلية .. وسلبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كل حق وحقيقة يملكها .. جعلوا التوحيد هو الباطل .. وطلبوا من عَبَدة الأخشاب والأحجار الاستمرار في طقوسهم المنحطة .. فعلوا ذلك كلّه وهم أهل كتاب .. وقد قرأوا الكثير .. الكثير عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ونبوّته وصفاته .. فما هو العقاب الذي يستحقه هؤلاء .. مسلسل الوحل اليهودي لم ينته بعد .. فبعد أن وضعوا قريشًا في إحدى جيوبهم .. توجّهوا نحو قبيلة غطفان القوية فأغروها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمدينة .. وأغروها بتمر المدينة ونخيلها ونسائها .. فاستجابت .. وانتصبت المؤامرة .. وتدلّت ثمارها أمام اليهود والوثنين .. لكن الخبر وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق رجل أحمق من غطفان .. يدعى "الحارث الغطفاني". غطفاق تطلب ثمن انسحابها من الأحزاب ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه ابن إسحاق بأسانيد عدة منها: حدثني يزيد بن رومان عن عروة ومن لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك .. ومحمَّد بن كعب القرظي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة .. وهذه الأسانيد كلها مرسلة وإن كان عبد الله بن كعب له رؤية .. وهي لا تقوي بعضها البعض لأنه ربما كان مصدرها واحدًا وهو مجهول .. لكن لها شاهد رفعها إلى درجة الحسن وهو عند ابن إسحاق أيضًا (تفسير ابن كثير- الأحزاب): حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس .. وهو سندٌ حسنٌ بالشواهد من أجل محمد بن أبي محمد .. وابن إسحاق لا يتهمه .. انظر التقريب (2/ 205) حيث قال عنه مجهول.

وقد أرسلت من أجل هذه المهمة أحد وجهائها .. رجل اسمه: الحارث الغطفاني .. ركب راحلته .. وعندما استقرت به على أرض المدينة .. بحث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولما وقف أمامه .. أملى على النبي - صلى الله عليه وسلم - شرطه للانسحاب من التحالف اليهودي الوثني .. وكان شرطًا يفوح صفاقة وتغطرسًا .. لكن إجابة الأنصار كانت كالسيف على رأسه. فقد رفض الأسدان سعد بن عبادة وسعد بن معاذ كل أنواع الابتزاز .. مهما كان مصدره وقوّته .. فقد: (جاء الحارث الغطفاني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد .. ناصفنا تمر المدينة. "وإلا ملأناها عليك خيلًا ورجالًا"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ يشاورهما "فقال: إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وأن الحارث يسألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوا إليه عامكم هذا حتى تنظروا في أمركم بعد. قالوا: يا رسول الله أوحي من السماء؟ فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك؟ فرأينا تبع لهواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منّا تمرة إلا بِشِرى أو قرى" (¬1)، فقالا (¬2): ما أعطينا الدنية (¬3) من أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالإسلام. فرجع إليه الحارث، فأخبره. فقال: غدرت يا محمد. ¬

_ (¬1) أي كانوا لا يستطيعون الحصول على تمرنا إلا بالشراء أو الضيافة. (¬2) قال السعدان: ابن عبادة وابن معاذ. (¬3) أي لم نعط الصفة والخصلة المذمومة في الجاهلية فكيف وقد أسلمنا.

فقال حسان بن ثابت: يا حارِ من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمدًا لا يغدر إن تغدروا فالغدر من عاداتكم ... واللؤم ينبت في أصول السخبر وأمانة النهدي حيث لقيتها ... مثل الزجاجة صدعها لا يجبر فقال الحارث: كفّ عنا يا محمد لسان حسان، فلو مزج به ماء البحر لمزجه) (¬1)، ولم يكن لسان حسان أشدّ من لساني السعدين .. لم يعرض - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأمر على أبي بكر ولا على عمر .. بل على أهل دار الهجرة والكرم وأصحاب الشأن الأوّل .. فذهب ذلك الوثني إلى قومه ذليلًا .. حيث كان الأنصار له كالموت .. بالسيوف والشعر .. عندها أدرك - صلى الله عليه وسلم - خطورة الموقف والأحزاب .. تأمّل - صلى الله عليه وسلم - وضع المدينة فوجد المعركة هذه المرة مختلفة .. فقريش اليوم ليست وحدها .. معها غطفان .. ومعها بقايا بني النضير الذين استطاعوا زحزحة يهود بني قريظة عن عهدهم وميثاقهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقد يلحق بقريش بنو سليم وغيرهم من حلفائهم .. والوقت قصير لا يحتمل التأخير .. والجيش المسلم لا يستطيع التصدّي لهذه الجموع خارج المدينة .. فالأفضل البقاء في المدينة .. حيث يشارك الجميع في تلك المعركة دون استثناء وحتى لا يتكرر ما حدث ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه البزار (زوائد - 2/ 331) واللفظ له .. والزوائد للطبراني (6/ 34): البزار وعبدان والساجي قالوا: حدثنا عقبة بن سنان، حدثنا عثمان بن عثمان الغطفاني، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة .. : أبو سلمة بن عبد الرحمن تابعي ثقة مكثر - التقريب (2/ 430) ومحمَّد بن عمرو بن علقمة حديثه حسن إذا لم يخالف من هو أوثق منه وهو من رجال البخاري ومسلمٌ بل من رجال الستة -التقريب (2/ 196) وعثمان صدوق من رجال مسلم- السابق (2/ 12) وعقبة بن سنان بن عقبة بن سنان بن سعد بن جابر، البصري من شيوخ أبى حاتم وقد قال عنه: صدوق - الجرح والتعديل (6/ 311).

حفر الخندق

في أحد .. لكن خيانة اليهود تثير الخوف .. وليس هناك وقت لبناء أسوار كأسوارهم .. فليكن الحفر بدلًا من البناء .. حفر الخندق قرّر - صلى الله عليه وسلم - أن يحفر خندقًا يحصن به الجهة الشمالية للمدينة من هجمات قريش ومن معها .. لأن بقية الجهات صعبة الاقتحام لكثرة النخيل والصخور والجبال .. وفنّ القتال لا يعني المهارة باستخدام السلاح فقط .. بل المهارة في استخدام وتسخير كل شىء يحيط بالمحارب .. وقد تفنّن - صلى الله عليه وسلم - في تسخير تضاريس المدينة وطبيعتها في هذه الحرب القادمة .. غير المتكافئة عددًا واستعدادًا .. جهة الشمال مفتوحة لاحتمالات مخيفة .. فقرّر - صلى الله عليه وسلم - إغلاقها .. فبدأ حفر الخندق .. بدأ بحفره بيديه .. فهو الذي ضرب أوّل معول في ذلك الخندق الذي سوف يشكّل مفاجأة للوثنيين واليهود ومن معهم .. فقد: (ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق بيديه، ثم قال: بسمم الله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا حبذا ربنا وحبذا دينا) (¬1) ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحارث (المطالب- 4/ 404) حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان - رضي الله عنه - .. وهذا السند صحيح. معاوية ثقة من رجال الشيخين وهو الأزدي - التهذيب (10/ 215) وشيخه ثقة حافظ من رجال الشيخين (التقريب-1/ 41). وأما أبو عثمان النهدي فقد أدرك الجاهلية وأسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته عن الصحابة .. وقد ذكره الذهبي في (التجريد- 186) ضمن الصحابة فمرسله كمرسل الصحابي .. وليس ضمن شيوخه تابعي .. وقد روي موصولًا عن سلمان عند البيهقي لكن سنده ضعيف.

فتهاوت المعاول بعده تعزف خندقًا .. والحناجر تتغنى شعرًا وحماسًا .. وسط هذا الحماس والتفاني .. كنت لا تدري هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم أم هم الذين كانوا معه .. وسط ذلك الجو الشتوي البارد .. خلال ذلك الغبار المنبعث من الخندق .. لا تستطيع تمييز القائد من الأتباع .. أحد الصحابة اسمه سهل بن سعد يقول: (كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا) (¬1) أما البراء بن عازب فيقول: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، ولقد رأيته وارى التراب "شعر" بطنه "وكان رجلًا كثير الشعر") (¬2). (كان - صلى الله عليه وسلم - ينقل التراب حتى وارى شعر صدره، وكان رجلًا كثير الشعر، وهو يرتجز برجز عبد الله "بن رواحة": اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا إن الأعداء قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا يرفع بها صوته "أبينا .. أبينا" "يمد صوته بآخرها") (¬3). كان - صلى الله عليه وسلم - يحمس من حوله بأبيات الصحابي الشاعر عبد الله بن رواحة .. رافعًا ومادًّا بها صوته .. وكان لا بد من فعل ذلك .. فالجو مشحون بالجوع والبرد والحذر .. لم يكتف - صلى الله عليه وسلم - بذلك .. كان يذرع المنطقة .. يتفقّد كل شيء .. يحتاط لكل شيء .. ثم يعود لمحاربيه .. يشجّعهم .. يحفر معهم .. يدعو لهم .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4098). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (7236) والزوائد له (3034). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (3034) والزوائد له (4104 - 4106).

طعام رجال الخندق

يحتضن فداءهم وإخلاصهم .. وهم في حالة جوع شديد .. وبرد قارس .. (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع، قال: اللهمّ إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما بقينا أبدًا) (¬1) البيعة تتجدّد .. والحماس يتجدّد .. لكن الجوع والتعب يتجدّد فما هو طعام كل مجموعة من هؤلاء المحاربين الأشدّاء .. الذين يحتاجون إلى كل ثانية وطاقة .. طعام رجال الخندق يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، وهم يقولون: نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الإِسلام ما بقينا أبدا ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يجيبهم: اللهمّ إنه لا خير إلَّا خير ... فبارك في الأنصار والمهاجرة قال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4099).

ثلاثة أيام من الجوع والحفر

ويؤتون بملء كفي من الشعير، فيصنع لهم بإهالة سنخة توضع بين يدي القوم والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن) (¬1) هؤلاء العظماء ليس لهم طعام سوى شعير مطبوخ بسمن عتيق بشع الطعم والرائحة .. بينما الوثنيون يتمتّعون بأطايب الطعام .. أمّا اليهود فلديهم مخزون أكثر من كاف لمثل هذه المؤامرة .. ولهم منافذ مفتوحة على حلفائهم .. بينما يعيش محمد - صلى الله عليه وسلم - وجنوده طقسًا من الحصار والبرد والجوع والطعام الخشن والقليل .. وتمرّ على هؤلاء الأخيار من المهاجرين والأنصار. ثلاثة أيام من الجوع والحفر نقلوا فيها الحجارة من عمق الخندق .. إلى عمق جوعهم وبطونهم .. قدّو الحجارة من الخندق وألصقوها ببطونهم من شدّة الجوع .. ثم ربطوها .. في الوقت الذي تسلّل فيه المنافقون إلى بيوتهم .. إلى شوائهم ونسائهم وشرابهم .. كأن الأمر لا يعنيهم .. كأن المدينة ليست وطنًا لهم .. كان ذلك الجوع امتحانًا لإيمان هؤلاء المؤمنين الذين صبروا واحتسبوا. يقول جابر رضي الله عنه: (لما حفر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الخندق، أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمن جهد شديد، فمكثوا ثلاثًا لا يجدون طعامًا، حتى ربط النبي - صلى الله عليه وسلم - على بطنه حجرًا من الجوع) (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4100). (¬2) سنده صحيح رواه أحمد والبيهقيُّ (3/ 422) حدثنا وكيع، حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه عن جابر .. وأيمن وابنه ثقتان من رجال البخاري التقريب (1/ 89 - 525) وأيمن تابعي ووكيع إمام معروف.

طعام جابر والمعجزة

لكن ماذا بعد ثلاثة أيام من الجوع والطعام القليل .. بشع الطعم والرائحة .. إن رحمة الله قريب من المؤمنين .. جاءت المعجزة في بيت جابر .. فزال عن المؤمنين شيئًا ممّا بهم. طعام جابر والمعجزة جابر بن عبد الله .. الصحابي العظيم .. ابن الصحابي العظيم .. الذي يعول تسع أخوات وزوجته .. يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه ليس كاستئذان المنافقين .. لم يذهب لبيته كما يذهب ذلك المنافق طلبًا للراحة بين أهله والطعام والشراب .. لكنه رأى منظرًا أحزنه وآلمه أشدّ الألم فلم يستطع البقاء في مكانه .. حاول أن يخفّف عن ذلك المتألم شيئًا ولو قليلًا .. إنها على أقلّ الأحوال محاولة. يقول رضي الله عنه: (كنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق نحفر فيه، فلبثنا ثلاثة أيام لا نطعم شيئًا، ولا نقدر عليه، فعرضت في الخندق كدية (¬1)، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: هذه كدية قد عرضت في الخندق. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا نازل" فرششنا عليها الماء، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبطنه معصوبة بحجر، فأخذ المعول، أو المسحاة، ثم سمى ثلاثًا، ثم ضرب، فعادت كثيبًا أهيل (¬2). فلما رأيت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: يا رسول الله، ائذن لي .. فأذن لي، فجئت امرأتي فقلت: ثكلتك أمك، إني قد رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لا صبر عليه "رأيت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمصًا شديدًا" (¬3) ¬

_ (¬1) أرض صلبة .. صخرية. (¬2) رملًا متناثرًا. (¬3) جوعًا شديدًا.

فما عندك؟ قال: عندي صاع من شعير، وعناق (¬1). فطحنّا الشعير، وذبحنا العناق، وأصلحناها، وجعلناها في البرمة (¬2)، وعجنت الشعير، ثم رجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلبثت ساعة، ثم استأذنته الثانية، فأذن لي، فجئت، فإذا العجين قد أمكن، فأمرتها بالخبز، وجعلت القدر على الأثافي (¬3)، "ثم وليت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: لا تفضحني برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبمن معه"، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فساررته، فقلت: إن عندنا طعيمًا (¬4) لنا، فإن رأيت أن تقوم معي أنت ورجل أو رجلان معك فعلت. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما هو وكم هو؟ قلت: صاع من شعير وعناق. قال: ارجع إلى أهلك فقل لها: لا تنزع البرمة من الأثافي، ولا تخرج الخبز من التنور حتى آتي. ثم قال للناس: قوموا إلى بيت جابر، "فقام المهاجرون والأنصار". قال: فاستحييت حياءً حتى لا يعلمه إلَّا الله. فقلت لامرأتي: "قد افتضحت ثكلتك أمك، وقد جاءك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أجمعون". "فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلتُ الذي قُلت". فقالت: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألك عن الطعام؟ قلت: نعم. ¬

_ (¬1) أنثى الماعز لم تبلغ الحول. (¬2) القدر. (¬3) الأحجار التي يوضع عليها القدر عند الطبخ. (¬4) طعام قليل.

معجزة أخرى

قالت: الله ورسوله أعلم، قد أخبرته بما كان عندك. فذهب عني بعض ما كنت أجد. قلت: لقد صدقتِ. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل، ثم قال لأصحابه: لا تضاغطوا، ثم برَّك على التنور وعلى البرمة (¬1). فجعلنا نأخذ من التنور الخبز، ونأخذ اللحم من البرمة، فنثرد (¬2)، ونغرف، ونقرّب إليهم. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليجلس على الصحفة (¬3) سبعة أو ثمانية. فلمّا أكلوا كشفنا التنور والبرمة، فإذا هما قد عادا إلى أملأ ما كانا، فنثرد، ونغرف، ونقرّب إليهم، فلم نزل نفعل ذلك كلّما فتحنا التنور، وكشفنا عن البرمة، وجدناها أملأ ما كانا، حتى شبع المسلمون منها "وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو"، وبقيت طائفة من الطعام، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الناس قد أصابتهم مخمصة، فكلوا، وأطعموا، فلم نزل يومنا نأكل ونطعم) (¬4). معجزة أخرى تتحدّث عنها طفلة أنصارية .. نادتها أمها، ولما لبّت نداءها وضعت في طرف ثوبها تمرات .. ثم أمرتها بالتوجه نحو أبيها وخالها وهما يحفران مع ¬

_ (¬1) أي دعا بالبركة على التنور والبرمة أي القدر. (¬2) فته ثم بله بمرق. (¬3) الإناء أو الطبق الذي يوضع فيه الطعام. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4102).

فتح فارس والروم واليمن

رفاقهما الخندق .. طوت تلك الطفلة البريئة تمراتها بطرف ثوبها .. ثم طوت الأرض .. لكن رجلًا صادفها في طريقها فأخذ منها التمر .. فأخذنا منها هذه القصة المعجزة .. إنها: (ابنة بشير بن سعد، قالت: فبعثتني أمي بتمر في طرف ثوبي إلى أبي وخالي وهم يحفرون الخندق، فمررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فناداني، فأتيته، فأخذ التمر مني في كفّيه، وبسط ثوبًا فنثره عليه، فتساقط في جوانبه، ثم أمر بأهل الخندق فاجتمعوا، وأكلوا منه، حتى صدروا عنه) (¬1)، وقد شبعوا من التمر وهم أكثر من ألف رجل .. شبعوا من ملء الكفّين من التمر .. معجزة تزيد الطاقة والإيمان .. قدّمها - صلى الله عليه وسلم - لمن يحفرون الخندق .. تلك المعجزات تفتح أبوابًا جديدة من الفرح والفرج للمؤمنين .. وكأن ذلك الخندق ممر إلى الدنيا بأسرها .. والمعاناة في حفره معاناة ولادة النور وانتشاره .. أما بالنسبة للمنافقين .. فكان ذلك الخندق طوقًا يخنقهم .. هم كالكلاب ينتظرون من يمسك بطرف السلسلة ليتبعوه وهم يهزون أذيالهم منقادين أذلَّاء .. كانت المعجزات تغيظهم وتدفعهم إلى مزيد من العناد والكابرة .. لكن أشدّ ما أغاظهم عند حفر الخندق .. هو تلك المعجزة التي لهج بها - صلى الله عليه وسلم - ليس لمن يحفرون الخندق فقط .. بل لأبنائهم ولمن بعد أبنائهم .. ففي الوقت الذي يرتجف فيه المنافقون من الهلع .. كان - صلى الله عليه وسلم - يستبشر ويبشّر بـ: فتح فارس والروم واليمن ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن اسحاق ومن طرقه رواه البيهقي (3/ 427): حدثنا سعيد بن ميناء، عن ابنة بشير بن سعد: وسعيد بن ميناء الحجازي مولى البختري .. أبو الوليد .. تابعي ثقة من رجال الشيخين -التقريب (1/ 306) وابنة بشير صحابية صغيرة.

يعد أصحابه بذلك وهو يضع الحجر على بطنه من الجوع .. يقول ذلك لأصحابه وهو يحفر خندقًا يدافع به عن دولته الصغيرة التي لا تتجاوز حدودها حدود هذا الخندق .. يبشّرهم وهم جياع .. بكنوز فارس والروم وقصور اليمن .. لأنه نبي .. ولأنها حقيقة قادمة كشمس الغد .. يقول أحد المشاركين في الخندق: (لما كان حين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق، عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول. فشكونا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآها أخذ المعول وقال: بسم الله، وضرب ضربة، فكسر ثلثها، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله. ثم ضرب الثانية، فقطع ثلثًا آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض. ثم ضرب الثالثة، فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة) (¬1) .. وصحابي آخر لم يحضر الحادثة لكنه سمع من صحابي آخر فيقول: (إذا صخرة بين يديه قد ضعف عنها، فقال نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوني فأكون أول من ضربها، فقال: بسم الله، فضربها، فوقعت فلقة ثلثها، فقال: الله أكبر قصور الروم وربّ الكعبة. ثم ضرب أخرى بأخرى، فوقعت فلقة، فقال: الله أكبر قصور فارس، وربّ الكعبة. فقال عندها المنافقون: ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ وسنده ضعيف رواه النسائي في الكبرى والبيهقيُّ (3/ 421) وسبب ضعفه هو ميمون الزاهري لكن الحديث حسن بما بعده وبأحاديث أخرى.

نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم) (¬1). هؤلاء المنافقون هم الذين قال الله عنهم: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (¬2)، أمر هؤلاء المنافقين محير ومزعج .. لا تدري ماذا يريدون .. ولا ما هو مبدأهم ولا هدفهم .. ولا تستطيع تمييزهم بسهولة .. الكفر مرض والنفاق مرض .. وجسد الدولة الإسلامية يستطيع الاحتياط والوقاية من مرض الكفر .. لكن عندما يتسلّل هذا المرض إلى الداخل .. تبدأ رحلة طويلة ومريرة من العلاج وتناول الأدوية والعقاقير للقضاء عليه .. وفي غزوة الخندق كانت الدولة الإِسلامية تحتاط بالخندق من الوثنيين .. لكن من الصعب القضاء عليهم وهم يتظاهرون بالإيمان .. لا سيما في هذا الوقت الذي انتهى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من حفر الخندق .. ووصل فيه أحزاب الأصنام إلى مشارف المدينة .. وعسكروا أمام الخندق .. وبدأ حصار قاسٍ وشديد على المدينة .. عندها بدأ المنافقون يظهرون كالبثور الكريهة المتقيّحة على جسد المدينة .. في هذه الظروف الحرجة ظهر نفاقهم وكفرهم وحقدهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة .. ومع ذلك كلّه تمتّع - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأكبر قدر من ضبط النفس .. وعدم التهوّر بإيقاع أي عقوبة على أولئك المنافقين .. الذين فاحت خيانتهم من خلال كلماتهم .. ونظراتهم وحركاتهم التي كانت تفتقد إلى أقلّ معاني الرجولة والنخوة .. ازداد الوضع حرجًا، فقرّر - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ بما قبله ورجاله ثقات لكنني لم أعثر على ترجمة لنعيم بن سعيد فيما لدي من مراجع. (¬2) سورة الأحزاب: الآية 12.

وضع النساء والأطفال داخل أحد الحصون

وضع النساء والأطفال داخل أحد الحصون وهو حصن لبني حارثة .. دخلته عائشة أثناء غزوة الخندق وتحدّثت عنه .. فقالت: (إنها كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز (¬1) حصون المدينة، وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن) (¬2)، وعندما بدأت المناوشات بين جيش المؤمنين وجيوش الوثنيين كان هناك طفلان يقومان بحركات كلّها فضول براءة .. أسماء بنت أبي بكر وأمّ سلمة كانتا داخل الحصن .. وكان معهما طفلان كالورد .. عبد الله بن الزبير ابن أسماء .. وعمر بن أبي سلمة ابن هند "أم سلمة" .. وفي غفلة من أميهما صعدا إلى أحد الأسطح لمشاهدة ما يحدث خارج الحصن .. كانا قصيرين .. لكن قصر قامتيهما لم يمنعهما من الإصرار على المشاهدة .. فقرّرا أن يتناوبا المشاهده .. ينحني أحدهما فيصعد الآخر على ظهره .. ثم تكون نوبة الآخر في الانحناء .. وهكذا .. ها هو عبد الله بن الزبير .. سنسأله عمّا جرى .. إنه يقول: (جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم (¬3)، يعني حصنًا، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطئ (¬4) لي، فأصعد على ظهره، فأنظر إليهم كيف يقتتلون وأطأطئ له، فيصعد فوق ظهري، فينظر) (¬5). لأنه لا يستطيع سوى النظر فقط .. ولا يسمح له بالمشاركة رغم ¬

_ (¬1) أمنع. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 240) حدثنا عبد الله بن سهل عن عائشة أنها كانت .. وعبد الله بن سهل تابعي ثقة من رجال الشيخين -التقريب (2/ 467) واسمه عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري. قال البخاري: عبد الله بن سهل سمع من عائشة انظر: التهذيب (12/ 215) ويكنى بـ أبي ليلى. (¬3) الحصن. (¬4) ينحني. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (3720) ومسلمٌ (الفضائل) والبيهقيُّ (3/ 439) واللفظ له.

فارس يبحث عنا مبارز

حماس الأطفال وحبّهم لتقليد الكبار .. بقي الأطفال كلّهم مع النساء .. إلَّا من بلغ الخامسة عشر مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي كان يتحرّق للقتال يوم أُحُد .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّه .. وها هو اليوم خارج حصن بني حارثة .. ماذا قال لك النبي - صلى الله عليه وسلم - يا عبد الله .. يقول رضي الله عنه: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه) (¬1)، وسمح له بالقتال والمشاركة بالمعركة .. أمّا من كان دون هذه السن فقد اكتفى بالمشاهدة .. حيث كانت الساحة تموج بالترقّب والتوتّر .. كان المؤمنون فيها خلف سواترهم يرقبون أي اقتحام لهذا الخندق ليضربوا ضربتهم .. أمّا جيوش الأصنام فقد جنّ جنونها مما ترى أمامها من ذكاء عسكري نادر .. وقيادة لا مثيل لها .. حيّرها هذا الخندق .. هذا الإبداع العسكري الذي لم تعرفه العرب من قبل ولم تستخدمه .. إن اقتحامه ضرب من الجنون أو الانتحار .. أما الغزو عن طريق الجهات الأخرى .. فيعني الهزيمة .. فهل ستكتفي قريش ومن معها من الوثنيين بالحصار والقتال عن بعد .. عن طريق التراشق بالنبل والرماية بالأسهم .. ؟ ربما .. فلن يقدر على اقتحام هذا الخندق إلَّا شجاع أو منتحر .. ها هو الشجاع الذي سيقتحم الخندق .. ها هو وقد استطاع عبوره باحثًا عن مبارز .. إنه عمرو بن عبد ودّ: فارس يبحث عنا مبارز وقف أمام جيش المؤمنين متحدّيًا .. يفيض شجاعة وحماسًا .. فانبرى له حتف مخيف كحمزة .. خرج له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .. فبارزه فكان كأمس الذاهب .. وسقط عمرو بن عبد ود وسقط تحدّيه .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4097).

كلمة السر

يقول أحد الصحابة: (قتل من بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبد ود، قتله عليّ بن أبي طالب مبارزة) (¬1). انتظر الوثنيون خروجه من الخندق وسيفه يقطر بأرواح المؤمنين .. لكنه لم يخرج عليهم .. لم يغادر مكانه .. فليس هناك مشرك يصمد أمام سيف عليّ رضي الله عنه .. أحسّ المشركون بأنه لا طريق تؤدي إلى رقاب المؤمنين .. لا دروب إلى المدينة .. إلَّا طريقين لا ثالث لهما .. إمّا المبارزة .. وهذا الأمر بعيد جدًا .. وإمّا الرماية بالسهام .. وهذا هو الأمر الوحيد الذي يقدرون عليه لكنه لن يجدي نفعًا إلَّا إذا تحركت قوات اليهود الخونة وخرجت من حصن بني قريظة .. وبقدر ما كان الخندق يبث الطمأنينة في قلوب المؤمنين كان حصن بني قريظة يثير الخوف والقلق في أوساط المؤمنين .. لذلك قام - صلى الله عليه وسلم - بتغطية كافة الاحتمالات .. لأن المعركة والخيانة قد تشتعلان ليلًا .. فماذا فعل - صلى الله عليه وسلم -؟ كلمة السر كلمة يعرف بها المؤمنون بعضهم بعضًا متى ما دهموا ليلًا من قبل الوثنين .. أو اليهود .. قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: (إن بيَّتكم العدو، فقولوا: {حم، لا ينصرون}) (¬2)، كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ ما ¬

_ (¬1) هذا الجزء من الحديث حسن وهو ما صح من قصة علي مع عمرو بن عبد ود .. رواه الحاكم (3/ 32) وسنده ضعيف لأن الحكم لم يسمع هذا الحديث من مقسم لكن هذا الجزء من الحديث له شاهدان مرسلان .. عند البيهقي (3/ 435) عن عروة .. وعن محمد بن كعب القرظي فقتل علي لعمرو ثابت بهذه الأسانيد .. أما تفاصيل المبارزة وما جرى من حديث فلم أجد سوى مراسيل وهي لا تتقوى ببعضها لاحتمال توحد المصدر. (¬2) حديث صحيح رواه الترمذيُّ (1682) وأبو داود (2597) وأحمدُ (4/ 65 - 289) والحاكم (2/ 117) من طرق عديدة عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أحد =

حوله تمامًا .. يقرأ تفكير الخيانة جيدًا .. ولذلك طلب فارسًا من أصحابه .. يتطوّع للذهاب حيث حصن بني قريظة .. كي يقدم تقريرًا عن آخر تحرّكاتهم .. وهل بدأوا تنفيذ مؤامرتهم مع قريش وغطفان .. هل بدأوا التحرك العسكري للضرب من الخلف .. هبّ الزبير ملبيًا نداء النبي - صلى الله عليه وسلم - .. حمل روحه وسيفه وانطلق كالسهم نحو بني قريظة .. وفي طريقه مرّ من تحت سور حصن بني حارثة .. فشاهده ابنه الصغير عبد الله الذي كان يطل من الحصن بالتناوب مع صديقه الصغير عمر بن أبي سلمة .. يقول عبد الله بن الزبير: (كنت أنا وعمر بن أبي سلمة في الأطم الذي فيه نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أطم حسان، فكان يرفعني وأرفعه، فإذا رفعني عرفت أبي حين يمر إلى بني قريظة "على فرسه"، وكان يقاتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق) (¬1). ويقول الزبير: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم، فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبويه، فقال: فداك أبي وأمي) (¬2)، فقد أدّى عملًا بطوليًا .. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن بني قريظة قد نقضوا العهد وما زالوا على خيانتهم .. تأزّم الوضع .. وبدأ المنافقون بالتململ .. فقد ضاقوا مما يجري .. وبدأت الأزمات تكشف عن حقيقتهم .. وأحرقت نار الحرب تلك القشرة التي يختبئ كفرهم تحتها .. ¬

_ = الصحابة .. والمهلب من ثقات الأمراء وقد سمع منه أبو إسحاق وقال عنه: ما رأيت أميرًا أفضل منه - التقريب (2/ 280). (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3720) ومسلمٌ (الفضائل) وأحمدُ (1/ 164) واللفظ له والزوائد للبخاري. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3720).

فضحتهم الحرب .. وفضحهم الله بآيات كالسيوف على رقابهم .. بدأوا يقدمون التماساتهم وأعذارهم بعدم القدرة على الصمود نظرًا للخطر الذي قد يحدث لأهلهم وبيوتهم .. بعد أن رأوا السهام كالمطر على جيش المؤمنين .. انسحب المنافقون الواحد تلو الآخر .. هربًا من المعركة .. كان منظرهم يجلب الإحباط والغضب لدى المؤمنين لولا ثقتهم بنصر الله ووعده .. اشتدّ الأمر على المؤمنين .. وضاقت بهم السُّبل في أيام تعصف بالجوع والبرد والموت .. أعداء في الخارج أعلى المدينة .. ويهود أسفلها .. ومنافقون في داخلها ينسحبون كالجرذان .. ويطالبون المؤمنين بالاستسلام والتسليم للوثنيين .. يقول سبحانه عن تلك الأيام العصيبة: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا- (¬1) - وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا- (¬2) - (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا- (¬3) - (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا ¬

_ (¬1) مازالوا يسمون المدينة يثرب .. ويطالبون المؤمنين بالرجوع إلى منازلهم لأنهم مهزومون لا محالة .. (¬2) عذرهم في الانسحاب من المعركة أنهم يخافون على بيوتهم من السرقة والأعداء. (¬3) أي لو دخل الأعداء المدينة ثم طلبوا من المنافقين إعلان الكفر لأعلنوه حالًا.

أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ - (¬1) - وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ- (¬2) -} - (¬3) -. أولئك هم المنافقون .. وتلك هي سفالتهم وانحطاطهم .. مات فيهم كل شيء .. حتى بقايا صفات الخير التي كان العرب في الجاهلية يتفاخرون بها .. حتى تلك .. ماتت داخل نفوسهم المتعفّنة .. خنقها عفن النفاق وأجهز عليها .. وها هو العفن يتطاير في أجواء المدينة .. يحاول التسلّل إلى عزائم المؤمنين ليخنقها .. ليبعثر في جنباتها الإحباط .. إنهم الآن بين نسائهم يأكلون ويشربون ويبخلون بطعامهم على أولئك الصامدين أمام الخندق .. وليتهم اكتفوا بذلك .. إنهم يطالبون أولئك الفرسان بالانسحاب والاستسلام .. لأن المعركة في نظرهم محسومة .. وأبو سفيان سيحتل المدينة غدًا إن لم يقم بذلك اليوم .. أولئك المنافقون .. نسوا كل شيء .. نسوا أن المدينة مدينتهم .. نسوا عهدهم مع الله ورسوله .. نسوا بيعتهم لله ورسوله .. نسوا وعدهم بالصمود معه - صلى الله عليه وسلم - وأن لا يفرّوا من المعركة مهما كانت النتائج .. هذا ما بدا للجميع من هؤلاء الأنذال .. أمّا ما خفي فإن الله كشفه بهذه الآيات .. التي غرفت ما بداخلهم .. ونشرته للجميع .. لقد شرَّحتهم الآيات وبيَّنت للناس أيّ سرطان يتمدّد في ¬

_ (¬1) الذين يعيقون غيرهم من الجهاد والدفاع عن المدينة .. ويطالبونهم بالبقاء معهم. (¬2) يشحون على المؤمنين ويبخلون بالمساعدة والجهاد بأموالهم وأنفسهم وحتى بالدعم المعنوي بألسنتهم لا خير فيهم. (¬3) سورة الأحزاب: الآيات 10 - 19.

القتال يشتد

المدينة .. فضحهم الله وبيَّن أنهم جاهزون لإعلان الكفر حالما يرون جيوشه تقتحم الخندق والمدينة .. لكنهم لا يستطيعون ذلك الآن .. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزال هو القائد .. وخوفهم منه وخوفهم من الموت واضح في أعينهم التي تدور كما تدور أعين الذي يعاني سكرات الموت وشدّة النزع .. ويشتد دوران أعينهم أكثر ما يشتد الآن .. فالخوف في كل مكان .. والجوع في كل مكان .. والبرد في كل مكان .. و: القتال يشتد و (اشتدّ الأمر يوم الخندق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يأتيني بخبر بني قريظة، فانطلق الزبير، فجاء بخبرهم) (¬1) وغدرهم الذي لم يتزحزح حتى الآن .. كان - صلى الله عليه وسلم - يخشى على المدينة منهم .. فلديهم من العتاد والعدّة والحقد الشيء المخيف .. ولذلك بعث الزبير مرّة ثانية حتى لا يفاجأ بجيشهم فتكون القاضية .. واستأنف الوثنيون رشقهم بالنبال .. كانت نبالًا طائشة وغير طائشة .. وهذا ما أثار خوف عائشة .. عائشة تخاف على سعد بن معاذ وتقول: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين خرجوا إلى الخندق رفعوا الذراري والنساء في الحصون مخافة العدو عليهم، قالت عائشة: فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة (¬2)، وقد خرجت منها ذراعه، في يده حربته توقد، وهو يقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3720) ومسلمٌ (الفضائل) وأحمدُ (3/ 314) واللفظ له ورواية البخاري عن ابن الزبير رضي الله عنه. (¬2) ربما يعني أنها كانت تضم صدره.

هل أصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه

لبث قليلًا فيشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان فقالت أم سعد: الحق يا بني .. فقد والله أخّرت، فقالت عائشة: يا أم سعد، لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي، فخافت عليه) (¬1). هل أصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه أجل .. لقد أصابه سهم في ذراعه رماه مشرك يدعى: حبان بن العرقة .. وهو يرتجز هذه الأبيات المليئة بالحماس والموت .. والتي ربما قالها رجل سابق اسمه: حمل. سعد بن معاذ .. هذا الفارس العظيم .. والمؤمن النقي .. الذي لا يخشى في الله أحدًا .. والذي دافع عن عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء إشاعة الإفك .. هذا الصحابي الجليل .. أصيب بسهم في ذراعه .. وقد نزف دمًا كثيرًا وحالته خطيرة .. والوضع أخطر .. اعتنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الرجل الكريم .. أمر بحمله ومحاولة علاجه .. وصنع قبّة له داخل المسجد النبوي كي يزوره أهله وأصحابه .. ويكون تحت سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصره .. لكن سعدًا كان جمالًا .. كان فداءً حتى وهو ينزف .. كان محملًا بالأحلام والانتصارات والأماني .. أمنية سعد بن معاذ قبل أن يموت ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق، ومن طريقه البيهقي (3/ 240) حدثنا عبد الله بن سهل، عن عائشة: أنها كانت .. وعبد الله بن سهل هو أبو ليلى المدني، تابعي ثقة من رجال البخاري ومسلمٌ، وقد قال الإمام البخاري: عبد الله بن سهل سمع من عائشة- التهذيب (12/ 215) والتقريب (2/ 467).

تقول عائشة رضي الله عنها: (أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العرقة- وهو حبان بن قيس من بني معيص بن عامر بن لؤي، رماه في الأكحل (¬1)، فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - خيمة في المسجد ليعوده من قريب) (¬2). وتقول رضي الله عنها: (خرجت يوم الخندق أقفو آثار الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي -يعني حس الأرض- فالتفتّ فإذا سعد بن معاذ ومع ابن أخيه الحارث بن أوس، يحمل مجنة، فجلست إلى الأرض، فمر سعد وعليه درع من حديد، قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوّف على أطراف سعد- وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم وهو يرتجز ويقول: ليت قليلًا يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان "قالت: فقمت، فاقتحمت حديقة، فإذا فيها نفر من المسلمين، وإذا فيهم عمر بن الخطاب، وفيهم رجل عليه سبغة له، يعني مغفرًا، فقال عمر: ما جاء بك .. لعمري والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء، أو يكون تحوز .. قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقتّ لي ساعتئذٍ فدخلت فيها، فرفع الرجل السبغة عن وجهه، فإذا طلحة بن عبيد الله، فقال: يا عمر .. ويحك، إنك قد أكثرت منذ اليوم، وأين التحوّز أو الفرار إلَّا إلى الله عَزَّ وجَلَّ". قالت: ويرمي سعدًا رجلٌ من المشركين من قريش يقال له: ابن العرقة بسهم له، فقال: خذها وأنا ابن العرقة، فأصاب أكحله، فقطعه ¬

_ (¬1) عرق في الذراع. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4122).

لقب الزبير

فدعا الله عَزَّ وجَلَّ سعد، فقال: اللهمّ لا تمتني حتى تقرّ عيني من قريظة -وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية- فرقى كلمه) (¬1)، كان سعد يعاني من جرحه .. ومازال يعاني حتى بعد توقف النزيف .. لكن جرحه الذي لا يندمل ولا يبرأ .. هو ذلك الجرح الذي فتحه في أعماقه يهود بني قريظة بخيانتهم لله ورسوله .. ونقضهم العهد وهم يعيشون في ظل دولة الإِسلام .. هذه هي الحرب الثانية .. والخيانة الثانية التي يطعنون بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. لكنها الأشدّ .. لدرجة أنهم جعلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة من القلق جعلته يبحث عن رجل يتوجّه نحو حصن بني قريظة ليرصد آخر تحرّكاتهم .. وهذه هي المرة الثالثة التي يفعلها - صلى الله عليه وسلم - .. ومرة ثالثة يُشرق الزبير .. فيكسوه النبي - صلى الله عليه وسلم - لقبًا بعد عودته .. لقبًا يتميّز به بين أصحابه - صلى الله عليه وسلم -. لقب الزبير يذكره جابر، فيقول: (اشتدّ الأمر يوم الخندق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يأتينا بخبر بني قريظة؟ فانطلق الزبير، فجاء بخبرهم، ثم اشتدّ الأمر أيضًا "ثم ندب الناس، فانتدب الزبير. ثم ندب الناس، فانتدب الزبير"، فذكر ثلاث مرات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لكل نبي حواريًا، وإن الزبير حواريي) (¬2)، أي صاحبي النقي أو ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ لغيره دون ما بين الأقواس الصغيرة فسنده ضعيف لأنه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده عند أحمد (6/ 142) وعمرو بن علقمة يحتاج إلى متابعة -التقريب (2/ 75) حيث قال الحافظ: مقبول .. أي عند المتابعة وبقية الحديث يشهد له ما عند البخاري وابن إسحاق وغيرهما. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2847) وأحمدُ (3/ 314) واللفظ له.

خيانة ثالثة لليهود

وزيري .. والزبير يستحق ذلك بعد جهده وجهاده .. فدى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بروحه .. ففداه - صلى الله عليه وسلم - بأمّه وأبيه .. وتجدّد التماهي بين القائد وجنده في أشدّ لحظات كتابة التاريخ والبطولات .. وقدم الزبير للمرّة الثالثة تقريرًا يؤكد تورط يهود بني قريظة في المعركة والحصار .. لكنهم أجبن من أن ينزلوا إلى ساحة العراك .. لذلك فضّلوا الانتظار فقد تنجح عملية اقتحام المدينة .. عندها يسهل الانقضاض على محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن معه .. لكن الحصار طال .. والانتظار طال .. واليهود تعلم أن هذا المحاصر نبي .. وهناك داخل السور رجال يؤكّدون لمن حولهم من اليهود أن هذا هو النبي المنتظر .. كان هناك أكثر من ثلاثة رجال يحاولون إقناع من حولهم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - نبيّ -لكن اليهود تعاند- واليهود لها تاريخ دموي مع أنبياء سابقين .. فقد تمكنت من اغتيال عددٍ منهم .. فما المانع أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - ضمن قائمة من حكم عليهم بالإعدام لدى أحبارهم .. لكن خبث اليهود لم يقتصر على هذا التفكير .. فاحتمال انتصار المسلمين وارد .. والمعجزات قد تأتي في أي وقت وفي أي مكان .. لذلك قامت اليهود بمبادرة تستدرج فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - .. قامت بدور العميل المزدوج حتى تأمن جانب المسلمين في حالة انتصارهم .. وإن كان انتصارهم بعيدًا .. بعيدًا في ظل هذا الحصار والجوع القاتلين .. لكن اليهود تخطّط لأسوأ الاحتمالات .. فماذا فعلت؟ خيانة ثالثة لليهود والخيانة تشمكل نسبة لا بأس بها من دمائهم وعروقهم .. اجتمع أحبارهم وزعماؤهم .. وقرّروا بعث رسول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يظهرون فيه أنهم معه في هذه المعركة .. وأنهم جاهزون لأي إجراء يتّخذ ضدّ قريش وغطفان .. وقدّموا الدليل على ما يدّعون ..

تقول عائشة رضي الله عنها إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن اليهود قد بعثت إلي: إن كان يرضيك عنا أن تأخذ رجلًا رهنًا من قريش وغطفان من أشرافهم، فندفعهم إليك، فتقتلهم) (¬1)، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - متعطّش إلى الدماء .. أيّ دماء .. وكأنه يستبيح أي شيء من أجل الوصول إلى هدفه .. كانوا يريدون إشراك النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في خستهم تلك .. هل هذا الفعل الحقير .. وهذه النفوس المنحطة يمكن أن تكون لقوم يدينون بدين سماوي .. ويزعمون أن لديهم كتابًا منزلًا من عند الله بذلك .. إن الخيانة هي أهون شيء في قائمة ألقاب اليهود وصفاتهم .. أدرك - صلى الله عليه وسلم - أن هؤلاء القوم لن يتورعوا عن فعل أي شيء .. وهدم أي مبدأ .. وتجاوز أي مقدس .. وانتهاك أي محرم من أجل أحقادهم .. لذلك قرر أن يسقيهم من الكأس الذي سقوه منه .. قرر - صلى الله عليه وسلم - إطلاع قريش وغطفان على غدر قريظة بهم وذلك عن طريق رجل يشدك ويثيرك عندما يتكلم ويؤثر في سامعيه .. تقول عائشة رضي الله عنها: (كان نعيم رجلًا نمومًا، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن اليهود قد بعثت إلي: إن كان يرضيك عنا أن تأخذ رجالًا رهنًا من قريش وغطفان، من أشرافهم، فندفعهم إليك، فتقتلهم؟ فخرج من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم، فأخبرهم بذلك .. فلما ولى نعيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الحرب خدعة) (¬2). ¬

_ (¬1) سنده صحيح .. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 447): حدثنا يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة .. ويزيد مولى آل الزبير تابعي صغير ثقة -التقريب (2/ 264)، وشيخه، إمام ثقة مر معنا كثيرًا. (¬2) سند صحيح وهو الحديث السابق.

دعاء سيد البشر

وقريش تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكذب .. وتحقق للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراد فتم عزل بني قريظة عن قريش وغطفان .. وانكسر أحد أضلاع مثلث الأحزاب .. فتزعزعت ثقة الأحزاب بأحلامهم وجيشهم .. وأصبحت الهزيمة عندهم قابلة للاحتمال .. وبدأت بوادر استجابة الله لدعاء سعد بن معاذ .. الذي حاول - صلى الله عليه وسلم - علاجه .. يقول جابر رضي الله عنه: (رمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ، فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنار، فانتفخت يده، فحسمه أخرى، فانتفخت يده، فنزفه، فلما رأى ذلك، قال: اللَّهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه، فما قطر قطرة) (¬1). استجاب الله لسعد بن معاذ .. فأي مصير ينتظر بني قريظة .. استجاب الله دعاء سيد الأنصار .. فهل يستجيب الله لـ: دعاء سيد البشر الذي حاصره الكفر من كل مكان .. وطال عليه الحصار .. وسيطر الخوف على كل شبر في المدينة .. وصار الطفل والمرأة والرجل يخشون على أنفسهم إذا خرجوا لقضاء حاجة .. اشتد البرد والشتاء والجوع .. وبلغت الحال كما وصف الله في القرآن: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (3/ 350) حدثنا حجين ويونس قالا: حدثنا الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر .. وظاهر هذا السند الضعف لأن أبا الزبير مدلس وقد عنعن .. لكن ذلك لا يضر في هذه الحالة لأن الراوي عن أبي الزبير هو الليث بن سعد وقد أعلم له أبو الزبير ما سمعه من جابر فرواه عنه .. التهذيب (9/ 442) وحجين ثقة -التقريب (1/ 155).

هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)} (¬1) هذا هو الوضع الآن .. وهذه هي المدينة .. كالطفل الخائف .. طيبة خائفة .. والرعب يطل عليها من رؤوس الجبال .. وشقوق الأبواب .. ومن بين النخيل .. والمشركون يستعدون الآن لشن هجوم شرس للقضاء على هذا الملل والانتظار .. للقضاء على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. وبدأ الهجوم في ظهيرة أحد الأيام الباردة .. فتصدى له المسلمون .. وكان - صلى الله عليه وسلم - يمثل جيشًا على إحدى مداخل الخندق .. يحميه ويذود عنه .. ويفتك بمن يقتحمه .. حتى صدهم عن ذلك الثغر .. وقد بقي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك المدخل من بعد صلاة الظهر إلى أن توارت الشمس وغابت .. يقول علي رضي الله عنه: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوم الأحزاب قاعدًا على فرضة من فرض الخندق، فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا) (¬2). وها هو أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحابة .. مشغولون عن الصلاة بقريش ومن معها .. لقد ذهب وقت صلاة العصر .. ودخل المغرب وهم يحاربون .. ها هو عمر قد استشاط غضبًا على أولئك الوثنيين ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: الآيات 10 - 14. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (الدليل لمن قال .. كتاب المساجد) والبيهقيُّ (3/ 443) واللفظ له.

(عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش، قال: يا رسول الله .. ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله ما صليتها. فقمنا إلى بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب) (¬1) في ذلك الوادي المسمى: بطحان .. وحول الخندق كان الليل إذا أقبل .. أقبل مع الليل برد شديد .. وعندما تشرق الشمس تشرق معها المنايا .. ففي أحد الأيام أشرقت الشمس والمعركة .. وحميت المعركة وتأجج لهيبها ولم يستطع النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الصلاة من شدة القتال .. خرج وقت صلاة الظهر .. والعصر والمغرب ولم تهدأ المعركة إلا بعد في دخول صلاه العشاء: يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (حبسنا يوم الخندق عن الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، حتى كفينا ذلك، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بلالًا فأقام، ثم صلى الظهر، كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام المغرب، فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك، ثم أقام العشاء، فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك) (¬2) هكذا بلغ الحصار بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. لم يجدوا حتى دقائق قليلة لأداء الصلوات في أوقاتها .. ماذا يفعل - صلى الله عليه وسلم - وسط هذا الخوف والجوع .. وسط هذا الزلزال .. لم يجد وسيلة مباحة إلا استخدمها .. ولم يبق أمامه وأمام أصحابه سوى الدعاء .. (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب فقال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (596) ومسلمٌ - كتاب المساجد. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4115).

استجاب الله دعاء نبيه

اللَّهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللَّهم اهزمهم وزلزلهم) (¬1) دعا دعاء المكروب .. المحتاج .. وما كان الله ليذر نبيه وعباده الصالحين في همومهم وقد بذلوا كل جهدهم وطاقتهم له ومن أجل رضاه سبحانه. استجاب الله دعاء نبيه وها هي طلائع الهزيمة تقترب نحو الأحزاب دون أن يشعروا .. بعث الله جيشًا لا يقهر نحو أعدائه .. بعث الله الريح والبرد وجنودًا لا يرونها .. أما المؤمنون فقد أصابهم البرد امتحانًا من الله .. وتمحيصًا لهم .. وتكفيرًا .. وقد أخرج البرد بقايا المنافقين من صمتهم .. فانطلقوا يعتذرون من النبي - صلى الله عليه وسلم - للعودة إلى منازلهم .. فأذن لهم .. وبقي هو وأصحابه متجمدين من شدة البرد لا يقوون على الحركة ولا القتال .. أما في معسكر الوثنيين فقد هاجت الريح عليهم .. فأطفأت نارهم .. واقتلعت خيامهم .. وقلبت قدورهم .. وملأت أنوفهم وعيونهم وأفواههم بالتراب والهزيمة .. أما البرد فقد أعجزهم عن الحركة .. وتحول معسكرهم إلى ساحة كبيرة من النفايات والفوضى والرعب .. البرد والجوع والخوف ينتقل من المدينة .. يعبر الخندق كوحش لا يطاق .. ويتحول الأحزاب إلى أكوام .. إلى ركام من الفشل .. ويتفرق شملهم .. تنهار أحلامهم أمام أعينهم .. تتطاير مع الريح والغبار .. فماذا سيفعلون .. وماذا فعل - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه الذين مستهم الريح ومسهم البرد والجوع. قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - السماح لأصحابه بالعودة إلى بيوتهم .. فقد جاء نصر الله بريح وجنود لا يراها البشر .. فعاد من أحب العودة منهم .. وبقي من بقي ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4115).

فقد كفى الله المؤمنين القتال .. وفي أشد ساعات الريح والبرد .. كان - صلى الله عليه وسلم - يستدفئ بمناجاة حبيبه سبحانه .. كان يتمتع بصلاته .. ويريح نفسه بها .. قيل لذلك الشاب الذي يشارك لأول مرة .. قيل لعبد الله بن عمر بن الخطاب: (أين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوم الأحزاب؟ قال: كان يصلى في بطن الشعب، عند خربة هناك، ولقد أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الانصراف للناس، ثم أمرني أن أدعوهم، فدعوتهم) (¬1) لكنهم لم يعودوا. ولم يستطيعوا العودة من شدة البرد والجوع .. وكان لعدم عودتهم قصة يحكيها ذلك الشاب أيضًا .. الذي أرسله خاله الصوام القوام عثمان بن مظعون .. ليحضر بعض الطعام ولحاف عله يذهب ما به وبأصحابه من ريح وجوع وبرد .. يقول عبد الله بن عمر: (أرسلني خالي: عثمان بن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد وريح إلى المدينة، فقال: ائتنا بطعام ولحاف. فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذن لي، وقال: من أتيت من أصحابي فمرهم أن يرجعوا. فذهبت الريح تسفي كل شيء، فجعلت لا ألقى أحد إلا أمرته ¬

_ (¬1) رجاله ثقات رواه الطبراني (12/ 369): حدثنا محمد بن الحسين الأنماطي، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر عن نافع، قال قيل لعبد الله .. وهذا السند، رجاله ثقات: عبيد الله ثقة ثبت (التقريب- 1/ 537) وعبد العزيز الدراوردي: صدوق (التقريب- 1/ 512) ومصعب صدوق (التقريب- 2/ 252) وشيخ الطبراني سكت عنه الشيخ حماد الأنصاري حفظه الله في البلغة (280) ووجدت توثيقه في تاريخ بغداد (2/ 227) لكن يعكر على صفو هذه السلسلة قول الإمام أحمد أن الدراوردي: ربما قلب حديث عبد الله بن عمر يرويها عن عبيد الله .. لكن الراجح أنه لم يقلب هنا .. لأنه روى نحو هذا الحديث وهو الحديث التالي وقد توبع تابعه إمام ثقة هو ابن وهب عند ابر جرير (ابن كثير- الأحزاب).

الريح في معسكر الوثنيين

بالرجوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما يلوي أحد منهم عنقه. وكان معي ترس لي، فكانت الريح تضربه علي، وكان فيه حديد، فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي، فأبعدها إلى الأرض) (¬1) وسط هذا الجو العاصف البارد .. كانت الريح معركة وحدها .. أشغلت كل إنسان بنفسه .. فصار لا يدري ما حوله ولا من حوله .. وخلال هذا الجو المخيف .. كان - صلى الله عليه وسلم - يناجي ربه الذي أنزل نصره .. وأرسل ريحه .. كان الجميع مشغولين بأنفسهم .. ونبي الله - صلى الله عليه وسلم - مشغول بصلاته ودعائه .. لكن ماذا عن الجهة الأخرى من الخندق .. ماذا عن الوثنين وماذا فعلت بهم الريح .. الريح في معسكر الوثنيين النبي - صلى الله عليه وسلم - يتساءل أيضًا عن أحوالهم .. فقد هتف - صلى الله عليه وسلم - بالقلة المحيطين به ونادى بالتطوع لاكتشاف ما حل بالمشركين لكنه لم يجد مجيبًا .. ثم هتف فلم يجبه أحد .. وكرر ثالثة .. فكانت الريح والبرد هي الإجابة .. ولما رأى - صلى الله عليه وسلم - أن التطوع في هذه الساعة صعب .. أمر - صلى الله عليه وسلم - أحد الصحابة .. فنفذ ما أمره به .. هذا الصحابي .. هو ابن حسيل .. حذيفة ذلك الرجل الصالح الذي استشهد أبوه في معركة أحد بسيوف المؤمنين يحدث من ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه ابن جرير (تفسير ابن كثير- الأحزاب) حدثنا يونس ابن وهب، حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر .. ونافع تابعي إمام ثقة معروف، وعبيد الله ثقة ثبت مر معنا في الحديث السابق .. والراوي عنه ثقة ثبت حافظ من رجال الشيخين (التقريب- 1/ 460) وتلميذه ثقة من رجال مسلم واسمه يونس بن عبد الأعلي بن ميسرة الصدفي (التقريب- 2/ 385) والحديث عند الطبراني (12/ 368) والأوسط (مجمع البحرين- 5/ 108) من طريق الدراوردي عن عبيد الله وقد توبع هنا والحديث شاهد لبعض ما قبله.

حوله عن مهمته تلك الليلة عندما قال له أحد أصحابه: (لو أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاتلت معه وأبليت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريحٌ شديدة وقرٌّ (¬1)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا. فلم يُجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا. فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا. فلم يجبه منا أحد. فقال: قم يا حذيفة .. فأتنا بخبر القوم. فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: اذهب، فأتني بخبر القوم، ولا تذعرهم علي (¬2). فلما وليت من عنده، جعلت كأنما أمشي في حمام (¬3)، حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي (¬4) ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولا تذعرهم علي (¬5)، ولو ¬

_ (¬1) أي البرد. (¬2) لا تثيرهم ولا تحركهم. (¬3) أي كأنه يسير في حمام دافئ معجزة من عند الله رغم شدة البرد. (¬4) أي يدفئ. (¬5) لا تثيرهم ولا تحركهم.

رميته لأصبته، "فذهبت، فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرًا ولا نارًا ولا بناءً [فحس أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم] فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش: لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع، والخف (¬1)، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته، فأخبرته بخبر القوم، وفرغت، قررت (¬2)، فألبسني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت. فلما أصبح - صلى الله عليه وسلم - قال: قم يا نومان (¬3)) (¬4). فقد أصبحت المدينة وأصبح الملك لله .. وأصبح النصر لله ورسوله .. ¬

_ (¬1) الكراع يعني الخيل والخف الإبل. (¬2) أي بردت. (¬3) يا كثير النوم .. يمازحه - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) حديث صحيح رواه مسلم (الجهاد- غزوة الخندق) والزوائد -ما بين الأقواس الصغيرة- ليست لمسلم إنما هي حسنة لغيرها رواها ابن إسحاق بسند يحتمل الانقطاع بين حذيفة ومحمَّد بن كعب القرظي وهو تابعي كبير أدرك عليًا وروى عنه (ابن هشام- 3/ 139) ويقويه ما عند البيهقي (3/ 450) وفي سنده موسى بن أبي المختار وهو يحتاج إلى توثيق -الجرح والتعديل (8/ 164).

الخندق مقبرة قوة قريش

وخلت الساحة من الأوثان والوثنيين الذين ولوا مدبرين .. تكنس الريح أثارهم ونفاياتهم .. نظر - صلى الله عليه وسلم - إلى ساحة القتال فحمد الله هو وأصحابه .. وذكرهم بنعمة الله عليهم .. ومعجزته التي لوت أعناق المشركين وأذلتهم .. كما أذلت أعناق مشركين آخرين في زمن غابر جدًا .. إنهم قوم النبي الكريم: هود وهم قوم عاد .. فقد نصر الله نبيه هود بريح عاتية آتية من الغرب .. ونصر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بريح عاتية آتية من الشرق .. ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده" (¬2) وقد حول ساحة المؤمنين إلى نصر وربيع .. فالحمد والشكر لمن هزم الأحزاب وحده .. كانت معركة غير متكافئة عددًا واستعدادًا .. لكن المؤمن عندما يفعل الأسباب .. ثم يتوجه بها نحو الله تتحول النتائج إلى أعياد .. ها هو - صلى الله عليه وسلم - يبشر أصحابه بعد انتهاء المعركة بنهاية عصر وبداية آخر .. يبشرهم - صلى الله عليه وسلم - بانهيار هيبة قريش .. وانكسار حربتها .. يبشرهم بأن: الخندق مقبرة قوة قريش فليس هناك بعد اليوم هجوم أو حصار من قريش .. سمع ذلك أحد الصحابة الذين شاركوا في الخندق واسمه سليمان بن صرد رضي الله عنه. فقال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول حين أجلى الأحزاب عنه: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1035) ومسلمٌ (الاستسقاء). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4114) ومسلمٌ (الذكر- الدعاء). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4110).

إلى أين يحمل (صلى الله عليه وسلم) سلاحه

كان - صلى الله عليه وسلم - في الفترة السابقة حريصًا على وحدة المدينة .. وتماسكها .. وتجذير الإيمان والتوحيد والحب فيها .. بينما كانت قريش حريصة على تقويض ذلك كله .. حاولت في معركة بدر بقيادة الطاغوت أبي جهل وفشلت .. وقادها للثأر أبو سفيان في معركة أحد .. فلم تنل ما حملت به .. وها هي تعود محطمة بعد معركة الخندق هي ومن ساندها من الأحزاب .. تعود إلى مكة وقد تفتتت هيبتها .. وانكسرت شوكتها .. ويعود - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى بيوتهم بعد أن انتصروا .. رجعوا ليغتسلوا من عناء أيام قاسية .. ومن غبار ريح عاتية: النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع سلاحه ويغتسل ولكن شيئًا حدث جعله يلبس أداة الحرب مرة أخرى .. ففي بيت عائشة رضي الله عنها كان - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من المعركة ويتطيب .. ولكن تقول عائشة: (لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل "وهو ينفض رأسه من الغبار" فقال: قد وضعت السلاح! والله ما وضعناه، فأخرج إليهم. قال: إلى أين) (¬1). إلى أين يحمل (صلى الله عليه وسلم) سلاحه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل فـ (قال: إلى أين؟ قال: ها هنا وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) (¬2) وقبل أن يتحرك جيش النبي - صلى الله عليه وسلم - .. تحرك موكب جبريل في طرقات المدينة .. ومر بطريق يقال له "زقاق بني غنم" لم يرهم أحد .. لكن أنسًا رضي الله عنه رأى غبارًا ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4117) والزيادة لمسلم. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4117).

النبي (صلى الله عليه وسلم) ينطلق إلى بني قريظة

في ذلك الزقاق .. غبارًا أثاره موكب جبريل .. يقول أنس رضي الله عنه: (كأني انظر إلى الغبار ساطعًا في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة) (¬1). النبي (صلى الله عليه وسلم) ينطلق إلى بني قريظة قبل ذلك يرسل مجموعة من أصحابه نحوهم .. وكان أحد هؤلاء ذلك الشاب الذي سيشارك مرة ثانية في الجهاد معه - صلى الله عليه وسلم- .. عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق، وقال بعضهم: "لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن فاتنا الوقت" لا نصلى حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلى، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف أحدًا منهم) (¬2). ثم لحق بهم -صلى الله عليه وسلم- حتى وصل إلى حصنهم .. ولم يكن ذلك الحصار مهمًا إلى هذه الدرجة عنده وعند أصحابه .. لم يكن - صلى الله عليه وسلم - على عجلة من أمره في حصارهم .. فقد ذهب إلى بيته واغتسل وتطيب ولكن الله سبحانه أخرجه من بيته إليهم .. فالأمر خطير جدًا .. وما فعله بنو قريظة أخبث مما فعله الأحزاب .. فلم يكن بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش وغطفان معاهدة عدم اعتداء .. بل كان هناك عداوة .. أما قريظة فبينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4118). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (946) والزيادة لمسلم.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يحاصرهم بالسيوف والشعر

مكتوب .. ووثيقة موقع عليها .. وجوار يجب حفظه .. لكن قريظة نسفت ذلك كله .. وخانت للمرة الثانية وتآمرت .. وطعنت من الخلف .. وإذا كان الأمر كذلك فلا غرابة أن يخرج الله نبيه إليهم بهذه السرعة .. وأن يأمر - صلى الله عليه وسلم - بعدم الصلاة إلا عند حصونهم .. إن ما فعله اليهود سيتكرر لأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس من بني إسرائيل .. وما داموا قد قتلوا أنبياء من بني إسرائيل .. فلا مانع من تكرار التجربة مع نبي ليس منهم .. ستتلمظ الخيانة أفعى داخل كل حصن تسكنه يهود .. ولن يعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون طعم الراحة والأمن ما داموا فيها .. وصل جيش الإِسلام إلى هناك .. فتزلزلت الحصون .. وارتعدت الأوصال .. وبدأ الخوف والضجيج والتلاوم بين اليهود .. وشرب بنو قريظة من الكأس الذي سقوه للمؤمنين .. شاركوا في حصار المدينة .. وها هم يعيشون المأساة نفسها. النبي (صلى الله عليه وسلم) يحاصرهم بالسيوف والشعر طوق جيش الإِسلام حصن بني قريظة .. ووصل في معية النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعره الكبير حسان بن ثابت الذي هتف به - صلى الله عليه وسلم - وهتف بشعره فقد (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان يوم قريظة: أهجم أو هاجهم وجبريل معك) (¬1) (اهج المشركين فإن جبريل معك) (¬2) هجاهم حسان .. ورماهم بأبيات كالرماح .. لا بد أنه وصفهم بالخيانة والتآمر والغدر .. وكفى بتلك الصفات أن تهزم صاحبها .. لمع شعر حسان ولمعت السيوف .. فصاحت قريظة تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مخرج لهذه الورطة وهذا الحصار. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4123). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4124).

قريظة تبحث عن مخرج

قريظة تبحث عن مخرج عرض عليهم - صلى الله عليه وسلم - أمرين .. وإلا فإن الموت سيقتحم حصونهم .. الأمر الأول: أن يسلموا. فإن أبوا ذلك فعليهم بالأمر الثاني: وهو النزول تحت حكمه - صلى الله عليه وسلم - وأن يرضوا بعقوبة الخيانة التي سينزلها بهم .. ولم يحددها - صلى الله عليه وسلم - حتى الآن .. وهي عقوبة يتوقع اليهود أن تكون شديدة تناسب حجم نذالتهم وغدرهم .. فليست هذه هي الأولى في سجل خياناتهم .. فقد (حاربت قريظة والنضير فأجلى - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، وأقر قريظة ومن عليهم) (¬1) وأعطاهم الأمان .. وعفا عنهم وسامحهم .. ولكنه أخذ عليهم عهدًا مكتوبًا .. وثيقةً بعدم الخيانة والتآمر والغدر .. كتب بينه وبينهم وثيقة بحسن الجوار وأشياء أخرى .. لكنهم يهود .. عادوا فنقضوا كل ما كتبوا .. وها هم أمام حصار خانق وخيارين لا ثالث لهما إلا الموت .. وفجأة دوت صرخة زعيم من زعماء يهود .. تناشد أحد الصحابة وهو "أبو لبابة" رضي الله عنه: أبو لبابة يثير الرعب فى نفوس يهود بعدما (قذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لبابة بن عبد المنذر .. وكانوا حلفاء الأنصار "فقال أبو لبابة: لا آتيهم حتى يأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أذنت لك" فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه، وقالوا: يا أبا لبابة .. ماذا ترى، وماذا تأمرنا فإنه لا طاقة لنا بالقتال؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمرَّ عليه أصابعه، يريهم أنما يراد بهم القتل) (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4028). (¬2) حديثٌ حسنٌ عدا ما بين الأقواس الصغيرة .. رواه ابن إسحاق وهو في مغازي موسى .. =

قريظة تطلب خيارا ثالثا

فازدادوا رعبًا إلى رعبهم .. وزلزلهم الهلع والخوف .. وأدركوا فداحة جرائمهم .. والمجرم الموغل في الاجرام لا يدرك شناعة جرائمه إلا إذا نزل به العقاب .. مصير شنيع يفتح أذرعه القاسية لليهود .. ويستشير اليهود بعضهم بعضًا .. فيلمحون في الأفق سرابًا عله يكون ماءً .. فينطلق الصراخ والمناشدة الخائنة من الحصن مرة أخرى .. فماذا تريد اليهود هذه المرة؟ قريظة تطلب خيارًا ثالثًا اقترح اليهود الخائفون حلًا أخيرًا لورطتهم التي رسموها بأنفسهم .. اقترحوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حلًا ثالثًا .. فهم لا يطيقون الحرب .. ولا النزول على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما مرر أبو لبابة أصابعه على حلقه .. وهم أيضًا مازالوا يعاندون ويرفضون الإِسلام رغم اقتناعهم بأن محمدًا-صلى الله عليه وسلم- نبي مرسل .. لقد طلبوا منه -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل حكمهم بيد حليفهم السابق .. الصحابي الجريح سيد الأنصار: سعد بن معاذ .. مهما كان هذا الحكم. قبل - صلى الله عليه وسلم - هذا الاقتراح وأرسل في طلب سعد بن معاذ .. وإحضاره من خيمته داخل المسجد النبوي حيث يتم تمريضه هناك .. وصل رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد وأخبره الخبر .. فأدرك سعد أن الله قد استجاب دعاءه عندما دعاه والدماء تشخب من عروقه والموت يزحف إليه .. قال سعد حينها: (اللَّهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة ¬

_ = عن الزهرى وعن عروة مرسلًا (سيرة ابن كثير- 2/ 229) لكن له شاهد عند أحمد من طريق محمَّد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده وقد قال ابن كثير (إسناده جيد) والأصوب أن فيه عمرو بن علقمة الوقاصى وهو يحتاج إلي توثيق لذلك قال الحافظ في التقريب (2/ 75) مقبول: أي عند المتابعة والشواهد .. انظر سيرة ابن كثير (3/ 237).

من الذين خرجوا من حصن بنى قريظة

فاستمسك عرقه، فما قطر قطرة) (¬1) من دم. وبقي سعد صابرًا في خيمته .. محتسبًا ألم جرحه عند الله .. حتى أتاه الفرج .. وأتاه مبعوث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يطلبه للحكم في قضية خيانة بني قريظة .. حُمل سعد على حمار وتوجه به المبعوث إلى بني قريظة .. وقبل أن يصل سعد .. كان هناك اضطراب وضجيج وحركة داخل الحصن .. وفجأة فتح الباب .. وخرج منه رجال ونساء .. إنهم يتوجهون الآن نحو النبي - صلى الله عليه وسلم. من الذين خرجوا من حصن بنى قريظة إنهم رجال ونساء يريدون الإِسلام والنجاة في الدنيا والآخرة .. هؤلاء (بعضهم لحقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فآمنهم وأسلموا) (¬2). وكان من بين هؤلاء .. ثلاثة شباب ليسوا من بني قريظة .. لكنهم دخلوا حصونهم ودينهم منذ زمن هربًا من الشرك .. لعل الله أن يهديهم على يد ذلك النبي المنتظر الذي تنتظره اليهود .. يحدثنا عن هؤلاء الثلاثة رجل شاهدهم وسمعهم وعاش معهم .. وخرج معهم من الحصن .. (شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عما كان إسلام: أسيد، وثعلبة ابني سعية، وأسد بن عبيد: نفر من هذل، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذاك؟ فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام، من اليهود، يقال له: "ابن الهيبان" فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلًا قط يصلي الخمس خيرًا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، فكنا إذا قحطنا، وقل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان .. اخرج فاستسق لنا، فيقول: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (3/ 350) وقد مر معنا تخريجه تحت عنوان خيانة ثالثة. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4028).

لا والله، حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة. فنقول: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر أو مدين من شعير، فنخرجه، ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا -ونحن معه- فيستسقى، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمر الشعاب، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين، ولا ثلاثة. فحضرته الوفاة، واجتمعنا إليه. فقال: يا معشر اليهود .. ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير (¬1)، إلى أرض البؤس والجوع (¬2)؟ قالوا: أنت أعلم. قال: إنما أخرجني أتوقع (¬3) خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلاد مهاجره، فأتبعه، فلا تسبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممّن يخالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات. فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الفتية وكانوا شبابًا أحداثًا: يا معشر يهود .. والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان. فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى والله، إنه لصفته، ثم نزلوا، فأسلموا، وأحرزوا أموالهم، وأولادهم، وأهاليهم) (¬4) انتهى كل شيء بالنسبة لهم .. لم يعودوا أعداءً .. ¬

_ (¬1) أي أرض الشام حيث الأنهار والأشجار والخمر. (¬2) أي المدينة قبل أن يدعو لها النبى - صلى الله عليه وسلم - بالبركة. (¬3) أي أنتظر وأتربص وآمل. (¬4) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (2/ 80): حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بنى قريظة .. وعاصم تابعى ثقة عالم بالمغازي التقريب .. وشيخه صحابي أدرك ذلك الحدث وأسلم رضي الله عنه وروى ذلك الحدث وقد يكون عطية القرظي رضي الله عنه.

ولم يجدوا من يعاتبهم أو يلومهم .. أو حتى يذكرهم بمواقفهم .. انتهى كل شئ فالإسلام يمحو ما قبله .. أدرك هؤلاء أن دين الله الصحيح أرحب من أن يحبس في حصن من حصون يهود .. وأعظم من أن تستقل به قبائل بني إسرائيل .. خرج هؤلاء فوجدوا أذرعًا وقلوبًا مفتوحة .. ووجدوا رسول الله والإِسلام .. وأما من أغلقوا على أنفسهم أبواب الحصن والعناد والتعصب .. فقد وصل إليهم سعد بن معاذ كما طلبوا .. وصل سعد على حماره .. قطع تلك المسافة ليرضى الله ورسوله .. ولتقر عينه من بني قريظة الخونة .. كان: وصول سعد بن معاذ إلى ذلك المكان يحبس الأنفاس .. شاهده النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قادم .. وكان - صلى الله عليه وسلم - في مسجده المؤقت قرب الحصن .. فسر لمرآه .. وهتف بأصحابه: (قوموا لسيدكم) (¬1) يقول أبو سعيد الخدري رضى الله عنه: (نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد، فأتى على حمار، فلما دنا قريبًا من المسجد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا لسيدكم، أو لخيركم، ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك) (¬2). كل هذا يحدث ومازال أمام اليهود فرصة للحياة بالإِسلام .. لكنه الحسد .. كيف يخضع بنو إسرائيل لعربي .. وكأن الإِسلام والتوحيد جاءا من أجل العرب لا من أجل الدنيا كلها .. اكتفوا بمناشدة سعد والتوسل إليه .. فماذا قال سعد يا عائشة .. ؟ تقول رضي الله عنها إن اليهود: (قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه، وحف به قومه. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4121). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4121).

"فقالوا: يا أبا عمرو .. حلفاؤك، ومواليك، وأهل النكاية، ومن قد علمت -ولا يرجع إليهم شيئًا ولا يلتفت إليهم- حتى دنا من دورهم، التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم". قال أبو سعيد: فلما طلع قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: قوموا إلى سيدكم "فأنزلوه. قال عمر: سيدنا الله. قال: أنزلوه" قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احكم فيهم. فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذراريهم، وتقسم أموالهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد حكمت فيهم بحكم الله [من فوق سبع سماوات]) (¬1) (حكم الله فيهم وكانوا أربعمائة) (¬2) مقاتل .. خانوا .. وتربصوا بالمؤمنين الدوائر .. وتعاونوا مع الأعداء لإزالة دولة الإِسلام .. أخذ هؤلاء على حدة .. وأخذ الأطفال والنساء على حدة .. أما من أسلم فقد عاد إلى الحصن .. إلى أهله وأولاده وإلى ماله الذي لم يمس .. ثم توجه بهم المسلمون نحو سوق المدينة .. وأدخل النساء والأطفال بيوت ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ عدا ما بين الأقواس الصغيرة وله شواهد صحيحة .. وهو حديث عائشة الذي حسنه ابن كثير وهو من طريق محمَّد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده عن عائشة .. وأبوه يحتاج إلى توثيق - والحديث حسن بالأحاديث الصحيحة عند البخاري وأحمدُ وغيرهما والزيادة بين المعقوفين حسن عند ابن سعد (3/ 426) من طريق التمار وهو حسن الحديث ولها شاهد مرسل عند ابن إسحاق .. من طريق محمَّد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده .. (¬2) سنده صحيح وقد مر معنا من رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر عند أحمد (3/ 350) وقد مر تحت عنوان (خيانة ثالثة).

المرأة الوحيدة التى ستقتل من بنى قريظة

النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيوت أصحابه .. وكانت إحدى نساء اليهود قد ارتكبت جريمة لم يعرف حتى الآن من هو الذي فعلها .. والمرأة الآن موجودة عند عائشة .. تتظاهر بالمرح والسرور .. وتضحك ضحكًا أثار استغراب عائشة رضى الله عنها ودهشتها في مثل هذا الظرف الذي تكون فيه المرأة مليئة بالحزن والنواح .. غارقة بدموعها على قومها .. جمع الرجال بعيدًا عن أطفالهم ونسائهم .. وتم تنفيذ حكم سعد فيهم .. وقرت عينه من بني قريظة .. وشفى غليله من غدرهم .. وفجأة .. وأثناء تنفيذ الحكم .. صاح صائح ينادي باسم تلك المرأة الضحوك .. لقد اكتشف سرها .. فماذا ستفعل .. وهى: المرأة الوحيدة التى ستقتل من بنى قريظة تقول عائشة رضي الله عنها عن تلك المرأة الغريبة: (لم يقتل من نسائهم "تعني بني قريظة" إلا امرأة واحدة، والله إنها لعندي تحدث معي، وتضحك ظهرًا وبطنًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالها في السوق، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قلت لها: ويلك .. مالك؟ قالت: أُقْتَلُ. قلت: ولِمَ؟ قالت: لحدث أحدثته.

قصة دينة بنت يعقوب

فانطُلِقَ بها، فضرب عنقها، فكانت عائشة تقول: والله ما أنسى عجبًا منها، طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل) (¬1). هذا هو حكم الله في هؤلاء اليهود الذين كادوا ينشرون الموت والرعب في كل شبر في المدينة لو انتصر الأحزاب .. حكم عاجل وحازم وحاسم .. أخرج نبيه من بيته .. من استراحته .. وأمره على الفور بالخروج لتنفيذ هذا الحكم العادل .. قد يتعاطف أحد مع يهود بني قريظة ويقول: لماذا هذا الحزم مع اليهود .. لماذا كل هذه الشدة .. ولا أجد جوابًا أعظم من أنه حكم الله وحده لا شريك له .. لكن هناك إضافة يسيرة وجدتها في توراة القوم .. تخول اليهود أن يفعلوا ما يشاءون بأعدائهم .. إذا بدرت منهم إساءة لليهود فكيف إذا كانوا في نظرهم كفارًا كالمسلمين .. هذه الإضافة تجدها في: قصة دينة بنت يعقوب تقول القصة إن يعقوب عليه السلام وأبناءه سكنوا مدينة "شكيم" واشتروا أراضي لهم .. فخرجت دينة ذات يوم تتمشى فرآها ابن الملك "حمور" واسمه "شكيم" فاغتصبها ثم طلب من أبيه أن يخطبها .. فتكدر يعقوب عليه السلام لما حدث لابنته وسكت حتى جاء أبناؤه .. وقال لهم إن الملك عرض عليه الإقامة الدائمة والمصاهرة بين العائلتين .. فتظاهر الأبناء -وهم أعظم أنبياء اليهود- بالموافقة .. لكن اشترطوا أن يختتن كل ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق (ابن هشام-3/ 147) وأبو داود (2671) وغيره من طريق ابن إسحاق .. واللفظ لابن هشام والزيادة عند أبي داود: حدثنى محمَّد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة .. ومحمَّد ثقة من رجال الشيخين التقريب (2/ 150) وشيخه إمام معروف مر معنا كثيرًا جدًا.

من أراد الزواج منهم .. ولما اختتن الملك وابنه ورجال شعبه .. وأثناء فترة آلام الختان هجم بنو يعقوب وغدروا بالملك رغم العهود والمواثيق .. وقتلوا كل ذكر .. ثم نهبوا حميرهم وبقرهم وغنمهم وجميع ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في بيوتهم (¬1). إذا كان هذا ما ينسبونه لأعظم أنبياء بني إسرائيل .. والذين إليهم ينسب كل اليهود .. إذا كان الغدر هو مبدؤهم -كما يقول كاتب التوراة- فكيف بالرعاع والحاقدين من بني قريظة .. ما هو حجم الكارثة التي سيرتكبها اليهود في المدينة .. لا أحد يعلم إلا الله .. ولا شئ يردع تهور اليهود ودسائسهم سوى السيف .. وها هو السيف يبطش بهم في سوق المدينة .. وها هى المرأة الخائنة تقتل في سوق المدينة .. ويقتل رجال بني قريظة ومحاربوها .. وقد كان هناك حدٌ للمحارب يعرف به ويميز .. يذكره لنا أحد الذين نجوا من ذلك الحكم لأنه لم يبلغ ذلك الحد .. إنه فتى صغير يدعى عطية القرظي وقد أسلم فيما بعد وأصبح من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم .. يقول رضي الله عنه: (كنت في سبي بني قريظة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن أنبت أن يقتل، فكنت فيمن لم ينبت فتركت) (¬2). وهكذا أهال الإِسلام التراب على جسد الخيانة القرظية المتعفن .. وأراح العالم منه .. وبقي من بني قريظة من اختار الحياة والإِسلام والهواء النقى من كل خبث ودسيسة .. فعاشوا أحرارًا بالإِسلام .. إلا من أبى .. رأى المنافقون السيوف تجتث رقاب أصدقائهم اليهود .. الذين طالما ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل القصة في (التوراة -التكوين- 34). (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق والبيهقيُّ (4/ 25) من طريق: شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير عن عطية: وشعبة يلقب بأمير المؤمنين في الحديث (التقريب- 1/ 351) وشيخه تابعى وثقة فقيه التقريب (1/ 521).

موقف المنافقين مما حدث لقريظة

اتخذوهم كهفًا لأصنامهم ونفاقهم .. فلم يطق أحد شعرائهم مشهد انهيار رفاق التآمر والخيانة فقال أبياتًا تعبر عن: موقف المنافقين مما حدث لقريظة وتلقي باللوم على سعد بن معاذ الذي كان شديدًا في حكمه عليهم .. وما علم هؤلاء أن الله سبحانه هو الذي أمر نبيه ببني قريظة .. في الوقت الذي كان فيه - صلى الله عليه وسلم - قد وضع سلاحه واغتسل وتطيب .. وتهيأ لأخذ بعض الراحة من عناء حرب شاقة وقاسية .. وتجاهل أولئك المنافقون أن مصيرهم سيكون أسود من ليلهم لو انتصر الأحزاب واحتلوا المدينة .. ولم ينس ذلك الشاعر المنافق مدح زعيمه عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان حليف كل من على وجه الأرض إلا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. وفي مدحه لابن أبي بن سلول سب لسعد بن معاذ .. لأن سعد بن معاذ لم تأخذه في الله لومة لائم .. ولا بيت شاعر .. أما عبد الله بن أبي بن سلول فقد دافع عن يهود بني قينقاع عندما غدروا بالمسلمين .. ووقف معهم .. وكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم ورجاه العفو عنهم .. فأبقاهم - صلى الله عليه وسلم - وعفا عنهم من أجله .. وأمهلهم .. وعن هذين الموقفين المتناقضين يقول ذلك الشاعر: (ألا يا سعد سعد بني معاذ ... فما فعلت قريظة والنضير لعمرك إن سعد بني معاذ ... غداة تحملوا لهو الصبور تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حامية تفور وقد قال الكريم أبو حباب ... أقيموا قيننقاع ولا تسيروا وقد كانوا ببلدتهم ثقالًا ... كما ثقلت بميطان الصخور) (¬1) ¬

_ (¬1) جزء من حديث صحيح رواه مسلم -المبادرة بالغزو.

دعاء سعد بعد قريظة

وسواءً كانوا ثقالًا كالجبال على أرض ميطان أو كانوا أثقل من ذلك .. فقد اجتثوا من جذورهم المتعفنة .. وطهر الموحدون تلك الأرض منهم ومن شركهم .. وإذا كان لهم من لوم فليلوموا أنفسهم .. هم الذين اختاروا سعدًا فكان لهم ما أرادوا .. أما سعد فقد توجه إلى المسجد .. إلى خيمته المنصوبة فيه .. ولما استقر فيها توجه بدعاء كله شوق إلى الله .. دعاء يفيض بسر المؤمن إذا تألق بالإيمان .. فسعد حكم على مقاتلي قريظة بالموت .. ثم تمنى الموت شهيدًا بجرحه ذلك .. ما هذا؟ .. إنه لم يسأل الله ولا رسوله شيئًا من أرض قريظة ولا أموالهم ولا نخيلهم ولا نسائهم .. إنه يسأل الله أن يقبض روحه .. بجرحه حتى يكون شهيدًا من شهداء الخندق .. أما ما عدا ذاك فحطام .. وسعد أكبر من الحطام .. أراد الشهادة لأنه ما أسلم وترك الأوثان إلا من أجل تلك العوالم الساحرة المرفوفة في الجنة .. فما هو دعاء سعد بعد قريظة تقول عائشة -وقد احتفظت رضي الله عنها في ذاكرتها لسعد بالكثير الجميل- فهو الذي دافع عنها وعن عرضها في قصة الإفك الآثمة .. تقول رضي الله عنها: (إن سعدًا كان قد تحجر كلمه (¬1) للبرء، فدعا سعد فقال: اللَّهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللَّهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان من حرب قريش شيء، فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، ¬

_ (¬1) جرحه.

وإن كنت قد وضعت الحرب فيما بيننا وبينهم، فافجرها واجعل موتتى فيها. ففجر من ليلته فلم يرعهم (¬1) .. ومعهم في المسجد أهل خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم. فقالوا: يا أهل الخيمة .. ما هذا الدم الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد جرحه يغذو (¬2) دمًا) (¬3) ولما (ثقل حولوه عند امرأة يقال لها "رفيدة"، وكانت تداوي الجرحى، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مر به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟ فيخبره. حتى كانت الليلة التي نقله قومه فيها، فثقل، فاحتملوه، إلى بني عبد الأشهل إلى منازلهم، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان يسأل عنه، وقالوا: قد انطلقوا به. فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخرجنا معه، فأسرع المشى حتى تقطعت شسوع (¬4) نعالنا، وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، فشكا ذلك إليه أصحابه: يا رسول الله .. أتعبتنا في المشي. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إني أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فتغسله كما غسلت حنظلة. فانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البيت وهو يغسل، وأمه تبكيه وهى تقول: ¬

_ (¬1) يفزعهم. (¬2) يسيل بشكل متواصل. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4122) وتابع شيخه ابن سعد (3/ 849) واللفظ له. (¬4) سيور النعال التى تمسك النعال بالأصابع.

ويل أم سعد سعدًا ... حزامة وجدّا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل نائحة تكذب إلا أم سعد. ثم خرج به. يقول له القوم أو من شاء منهم: يا رسول الله .. ما حملنا ميتًا أخف علينا من سعد. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما يمنعكم من أن يخف عليكم وقد هبط من الملائكة كذا وكذا، وقد سمى عدة كثيرة لم أحفظها, ولم يهبطوا قط قبل يومهم قد حملوه معكم) (¬1) توجه - صلى الله عليه وسلم - بصاحبه نحو البقيع .. فسبقه أبو سعيد وبعض الصحابة نحو البقيع لحفر القبر وإعداد اللبنات والماء .. طمعًا في ذلك الأجر العظيم الذي قال عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من حفر له (¬2) فأجنه، أجري عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة" (¬3). وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى البقيع .. يقول أبو سعيد الخدري: ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه ابن سعد (3/ 427) أخبرنا الفضل بن دكين، أخبرنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد: هذا الإسناد حسن: محمود بن لبيد صحابي وتلميذه ثقة عالم بالمغازي -التقريب (2/ 385) وعبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة ثقة من رجال الشيخين، وجرحه غير مفسر بل هو مضطرب، فقد قال النسائى: ليس بالقوي، ومرة قال: لا بأس به، ومرة قال: ثقة .. أما توثيقه فمعتبر، قال إمام علم الرجال ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: ثقة، وقال الدارقطني: ثقة، انظر التهذيب (6/ 190) وقال أحمد وابن معين: صالح .. وكلام ابن حبان غير معتبر فيه فمن تتبعي لجرحه وجدته يطلق هذا الحكم حتى على من ليس من الحديث إلا واحد أحيانًا (يخطئ كثيرًا .. أو يخطئ). (¬2) أي حفر لأخيه المسلم قبرًا. (¬3) صححه الألباني في الجنائز (51).

(فطلع علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد فرغنا من حفرته ووضعنا اللبن والماء عند القبر، وحفرنا له عند دار عقيل اليوم، وطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعه عند قبره، ثم صلى عليه، فلقد رأيت من الناس ما ملأ البقيع) (¬1). ولئن امتلأ البقيع بالناس فلقد زاحمهم فيه آخرون ليسوا من الناس .. جاؤوا كرامة لهذا المسافر الحبيب .. يشهدون توديعه والصلاة عليه ودفنه .. هبط من السماء سبعون ألف ملك فكانت الدنيا عرشًا يهتز .. وسماء مفتوحة .. وملائكة تهبط. كل ذلك حدث من أجل ذلك الفارس الجسور .. والمؤمن الطهور .. المسافر بالقلوب .. سعد بن معاذ الأوسى الأنصاري .. ها هو جابر الأنصاري يرى ويشاهد ويروي فيقول: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم: اهتز لها عرش الرحمن) (¬2) (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ) (¬3). أما بعد دفنه رضي الله عنه فقد وقف - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه عن هذا الراقد .. الذي نحت الحب في قلوب المؤمنين .. ونحت العدل على جدران قريظة .. يحدثهم عما حدث له بعد دفنه فيقول: (هذا العبد "الصالح" الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السموات، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة، لم ينزلوا الأرض قبل ذلك، ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن سعد (3/ 424) أخبرنا عفان ويحيى وأبو الوليد الطيالسي، أخبرنا شعبة أنبأني سعد بن إبراهيم: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث عن أبى سعيد .. شعبة إمام وسعد تابعي ثقة من رجال الشيخين (التقريب-1/ 286) وأبو أمامة صحابى. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم - فضائل سعد بن معاذ. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم - فضائل سعد بن معاذ.

لقد ضم ضمة ثم فرج عنه) (¬1) وهى ليست ضمة عذاب إنما هي ضغطة القبر وضمته و (لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منها سعد) (¬2) وهى من الآلام التي تمر بالمؤمن وغيره .. مثل ألم خروج الروح .. وألم القيام من القبر .. وألم الموقف والورود على النار لكنها تخفف على المؤمن النقي .. وتشدد أحيانًا حتى يتطهر من بقية ذنوبه .. فينجو برحمة الله من النار أعاذنا الله منها .. ودع -صلى الله عليه وسلم- سعدًا وبشر أحبابه بأنه من أهل الجنة .. ثم انصرف وهو مثقل بالحزن .. وانصرف الصحابة بقلوب حزينة وعيون تذرف الدموع على سعد .. وذكريات سعد .. بكى المهاجرون والأنصار .. وغمر طوفان الحزن الأوس على سيدهم .. ومرت الأيام طويلة وثقيلة على أم سعد .. وعلى أهل بيت سعد .. كان سيفًا لا يفل على الباطل .. في كل وقت .. وفي كل مكان .. ومن مثل سعد .. وهو الذي سافر إلى مكة معتمرًا .. وهناك وحول الكعبة كاد يفتك بأبي جهل .. ولما حاول منعه أمية هدده بالموت .. ¬

(¬1) سنده صحيح رواه ابن سعد (3/ 340) والنسائيُّ (4/ 100) من طريق عبد الله بن إدريس، حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر .. وهذا إسناد كالذهب .. نافع مولى عبد الله بن عمر تابعى مشهور وثقة ثبت فقيه -التقريب (2/ 296) وعبيد الله ثقة ثبت قدمه أحمد على مالك في نافع، التقريب (1/ 537) وعبد الله بن إدريس ثقة فقيه عابد من رجال الشيخين (2/ 401). (¬2) سنده صحيح رواه عقبة بن مكرم (سير أعلام النبلاء- 1/ 291) حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن عائشة. وصفية تابعية ثقة (التقريب-2/ 602) ونافع مر معنا وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ثقة فاضل عابد (التقريب- 1/ 286) وابن أبي عدي اسمه: محمَّد بن إبراهيم وهو ثقة: التقريب (2/ 141).

مات عثمان بن مظعون

يهدد قادة مكة في عقر دارهم .. ويهددهم بقطع تجارتهم إن لم يتعقلوا ويدعوه وشأنه .. أما في بلده .. في المدينة فكان يهدد دفعًا عن عرض النبى - صلى الله عليه وسلم - زعيم المنافقين بالموت .. كان مستعدًا للإجهاز على رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول .. رضي من رضي وسخط من سخط .. هذا هو سعد في مواجهته لجبهتي الشرك والنفاق .. أما في مواجهته لليهود فقد قال فى قريظة كلمته .. كان رضي الله عنه يفعل ذلك لله وحده ودفاعًا عن دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته التى يحاول المشركون والمنافقون واليهود القضاء عليها .. فرحم الله سعدًا ما أعظمه .. ورضي عنه وأرضاه وحشرنا معه ومع نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. سافر سعد إلى الجنة .. لكنه ترك لليهود وغيرهم درسًا. ولحق بسعد بن معاذ فارس آخر .. وعظيم آخر .. لحق به المجاهد العابد .. الذي كاد ينسى زوجته وماله والدنيا بأسرها ليتفرغ للعبادة .. العبادة فقط .. مات الذي أعاده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى سنته وزوجته .. والذي كان في حياته دروس .. وفي مماته دروس. مات عثمان بن مظعون فبكته حبيبته .. وبكته نساء .. وبكاه الرجال .. وسال دمع النبي - صلى الله عليه وسلم - على خدي عثمان وهو يقبّله بحزن يملأ صدره .. مات ذلك العابد الذي باع الدنيا كل الدنيا واشترى الآخرة .. فكان مشهد جنازته والأحباب من حولها مشهدًا يذيب الصخر والقلوب .. ويذيب النواح .. ها هو -صلى الله عليه وسلم- وقد (دخل على عثمان بن مظعون يوم مات فأحنى عليه (¬1) كأنه يوصيه، ثم رفع رأسه، فرأوا في عينيه أثر البكاء، ثم أحنى عليه ثانية، ثم رفع رأسه ¬

_ (¬1) أي انحنى عليه وأكب.

فرأوه يبكى، ثم أحنى عليه الثالثة، ثم رفع رأسه وله شهيق، فعرفوا أنه قد مات، فبكى القوم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: مه .. إنما هذا من الشيطان، فاستغفروا الله (¬1)، ثم قال: اذهب عنها أبا السائب فلقد خرجت ولم تلتبس منها بشىء) (¬2)، كانت عائشة هناك .. حزينة مثل بقية الحاضرين .. شاهدت دموعه - صلى الله عليه وسلم - وهي تسيل على خدي عثمان بن مظعون رضي الله عنه .. فقالت: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميت "وهو يبكي، وعيناه تهرقان" فرأيت دموعه تسيل على خدّيه) (¬3)، أي على خدي عثمان .. حزنًا على ذلك الصاحب الزاهد .. القائم الصائم .. الذي سافر عن الدنيا نقيًا دون أن تلوثه .. شهد بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- .. شهد -صلى الله عليه وسلم- لعثمان بالنقاء والصفاء من الدنيا .. فهل يعني أن كل من كان مثله نقول عنه إنه من أهل الجنّة .. النبي -صلى الله عليه وسلم- يبكي .. يشهد لعثمان بالزهد .. زوجته تشهد له بالصيام والقيام ألا يكفي ذلك للجزم بدخوله الجنة؟ .. لا ¬

_ (¬1) طالبهم - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار لا من أجل البكاء لأنه بكى قبلهم وهو لم يحرم البكاء على الميت لكنه نهي عن رفع الصوت نواحًا على الميت ويطلق عليه بكاء أيضًا، لكنه بكاء محرم كما مر في البكاء على حمزة رضي الله عنه. (¬2) سنده قوي وقد ضعفه الشيخ شعيب حفظه الله في السير (1/ 156) بل جعله واهيًا ومتنه منكرًا .. ولعله اعتمد في ذلك على قول الإمام الهيثمي: ولم أعرفهما، يقصد شيخ الطبراني راوي الحديث ووالد شيخه .. لكن نظرة سريعة على التقريب والتهذيب تغنى عن ذلك، فشيخه عبد العزيز بن عمر بن مقلاص ثقة فاضل معروف -التهذيب والتقريب (2/ 59) وكان ملازمًا لحلقة أبيه الثقة ووالده له ذكر في التهذيب وغيره وأنه كان يدارس العلماء ويكفيك من تلاميذه: أبو حاتم وأبو زرعة والعقيلى قال أبو حاتم عنه: صدوق (5/ 391). (¬3) أخرجه الترمذيُّ (2/ 130) وصححه والبيهقيُّ وغيرهما, وله شاهد بإسناد حسن يراجع في "مجمع الزوائد" (3/ 20).

لا يحكم لأحد -حتى عثمان- بالجنة

لا يحكم لأحد -حتى عثمان- بالجنَّة كيف ذلك؟ شئ مفزع .. ومخيف .. إذا لم يحكم لعثمان فلمن يحكم .. ؟ العواطف مرة أخرى تثور وتستنكر وتحتج .. لكن الإِسلام والتوحيد لا ينطلقان من العواطف ولا الأهواء .. وإلَّا لأصبح لكل فرد دين .. لأن كل فرد عالم من العواطف والأهواء .. الإِسلام يعتني بالعاطفة يهذّبها .. ينقّيها من الشوائب ثم يطلقها أطيافًا جميلةً في الأجواء .. وحبنا لشخص لا يعني أن الحق معه أينما اتّجه .. الكل يشهد لعثمان بن مظعون بالصلاح في دنياه .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب عندما حكم له بالجنة .. لأن في ذلك تجاوزًا لمسؤوليات الإنسان .. فيه تزييف وادّعاء .. عندما قدم عثمان بن مظعون إلى المدينة مع المهاجرين .. أقبل عليهم الأنصار بالأيدي والقلوب والبيوت .. تنازع الأنصار كلٌّ يريد أن يفوز بأخ له من المهاجرين يسكن معه في بيته .. ولم ينته ذلك النزاع الحبيب إلَّا بالقرعة .. وعندما وصل دور القرعة إلى عثمان بن مظعون .. جعلته القرعة من نصيب بيت زوج أم العلاء وهو من الأنصار رضي الله عنهم .. ولما أصابه المرض .. مرّضته أم العلاء .. وشهدت له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاح لكنها شهدت له بشيء أغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يا أم العلاء ماذا قلت عن عثمان رضي الله عنه .. ؟ تقول رضي الله عنها: (إن عثمان طار لهم في السكنى حين قرعت الأنصار على سكنى المهاجرين، فاشتكى عثمان عندنا، فمرضته حتى توفي وجعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبى -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك قد أكرمك الله. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: وما يدريك أن الله أكرمه؟

قلت: لا أدري، بأبي أنت وأمى يا رسول الله، فمن؟ قال: أما هو فقد جاءه والله اليقين، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري -والله- وأنا رسول الله ما يفعل بى. قالت: فوالله لا أزكى بعده أحدًا. قالت: فأحزننى ذلك، فنمت، فأريت لعثمان بن مظعون عينًا تجري، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته، فقال: ذلك عمله) (¬1) الصالح .. تقبّله الله منه وجزاه الجنّة بما عمل .. فأوحى بهذه البشرى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لكن قبل ذلك لا أحد يدري عن مصيره .. وهل هناك فوق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي. إذًا فلا شأن لأحد بما بعد الموت .. ولا بالنوايا .. ولا يكفى ظاهر العمل للحكم على الإنسان بأنه من أهل الجنّة أو النار .. حتى في مدح الإنسان لأخيه وهو حى يأمر - صلى الله عليه وسلم - بعدم الاندفاع .. ففى أحد الأيام (أثنى رجل على رجلٍ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ويلك، قطعت عنق صاحبك .. قطعت عنق صاحبك .. مرارًا، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، ولا أزكى على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه) (¬2). لنعد إلى عثمان بن مظعون رضي الله عنه .. ها هم يحملونه نحو البقيع .. ومعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن صلّوا عليه .. وقد بيّن -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه الطريقة الأفضل للمشي مع الجنازة .. فقال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2687). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2662).

(الراكب يسير خلف الجنازة، والماشى يمشي خلفها وأمامها، وعن يمينها، وعن يسارها، قريبًا منها) (¬1)، وكان - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا رأى أحدكم الجنازة، فإن لم يكن ماشيًا معهم فليقم "حين يراها") (¬2)، وقال جابر رضى الله عنه: (قام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لجنازة يهودي حتى توارت) (¬3)، (فقلنا: يا رسول الله، إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) (¬4) (فقيل: إنه يهودي، فقال: أليست نفسًا) (¬5). ثم إن الأمر بالقيام لم يدم .. فقد أمر الله نبيّه بالقعود .. يقول عليّ رضي الله عنه: (رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام، فقمنا، وقعد، فقعدنا) (¬6). رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قائمًا ولا جالسًا .. كان - صلى الله عليه وسلم - يشارك في دفن صاحبه بيديه .. ويفعل شيئًا يدلّ على مكانة عثمان في نفسه -صلى الله عليه وسلم-، فبعد أن قال: (بسم الله وعلى سنّة رسول الله) (¬7) يقول أحد الصحابة: (لما مات عثمان بن مظعون أخرج بجنازته فدفن، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أن يأتيه بحجر، ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه أهل السنن من طريق زياد بن جبير حدثنى أبي عن المغيرة وهو إسناد صحيح جبير ووالده ثقتان. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (958) والزيادة له. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (960). (¬4) حديث صحيح رواه مسلم (960). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (1312). (¬6) حديث صحيح رواه مسلم - (نسخ القيام للجنازة). (¬7) سنده صحيح رواه أبو داود (3213) ... حدثنا محمَّد بن كثير ومسلمٌ بن إبراهيم، حدثنا همام، عن قتادة عن أبي الصديق عن ابن عمر .. وأبو الصديق تابعي ثقة اسمه: بكر بن عمرو (التقريب-1/ 106) وهمام بن يحيى ثقة من رجال الشيخين التقريب (2/ 321) وقد توبع قتادة -لعنعنته- تابعه نافع عند الترمذيُّ وابن ماجه.

فلم يستطع حمله، فقام إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه (¬1)، كأني أنس إلى بياض ذراعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حسر عنها، تم حملها، فوضعها عند رأسه وقال: أتعلم بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي) (¬2). كل هذا الحب لعثمان بن مظعون .. كل ذلك البكاء وتلك الدموع .. ومع ذلك فلم يزد - صلى الله عليه وسلم - على وضع حجر كبير ليعرف به قبر أخيه عثمان عندما يزور مقبرة البقيع .. أما من تسوّل له نفسه أن يزين قبر حبيبه أو حبيبته بالرخام أو الجص أو البناء أو القباب .. فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تدع تمثالًا إلَّا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلَّا سويته" (¬3). ولأن (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها) (¬4) فقد (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) (¬5) لأن فتح باب البدعة لا يعني أبدًا مرونة في العقيدة .. هو تمييع للعقيدة .. تمزيق لها .. يعني التواءً نحو الشرك .. والإِسلام هروب .. كله هروب من الشرك وانحرافاته .. لقد شدّد - صلى الله عليه وسلم - في قضية القبور حتى لقد (نهى أن يكتب على القبر شيء) (¬6) إن ¬

_ (¬1) في الحديث بعد هذه الكلمة (قال كثير: قال المطلب: قال الذي يخبرني ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) سنده حسن رواه أبو داود من طريق: كثير بن زيد المدني، عن المطلب .. عن أحد الصحابة .. (3206) والمطلب صحابي انظر: التقريب - (2/ 254) وكثير بن زيد ثقة وجرحه لا ينهض أمام توثيقه- التهذيب (8/ 414). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (الأمر بتسوية القبور). (¬4) حديث صحيح رواه مسلم (968). (¬5) حديث صحيح رواه مسلم (970). (¬6) حديث صحيح انظر أحكام الجنائز للإمام الألباني (204).

الكتابة في نظر من لا يدرك عواقب الأمور شئ بسيط .. لكنه في الحقيقة يفضى إلى كتابة المدائح .. والأشعار .. والآيات .. والمبالغات وأشياء تجعل من القبور تحفًا أو معارض .. أو مزارات لذاتها .. ولما ذكرت أم سلمة رضي الله عنها للنبى -صلى الله عليه وسلم- ما رأته في الحبشة من نقوش جميلة وصور عجيبة داخل كنيسة هناك يسمونها "مارية" قال - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" (¬1)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (¬2) لعنهم الله رغم أن بعضهم كان يريد تكريم نبيّه بإقامة ذلك المسجد أو المعبد أو الكنيسة .. لعنهم الله لأنهم استمدّوا العقيدة من العواطف .. من التخاريف .. من غلوّهم وتطرّفهم في أنبيائهم .. والعقيدة وحي متى ما خالطها غير الوحي فسدت .. وحب النبي وتكريمه لا يكون بالغلوّ والتطرّف .. بل بتنفيذ ما جاء به ذلك النبي .. بحفظه ونقله بأمانة دون زيادة أو نقصان .. لأن الزيادة دين بشري .. والنقصان تشويه للوحي .. والزيادة والنقصان أورام خبيثة محتقنة بالكفر والشرك والبدع .. وما جاء - صلى الله عليه وسلم - إلَّا لاستئصال تلك الأورام واجتثاث الشرك وجذوره .. والإِسلام جاء ليبتدع الإنسان ويبدع في شؤون الدنيا زراعةً وصناعة وتجارةً مستمدًا ذلك الإبداع وموجهًا بالوحى النقى .. فإذا ابتدع الإنسان في الدين والدنيا تمزق بين اتجاهن .. فإما أن يكون متطرفًا دينيًا أو يكون رقمًا في آله لا ضمير لها ولا قيم .. واليهود ممزقون لذلك .. فما هي حالهم الآن بعد موت سعد بن معاذ .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1341). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1330).

اليهود بعد موت سعد بن معاذ

اليهود بعد موت سعد بن معاذ أشد رعبًا وخوفًا من قبل إلا من آمن منهم وامتلأ قلبه برحابة الإيمان وراحته .. فالسيف الذي تركه سعد لا يزال محمولًا بكف فارس آخر .. وهو على أتم الاستعداد لأي خيانة جديدة مهما كان حجمها .. لكن ماذا عن رأس الفتنة .. ومحرض الأحزاب سلام بن أبي الحقيق .. وحيي بن أخطب الذي أخذ على نفسه عهدًا بمعاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحاربته وعناده ما تردد الهواء في صدره .. رغم معرفته وتأكده من نبوته .. يبدو أن حيي بن أخطب قد قتل مع من قتل من بني قريظة .. أما سلام بن أبي الحقيق فقد ورط الأحزاب ثم خانهم جميعًا وهرب .. بل خان يهود قريظة ثم انسل كالحية إلى (حصن له بأرض الحجاز) (¬1) في خيبر بالتحديد .. فهل سيفلت من العقاب الذي حل ببني قريظة .. إنه يستحق أكثر من عقاب .. فهو الذي خطط .. ورتب وحرض .. ولما اشتبك أعداؤه وحلفاؤه ترك الجميع وهرب .. وهو في حصنه الآن .. بين نسائه وأصدقائه يشرب ويتنعم ويحلم بدماء محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. وانهيار دولتهم في أقرب فرصة .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يترك هذا المجرم وأحلامه .. إنه آفة خطيرة تسري في العقول .. وتنتشر في الهواء .. وتلوث الحياة .. لذلك فقد أصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرًا بالقضاء على تلك الآفة .. أصدر أمرًا بـ: قتل سلام بن أبى الحقيق وكان أكثر المتحمسين لذلك فرسان الخزرج .. الذين أرادوا منافسة إخوانهم الأوس في نصرة الله ورسوله .. يقول البراء بن عازب رضى الله عنه: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4039).

(بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار، فأمر عليهم عبد الله بن عتيك، "عبد الله بن عتبة في ناس معهم" وكان أبو رافع يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، فقال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل. فأقبل حتى دنا من الباب "فانطلق رجل منهم فدخل حصنهم. قال: فدخلت في مربط دواب لهم، وأغلقوا باب الحصين، ثم إنهم فقدوا حمارًا لهم فخرجوا "بقبس" يطلبونه، فخرجت فيمن خرج، أريهم أنني أطلبه معهم، فوجدوا الحمار، فدخلوا" "فخشيت أن أعرف، فغطيت رأسى ورجلى كأني أقضي حاجةً، ثم نادى صاحب الباب: من أراد أن يدخل فليدخل، قبل أن أغلقه". ثم تقنع بثوب كأنه يقضى حاجة، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله .. إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. فدخلت، فكمنت "في مربط حمار عند باب الحصن" فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم علق الأغاليق (¬1) عليها وتد، "ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفاتيح الحصن في كوة فأخذته ففتحت به باب الحصن" فقمت إلى الأقاليد (¬2)، فأخذتها، ففتحت الباب، وكان أبو رافع يُسمر عنده، وكان في علالي (¬3) له، "فتعشوا عنده أبي رافع وتحدثوا حتى ذهبت ¬

_ (¬1) أي المفاتيح وهي ما يغلق بها الباب. (¬2) أي المفاتيح أيضًا. (¬3) غرفة.

ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم" فلما ذهب عنه أهل سمره "هدأت الأصوات، ولا أسمع حركة .. خرجت" صعدت إليه "في سلم" فجعلت كلما فتحت بابًا أغلقت علي من داخل، قلت: إن القوم نذروا بي (¬1) لم يخلصوا إلي حتى أقتله، فانتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم "قد طفئ سراجه" وسط عياله لا أدري أين هو من البيت. فقلت: يا أبا رافع. فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت (¬2) فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش، فما أغنيت شيئًا، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه، "كأني أغيثه". فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ "ما لك يا أبا رافع .. وغيرت صوتي. فقال: ألا أعجبك لأمك الويل". "قلت: ما شأنك". فقال: لأمك الويل إن رجلًا في البيت ضربني قبلُ بالسيف. "فعمدت له" فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، "فصاح، وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، فإذا هو مستلق على ظهره" ثم وضعت ضبيب (¬3) السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره "ثم تحاملت عليه ¬

_ (¬1) أي إن علموا بى وأنذر بعضهم بعضًا. (¬2) توجهت نحو مصدر الصوت. (¬3) ربما يعني حرف حد السيف.

حتى قرع العظم" "ثم أنكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم" فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا، حتى انتهيت إلى درجةٍ له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي "فانخلعت رجلي" فعصبتها بعمامة، "ثم أتيت أصحابي أحجل (¬1)، فقلت لهم: انطلقوا فبشروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية" ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك، قام الناعى على السور. فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز. "فقمت أمشي ما بى قلبة (¬2) , فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -" فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء (¬3)، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم -، فحدثته، "فبشرته". فقال لي: ابسط رجلك. فبسطت رجلي، فمسحها، فكأنها لم أشتكها قط) (¬4). أكرم الله عبد الله بن عتيك بتلك المسحة .. بعد أن مسح عن وجه الأرض ذلك العفن المسمى "سلام بن أبي الحقيق" كان عبد الله رضي الله عنه قلبًا من حديد .. وأعصابًا من فولاذ .. نشر الرعب في ذلك الحصن .. وفي قلب كل يهودي .. لقد اهتز كل شئ حول المدينة وتزلزل .. والمدينة هي الحضن الدافئ .. والأمن الحاني التي يقصدها من استبد بهم الخوف .. ¬

_ (¬1) يرفع رجلًا ويقف على الأخرى من العرج. (¬2) أي أنه لم يشعر بالألم لشدة ما هو فيه من الأمر. (¬3) أي أسرعوا. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4039) والزوائد له في (4040) و (3022).

إسلام المغيرة بن شعبة

ويأوي إليها من تطارده وحوش الهموم والقلق من سوء المصير .. أحد الهائمين على وجوههم .. الموغلين في الشرك والدماء .. أحد الذين قدسوا صنم اللات .. وعبدوها وسدنوها .. وحاربو الإِسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من أجلها .. داهية تتضاءل أمامه الصعاب .. وتنفرج لحيلته المضايق .. وقع في ورطة أدهى منه فلم يجد سوى الإِسلام ومحمَّد - صلى الله عليه وسلم - مخرجًا منها .. هذا الداهية الثقفى .. المنحدر من جبال الطائف التي تضيق باللات .. يدعى المغيرة بن شعبة .. جمع الشجاعة والدهاء .. وعمه زعيم الطائف واسمه: عروة بن مسعود الثقفى .. وقد كلفه دهاء المغيرة وحيلته الشيء الكثير .. في ورطة كان المخرج منها: إسلام المغيرة بن شعبة فقد سافر المغيرة وهو مشرك مع قوم مشركين .. ويبدو أنه قد صدر من هذه المجموعة ما أثار المغيرة وأهانه .. فغلى الانتقام والغضب والحيلة في رأسه .. فأخذ أموالهم وتركهم طعامًا لذئاب الصحراء وطيورها وترك ديتهم لعمه عروة .. وعندما أحس بضيق الدنيا في وجهه أبصر طريقه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يقول أحد الصحابة: (كان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما الإِسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء) (¬1) فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا .. والغدر والخيانة ليست من صفات المؤمنين .. لم يقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على قتله وسلبه لأولئك القوم رغم أنهم كانوا مشركين .. والفرق بين ما فعله المغيرة وما فعله عبد الله بن عتيك بسلام بن أبي الحقيق .. أن سلامًا كان قد حرض على حرب المدينة وخطط لها وغدر بأهلها .. ثم خان المسلمين والمشركين ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2731).

عمرو بن العاص يهرب من مكة

وهرب إلى حصنه في أرض خبير وكأنه لم يفعل شيئًا .. إن خطر أمثال ابن أبي الحقيق أشد من خطر جيش بأكمله .. وخيانته لا يمكن أن تتوقف ما دام يعتبرها هو وأتباعه دينًا يتعبد الله بفعله .. وإذا كان الطائف قد ضاق بالمغيرة .. فمكة تضيق الآن بداهية آخر .. وشجاع آخر وهو الآن يهرب منها. إنه: عمرو بن العاص يهرب من مكة كَلَّ دهاؤه وتفتت على حافة الخندق .. وعاد مكسورًا مع من عاد من قومه إلى مكة .. تأمل المكان الذي أوصله إليه شركه ودهاؤه .. فوجده بعيدًا جدًا عن المنطق .. وأدرك أن هذا النبي وهذا الدين أعظم من أي دهاء .. وأقوى من أي كيد .. توجه عمرو بن العاص وهو الرأس في قومه إلى حيث يلتجئ الضعفاء والمساكين .. توجه محمولًا بالعناد والحيرة إلى الحبشة حيث يلتجئ جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه وأصحابه بعيدًا عن أيدي قريش .. ركب عمرو بن العاص سفينة قذفته في أرض الحبشة .. وأقام هناك إقامة متواضعة مقارنة بإقامة المؤمنين الذين يحظون بحب وحماية النجاشى ملك الحبشة رضى الله عنه .. وفي أحد تلك الليالي الحبشية لمح عمرو بن العاص جعفرًا رضى الله عنه فلحق به .. يقول عمرو: (فلما كان ذا عشية لقيته في السكة، فنظرت خلفه، فلم أر خلفه أحدًا، فأخذت بيده .. فقلت: تعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فغمزني، وقال: أنت على هذا. وتفرقنا .. فما هو إلا أن أتيت أصحابي، كأنما شهدوني وإياه، فما

سألوني عن شيء حتى أخذوني فصرعوني، فجعلوا على وجهى قطيفة، وجعلوا يغمونني بها، وجعلت أخرج رأسي أحيانًا حتى انفلت عريانًا، ما عليّ قشرة، ولم يدعوا لي شيئًا إلا ذهبوا به، فأخذت قناع امرأة عن رأسها فوضعته على فرجى، فقالت لي: كذا. وقلت: كذا -كأنها تعجبت مني-. وأتيت جعفرًا فدخلت عليه بيته، فلما رآني قال: ما شأنك؟ قلت: ما هو إلا أن أتيت أصحابي, فكأنما شهدوني وإياك، فما سألوني عن شيء حتى طرحوا على وجهى قطيفة، غموني بها، أو غمزوني بها، وذهبوا بكل شيء من الدنيا حولي، وما ترى عليّ إلا قناع حبشية، أخذته من رأسها. فقال جعفر: انطلق. فلما انتهينا إلى باب النجاشى، نادى: ائذنوا لحزب الله، وجاء آذنه، فقال: إنه مع أهله. فقال: استأذن لي عليه، فاستأذن له عليه، فأذن له، فما دخل قال: إن عمرًا قد ترك دينه واتبع ديني، قال: كلا. قال: بلى. فدعا آذنه فقال: اذهب إلى عمرو، فقال: إن هذا يزعم أنك تركت دينك واتبعت دينه. فقلت: نعم. فجاء إلى أصحابي حتى قمنا على باب البيت، وكتبت كل شيء حتى كتبت المنديل، فلم أدع شيئًا ذهب إلا أخذته، ولو أشاء أن آخذ من أموالهم لفعلت. ثم كنت بعد من الذين أقبلوا في السفينة مسلمين) (¬1). ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه البزار (زوائد- 2/ 297): حدثنا محمَّد بن المثنى، حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون، عن عمير بن إسحاق، حدثى عمرو بن العاص .. وقد مر معنا الحديث في المجلد الأول .. عمير بن إسحاق حسن الحديث .. قال ابن معين ثقة، وقال مرة: ليس =

أبو رهم وأبو بردة وأبو موسى فى الحبشة

ها هي سفينة أخرى محملة بالإيمان .. قادمة من اليمن تحمل رجالًا يقصدون المدينة .. لكن ربانها لم يكن بالمهارة المطلوبة .. وبدلًا من تسلمهم المياه إلى ساحل على قارة آسيا قذفتهم على إحدى شواطئ أفريقيا .. لكن لا بأس .. فإن في الحبشة نسيمًا عطرًا يدعى النجاشى رضي الله عنه .. وفيها أيضًا أحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعل أشهرهم ابن عمه جعفر بن أبي طالب وزوجته المجاهدة الصابرة أسماء بنت عميس رضي الله عنها .. ها قد نزل أهل اليمن من السفينة .. تعالوا لنقترب منها ومنهم .. نتعرف على هذه الوجوه التي أرهقها البحر والسفر .. وأبحر بها الحب والإيمان .. كان من بين هؤلاء المسافرين الذين زادوا على الخمسين .. ثلاثة أخوة كان اليمن الطيب: أبو رهم وأبو بردة وأبو موسى فى الحبشة يقول أصغرهم سنًا وهو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (بلغنا مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم أحدهما: أبو بردة، والآخر أبو رهم إما قال: في بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشى بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده. فقال جعفر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنا ها هنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا ¬

_ = بشيء أي قليل الحديث، وقال: النسائي: لا بأس به. انظر تعليقى على التقريب. وعبد الله ابن عون ثقة ثبت فاضل -التقريب (1/ 439) ومعاذ ثقة متقن من رجال الشيخين- التقريب (2/ 257) وشيخ البزار ثقة ثبت يعرف بـ (الزمن) التقريب (2/ 204).

أم حبيبة تبكي في الحبشة

معنا، فأقمنا معه) (¬1) على أرض الحبشة الرحبة .. في ضيافة ملكهم الكريم العادل: النجاشي رضي الله عنه .. وعلى تلك الأرض الطيبة لم تصفُ الحياة للمؤمنين .. لكنها كانت بعيدة عن مخالب قريش على كل حال .. فقد هاجرت إلى الحبشة مع أول من هاجر فتاة مؤمنة .. تمرد إيمانها على زعامة أبيها وسلطته .. فأخذت بيد زوجها إلى أول مركب وأبحرت إلى الحبشة .. هذه الفتاة .. هي بنت زعيم قريش ومكة .. بنت أبي سفيان .. واسمها "رملة" وتكنى بـ (أم حبيبة). أم حبيبة تبكي في الحبشة حزينة على أرض الحبشة .. بعيدة عن مكة والمدينة .. لم يكن البعد وحده الذي يعصف بقلب أم حبيبة .. فزوجها الآن طريح الفراش .. مريض وقد اشتد به المرض .. وعندما أحس بأنامل الموت تدنو منه وتدب في أوصاله .. همس بمن حوله برسالة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. رسالة قبل الموت بعث بها عبيد الله بن جحش الذي هاجر مؤمنًا (¬2) إلى أرض الحبشة .. إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوصيه بأحب الناس إلى قلبه .. يوصيه بالحبيبة أم حبيبة "رملة بنت أبي سفيان". تقول عائشة رضي الله عنها: (هاجر عبيد الله بن جحش بأم حبيبة بنت أبي سفيان وهي امرأته إلى ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3136). (¬2) روي أن عبيد الله مات نصرانيًا على أرض الحبشة مرتدًا عن الإِسلام، لكنني لم أجد حديثًا صحيحًا يثبت ذلك، إنما وجدت العكس وهو الحديث التالي والله أعلم.

النجاشى يهدى للنبى (صلى الله عليه وسلم) مهر أم حبيبة

أرض الحبشة، فلما قدم أرض الحبشة مرض، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬1). فوصلت الوصية إليه - صلى الله عليه وسلم - .. فبعث الرد مع أحد المؤمنين القادمين على هذا القارب الذي يتهادى فوق مياه البحر نحو سواحل الحبشة .. إنه يرسو الآن حاملًا لأم حبيبة البشرى والعزاء .. فقد انقضت أيام حدادها وأحزانها .. وجاء صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبها له - صلى الله عليه وسلم - .. استبشرت أم حبيبة هذا الخبر .. وفرح النجاشى .. فقد وجدها فرصة ولا أنسب ليقدم هدية للنبي - صلى الله عليه وسلم -: النجاشى يهدى للنبى (صلى الله عليه وسلم) مهر أم حبيبة مهرها كله .. هدية من النجاشى للنبي -صلى الله عليه وسلم- .. ثم أرسلها مع صحابي كريم اسمه: شرحبيل بن حسنة .. عن ذلك تقول أم حبيبة رضى الله عنها: (أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش "وكان أتى النجاشى" فمات بأرض الحبشة "وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج أم حبيبة وإنها بأرض الحبشة" فزوجها النجاشى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمهرها عنه أربعة آلاف "ثم جهزها من ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن حبان (الزوائد- 312) أخبرنا ابن خزيمة، حدثنا محمَّد بن يحيى الذهلى, حدثنا سعيد بن كثير بن عفير، حدثنا الليث عن ابن مسافر عن ابن شهاب، عن عروة عن عائشة .. وعروة وابن شهاب الزهري مرا معنا كثيرًا .. أما ابن مسافر فاسمه: عبد الرحمن بن خالد بن مسافر المصري -أمير مصر- قال تلميذه الذهلى عنه: ثبت. قال ابن معين: كان على مصر وكان عنده عن الزهرى كتاب فيه مائتا حديث أو ثلاث مائة كان الليث يحدث بها. وقال العجلى والدارقطنيُّ: ثقة وقال ابن يونس: كان ثبتا في الحديث (التهذيب- 6/ 162) وقال الحافظ: صدوق والأولى أن يقول: ثقة. وسعيد بن كثير بن عفير صدوق عالم بالأنساب انظر التقريب (1/ 304) وهو من شيوخ البخاري ومسلم، وبقية الرجال أئمة ثقات.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يريد أداء العمرة

عنده" وبعث بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شرحبيل بن حسنة "وجهازها كله من عند النجاشى") (¬1) عبرت أم حبيبة البحر تحمل مهرها والفرح .. عبرت الحزن والغربة .. وجعلها الله من أمهات المؤمنين .. من سيدات نساء العالم والجنة .. من حبيبات النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وصار لها بدل الهجرة هجرتين .. وأزاح ذلك العرس ما بها من شقاء وغربة وأحزان .. وصلت رملة ففرح بها النبي -صلى الله عليه وسلم- .. وكان قد أعد لها منزلًا تسكنه .. تشاركه حياته ومعاناته وأفراحه .. أما والدها أبو سفيان فيبدو أن الخبر أفرحه .. لذلك لم يصدر منه ما ينبئ عن استنكاره لذلك الزواج .. فهو يعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- زعيمًا لا مثيل له .. وإنه لشرف أن يكون صهرًا لهذا الزعيم .. ولئن كان زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها قد أبهج والدها إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على ما يكدر صفوه .. ويضيف إلى هزيمته عند الخندق هزيمة أخرى .. فـ: النبي (صلى الله عليه وسلم) يريد أداء العمرة وهذا من حقه .. ومن حق أي عربي .. بل من حق أي إنسان أن يزور بيت الله ويطوف به .. لكن قريشًا تفكر بطريقة مختلفة .. فهي لا تنظر إليه حقًا من حقوق خصمها الذي يجب عليها أن تؤمن له الحماية ما دام على أرضها .. وهذه من صفات قريش الكريمة المحسوبة لها .. لكنها ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أبو داود (2107) واللفظ له وأحمدُ (6/ 427) والزوائد له .. ورواه النسائي كلهم: حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر، عن الزهري عن عروة عن أم حبيبة .. وعروة والزهري إمامان وتابعيان ثقتان مرا معنا كثيرًا .. ومعمر بن راشد تلميذ الزهري ثقة ثبت فاضل -التقريب (2/ 266) أما تلميذه وشيخ أحمد عبد الله بن المبارك فهاك ما قاله ابن حجر ملخصًا سيرته العطرة: ثقة، ثبت، فقيه، عالم، جواد، مجاهد، جمعت فيه خصال الخير - التقريب (1/ 445).

متى كانت عمرة الحديبية

تنظر إلى هذه العمرة على أنها هزيمة يلحقها محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بها كسابقاتها .. كيف يطوف هو وأصحابه وقد طردوهم بالأمس من مكة .. كيف يأتون مكة دون إذن قريش .. أين مكانة قريش وأصنامها .. ؟ سؤال ضاقت به مكة .. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يبال برأي قريش .. لقد أراه الله في منامه رؤيا .. ورؤيا الأنبياء وحي .. وقد قص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه تلك الرؤيا .. وبشرهم بأنهم سيطوفون ببيت الله بعد طول غياب عنه .. بعد خمس سنوات من الحرمان .. يقول عمر بن الخطاب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به) (¬1) فتهللت وجوه الصحابة .. وأفرحهم الخبر .. وأعدوا للسفر عدته .. وأطلق اسم (الحديبية) على تلك العمرة فيما بعد. فـ: متى كانت عمرة الحديبية وماذا جرى على أرض الحديبية البعيدة عن المدينة .. والتي تقترب من مكة بمسافة 22 كيلًا .. خرج - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نحو مكة متعمرين .. يقول ابن عمر: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج متعمرًا) (¬2) و (كانت الحديبية سنة ست بعد مقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة في ذي القعدة) (¬3). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2731 - 2732) وهو حديث طويل. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2701). (¬3) سنده قوي رواه البيهقى (4/ 91) لكنه مرسل أرسله نافع لكن يقويه ما ذكره الحافظ في الفتح: (وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند حسن عن ابن عمر قال: كانت عمرة القضية في ذى القعدة سنة سبع). وقد ثبت أن عمرة القضاء بعد عمرة الحديبية بعام.

موقف بعض الأعراب من الخروج للعمرة

يقول أنس رضي الله عنه: (عمرة الحديبية في ذي القعدة) (¬1). ولم تقتصر دعوته - صلى الله عليه وسلم - للخروج على أصحابه .. بل دعا الأعراب المتناثرين حول المدينة لمصاحبته .. علَّ العمرة تذيب ما ببعضهم من جلافة وجفاء. لكن بعض تلك الجلافة كان صدأً لا يذيبه سوى اللهب .. موقف بعض الأعراب من الخروج للعمرة موقف كالعار .. فبعض الأعراب تصحر من رأسه حتى قدميه .. فهم يتلهفون للنهب والسلب والغنيمة الباردة .. وحساباتهم لا تعدو ذلك .. وهم وإن ادعوا الإِسلام إلا أن أرقام قريش ما زالت تخيفهم .. وحشود الأحزاب ما زالت في نظرهم تكمن خلف الأكمات والهضاب .. أما نصر الله ووعده والثقة برسوله - صلى الله عليه وسلم - ووحي الله له فلا رصيد لها في تلك النفوس المتكلسة .. إنها سراب في الصحراء الممتدة داخلهم .. لقد ظنوا أن قريشًا ستفني محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فلا داعى للمجازفة في معركة معروفة النتائج سلفًا .. ولذا فقد ادعوا أنهم مشغولون بأموالهم وأهلهم وشؤون دنياهم .. وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر لهم وأن يسامحهم عن المسير معه نحو مكة .. لكن الوحي نزل يفضح سوء ظنهم بالله ورسوله .. ويعرى حقيقتهم .. ويكشف عارهم .. يقول الله سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1778).

وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1) آيات عظيمات .. آيات تخترق أعذار بعض الأعراب الواهية لتنزع منها جبنهم وأسرار تخلفهم .. ولا بد أن المنافقين شاركوهم الرأي والتخلف .. لم يلح النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم .. فلا خير فيهم ولا في صحبتهم .. إنه ليس بحاجتهم عند جلاد السيوف والعراك .. فكيف يكون اليوم بحاجتهم وهو لا يريد سوى السلام وزيارة بيت الله وأداء العمرة فيه .. فقد (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد القتال، وساق معه الهدي سبعين بدنة) (¬2) ساقها معه من المدينة لينحرها لله في مكة .. فكما أن الصلاة لا تجوز إلا لله وحده لا شريك له .. فكذلك النحر لا يجوز لأحد كائنًا من كان إلا الله وحده لا شريك له .. يقول سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} (¬3) ولم يأخذ - صلى الله عليه وسلم - الهدي معه فقط .. بل أخذ السلاح أيضًا .. لم يأخذه ليقاتل به بل احتياطًا .. فالطريق طويلة وشاقة وقد تباغت قريش أو أعوانها من هنا أو هناك .. خرج - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وكان عدد الذين خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يصل إلى ألف وأربعمائة .. توجه إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقلبه وحديثه .. وبشرهم ببشرى تتطامن أمامها كنوز الدنيا ومساحاتها ¬

_ (¬1) سورة الفتح: الآيات 11 - 14. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه أحمد (3/ 323) حدثنا الزهرى عن عروة، عن المسور ومروان .. وسند ابن إسحاق هو سند البخاري في روايته لقصة الحديبية وقد صرح ابن إسحاق هنا بالسماع. (¬3) سورة الكوثر: الآيات 1 - 3.

التوقف بذى الحليفة

وألقابها .. جابر بن عبد الله رضي الله عنه أحدهم .. أحد الذين شملتهم تلك البشرى .. يحدث الدنيا فيقول: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفًا وأربعمائة) (¬1). ويقول أحد هؤلاء وهو البراء رضي الله عنه: (كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة) (¬2) وقال كل من معقل بن يسار والمسيب بن حزن رضي الله عنهما: (ألفًا وأربعمائة) (¬3) وقد يكون العدد أكبر من ذلك .. أي أن عدد الصحابة الذين خرجوا معه - صلى الله عليه وسلم - قد يبلغ ألفًا وخمسمائة صحابي .. قال أحد أبناء الصحابة الثقات واسمه: سعيد بن المسيب بن حزن عندما قال له أحد أصحابه: (بلغني أن جابر بن عبد الله يقول: كانوا أربع عشرة مائة، قال: نسي جابر كانوا ألفًا وخمسمائة) (¬4) (وهَمَ جابر رحمه الله وهو حدثني أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة) (¬5) توجهوا بمطاياهم وقلوبهم خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو بيت الله الكريم .. وبعد أن قطعوا مسافة. توقف بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان يدعى "ذو الحليفة" وكان: التوقف بذى الحليفة ضروريًا لأداء العمرة .. فالعمرة طواف حول الكعبة .. ومشي بين الصفا والمروة .. وقبل ذلك إحرام من مكان يقال له الميقات .. وقد حدد -صلى الله عليه وسلم- لكل بلد ميقاتها .. بل حدد لجهات الدنيا كلها أماكن تحرم منها .. وميقات أهل المدينة منها هو "ذو الحليفة" يقول أحد الصحابة رضي الله ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4154). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3577). (¬3) مسلم الإمارة وابن سعد (2/ 99) واللفظ له. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4153) وخليفه (81) واللفظ له. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (4153) والبيهقيُّ واللفظ له (4/ 97).

عنهم: (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وَقَّتَ لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام: الجحفة، ولأهل نجد: قرن المنازل، ولأهل اليمن: يلملم، هن لأهلهن، ولكل آت عليهن من غيرهن "من غير أهلهن" فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ (¬1) حتى أهل مكة من مكة) (¬2). والإحرام هو أن ينوي المعتمر أو الحاج بدء ممارسة العمرة أو الحج أو العمرة والحج معًا .. والأفضل أن يكون لباس المحرم عبارة عن قطعتين من القماش فقط .. تسمى إحداهما إزارًا وتلف حول أسفل الجسم .. وأما الأخرى فتسمى رداءًا وتلف حول أعلى الجسم .. ولكن بطريقة خاصة حتى نهاية الطواف .. وتسمى هذه الطريقة بـ (الاضطباع) والاضطباع هو أن يلف الرداء حول الجسد مع تغطية الكتف الأيسر وكشف الكتف الأيمن .. أي إدارة الرداء من تحت الابط الأيمن .. وهناك ملابس حرم النبي - صلى الله عليه وسلم-لبسها على المعتمر والحاج منها: القميص والعمامة والسراويل والبرانس وهي مثل الملابس المغربية فيها غطاء للرأس. وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية .. فقلد ما معه من الهدي. ري وضع على رقابها شيئًا لتعرف أنها هدي. وأشعر الهدي وعلمه بعلامة يعرف بها أنه هدي لله وأحرم بالعمرة .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كان بذي الحليفة، قلد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة) (¬3) (وصلى بها) (¬4). ¬

_ (¬1) أي من كانت بلده أقرب من جميع المواقيت إلي مكة فيحرم من مكانه. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1530). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (1694) (1695). (¬4) حديث صحيح رواه مسلم- الإمارة.

أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) برصد تحركات قريش

وأحرم معه بقية الصحابة رضي الله عنهم إلا صحابيًا واحدًا. اسمه: الحارث بن ربعي ويعرف بـ"أبي قتادة" رضي الله عنه .. في هذه الأثناء انطلق أحد الصحابة رضي الله عنهم مسرعًا نحو مكة لأداء العمرة وشيء آخر .. فقد صدر: أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) برصد تحركات قريش وقد اختار -صلى الله عليه وسلم- لهذه المهمة رجلًا مناسبًا اسمه: بشر بن سفيان الكعبي الخزاعي .. فخزاعة وكعب قبيلة واحدة .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (فلما أتى ذا الحليفة، قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بالعمرة، وبعث عينًا له من خزاعة، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) وسار بشر يرصد تحركات قريش ويجمع أخبارها .. أما أبو قتادة فلم يأمره - صلى الله عليه وسلم - بالإحرام .. لكنه أمره بمهمتين: مهمتان لأبى قتادة الأولى: جمع زكاة بعض المسلمين في الجوار لتوزيعها على من يستحقونها. الثانية: التصدي لسرية معادية من المشركين في مكان بين المدينة ومكة، ويبدو أنه قريب من ساحل البحر الأحمر ويسمى هذا المكان: (غيقة). انطلق أبو قتادة ومن معه ينفذون أوامر نبيهم -صلى الله عليه وسلم- .. وفي الطريق رأى هؤلاء الصحابة شيئًا لا يقدر على نيله إلا أبو قتادة أما هم فلا يجوز لهم ذلك بل اكتفوا بتبادل الابتسامات والضحكات .. فماذا فعل أبو قتادة ولماذا يضحك أصحابه؟ أبو قتادة رضي الله عنه يقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4178) (4179).

(انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم) (¬1) وكان سبب عدم إحرام أبي قتادة هو ما يقوله أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة الأنصاري على الصدقة وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه محرمين حتى نزلوا بعسفان) (¬2) لكن خبرًا وصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- جعله يوجه أبا قتادة إلى مكان يقال له: (غيقة) حيث تتواجد هناك قوة من المشركين تستعد للانقضاض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهى قريبة من ساحل البحر الأحمر بين مكة والمدينة. يقول أبو قتادة رضي الله عنه: (انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم، فأُنبئنا بعدوٍ "بغيقة" فتوجهنا نحوهم) (¬3) (فقال - صلى الله عليه وسلم -: خذوا ساحل البحر حتى نلتقى. فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم) (¬4) وقد تركوا (النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقاحة) (¬5) وهو مكان بين مكة والمدينة .. (فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمرُ وحش) (¬6) (فلما رأوه تركوه) (¬7) (فجعل بعضهم يضحك إلى بعض) (¬8). (وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به وأحبوا لو أني أبصرته ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (1822). (¬2) رواه البزار وابن حبان من طريق عبد الأعلي بن عبد الأعلى عن عبيد الله بن عمر عن عياض بن عبد الله بن سعد، عن أبي سعيد .. (2/ 18 - زوائد) (9/ 289): عياض تابعى ثقة -التقريب (2/ 96) وعبيد الله مثله وتلميذه ثقة كذلك- التقريب (1/ 465). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (1822). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (1824). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (1823). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (1824). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (2854). (¬8) حديث صحيح رواه البخاري (1822).

فالتفت فأبصرته) (¬1) (وأنا رجل حلٌّ على فرسي، وكنت رقاءً على الجبال، فبينا أنا على ذلك إذ رأيت الناس متشوقين لشيء، فذهبت انظر، فإذا هو حمار وحش، فقلت لهم: ما هذا؟ قالوا: لا ندري. قلت: هو حمارٌ وحشيٌ. فقالوا: هو ما رأيت) (¬2) (واستعنت بهم، فأبوا أن يعينوني) (¬3). فض أبو قتادة رضي الله عنه (فركب فرسًا يقال له: الجرادة) (¬4). يقول أبو قتادة: (فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت، ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح. فقالوا: لا، والله لا نعينك عليه بشيء، فغضبت، فنزلت، فأخذتهما، ثم ركبت، فشددت على الحمار، فعقرته) (¬5) (فأتيت إليهم فقلت: قوموا فاحتملوه. قالوا: لا نمسه. فحملته حتى جئتهم به، فأبى بعضهم، وأكل بعضهم. فقلت: أنا أستوقف لكم النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬6) (فطلبت النبي - صلى الله عليه وسلم -, أرفع فرسي شأوًا وأسير شأوًا، فلقيت رجلًا من بني غفار في جوف الليل. قلت: أين تركت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: تركته بـ: تعهن (¬7) وهو قائل السقيا (¬8). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (5407). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (5492). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (1821). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2854). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (5407). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (5492). (¬7) مكان بين مكة والمدينة. (¬8) أي أنه سيقيل في مكان يقال له السقيا.

فقلت: يا رسول الله، إن أهلك "أصحابك" يقرؤون عليك السلام، ورحمة الله، إنهم قد خشوا أن يقتطعوا دونك فانتظرهم "ففعل" (¬1). قلت: يا رسول الله، أصبت حمارًا وحشيًا، وعندي منه فاضلة، فقال للقوم: كلوا -وهم محرمون-) (¬2) لأنهم لم يشاركوا في صيده .. وشارك - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في تلك الأكلة .. حيث يقول أبو قتادة رضي الله عنه: (وخبأت العضد معي، فأدركنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه عن ذلك، فقال: معكم منه شيء؟ فقلت: نعم. فناولته العضد فأكلها حتى نفدها وهو محرم) (¬3) ثم مكث - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بانتظار أصحاب أبي قتادة الذين كانوا يسيرون ويتساءلون (أنأكل لحم صيد ونحن محرمون) (¬4) لقد (أكلوا، فندموا، فلما أدركوه) (¬5) - صلى الله عليه وسلم - سألوه فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها) (¬6). (كلوا فهو طعم أطعمكموه الله) (¬7) فأكل الصحابة واطمأنت قلوبهم بالحلال .. ثم واصلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسير نحو مكة لأداء العمرة في بيت الله الحرام .. حتى وصلوا إلى مكان يقال له: عسفان .. عندها قرر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس الصغيرة عند البخاري (1822). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1221). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2570). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (1824). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (2854). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (1824). (¬7) حديث صحيح رواه البخاري (5492).

التوقف في عسفان ووصول الجاسوس

التوقف في عسفان ووصول الجاسوس توقف -صلى الله عليه وسلم- للاستراحة فالسفر شاق وطويل .. والليل يخيم بهدوء على تلك الأرض .. والصحابة ينسابون فى عالم النوم بعد أن فرغوا من مناجاة خالق الكون في صلاة خاشعة .. وفجأة تطاير النوم عنهم من هنا وهناك .. فقد تساقطت قطرات المطر عليهم فأيقظتهم .. وأفرحتهم فهم بحاجة إلى الماء كحاجتهم إلى النوم .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحس بحاجة أصحابه إلى ما هو أهم من الاثنين .. لقد أحب أن يتمتعوا بالمطر والتوحيد معًا .. لذلك فقد تحدث إليهم بعد أن أدوا صلاة الفجر .. تحدث إليهم عن المطر بلغة كالمطر .. يقول زيد بن خالد الجهني وهو أحد الصحابة الذين أصابهم ذلك المطر: (خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية، فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي: فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي وأما من قال: مطرنا بنجم كذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي) (¬1) إن الكواكب لا تضر ولا تنفع .. والتعلق بها شرك .. إنها خلق من خلق الله .. وقد سخر الله هذه النجوم ليستغلها الإنسان ويستفيد منها .. ليكتشفها ويتفكر في خلقها .. أما المشركون المتخلفون فقد أهانوا عقل الإنسان وانحطوا به إلى مستوى يخضع فيه العقل لجلاميد الصخور ورماد اللهب .. لقد نزل القرآن ليحرر هذا العقل المكبل بالخرافة والخوف .. ليطلقه في الكون .. نزل القرآن يقدم النجوم والشمس والقمر والبحار وكل ما في ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4147).

السموات والأرض هدايا للإنسان .. يستمتع بها .. ينعم بها .. يستغلها في رفاهية البشرية جميعًا .. القرآن يقدم الكون للإنسان في علبة هدايا .. يقدمه بصورته الحقيقية التي لا تعني سوى التوحيد .. ها هو القرآن يخاطب الإنسان ليحرره من الخوف والخرافة فيقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ ..} (¬1). {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) ..} (¬2). {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (¬3). {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (¬4). {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} (¬5). {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (¬6). {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (¬7). القرآن إذًا يجعل من الإنسان سيدًا في هذا الكون .. وما حوله خدم مسخرون .. فلماذا يتنازل عن سيادته ليصبح عبدًا لحجر أو نهر أو شمس أو حطب متقد .. هذا هو الفرق بين الإنسان موحدًا سيدًا في الكون وبين الإنسان مغلولًا بالشرك والأوهام .. ¬

_ (¬1) سورة الحج: الآية65. (¬2) سورة إبراهيم: الآية32. (¬3) سورة النحل: الآية14. (¬4) سورة النحل: الآية14. (¬5) سورة إبراهيم: الآية33. (¬6) سورة إبراهيم: الآية33. (¬7) سورة الجاثية: الآية13.

قريش تتحرك لمواجهة النبي (صلى الله عليه وسلم)

المطر من عند الله والنجوم من عند الله .. ومتى ما اعتقد المسلم أن نجمًا ينزل المطر أو يمنعه فقد اعتقد شركًا .. حفر الصحابة تلك الكلمات في صدورهم .. وأشرقت الشمس منتعشة بالتوحيد والمطر .. وأقبل راكب من بعيد .. إنه معروف لدى الصحابة ولدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فهو الفارس الذي بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليرصد تحركات مكة ويقدم تقريرًا مفصلًا عن قريش وموقفها من عمرة النبي -صلى الله عليه وسلم-. قريش تتحرك لمواجهة النبي (صلى الله عليه وسلم) ترجل الفارس عن مطيته .. وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. فردوا عليه السلام وكان ذلك في مكان يقال له: غدير الأشطاط قريب من عسفان نحو مكة فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- (بعث عينًا له من خزاعة وسار النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه) (¬1) الذي أرسله .. وهو بشر بن سفيان ولما (لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجت معها العوذ المطافيل (¬2)، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم) (¬3) (إن قريشًا قد جمعوا لك جموعًا وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت ومانعوك) (¬4) (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4179). (¬2) الأطفال والنساء. (¬3) حديثٌ حسنٌ رواه ابن إسحاق ومن طريقه أحمد (4/ 323) والبيهقيُّ (4/ 100) والطبرانيُّ (20/ 15) حدثني الزهري عن عروة عن المسور ومروان وسند ابن إسحاق هو سند البخاري. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (4179).

مشاورة النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه فى شن الحرب

عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإِسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة) (¬1) كلمات مملوءة حسرة وألمًا .. حلف بعدها - صلى الله عليه وسلم - أن لا يترك الجهاد لنشر رسالة الله التي بعثه الله بها إلى جميع الناس .. حتى ينتشر في كل الأرض أو تنقطع سالفته أي يفارق رأسه جسده أو تفارقه روحه .. عزم حديد وبأس شديد .. لكن دون تهور .. دون انفراد بالرأي والقرار .. لقد التفت -صلى الله عليه وسلم- بحديثه إلى أصحابه الذين تجشموا معه الصعاب والألم .. وخاطبهم كعادته .. فرأيهم له وزنه .. وقراراهم له قدره .. شاورهم وهو الذي لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا حقًا .. لتكون الشورى واجبة من بعده على كل قائد وإمام: مشاورة النبي (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه فى شن الحرب استشار - صلى الله عليه وسلم - أصحابه كلهم دون استثناء .. دون تعيين .. ثم أصغى جيدًا .. بعد أن قال: ("أشيروا أيها الناس عليّ .. أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت, فإن يأتونا كان الله عَزَّ وَجَلَّ قد قطع عينًا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين". قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدًا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه ابن إسحاق ومن طريقه أحمد (4/ 323) والبيهقيُّ (4/ 100) والطبرانيُّ (20/ 15) حدثنى الزهرى عن عروة عن المسور ومروان وسند ابن إسحاق هو سند البخاري.

كيف صلى النبي (صلى الله عليه وسلم) العصر

قال - صلى الله عليه وسلم -: "امضوا على اسم الله") (¬1) بعد أن أخذ برأي صاحبه الحكيم رضي الله عنه .. مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. وكان هناك من يراقبهم من بعيد ولما صار النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ضنجان وعسفان تسللت سرية خالد بن الوليد .. وكان خالد من القادة الأفذاذ الذين لا يتهورون بإلقاء جيوشهم في أتون محرق من الحماس والإيمان بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. لذلك فكر بطريقة ينقض فيها على المسلمين وهم غافلون .. شاهد خالد بن الوليد المؤمنين وهم يؤدون الصلاة .. لا يلتفتون .. لا يكلم بعضهم بعضًا .. ينسابون في خشوع غامر مع ربهم .. لا يشتغلون بشيء أثناء قيامهم وركوعهم وسجودهم إلا التوجه نحو الله .. هذا التوجه الذي أفرح خالدًا والمشركن معه .. لقد وجدوا في هذا الخشوع ثغرة ينقضون منها على جمع المؤمنين ليفنوهم .. ولذلك اتخذ خالد بن الوليد قرارًا بالهجوم على جيش الإِسلام وهم يؤدون صلاة العصر .. لكن شيئًا حدث .. وغير من طريقة الصلاة في تلك الظروف التي يحملق فيها الرعب من كل مكان على المؤمنين. كيف صلى النبي (صلى الله عليه وسلم) العصر يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (نزل -صلى الله عليه وسلم- بين ضنجان وعسفان) (¬2) (فاستقبلنا المشركون عليهم خالد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4178). (¬2) حديث صحيح رواه النسائى (3/ 174) والترمذيُّ (3035) (والطبريُّ في التفسير- من طريق عبد الصمد، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائى حدثنا عبد الله بن شقيق حدثنا أبو هريرة .. عبد الله بن شقيق تابعى ثقة وتلميذه سمع منه وهو صدوق .. وعبد الصمد بن عبد الوارث صدوق انظر التقريب (1/ 301 - 422 - 507).

بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم) (¬1). ثم قالوا: (إن لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأبكارهم وهي "العصر" فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة) (¬2). (فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فأخذوا السلاح: فصففنا خلفه صفين .. ثم ركع فركعنا جميعًا .. ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم .. فلما سجدوا وقاموا .. جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم .. ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء .. وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء .. ثم ركع - صلى الله عليه وسلم - فركعوا جميعًا .. ثم رفع - صلى الله عليه وسلم - فرفعوا جميعًا .. ثم سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والصف الذي يليه .. والآخرون قيام يحرسونهم. فلما جلس - صلى الله عليه وسلم - جلس الآخرون، فسجدوا فسلم بهم ثم انصرفنا. فصلاها - صلى الله عليه وسلم - مرتين، مرة بعسفان، ومرة بأرض بنى سليم) (¬3) عندها ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد (4/ 59) والطبرانيُّ (5/ 213) (5/ 216) وغيرهم من طريق منصور بن المعتمر عن مجاهد عن أبي عياش رضي الله عنه ومنصور ثقة ثبت لا يدلس - التقريب (2/ 277). (¬2) هو حديث أبى هريرة السابق. (¬3) هذا حديث أبى عياش الزرقي السابق.

أدرك المشركون أن لا سبيل إلى المؤمنين حتى في الصلاة .. فالصلاة وإن كانت خشوعًا واتجاهًا إلى الله بكل المشاعر .. إلا أنها لا تعني التسمر فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل أشياء كثيرة أثناء صلاته .. فهو يحمل الحسن رضي الله عنه في صلاته .. وينزل إذا أراد الركوع ثم يحمله ثانية إذا أراد القيام (¬1) .. وتقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي والباب عليه مغلق، فجئت، فاستفتحت، فمشى ففتح لي ثم رجع إلى مصلاه) (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يرد السلام وهو يصلى ولكن بالإشارة بالكف أو بالإصبع .. يقول صهيب الرومى رضي الله عنه: (مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فسلمت عليه، فرده إشارة بإصبعه) (¬3) وها هو يتدخل بين صلاته ليفك اشتباكًا بين طفلتين .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (جاءت جاريتان من بني عبد المطلب .. اقتتلتا، فأخذهما، ففرغ بينهما فنزع إحداهما من الأخرى) (¬4) ويقول أنس رضي الله عنه: (إن ¬

_ (¬1) مر معنا عند الحديث عن الحسن رضي الله عنه. (¬2) سنده صحيح رواه أبو داود (922) وأحمدُ (6/ 31) والترمذيُّ (601) والطبرانيُّ في الشاميين (1/ 206) من طريق بشر بن المفضل حدثنا برد بن سنان عن الزهري عن عروة عن عائشة .. وبشر ثقة ثبت وبرد صدوق - التقريب (1/ 101 - 95). (¬3) سنده صحيح رواه أبو داود (925) والنسائيُّ في الكبرى (1/ 193) من طريق بكير عن ابن عمر عن صهيب ورواه في الكبرى من طريق آخر أيضًا: الليث عن أبي الزبير عن جابر وهذا السند صحيح دون علة. (¬4) سنده صحيح رواه أبو داود (716) وابن حبان (6/ 120) وابن خزيمة (2/ 47) وأبو يعلى (5/ 133) من طريق منصور بن المعتمر عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن أبي الصهباء عن ابن عباس. وأبو الصهباء ثقة وليس كما توحي ترجمته في التقريب فقد وثقه العجلى لفظيًا وأبو زرعة وجرحه غير مفسر.

النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشير في الصلاة) (¬1) وتقول عائشة: إنها كانت تنام وأرجلها أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فضممتها إليّ ثم يسجد) (¬2). إذا كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك وهو في ساعات السلام .. في داخل بيته .. فحمل السلاح في ساحات الحرب والخوف أدعى وأكثر ضرورة .. فهم المشركون أن الصلاة ليست تسمرًا وتحنيطات للأعضاء بل هي خشوع لا ينافي الشعور بما يجري حول الإنسان .. أدرك المشركون ذلك .. وكان - صلى الله عليه وسلم - أذكى مما تصوروا فقد بث عيونه ترصد الأرض المحيطة بالمؤمنين .. أما خالد فقد انسحب إلى مكان يقال له: كراع الغميم .. وجاءت عيون النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبره فقال لأصحابه: (إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق نذيرًا لقريش وسار النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬3). وسارت من حوله عيونه .. ثم جاءته أخبار خالد مرة أخرى فأمر بتغيير طريق السير .. كل ذلك لأنه لم يخرج للقتال بل خرج لزيارة بيت الله وأداء العمرة .. لكن قريشًا تبحث عن المتاعب .. بينما كان - صلى الله عليه وسلم - يتجنبها .. حتى لقد سلك طريقًا وعرًا شاقًا كي يتجنب مواجهة قريش .. وفي ذلك الطريق الوعر لاحت ثنية صعبة التجاوز .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر الصحابة أن: ¬

_ (¬1) حديث صحيح - السابق (1/ 177). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري وأبو داود واللفظ له (712). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2731).

من عبر الثنية غفر الله له

من عبر الثنية غفر الله له يقول أبو سعيد الخدري: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بعسفان قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عيون المشركين الآن على ضنجان، فأيكم يعرف طريق ذات الحنظل"؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمسى: هل من رجل ينزل فيسعى بين يدي الركاب (¬1)؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، فنزل، فجعلت الحجارة تنكبه (¬2)، والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اركب. ثم نزل آخر، فجعلت الحجارة تنكبه، والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اركب. ثم وقعنا على الطريق حتى سرنا في ثنية يقال لها: الحنظل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مثل هذه الثنية إلا كمثل الباب الذي دخل فيه بنو إسرائيل" قيل لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} (¬3). لا يجوز (¬4) أحد الليلة هذه الثنية إلا غفر له. فجعل الناس يجوزون، وكان آخر من جاز قتادة بن النعمان في آخر القوم. ¬

_ (¬1) أي يمشي أمام الناس. (¬2) تضرب رجله وتصيبه. (¬3) سورة البقرة: الآية 58. (¬4) يتجاوز ويعبر.

فجعل الناس يركب بعضهم بعضًا، حتى تلاحقنا، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلنا) (¬1). كان - صلى الله عليه وسلم - يتابع هذا التسابق نحو المغفرة بفرح .. وبعد أن عبر المؤمنون كلهم وتجاوزوا تلك الثنية الصعبة .. رأى - صلى الله عليه وسلم - أعرابيًا لا يبالي بالبشرى .. ولا وزن للمغفرة عنده .. أكلت الدنيا قلبه فخرج مع المؤمنين عله يحظى ببعض غنيمة من حطام الدنيا .. رأى - صلى الله عليه وسلم - ذلك الحطام الأعرابي فالتفت إلى أصحابه وبشرهم بالمغفرة ولم يبشر ذلك الحطام بشيء .. يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يصعد الثنية "ثنية المراد" فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل. فكان أول من صعدها خيلنا، خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكلكم مغفور له، إلا صاحب الجمل الأحمر. فأتيناه، فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: والله .. لأن أجد ضالتي أحب إليّ من أن يستغفر لي صاحبكم -وكان رجل ينشد ضالة له-) (¬2) (وإذا هو أعرابي جاء ينشد ضالة ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه البزار (الزوائد- 3372) حدثنا إسحاق بن بهلول، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد .. وشيخ البزار ثقه تاريخ بغداد (6/ 366) وشيخه صدوق من رجال الشيخين التقريب (2/ 145) وزيد وعطاء تابعيان ثقتان أما هشام فهو حسن الحديث إذا انفرد لكنه أثبت الناس رواية عن زيد كما قال الإِمام أبو داود (التهذيب-11/ 39) فالسند صحيح. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم - صفات المنافقين.

القصواء تبرك في الحديبية

له) (¬1) فضل معها .. وكان أضل منها .. لا أدري ما فعلت به الدنيا .. ولا ما فعلت ضالته .. فقد تركه الصحابة وشأنه .. وتوجهوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي انحدر من تلك الثنية على أرض يقال لها: الحديبية وعندما لامست أخفاف ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - "القصواء" أرض الحديبية توقفت فجأة وبركت. القصواء تبرك في الحديبية والصحابة يصيحون بها .. يحثونها على النهوض ويقولون: حل .. حل .. لكنها لم تنهض ولم تتزحزح عن مكانها. فقد (سار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به، راحلته، فقال الناس: حل .. حل. فألحت (¬2)، فقالوا: خلأت (¬3) القصواء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل") (¬4) وهو الله الذي حبس الفيل عن دخول مكة .. وهدم الكعبة ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسى بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) (¬5) (والله لا تدعوني قريش اليوم، إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها) (¬6) (ثم زجرها، فوثبت، ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم - صفات المنافقين. (¬2) بقيت في مكانها. (¬3) حرنت. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2731). (¬5) حديث البخاري الطويل (2731). (¬6) حديث البخاري الطويل (2731).

فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل يتبرضه الناس تبرضًا) (¬1) أي نزل في مكان اجتمع فيه ماء قليل يستسقي منه الناس تبرضًا أي بأكفهم .. وكان فيها بئر يقول عنه البراء رضي الله عنه: (الحديبية بئر فترحناها حتى لم نترك فيها قطرة فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على شفير البئر فدعا بماء، فمضمض ومج في البئر) (¬2) (لم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش) (¬3) لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس: (انزلوا، فقالوا يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس، فأخرج رسول الله سهمًا من كنانته) (¬4) (ثم أمرهم أن يجعلوه فيه) (¬5) (فأعطاه رجلًا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه فيه، فجاش الماء بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن) (¬6) وبركت حوله رواحلهم فارتوت عروقهم .. واطمأنت نفوسهم .. وشكروا خالقهم على هذه النعمة العظيمة .. والمعجزة الخارقة التي أجراها سبحانه على يد نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. الذي توقف في هذه الأرض بوحي من الله. وهو الآن يستدعي أحد أصحابه واسمه: خراش بن أمية الخزاعي ليكلفه بمهمة خطيرة .. وقد اختاره - صلى الله عليه وسلم - من قبيلة خزاعة (وكانت خزاعة في عيبة (¬7) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمها، ومشركها، لا يخفون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2731). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3577)، (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2731). (¬4) حديث البخاري الطويل (2731). (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (2731). (¬6) حديث البخاري الطويل (2731). (¬7) يثق بهم ويثقون به.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يعرض هدنة وقريش تريد قتل رسوله

شيئًا كان بمكة) (¬1) (كانوا عيبة نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة) (¬2) فهم موضع ثقة عند الطرفين .. ولم يكتف - صلى الله عليه وسلم - باختيار رسوله بدقه .. بل اختار له راحلة مميزة .. لقد أركبه - صلى الله عليه وسلم - على جمله ثم أمره بالانطلاق: فانطلق يخبرهم أن: النبي (صلى الله عليه وسلم) يعرض هدنة وقريش تريد قتل رسوله (بعث - صلى الله عليه وسلم - خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب. فلما دخل مكة عقرت به (¬3) قريش، وأرادوا قتل خراش، فمنعهم الأحابش حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) ولولا الله ثم تدخل الأحابش لهلك خراش لكن الأحابش وهم حلفاء لقريش فكروا بالعار الذي يجلبه قتل رسول .. أما قريش فقد أعماهم الكفر والحقد في ساعة غضب فضربوا بكل شيء عرض الحائط .. عاد خراش سليمًا معافى. وجاءت كوكبة من الفرسان .. من قوم خراش هل كانوا يريدون نصر خراش أم ماذا؟ من هؤلاء الفرسان وماذا يريدون إنهم رجال من بني خزاعة وقائدهم اسمه بديل بن ورقاء الخزاعى .. وكانوا من الرجال الذين يظهرون النصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم وخزاعة محل ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - (فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بديل بن ورقاء في رجال ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ وهو حديث أحمد الطويل وقد مر معنا (4/ 324). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2731). (¬3) قطعت إحدى قوائمه. (¬4) حديثٌ حسنٌ وهو حديث أحمد السابق.

خزاعة فقال لهم كقوله لبشير بن سفيان) (¬1) فقد (جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة (¬2) نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه (¬3) الحديبية ومعهم العوذ المطافل (¬4)، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبن الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا (¬5)، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (¬6) ولينفذن الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشًا، قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولًا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه شيء وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. ¬

_ (¬1) حديث أحمد وهو حسن وقد مر معنا (4/ 323). (¬2) أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يثق بهم وهم أهل ثقة ونصح له. (¬3) العد هو الماء الذي لا ينقطع. (¬4) أي معهم الإبل ذوات اللبن والأمهات بأطفالهن. (¬5) جعلت بيني وبينهم مدة من الزمن لا حرب فيها. (¬6) أي حتى أقتل.

قتل عثمان واستعد عمر

قال: (يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، إن محمدًا لم يأت لقتال إنما جاء زائرًا لهذا البيت معظمًا لحقه) (¬1) سمعته يقول: كذا وكذا .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يبعث رجلًا مسلمًا له مكانته ويستطيع بيان رسالته. (فدعا - صلى الله عليه وسلم - عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله .. إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني: عثمان بن عفان، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرًا لهذا البيت، معظمًا لحرمته، فخرج عثمان بن عفان حتى أتى مكة، ولقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته، وحمله بين يديه، وردف خلفه، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرسله به. فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان قد قتل) (¬2). قتل عثمان واستعد عمر إشاعة حولت الحديبية إلى ساحة للموت والفداء .. فكان عمر بن الخطاب أول الناس استعدادًا للموت .. ها هو يلبس لباس الحرب .. ¬

_ (¬1) ما بين الأقواس الصغيرة عند أحمد وهو الحديث السابق وهو حسن. (¬2) حديثٌ حسنٌ وهو جزء من حديث أحمد وهو حسن وقد مر معنا (4/ 323).

متى كانت البيعة تحت الشجرة

ويستدعي ابنه عبد الله ليأمره بإحضار فرس له عند أحد الأنصار .. ويسأل عن سبب ذلك الزحام .. فاستجاب الفتى البار لأبيه وتوجه نحو ذلك الأنصاري لأخذ فرس أبيه التي يريد القتال عليها .. لكن ذلك الشاب الصغير أُخذ بمشهد الزحام الذي كان في طريقه .. كان هناك شجرة .. تحت ظلالها كان الزحام .. وتحت ظلالها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أما سبب الزحام فهو دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى: البيعة. متى كانت البيعة تحت الشجرة يقول شاب حضر تلك البيعة: (كانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة) (¬1) فجمعهم - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة .. حيث النبوة .. والرحمة والأرواح هدايا .. اقترب عبد الله بن عمر فتى مأخوذًا بمشهد الفداء .. فوجد الصحابة رضي الله عنهم يهدون أرواحهم .. فيهديهم الله رضاه إلى يوم القيامة. أحب أن ينافسهم وإن كان من أصغرهم .. وبدلًا من أن يحضر الفرس لأبيه رضي الله عنه أحضر مهجته لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .. زاحم الجميع .. ثم مد يده الصغيرة وعيناه معلقتان بحبيبه فبايعه (على الصبر) (¬2) ثم انفتل نحو مهمته الأولى توجه نحو أخيه الأنصاري فأخذ فرس أبيه وقادها نحوه فوجد أباه لا يعلم بعد عما يحدث .. إنه مشغول بالاستعداد للحرب .. يقول ذلك الفتى: إن (عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتى به ليقاتل ورسوله الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك، فبايعه ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3698). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2958).

عبد الله ثم ذهب إلى الفرس، فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئمُ (¬1) للقتال فأخبره) (¬2) بعد أن استغرب عمر ذلك الزحام تحت تلك الشجرة .. مع أن هناك أشجارًا أخرى كثيرة .. فـ (الناس كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر. فخرج فبايع) (¬3) رضي الله عنه وقد تكون بيعة عمر على الموت .. فالبيعة تحت الشجرة ذات ألفاظ عدة لكن كل تلك الألفاظ تعني الجهاد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى النصر أو الشهادة .. ها هو جابر بن عبد الله يتقدم ويبايع فيسأله رجل فيما بعد عن بيعته فيقول: (بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت) (¬4) وعبد الله بن عمر بايعه على (الصبر) (¬5). تسابق الصحابة وازدحموا يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أكثر من ألف وأربعمائة صحابي يبايعونه على التوالي .. شاهد عمر ذلك الزحام فأحب أن يعين نبيه - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيده .. يقول جابر رضي الله عنه: (كنا أربع عشرة مائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة) (¬6) وإذا كان عمر قد أشفق على نبيه من الوقوف والتعب، فإن صحابيًا آخر اسمه: معقل بن يسار أشفق عليه من أغصان الشجرة لا تؤذيه .. فقام برفعها عن رأسه، ¬

_ (¬1) يلبس لأمة الحرب. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4186). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4187). (¬4) حديث صحيح رواه مسلم- الإمارة. (¬5) البخاري (2958). (¬6) حديث صحيح رواه مسلم - الإمارة.

يقول رضي الله عنه: (لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس وأنا أرفع غصنًا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، ولم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر) (¬1) لكن: بعض الصحابة بايعوا على الموت. ها هو أحدهم اسمه: عبد الله بن زيد رضي الله عنه (وكان شهد معه الحديبية) (¬2) فبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموت ثم قال فيما بعد: (لا أبايع على ذلك أحدًا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬3). وهذا صحابي آخر: خصه - صلى الله عليه وسلم - ببيعة على الموت ودعاه لها فاستجاب فمد له (يدًا ضخمة كأنها خف بعير) (¬4) اسمه سلمة بن الأكوع .. فارس لا يقهر .. يقول رضي الله عنه: (بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم عدلت إلى ظل شجرة، فلما خف الناس قال: يا ابن الأكوع ألا تبايع؟ قلت: قد بايعت يا رسول الله. قال: وأيضًا، فبايعته الثانية) (¬5) (على الموت) (¬6). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم - الإمارة. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4167). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2959). (¬4) رواه ابن سعد (4/ 306) وسعيد بن منصور: حدثنا عكاف بن خالد حدثني عبد الرحمن ابن زيد العراقي قال: أتينا سلمة بن الأكوع .. فأخرج لنا يدًا .. وهذا السند خطأ والصواب عطاف بن خالد وهو حسن الحديث التقريب (2/ 24) حدثني عبد الرحمن بن رزين الغافقي وليس زيد العراقي .. وعبد الرحمن قال عنه الحافظ: صدوق والأصوب أنه مقبول عند المتابعة لأنه لم يوثقه إلا ابن حبان فالسند حسن إليه. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (2960). (¬6) حديث صحيح رواه البخاري (2960).

ما هي بيعة سلمة المميزة

هل اكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيعته الثانية .. يبدو أن الأمر غير ذلك .. فقد ميز النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبه سلمة بن الأكوع ببيعة لم تكن لأحد غيره .. وللنبي - صلى الله عليه وسلم - أسلوبه الرائع في تكريم أصحابه وتفجير طاقاقم .. وإبراز نقاط القوة في كل فرد منهم فـ: ما هي بيعة سلمة المميزة يقول سلمة رضي الله عنه: (قدمنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جبا الركية (¬1)، فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت (¬2)، فسقينا، واستقينا، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعانا للبيعة في أصل الشجرة، فبايعته أول الناس. ثم بايع وبايع، حتى إذا كان في وسط الناس، قال: بايع يا سلمة. قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس. قال: وأيضًا. ورآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عزلًا "يعني ليس معه سلاح"، فأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجفة أو درقة (¬3)، ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس قال: ألا تبايعني يا سلمة؟ قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس. قال: أيضًا. فبايعته الثالثة. ثم قال لي: يا سلمة: أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ ¬

_ (¬1) حافة البئر. (¬2) فارت وفاضت وامتلأت. (¬3) ترس من جلد.

لماذا تخلف عثمان عن البيعة

قلت: يا رسول الله: لقيني عمي عامرٌ أعزلًا، فأعطيته إياها. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنك كالذي قال الأول: اللَّهم ابغني حبيبًا هو أحب إليّ من نفسي) (¬1). باع الصحابة أرواحهم .. وتحت شجرة السمر تلك حل رضوان الله على الذين بايعوا .. فسميت بيعة الرضوان .. حيث بايع الجميع .. إلا رجلين .. رجل من أفضل الصحابة وأكرمهم هو: عثمان بن عفان رضي الله عنه فـ: لماذا تخلف عثمان عن البيعة ببساطة .. لأنه هو السبب الأول لتلك البيعة بعد أن وصل خبر اغتياله على أرض مكة .. لكن يبدو أن الخبر لم يتأكد لديه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قام بعمل هو تكريم لعثمان .. وبيان لمنزلته لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يقول الشاب المجاهد عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (كانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان) (¬2). هذه هي منزلة عثمان لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا هو مدى ثقته به وبإيمانه .. أما الرجل الثاني فهو من الأنصار واسمه: جد بن قيس بن الأنصاري وهو خال جابر بن عبد الله. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (1807). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (3698).

قريش تحاصر الحديبية

يقول جابر رضي الله عنه: (كنا أربع عشرة مائة فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره) (¬1) ولا أدري ما سبب اختبائه .. لكنه خسر خسارة عظيمة .. وتخلف عن رضوان يظله طوال حياته .. ربما كان الخوف والجبن سببًا لتخاذله ذلك .. وربما كان السبب أمرًا أخطر .. لكنه خسر لا شك .. لا سيما والخطر الداهم قد أطبق من كل اتجاه على المؤمنين .. فقد خرجت قريش ومن معها نحو الحديبية لإيقاف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حربه إن استدعى الأمر .. وجد بن قيس قد خسر في الحالتين .. فالصحابة لن يفروا مهما كان الثمن .. وقد تأهبوا للأعداء. قريش تحاصر الحديبية بعد انتهاء المؤمنين من البيعة امتلأت جوانب الحديبية بجيش الشرك .. فاستعد المؤمنون لهم .. واستعدوا للشهادة .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان بينهم يتجول .. يتفقد وينظم .. ويصلح من أحوالهم .. ها هو يحذرهم. فيقول: "لا توقدوا نارًا بليل" (¬2). ويواصل - صلى الله عليه وسلم - تفقده لأصحابه .. فيمر على رجل يوقد النار نهارًا تحت قدر لأصحابه .. لكن منظر شعره ولحيته لا يسر .. اسمه كعب بن عجرة و (النبي - صلى الله عليه وسلم - مر وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه فقال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم - الإمارة. (¬2) سنده قوي رواه الأئمة أحمد (2613) والنسائيُّ في الكبرى (3/ 26) والحاكم (3/ 38) وابن أبي شيبة -إطفاء النار- كلهم من طريق محمد بن أبي يحيى الأسلمى عن أبيه عن أبي سعيد. ومحمَّد وأبوه صدوقان - التقريب (2/ 218) (1/ 333).

أيؤذيك هوامك هذه؟ قال: نعم) (¬1) انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده لا يدري ما يقول له .. فنزل جبريل عليه السلام بقرآن يتلى .. واشتد الوجع بكعب بن عجرة.، فنزلت رحمة الله على كعب ومن يأتي بعد كعب .. يقول كعب رضي الله عنه: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة (¬2)، فجعلت الهوام تساقط على وجهي. فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم. وأنزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}) (¬3) وهذه الآية (نزلت فيَّ خاصة وهي عامة لكم. حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي "فوقع القمل في رأسي ولحيتي وحاجبي وشاربي". فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى، تجد شاةً؟ فقلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع) (¬4). (فدعا - صلى الله عليه وسلم - الحلاق فحلق رأسه) (¬5) فارتاح من القمل والوجع .. وشعر ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم - الحج. (¬2) الشعر إذا وصل شحمة الأذن، والجمة إذا تناثر على الكتفين. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (4191) والنسك هو الدم وقد فسره - صلى الله عليه وسلم - بالشاة كما سيأتي. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (1816). (¬5) حديث صحيح رواه مسلم - الحج.

برحمة الله وفضله حيث جعل له بعد الضيق فرجًا وفرحًا .. كفرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعودة عثمان الذي عاد دون أن يمس بأذى .. عاد عثمان لكن قريشًا لم تعد .. بل انحدرت معها ثقيف من الطائف .. يقودهم عروة بن مسعود الثقفى عم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .. وقد شارك عروة قريشًا بكل ما يملك .. جاء بأهله وولده وبعض أهل عكاظ .. ثم قال لقريش: (إني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا (¬1) علي، جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني) (¬2). لم تأت عكاظ فقط لنصرة قريش .. ها هم حلفاء آخرون لقريش يسمون (الأَحابيش) يسيرون مع قريش لحصار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تحت قيادة رجل اسمه: (الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الأحابيش) (¬3) وهو رجل عاقل وحكيم يحترم الهدي ومن يسوقه إلى بيت الله العتيق .. وكان وجود أمثال الحليس سببًا في عدم هجوم قريش وبدئها لحرب جديدة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. كانت قريش أكثر تعقلًا هذه المرة لوجود أمثال الحليس .. فقد (قام عروة بن مسعود فقال: أي قوم .. ألست بالولد؟ وألستِ بالوالدِ؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا (¬4) علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أعطاني؟ قالوا: بلى. ¬

_ (¬1) رفضوا وأبوا. (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) هو جزء من حديث ابن إسحاق الطويل الصحيح. (¬4) أبوا ورفضوا.

قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد، اقبلوها، ودعوني آته "يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم (¬1) بنفسي، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم" قالوا: ائته، فأتاه "فخرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بين يديه" فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - "فقال: يا محمد، جمعت أوباش (¬2) الناس ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها (¬3)، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا، جلود النمور، يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدًا". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من قوله لبديل بن ورقاء (¬4). فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت (¬5) أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى (¬6)، فإني والله لا أرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك. "وأبو بكر رضي الله عنه خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: امصص بظر اللات (¬7)، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ ¬

_ (¬1) واسيتكم وساويتكم. (¬2) أخلاط الناس وأقلهم منزلة. (¬3) حماك أو حما قومك لتفرقه وتمزقه. (¬4) أي كلامًا كالذي قاله لبديل. (¬5) أي قطعت وانهيت. (¬6) أى إن هزمت. (¬7) إهانة لمعبوده المدعو: اللات.

عروة منبهر باحترام الصحابة للنبي (صلى الله عليه وسلم)

قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك "لكافأتك بها، ولكن هذه بها ثم تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديد" وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة واقف على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنعل السيف (¬1)، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قبل والله لا تصل إليك قال: ويحك ما أفظك وأغلظك، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا "يا محمد؟ قال: هذا ابن أخيك". المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ "هل غسلت سوأتك إلا بالأمس"، وكان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما الإسلام فأقبل. وأما المال فلست منه في شيء". ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينيه، "فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما كلم به أصحابه، فأخبره أنه لم يأت يريد حربًا، فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع به أصحابه") (¬2). عروة منبهر باحترام الصحابة للنبي (صلى الله عليه وسلم) يكاد لا يصدق ما يرى .. لكنها الحقيقة شاخصة أمام عينيه .. أخذته ¬

_ (¬1) حديدة بأسفل جفن السيف. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2731) وأحمدُ (4/ 324) والزوائد له.

الدهشة إلى قريش فحدثهم عن إجلال لم يحض به أعظم ملكين على وجه الأرض .. كسرى وقيصر .. ها هو عروة يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، (فقام من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءًا إلا ابتدروه "كادوا يقتتلون على وضوئه" ولا يبسق بساقًا إلا ابتدروه "إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده" ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه "وإذا أمرهم ابتدروا أمره" "وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدون إليه النظر تعظيمًا له" فرجع إلى قريش، فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت ملكًا قط مثل محمد في أصحابه. "والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدون إليه النظر تعظيمًا له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها". ولقده رأيت قومًا لا يسلمونه لشيء أبدًا فروا رأيكم) (¬1). (فقال رجل من بني كنانة "الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذٍ سيد الأحابش": دعوني آته. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن (¬2)، فابعثوها له "ابعثوا الهدي في وجهه". فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك "الهدي يسيل ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه أحمد (4/ 324) والبخاريُّ (2731) والزوائد لفظ البخاري. (¬2) ما يذبح لله في العمرة أو الحج من الإبل أو البقر.

قريش تبعث مكرز بن حفص

عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظامًا لما رأى" قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت "يا معشر قريش، قد رأيت ما لا يحل صده: الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله. فقالوا: اجلس، إنما أنت أعرابي لا علم لك") (¬1). فقدت قريش عقلها واحترامها لمبادئها .. واحترامها لبيت الله ومن يقصده للحج والعمرة بتلك الكلمات التي قذفتها كالحجارة في وجه الحليس الكناني سيد الأحابش وحليفها الدائم .. لذلك لم تمانع أن تبعث رسولًا ثالثًا هابط المستوى مثلها .. قريش تبعث رجلًا فاجرًا: قريش تبعث مكرز بن حفص بعد تلك الكلمات غير المهذبة التي أطلقتها قريش على حليفها (قام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا مكرز وهو رجل فاجر "غادر فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو مما كلم به أصحابه" فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) لكن يبدو أن قريشًا ندمت على إرسال مكرز هذا .. لهذا قررت قطع رسالته ومقاطعته برجلٍ أحكم وأعقل .. ويبدو أن نداء العقل والرحم قد تنبه أخيرًا داخل أوساط قريش .. ¬

_ (¬1) جزء من الحديث السابق. (¬2) جزء من الحديث السابق.

قريش تقاطع محادثة مكرز

قريش تقاطع محادثة مكرز لقد بعثوا رجلًا متزنًا يعرف مكانته ومكانة خصمه ويحترم شرف الخصومة (بعثوا سهيل بن عمرو -أحد بني عامر بن لؤي- فقالوا: ائت محمدًا، فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدًا، فأتاه سهيل بن عمرو) (¬1) .. وصل سهيل بن عمرو في الوقت الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحدث فيه إلى مكرز بن حفص (فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو) (¬2) و (لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد سهل لكم من أمركم) (¬3) .. وقبل أن يصل سهيل حدثت حركة داخل معسكر قريش .. حركة تثير الشفقة والغضب جميعًا: أرقاء يهربون من قريش قبل أن يصل سهيل وصلت مجموعة من الفارين من معسكر الشرك والرق .. مجموعة صغيرة من الأرقاء يمموا نحو الحرية .. نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - .. رآهم علي بن أبي طالب: فقال: (خرج عِبدان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يعني يوم الحديبية- قبل الصلح، فكتب إليه مواليهم، فقالوا: يا محمد، والله ما خرجوا إليك رغبة في في ينك، وإنما خرجوا هربًا من الرق. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري؟ (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2731). (¬3) رواه البخاري (2731).

فقال ناس: صدقوا يا رسول الله، ردهم إليهم. فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. وأبى أن يردهم، وقال: هم عتقاء الله عَزَّ وجَلَّ) (¬1) وهم أحرار بين أخوتهم المهاجرين والأنصار .. ينعمون برحمة الإيمان وأفياء المساواة والتآخي في الله .. أما سهيل بن عمرو فقد وصل إلى معسكر المؤمنين (فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تكلما وأطالا الكلام، وتراجعا، حتى جرى بينها الصلح، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب) (¬2) .. تحدث سهيل بن عمرو فقال: (هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب) (¬3) وكان (كاتب الكتاب يوم الحديبية علي بن أبي طالب رضي الله عنه) (¬4) (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب باسمك اللَّهم. كما كنت تكتب. ¬

_ (¬1) حديث صحيح دون قوله: هم ... رواه أبو داود (2700) وله طريق أخرى عند أحمد (1/ 155) حيث توبع ابن إسحاق وشيخه .. فالتقى الطريقان عند منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن علي رضي الله عنه: ومنصور ثقة لا يدلس وشيخه مخضرم ثقة عابد. (¬2) حديث أحمد الطويل الصحيح. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2731). (¬4) سنده حسن رواه أحمد (2/ 590) حدثنا عبد الرزاق حدثنا عكرمة بن عمار أخبرنا أبو زميل أنه سمع ابن عباس يقول ... وهذا السند حسن من أجل عكرمة بن عمار وهو حسن الحديث إذا لم يخالف وهو من رجال مسلم - التقريب (2/ 30) وشيخه لا بأس به (التقريب-1/ 332) والحديث عند أحمد في فضائل الصحابة.

هل حدثت معجزة ثانية على أرض الحديبية

فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتب: باسمك اللَّهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك. ولكن اكتب: [اسمك واسم أبيك] "هذا ما اصطلح عليه" محمد بن عبد الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله (¬1) (ثم قال لعلي: امح: رسول الله. قال علي: لا. والله لا أمحوك أبدًا، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب وليس يحسن يكتب) (¬2) (قال - صلى الله عليه وسلم -: فأرنيه. فأراه إياه، فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيديه) (¬3) وبعد أن محا النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة رسول الله .. رأى الجميع شيئًا لم يعرفوه من قبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فـ. هل حدثت معجزة ثانية على أرض الحديبية فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف القراءة ولا الكتابة .. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: (أرنيه) ولو كان يعرف ذلك لما سأله .. لكن الذي حدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - محا الكلمة التي أشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ثم (أخذ رسول ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2731) والزوائد لأحمد وما بين المعقوفين لمسلم- الجهاد (1783). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4251). (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (3184) وما بين الأقواس لمسلم (1783).

محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم)

الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب -وليس يحسن أن يكتب- فكتب "ابن عبد الله ") (¬1): أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب فقط: (ابن عبد الله) وما حدث منه - صلى الله عليه وسلم - قد يكون معجزة من الله .. وقد يكون رسمها .. فهي مجرد كلمة يجيد رسم مثلها أغلب الأمين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة .. ومع ذلك تجدهم يجيدون كتابة أسمائهم .. وهي ليست كتابة بالمعنى الصحيح .. بل هي مجرد رسم وتقليد .. ثم واصل علي رضي الله عنه كتابة شروط الصلح التي أثارت غضب عمر كما أثارت عليًا من قبل. لكن شيئًا حدث أثار الجميع إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه ليس ما أملاه سهيل من شروط .. إنه أخطر من ذلك وأفدح .. جريمة كادت تفسد كل شيء .. ودناءة كادت تحول أرض الحديبية إلى ساحة حمراء .. تلك الجريمة كانت: محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلي ابن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فأخذ سهيل بن عمرو بيده فقال: ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، قال: اكتب باسمك اللَّهم. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4251).

شروط صلح الحديبية

فكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة. فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله. اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال - صلى الله عليه وسلم -: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنا رسول الله، فكتب .. فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ الله عَزَّ وجَلَّ بأبصارهم، فقدمنا إليهم، فأخذناهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل جئتم في عهد أحد، أو: هل جعل لكم أحد أمانًا. فقالوا: لا. فخلى سبيلهم) (¬1) وعفا عنهم .. وتركهم لضمائرهم علها تستيقظ ثم انصرف لإكمال ما بدأه من اتفاق .. وكتابة: شروط صلح الحديبية قال سهيل بن عمرو: (اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو وعلي: * وضع الحرب عشر سنين. ¬

_ (¬1) سنده لا بأس به رواه أحمد (4/ 86) والحاكم (2/ 61) من طريق زيد بن الحباب وعلي ابن الحسن بن شقيق وهما ثقتان، قالا: أنبأنا وحدثني الحسن بن واقد، حدثني ثابت البناتي عن عبد الله بن مغفل .. والحسين بن واقد ثقة (التقريب-1/ 180) وشيخه تابعي ثقة عابد (التقريب-1/ 115) وقال الذهبي في تعليقه على سماع ثابت من عبد الله رضي الله عنه: لا يبعد سماع ثابت من ابن مغفل قد اتفقا -أي الشيخان- على إخراج معاوية بن قرة، وحميد بن هلال عن ابن مغفل، وثابت أسن منهما.

* يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. * على أنه من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رجل" من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم. * ومن أتى قريشًا ممّن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه عليهم. * وأن بيننا عيبة مكفوفة (¬1). *وأنه لا إسلال (¬2). * ولا إغلال (¬3). * وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب أنه: * من أحب (¬4) أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه. * ومن أحب (¬5) أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. * وأنك ترجع عنا عامنا هذا، فلا تدخل علينا مكة. * وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك. * فتدخلها بأصحابك وأقمت فيهم ثلاثًا معك السلاح الراكب. ¬

_ (¬1) أي لا غش فيها. (¬2) أي لا سرقة. (¬3) ولا خيانة. (¬4) أي من أحب من القبائل الأخرى أن يحالف محمدًا. (¬5) أي من أحب من القبائل الأخرى أن يحالف قريشًا.

مأساة أبي جندل

* لا تدخلها بغير السيوف في القرب) (¬1). * (وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه. * وأن لا يمنع من أصحابه أحدًا إن أراد أن يقيم بها) (¬2). تعجب بعض الصحابة من تلك الشروط الجائرة (فقالوا: يا رسول الله: أنكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم، سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا) (¬3). لم تنته المعاهدة حتى الآن .. وعلي رضي الله عنه يواصل كتابة الشروط .. والغضب يتطاير من عيني عمر بن الخطاب .. والصحابة رضي الله عنهم في حالة ذهول .. في تلك الأثناء حدثت حركة أججت لهيب الغضب في معسكر المسلمين .. مشهد فاجعة .. وظلم لا طاقة للرجال به .. لقد وصل الآن إلى مكان المباحثات رجل يرسف في قيوده .. يزحف .. ويمشي ويسقط ويجأر باحثًا عن ملجأ ومفر له مما هو به .. إنه ابن ذلك الرجل الذي يفاوض النبي - صلى الله عليه وسلم -: سهيل بن عمرو وابنه ذلك اسمه: أبو جندل .. مأساة أبي جندل قيده أبوه عندما علم بإسلامه .. وغل يديه وقدميه .. ومنعه من مغادرة مكة .. لكنه لم يستطع منعه من مغادرة الشرك .. ولما خرجت قريش لصد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دخول مكة وجد فرصة فهرب .. وها هو الآن ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه أحمد (4/ 325) والزوائد للبخاري (2732). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4251). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (1783).

بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووالده سهيل يشاهده .. ومداد المعاهدة لم يجف بعد .. والشروط لم تنته حتى الآن .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وافق على ما مضى .. وصل أبو جندل بعد أن قال والده سهيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى نفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذًا لم أصالحك على شيء أبدًا. "فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه، ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا قال: صدقت. فقام إليه فأخذ بتلبيبه (¬1)، وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك، فيفتنونني في ديني. فزاد الناس شرًا إلى ما بهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه، وإنا لن نغدر بهم". قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) -: فأجزه لي (¬3). ¬

_ (¬1) أي بثوبه من جهة الصدر. (¬2) قال لسهيل بن عمرو. (¬3) أي اتركه لي.

قال: ما أنا. بمجيز ذلك لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزنا لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابًا شديدًا في الله) (¬1). كان هذا المنظر المؤلم يطعن في أعماق عمر ويفقده صوابه وصبره .. (فوثب إليه عمر بن الخطاب مع أبي جندل، فجعل يمشي إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب -ويدني قائم السيف منه- ويقول: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن (¬2) الرجل بأبيه ونفذت القضية) (¬3) كان عمر يريد من أبي جندل أن يجهز على أبيه بالسيف وينطلق من إساره بنفسه دون مساعدة المسلمين. وبذلك يكون قد حرر نفسه ولا لوم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على أصحابه ولا على عهدهم وذمتهم .. لكن أبا جندل لم يفعل .. فطار صواب عمر وتوجه نحو نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن رأى وسمع ما لم يستطع عليه صبرًا. يقول عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى. ¬

_ (¬1) حديث البخاري الطويل السابق والزوائد لأحمد. (¬2) أي بخل بأبيه على الموت. (¬3) حديث البخاري السابق.

قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ "وألسنا بالمسلمين أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قلت: فِلمَ نعطى الدنية في ديننا إذن؟ "فعلام نعطى الذلة في ديننا؟ ". قال - صلى الله عليه وسلم -: إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري، "أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني". قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى .. فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ "أولسنا بالمسلمين، أوليسوا بالمشركين"؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطى الدنية في ديننا إذن؟ فعلام نعطي الذلة في ديننا؟ " قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟

لكن الصحابة لم يمتثلوا لأوامره (صلى الله عليه وسلم)

قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به) (¬1). ندم عمر على ما كان منه من احتجاج على ذلك الظلم الوثني .. ندم عمر وتوجه بالتوبة إلى الله وحاول تكفير ما كان منه بأعمال كثيرة يقول عنها: (مازلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت، مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذٍ، حتى رجوت أن يكون خيرًا) (¬2) .. بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كل شيء قد انتهى ولم يتبق سوى التحلل من الإحرام والعودة إلى المدينة. لكن الصحابة لم يمتثلوا لأوامره (صلى الله عليه وسلم) الأمر عند الصحابة غير قابل للتصديق .. أين تلك الأحلام بالطواف بالبيت الحرام .. والصلاة فيه .. أين أحلام المهاجرين بمعانقة أجواء مكة الحبيبة .. ؟ هل انهار كل ذلك على صخور الحديبية .. حاول - صلى الله عليه وسلم - أن يزيل تلك الدهشة وذلك الذهول .. لكنه لم يستطع .. وما حدث أنه (لما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. فوالله ما قام رجل) (¬3) فقال مرة ثانية: فانحروا ثم احلقوا .. فلم يقم منهم أحمد مما بهم من الهم والغم .. ثم قال الثالثة: قوموا فانحروا ثم احلقوا .. لكنه لم يلق إجابة فعليةً ولا حتى قولية .. (حتى قال ذلك ثلاث ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري وهو الحديث الطويل السابق والزوائد لأحمد. (¬2) حديث صحيح وهو حديث أحمد الطويل السابق. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2732) وأحمدُ (4/ 326).

أم سلمة تشير على النبي (صلى الله عليه وسلم)

مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة) (¬1) عله يجد لدى هذه المرأة العظيمة حلًا .. أم سلمة تشير على النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى خبائها الكريم .. قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فـ (دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. "فقال: يا أم سلمة ما شأن الناس" فقالت أم سلمة: "يا رسول الله .. قد دخلهم ما رأيت"، يا نبي الله .. أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم منهم كلمة حتى تنحر بُدنك (¬2)، وتدعو حالقك فيحلقك. "فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك". فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدنه (¬3)، ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا فجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غما) (¬4). مما رأوه من ظلم وغبن من المشركين .. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بدأ بالنحر قبل الحلق. حيث (حلق بالحديبية في عمرته، وأمر أصحابه بذلك، ونحر بالحديبية قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) (¬5). وحتى يغيظ أولئك المشركين المتغطرسين .. ساق - صلى الله عليه وسلم - معه جملًا كان لأبي جهل في غزوة بدر .. غنمه المسلمون .. ثم نحره أمام أعين المشركين. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2732) وأحمدُ (4/ 326). (¬2) البدن؛ هى: الإبل والبقر التي ينحرها الحاج أو المعتمر لله. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2732) وأحمدُ (4/ 326). (¬4) حديث صحيح رواه البخاري (2732) والزوائد لأحمد (4/ 326). (¬5) حديث أحمد الصحيح السابق (4/ 327).

النبي (صلى الله عليه وسلم) ينحر جمل أبي جهل

النبي (صلى الله عليه وسلم) ينحر جمل أبي جهل يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمل أبي جهل في هديه يوم الحديبية، وفي رأسه برة من فضة، كان أبو جهل أسلمه يوم بدر) (¬1) (ليغيظ المشركين بذلك) (¬2). وإذا كان هذا الأمر قد أفزع المشركين .. فإنه أيقظ المؤمنين من همومهم .. فنهضوا لينحروا هديهم ويحلقوا رؤوسهم .. وقد اشترك الصحابة بالهدي .. فالسبعة منهم يشتركون في الجمل أو البقرة .. أما الشاة فلا تكفي إلا عن واحد .. يقول جابر رضي الله عنه: (نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة) (¬3) (نحرنا يومئذ سبعين بدنة، اشتركنا: كل سبعة في بدنة) (¬4). نحر الصحابة سبعين بدنة .. ولا أدري هل نحروا من الغنم شيئًا .. ثم قاموا (وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا غمًا) (¬5) .. لكن بعض الصحابة -وهم قلة- لم يحلقوا بل اكتفوا بتقصير شعورهم- فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال: يرحم الله المحلقين. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يرحم الله المحلقين. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس وقد صرح ابن إسحاق بالسماع عند ابن خزيمة (4/ 287) وأحمدُ (1/ 261) وله طريق آخر عن ابن عباس عند أحمد (1/ 269) وطريق أخر عند الطبراني (7/ 23) عن سلمة. (¬2) حديث صحيح وهو جزء من حديث ابن إسحاق السابق. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (1318) الحج. (¬4) حديث صحيح رواه مسلم (1318) الحج. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري (2732).

أسد يقال له: أبو بصير

قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين. قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين. قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: والمقصرين. قالوا: فما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم؟ قال: لم يشكوا) (¬1). وبعد الحلق هدأ عمر ومن معه من الصحابة .. لكن الذهول مازال يطوف برؤوسهم .. ومازالت صورة أبي جندل تلوح في دروبهم .. لم يكن أبو جندل وحده مأسورًا .. كان هناك الكثير غيره .. حتى حلفاء قريش كانوا قد أوثقوا من آمن منهم .. وكان من هؤلاء المأسورين: أسد يقال له: أبو بصير قيده قومه ومنعوه من الالتحاق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. واسمه: عتبة ابن أسيد بن جارية الثقفي .. ولم يكن الرجال وحدهم يعانون هذه المأساة .. ويتجرعون سموم الشرط الجائر .. النساء المستضعفات عانين الكثير .. تلك المؤمنة الطاهرة ابنة الطاغية الهالك: عقبة بن أبي معيط ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس. وعبد الله ثقة من رجال الشيخين (التقريب-1/ 456) وابن إسحاق لم يدلس.

واسمها: أم كلثوم .. تخطط للهرب من مستنقع الشرك وأسلاكه الشائكة .. فتنجح .. وعندما تصل هي وغيرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطالب أهلها بإرجاعها حسب نصوص المعاهدة لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفض إرجاع النساء المهاجرات. ليس لأنه نقض عهده مع قريش .. إنه أكبر من ذلك .. لقد رد حذيفة ووالده يوم بدر .. ورد أبا جندل قبل قليل .. فلماذا لا يرد أم كلثوم ورفيقاتها من المؤمنات الهاربات من غابة الأصنام .. ؟ والإجابة هي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد للمؤمنات ثغرة خلال النصوص .. ثغرة تتيح للمؤمنات التسلل من خلالها والهرب. فقد كان سهيل كغيره من المشركين لا يأبهون لشأن المرأة إلا حين تنتصب في أذهانهم رموز الغريزة .. ولذلك قال سهيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا) (¬1) وهذا النص - الشرط ينصب على الرجال فقط .. فالنساء لا يدخلن تحت طائلته .. فكان الفرج لأم كلثوم (لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا يأتيك منا أَحد "رجل" وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فرد يومئذٍ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلمًا، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممّن خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعها إليهم .. فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2732).

{إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ (¬1) فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ}) (¬2) تقول عائشة رضي الله عنها: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)} فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد بايعتك -كلامًا يكلمها به- والله ما مست يده امرأة قط في المبايعة وما بايعهن إلا بقوله) (¬3). سمع عمر بن الخطاب تلك الآيات .. والقرآن يسري في عروق عمر لا يجد ما يعيق انسيابه .. والقرآن يتوهج داخل زواياه وأعماقه .. فاستجاب على الفور حيث تقول عائشة رضي الله عنها: (لما أنزل الله تعالى: أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2711 - 2712). (¬2) سورة الممتحنة: الآية 10، وأكملت الآية للفائدة. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري (2713) سورة الممتحنة.

من أزواجهم، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، أن عمر طلق امرأتين: "قريبة بنت أبي أمية" و"ابنة جرول الخزاعي ". فتزوج "قريبة": معاوية بن أبي سفيان، وتزوج الأخرى أبو جهم، فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم، أنزل الله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ} والعَقَبُ: ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يعطي من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن، وما نعلم أحدًا من المهاجرات، ارتدت بعد إيمانها) (¬1) بالله ورسوله. أما من هاجرن فلن يردهن - صلى الله عليه وسلم - للمشركين .. لأنه لا شرط بينهم في ذلك .. اقتنعت قريش ورضيت على مضض بذلك .. فبين يديها يتلبط أبو جندل في قيوده .. لم يلن أبوه سهيل لمرآه .. ولم يتذكر تلك القيود التي كان مكبلًا بها في حجرة سودة رضي الله عنها بعد أسره في غزوة بدر .. لقد أعماه الشرك عن الشعور بالقيود .. بل أعماه عن الشعور بالأبوة تجاه ابنه أبي جندل .. سلم المسلمون والمشركون بالمعاهدة .. فتحولت أرض الحديبية إلى ساحة للسلام .. اختلط فيها الجميع: المؤمنون والكافرون .. ولا بد أن ذوي الأرحام والصداقات الماضية رأى بعضهم بعضًا .. ووصل بعضهم بعضًا .. لكن هناك من المشركين من لا ينفع معه عهد ولا ميثاق .. ولا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا .. هناك من تجثم بين أضلعه أحقاد ومخالب .. فحاول إفساد كل شيء. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2733).

بعض المشركين ينقضون المعاهدة

بعض المشركين ينقضون المعاهدة يقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (ثم إن المشركين راسلونا الصلح، حتى مشى بعضنا في بعض، واصطلحنا. وكنت تبيعًا لطلحة بن عبيد الله، أسقي فرسه، وأحسه (¬1)، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرًا إلى الله ورسوله، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها (¬2)، فاضطجعت في أصلها، فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم، واضطجعوا، فبينما هم كذلك، إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين .. قتل ابن زنيم. فاخترطت سيفي (¬3)، ثم شددت (¬4) على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثًا (¬5) في يدي. ثم قلت: والذي كرم وجه محمد .. لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجاء عمي عامر برجل من العبلات (¬6) يقال له: مكرز، يقوده إلى ¬

_ (¬1) أحك ظهره بالمحسة. (¬2) كنست ما تحتها من الشوك. (¬3) سللته. (¬4) هجمت. (¬5) حزمة. (¬6) من قريش نسبة لأمهم التميمية (عبلة).

النبي (صلى الله عليه وسلم) يعود بأصحابه إلى المدينة

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس مجفف (¬1) في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: دعوهم، يكن لهم بدء الفجور وثناه. فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) كما عفا عن أولئك الغادرين أثناء كتابة العقد .. وكان عدد هؤلاء الغادرين أكثر من سبعين .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (إن ثمانين رجلًا من أهل مكة هبطوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأخذهم سلمًا، فأنزل الله عَزَّ وجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (¬3) {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬4). كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - رأيٌ لا يخيب في صاحبه سلمة بن الأكوع .. كان يدرك ما لدى هذا الرجل من بأس وشجاعة ولذلك بايعه ثلاث مرات .. ولذلك بايعه على الموت .. ومازال لدى سلمة الكثير .. الكثير لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .. ومازال لدى سلمة الكثير ليقوله لنا عن الحديبية وما بعدها .. ها هو سلمة يستعد للرحيل فـ: النبي (صلى الله عليه وسلم) يعود بأصحابه إلى المدينة نهض جيش المؤمنين مع نبيه - صلى الله عليه وسلم - متوجهين نحو المدينة .. عادوا والهموم طريق .. ومرابع مكة وكعبتها تلوح في خيالهم .. عادوا منكسرين يلفهم ¬

_ (¬1) مجلل بشيء يقيه الجراح في الحرب. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم (1807). (¬3) حديث صحيح رواه مسلم (1808). (¬4) سورة الفتح: الآية 24.

قصة النوم حتى طلوع الشمس

الوجوم والحزن .. حتى أقبل الليل عليهم .. صلى الجميع المغرب والعشاء وحان موعد النوم .. فحدثت القصة: قصة النوم حتى طلوع الشمس هل كان من أسباب ذلك النوم العميق ذلك الحزن الثقيل على بيت الله الحرام .. ؟ الله أعلم .. لكن ابن مسعود يقول رضي الله عنه: (أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية، فذكروا أنهم نزلوا دهسًا من الأرض -يعني الدهاس: الرمل- فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال: أنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذًا ننام، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ ناس، منهم: فلان، وفلان، وفيهم عمر". فقلنا: اهضبوا -يعني- تكلموا. فاستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون. ففعلنا. وقال: كذلك فافعلوا لمن نام أو نسي (¬1). وضلت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلبها فوجدت حبلها قد تعلق بشجرة، فجئت بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فركب مسرورًا) (¬2) وسار وسار معه أصحابه .. ¬

_ (¬1) يعني صلوا بعد قيامكم من النوم. (¬2) صحح إسناده الإمام الألباني في الإرواء (293) وقد رواه الإمام أحمد (1/ 464) واللفظ له ورواه الإمام أبو داود (447) والبزار (زوائد-1/ 202) ... كلهم من طريق الثقة: جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة .. قال: سمعت عبد الله بن مسعود .. ولي ملاحظة بسيطة على هذا التصحيح للسند .. نظرًا لأن الشيخ حفظه الله اكتفى بقوله في الإرواء (293) إسنادُهُ صحيحٌ دون أن يتحدث عن سنده ومتنه لا سيما وهو قد أورد =

النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يرد على عمر

يتوقفون للصلاة حينًا .. وللراحة حينًا .. ولما جن عليهم الليل كان - صلى الله عليه وسلم - يسير وعمر بن الخطاب إلى جانبه يحدثه و: النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يرد على عمر كان - صلى الله عليه وسلم - يسير (وعمر بن الخطاب يسير معه ليلًا، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء، فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، وقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر .. نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام المسلمين وخشيت أن ينزل فيَّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخًا يصرخ بي. فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن، وجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت، فقال: لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)}) (¬1). ربما كان - صلى الله عليه وسلم - في لحظات أسئلة عمر مشغولًا .. أو مهمومًا .. أو يوحي ¬

_ = شاهدًا لحديث عند البخاري .. وجعله موازيًا لحديث عند مسلم يحمل قصة مماثلة .. لكن عند التدقيق في السند والمتن يتبين عذرى في إبداء ملاحظة على تصحيح الشيخ حفظه الله .. فحديث مسلم يتحدث عن خيبر .. وهذا الحديث يتحدث عن الحديبية .. أما من ناحية السند .. ففى هذا السند إشكال حول الراوي عن ابن مسعود رضي الله عنه .. فالرجل مشكوك في صحبته وهو غير الصحابي الذي روى قصة وقد ثقيف .. بل صرح الإمام الدراقطني بأنه مجهول. فقال: لا تصح له صحبة ولا نعرفه .. وقال أبو حاتم: هو تابعي ليست له صحبة .. فإذا تجاوزنا وقلنا إنه تابعي كبير روى عنه ثقتان .. فهذا لا يسمح لنا بقبول مخالفته للحديث الصحيح عند مسلم وأن ذلك وقع بعد خيبر كما سيأتي .. وهو ما مال إليه ابن عبد البر وابن القيم في الزاد. (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4177).

نزول سور الفتح

إليه .. لكنه كان حساسًا تجاه صحابته .. لم يترك عمر لأفكاره تذهب به بعيدًا .. لقد دعاه وبشره بـ: نزول سور الفتح وطمأنه .. وقرأ عليه ما نزل .. فسأله عمر سؤالًا أعادت إجابته الطمأنينة إلى نفسه .. لقد (نزل القرآن على رسول الله بالفتح، فأرسل إلى عمر، فأقرأه إياه "فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عمر إلى آخرها". فقال "عمر": يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم. فطابت نفسه ورجع) (¬1) من حيث أتى .. ورجعت سكينته .. وهدأت ثائرته واستبشر خيرًا وفتحًا مؤكدًا .. أما الصحابي الجليل المدعو: (مجمع بن جارية الأنصاري -وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما انصرفنا عنها "إذ الناس يهزون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فخرجنا مع الناس نوجف، فوجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على راحلته عند كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس "قرأ عليهم إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (3182) ومسلمٌ الجهاد (1785) واللفظ له والزوائد للبخاري.

تحولت الركوة إلى نهر عذب

فقال رجل: يا رسول الله .. أفتح هو؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم "والذي نفسي بيده إنه لفتح") (¬1). ارتفعت المعنويات .. ونشط الجميع فالنصر في الطريق .. وليس النصر وحده في الطريق .. هناك أشياء وأشياء .. هناك الهبات والمعجزات والدهشة التي لا تنقضى .. سار الجميع نحو المدينة الحبيبة وكلهم شوق وعطش .. وفي الطريق نفد الماء .. ولم يبق أحد معه ماء سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي احتفظ به بإناءٍ جلدي صغير يسمونه "الركوة" .. حمل الصحابة عطشهم وشكواهم إلي الله ثم رسوله .. فـ: تحولت الركوة إلى نهر عذب شرب منها الجميع وتوضأوا وتنظفوا .. يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله .. ليس عندنا ما نتوضأ به، ولا نشرب، إلا ما في ركوتك، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، "فأدخل يده فيه وفرج أصابعه، ثم قال: [خذوا بسم الله] حي ¬

_ (¬1) حكم الإمام الألباني حفظه الله بضعف هذا الحديث في ضعيف أبى داود (268) وهو عند التدقيق أقوى من حديث أحمد السابق الذي صححه حفظه الله .. أو قل مثله وذلك لعدة أسباب .. منها: أن علة سند هذا الحديث هو التابعى يعقوب بن مجمعٍ .. وقد قال الذهبي في المستدرك بعد تصحيح الحاكم (2/ 131): لم يرو مسلم لمجمع شيئًا ولا لأبيه -يعني يعقوب- وهما ثقتان. وإذا تجاوزنا هذا لأن الذهبي متأخر فالرجل تابعى روى عنه أربعة اثنان منهم ثقات وهما: ابنه مجمع وسفيان الثورى وضعيفان ووثقه ابن حبان .. لكن كل ذلك لا يكفي إلا أن للحديث شاهدًا قويًا وهو ما قبله وهو به حسن عدا ما بين الأقواس الصغيرة.

معجزة في الطعام أيضا

على أهل الوضوء البركة من الله، فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه [كأنها عيون، فوسعنا وكفانا]، فتوضأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلو ما جلعت في بطني منه، فعلمت أنه بركة) (¬1) ومعجزة لهذا النبي العظيم .. أهداها الله له ولأصحابه .. لخير أهل الأرض .. لأهل الحديبية .. وأهل بيعة الرضوان رضي الله عنهم .. واصل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام مسيرهم ثم توقفوا للراحة .. وهذه المرة جاءوا يشكون جوعًا قارسًا .. فهل ستحدث معجزة في الطعام أيضًا بل وفي الشراب مرة ثالثة .. وذلك (لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية كلمه بعض أصحابه، فقالوا: جهدنا وفي الناس ظهر (¬2) فانحره لنا فنأكل من لحومه ولندهن من شحومه، ولنحتذي (¬3) من جلوده .. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تفعل يا رسول الله، فإن الناس إن يكن معهم بقية ظهر أمثل (¬4)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابسطوا أنطاعكم (¬5) وعباءكم. ففعلوا. ثم قال: من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره. ودعا لهم ثم قال: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (4152) والزوائد له (5639). (¬2) ما يركب من الإبل والخيل والبغال والحمير. (¬3) أي يتخذ جلده حذاءً. (¬4) أحسن وأفضل. (¬5) النطع هو البساط من الجلد أو السفرة الجلدية.

قربوا أوعيتكم، [فأكلوا حتى تضلعوا (¬1) شبعًا ثم لففوا فضول ما فضل (¬2) من أزوادهم في جربهم] فأخذوا ما شاءوا) (¬3) وكان من بين الذين أخذوا .. سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الذي يقول: (أصابنا جهد، حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فجمعنا مزاودنا، فبسطنا له نطعًا، فاجتمع زاد القوم على النطع، فتطاولت لأحزر كم هو؟ فحزرته كربضة العنز (¬4)، ونحن أربع عشرة مائة، فأكلنا حتى شبعنا جميعًا، ثم حشونا جربنا، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: فهل من وضوء؟ فجاء رجل بإداوة له، فيها نطفة، فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا: ندغفقه (¬5) دغفقة أربع عشرة مائة. ثم جاء بعد ذلك ثمانية، فقالوا: هل من طهور، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فرغ الوضوء) (¬6). كانت تلك المعجزات تسلية لتلك النفوس .. وتثبيتًا لتلك القلوب التي ¬

_ (¬1) امتلأوا شبعًا. (¬2) ما زاد. (¬3) حديثٌ حسنٌ رواه البيهقي (4/ 119) من طريقين الأولى من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري قال: قال ابن عباس. والأخرى: من طريق يحيى بن سليم الطائفي عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس .. والطريق الأولى رجالها ثقات لكن هناك احتمال انقطاع بين ابن عباس وابن شهاب لكن تشهد لها الطريق الأخرى وفيها ضعف يسير من أجل يحيى بن سليم وهو صدوق من رجال الشيخين إلا أنه سيء الحفظ - التقريب (2/ 349) ويشهد للحديث ما رواه مسلم وهو الحديث التالي. (¬4) أي مبرك العنز. (¬5) نصبه صبًا شديدًا. (¬6) حديث صحيح رواه مسلم - اللقطة (1729).

على جبل بين الحديبية والمدينة

أصابها ما أصابها بعد صد قريش ورفضها وشروطها الظالمة .. انتهت تلك المعجزات بالصحابة إلى شواطئ الأمن واليقين وانتهو جميعًا إلى مكان بين مكة والمدينة .. قريب من بني لحيان .. وفي ذلك الموقع الحرج .. أثار - صلى الله عليه وسلم - حب الفداء والشهادة في أصحابه من جديد .. وكان لسلمة بن الأكوع تميز آخر في هذا الموقع .. وبالتحديد: على جبل بين الحديبية والمدينة يقول سلمة رضي الله عنه: (ثم خرجنا راجعين إلى المدينة، فنزلنا منزلًا، بيننا وبين بني لحيان جبل وهم مشركون، فاستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن رقى هذا الجبل الليلة -كأنه طليعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- قال سلمة: فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثًا، ثم قدمنا المدينة) (¬1) ولم يحدث قتال بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين بني لحيان .. لكن المدينة تعرضت لهجوم مباغت من عصابة من فزارة وغطفان بقيادة رجل يقال له: عبد الرحمن بن عيينة الفزاري .. وقد نهب في ذلك الهجوم كل إبل النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقها غنيمة معه .. فهاجت من أجل ذلك معركة - غزوة كان بطلها فارس الإسلام: سلمة بن الأكوع .. حدثت تلك الغزوة في مكان يقال له ذو قرد وبه سميت: غزوة ذي قرد يقول بطل هذه الغزوة: (كانت لقاح (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترعى بـ: ذي قرد، فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أُخذت لقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقلت: من أخذها؟ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (1807). (¬2) ذات الدر من الإبل.

قال: غطفان "وفزارة". فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه .. فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد، وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميًا، وأقول: أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع) (¬1) وذلك بعد أن (قدمنا المدينة، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره (¬2) مع رباح -غلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر (¬3)، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستاقه أجمع، وقتل راعيه. فقلت: يا رباح .. خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المشركين قد أغاروا على سرحه. ثم قمت على أكمة (¬4)، فاستقبلت المدينة، فناديت ثلاثًا: يا صباحاه .. ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل، وأرتجز، أقول: أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (1806) والزوائد للبخارى (3041). (¬2) الدابة التى تركب أو تحمل المتاع والأثقال. (¬3) أي يورده الماء ثم المرعى والعكس. (¬4) أى تل كما جاء في بعض الألفاظ.

فألحق رجلًا منهم، فأصك سهمًا في رحله، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه (¬1)، قلت: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع فوالله مازلت أرميهم وأعقر (¬2) بهم، فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها، ثم رميته، فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه علوت الجبل، فجعلت أرديهم (¬3) بالحجارة، فمازلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خلفته وراء ظهري، وخلوا بيني وبينه (¬4)، ثم اتبعتهم أرميهم، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحًا، يستخفون، ولا يطرحون شيئًا إلا جعلت عليه آرامًا (¬5) من الحجارة، يعرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، حتى أتوا متضايقًا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان "عيينة" ابن بدر الفزاري، فجلسوا يتضحون -يعني يتغدون- وجلست على رأس قرن. قال "عيينة" الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح (¬6)، والله ما فارقنا منذ غلس، يرمينا حتى انتزع كل شيء من أيدينا. قال: فليقم إليه نفر منكم، أربعة. فصعد إلي منهم أربعة في الجبل، فلما أمكنوني من الكلام، قلت: أتعرفونني؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قلت: أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرم ¬

_ (¬1) أي وصلت حديدة السهم إلى كتفه. (¬2) ربما يقصد أنه يجرحهم أو يصيبهم. (¬3) أرميهم. (¬4) تركوها لسلمة. (¬5) أعلام من الحجارة. (¬6) التعب والإجهاد الشديد.

وجه - صلى الله عليه وسلم -، لا أطلب رجلًا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني رجل منكم فيدركني، قال أحدهم: أنا أظن. فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخللون الشجر، فإذا أولهم: الأخرم الأسدي، على إثره أبو قتادة الأنصاري، وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي. فأخذت بعنان الأخرم. فولوا مدبرين. قلت: يا أخرم .. إحذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. قال: يا سلمة .. إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أن الجنة حق، والنار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة. فخليته، فالتقى هو وعبد الرحمن. فعقر بعبد الرحمن فرسه، وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الرحمن "فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة" فطعنه، فقتله "أبو قتادة وتحول أبو قتادة إلى فرس الأخرم ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم" فوالذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لتبعتهم أعدو على رجلي، حتى ما أرى ورائى من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا غبارهم شيئًا، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء، يقال له ذو قرد، ليشربوا منه وهم عطاش. فنظروا إليَّ أعدو وراءهم، فخليتهم عنه -يعني أجليتهم عنه- فما ذاقوا منه قطرة، "فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية (¬1)، ثنية ذي شر وغربت ¬

_ (¬1) الطريق في الجبل.

الشمس ويخرجون فيشتدون (¬1) في ثنية، فأعدو فألحق رجلًا منهم، فأصكه بسهم في نغض (¬2) كتفه. قلت: خذها وأنا ابن الأكوع .... واليوم يوم الرضع قال: يا ثكلته أمه .. أي أكوعة بكرة (¬3). قلت: نعم .. يا عدو نفسه .. أكوعك بكرة "وكان الذي رميته بكرة (¬4)، فاتبعته بسهم آخر، فعلى به سهمان" وأرادوا فرسين على ثنية، فجئت بها أسوقها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولحقني عامر بسطيحة (¬5) فيها مذقة من لبن، وسطيحة فيها ماء، فتوضأت وشربت، ثم أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على الماء الذي حلأتهم (¬6) عنه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "في خمسمائة" قد أخذ تلك الإبل، وكل شيء استنقذته من المشركين، وكل رمح وبردة، وإذا بلال نحو ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم، وإذا هو يشوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كبدها وسنامها. قلت: يا رسول الله .. خلني فأنتخب من القوم مائة رجل، فأتبع القوم، فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه في ضوء النهار، فقال: يا سلمة .. أتراك كنت فاعلًا؟ قلت: نعم والذي أكرمك. فقال: إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان. فجاء رجل من غطفان ¬

_ (¬1) يركضون. (¬2) أعلى غضروف الكتف. (¬3) أي هو الذي جاءنا في الصباح الباكر مازال يلاحقنا. (¬4) مبكرًا. (¬5) قربة جلد. (¬6) منعهم عنه.

سلمة يسابق رجلا من الأنصار يتحدى الجميع

فقال: "مروا على فلان الغطفاني فـ" نحر لهم فلان جزورًا "فلما أخذوا يكشطون جلدها" فلما كشفوا جلدها رأوا غبارًا، فقالوا: أتاكم القوم، فخرجوا هاربين. فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة. ثم أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل، فجمعها لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة) (¬1). كان سلمة أسطورة من الشجاعة والإقدام .. كان جسدًا مفتولًا لله .. يعرق في دروب الشهادة وينزف .. كان قلبًا ينبض بالفداء والجسارة .. فلا عجيب أن بايعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات .. ولا عجيب أن بايعه على الموت .. تمتع سلمة بمرادفة النبي - صلى الله عليه وسلم - على العضباء .. تمتع بلمس جسده الكريم .. وفي ساعات الجد تلك كان لسلمة رغبة في اللهو والتحدي .. في طريق المدينة وأمام عينيه - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه مارس سلمة ورجل من الأنصار لهوًا وتحديًا ومرحًا. سلمة يسابق رجلًا من الأنصار يتحدى الجميع يواصل سلمة رضي الله عنه بقية حديثه فيقول: (ثم أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة، "فلما كان بيننا وبينها قريب من ضمرة" فبينما نحن نسير، وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدًا، فجعل يقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم - الجهاد (1807) والزوائد للبيهقي (4/ 182) وهي صحيحة .. وقد رواه البيهقي من طريقين عن هاشم بن القاسم وهو أحد رواة مسلم لهذا الحديث به.

ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فجعل يعيد ذلك، فلما سمعت كلامه "وأنا وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردفى " قلت: أما تكرم كريمًا، ولا تهاب شريفًا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله .. بأبي وأمي، ذرني فلأسابق الرجل. قال: إن شئت. قلت: أذهب إليك "فطفر عن راحلته" وثنيت رجلي، فطفرت فعدوت، فربطت عليه شرفًا أو شرفين أستبقي نفسي، ثم عدوت في إثره، فربطت شرفًا أو شرفين، ثم إني رفعت حتى ألحقه، فأصكه بين كتفيه. قلت: قد سبقت .. والله "فضحك و" قال: أنا أظن. فسبقته إلى المدينة) (¬1) مشهد بريء ومفرح .. ومرح متاح يمارسه هؤلاء الفرسان العظماء .. بعيدًا عن التنطع والتطرف .. لأنهم بين يديه - صلى الله عليه وسلم - .. ويداه كانتا ربيعًا .. ينثال ذلك الربيع للجميع .. والجميع الآن في المدينة .. يرتاحون من عناء الحديبية، وذي قرد .. ويغتسلون من غبار السفر .. كانت المدينة بانتظارهم .. لكنها لم تكن بانتظار هذا الفارس الذي تعشقه مثلهم .. لكنها لا تستطيع احتضانه .. هذا الفارس الذي أتعبه الشوق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولم يتعبه الأسر ولا السفر ولم تستطع أغلال قومه تحطيمه .. هو الذي حطمها وفر كالريح نحو مدينة الحرية والإيمان. وصل هذا المشتاق إلى المدينة فإذا هو: ¬

_ (¬1) حديث صحيح وهو جزء من حديث مسلم السابق.

أبو بصير في المدينة

أبو بصير في المدينة والمعاهدة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وقريش لا تزال سارية المفعول والبنود .. فماذا سيكون مصيره وهو الهارب من قومه .. المهاجر إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .. هل سيرده كما رد أبا جندل من قبل .. لقد (رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فجاء أبو بصير -رجل من قريش- وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين. فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه - صلى الله عليه وسلم - إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا، فاستله الآخر، فقال: أجل .. والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني انظر إليه، فأمكنه منه، فضربه به حتى برد (¬1) وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا. فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قتل صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير، فقال: يا نبي الله .. قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر) (¬2) في هذه الأثناء التي لجأ فيها أبو بصير إلى جوار البحر .. فر أبو جندل من أسره وانطلق يحمل حريته بيديه .. وترامى إلى سمعه أن أبا بصير هناك على ساحل البحر الأحمر .. فانطلق إليه واتحد معه في تشكيل مساحة ¬

_ (¬1) أي ضعف وفتر والمقصود أنه مات. (¬2) هو حديث المسور ومروان الطويل الصحيح.

من الرعب والخوف ليس لها حدود سوى الموت .. فبعد أن (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام، إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم) (¬1) وتركوا لقريش النواح على قتلاها والندم على صدها لمحمد وأصحابه .. والندم على تلك الشروط التي زرعت في طريقها أولئك الأسود .. أولئك الشباب الذين ضيقت عليهم طواغيت الشرك كل طرق الحياة الهانئة .. وأشرعت لهم طريقًا واحدًا .. طريق العنف المضاد .. فحول أولئك الشباب ذلك الطريق إلى نهر تهدر فيه دماء قريش وكرامتها .. أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو في حل مما يحدث .. ولا مسؤولية عليه مادام هذا العنف المضاد لا يمارس داخل حدود دولته .. فقد رفض استقبال أولئك المظلومين تنفيذًا لشروط قريش وإرادتها الظالمة .. فلتتحمل قريش مسؤولية طغيانها .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فبعد أن رد صاحبه أبا بصير الذي جعلته المعاهدة طريدًا شريدًا .. لا يملك مساحة يعيش عليها سوى مساحة سيفه .. توجه - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه المتعبين من طول السفر وأمرهم بالاستعداد من جديد .. لسفر جديد .. فقد أمن شر قريش .. وأشغلها أبو بصير وأبو جندل ومن معهما بالرعب المشروع والسيوف الملتهبة .. وقد حان تأديب أحد أطراف معركة الخندق .. وهم اليهود القابعون في حصون خيبر .. فلا يكفي قتل قائدهم الخائن أبي رافع (سلَّام ابن أبي ¬

_ (¬1) هو حديث المسور ومروان الطويل الصحيح.

غزو خيبر

الحقيق) وهو داخل حصنه في خيبر .. ففي داخل ذلك الحصن أكثر من سلَّام .. وأكثر من خيانة .. لذلك قرر - صلى الله عليه وسلم -. غزو خيبر وذلك بعد ثلاثة أيام فقط من عودته من غزوة ذي قرد .. يقول سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه في نهاية حديثه عن سباقه مع ذلك الأنصاري: (فسبقته إلى المدينة. فوالله، ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). وقبل أن يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا صحابيًا جليلًا يدعى سباع بن عرفطة فأمره بالبقاء في المدينة، ثم توجه إلى (خيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة على المدينة) (¬2) وجعله أميرًا عليها ثم سار إلى خيبر .. وفي الطريق خيم الليل وانتشرت نجومه .. فأيقظ ذلك المناخ المخملي شجون أحد الصحابة .. وحرك مشاعره .. فالتفت إلى عم سلمة بن الأكوع واسمه: عامر .. وكان داخل عامر رضي الله عنه من الأجواء ما يوازي ذلك المناخ .. وما يشبع حاجة ذلك الصحابي ويطربه .. فقد كان عامر شاعرًا .. وكان عذب الصوت أيضًا .. فطلب منه أن يتغنى بأبيات ومشاعر .. يقول سلمة رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر .. فتسيرنا ليلًا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلًا شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم "فجعل عمي عامر يرتجز" بالقوم يقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم وهو جزء من الحديث السابق عند مسلم (1807). (¬2) سنده قوي وسيأتي بعد الحديث التالي.

اللَّهم لولا أنت ما اهتدينا .... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء لك ما اقتفينا .... وثبت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا .... إنا إذا صيح بنا أتينا "والمشركون قد بغوا علينا" .... وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله "غفر لك ربك .. قال: وما استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان يخصه إلا استشهد. فنادى عمر بن الخطاب، وهو على جمل: يا نبي الله .. لولا ما متعتنا بعامر" فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله .. لولا أمتعتنا به) (¬1). يا لها من ليلة .. تغنى فيها عامر وحرك مشاعر الصحابة .. وشد حداؤه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سأل عنه .. فدعا له بالمغفرة والرحمة .. وبشره بالشهادة .. فتمنى عمر بقاءه بينهم .. مشهد عذب يقدمه - صلى الله عليه وسلم - للمتنطعين .. لم يكن الشعر حميمًا في طريق خيبر فحسب .. فالشعر في كل مكان تتحرك فيه المشاعر .. ولئن تحركت مشاعر عامر وهو في طريقه إلى خيبر .. فلقد تحركت مشاعر عبقري الإِسلام وذاكرته وهو في طريقه إلى المدينة .. إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. العلم يمان .. وهذا اليماني العظيم .. المتعطش للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. المتعطش للعلم .. في طريقه للمدينة. ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (1802) والزوائد للبخاري .. والشطر الزائد لمسلم.

أبو هريرة في الطريق

أبو هريرة في الطريق قادم من دوس .. من اليمن .. ذاكرة تحلم بأحاديث الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ليس بين سطورها مكان للدينار والدرهم .. أبو هريرة قادم لا يملك من الدنيا سوى غلام .. وحتى هذا الغلام ضاع .. خيم الليل والفقر على أبي هريرة .. وخيم الشعر كذلك .. لـ (أنه لما أقبل يريد الإِسلام ومعه غلام ضل كل واحد منهما من صاحبه) (¬1) يقول رضي الله عنه عن تلك الليلة: (لما قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت في الطريق: يا ليلة من طولها وعنائها .... على أنها من دارة الكفر وأبق مني غلام في الطريق) (¬2) واصل أبو هريرة معاناته ومسيره حتى وضعته أقدامه على أرض المدينة .. وربما كانت أمه بصحبته فقد كان من أعظم الناس برًا .. رغم كفرها ورفضها للإسلام .. وصل أبو هريرة ليلًا فلم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - .. سأل عنه فقالوا له إنه قد توجه إلى خيبر .. سأل عن نائبه في المدينة .. فقيل له إنه يدعى سباع بن عرفطة الغفاري رضي الله عنه .. لم يكن أبو هريرة وحيدًا في رحلته .. لـ: (أن أبا هريرة قدم المدينة في نفر من قومه وافدين وقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، واستخلف على المدينة رجلًا من بني غفار يقال له: سباع بن عرفطة، فأتيناه وهو في صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى: كهيعص، وقرأ في الركعة الثانية: ويل للمطففين. قال أبو هريرة: فأقول في الصلاة: ويل لأبي فلان له مكيالان، إذا اكتال اكتال بالوافي , وإذا كال .. كال بالناقص، فلما فرغنا من صلاتنا أتينا سباعًا، ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (2530). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (2531).

علي بن أبي طالب يتخلف في المدينة

فزودنا شيئًا حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) لم يتحرك أبو هريرة ومن معه فقط نحو أرض خيبر .. كان هناك من يشق عباب البحر نحو خيبر .. سفينة تحمل المؤمنين .. تحمل الغرباء المعذبين .. جعفر بن أبي طالب وزوجته ومن معهما من المهاجرين الأولين .. أبو موسى الأشعري ومن معه من مهاجري اليمن .. اجتمعوا في الحبشة .. ولما وصلهم خبر الحديبية واستقرار الأمر على الصلح .. ركبوا أمواج البحر والفرح حتى قذفتهم على سواحل البحر الشرقية .. رياح المشاعر كلها نحو خيبر .. هبَّ الجميع نحوها إلا: علي بن أبي طالب يتخلف في المدينة لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبقاء .. ولم يعينه بديلًا لسباع بن عرفطة فما الذي يجعلك يا أبا الحسن بعيدًا عن حبيبك؟ سلمة بن الأكوع يجيب عن علي رضي الله عنهما فيقول: (كان علي رضي الله عنه تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر وكان رمدًا، فقال: أنا أتخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فلحق به) (¬2) إذا فهو الرمد .. وكيف يقاتل المرء وعينه مصابة بالرمد .. لكن علي رضي الله عنه قرر ذلك .. وطار نحو حبيبه - صلى الله عليه وسلم - متناسيًا معاناته ومرضه وعينه .. حتى وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال على الخيل والإبل والأقدام من كل مكان يتجهون نحو مهوى الفؤاد وقرة العين محمد - صلى الله عليه وسلم - .. ونحو خيبر .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحاكم (2/ 38) والبيهقيُّ (2/ 390) وأحمدُ (2/ 345) وابن سعد (4/ 327) من طرق عن خثيم بن عراك بن مالك .. وعراك ثقة فاضل وابنه صحيح الحديث انظر التقريب (2/ 17) (1/ 222). (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (4209).

القمر الذي هوى في حصن خيبر

لكن هناك من سبقهم .. وتغلغل في حصن اليهود قبلهم .. القمر .. يهوي من السماء فيقع في حصن خيبر .. فيصيب أحدهم الفزع .. ما هي قصة ذلك القمر الذي هوى في حصن خيبر في ذلك الحصن .. حيث الظلام في كل مكان .. حيث اليهود نيام ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى خيبر .. كانت هناك فتاة من اليهود من بني النضير قدمت خيبر مع أبيها .. وقد قتل أبوها بعد خيانته لله ورسوله بعد معركة الخندق .. وقد تزوجت هذه الفتاة من يهودي يقال له "كنانة بن أبي الحقيق) إنها في لياليها الأولى .. وهي الآن تغط في نوم العرائس .. لكنها ترى شيئًا عجيبًا .. لقد رأت في منامها القمر يهوي من السماء ليستقر في أحضانها .. نهضت الفتاة من نومها .. فأخبرت عريسها .. ربما كانت تظن أن هذه الرؤيا ستسعده كما سعدت بها .. لكن هذا العريس فسر هذه الرؤيا بطريقة فريدة من نوعها .. لقد كان تفسيره لهذه الرؤيا لكمة بقبضته القاسية إلى ذلك الوجه الجميل .. لكمة اخضرت منها عيناها .. من هذه الفتاة؟ ومن هو زوجها الملاكم هذا؟ وما تفسير هذه الرؤيا؟

على أرض خيبر ..

على أرض خيبر .. وفي إحدى حصونها .. تزف الآن أميرة إلى أمير .. يحتفل اليهود بذلك الزفاف على طريقتهم الخاصة .. توجه العروسان إلى مخدعهما بعد أن حل الظلام على تلك الأرض وتلك الحصون .. وبعد أن نامت العروس ونام الأمير ونام الجميع ساد السكون والظلام على أرض خيبر وسمائها .. وفجأة ظهر البدر في السماء .. لم يشاهده أحد سوى الأميرة .. وعندما رمته بطرفها هوى بين يديها واستقر برفق في أحضانها .. انتبهت الأميرة فإذا هو حلم لكنها لا تعرف تفسيره .. وعندما استيقظ أميرها توجهت إليه بود علها تجد لديه تفسيرًا لذلك الحلم .. لكن ذلك الأمير كان أرعنًا عديم التهذيب .. فقبل أن ينطلق لسانه بالتفسير .. انطلقت قبضته القاسية نحو ذلك الوجه الجميل بلكمة شديدة اخضرت منها عيناها .. ثم بصق بكلمات هي أشد من تلك اللكمة على مشاعر تلك الفتاة .. لقد اتهم هذا الجلف المدعو: (كنانة بن أبي الحقيق) (¬1) هذه الفتاة بأنها تحلم بالزواج من ملك المدينة يعني النبي محمد عليه السلام .. ¬

_ (¬1) هو ابن زعيم خيبر الذي قتله الصحابي عبد الله بن عتيك داخل حصنه في خيبر .. واسمه سلام بن أبي الحقيق وقد مرت معنا قصة أغتياله لأنه كان أحد المتآمرين في غزوة الخندق، وهو الذي آوى زعيم بئ النضير حيي بن الأخطب والد هذه الفتاة. وقد قتل حيي في المدينة بعد قدومه من أرض خيبر لتأجيجه الخيانة والغدر بالمسلمين من خلال تحريضه بني قريظة.

بينما تقول تلك الأميرة واسمها صفية بن حيي بن أخطب: "كان رأسي في حجر ابن أبي حقيق وأنا نائمة فرأيت كأن قمرًا وقع في حجري فأخبرته بذلك [قلت لزوجي: إني رأيت فيما يرى النائم قمرًا وقع في حجري] فلطمني وقال: تمني ملك يثرب" (¬1) آلمتها تلك اللكمة .. وأحزنها ذلك التفسير لأنها تقول: "وما كان أبغض إلي من رسول الله .. قتل أبي" حيي بن أخطب. إذًا فهذان العروسان يحملان بغضًا شديدًا لهذا النبي القادم من ديار صفية .. من المدينة .. وهما يشتركان في حمل ثأر ثقيل ومرير .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في طريقه إلى خيبر .. وقبل خروجه من المدينة توجه بحديثه إلى صاحبه الكريم أبي طلحة زوج أم سليم فـ"قال لأبي طلحة: التمس غلامًا من غلمانكم يخدمنى حتى أخرج من خيبر" (¬2). لم يجد أبو طلحة أنسب من أنس بن مالك ابن زوجته أم سليم رضي الله عنهم جميعًا .. استبشر أنس هذه الوظيفة - الشرف .. وحدث من حوله فقال: "فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل" (¬3). كان ذلك المسير يهدف إلى تجفيف منابع الغدر المنحدر من أرض ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن حبان واللفظ له (11/ 607) والطبرانيُّ والزيادة له (24/ 67): من طريق الإِمام الثقة حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر .. وعبيد الله ابن عمر بن حفص ثقة ثبت، من أوثق الناس رواية عن التابعي الإِمام الثقة نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب .. انظر التقريب (1/ 537) ورواه أيضًا البيهقي في الكبرى (9/ 137) والشيباني في الآحاد والمثاني (5/ 441) (414). (¬2) صحيح مسلم 2 - 993. (¬3) صحيح مسلم 2 - 993.

خيبر .. أما تاريخ المسير فكان في شهر محرم .. وفي الطريق كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ كل احتمالات الخطر .. وعندما وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى وادٍ بين غطفان وخيبر يقال له الرجيع .. توقف لقطع أي إمداد عسكري قد تقوم به غطفان لأصدقائها اليهود .. يقول أحد الصحابة إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سار إلى خيبر في المحرم .. فنزل رسول الله بالرجيع -واد بين خيبر وغطفان- فتخوف أن تمدهم غطفان .. فبات به حتى أصبح فغدا إليهم" (¬1). كان مسير ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيشه حالة من التماهي والود تثير المشاعر والدهشة .. كان - صلى الله عليه وسلم - في مسيره ذلك يفتح لهم قلبه .. يفتح لهم الكنوز ليأخذوا منها ما شاءوا فـ"لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر أو لما توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشرف الناس على واد .. فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر .. الله أكبر لا إله إلا الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربعوا على أنفسكم .. إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا .. إنكم تدعون سميعًا قريبًا .. وهو معكم" (¬2) يقول ذلك الصحابي: "وأنا خلف دابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فسمعني وأنا أقول: لا حولى ولا قوة إلا بالله. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في الدلائل 4 - 197 حدثني الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور .. وهذا السند هو سند صلح الحديبية والسابق وهو صحيح. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1541.

فقال لي: يا عبد الله بن قيس .. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: ألا أدلك على كلمة من كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله .. فداك أبي وأمي. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله" (¬1). ورآه مولاه شقران رضي الله عنه في فسحة جديدة لهذه الأمة .. وسياحة مع الله دون مشقة أو تعب .. يقول شقران: "رأيته يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - متوجهًا يوم خيبر على حمار، يصلي يومئ إيماء" (¬2). دون الحاجة إلى مس ظهر الحمار أو مس وجه الأرض .. أو القيام عليها .. بل دون التوجه إلى القبلة .. وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يبالي أين اتجه به الحمار. يقول ابن عمر رضي الله عنه: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار وهو موجه إلى خيبر" (¬3) وخيبر في جهة الشمال والطريق متعرج والنبي يحتاج إلى التعرج معه .. ويقول ابن عمر "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته حيث توجهت به" (¬4). وكان - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أصحابه في كل جهة .. فلم يكن بمعزل عنهم مكتفيًا بإصدار الأوامر والنواهي .. كان يشملهم برعايته ويحتضنهم بقلبه .. "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1541. (¬2) حديثٌ حسنٌ رواه أحمد 3 - 495 والطبراني في المعجم الأوسط 3 - 149 من طريق مسلم ابن خالد الزنجي عن عمرو بن يحيى عن شقران. ومسلمٌ صدوق له أوهام كثيرة لكن يشهد للحديث ما بعده. (¬3) صحيح مسلم 1 - 487. (¬4) صحيح مسلم 1 - 486. (¬5) سنده صحيح رواه أبو داود 3 - 44 وغيره من طريق إسماعيل بن علية، ثنا الحجاج بن أبي =

وكانوا كلهم يخدمونه .. ويتسابقون من أجل ذلك رغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حدد من يخدمه .. هذا أحدهم أنس بن مالك يقول رضي الله عنه: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طلحة التمس غلامًا من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر، خرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل فكنت أسمعه كثيرًا يقول: اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجن وضلع الدين وغلبة الرجال" (¬1) سمع أنس ذلك الدعاء، لكن غيره: سمع دعاء جديدًا وذلك بعد صلاة الفجر .. خلال تلك الأجواء الساحرة .. وليس هناك أجمل من فجر الصحاري .. وليس هناك ألذ من النهوض فيها .. كان - صلى الله عليه وسلم - "يحرك شفتيه بشيء بعد صلاة الفجر، فقيل له: يا رسول الله .. إنك تحرك شفتيك بشيء ما كنت تفعله .. فما هذا الذي تقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: أقول: اللَّهم بك أحاول وبك أقاتل وبك أصاول" (¬2). فجر جديد معطر بالنشاط والتوحيد .. حمل الصحابة رضي الله عنهم مع نبيهم حتى وصلوا إلى مكان يقال له: الصهباء .. وذلك قبل العصر .. وكان: الوصول إلى الصهباء يعني الاقتراب جدًا من خيبر .. فالصهباء هي أول منطقة خيبر .. يقول أحد ¬

_ = عثمان عن أبي الزبير أَن جابر بن عبد الله حدثهم قال أبو الزبير لم يدلس والحجاج ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 153 وكذلك إسماعيل: 1 - 65. (¬1) صحيح البخاري ج:3: 1059. (¬2) سنده صحيح رواه ابن حبان 5 - 374 وغيره من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب .. وعبد الرحمن تابعى كبير وثقة من رجال الشيخين. التقريب 1 - 496 وكذلك ثابت، أما حماد فإمام ثقة لكنه من رجال مسلم فقط.

لا أذان في حصون خيبر

الصحابة واسمه: سويد بن نعمان: "إنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر .. حتى إذا كانوا بالصهباء -وهي أدنى خيبر- فصلى العصر .. ثم دعا بالأزواد .. فلم يؤت إلا بالسويق .. فأمر به .. فثري .. فأكل رسول الله وأكلنا .. ثم قام إلى المغرب .. فمضمض .. ومضمضنا .. ثم صلى ولم يتوضأ" (¬1). ثم سار - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل إلى مشارف حصون خيبر .. هنا توقف - صلى الله عليه وسلم - ليتأكد من أن يهود خيبر مازالوا على غدرهم وكفرهم وأن أرضهم خالية من الإِسلام .. سينتظر حتى بزوغ الفجر .. فإذا لم يرفع الأذان من داخل الحصون .. فإنه سيشن غارته عليهم .. لا أذان في حصون خيبر ويقول أنس رضي الله عنه: "كنت ردف أبي طلحة يوم خيبر وقدمي تمس قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فأتيناهم حين بزغت الشمس وقد أخرجوا مواشيهم وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم" (¬2). (وكان إذا غزا بنا قومًا لم يغزُ بنا حتى يصبح وينظر .. فإن سمع أذانًا كف عنهم .. وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم. فخرجنا إلى خيبر .. فانتهينا إليهم ليلًا .. فلما أصبح ولم يسمع أذانًا ركب .. وركبت خلف أبي طلحة .. وإن قدمي لتمس قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -. فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم [خرجوا بالمساحي على أعناقهم] فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: محمد .. والله محمد والخميس [فلجأوا إلى الحصن] ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 86. (¬2) صحيح مسلم 2 - 1045.

أبو بكر يقود أول حملة على حصون خيبر

فلما رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[رفع النبي يديه] قال: "الله أكبر .. الله أكبر خربت خيبر .. إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين") (¬1). سمع اليهود التكبير .. ورأوا خيل الله تزحف نحوهم فلجأوا إلى حصونهم .. وتركوا الرعب والجيش يتجولان في أزقة خيبر وشوارعها .. أما الحصون فقد اكتظت بالجبن واليهود .. فاحتل جيش الإِسلام ما أمامه من مساحات دون الحصون "فغلب على النخل والأرض" وأرجأ فتح الحصون إلى الغد لصعوبة اقتحامها .. ولما جاء الغد نادى - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الصديق .. أبو بكر يقود أول حملة على حصون خيبر ناداه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعطاه الراية .. فامتثل رضي الله عنه دون تردد .. يقول بريدة "حاصرنا خيبر فأخذ اللواء أبو بكر ولم يفتح له" (¬2) أي لم يتمكن من فتح حصن خيبر .. وكانت تلك السرية لتضم ثلة من شجعان الصحابة إلا واحدًا .. هو علي بن أبي طالب الذي كان يشكو من رمد في عينيه .. وفي اليوم الثاني كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - المحاولة .. لكنه أعطى اللواء هذه المرة لـ: عمر بن الخطاب يقول الحملة الثانية يقول بريدة وهو أحد الذين شاركوا في تلك الحملات: "وأخذ من الغد عمر فانصرف ولم يفتح له .. وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد" فقد حاولوا وحاولوا ولكن شدة التحصين كانت حائلًا دون الفتح .. لكن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 221 والزوائد له 3 - 1090 أو 3 - 1333. (¬2) تخريجه في نهاية الحديث.

ملك خيبر يبحث عن مبارز

النبي - صلى الله عليه وسلم -رغم ذلك- يبشر بفتح خيبر .. فبعد أن استعصت تلك الحصون على السرية الأولى والثانية "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني دافع لوائي غدًا إلى رجل يحب الله ورسوله .. ويحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح له" (¬1) "يفتح الله على يديه ليس بفرّار" (¬2). كانت المشاعر تحاصر حصون خيبر .. وتدفع بالشمس نحو الشروق .. هبت أنسام الفجر فنهض الصحابة للصلاة .. وعندما أشرقت الشمس خرج أشجع رجل في اليهود. ملك خيبر يبحث عن مبارز رجل جمع الملك والفروسية .. فمن سيتصدى له .. ؟ أتذكرون ذلك الشاعر الذي كان يطرب الصحابة في الطريق إلى خيبر .. إنه عم سلمة بن الأكوع .. واسمه عامر بن الأكوع .. عامر هذا جمع الفروسية والشعر والحداء والتحدي أيضًا .. يقول ابن أخيه سلمة: "خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب .. شاكي السلاح بطل مجرب .. إذا الحروب أقبلت تلهب وبرز له عمي عامر فقال: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه النسائي في الكبرى 5 - 109 وأحمدُ 5 - 353 وغيرهما من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة قال سمعت أبى؛ بريدة .. وعبد الله تابعى ثقة والحسين بن واقد ثقة من رجال مسلم .. التقريب 1 - 0180 (¬2) حديث صحيح بطرقه رواه مسند أحمد 1 - 133 المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان أبى يسمر مع علي ورواه ابن أبي شيبة 7 - 396 من طريق عبيد الله قال حدثنا نعيم بن حكيم عن أبي مريم عن علي والنسائيُّ في الكبرى 5 - 144 عمران بن بكار بن راشد قال حدثنا أحمد بن خالد قال حدثنا محمد عن عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه أن معاوية ذكر علي بن أبي طالب فقال سعد ..

قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر .. وذهب عامر يسفل له .. فرجع سيفه على نفسه .. فقطع أكحله فكانت فيها نفسه .. فخرجت فإذا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون بطل عمل عامر .. قتل نفسه .. فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكى .. فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال ذلك؟ قلت: أناس من أصحابك. قال: كذب من قال ذلك .. بل له أجره مرتين ثم أرسلني إلى" (¬1) .. فارس خيبر لهذا اليوم .. لكن تفاصيلًا حدثت قبل إرساله نحتاج إلى معرفتها .. فالصحابة ينتظرون اسم الفارس الذي سيفتح خيبر .. يقول سهل بن سعد عن تشوق الصحابة وتجمعهم لذلك: "فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها" (¬2) كل الصحابة يرجونها .. كلهم مرشحون إلا واحدًا .. عمر بن الخطاب يحدثنا عن مشاعر ذلك الصباح فيقول: "فما أحببت الامارة قبل يومئذ .. فتطاولت لها .. واستشرفت رجاء أن يدفعها إلي" (¬3) وبريدة رضي الله عنه يقول: "وأنا فيمن تطاول لها" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1440. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1357. (¬3) مر تخريجه وهو صحيح. (¬4) سنده صحيح رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة 2 - 617 وغيره من طريق إسرائيل عن عبد الله بن عصمة قال سمعت أبا سعيد الخدري. وعبد الله بن عصمة أبو علوان تابعي صدوق قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 5 - 126 سألت أبا زرعة عن عبد الله بن عصمة أبي علوان فقال كوفي ليس به بأس.

النبي (صلى الله عليه وسلم) ينادي عليا

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كرر بث الحماس في أصحابه كما فعل في غزوة أحد فقال: من يأخذ الراية بحقها؟ "أخذ رسول الله الراية فهزها ثم قال: من يأخذها بحقها؟ فجاء الزبير فقال: أنا فقال: أمط ثم قام رجل آخر فقال: أنا فقال: أمط ثم قام آخر .. فقال: أنا فقال: أمط فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي أكرم محمد لأعطينها رجلًا لا يفر بها" (¬1). صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بفارس هذا اليوم ونطق باسمه .. كان اسمًا غير مطروح ولا متوقع .. نظرًا لظروف هذا الفارس والحالة التي يمر بها .. فهو لم يشارك في أي سرية من السرايا .. وما أخرجه من المدينة سوى الشوق لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وإلا فهو في حالة عذر عن القيام بأعباء الجهاد .. بل إنه عاجز تمامًا عن الجهاد .. رغم ذلك كله: النبي (صلى الله عليه وسلم) ينادي عليًا غدا الصحابة "على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله .. فأرسلوا إليه فأتوني به" (¬2). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة 2 - 617 وغيره من طريق إسرائيل عن عبد الله بن عصمة قال سمعت أبا سعيد الخدري. وعبد الله بن عصمة أبو علوان تابعى صدوق قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 5 - 126 سألت أبا زرعة عن عبد الله بن عصمة أبى علوان فقال كوفي ليس به بأس. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1357.

كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه خارج قوائم الترشيح عند الصحابة .. حتى لقد قال سلمة بن الأكوع: "فإذا نحن بعلي وما نرجوه" (¬1). وذلك لشدة الرمد الذي أصاب عينيه .. بل إن عليًا نفسه لا يتوقع ذلك .. وإلا لجاء مع الصحابة المتلهفين إلى الإمساك بالراية .. لقد كان عليًا مشغولًا بعينيه ومرضه .. لكن قوة إيمانه وعزمه حملاه على المشاركة المعنوية بعد أن تعذرت عليه المشاركة البدنية .. إن كرامة الله لعلي رضي الله عنه تشابه كرامته لعمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام .. شيخان انتزعا نفسيهما من ظروف قاهرة وصعبة .. عمرو بن الجموح كان شديد العرج .. وعبد الله بن حرام لديه تسع بنات .. أما علي رضي الله عنه فقد قال لنفسه بعد أن غادر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه نحو خيبر "أنا أتخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحق به" (¬2). غدًا موعد لفتح جديد .. وغدًا ستشرق الشمس على أرض جديدة بالإِسلام .. وأرض جديدة للإسلام .. لكن ماذا عن فاتحها وهل هذه الصفات لا تنطبق إلا على رجل واحد فقط .. ؟ الصفات والأحداث تقول: لا .. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله .. وهذا الجيش ينعم كله بهاتين الصفتين .. لأنه جيش الحديبية الذي قال الله عنه: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِم مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}. أما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليس بفرار .. فهذه الصفة يتزين أبو بكر وعمر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1086. (¬2) مر معنا في أول الغزوة وهو صحيح.

وعلي وأبو عبيدة والزبير وابن عوف وابن عبادة والمقداد وأبو دجانة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم .. وغيرهم. إذًا فهو تكريم من الله للفاتح غدًا .. كتكريمه لوالد جابر بن عبد الله في غزوة أحد .. ولا شيء يؤكد هذا مثل الشعور الذي انتاب الصحابة وهم ينتظرون ذلك الغد على أحر من الشوق .. هذا بريدة رضي الله عنه يتحدث عن مشاعر الصحابة فيقول: "فما منا إنسان له منزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا هو يرجو أن يكون صاحب اللواء" (¬1) ثم يتحدث رضي الله عنه عن مشاعره الخاصة فيقول: (وأنا فيمن تطاول لها) (¬2) ويقول سهل بن سعد: "فبات الناس يدكون ليلتهم أيهم يعطاها" (¬3) أما عمر بن الخطاب فيصف شوقه قائلًا: "ما أحببت الأمارة إلا يومئذ فتساورت لها رجاء أن أدعى لها" (¬4). امتثل الصحابة فبعثوا سلمة بن الأكوع إلى علي .. فوجده على حال يرثى لها .. وصل "إلى علي وهو في الرحى يطحن" (¬5) لإخوانه المجاهدين .. فاكتفى علي بأن يكون خادمًا لنبيه وإخوانه. يقول سلمة رضي الله عنه: "فبعثني إلى علي وهو أرمد .. فجئت به أقوده" (¬6). ¬

_ (¬1) حديث الحسين بن واقد السابق. (¬2) حديث الحسين بن واقد السابق. (¬3) صحيح مسلم 4 - 1872. (¬4) صحيح مسلم 4 - 1871. (¬5) سنده حسن رواه النسائي في الكبرى 5 - 179 والحاكم 3 - 143 الطبراني 12 - 98 وغيرهم من طريق الوضاح وهو أبو عوانة قال حدثنا يحيى وهو ابن أبي سليم أبو بلج قال حدثنا عمرو بن ميمون أن بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. عمرو بن ميمون ثقة مخضرم ويحيي صدوق ربما أخطأ ومن هو الذي لا يخطئ؟ التقريب: 2 - 401. (¬6) صحيح مسلم 3 - 1440.

لا تلتفت

"فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر" (¬1) "فقال: يا نبي الله ما أكاد أبصر فنفث في عينه" (¬2) "ودعا له .. فبرأ كأن لم يكن به وجع" (¬3) "وهز الراية ثلاثًا ثم دفعها إليه" (¬4) وبعد أن أعطاه الراية أمره بأمر ينضح بالانتصارات .. أمر كالسيف: لا تلتفت أخذ فارس خيبر راية الإِسلام منطلقًا إلى حصون خيبر .. لكنه تذكر رسالته التي يحملها في صدره .. رسالته التي أخرجته من داره بمكة .. فهو لا يحتاج إلى دماء هؤلاء اليهود الخونة .. فهل سيلتفت والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ("امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك". فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت [للعزمة] فصرخ: يا رسول الله .. على ماذا أقاتل الناس؟ [أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟]. ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه النسائي في الكبرى 5 - 179 والحاكم 3 - 143 والطبرانيُّ 12 - 98 وغيرهم من طريق الوضاح وهو أبو عوانة قال حدثنا يحيى وهو ابن أبي سليم أبو بلج قال حدثنا عمرو بن ميمون أن بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. عمرو بن ميمون ثقة مخضرم ويحيى صدوق ربما أخطأ ومن هو الذي لا يخطئ؟ التقريب: 2 - 401. (¬2) سنده حسن رواه النسائي في الكبرى 5 - 179 والحاكم 3 - 143 والطبراني 12 - 98 وغيرهم من طريق الوضاح وهو أبو عوانة قال حدثنا يحيى وهو ابن أبي سليم أبو بلج قال حدثنا عمرو بن ميمون أن بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. عمرو بن ميمون ثقة مخضرم ويحيى صدوق ربما أخطأ ومن هو الذي لا يخطئ؟ التقريب: 2 - 401. (¬3) صحيح البخاري 3 - 1096. (¬4) سنده حسن رواه النسائي في الكبرى 5 - 179 والحاكم 3 - 143 والطبراني 12 - 98 وغيرهم من طريق الوضاح وهو أبو عوانة قال حدثنا يحيى وهو ابن أبي سليم أبو بلج قال حدثنا عمرو بن ميمون أن بن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. عمرو بن ميمون ثقة مخضرم ويحيى صدوق ربما أخطأ ومن هو الذي لا يخطئ؟ التقريب: 2 - 401.

قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإذا فعلوا فقد منعوا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله") (¬1). كل هذا التجاوز .. وكل هذه الأجواء الرحبة مفتوحة لليهود .. سيتم التغاضي عن خياناتهم وغدرهم يوم الأحزاب وقبله مقابل ماذا؟ مقابل الدخول في دين الله وعبادته وحده .. فالهدف ليس تطهير حصون خيبر وأرضها .. بل تطهير قلوب ساكنيها من الكفر الذي حول حياتهم وسلوكياتهم إلى خيوط وعقد من المؤامرات السوداء التي تخنق الأمن والأنفاس .. لم يعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم دفع فدية .. هو الإِسلام أو عقوبة الخيانة .. وبالإِسلام يحتفظون بأموالهم ودمائهم وديارهم .. لكنهم يهود. أما علي المتوجه كالصاعقة نحوهم فقد قدم له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأتباعه كلمات كالمطر .. قال - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم .. ثم ادعهم إلى الإِسلام .. وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه .. فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" (¬2). قدَّم - صلى الله عليه وسلم - تلك النصائح لأنه لا يأس مع الدعوة إلى الله .. ولو كنت تخاطب خائنًا حاقدًا متطويًا داخل حصون خيبر .. انطلق علي حاملًا رايته .. وحاملًا أملًا بدخول هؤلاء القوم في دين الله .. ولما نزل بساحتهم .. دعاهم إلى الإِسلام كما أمر .. لكنه جوبه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1871 والزيادة صحيحة وهي في ابن حبان 15 - 379 إبراهيم بن الحجاج السامي حدثنا حماد بن سلمة عن بقية سند مسلم وهذا السند صحيح. إبراهيم وحماد ثقتان. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1096.

برفض قاطع .. وظن القوم أن هذا الجيش سيعود كما عاد في اليومين السابقين .. بل لقد فتح باب الحصن .. فخرج منه حتف عنيد .. وفارس مرعب .. اسمه مرحب .. وهو يتحدى الجميع مرحب .. مرحب يدعو للمبارزة خرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فقال علي: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كَلَيثِ غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة فضرب رأس مرحب فقتله (¬1). وقتل معه ما تبقى من معنويات اليهود الذين أغلقوا حصونهم بعد هلاك ملكهم فقام علي رضي الله عنه باقتحام حصنهم الأول ثم الذي يليه .. وأثناء ذلك سقط بعض الشهداء من المؤمنين والتحقوا بعامر بن الأكوع رضي الله عنه. واشتد القتال والاقتحام .. وبدأت أرض خيبر تتحول إلى جديد يكتبه الصحابة بدمائهم .. سلمة بن الأكوع .. فارس بحجم جيش لكنه أصيب .. فأنقذته معجزة ساقها الله على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1440.

معجزة لجراح سلمة

معجزة لجراح سلمة سأل رجل سلمة بعد أن: "رأى أثر ضربة في ساق سلمة .. : يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر فقال الناس: أصيب سلمة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فنفث ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة" (¬1). عاد سلمة إلى بقية الفرسان .. عاد إلى ساحة تختنق فيها الخيانة واليهود .. وانضم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جنوده يوجههم .. ويؤازرهم .. بل ويبتسم أحيانًا في وجوههم .. حدث ذلك عندما بدأ اليهود يتخلصون من بعض الأشياء التي قد يستفيد منها المسلمون القادمون لا محالة. ابتسامة النبي (صلى الله عليه وسلم) في وجه عبد الله بن مغفل يقول رضي الله عنه: "كنا محاصرين قصر خيبر فرمى إنسان بجراب فيه شحم فنزوت لآخذه فالتفت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم -[متبسمًا] فاستحييت" (¬2). كان اليهود يحاربون دون مواجهة .. خلف الحصون .. إلا من كان في مثل شجاعة وبأس ملكهم الهالك (مرحب) أما البقية فمن خلف تجاويف الأسوار ينفثون سهامًا كالموت .. فبينما كان أحد فرسان المسلمين يطارد خلالها شجعان اليهود .. وتطارده كلمات الإعجاب من المحاربين .. تطارده كل عبارات الثناء إلا عبارات تصدر أسفًا عليه .. كلمات أسف من النبي - صلى الله عليه وسلم - على: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1541. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1149 والزيادة لمسلم 3 - 1393.

بطل آخر إلى النار

بطل آخر إلى النار فبعد أن وصل أبو هريرة إلى أرض خيبر قال: "شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر فقال لرجل ممّن يدعي الإِسلام، هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالًا شديدًا فأصابته جراحة فقيل يا رسول الله الذي قلت إنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالًا شديدًا وقد مات فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إلى النار. قال فكاد بعض الناس أن يرتاب" (¬1). أخذ هذا الرجل إلى مكان آخر لمداواته، لذلك سنتركه لنتابع أحداث المعركة على أن نعود إليه لاحقًا .. فقصته مثيرة ومؤثرة لكن الساحة الآن تشهد انحسار اليهود وتساقط أسوارهم .. قتل منهم من قتل ولاذ من بقي منهم بآخر حصونهم وأمنعها .. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى مقرهم .. فغلب على الأرض والنخل والزرع" (¬2) ولم يبق لليهود سوى المقاومة أو الاستسلام .. فحول هذا السور فرسان كالموت الأحمر أحدهم: بريدة والموت الأحمر بريدة رضي الله عنه توهج ذلك اليوم .. لكنه يرى أن توهجه ذلك كان أعظم ذنب ارتكبه في حياته منذ أسلم .. أما لماذا فالسؤال لا يعرف الإجابة عليه سوى بريدة حيث يقول: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح خيبر .. فكنت فيمن صعد الثلمة .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1114. (¬2) سنده صحيح رواه أبو داود في السنن 3 - 157 وغيره من طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر قال أحسبه عن نافع عن ابن عمر أن النبي .. وهذا سند كله أئمة ثقات وهو على شرط مسلم.

فقاتلت حتى رئي مكاني .. وأبليت وعلي ثوب أحمر .. فما علمت أني ركبت في الإِسلام أعظم منه .. قال: للشهرة" (¬1) فمهما كانت إنجازات المسلم عظيمة .. ومشاريعه عملاقة في تكريس هذا الدين إلا أنها تتوقف على بوابة القبول حتى تحصل على بطاقة يقال لها .. النقاء والإخلاص .. كما أن هذا النقاء لا يكفي إلا إذا كان العمل المصاحب له سليمًا من التحريف - بدعة أو نقصًا .. يقول سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وهذا الأخير هو ما جعل بريدة قلقًا على جهاده يوم خيبر .. لقد خشي أن يكون شيئًا من الرياء قد تسرب إلى صفاء نيته فأفسده .. وأحبط عمله .. رقابة وضعها الإِسلام داخل أعماق أتباعه المخلصين وداخل أعمالهم لتبقى نقية بالتوحيد .. وكما خشي بريدة من انهيار عمله بسبب شعوره بالتفوق على الآخرين فإن رجلًا آخر لم تسعفه نيته عندما لوثها بتصرف لا يليق بمسلم .. ذلك هو الجريح الذي يعاني آلامًا شديدة من جراحه في المعركة .. فعندما جن عليه الليل جن جنونه من جرحه وآلامه فأراد أن يطلق رصاصة العذاب على تلك الآلام .. أراد أن يضع حدًا لمعاناته .. لكنه أساء العمل فحطم في الليل ما أنجزه في النهار .. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر .. فقال -يعني لرجل يدعي الإِسلام-: هذا من أهل النار .. فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالًا شديدًا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قلت له: إنه من ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه الروياني 1 - 79 وابن عدي في الكامل 2 - 34 من طريق محمد بن مزاحم حدثنا بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه قال ومقاتل صدوق من رجال مسلم: التقريب 2 - 272 وتلميذه بكير صدوق وجرحه غير مفسر. انظر ترجمته في التهذيب .. وابن مزاحم أبو وهب صدوق من رجال التقريب 2 - 206.

الاستسلام والخيانة

أهل النار .. فإنه قتل اليوم قتالًا شديدًا وقد مات .. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إلى النار .. فكاد بعض الناس أن يرتاب .. فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة .. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: الله أكبر .. أشهد أني عبد الله ورسوله. ثم أمر بلالًا .. فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. وإن الله عَزَّ وَجَلَّ يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" (¬1). هذا الرجل قتل نفسه بسهم .. وذلك قتل نفسه بسيفه على أرض المعركة يوم أحد وأثناء المعركة .. مع أن كلًا منهما أبلى وتألق وحاز كلمات الإعجاب .. لكن النهاية واحدة .. هي النار .. لأن من أخرجه الله عليه أن ينفذ تعاليم من أخرجه وإلا فليبحث له عن تبرير آخر لجهاده سوى سبيل الله .. ومن قتل نفسه فهو كمن قتل بريئًا دون ذنب فلا مكان في الإِسلام لرصاصة الرحمة المزعومة .. لأن المعاناة جزء من الجهاد وهي سبب للتطهير والتكفير والخلاص من الذنوب .. وما خرج المجاهد في سبيل الله إلا لذلك .. لا بد أن شعورًا بالمرارة خالج من رأى بداية هذا الرجل ونهايته .. لكنها ليست كالمرارة التي يشعر بها اليهود الآن والحصار يخنق أنفاسهم .. قد يشعر اليهود بالمرارة .. لكن من المستبعد أن يشعروا بالندم على خياناتهم .. لأن الخيانة جزء من عقيدتهم التي كتبوها وأدرجوها ضمن كتابهم المقدس .. حتى الاستسلام الذي يطل من حصونهم الآن ما هو إلا استسلام يغلف خيانة جديدة .. الاستسلام والخيانة قرر اليهود أن يستسلموا .. بعد أن فقدوا كل شيء لـ"أن رسول ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1114.

كيف يعطي النبي (صلى الله عليه وسلم) خيبر لليهود

الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض والزرع والنخل .. فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم .. ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفراء والبيضاء .. ويخرجون منها .. فاشترط عليهم أن: لا يكتموا شيئًا .. لا يغيبوا شيئًا .. فإن فعلوا ذلك فلا ذمة لهم ولا عصمة .. فغيبوا مسكًا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعم حيي ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير فقال أذهبته النفقات والحروب فقال - صلى الله عليه وسلم - العهد قريب والمال أكثر من ذلك فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الزبير بن العوام فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك قد دخل خربة فقال: قد رأيت حييًا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في خربة فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابني أبي حقيق، وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب وسبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوه، وأراد أن يجليهم منها فقالوا يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها ولم يكن لرسول الله ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها فكانوا لا يتفرغون أن يقوموا فأعطاهم خيبر" (¬1) لكن: كيف يعطي النبي (صلى الله عليه وسلم) خيبر لليهود لقد قدم اليهود التماسًا للنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يستعجل برفضه .. بل وجده يعود ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه ابن حبان (11 - 607) وأبو داود (3006) والبيهقيُّ (6 - 114 و 9 - 137) قد مر معنا قبل قليل.

أكل لحوم الحمر الأهلية

على دولته بالفائدة لا سيما وأن هناك ما يبرر قبوله .. فأرجأ عليه السلام قرار الإجلاء إلى مدة مفتوحة على مصالح الدولة المسلمة .. قال عبد الله ابن عمر: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على أهل خيبر أراد أن يخرج اليهود منها وكانت الأرض لما ظهر عليها لليهود وللرسول وللمسلمين، فسأل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم على أن يكفوا العمل ولهم نصف الثمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقركم على ذلك ما شئنا" (¬1). يقول ابن عمر: إن ذلك حدث بعد أن نظر عليه السلام إلى رئيسهم التحدث باسمهم .. نظرة تقرأ خارطة الخيانة في عالم اليهود .. وألقى إليه بكلمات لا يصدق فيها إلا نبي .. قال له: "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟ فقال: كانت هذه هزيلة من أبي القاسم. قال: كذبت يا عدو الله" (¬2) تلك الكلمات الوقحة التي تلفظ بها ذلك اليهودي ما هي إلا بعض أنفاس اليهود متى ما أمنوا العقوبة .. أما المؤمنون فبعد أن تم لهم النصر .. ذهبوا يلقون عنهم عناء التعب .. والبعض أنهكه الجوع فذهب ليبحث عن لقمة لجوفه الخالي .. لكن هؤلاء لم يجدوا سوى بعض الحمير التي وجدوها خارج المدينة .. فقاموا بذبح بعضها وألقوا لحمها في قدورهم .. أحد هؤلاء اسمه: عبد الله يتحدث عن: أكل لحوم الحمر الأهلية يقول رضي الله عنه: "أصابتنا مجاعة يوم خيبر ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصبنا للقوم حمرًا خارجة من المدينة فنحرناها فإن قدورنا لتغلي إذ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1149. (¬2) صحيح البخاري 2 - 973 والقلوص هي الناقة.

بدأ عمليا توجه الإسلام نحو العالمية

نادى منادي رسول الله" (¬1) بشيء أبقى البطون خاوية .. فقد جاء فقال: "يا رسول الله أكلت الحمر ثم جاء آخر فقال يا رسول الله أفنيت الحمر فأمر رسول الله أبا طلحة فنادى إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس أو نجس .. فأكفئت القدور بما فيها" (¬2). امتثل الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلبوا قدورهم .. واتجهوا إلى الخيل والبغال -وهي قليلة- علها تسد ما بهم من مجاعة .. يقول جابر بن عبد الله: "ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل" (¬3) ولم يقتصر التحريم على هذين النوعين من الحيوانات فقط .. لقد حرم - صلى الله عليه وسلم - لحوم حيوانات أخرى .. وحرم ممارسات أخرى .. فبعد أن قال عليه السلام إثر غزوة الخندق .. : "الآن نغزوهم ولا يغزوننا" .. وبعد صلح الحديبية .. ونزول سورة الفتح .. وبعد فتح خيبر .. بدأ عمليًا توجه الإسلام نحو العالمية بعد أن ظهر من رحم مكة ونهض من مهد المدينة .. ها هو الإِسلام يتهادى نحو العالم .. نحو جهات الدنيا الفسيحة كلها .. لم يعد الإِسلام مقتصرًا على المهاجرين والأنصار ولا على المدينة فقط .. ولا حتى على القرن الهجري الأول .. إنه للعالم .. للدنيا بأسرها .. ولكل القرون .. وما دام ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم. (¬3) حديثٌ حسنٌ رواه أبو داود 3 - 351 وغيره من طريق أبي الزبير عن جابر. وأبو الزبير تابعي ثقة لكنه مدلس وهو هنا لم يصرح بالسماع من شيخه جابر، لكنه لم ينفرد فقد توبع، تابعه التابعي الثقة أبو سلمة بن عبد الرحمن.

الإِسلام بهذه المقاييس .. فلا بد أن يقدم مشروعًا يتضمن حلول الحاضر والمستقبل مهما بلغت البشرية من المدنية أو التحضر والرقي .. خيبر اليوم هي إحدى نقاط الانطلاق نحو العالم .. نحو مشاكل العالم والإنسانية .. في خيبر لم يعد الإِسلام مأخوذًا بالتطهير الفكري والعقائدي فقط .. في خيبر أبحر الإِسلام إلى جزر عذراء وأراض جديدة .. يقدم للبشرية مشروعه الجميل .. ليكون للحياة طعم جميل ونظيف .. ليكون للإنسان غذاء نقي ونظيف. في خيبر قدم - صلى الله عليه وسلم - قائمة ببعض الممنوعات من الأطعمة والممارسات .. ممنوعات تجعل صحة المسلم وحياته أكثر إشراقًا ونظافة .. يقول جابر رضي الله عنه: "لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعه فأخذوا الحمر الإنسية فذبحوها وملؤوا منها القدور فبلغ ذلك نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكفأنا القدور فقال: إن الله عَزَّ وَجَلَّ سيأتيكم برزق هو أحل لكم من ذا وأطيب من ذا، فكفأنا يومئذ القدور وهي تغلي فحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور وحرم المجثمة والخلسة والنهبة" (¬1). وقال أبو ثعلبة ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ ورجاله ثقات وسنده ضعيف: رواه الإِمام أحمد (3 - 323) حدثنا عبد الله حدثني أبي، ثنا هاشم بن القاسم ثنا عكرمة يعني ابن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله .. وسنده ضعيفٌ نظرًا لاضطراب رواية عكرمة عن يحيى - التقريب (1/ 30) لكن للحديث طرق أخرى عند أحمد (4/ 194) والطبرانيُّ في الكبير (22/ 216) ومسند الشاميين (2/ 183) وهو الحديث التالي: عن بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وهو ما بعده ولألفاظ الحديث شواهد صحيحة متفرقة.

الخشني رضي الله عنه: "غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر والناس جياع فوجدنا منها حمرًا من حمر الأنس فذبح الناس منها فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر عبد الرحمن بن عوف فأذن في الناس: إن لحوم الحمر الإنسية لا تحل لمن شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فكفأوا القدور بما فيها ووجدوا في جوانبها بصلًا وثومًا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحل النهبة ولا كل ذي ناب من السباع ولا تحل المجثمة" (¬1). من تأمل قائمة الممنوعات تلك يجدها بوابة لكثير من المتاعب الصحية .. لا سيما مع تمدن البشرية القادم وتكاثرها السريع. مما يجعل التأكيد على نقاء الطعام وسلامته أمرًا لا يقبل التهاون .. بل إن الطب ينصح بالاستغناء عن قائمة طويلة من الأطعمة الطيبة إرضاءً للصحة .. فكيف إذا كانت هذه الأطعمة تشتمل على الحمار والبغل اللذين لا يباليان بما يدخل أجوافهما من المزابل وغيرها .. أو الحيوانات المفترسة التي لا تفرق عندما تجوع بين الجيفة وغيرها .. مما يجعلها جميعًا مستودعًا للأوبئة المجهولة والخطيرة .. أما المجثمة ففى تحريم أكلها احترام لحقوق الحيوان في وقت كان العالم لا يرى للحيوان حقوقًا .. حرم الإِسلام المجثمة التي يتسلى الجهلة بربطها وجعلها هدفًا للتدريب على الرماية حتى الموت ولو كانوا يدعون أنهم سيأكلونها في النهاية .. ويدخل في المجثمة تلك الثيران التي يتسلى النصارى بتعذيبها ومصارعتها وتمزيق جسدها بالرماح والسيوف .. فالغاية لا تبرر الوسيلة في الإِسلام .. أما النهب والسلب فمن الجرائم الكبيرة التي تنتهك خصوصيات الناس وأموالهم .. وهي أشياء لا يجوز المساس بها مهما كانت الأسباب .. ¬

_ (¬1) انظر ما قبله.

امتثل الصحابة لأن الذي يتحدث نبي مرسل .. ولأنه لا ينطق عن هوى أو رؤية شخصية .. ثم قاموا بالبحث عن أي شيء يطفئ لهب الجوع وسعيره .. فلم يجدوا سوى الأرض .. قال أبو سعيد رضي الله عنه: "فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك البقلة الثوم والناس جياع فأكلنا منها أكلًا شديدًا ثم رحنا إلى المسجد فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الريح فقال من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئًا فلا يقربنا في المسجد فقال الناس حرمت .. حرمت .. فبلغ ذاك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحل الله لي ولكنها شجرة أكره ريحها" (¬1) "فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (¬2) فالزينة في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬3) ليست في اللباس فقط .. فالرائحة الزكية من أجمل الأشياء التي يفضل اصطحابها إلى المسجد .. ومن أسرار عظمة الإِسلام تسليطه الأضواء على الجمال مهما كانت الأجواء معتمة والعقول مشغولة والنفوس مشحونة .. فالإنسان في ظرف كظرف الحرب والاجتلاد أو الحماس تمنحه نفسه ويمنحه حماسه مسوغات عديدة للقيام بممارسات قد تؤلم غيره فيتجاوز أهداف خروجه .. هنا يتميز الإِسلام عن غيره من الأديان .. فلا مذابح جماعية .. لا انتقام .. لا تهور .. لا سلب ولا نهب .. بل انضباط والتزام وإلا فإنه ليس بجهاد .. والموت فيه ليس بشهادة. ها هو الجوع مرة أخرى يرغم بعض الصحابة على البحث المرير بعد نفاذ الصلح .. لكن النتيجة كانت أكثر مرارة. صحابي اسمه: ثعلبة بن ¬

(¬1) حديث صحيح رواه مسلم 1/ 395 - 828. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 1/ 395 - 828. (¬3) الأعراف: 31.

كرم بنكهة يهودية

الحكم قال: "أصبنا يوم خيبر غنمًا فانتهبها الناس فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدورهم تغلي فقال ما هذا .. فقالوا نهبة يا رسول الله قال اكفؤوها فإن النهبة لا تحل فكفؤوا ما بقي" (¬1) لأنها ليست لهم ولا يبرر الجوع أموال الغير .. ترى لو كان هؤلاء القوم من غير المسلمين .. هل يمكن السيطرة عليهم .. كان اليهود غير بعيدين عن تلك المشاهد .. فتحركت النخوة داخل نفوسهم .. كان كرمًا .. لكنه: كرم بنكهة يهودية تحركت عواطفهم .. ورشَّحوا لإثبات تلك العواطف امرأة قامت بشوي شاة ثم قدمتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. الغريب في الأمر والمحير كذلك هو حرص المرأة على أن تلك الشاة هي مجرد هدية .. لا صدقة .. حتى تتأكد من عدم رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - لها .. لأن الله قد حرم عليه الصدقة .. يقول كعب ابن مالك رضي الله عنه: "إن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة مصلية بخيبر فقال لها ما هذه؟ قالت هدية وحذرت أن تقول من الصدقة، فأكل وأكل أصحابه ثم قال لهم أمسكوا" (¬2) أما لماذا أمرهم بالتوقف عن الأكل .. فتلك معجزة إلهية .. فبعد أن "أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها وأكل القوم فقال ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة" (¬3) خيانتان لليهود في اليوم ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه عبد الرزاق 10 - 205 وغيره من طريق سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال: وسماك تابعي صدوق من رجال مسلم انظر التقريب 1 - 333. (¬2) المعجم الكبير 70/ 19 - 137 ومعمر بن راشد في الجامع 11 - 28 طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن أبيه والزهري تابعي ثقة وإمام معروف. (¬3) سنده صحيح رواه أبو داود 4 - 173 الدارمي 1 - 46 وغيرهما من طريق يونس وشعيب =

نفسه الذي عاهدوا فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - .. في الأيام نفسها التي ناشدوا فيها هذا النبي أن يبقي على أرواحهم .. وأن يقبل شراكتهم الاقتصادية تلك .. ويبدو من سلسلة الغدر اليهودي إلى حدثت بعد وصول النبي عليه السلام إلى المدينة أن الخيانة تشكل نسبة مرتفعة من دمائهم .. ومع هذا فقد حاول - صلى الله عليه وسلم - استثمار حالة التوجس والخوف من انكشاف جريمتهم .. حاول استثمارها لصالحهم هم .. فهم وإن صدئ معدنهم إلا أنهم لا يزالون بشرًا أحياء .. وهاتان الصفتان تفتحان للمسلم فرصًا للدعوة .. حاول من خلالها أن يثبت لعنادهم أنه نبي مرسل .. وأنه لا عذر لهم في رفض الإِسلام سوى العناد والمكابرة .. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيه سم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود، فجمعوا له فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟ فقالوا نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبوكم؟ قالوا أبونا فلان. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبتم بل أبوكم فلان. فقالوا صدقت وبررت. فقال هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. ¬

_ = ابن أبي حمزة وغيرهما عن الزهري قال كان جابر بن عبد الله يحدث .. والزهري إمام ثقة وتابعى معروف والزهري عن جابر على شرط البخاري.

قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اخسؤوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبدًا. ثم قال لهم: فهل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قالوا: نعم. فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سمًا؟ فقالوا: نعم. فقال: ما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كذابًا نستريح منك وإن كنت نبيًا لم يضرك" (¬1) .. ها قد تبين أنه نبي وأنه ليس بكذاب ثم ماذا؟ لاشىء .. لم يسلم أولئك اليهود .. لم يتركوا عنادهم ودينهم .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتركهم .. هناك جريمة وهناك مجرمون .. وهناك صحابة تغلغل السم في أحشائهم وهم الآن على فراش المرض .. وهناك تشريع جنائي عادل .. طلب - صلى الله عليه وسلم - إحضار الجاني .. فأحضرت المرأة المجرمة وتمت مساءلتها علنيًا من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فجيئ بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك. قال: ما كان الله ليسلطك على ذاك أو قال عليَّ. قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1721. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1721.

القمر يستقر في حجر الفتاة

لأنه لم يمت أحد من الصحابة حتى الآن من ذلك السم وإن كان له أثر على لهوات النبي - صلى الله عليه وسلم - لدرجة أن أنس رضي الله عنه كان يقول: "فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). لكن وبعد أيام تمكن السم من أحد الصحابة واسمه: بشر بن البراء .. "فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية: ما حملك على الذي صنعت؟ قالت: إن كنت نبيًا لم يضرك الذي صنعت وإن كنت ملكًا أرحت الناس منك. فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتلت" (¬2) بعد أن عفا عنها رغم شروعها في قتل رأس الدولة الإِسلامية .. لكن وبعد موت بشر رضي الله عنه أصبحت قاتلة متعمدة للقتل .. فاستحقت عقابها في القرآن .. بل وفي كتاب التوراة التي تؤمن به .. ولم يشمل العقاب أولئك المتآمرين معها .. علَّ العفو يجدي في محو ثقافة الحقد اليهودية .. ومن أجل ذلك قام - صلى الله عليه وسلم - بعمل حاول به جمع قلوب اليهود من حوله .. حينما استقر قمرًا وعزاءً بين يدي إحدى فتياتهم الحزينات. القمر يستقر في حجر الفتاة تلك الفتاة التي رأت تلك الرؤيا فلكمها زوجها الغبي بعد ما أخبرته بما رأت .. هي اليوم حزينة جدًا .. فقد قتل زوجها قبل الصلح لأنه عاهد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (4 - 1721). (¬2) حديث صحيح رواه أبو داود -4512 وًا حمد (3 - 242) والدارميُّ (1 - 64) والطبرانيُّ (2 - 34) والبيهقيُّ (8 - 46) من طريق حماد بن سلمة وجعفر بن عون وغيرهما من الثقات عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثى وهو حسن الحديث من رجال الشيخين .. التقريب (2 - 196) وشيخه هو التابعي الثقة .. أبو سلمة بن عبد الرحمن الزهري وهو إمام مكثر التقريب (2 - 430) وقد صحح الإمام الألباني رحمه الله هذا الحديث.

النبي عليه السلام على قول الحقيقة أو الموت والسلب .. كانت الفرصة أمامه لينجو بنفسه لكن الخيانة داخله كانت أكبر من أن يخفيها .. كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فأطلعه الوحي على ذلك فقتله - صلى الله عليه وسلم - .. هذه الفتاة تشعر بحزن شديد وذل أشد فهي الآن سبية وهبها النبي عليه السلام لصاحبه دحية الكلبي .. وهي تشعر ببغض شديد لهذا النبي .. فهو لم يقتل زوجها فقط .. بل إنها تقول لمن يسمعها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبغض الناس إلي، قتل زوجي وأبي" (¬1) هذه الفتاة هى تلك الطفلة المدللة التي كانت تحدثنا عن وصول النبي عليه السلام إلى المدينة .. وكيف خسرت ذلك الدلال من أبيها وعمها في ذلك اليوم .. عندما شاهدا النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فعادا كسلانين ثقيلين من الهم على ضياع النبوة من بني إسرائيل .. وانتقالها إلى بني إسماعيل .. وها هي اليوم تحصد أحقاد والدها وعمها وزوجها وخياناتهم المتكررة .. فقد "جاء دحية فقال يا نبي الله أعطني جارية من السبي، قال اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير! لا تصلح إلا لك قال ادعوه بها فجاء بها فلما نظر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال خذ جارية من السبى غيرها (¬2) أراد- صلى الله عليه وسلم - مصاهرة اليهود في آخر محاولة لاستمالتهم إلى الإِسلام .. لكن يبدو أن دحية يشعر بأنها ليست كأي فتاة من السبى .. فقد جمعت المجد من ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبراني في المعجم الكبير (24 - 67) والبيهقيُّ (9 - 137) وابن حبان (11 - 607) من طريق أبي الزرقاء وابن غياث وعفان قالوا حدثنا حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال وهذا سند صحيح مر معنا في أول هذا الجزء .. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري (1 - 45).

أطرافه .. فهي سيدة بني النضير .. وهي سيدة قريظة أيضًا .. وهي قبل ذلك ابنة نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام .. وقد حظيت إلى ذلك بجمال أخاذ .. فأراد - صلى الله عليه وسلم - إرضاء صاحبه دحية .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "صارت صفية لدحية في مقسمه وجعلوا يمدحونها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقولون ما رأينا في السبي مثلها، فبعت إلى دحية فأعطاه بها ما أراد" (¬1) لقد "اشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبعة أرؤس" (¬2). فقد عرف عليه الصلاة والسلام لهذه المرأة الشريفة قدرها .. وقدر حزنها وشعورها بالمرارة .. توجه إليها كالمواساة .. يسليها .. يقنعها بنبوته .. يعتذر إليها ويكشف عن عقليتها ذلك الضباب اليهودي الأسود حتى تلاشى وتلاشى معه حزنها وكراهيتها .. فإذا الدنيا صباح بالإِسلام .. وربيع بمحمد عليه السلام .. فباحت صفية بذلك النور الذي انبجس في أعماقها وقالت: "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبغض الناس إلي، قتل زوجي وأبي وأخي فما زال يعتذر إلي ويقول إن أباك ألَّبَ علي العرب وفعل وفعل حتى ذهب ذلك من نفسي" (¬3) "واصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي فاتخذها لنفسه وخيَّرها أن يعتقها وتكون زوجته أو تلحق بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته" (¬4) دون أن يكرهها .. بل لقد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (2 - 1047). (¬2) حديث صحيح رواه مسلم. (¬3) سنده على شرط مسلم رواه الإِمام أحمد (3 - 138) وابن حبان (6 - 194) ثنا عبد الرزاق ثنا معمر قال سمعت ثابتًا يحدث عن أنس عبد الرزاق. ومعمر من الثقات المعروفين من رجال الشيخين التقريب (1 - 505) (2 - 266) وثابت البناني تابعى ثقة. انظر التقريب (1 - 115). (¬4) سنده على شرط مسلم رواه الإِمام أحمد (3 - 138) وابن حبان (6 - 194) ثنا عبد الرزاق ثنا معمر قال سمعت ثابتًا يحدث عن أنس. عبد الرزاق ومعمر من الثقات المعروفين =

احترام السبايا

رفضت العودة إلى أهلها وديارها رغم حبها لهم .. لأنها أفاقت في عالم هذا النبي على شيء أذهلها عن أهلها .. فتوجهت معه مأخوذة بهذا الاعتذار النبوي الجميل .. الذي لم يصادر مشاعرها .. لم يصادر إحساسها نحو من أحبتهم وعاشت معهم .. ولم يجبرها باسم النبوة على التنكر لآلامها .. فهو الذي يذيب الحرقة والآلام .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزف إليها لأن لها عدة لابد أن تمضيها .. حتى يتم التأكد من خلوها من حمل من زوجها السابق .. احترامًا لحق ذلك الزوج مهما كان دينه وحفظًا لنسب الطفل البريء .. لكن أحد الصحابة رضي الله عنهم لم يعبأ في علاقته بإحدى النساء بهذه العدة .. فارتكب أمرًا أغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا .. احترام السبايا يقول أبو الدرداء "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على امرأة مجح وهي على باب خباء أو فسطاط فقال لمن هذه فقالوا لفلان قال أيلم بها قالوا نعم قال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره فكيف يستخدمه وهو يعدوه في بصره وسمعه كيف يرثه وهو لا يحل له" (¬1). أما عن العلاقة مع المرأة فقد حدث تطور في أحكامها .. لتتناسب مع القادم والجديد من حياة البشر .. مما يجعل من هذا التشريع منهجًا يضمن ¬

_ = من رجال الشيخين التقريب (1 - 505) (2 - 266) وثابت البناني تابعى ثقة. انظر التقريب (1 - 115). (¬1) حديث صحيح رواه مسلم (2 - 1065) وابن أبي شيبة (4 - 29) واللفظ له.

حكم جديد لزواج المتعة

للأسرة استقرارًا أفضل .. ها هو علي بن أبي طالب .. فارس خيبر والذي قدم قبل قليل من قرية قريبة تدعى فدك .. بعد أن فتحها وصالح أهلها .. ها هو يخبرنا عن حكم جديد لزواج المتعة يقول علي رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر" (¬1) وهو زواج مؤقت يختلف عن الزواج المعروف لأنه زواج محدد بمدة يتفق عليها الزوج والزوجة .. بعكس الزواج الطبيعي والذي لا يجوز فيه تحديد المدة .. وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عنه .. فهو زواج لا يرصد حسابًا للأولاد ولا للتربية وليس له أي هدف اجتماعى سوى إشباع الغريزة .. مما قد يمسخ المرأة مستقبلًا إلى جهاز استمتاع للرجل .. يستعمله ثم يبحث عن أقرب سلة مهملات ليقذفه بها .. والمرأة أَجَلُّ وأكرم من ذلك في الإِسلام .. لذلك جاء النهي عن التعة .. وقد نهي عليه السلام عنها على أرض خيبر بشكل غير حاسم نظرًا لحاجة الأنفس إلى التدرج .. ومادام الأمر قد امتد إلى الحديث عن الزواج فيبدو أن الأمور قد استقرت والنفوس قد اطمأنت على أرض خيبر .. وهذا ما يتضح في بعض الممارسات المالية التي يقوم بها بعض الصحابة الآن مع بعض اليهود .. حيث يمارسون: البيع والشراء على أرض خيبر ها هو الصحابي فضالة بن عبيد يشتري قلادة من خرز وذهب فيقوم بفصل الذهب عن الخرز ليعلم مقدار الذهب فيها .. وبعد فصلها توجه ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ واللفظ للبخاري.

إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله .. وقال: "اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لا تباع حتى تفصل" (¬1) فشراء الذهب بالذهب لا يجوز إلا وزنًا بوزن ويدًا بيد وإلا تحول البيع إلى ربا يسحق الفقراء والاقتصاد ويجر للفقر والرذيلة والانحطاط والاستغلال في المجتمع .. وأرض خيبر قلعة من قلاع الربا .. فاليهود زعماء الربا مستغلي الفقراء على وجه الأرض .. وحتى لا يتلوث المتوضئون بأخلاق اليهود المرابين .. وحتى يبقى للجهاد مشروعه النقي .. يكمل فضالة بن عبيد ويقول: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن" (¬2) .. وأثناء فترة الاسترخاء تلك قسم - صلى الله عليه وسلم - الغنائم على المجاهدين .. يقول أحد الصحابة: "افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبًا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط" (¬3) عدا ما أخرجه النبي - صلى الله عليه وسلم - من كنز حيي بن أخطب المدفون .. وأثناء توزيع الغنائم وصلت سرية من المجاهدين كانت تقوم بمهمة عسكرية على أرض نجد .. حددها - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه .. وكان قائد تلك السرية يدعى: أبان بن سعيد بن العاص .. وقد هدى الله أبان بعد أن خاض معركة ضد المؤمنين استشهد في تلك المعركة صحابي كريم يدعى: ابن قوقل .. لكن ما علاقة ابن قوقل رضي الله عنه بغنائم خيبر .. أبو هريرة كان هناك .. يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من الغنائم لحظة وصول أبان .. وقد وصف وصول تلك السرية بقوله: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 1213. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1214. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1547.

أبان على سرية من المدينة قِبَلَ نجد فقدم أبان وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر بعد ما افتتحها وإن حزم خيلهم لليف" (¬1) وكان لأبي هريرة مع أبان حديث طغت فيه العاطفة على العقل قليلًا .. لكن الأمر حسم لأنه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحدث أبو هريرة فيقول: إنه "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله قال له بعض بني سعيد بن العاص لا تعطه فقال أبو هريرة هذا قاتل بن قوقل فقال واعجباه لوبر تدلى من قدوم الضأن" (¬2) وكان لأبان رد يفيض بالاعتذار الجميل عن أخطاء الماضي المؤسف .. يقول أبان: إنه "أقبل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم عليه فقال أبو هريرة يا رسول الله هذا قاتل بن قوقل فقال أبان لأبي هريرة واعجبًا لك وبر تدأدأ من قدوم ضأن .. ينعى على امرئ أكرمه الله بيدي ومنعه أن يهينني بيده" (¬3) "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبان اجلس فلم يقسم لهم" (¬4). ثم بدأ - صلى الله عليه وسلم - بتوزيع الغنائم بنسبة واحد إلى ثلاثة .. يعطى صاحب الفرس ثلاثة دراهم .. والذي لا يملك فرسًا درهمًا واحدًا .. نظرًا لما بذله صاحب الفرس من جهد ومال .. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهمًا" (¬5). أما الأرقاء فهذا أحدهم واسمه عمير .. يحدثنا عن ذلك فيقول: "قال شهدت مع سادتي خيبر فأمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلدت سيفًا فإذا ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1548. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1548. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1549. (¬4) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1548. (¬5) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1548.

أنا أجره .. فقيل له إنه عبد مملوك فأمر لي بشيء من خرثى المتاع .. وعرضت عليه رقية كنت أرقى بها المجانين في الجاهلية قال: اطرح منها كذا وكذا وارق بما بقى" (¬1) فالرقية علاج .. والعلاج لا يجوز إلا بأشياء مباحة .. فقد حرم الإِسلام أي علاج يؤدي إلى ضرر في العقيدة أو في الصحة .. وفي حالة كون الرقية أدعية وتعاويذ فقط .. يكون الأمر أخطر على العقيدة التي من أجلها بعث كل الرسل .. لأن تأثير تلك الرقية غير منظور ولا يخضع لتجارب المعامل .. ولا يتكون نتيجة تفاعل كيميائي مدروس .. في هذه الحالة يكون الشفاء أشبه بالمعجزة .. عندها يتعلق المريض الجاهل بصاحب الرقية مثل تعلق الغريق بأي شيء مهما كان ضعيفًا .. وعندما تصل الأمور إلى هذه المسافة .. تنفتح بوابات الجهل للخيال المريض .. ويبدأ التعلق بالأسباب لا بخالق الأسباب سبحانه .. ويجد الساحر والمشعوذ ألف طريق للتعشيش في مخيلة السذج والبسطاء .. فتنصب خيام الشرك من جديد باسم الرقية والعلاج .. ذلك الرقيق الجميل لم يمنعه رقه أن يحتاط لدينه وأن يسأل عن كل درهم يدخل جيبه .. وكل كلمة يتفوه بها .. رقيق آخر غفل عن هذا المنهج للحظات فماذا كانت النتيجة .. حدث ذلك أثناء توزيع الغنائم حيث امتدت يد خادم جديد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعى: مدعم إلى قطعة قماش من الغنائم .. فاستلها ثم أخفاها مع أمتعته الشخصية .. أي أنه غلها دون إذن من قائده النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أما نتيجة هذا العمل البسيط في نظر أناس فسنعرفها بعد قليل .. ¬

_ (¬1) أحمد 5 - 223 من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن زيد بن المهاجر عن عمير مولى أبي اللحم.

ماذا عن النساء ..

ماذا عن النساء .. النساء لم يكنَّ بعيدات عن الرجال تكريمًا وتقديرًا .. فقد "قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر لسهلة بنت عاصم بن عدي ولابنة لها ولدت" (¬1). تم الانتهاء قبل قليل من توزيع الغنائم وبدأ التجهيز لأمور عديدة منها تعيين أمير يتولى إدارة شؤون خيبر .. يقول أبو سعيد الخدري وأبو هريرة: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري واستعمله على خيبر" (¬2) ومنها التوجه نحو وادي القرى .. لكن وقبل أن يغادر - صلى الله عليه وسلم - أرض خيبر نوى أحد الصحابة مفارقته والعودة إلى مكة .. ولم يكتف بذلك بل قرر أن ينتقص من النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولم يكتف بذلك أيضًا بل ذهب إلى النبي نفسه واستأذنه .. فما هو رده - صلى الله عليه وسلم - على ذلك: صحابي يعود إلى قريش وشروط صلح الحديبية تمنحه هذا الحق .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيشجعه على ذلك ويؤيده .. أنس بن مالك يتحدث عن ذلك ويقول: "لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبراني في المعجم الكبير 2 - 82 حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحسن ابن الربيع الكوفي ثنا بن المبارك عن ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال وهذا السند صحيح رغم وجود العالم الجليل الضعيف عبد الله بن لهيعة رحمه الله .. فقد حدد النقاد رجالًا احتفظوا بوثائقه الصحيحة قبل اختلاطه منهم هذا الإِمام الفذ عبد الله بن المبارك .. أما شيخه الحارث بن يزيد فهو تابعى ثقة ثبت عابد .. التقريب 1 - 145 وشيخ الطبراني وشيخ شيخه ثقتان انظر التقريب 1 - 166 والبلغة 228. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 6 - 2675.

إن لي بمكة مالًا وإن لي بها أهلًا .. وإني أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئًا .. فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ما شاء فأتى امرأته حين قدم فقال اجمعي لي ما كان عندك فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم .. قال ففشا ذلك في مكة وانقمع المسلمون وأظهر المشركون فرحًا وسرورًا .. وبلغ الخبر العباس فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم" (¬1) "ثم أرسل غلامًا إلى الحجاج بن علاط: ويلك ما جئت به وما تقول فما وعد الله خير مما جئت به. قال الحجاج بن علاط لغلامه: اقرأ على أبي الفضل السلام وقيل له فليخل لي في بعض بيوته لآتيه فإن الخبر على ما يسره فجاء غلامه فلما بلغ باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل فوثب العباس فرحًا حتى قبل بين عينيه .. فأخبره ما قال الحجاج فأعتقه ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد افتتح خيبر وغنم أموالهم وجرت سهام الله عَزَّ وجَلَّ في أموالهم .. واصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي فاتخذها لنفسه وخيرها أن يعتقها وتكون زوجته أو تلحق بأهلها .. فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته، ولكني جئت لمال كان لي ها هنا أردت أن أجمعه فأذهب به .. فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن لي أن أقول ما شئت فأخف عني ثلاثًا ثم اذكر ما بدا لك .. فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي ومتاع فجمعته فدفعته إليه ثم استمر به .. فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال ما فعل زوجك فأخبرته أنه قد ذهب يوم كذا وكذا وقالت: لا يخزيك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك .. قال: أجل لا يخزني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا فتح الله خيبر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجرت فيها سهام الله واصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي لنفسه فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي ¬

_ (¬1) وضعت القوس لوجود فاصل مرسل.

الرحيل .. وقصة النوم عن الصلاة

به .. قالت أظنك والله صادقًا .. قال: فإني صادق الأمر على ما أخبرتك فذهب حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل .. قال لهم: لم يصبني إلا خير بحمد الله .. قد أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر قد فتحها الله على رسوله وجرت فيها سهام الله واصطفى صفية لنفسه وقد سألني أن أخفي عليه ثلاثًا .. وإنما جاء ليأخذ ما له وما كان له من شيء ها هنا ثم يذهب. قال فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين وخرج المسلمون ومن كان دخل بيته مكتئبًا حتى أتوا العباس فأخبرهم الخبر فسر المسلمون ورد الله ما كان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين" (¬1) بعدما علموا بانتصارات جيش الإِسلام على أرض خيبر وفدك .. وها هو ذلك الجيش المؤمن يستعد لـ: الرحيل .. وقصة النوم عن الصلاة يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرس وقال لبلال: أكلأ لنا الليل فصلى بلال ما قدر له ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر فغلبت بلالًا عيناه وهو مستند ¬

_ (¬1) على شرط مسلم رواه عبد الرزاق 5 - 466 ومن طريقه أحمد 3 - 138 وابن حبان 10 - 391 والطبراني 3 - 220 وأبو يعلى 13 - 383 وعبد بن حميد 1 - 385 من طريق معمر قال سمعت ئابتًا يحدث عن أنس. يقول ابن كثير رحمه الله عن هذا السند في البداية والنهاية 4 - 217: هذا الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي. ولي ملاحظة على هذا القول: صحيح أن رجاله رجال الشيخين، لكن من خلال الاستقراء يبدو أنه على شرط مسلم فقط، ويبدو كذلك أن الإسناد ليس بصحيح وإن كان على شرط مسلم , لأن رواية معمر عن ثابت فيها شيء، وللتفصيل راجع الموسوعة.

قصة النوم والعطش والمعجزات

إلى راحلته .. فلم يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس .. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولههم استيقاظًا ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أي بلال فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله بنفسك قال: اقتادوا فاقتادوا رواحلهم شيئًا ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بلالًا فأقام الصلاة .. فصلى بهم الصبح .. فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال أقم الصلاة لذكري" (¬1) وقد ذكر أبو قتادة تفاصيلًا أخرى ربما كانت أثناء تلك الرحلة في قصة النوم والعطش والمعجزات يقول أبو قتادة: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدًا فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد. قال أبو قتادة: فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى إبهار الليل وأنا إلى جنبه .. فنعس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمال على راحلته فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته .. ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته .. فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته .. ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين حتى كاد ينجفل .. فأتيته فدعمته فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة. قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: مازال هذا مسيري منذ الليلة. قال: حفظك الله بما حفظت به نبيه .. ثم قال: هل ترانا نخفى على ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 471.

الناس؟ ثم قال: هل ترى من أحد؟ قلت: هذا راكب .. ثم قلت: هذا راكب آخر حتى اجتمعنا فكنا سبعة ركب .. فمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطريق فوضع رأسه ثم قال احفظوا علينا صلاتنا .. فكان أول من استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشمس في ظهره .. فقمنا فزعين ثم قال: اركبوا فركبنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل .. ثم دعا بميضأة كانت معى، فيها شيء من ماء فتوضأ منها وضوءًا دون وضوء قال وبقي فيها شيء من ماء ثم قال لأبي قتادة: احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ .. ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم .. وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركبنا معه .. فجعل بعضنا يهمس إلى بعضى ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال: أما لكم فيَّ أسوة؟ ثم قال: أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الصلاة الأخرى .. فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها .. فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟ ثم قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم فقال أبو بكر وعمر: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدكم لم يكن ليخلفكم. وقال الناس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أيديكم فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا .. فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء وهم يقولون: يا رسول الله هلكنا عطشنا، فقال: لا هلك عليكم ثم قال: أطلقوا لي غمري .. ودعا بالميضأة فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب وأبو قتادة يسقيهم .. فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنوا الملأ كلكم سيروى ..

نحو وادي القرى

ففعلوا .. فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ثم صب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: اشرب .. فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله قال: إن ساقي القوم آخرهم شربًا .. فشربت وشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فأتى الناس الماء جامين رواء" (¬1) ثم ارتحلوا متوجهين: نحو وادي القرى وهو مكان قريب من مدائن صالح .. وله اسم آخر هو: (قرح) .. ويبدو أن هذا الوادي مليء بالحدائق والنخيل واليهود .. وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. ووصل معه صاحبه سلمان الفارسي وذكرياته المريرة على أرض هذا الوادي .. فقد وصل إليها منذ سنين مكبلا بالرق والمرارة .. بعد أن غدر به تجار من بني كلب .. سرقوا بقراته وباعوه إلى أحد اليهود الذين يسكنون هذا الوادي المليء بالنخل انتظارًا لنبي تبشر به التوراة .. يقول سلمان رضي الله عنه وهو يتحدث عن مغادرته لأرض عمورية بعد موت كاهنها الصالح: "لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري فقال أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم قال واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة .. ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصى بي وبم تأمرني؟ قال أي بني والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه .. ولكنه قد أظل زمان نبي وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام .. يخرج ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 473

بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل .. به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم مات وغيب ومكثت .. بعمورية ما شاء الله أن أمكث .. ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه .. قالوا: نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم .. حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي، فكنت عنده عبدًا، ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة" (¬1) حيث النخل هناك أيضًا .. فالنخل في جزيرة العرب .. والنخل في التوراة .. تبشر اليهود بالنبي .. وها هو النبي .. وها هي النخيل .. وتحت كل نخلة في جزيرة العرب تجد يهوديًا .. كان ذلك في الماضي قبل أن يعرف اليهود أن هذا النبي من سلالة إسماعيل لا من سلالة إسحاق .. أما اليوم فتحت كل نخلة خيانة .. ووادي القرى ممتلئ باليهود .. توقف فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولم يجد مقاومة تذكر .. إلا سهمًا طائشًا أصاب خادمه مدعم .. فكان موت مدعم درسًا لهذا الجيش المؤمن .. رغم أنه سهم طائش لا يعرف من أرسله .. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "افتتحنا خيبر ولم نغنم ذهبًا ولا فضة إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط ثم انصرفنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى وادي القرى ومعه عبد له يقال له مدعم أهداه له أحد بني الضباب .. فبينما هو يحط رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك العبد .. فقال الناس: هنيئًا له الشهادة .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل والذي نفسي بيده إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل: ¬

_ (¬1) السيرة النبوية 2 - 44 بسند صحيح وقد مر تخريجه عند الحديث عن إسلام سلمان.

عليه نارًا .. فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - بشراك أو بشراكين فقال هذا شيء كنت أصبته .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شراك أو شراكان من نار" (¬1) يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المومنون" (¬2) هذا هو الغلول .. أخذ شيء من مال الدولة المسلمة دون إذن .. وتحت أي مبرر .. حتى هذا الرجل الفقير المجاهد لم يسلم من ناره .. فكيف بمن يأخذ شيئًا وقت السلم .. وكيف بمن يأخذ شيئًا لا لحاجة بل لمجرد زيادة ثروته .. سواء كان بالسرقة أو النهبة أو السلطة أو القوة أو حتى على شكل هدايا يتلقاها بصفته موظفًا في الدولة؟! يقول - صلى الله عليه وسلم - "هدايا العمال غلول" (¬3) الإِسلام جاء لإنصاف الفقراء لكنه لم يأت للمزايدة بقضاياهم وأزماتهم .. فعلى الفقراء كغيرهم مسؤولية وعليهم النهوض بها .. فالجنة مفتوحة للجميع وكذلك جهنم .. جهنم ترحب بمن يريدها .. وبهذا المنهج يتحول الفقير إلى طاقة فاعلة ومنضبطة .. لا طاقة هائجة ثائرة تحطم كل شيء .. وتحرق اليابس والأخضر باسم الفقر والفقراء .. هذا هو جيش محمَّد - صلى الله عليه وسلم - معظمه من الفقراء والمحتاجين وأهل الصفة .. ومع ذلك فهو قمة في الانضباط وتحمل المسؤولية .. ولا أدل على ذلك من قول إحدى أمهات المؤمنين وزوجة قائد هذه الأمة .. الطاهرة ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1547. (¬2) صحيح مسلم 1 - 107. (¬3) حديث صحيح رواه الإِمام أحمد 5 - 424.

زفاف صفية

"عائشة رضي الله عنها قالت: لما فتحت خيبر قلنا الآن نشبع من التمر" (¬1) تصور .. إنها لم تقل: اللحم ولا الفاكهة ولا العسل .. قالت: التمر .. بل إنها تحدث ابن أختها عن موائد رئيس الدولة الإسلامية فتقول يا "ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار فقلت يا خالة ما كان يعيشكم؟ قالت الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألبانهم فيسقينا" (¬2). وما دمنا نتحدث عن أمهات المؤمنين والموائد .. يتهادى سؤال لطيف .. ماذا عن أم المؤمنين الجديدة .. وماذا عن عرسها ومائدة ذلك العرس .. فـ: زفاف صفية لم يكن على أرض خيبر .. ولا على أرض واد القرى المفتوح .. والذي جرى عليه من الأحكام ما جرى على أرض خيبر دون سفك دماء .. صفية ما زالت في عدتها .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يهم بمغادرة الوادي .. وفي الطريق انتهت عدة صفية وحلت للنبي عليه السلام .. فأوصى أم أنس بن مالك بصفية للعناية بها .. وعندما وصل الركب إلى مكان يقال له: سد الصهباء زفت صفية للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. وأقيمت مائدة بسيطة كبساطة الصحابة .. كسماحة الإِسلام .. حيث لم تغل القدور ولم يتوفر فيها لحم ولا خبز .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "لقد رأيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليمة ما ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1550. (¬2) صحيح البخاري ج2 ص: 907.

فيها خبز ولا لحم" (¬1) وحتى القدور لم تستخدم .. كانت وليمة متواضعة جدًا .. فقد حفر الصحابة حفرًا في الأرض ثم ألقوا عليها الجلود المدبوغة النظيفة .. ثم سكب فيها السمن ووضع الإقط والتمر .. هذا ما ذكره أنس ابن مالك في حديثه حيث يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - "دفعها إلى أم سليم تصنعها له وتهيئها وتعتد في بيتها وهي صفية بنت حيى [ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر حتى إذا جعلها في ظهره نزل ثم ضرب عليها القبة فلما أصبح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان عنده فضل زاد فليأتنا به .. فجعل الرجل يجئ بفضل التمر وفضل السويق حتى جعلوا من ذلك سوادًا حيسًا، فجعلوا يأكلون من ذلك الحيس ويشربون من حياض إلى جنبهم من ماء السماء .. فكانت تلك وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .. وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليمتها التمر والأقط والسمن .. فحصت الأرض أفاحيص وجيء بالأنطاع فوضعت فيها .. وجئ بالأقط والسمن فشبع الناس وقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد؟ قالوا: إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد .. فلما أراد أن يركب حجبها فقعدت على عجز البعير فعرفوا أنه قد تزوجها" (¬2) وكانت طريقة إركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصفية على البعير تنم عن منتهى الذوق والرقة يقول أنس: " .. ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب" (¬3) كانت تشعر بعاطفة غامرة .. تشعر بعزاء يهطل مطرًا على قيظ حزنها .. فتحول البغض ¬

_ (¬1) المنتخب من مسند عبد بن حميد 383/ 0 حدثنا هاشم بن القاسم ثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 1045 والزوئد له أيضًا 2 - 1047. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 2 - 778.

يسأل عن كدمة حول عين حبيبته

إلى عشق .. وعاد الحزن من حيث أتى .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تحول إلى غمامة حب تظللها .. وقدم اعتذارات أذابت كل كلس اليهود في فؤادها .. حتى أصبح مرتعًا لمحمد ورب محمَّد .. تذكر صفية تلك الأيام وأمواجها الغريبة المتلاطمة .. تتذكر حبيبها - صلى الله عليه وسلم - وهو: يسأل عن كدمة حول عين حبيبته وذلك عندما "رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيني صفية خضرة فقال يا صفية ما هذه الخضرة؟ فقالت كان رأسى في حجر ابن أبي حقيق وأنا نائمة فرأيت كأن قمرًا وقع في حجري .. فأخبرته بذلك فلطمني وقال تمنين ملك يثرب؟ قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبغض الناس إلي قتل زوجي وأبي وأخي فما زال يعتذر إلي ويقول. إن أباك ألب علي العرب وفعل وفعل حتى ذهب ذلك من نفسي" (¬1) تلك الاعتذارات والمشاعر بينت لها مدى الفارق بين هذا النبي الكريم وبين زوجها السابق العنيف الذي كان يقودها إلى جهنم وقد "أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى عليه بصفية" (¬2). ثم واصل - صلى الله عليه وسلم - مسيره عائدًا إلى المدينة محاطًا بجيش كالمشاعر .. سلمة ابن الأكوع يتذكر في طريق العودة أخاه الشهيد على أرض خيبر عامر بن الأكوع ويتذكر حداءه الجميل على هذا الطريق وتهيج مشاعره فلا يجد ألطف من النبي - صلى الله عليه وسلم - كي يشاركه تلك المشاعر. فبم رد عليه وماذا فعل سلمة .. ؟ يقول رضي الله عنه "لما كان يوم خيبر قاتل أخي قتالًا شديدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارتد عليه سيفه فقتله فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وشكوا فيه رجل مات في سلاحه وشكوا في بعض أمره قال سلمة ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا في بداية الكتاب. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1543.

فقفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر فقلت يا رسول الله ائذن لي أن أرجز لك فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر ابن الخطاب: أعلم ما تقول فقلت: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت وأنزلن سكينة علينا .. وثبت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا فلما قضيت رجزي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال هذا؟ قلت: قاله أخي .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يرحمه الله .. قال: فقلت: يا رسول الله .. إن ناسًا ليهابون الصلاة عليه يقولون رجل مات بسلاحه .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مات جاهدًا مجاهدًا فله أجره مرتين وأشار بإصبعيه" (¬1). وفي طريق العودة أيضًا لم يكن التعبير عن المشاعر شعرًا فقط .. بل سلوكًا يفيض بالعطف والرحمة. يقول أبو أمامة رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل من خيبر ومعه غلامان فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله .. أخدمنا .. فقال: خذ أيهما شئت فقال: خر لي .. قال: خذ هذا ولا تضربه فإني قد رأيته يصلي مقبلنا من خيبر .. وإني قد نهيت عن ضرب أهل الصلاة وأعطى أبا ذر الغلام الآخر .. فقال: استوص به خيرًا .. ثم قال: يا أبا ذر .. ما فعل الغلام الذي أعطيتك؟ قال: أمرتني أن أستوصى به خيرًا فأعتقته" (¬2) وعندما اقترب الركب من المدينة تدفقت العواطف في كل اتجاه ولما لاح للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبل أحد باح بحبه لمن حوله .. أنس كان ممّن حوله يقول رضي ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1429. (¬2) سنده حسن رواه الإمام أحمد 5 - 258 حدثنا عبد الله حدثنا أبى ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أنا أبو غالب عن أبي أمامة وهذا السند حسن من أجل أبي غالب صاحب أبى أمامة وهو حسن الحديث إذا لم يخالف انظر التقريب 2/ 460 وبقية الرواة أئمة ثقات.

ما الذي حدث لصفية على أبواب المدينة

الله عنه: "فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه" (¬1). لكن القلوب والمطايا تحركت عندما أشرقت بيوتات المدينة كالعاشقات .. في تلك اللحظات أسرع كل شيء نحوها وأسرع أنس وقال: "فلما دنوا من المدينة دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفعنا" (¬2) "فانطلقنا حتى إذا رأينا جدر المدينة هششنا إليها فرفعنا مطينا ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطيته قال وصفية خلفه وقد أردفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (¬3) لكن يبدو أن بعض القلوب المؤمنة لم تكن مشتاقة جدًا لمقدم صفية خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أقصد قلوب حبيباته أمهات المؤمنين المشتاقات إلى كل شيء تحمله الناقة إلا إلى هذه الجميلة التي تزاحمهن على بعيره وقلبه .. لكن شيئًا حدث لصفية شفى بعض غليلهن وغليل خدمهن فـ: ما الذي حدث لصفية على أبواب المدينة يقول أنس رضي الله عنه: "أقبلنا من خيبر أنا وأبو طلحة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفية رديفته قال: فعثرت ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[العضباء وندر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وندرت .. فقام فسترها وقد أشرفت النساء فقلن: أبعد الله اليهودية قلت: يا أبا حمزة أوقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إي والله لقد وقع] .. فصرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصرعت صفية .. فاقتحم أبو طلحة فقال: يا رسول الله جعلني الله فداك أضررت. قال: لا عليك المرأة [إنها أمكم] .. فألقى أبو طلحة على وجهه الثوب فانطلق إليها فمد ثوبها عليها ثم أصلح لها ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 3 - 1059. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 1045. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 1047.

المدينة تعد مفاجأة للنبي (صلى الله عليه وسلم)

رحلها [فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها حتى قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسترها .. قال: فأتيناه .. فقال: لم نضر] .. فركبنا ثم اكتنفناه أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فلما أشرفنا على المدينة أو كنا بظهر الحرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آيبون عابدون تائبون لربنا حامدون فلم يزل يقولهن حتى دخلنا المدينة" (¬1) "فدخلنا المدينة فخرج جواري نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعتها" (¬2) "ثم نظر إلى المدينة فقال اللَّهم إني أحرم ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة اللَّهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" (¬3). كان الجميع بانتظار هؤلاء الفرسان وفتوحاتهم المجيدة .. وكان - صلى الله عليه وسلم - يبادلهم ويبادل مدينتهم الجميلة شوقا وعاطفة .. وكانت: المدينة تعد مفاجأة للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقد فتح النبي - صلى الله عليه وسلم- عينيه على فرحة كفرحة خيبر .. فالذي يقف أمامه الآن حبيب طالما انتظر قدومه .. إنه ابن عمه جعفر بن أبي طالب شقيق على ومعه من تبقى من المهاجرين .. قدموا من الحبشة قبل أيام .. ومعهم من هاجر من اليمن إلى الحبشة أبو موسى الأشعري كان أحدهم .. كانت مفاجاة سارة جدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - عبر عنها بكلمات من مشاعر "جابر بن عبد الله قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أدري بأيهما أنا أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر" (¬4). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 5 - 2224 والامام أحمد بن حنبل 187/ 3 حدثنا عبد الله حدثنى أبي عن يحيى بن أبي إسحاق سمعت أنس وهو طريق البخاري واللفظ لأحمد والزيادة الأولى لمسلم 2 - 1045 والثانية للبخاري والثالثة لمسلم 2 - 1047. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 1047. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 3 - 1059. (¬4) حديثٌ حسنٌ رواه الحاكم 2 - 681 و 3 - 233 من طريق أجلح عن الشعبى عن جابر =

الصحابة كلهم فرحوا بمقدم إخوانهم من بلاد الغربة والمعاناة .. وقد قدر عليه السلام تلك المعاناة وأحب أن يرحب بهم بطريقة تخفف شيئًا من فقرهم ومعاناتهم فميزهم عن غيرهم بعطاء كريم .. يقول أحدهم وهو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه "بلغنا مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم، إما قال بضعًا وإما قال ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي .. فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشى بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده .. فقال جعفر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنا ها هنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا .. فوافقنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال: أعطانا منها .. وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئًا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم فكان ناس من الناس يقولون لنا يعني لأهل السفينة نحن سبقناكم بالهجرة" (¬1) إلى المدينة .. وكأنهم يعنون أنهم أولى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء المبحرين من أرض إفريقيا السخية .. وكان أبرز من قال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. قالها مُرحَّبًا ومُمازحًا زوجة جعفر بن أبي طالب المهاجرة العظيمة: أسماء بنت عميس التي تزور الآن ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها .. لكن تلك المداعبة حركت داخل أسماء آمالًا بتثمين مرارة الغربة ومعاناة التشرد في سبيل الله .. فليس هناك من تشكو إليه عمر سوى النبي عليه السلام .. ¬

_ = وقد جاء من مرسل الشعبى عند غيره بسند صحيح إلى الشعبي وله شواهد لا تخلو من ضعف وعند الطبراني بسند لا بأس به 22 - 100 عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه وروي بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها في الإخوان 179 وقد فصلت تخريجه في الموسوعة وصحيح الموسوعة. (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 4 - 1946.

مهاجرة تشكو عمر

وليس هناك من يشفى غليلًا بداخلها سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. توجهت إليه فكانت هذه القصة المنسوجة بالشكوى والسفر مهاجرة تشكو عمر يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: "دخلت أسماء بنت عميس -وهي ممّن قدم معنا- على حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشى فيمن هاجر .. فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها .. فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس .. قال عمر: آلحبشية هذه آلبحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم. فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم .. وكنا في دار -أو في أرض- البعداء البغضاء بالحبشة .. وذلك في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. وأيم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ونحن كنا نؤذى ونخاف .. وسأذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسأله .. والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه .. فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا نبي الله .. إن عمر قال كذا وكذا قال: فما قلت له؟ قالت: قلت له كذا وكذا. قال: ليس بأحق بى منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان. قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالًا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- .. قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث منى" (¬1) والبشرى تملأ قلبه وروحه .. فالإِسلام لا يغفل دور مسلم مهما كان هذا المسلم ضعيفًا مغلوبًا على أمره مادامت معاناته في الله .. فقد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1546.

"رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلًا على من دونه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" (¬1) وعمر رضي الله عنه لم يكن يتحدث عن نفسه فقط .. كان يتحدث عن أبي بكر وعثمان وعلي وطلحة وغيرهم من المهاجرين الذين كابدوا ما كابدوا في سبيل الله وبذلوا ما بذلوا في بدر وأحد والخندق وخيبر .. كان عمر يتحدث عن أهل بيعة الرضوان أما سعد رضي الله عنه فقد رأى في قتاله وهجرته تفوقًا على ذلك الصحابي الضعيف .. فكان للإسلام ميزان أدق لا يغفل فيه أي شيء ولا سيما تلك الأشياء التي يفضل البعض أن يحولها إلى أسرار حميمة فيما بينهم وبين الله فقط .. ويرفضون أن يفسد أحد تمتعهم بتلك الأجواء الحميمة مع الله .. ذات يوم "مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، ثم سكت فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع ... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" (¬2). لكن النبي عليه السلام يقدم درسًا مجانيًا لمن كلف نفسه توجيه النقد للناس محاولًا التسلل بينهم وبين الله .. جاعلًا من البغض في الله نوافذ يخرج من خلالها نشازًا داخل نفسه .. أحد الصحابة يتحدث عن ذلك فيقول: "إن رجلًا مر على قوم فسلم عليهم فردوا عليه السلام .. فلما جاوزهم قال رجل منهم: والله إني لأبغض هذا في الله .. فقال أهل المجلس: بئس والله ما قلت .. أما والله لتنبئنه .. قم يا فلان -رجلًا منهم- فخبره .. قال: فأدركه رسولهم .. فأخبره بما قال .. فانصرف الرجل حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 3 - 1061. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 5 - 1958.

رسول الله .. مررت بمجلس من المسلمين فيهم فلان فسلمت عليهم فردوا السلام فلما جاوزتهم أدركني رجل منهم فأخبرني أن فلانًا قال: والله أني لأبغض هذا الرجل في الله فادعه فسله على ما يبغضني. فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عما أخبره الرجل .. فاعترف بذلك وقال: قد قلت له ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلم تبغضه .. قال: أنا جاره وأنا به خابر والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه الصلاة المكتوبة التي يصليها البر والفاجر .. قال الرجل: سله يا رسول الله هل رآني قط أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها أو أسأت الركوع والسجود فيها .. فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: لا .. ثم قال: والله ما رأيته يصوم قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر. قال: فسله يا رسول الله هل رآني قط أفطرت فيه أو انتقصت من حقه شيئًا .. فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: لا .. ثم قال: والله ما رأيته يعطى سائلًا قط ولا رأيته ينفق من ماله شيئًا في شيء من سبيل الله بخير إلا هذه الصدقة التي يؤديها البر والفاجر. قال: فسله يا رسول الله هل كتمت من تلك الزكاة شيئًا قط أو ماكست فيها طالبها .. فسأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: لا .. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قم إن أدري لعله خير منك" (¬1) لأن الشعور بالتفوق على الآخرين مهما كان رصيده من الظاهر والباطن .. لا يجيز لصاحبه التطاول على الآخرين وانتقاصهم تحت أي مبرر .. فالحكم على الآخرين من خلال ظواهرهم غير دقيق إلا في حالة فساد الظاهر فسادًا ينم عن عفن الباطن .. وهناك فرقٌ بين الحكم على الشخص والحكم على سلوك صادر عنه .. الشعور بالتفوق قد يدخل في الكبر .. والكبر شيء خطير .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الإمام أحمد ج455/ 5 عن شيخه أبى كامل مظفر بن مدرك ثنا إبراهيم ابن سعد ثنا ابن شهاب عن أبى الطفيل وهذا السند صحيح: أبو كامل ثقة من رجال التقريب 2 - 255 وشيخه ثقة حجة من رجال الشيخين التقريب1 - 35.

المهاجرون يردون الجميل بالوفاء

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحاول المحافظة على ما أنجزه الإِسلام من مساواة وتلاحم .. وكان المهاجرون والأنصار هم النموذج البشري الصرف الذي قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للعالم .. لقد قدم الأنصار الكثير فماذا فعل أخوتهم المهاجرون بعد غزوة خيبر؟ المهاجرون يردون الجميل بالوفاء يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (لما قدم المهاجرون من مكة المدينة؛ قدموا وليس بأيديهم شيء وكان الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة وكانت أم أنس بن مالك وهي تدعى أم سليم أعطت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذاقًا لها فأعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد). قال أنس ابن مالك (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى الدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمي عذاقها وأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أيمن مكانهن من حائطه) (¬1) وقد حسن فتح خيبر من مستوى التغذية لدى المسلمين فأصبحوا كما يقول ابن عمر رضي الله عنهما "ما شبعنا حتى فتحنا خيبر" (¬2) أي ما شبعنا من التمر فقط .. ومع هذه الحاجة والفقر كان الإِسلام يقدم ثقافة متحضرة لأتباعه حتى لا تزعزع المادة توازن الإنسان .. فالفتوح قادمة والوعود كشمس الغد مشرقة لا محالة .. وإذا لم يتهيأ المسلم بثقافة التوازن فسوف يجد نفسه مجرد رقم على سطح الأرض .. يقول أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما: "إن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1391. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1550.

بث السرايا من جديد

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلًا على خيبر فجاءه بتمر جنيب فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أكل تمر خيبر هكذا فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين بالثلاثة فقال: لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" (¬1) لأن التمر من الأموال التي يحدث فيها الربا وقد "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬2) فالربا ممر يعبر من خلاله الاستغلال والفقر وانهيار الأخلاق والاقتصاد .. وهو جشع قديم يتجدد كلما غفت الأخلاق ونهضت الغرائز العمياء داخل الإنسان .. والنبي عليه السلام يريد ردم هذا الممر الخطير على دولته وشعبه .. كما يريد ردم أي ممر يعبر منه خطر إلى دولته الجديدة بالتوحيد .. لذلك عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى بث السرايا من جديد فأمام النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمة طويلة بالمهمات الملحة والمخاطر والأزمات التي يتحتم عليه علاجها والقضاء عليها بعد كسر شوكة الخيانة اليهودية وتحييد قريش وحلفائها .. ففي الجزيرة العربية بؤر للإرهاب لا تخضع لدولة ولا لنظام قائم ولا لمفاوضات أو شروط ولا حتى لعرف أو شرف .. هناك جماعات إرهابية تعيش خارج التاريخ الذي بدأ - صلى الله عليه وسلم - يكتبه بالتوحيد والإِسلام .. وقد حان الوقت لتأديبها والقضاء عليها .. وهى وإن كانت صغيرة إلا أنها مزعجة ومؤلمة ومعيقة للمد الإسلامى .. وهى تلوث الجزيرة والدنيا بالشرك وقطع الطريق ووأد البنات والنهب والسلب والقتل والفوضى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1550. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1211.

وإرعاب القوافل والمدن .. وهذا هو أنسب وقت للتخلص منها أو من معظمها .. لذلك يتحتم عدم إهدار فرصة السلام مع قريش لتأمين ممرات المسافرين والتجار والحجاج .. وتأمين حدود المدينة وفرض هيبتها ووجودها في ظل هذه الأوضاع المتدهورة في الجزيرة العربية .. لذلك نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - سرايا للقيام بتلك المهمات .. وقد لخص -صلى الله عليه وسلم- مطالبه من أولئك الأعراب برسالة حملها أعرابي إلى من تسول له نفسه إعادة الجزيرة إلى همجية الجاهلية .. وقد بقيت تلك الرسالة في خرج ذلك الأعرابي زمنًا طويلًا .. رجل اسمه: يزيد بن الشخير يتحدث عن تلك الرسالة فيقول: "كنا جلوسًا بهذا المربد بالبصرة فجاء أعرابي معه قطعة أديم أو قطعة من جراب فقال هذا كتاب كتبه لي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذته فقرأته على القوم فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني زهير بن أقيش إنكم إن أقمتم الصلاة .. وآتيتم الزكاة .. وأعطيتم من المغانم الخمس وسهم النبي والصفي .. فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله" (¬1). ولعل من أهم تلك السرايا سرية مهمتها تأديب فزارة الذين أغاروا على المدينة وسرقوا ما سرقوا مستغلين تواجد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أرض الحديبية لكن وصول سلمة بن الأكوع ساهم في إفشال ذلك السطو المسلح على المدينة .. وقد أرجأ - صلى الله عليه وسلم - تأديبهم إلى حين عودته من خيبر ثم كلف صاحبه أبا بكر الصديق رضي الله عنه بقيادة وتنفيذ: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن أبي شيبة 7 - 349 وغيره من طريق عن قرة بن خالد السدوسى عن يزيد بن عبد الله بن الشخير وقرة ثقة ضابط - التقريب 2 - 125 ويزيد تابعى ثقة ولد في عهد عمر رضي الله عنه.

غزوة فزارة

غزوة فزارة وقد شارك في هذه الغزوة سلمة بن الأكوع فارس تلك الغزوة السابقة المسماة (ذات قرد أو الغابة) .. وهو فارس بمقاييس جيش .. وهو الآن يتحدث عن تأديب قطاع الطرق للمرة الثانية بعد أن أدب طلائعهم في الغابة .. يقول رضي الله عنه: "غزونا فزارة وعلينا أبو بكر أَمَّرَهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرسنا ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبى وأنظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما رأوا السهم وقفوا فجئت بهم أسوقهم وفيهم امرأة من بنى فزارة عليها قشع من أدم -القشع النطع- معها ابنة لها من أحسن العرب فسقتهم حتى أتيت أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبًا فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السوق فقال يا سلمة هب لى المرأة فقلت يا رسول الله والله لقد أعجبتنى وما كشفت لها ثوبًا ثم لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغد في السوق فقال لي يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك فقلت هي لك يا رسول الله فوالله ما كشفت لها ثوبًا فبعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة ففدى بها ناسًا من المسلمين كانوا أسروا بمكة" (¬1) وهو لا يعني بكلمة أسروا أن أسرهم كان عن طريق الحرب .. إنما يقصد أولئك المسلمين المستضعفين الذين منعوا قهرًا من الهجرة إلى نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .. وقد استحقت فزارة ما أصابها من جيش أبي بكر فقد شاركوا قريشًا في معركة الخندق كجزء من غطفان .. ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بالإغارة على المدينة وسرقوا وقتلوا .. وهذا النوع من الإرهاب وقطع الطريق ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1375.

سرية من أربعين رجلا وامرأة تقود قومها إلى الإسلام

خارج عن نطاق العقل .. ولا تجدي مع هذه الهمجية أساليب الحوار ولا تنقاد لحق إلا بعد كسر شوكتها .. أما من لم يتعرض لدولة الإِسلام بشر فلن يتعرض له أحد .. بل سيجد من دولة التوحيد وجيشها صدورًا مفتوحة وأخلاقًا رفيعة آسرة كما حدث في هذه السرية التي قادها عليه السلام بنفسه .. وكانت: سرية من أربعين رجلًا وامرأة تقود قومها إلى الإسلام سرية مثيرة كلها دعوة ومعجزات .. أحد فرسانها صحابي جليل اسمه عمران بن حصين وهو يقول: "كنت مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له فأدلجنا ليلتنا حتى إذا كان في وجه الصبح عرسنا فغلبتنا أعيننا حتى بزغت الشمس .. فكان أول من استيقظ منا أبو بكر وكنا لا نوقظ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من منامه إذا نام حتى يستيقظ ثم استيقظ عمر فقام عند نبي الله - صلى الله عليه وسلم -[فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس وكان رجلًا جليدًا فكبر ورفع صوته بالتكبير فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير] حتى استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت قال: ارتحلوا. [فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله .. فاتتنا الصلاة فقال: لم تفتكم، ثم أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركبوا] فسار بنا حتى إذا ابيضت الشمس نزل [ونزلوا معه وكأنه كره أن يصلي في المكان الذي نام فيه عن الصلاة ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ائتوني بماء، فأتوه بجريعة من ماء في مطهرة فصبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إناء ثم وضع يده في الماء تم قال لأصحابه: توضؤوا] [ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينادى بالصلاة، فنودي بها ثم قام] فصلى بنا الغداة فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا .. فلما انصرف قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا فلان ما منعك أن تصلى معنا؟ قال: يا نبي الله أصابتني جنابة فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتيمم

بالصعيد فصلى. ثم عجلني في ركب بين يديه نطلب الماء وقد عطشنا عطشًا شديدًا [فأقبل رجلان من أصحابه أحسبه عليًا والزبير أو غيرهما قال إنكما ستجدان بمكان كذا وكذا امرأة معها بعير عليه مزادتان فأتياني بها] فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين فقلنا لها أين الماء قالت: أيهاه .. أيهاه لا ماء لكم قلنا: فكم بين أهلك وبين الماء قالت مسيرة يوم وليلة قلنا انطلقى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: وما رسول الله [ومن رسول الله هذا الصابئ؟ قالا هو الذي تعنين وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] فلم نملكها من أمرها شيئًا حتى انطلقنا بها فاستقبلنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فسألها فأخبرته مثل الذي أخبرتنا وأخبرته أنها موتمة لها صبيان أيتام [فقال على: يا رسول الله بأبي وأمى إنا وجدنا هذه بمكان كذا وكذا .. فسألتها عن الماء فزعمت أن بينها وبين الماء مسيرة ليلة أو زيادة فظننا أن لم نبلغه حتى يهلك منا من هلك .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنيخوا لها بعيرها .. فأناخوا لها بعيرها. فأقبلت عليهم. فقالت: استقيت لأيتام .. وقد احتبست عليهم جدًا .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ائتوني بإناء فجاؤوا بإناء] فأمر براويتها فأنيخت [فقال: افتحوا عزلاء هذه فخذوا منها ماءً يسيرًا ثم افتحوا عزلاء هذه فخذوا منها ماءً يسيرًا أيضًا .. ففعلوا ثم إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا فيه وغمس يده فيه فقال افتحوا لي أفواه المزادتين ففتحوا فحثا في هذه قليلًا وفي هذه قليلًا] فمج في العزلاوين العلياوين ثم بعث براويتها فشربنا ونحن أربعون رجلًا عطاشًا حتى روينا وملأنا كل قربة معنا وإداوة وغسلنا صاحبنا غير أنا لم نسق بعيرًا وهي تكاد تنضرج من الماء يعني المزادتين [ثم قال أسقوا ظهركم فسقوا الظهر حتى روي ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هاتوا ما كان لكم من قربة أو مطهرة فاملؤوها فجاؤوا بقربهم ومطاهرهم فملؤوها ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شدوا عزلاء هذه وعزلاء هذه ثم قال:

ابعثوا البعير فبعثوها فنهضت وإن المزادتين لتكادان تفطان من ملئهما ثم اتخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كساء المرأة] ثم قال هاتوا ما كان عندكم فجمعنا لها من كسر وتمر وصر لها صرة فقال لها اذهبي فأطعمى هذا عيالك واعلمي أنا لم نرزأ من مائك [قال خذي هذا لأيتامك وهذا ماءك وافرًا فجعلت تعجب مما رأت ثم انطلقت حتى أتت أهلها فقالوا: قد احتبست علينا فما حبسك] فلما أتت أهلها قالت لقد لقيت أسحر البشر أو إنه لنبي كما زعم كان من أمره ذيت وذيت [أرأيتم مزادتي هاتين فوالله لقد شرب منهما] [وأخذوا من القرب والمزاد والمطاهر ما لا أحصي ثم إنهما الآن أوفر منهما يومئذ فلبثت شهرًا أو نحوًا من ذلك] فهدى الله ذاك الصرم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا [ثم أقبلت في ثلاثين راكبًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] " (¬1) فاستقبلها بالقلب الذي يستقبل به كل حبيب مهاجر إلى مدينة التوحيد .. وقدم لأصحابه طرازًا نسويًا رفيع المستوى .. امرأة تتسلل إبداعًا في عقول قومها وتمحو ذاكرة وثنية متخثرة موغلة في القدم .. ثم تقنعهم بالمسير معها في رحلة ممتعة نحو مدينة الوعي الجديد بعد شهر من نشر التوحيد في بيوتات قومها .. إنجاز غير مسبوق للمرأة في زمن قياسي مدهش لم ينجزه سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. والمرأة قادرة على أكثر من ذلك لكن ذلك مشروط بقدرتها على التخلص من عقد القصور والاضطهاد والأنوثة التي تتذرع بها للتفلت ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 474 والزيادة الأولى عند البخاري 1 - 131 والزيادة الثانية والثالثة والسادسة وما بعدها عند البيهقي في الدلائل 4 - 279 وهي زيادة قوية الإسناد والزيادة الرابعة والخامسة في سنن البيهقي الكبرى 1 - 32 وقد رواها من طريقين قويين عن عبد الرزاق حدثنا معمر عن عوف عن أبي رجاء عن عمران وعبد الرزاق عن معمر سند صحيح وباقي السند: سند الشيخين.

درس في حدود طاعة الأمراء

من مسؤولياتها .. حيث يأتي الوعى والتحرر بالإِسلام في مقدمة تلك المسؤليات .. في تلك الغزوة لم تؤخذ تلك المرأة سبية .. ولم تجد من ذلك الجيش إلا ما يسرها ويفرح أيتامها لأنها لم تمارس أي شيء ضد الدولة الإِسلامية .. حتى ذلك الماء الذي كانت تحمله لم يؤخذ منه قطرة واحدة .. بل لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - غيمة كرم ظللتها عندما أمر صحابته بتزويدها بالطعام وهم في أمس الحاجة إليه تعبيرًا عن مواساته لها ولظروفها العائلية وما تعول من أيتام .. وإذا كانت تلك السرية عادت محملة بالمشاعر والعطايا والإيمان .. فإن هناك سرايا عادت ببعض الكدر رغم تنفيذها لمهماتها المناطة بها .. وتلك طبيعة البشر التي يفترض فيها الصواب والخطأ .. لكن تلك الأخطاء قدمت دروسًا في العقيدة والفكر. درس في حدود طاعة الأمراء سرية بعثها -صلى الله عليه وسلم- وعيَّن أحد الأنصار أميرًا عليها: يقول "علي رضي الله عنه بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية فاستعمل عليها رجلًا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب فقال: أليس أمركم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني؟ قالوا: بلى .. قال: فاجمعوا لي حطبًا .. فجمعوا .. فقال: أوقدوا نارًا .. فأوقدوها .. فقال: ادخلوها فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضًا ويقولون: فررنا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من النار .. فما زالوا حتى خمدت النار .. فسكن غضبه .. فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1577.

وقد كرر هذه الأوامر أحد المهاجرين ممازحًا فرقته .. هذا المهاجر يدعى عبد الله بن حذافة السهمي وهو الآن في سرية تحت إمرة صحابي اسمه: علقمة ابن مجزز يقول "أبو سعيد الخدري إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم فلما انتهى إلى رأس عرانة أو كان ببعض الطريق استأذنته طائفة من الجيش .. فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله ابن حذافة بن قيس السهمي .. فكنت فيمن غزا معه فلما كان ببعض الطريق أوقد القوم نارًا ليصطلوا أو ليصنعوا عليها صنيعًا .. وقال عبد الله كانت فيه دعابة: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى .. قال: فما أنا آمركم بشيء إلا صنعتموه .. قالوا: نعم .. قال: فإني أعزم عليكم إلا تواثبتم في هذه النار .. فقام ناس فتحجزوا .. فلما ظن أنهم واثبون قال: أمسكوا على أنفسكم فإنما أمزح معكم .. فلما قدمنا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه" (¬1). فليس الحاكم أو الأمير أو القائد نائبًا عن الله ولا متحدثًا باسمه وليس له من صلاحيات التشريع والتحليل والتحريم ما يحلل به حرامًا أو يحرم حلالًا .. حتى في بيت المال المنثور بين يديه يقول - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب شيئًا خطيرًا .. ها هو علي يحدث به رجلًا يطالبه بشيء من الرفاهية في المائدة على الأقل .. اسم هذا الرجل: عبد الله بن زرير وهو يقول: "دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الأضحى فقرب إلينا خزيزة (¬2) فقلت أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط يعني الوز فإن الله عَزَّ وَجَلَّ قد أكثر الخير فقال يا ابن زرير إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه ابن أبي شيبة6 - 544 وغيره من طريق محمَّد بن عمرو عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن أبي سعيد الخدري وعمر بن الحكم تابعى صدوق .. التقريب 2 - 53 وتلميذه حسن الحديث إذا لم يخالف وهو من رجال الشيخين .. التقريب 2 - 196. (¬2) الخزيز طعام متواضع كالعصيدة.

سرايا تحدد صلاحيات المجاهد المسلم

لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان قصعة يأكلها هو وأهله وقصعة يضعها بين يدي الناس" (¬1) وإذا كانت هذه السرية قد بينت حدود نفوذ القائد فإن هناك: سرايا تحدد صلاحيات المجاهد المسلم فهو لم يخرج من بيته وبلاده ليملأ بطنه أو جيبه ولم يخرج ليرضي غرورًا تراقص في رأسه .. هو محارب مميز بين كل المحاربين .. لم يخرجه من بيته سوى شيء واحد: أن تكون كلمة الله هي العليا .. ولكى يكون هذا الهدف نقيًا بين جوانحه عليه -قبل أن يخرج- أن يدفن تحت بوابة مدينته أشياء كثيرة منها: المال والشهرة والهوى والرغبة في الانتقام للنفس و .. و .. لكى يتفرغ لشئ واحد هو إعلاء التوحيد لا فرضه بالقوة .. فإذا لم يتمكن من دفن تلك الأشياء فإنها ستنغص عليه جهده وجهاده إن لم تحوله إلى رماد لا قيمة له .. أخطاء كثيرة وقع فيها بعض الصحابة رضي الله عنهم .. لكن فعلهم ذلك لا يحسب على الإِسلام إنما يحسب عليهم أنفسهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حيًا آنذاك وقد قام بتصحيح تلك الأخطاء التي قد يبرر من بعدهم لنفسه ممارستها متجاهلًا حكم الإِسلام فيها ممثلًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .. من هذه الأخطاء معجزة حدثت بعد إحدى السرايا معجزة مزلزلة .. الأرض تلفظ جسد أحد المجاهدين قصة تعيد الصواب للمتهورين الوالغين بدماء الأبرياء .. قصة يرويها "جندب بن سفيان رجل من بجيلة قال إني عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه ¬

_ (¬1) صحيح الجامع الصغير وقد ذكر لفظ النبي-صلى الله عليه وسلم- فقط وهو عند أحمد 1 - 78.

بشير من سرية بعثها .. فأخبره بنصر الله الذي نصر سريته وبفتح الله الذي فتح لهم .. قال: يا رسول الله .. بينما نحن بطلب العدو وقد هزمهم الله إذ لحقت رجلًا بالسيف فلما أحس أن السيف قد واقعه التفت وهو يسعى .. فقال: إني مسلم إني مسلم .. فقتلته .. وإنما كان يا نبي الله متعوذًا. قال: فهلَّا شققت عن قلبه فنظرت صادق هو أو كاذب. قال: لو شققت عن قلبه ما كان يعلمني القلب هل قلبه إلا مضغة من لحم؟ قال: فأنت قتلته، لا ما في قلبه علمت، ولا لسانه صدقت. قال: يا رسول الله .. استغفر لي .. قال: لا أستغفر لك .. فدفنوه فأصبح على وجه الأرض ثلاث مرات .. فلما رأى ذلك قومه استحيوا وخزوا مما لقي فحملوه فألقوه في شعب من تلك الشعاب" (¬1). لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم فيما بعد .. أخبره أحدهم بما حدث فكان في تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوجيهه شيئًا يستعيد الأمل لذلك الفارس الذي رفضته أحضان الأرض .. يقول عمران بن حصين رضي الله عنه وقد كان شاهدًا على ما حدث: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فحمل رجل على رجل من المشركين فلما غشيه بالرمح قال إني مسلم فقتله ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أذنبت فاستغفر لي .. قال: وما ذاك؟ قال: حملت على رجل من المشركين فلما ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه أبو يعلى 3 - 1 حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثني عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب حدثني جندب .. وهذا السند صحيح لولا كثرة أوهام شهر بن حوشب لكن الحديث صحيح فقد رواه عبد الرزاق 10 - 173 عن معمر عن الزهري عن عبد الله بن موهب عن قبيصة .. عبد الله تابعى ثقة -التقريب-1 - 455 والزهري ومعمر ثقتان معروفان مرا معنا كثيرًا وقبيصة من أولاد الصحابة وله رؤية وهو من رجال الشيخين .. وللحديث شاهد صحيح عند الطبراني وهو ما بعده.

في سرية الحرقات أسامة يقتل رجلا يقول لا إله إلا الله

غشيته بالرمح قال: إني مسلم فظننت أنه متعوذ .. فقتلته .. فقال: هلا شققت عن قلبه حتى يستبين لك؟ قال ويستبين لي يا رسول الله؟ قال: قد قال لك بلسانه فلم تصدقه على ما في قلبه. فمات الرجل فدفناه فأصبح على وجه الأرض فأمرنا غلماننا فحرسوه فأصبح على وجه الأرض .. فقلنا: غفلوا .. فحرسناه .. فأصبح على وجه الأرض .. فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه فقال: أما إنها تقبل من هو شر منه .. ولكن الله أراد أن يعلمكم تعظيم الدم .. ثم قال: اذهبوا به إلى سفح هذا الجبل فانضدوا عليه من الحجارة ففعلنا" (¬1). وهذه سرية أخرى يأذن - صلى الله عليه وسلم - لحبه أسامة بن زيد بالانضمام إليها بعد بلوغه .. لكن حماس أسامة والشباب المتقد تحت ثيابه جعله يتمادى في إعطاء فروسيته ما ليس لها .. فكانت زلة عمره التي لم يستطع نسيانها طوال حياته .. وندمه الذي لم يقو على الهروب منه. في سرية الحرقات أسامة يقتل رجلًا يقول لا إله إلا الله ولما عاد إلى المدينة أحس بتأنيب الضمير وزاحم أنفاسه شعور بالذنب .. ولم يكن له ملاذ سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبوح له بما في نفسه ويصحح به سلوكه ذلك إن كان مخطئًا .. يقول رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبراني في المعجم الكبير 18 - 226 حدثنا بشر بن موسى ثنا محمَّد ابن سعيد الأصبهاني ثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن السميط بن سمير عن عمران بن حصين .. السميط تابعى صدوق من رجال مسلم .. التقريب 1 - 334 وتلميذه تابعي ثقة .. التقريب 1 - 384 وحفص ثقة فقيه من رجال الشيخين .. التقريب 1 - 189 ومحمَّد بن سعيد الملقب بـ (حمدان) ثقة ثبت من رجال البخاري .. التقريب 2 - 164 أما شيخ الطبراني فهو ثقة نبيل انظر البلغة (111) والحديث شاهد لما سبق.

"بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك .. فذكرته للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من السلاح .. قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ" (¬1) لهول ما ارتكبه على نفسه .. أسامة هو حبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحمله بين يديه إلى المسجد .. أسامة الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يطهر جرحه بفمه العطر .. ويوصى به عائشة رضي الله عنها قائلًا "يا عائشة أحبيه فإني أحبه" (¬2) أسامة الذي يتحدث بنفسه عن مساحته داخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن على فخذه الآخر ثم يضمهما ثم يقول اللَّهم ارحمهما فإني أرحمهما" (¬3) .. كل هذا الحب لا يبرر لأسامة ذلك الخطأ ولا يمنحه حق التحدث عن أسرار القلوب والنوايا .. فالمتحدث الرسمي لجميع القلوب هو الوحي والوحي فقط .. فإذا لم يكن ثم وحي فالقلب هو ما أمامك لا ما تسافر بك الظنون إليه .. ها هو أحد الصحابة واسمه عتبان بن مالك يعاني من أمرين .. الأول مرض يكبل جسده عن الوصول إلى المسجد .. والأمر الآخر: رجل كثرت مضايقته للصحابة لدرجة جزم بها بعضهم أنه من المنافقين .. فكان لا بد من تسليم هذه الحيرة الغامضة بثقلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فماذا فعل عتبان وماذا فعل أصحابه الذين يتمنون؟ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 96. (¬2) حديثٌ حسنٌ مر معنا انظر صحيح الترمذيُّ للإمام الألباني رحمه الله وأسكنه فسيح جناته 4098. (¬3) صحيح البخارى 5 - 2236.

اغتيال المنافقين

اغتيال المنافقين (يقول رضي الله عنه: أصابني في بصري بعض الشيء فبعثت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى .. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن شاء الله من أصحابه فدخل وهو يصلي في منزلي وأصحابه يتحدثون بينهم ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم قالوا: ودوا أنه دعا عليه فهلك وودوا أنه أصابه شر فقضى رسول الله الصلاة وقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه .. قال -صلى الله عليه وسلم-: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه) (¬1) وإذا كان هناك من الصحابة من ألجمه الحلم عن التهور فاكتفى بطلب الدعاء على مالك بن دخشم .. فإن هناك من الحماس ما جعل أحد الصحابة يحمل سيفه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - كي يأذن له بالقضاء على رجل يجزم بنفاقه .. : شاهده صحابي اسمه عبيد الله بن عدي وتحدث عنه فقال: "إن رجلًا سارَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ندر ما ساره به حتى جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يستأمر في قتل رجل من المنافقين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولا شهادة له .. قال: أليس يصلي؟ قال: بلى ولا صلاة له .. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" (¬2) وماذا بعد أولئك الذين تتفوه أعمالهم بأشياء فظيعة .. لا شيء سوى أن المسلم غير معني باقتفاء مواطئ القلوب ولا مراميها. .. هو معني بتجديد الحياة بالإسلام .. بالبحث عن الخصوبة وإثراء ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 61. (¬2) صحيح مسلم 1 - 61.

سرية الاثنى عشر شهيدا

سهولها بالجديد .. لا بالوقوف أمام العقم وإهدار العمر في التحسر عليه .. أما النتائج فهو أكبر من أن يصر على أن تمثل بين عينيه قبل أن يمثل أجله .. إن جاءت فيا لها من نتائج وإن تأخرت فقد سبقها إلى ما هو أبهى وأبقى كما سبق هؤلاء الفرسان غيرهم من الأحياء .. فرسان: سرية الاثنى عشر شهيدًا ففي المدينة وبينما كانت إحدى النساء مسافرة في منامها شاهدت في طريق الأحلام رحلة هؤلاء الشهداء إلى الجنة .. يقول أنس رضي الله عنه "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجبه الرؤيا الحسنة فربما قال هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فإذا رأى الرجل رؤيا سأل عنه فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه إليه فجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله .. رأيت كأني دخلت الجنة فسمعت بها وجبة ارتجت لها الجنة فنظرت فإذا قد جيء بفلان بن فلان وفلان بن فلان حتى عدَّتْ اثنى عشر رجلًا -وقد بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية قبل ذلك- فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم فقيل: "اذهبوا بهم إلى نهر السدخ أو قال: إلى نهر البيدج .. فغمسوا فيه فخرجوا منه وجوههم كالقمر ليلة البدر .. ثم أتوا بكراسي من ذهب فقعدوا عليها وأتى بصحفة أو كلمة نحوها فيها بسرة فأكلوا منها فما يقلبونها لشق إلا أكلوا من فاكهة ما أرادوا وأكلت معهم .. فجاء البشير من تلك السرية فقال: يا رسول الله .. كان من أمرنا كذا وكذا وأصيب فلان وفلان حتى عد الاثني عشر الذين عدتهم المرأة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عليَّ بالمرأة فجاءت قال قُصِّي على هذا رؤياك فقصت قال هو كما قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-) (¬1). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الإمام أحمد 3 - 135 ثنا بهز ثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس =

غزوة ذات الرقاع الثانية

وهذا هو الهدف والنتيجة الأسمى والأهم في حركة المؤمن حتى الموت .. سافر أولئك الشهداء إلى النعيم وبقي من بقى من رفاقهم ينتظرون الحصول على مقعد في تلك الرحلة الحلم .. ولعل من أكثرهم شوقًا أولئك الذين عبروا الصحاري والبحار مهاجرين من الحبشة واليمن .. حيث كانت إحدى السرايا تنتظرهم في رحلة لا تقل عن معاناتهم السابقة .. سرية لدى أبي موسى سر تسميتها بـ: غزوة ذات الرقاع الثانية يقول رضي الله عنه: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه قال فنقبت أقدامنا فنقبت قدماي وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق" (¬1) لكن أبا موسى ندم على ذكر معاناته خشية أن يعكر ذلك الحديث صفاء نيته .. حيث يقول ابنه "أبو بردة فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك قال كأنه كره أن يكون شيئًا من عمله أفشاه" (¬2) وذات الرقاع هذه تختلف عن غزوة ذات الرقاع السابقة لأن تلك الغزوة سميت هكذا لمرور الجيش بمكان يقال له ذات الرقاع .. ومن سياق تلك الغزوة يتبين أن العدد كان أكثر من ستة بكثير كما أن الجمال هناك كانت متوفرة لأن جابرًا كان طوال الرحلة يركب جمله الهزيل الذي ¬

_ = وحدثنا أبو النضر ثنا سليمان المعنى وهذا السند صحيح سليمان ثقة انظر التقريب 1 - 330 وشيخه هو ابن أسلم البناني تابعى ثقة سمع من أنس .. التهذيب والتقريب 1 - 115. (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1449 والبخاريُّ 4 - 1513. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1449 والبخاريُّ 4 - 1513.

غزوة نجد

اشتراه منه النبي - صلى الله عليه وسلم - .. كما أن جابرًا رضي الله عنه كان قد تزوج حديثًا أي بعيد وفاة والده رضي الله عنه .. ولم يعلم - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلا بعد أن أخبره جابر .. أما هذه الغزوة فسماها أبو موسى والستة الذين معه رضي الله عنهم هذا الاسم لقلة الأحذية وهى سرية صغيرة ولم يحدد أبو موسى وجهتها .. لكن أبا هريرة رضي الله عنه يحدد وجهة جيش شارك فيها .. بل لقد سماها بـ: غزوة نجد وقد جرت في هذه الغزوة أحداث أثارت تساؤل أحد الرجال الذين سألوا أبا هريرة فقالوا له: "هل صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة نعم. قال متى؟ قال كان عام غزوة نجد فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العصر وقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو ظهورهم إلى القبلة فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبروا معه جميعًا الذين معه والذين يقابلون العدو ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مما يلي العدو ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقامت الطائفة التي تليه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعة أخرى فركعوا معه وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلموا جميعًا فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان" (¬1) كانت تلك الغزوات تأديبًا للمعتدين وتأمينًا لطرق التجار ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه النسائي 3 - 173 وابن خزيمة 2 - 301 من طريق عبد الله بن يزيد المقري =

عمرة القضاء

والحجاج وحدود دولة الإِسلام التي تريد فرض هيبتها على من لا يؤمنون بأخلاقيات الجوار ولا رصيد عندهم لمفهوم العهود والمواثيق .. وبدأ الجميع ينعمون بأمن الطرق بعد تلك السرايا الناجحة إلا قوافل قريش ... فأبو جندل وأبو بصير ورفاقهما المشردون في البراري الممنوعون من حق العيش بأمان في دولتهم وبين أحبتهم في المدينة .. والذين مارست قريش أقصى حالات التطرف في مصادرة حرياتهم .. كان هؤلاء يمارسون عنفًا مضادًا لكنه كان منضبطًا وموجهًا بدقة نحو سبب معاناتهم فقط دون غيره .. هذا الهدف المحدد هو قريش وقوافلها .. فقد أغلقت قريش أبواب الأرض دونهم حتى منعتهم من دخول المدنية .. وهذا العنف يبرأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منه دولته لكنها لا تمنعه لأنه صراع من أجل البقاء والكرامة .. هو دفاع عن النفس وجزاء من جنس العمل لا أكثر ولا أقل .. مرت هذه الأحداث وغيرها ومرت الأيام والشهور فإذا عام كامل يكاد ينصرم .. وهذا يعني اقتراب نهاية عام على تاريخ عمرة الحديبية التي لم يتمكن المؤمنون من أدائها بعد أن منعتهم قريش وطلبت منهم العودة بعد عام .. وها هو الموعد يقترب والنبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بالتهيئ للتوجه لأداء: عمرة القضاء أي العمرة البديلة لعمرة الحديبية حسب اتفاق الطرفين .. ولها استعد المسلمون وسط ظروف معنوية مرتفعة بفتح خيبر وعودة المهاجرين من ¬

_ = قال حدثنا حيوة وذكر آخر قالا حدثنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة وهذا إسنادٌ صحيحٌ عبد الله ثقة فاضل التقريب 1 - 462 وحيوة ثقة التقريب 1 - 208 وأبو الأسود هو الشهير بيتيم عروة محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل ثقة التقريب 2 - 185.

الحبشة .. أما المشركون فيعانون من الإحباط الشديد فمحمد يستولي على خيبر ودولته تتعاظم كل ثانية وسمعته سحابة عطر تطوف الجزيرة .. وأبو جندل ومن معه يقضون مضاجع قريش وقوافلها .. وقوائم ضحايا أبي بصير وأبي جندل تصل إلى قريش محملة بالنواح والعويل والندم على ذلك الشرط المكتوب بالغطرسة الوثنية .. وتسير قافلة المؤمنين ملتزمة بشروط قريش التي تقول: "لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه وأن لا يمنع من أصحابه أحدًا إن أراد أن يقيم بها" (¬1) تسير قافلة المؤمنين ملتزمة بالسكينة والهدوء حسب الشروط والاتفاقية الموقعة بين الطرفين .. وتقترب من مكة الحبيبة فتشرع نوافذ الأرواح وأبواب للذكريات وأيام الطفولة والمعاناة .. آه ما أجمل مكة وأطيب ريحها .. لكن أصدقاء الفشل وأعداء النجاح يمارسون دومًا السخرية من المتفوقين عليهم ردمًا لهوة الإحباط التي يعانون منها .. وهو ما تتلفظ به قريش الآن بعد رؤيتها لمحمد وأصحابه في طرقات مكة ودروبها .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيد وأد السخرية في مهدها .. يحشو جوفها بجمر التفوق .. عبد الله بن عباس طفل يعيش في مكة مع والده العباس بن عبد المطلب كان هناك .. شاهد ما حدث وتحدث فقال: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب قال المشركون إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة فجلسوا مما يلي الحجر وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1551.

المشركون جلدهم فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا قال ابن عباس ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" (¬1) و"إنما سعى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورمل بالبيت ليري المشركين قوته" (¬2) والرمل هو الإسراع في المشي وهي حالة وسط بين الركض والمشي .. وإذا كان الرمل يغيض المشركين فإن الشعر كان يطوف حول الكعبة .. عبد الله بن رواحة أحد شعراء العصر والإِسلام كان لسانًا من اللهب يطوف حول الكعبة .. ويحرق ما تبقى من معنويات لقريش .. أغمدت السيوف لكن عبد الله بن رواحة لم يغمد شعره .. يقول "أنس: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله فقال له عمر يا ابن رواحة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حرم الله تقول الشعر فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل" (¬3) وتحسبًا لأي مكروه يقول أحد الصحابة وهو ابن أبي أوفى "لما اعتمر رسول - صلى الله عليه وسلم - سترناه من غلمان المشركين ومنهم، أن يؤذوا رسول ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 923. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 293. (¬3) سنده صحيح رواه الترمذيُّ 5 - 139 وغيره من طريق عبد الرزاق أخبرنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن أنس، وجعفر بن سليمان صدوق زاهد من رجال مسلم التقريب 1 - 131 وثابت تابعي ثقة سمع من أنس انظر أيضًا النسائى 5 - 202 وفي السنن الكبرى أيضًا 2 - 383.

الزواج بميمونة

الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) أتم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عمرتهم وعطروا أرواحهم بأجواء مكة الحلم .. ومكثوا حسب الاتفاق المبرم ثلاثة أيام .. تمتعوا بقرب بيت الله الحرام .. وخلال هذه الأيام طلب - صلى الله عليه وسلم - يد امرأة اسمها ميمونة بنت الحارث. الزواج بميمونة وميمونة هي أخت زوجة العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وابن أختها عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما يتحدث عن زواج خالته فيقول: "تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة في عمرة القضاء" (¬2) ويقول ابن عباس "تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال" (¬3) لكن يبدو أن ابن عباس قد أخطأ لصغر سنة فقد كان طفلًا آنذاك لذلك توجهنا إلى ميمونة رضي الله عنها وسألناها فقالت: "رضي الله عنها إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالًا وبنى بها حلالًا بنى بها بسرف" (¬4) وهو مكان قريب من مكة: وقال ابن أختها الآخر يزيد الأصم: "حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتي وخالة بن عباس" (¬5) ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1552. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1553. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1553. (¬4) حديث صحيح السند رواه الحاكم 4 - 33 حدثنا بصحة ما ذكرته أبو العباس محمَّد بن يعقوب ثنا محمَّد بن إسحاق الصغاني ثنا وهب بن جرير بن حازم ثنا أبي قال سمعت أبا فزارة يحدث عن يزيد بن الأصم عن ميمونة يزيد تابعى ثقة وهو ابن أخت ميمونة -التقريب 2 - 362 وتلميذه اسمه راشد بن كيسان وهو تابعى صغير ثقة التقريب 1 - 240 ووهب ووالده ثقتان التقريب 2 - 338 و 1 - 127. (¬5) صحيح رواه مسلم 2 - 1032.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يقدم عرضا لقريش

وكان العباس رضي الله عنه هو الذي زوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ابنه عبد الله: كان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة" (¬1) وقد بقي - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاثة أيام هو وأصحابه يستمتعون بأجواء مكة الطيبة ... بمراتع الطفولة وذكريات الشباب .. بطرقاتها وبيوتاتها التي أرغمهم الكفر على مغادرتها. وبعد اليوم الثالث اضطروا إلى مغادرتها .. كان فراقًا مؤلمًا يتحدث عنه البراء بن عازب فيقول: "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام في عمرة القضاء فلما كان يوم الثالث قالوا لعلي إن هذا آخر يوم من شرط صاحبك فمره فليخرج، فحدثه بذلك قال: نعم فلنخرج" (¬2). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خير من يفى بالعهود .. لكن: النبي (صلى الله عليه وسلم) يقدم عرضًا لقريش يلتمس منهم السماح له بتمديد فترة بقائه وأصحابه في مكة أيامًا كما طلب منهم مشاركته أفراح عرسه ووليمته .. عن هذا الالتماس وعن رد قريش يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وأقام بمكة ثلاثًا فأتاه حويطب بن ¬

_ (¬1) درجته سنده قوي رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبراني 11 - 173 والطبريُّ في التاريخ2 - 143 ثنا أبان بن صالح وعبد الله بن أبى نجيح عن عطاء بن أبى رباح عن مجاهد أبي الحجاج عن ابن عباس وهذا سند صحيح. عطاء ومجاهد تابعيان إمامان ثقتان معروفان وأبان وعبد الله بن أبى نجيح ثقتان التقريب 1 - 30، 456. (¬2) حديثٌ حسنٌ رواه أبو عوانة 4 - 295 حدثنا الربيع بن سليمان قال ثنا أسد بن موسى ثنا يحيى بن زكريا بن أبى زائدة قال حدثني أبى عن أبي إسحاق عن البراء .. أسد السنة صدوق وشيخه ثقة متقن ووالده ثقة لكنه سمع من أبى إسحاق متأخرًا: التقريب 1 - 63 و2 - 147 و1 - 261 لكن يشهد له ما بعده.

عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا .. قال: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعامًا فحضرتموه؟ قالوا لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج بميمونة بنت الحارث رضي الله عنها حتى أعرس بها بسرف" (¬1) وعندما هم - صلى الله عليه وسلم - بمغادرة أحب البلاد إلى قلبه لحقت به ابنة عمه وحبيبه سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه ورغبت في مصاحبته إلى تلك المدينة الطيبة التي آوت والدها واحتضنته إلى يوم القيامة .. "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبعته ابنة حمزة تنادي يا عم يا عم فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة عليها السلام دونك ابنة عمك احمليها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر .. قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي .. وقال جعفر ابنة عمي وخالتها تحتي .. وقال زيد ابنة أخي فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وقال الخالة بمترلة الأم وقال لعلي أنت مني وأنا منك وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي وقال لزيد أنت أخونا ومولانا" (¬2) نسيج متناغم وخلاب من العلاقات والحب حوله - صلى الله عليه وسلم - .. كل يرى أنه أحق برعاية يتيمة حمزة .. وكلمات تواسي تلك القلوب المفعمة: أنت مني وأنا منك .. أشبهت خلقي وخلقي .. أنت أخونا ومولانا .. ¬

_ (¬1) سنده قوي وقد ضعفه الإِمام الألباني في تعليقه على فقه السيرة للشيخ الغزالي رحمهما الله حيث قال رواه ابن هشام عن ابن إسحاق بدون سند فقه السيرة (364) هذا ما قاله رحمه الله لكني وجدت له سندًا في المستدرك على الصحيحين 4 - 33 حدثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثنى بن أبي نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس والسند من الحاكم إلى ابن إسحاق سند صحيح موثق في السيرة خاصة دون غيرها ومن ابن إسحاق إلى ابن عباس سند قوي مر معنا وهو الحديث قبل السابق. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1551.

خالد بن الوليد وعمرو بن العاص يهاجران

وقافلة رضي الله عنها تحت الشجرة .. والمطايا والقلوب تتفطر بين مكة وطيبة .. وصل - صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة .. لكن حياة من نذروا أنفسهم لإزالة تجاعيد الأرض وأحزان القلوب بالإيمان والتوحيد لا تعرف الهدوء ما دام هناك شبر يئن من وخز الأصنام والأوثان .. فالقضية ليست بحثا عن الغنائم أو سعيًا وراء دفع حدود الدولة الجديد إلى الأقصى الممكن .. هي النبوة والتوحيد ومن حق كل البشر الحصول عليها وليس من حق من يحملونها الاستئثار بها وحرمان الآخرين من التمتع بها .. وليس من حق أحد مهما كان منع صوت التوحيد من الوصول إلى القلوب .. بعد عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة قرر القيام بالتخاطب مع الدول العظمى المجاورة .. لكن قبل ذلك وصلت أخبار ووصلت شخصيات وحدثت أحداث اهتزت لها مكة والمدينة حتى الحبشة هزها ما هز مكة والمدينة .. ولم لا تهتز المدينتان وآخر داهيتين من قريش ينتزعان قلبيهما وروحيهما من مخلفات العادات والوثنية الموروثة ويتجهان بها نحو مدينة الفجر والتوحيد: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص يهاجران وإسلام أمثالهما يفقد قريشًا توازنها ويصيبها في ما تبقى لها من عزم .. فأين لقريش بقائد ميداني في مثل دهاء خالد الذي يقرأ جيش خصمه كما يقرأ اسمه .. وأين لها بمثل عمرو بن العاص داهية يزحزح دهاؤه الجبال .. كان لهذين العظيمين عناد العظماء وثقتهم بقدراتهم على حل معضلة محمَّد عاجلًا أو آجلًا .. وهذا ما يغري أمثالهما ممّن حباهم الله بعقول وقدرات ذات مواصفات قياسية .. تجد لديهم الفرح بما عندهم وحب الاستقلال والترفع عما يؤمن به ويسلكه البسطاء .. لكن الميزة في الإِسلام

هو أنه بسيط ومدهش ومعجز في الوقت نفسه وتلك حقيقة لا مفر منها .. وقدرته على تطويع الجبابرة والمفكرين تمامًا هي كنعومته ورقته في الإمساك بأيدي البسطاء والمساكين وأخذهم إلى حيث ينعمون .. لكن عنصر العناد والاعتداد بالنفس والحسد أحيانًا لدى العظماء يحرمهم من البوح بالحقيقة الصارخة داخل أعماقهم .. وقد كان إسلام خالد وعمرو هو الخلاص من معاناة العناد والاعتداد بالذات .. وفي قصة إسلامهما تفاصيل تلك التعرجات التي سلكتها الروح والعقل بعيدًا عن الصراط المستقيم حتى وجدا نفسيهما يومًا في صحاري أبي جهل حيث لا مكان لغير الضياع والعطش والموت .. يقول عمرو رضي الله عنه: "إني قد كنت على أطباق ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار فلما" (¬1) .. لما .. لما ماذا يابن العاص .... "لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق جمعت رجالًا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني فقلت لهم تعلمون والله إني لأرى أمر محمَّد يعلو الأمور علوًا كبيرًا منكرًا وأني قد رأيت رأيًا فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده فإن ظهر محمَّد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمَّد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف فلن يأتينا منهم إلا خير فقالوا: إن هذا الرأي. فقلت لهم: فاجمعوا له ما نهدي له وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدمًا كثيرًا فخرجنا حتى قدمنا عليه فوالله إنا لنعده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 112.

قال: فقلت: لأصحابي هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشى فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه فإذا فعلت ذلك رأت قريش إني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمَّد .. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال: مرحبًا بصديقى أهديت لي من بلادك شيئًا قال: قلت: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدمًا كثيرًا ثم قدمت إليه فأعجبه واشتهاه ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا .. فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقًا منه ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه فقال له أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله قلت أيها الملك أكذاك هو فقال ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده قلت فبايعني له على الإِسلام قال نعم فبسط يده وبايعته على الإِسلام ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيى عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسلم فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة فقلت أين يا أبا سليمان قال والله لقد استقام المنسم وإن الرجل لنبي أذهب والله أسلم فحتى متى قلت والله ما جئت إلا لأسلم فقدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت: يا رسول الله" (¬1) "ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه رواه الإمام أحمد 4 - 198 والحارث (زوائد الهيثمى) 2 - 933 حدثنى يزيد بن أبي حبيب عن راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفى عن أبي حبيب بن أبي أوس قال حدثنى عمرو بن العاص من فيه، وشيخ ابن إسحاق تابعي =

قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط .. بماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله .. وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله. وما كان أحد أحب إلي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. ولا أجلّ في عيني منه .. وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له .. ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة" (¬1) تلك هي عبارات عمرو بن العاص وذاك هو ما يتقد في داخله .. أما اتخاذ القرار الشجاع في اعتناق الحقيقة فهو مؤلم حقًا لكن ذلك الألم لا يدوم أمام سعادة العيش في واحة الإيمان وراحته .. وأمام العيش بين تلك المشاعر الفياضة التي تتدفق من كلمات وأحضان إخوته الجدد الذين يبتهجون به وبخالد الآن .. شمس جديدة تطلع على خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وحياة جديدة تشرق عليهما وهما يشعران بسريان صلاة الفجر تسري في عروقهما نشاطًا وحيوية وأهدافًا أسمى وآفاقًا كانت الوثنية تعصب عينيهما وروحيهما عنها .. وإذا كانت كلمات النجاشي العظيم هي الجمرة التي تغلغلت في ضمير عمرو لتوقضه فإن هذا النجاشى لا يكف عن تحريك الحب والمشاعر .. لكنه اليوم يمارس استمطار الدموع والذكريات .. ويضفي على ¬

_ = ثقة فقيه، التقريب 2 - 363 أما راشد مولى حبيب بن أوس مصري فقد قال يحيى بن معين ثقة يروى عنه المصريون -الجرح والتعديل 3 - 486، أما حبيب بن أوس أو بن أبى أوس الثقفي فقد قال الحافظ في الإصابة 2 - 15: ذكره ابن يونس فيمن شهد فتح مصر فدل على أن له إدراكًا ولم يبق من ثقيف في حجة الوداع أحد إلا وقد أسلم وشهدها فيكون هذا صحابيًا وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين. (¬1) صحيح مسلم 1 - 112.

مات النجاشى رحمه الله ورضي عنه

أجواء المدينة سحابًا من الحزن والوجوم .. النجاشى اليوم ثقيل طريح الفراش والحبشة حزن عليه. مات النجاشى رحمه الله ورضي عنه خبر تكدر له جعفر وأصحاب السفينة والنبى - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون جميعًا .. خبر يجعل اليوم ثقيلًا تحسب ساعاته بالدموع لم يأت الخبر فوق سفينة أو بعير .. جاء الخبر من السماء فتكدر له أهل الأرض ولا أدري كم من الدموع سفحت على ذلك الملك الإنسان العادل الصالح الذي كان خير معين عندما عز المعين .. وكان خير مجير عندما ضاقت الديار والأهل بمن يقول: لا إله إلا الله .. أصحمة النجاشى تحت الثرى لتنزل من السماء سنة جديدة مع خبر وفاته .. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه فقال استغفروا لأخيكم" (¬1) وقال لهم: "مات اليوم رجل صالح" (¬2) "مات اليوم عبد لله صالح" (¬3). ثم قال: "صلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم .. قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أصحمة النجاشى" (¬4) ثم دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه "فخرج ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 657. (¬2) صحيح البخاري3 - 1407. (¬3) صحيح مسلم 2 - 657. (¬4) سنده صحيح رواه أحمد 4 - 7 من طرق عن قتادة عن أبى الطفيل عن حذيفة بن أسيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يوم فقاموا فصلوا عليه. أبو الطفيل وحذيفة صحابيان.

بهم إلى المصلى" (¬1). والمصلى غير المسجد فالمصلى في الصحراء وليس له جدران .. ثم "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صف بهم بالمصلى فصلى فكبر عليه أربع تكبيرات" (¬2) ليس فيها ركوع أو سجود يقول جابر: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث" (¬3) استغرب بعض المصلين تلك الصلاة وذلك الاستغفار لرجل لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره النبي ولم يهاجر إليه ولم يبايعه بل ظنوه مازال علجًا نصرانيًا يقول أنس بن مالك: "لما توفي النجاشى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استغفروا لأخيكم فقال بعض الناس يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)} " (¬4) علم أولئك المتسائلون مكانة النجاشي عند ربه وشهادته له التي أنزلها من فوق سبع سماوات .. الحبشي الكريم الذي كان ذات يوم يلتقط عودًا من الأرض ويرفعه ليخاطب من حوله من النصارى والوثنيين المؤمنين الذين لاذوا بعدله وطمعوا في حمايته من بطش طواغيت قريش .. تحدث حينها فاضحًا شوقه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "تناول النجاشي عودًا من ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 656. (¬2) صحيح البخاري 1 - 443. (¬3) صحييم مسلم 2 - 657. (¬4) حديث صحيح رواه كما قال ابن كثير في تفسيره 1 - 444: ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد عن أنس بن مالك نحو ما تقدم وهذه الأسانيد صحيحة إلا سند الحسن فهو مرسل لكنه قوي بها.

كرامة على قبر النجاشي

الأرض فقال يا معشر القسيسن والرهبان ما يزيد ما يقول هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه. مرحبًا بكم وبمن جئتم من عنده فأنا أشهد أنه رسول الله والذي بشر به عيسى ابن مريم ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه امكثوا في أرض ما شئتم وأمر لنا بطعام وكسوة" (¬1) يتذكر جعفر ورفاقه الهاربين من البطش ذلك الطعام وتلك الكسوة وذلك الملك الحبيب الذي جاءت الأخبار من أهل الحبشة بعد دفنه بـ: كرامة على قبر النجاشي تقول عائشة رضي الله عنها: "لما مات النجاشى كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور" (¬2) .. ودع الصحابة أخاهم بالدعاء وطلب الرحمة له من الله .. وتولى بعده ملك آخر ونجاشى آخر على الحبشة .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن أبي شيبة 7 - 350 حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى وهذا السند قد ضعفه الإمام الألبانى رحمه الله في ضعيف أبى داود (325) ولا أدري على أي شيء استند غفر الله له فلا يوجد تفصيل في صحيح سنن أبى داود والصواب أنه صحيح لأن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة سند صحيح وهو من أسانيد البخاري، وأبو إسحاق عن أبي بردة من أسانيد مسلم أما تلميذ إسرائيل فثقة ثبت -التقريب 1 - 68 وهو لم ينفرد بل تابعه عند ابن أبي شيبة 7 - 350 شيخه: عبيد الله بن موسى وهو ثقة وأثبت في إسرائيل من أبي نعيم -التقريب 1 - 539 فالسند صحيح قال أمرنا رسول الله .. كما أن للحديث شاهدًا حسنًا عند أحمد 1 - 461 حدثنا حسن بن موسى قال سمعت حديجًا أخا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود. وحديج حسن الحديث إذا لم يخالف من هو أوثق منه. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه أبو داود 3 - 16 وغيره حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة ويزيد مولى آل الزبير وعروة بن الزبير تابعيان ثقتان التقريب 2 - 19 - 346.

مراسلة الملوك والجبابرة

وكان هذا الملك كغيره من البشر له عقل وروح وهما بحاجة إلى من يأخذهما إلى حيث أجواء الإسلام الرحبة .. لأن في إطلاقهما إطلاقًا للشعوب والأتباع .. لقد قرر - صلى الله عليه وسلم - مكاتبته ودعوته للإسلام هو وغيره من الملوك والأكاسرة فالإسلام لا يعرف الطبقات في نظرته للبشر ولا يعرف الألوان ولا الأحساب ولا الأنساب .. هو رسالة توحيد من الخالق إلى المخلوق .. ويجب على من يحملون هموم الرسالة تسليمها إلى أهلها .. إلى كل البشر دون استثناء أو تمييز .. وإذا كان الإسلام يمنح الضعفاء والمستضعفين أهمية قصوى فإنه يوظف الأقوياء لنشر الحق والعدل على وجه الأرض. ويسير معهم في ذلك إلى أقصاه .. وليس هناك أنسب من هذه الأيام التي أعقبت فتح خيبر .. فهي أيام سلام غل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشًا عن الاعتداء والحرب .. وتمكن من السيطرة على اليهود واستطاع تحجيم خيانتهم داخل دوائر ضيقة يمكن مراقبتها .. وهؤلاء في نظر الإِسلام عصابات مزعجة وحفر في طريق دعوة تنظر إلى أبعد من قريش واليهود .. دعوة عالمية تنظر إلى الأرض دون حدود وإلى ما هو أبعد من الأرض .. أما الأقوياء الذين يسعى - صلى الله عليه وسلم - لاستثمار سطوتهم وسلطتهم فهم قادة الدول الكبرى المحيطة بالجزيرة العربية والذين تتوزعهم ديانات واتجاهات مختلفة .. لذلك قرر: مراسلة الملوك والجبابرة ومن المؤكد أن ردود الفعل تجاه تلك الرسائل ستكون متباينة .. كما أن من غير المستساغ لدى هؤلاء الجبابرة أن يروا عربيًا كان يرعى الغنم في الصحاري وبين الجبال يقتحم عليهم ما هم فيه من أبهة وعظمة .. مطالبًا إياهم باتباعه وترك ما ألفوه وورثوه هم وشعوبهم .. الأمر حقًا

النبي عليه السلام يأمر بصنع خاتم

شديد الخطورة .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "إن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشى وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشى الذي صلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-" (¬1) .. لكن وقبل أن يبعث بتلك الرسائل اضطر - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يأمر بصنع خاتم له. النبي عليه السلام يأمر بصنع خاتم يقول "أنس إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشى فقيل إنهم لا يقبلون كتابًا إلا بخاتم فصاغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا حلقة فضة ونقش فيها محمَّد رسول الله" (¬2) "كأني انظر إلى بياضه في يده" (¬3) "وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر محمَّد سطر .. ورسول سطر .. والله سطر" (¬4). ختم - صلى الله عليه وسلم - رسائله وسلمها لمن سيقوم بحملها إلى أصحابها .. وقد جاءت أقسى ردود الفعل على تلك الرسالة من بلاد المجوس- فارس .. ومن ملكهم المتعجرف كسرى وقد حمل هذه الرسالة صحابي جليل اسمه عبد الله بن حذافة السهمى .. وكانت مهمة عبد الله مقتصرة على تسليم الرسالة إلى عظيم البحرين والذي طلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- تسليم الرسالة بدوره إلى كسرى: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1397. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1657. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1657. (¬4) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1131.

رد كسرى الفرس

رد كسرى الفرس الذي لم يكن يتمتع بلياقة أدبية ولا حتى دبلوماسية تؤهله لقيادة أمة عظيمة كأمة فارس .. كان كسرى كتلة من الغرور .. لم يُجد خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في تذكيره ببشريته وقدرة الله عليه .. قرأ كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشاط غضبًا وغرورًا .. كيف يبعث عربي إليه رسالة يقدم فيها مطالب بدلًا من أن يبعث له بفروض الطاعة والولاء مقرونة بالهدايا والضرائب .. هذا ما لا يحتمله رجل وثني عديم الاحترام مثل كسرى .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى فلما قرأه مزقه" (¬1) و"خرقه" (¬2) غير آبه به ولا بمن كتبه .. أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فواصل كتابة الرسائل مبشرًا الدنيا بعودة التوحيد النقي إلى الأرض من جديد فكتب: رسالة إلى المقوقس ملك الإسكندرية وهو أمير القبط .. كان رجلًا أكثر تهذيبًا وأكرم خلقًا من ذلك المجوسي الأرعن .. المقوقس "أمير القبط أهدى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاريتين وبغلة وكان يركب البغلة بالمدينة وأخذ إحدى الجاريتين لنفسه" (¬3) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1610. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1074. (¬3) حديثٌ حسنٌ رواه في الآحاد والمثاني 5 - 447 حدثنا محمَّد بن إدريس نا ابن خداش نا حاتم بن إسماعيل عن بشير بن مهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه والطبرانى في الأوسط 4 - 37 ثنا خلف بن عمرو العكبري قال نا محمَّد بن عباد المكى قال نا حاتم بن إسماعيل به وهو سند قوي لولا لين في بشير وهو صدوق من رجال مسلم وله شاهد ضعيف من طريق يعقوب بن محمَّد الزهري عن رجل مجهول ... في الآحاد والمثاني 5 - 447.

فأسلمت وتسراها النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقد تردد في المدينة أن قبطيًا له قرابة منها رضي الله عنها يزورها ويتردد عليها فدخل الشك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي اذهب فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها فقال له علي أخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب" (¬1) "فكف علي عنه ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إنه لمجبوب" (¬2). حملت تلك الفتاة القبطية فكانت أول امرأة تحمل منه -صلى الله عليه وسلم- بعد زوجته خديجة رضي الله عنها .. تلك هي هدية المقوقس الذي رفض الإِسلام لكنه كان مهذبًا في رده .. أما أكثر الرسائل إثارة فكانت تلك التي حملها الصحابي دحية الكلبي إلى ملك الروم .. انطلق دحية الكلبي إلى عظيم بصرى في الشام والذي سيقوم بدوره بإيصال الرسالة إلى ملك الروم هرقل .. وانطلق قبله من مكة إلى أرض الروم - الشام زعيم مكة وقريش أبو سفيان لا لشىء سوى التجارة فقط .. فتصادف وجود أبي سفيان مع وصول الرسالة النبوية الكريمة .. لن يقص دحية ما حدث .. سيتولى ذلك زعيم قريش أبو سفيان الذي كان حاضرًا في بلاط الروم .. حيث استدعاه ذلك الملك لطرح بعض الأسئلة عليه حول شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفته رجلًا من قومه ومن أعرف الناس به .. لكن سؤلا ملحًا يتجول على طريق الشام ذلك هو: كيف يسافر أبو سفيان وتجارته بأمان .. صحيح أنه لن يخرج أحد من المدينة لاعتراضهم لكن في الطريق أمر مرعب ومخيف .. أسدان جريحان يتلمظان لانتزاع حريتهما وما سلبته قريش منهما .. وهما في حل من ذلك كله والنبي -صلى الله عليه وسلم- في حل مما يفعلانه .. ومن الظلم إلصاق ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 2139 والركي هو البئر. (¬2) صحيح مسلم 4 - 2139.

أزمة قريش

صفة الإرهاب وقطع الطريق بهما .. هما طريدا الفكرة والعقيدة صودرت أموالهما وأولادهما وأوطانهما وحريتهما ومنازلهما وليس لهما على هذه الأرض سوى مساحة بالكاد تتسع لأنفاسهما وسيفيهما .. لكنهما ليسا في أزمة كأزمة قريش لأنهما يحتسبان معاناتهما عند الله .. أما قريش فتعيش أزمة لا حل لها سوى العار. أزمة قريش تكمن في انهيار اقتصادها وتعذر تسيير تجارتها وانقطاعها عن العالم .. ولا مخرج لها من ذلك كله إلا خلال بوابة العار المخزية وهى التنازل عن شرطها في منع المؤمنين من اللحاق بدولتهم ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- وهذا ما حدث بالضبط: انفلت (أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمان فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأنزل الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت) (¬1). وها هم اليوم يمحون باطلهم بأيديهم ويتنازلون عن جورهم الذي ارتد طعنات من أبي جندل وأبي بصير في صدورهم .. لحق أبو جندل وأبو بصير ومن معهما بالمدينة ليمارسوا حرية الحركة ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 2 - 977.

رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل الروم

والمعتقد في أجواء نقية بعيدة عن الخرافة والظلم والجاهلية .. وانطلق الكثير من الممنوعين نحو مهوى الفؤاد محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ومدينته المنورة بالحب والأنصار .. وعادت لقريش حرية التنقل نحو الشام واليمن بعد أن أمنت فتك أبي جندل ورفاقه .. وانطلق أبو سفيان في رحلة صيفية نحو الشام ليتزامن وصوله مع وصول: رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل الروم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد استثمار فترة التواضع لله التي يمر بها هرقل ملك الروم بعد انتصار جيشه على جيش فارس .. حيث عاد ذلك الملك من مدينة حمص إلى بيت المقدس سيرًا على الأقدام شكرًا لله .. يقول أحد الصحابة: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإِسلام وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي وأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرًا لما أبلاه الله فلما جاء قيصر كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدًا من قومه لأسألهم" (¬1). وهنا يكمل أبو سفيان القصة فيقول: "انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل: فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1074.

فقالوا: نعم فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقلت: أنا .. فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه. قال أبو سفيان: وايم الله لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت. ثم قال لترجمانه سله كيف حسبه فيكم؟ قلت. هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أو ينقصون؟ قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالًا يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه (¬1). ¬

_ (¬1) يقصد أبو سفيان أنه لم يستطع أن يقدح في النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا في قوله: أنه لا يدري هل سيغدر في المستقبل أم لا.

قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثم قال لترجمانه قل له إني سألتك عن حسبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو حسب .. وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومهم. وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا .. فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم فقلت: بل ضعفاؤهم .. وهم أتباع الرسل. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا .. فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له فزعمت أن لا .. وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب. وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون .. وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالًا ينال منكم وتنالون منه .. وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة. وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر .. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله فزعمت أن لا فقلت لو كان قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم (¬1) بقول قيل قبله. ¬

_ (¬1) يعني قلّد قول أناس قبله.

ثم قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال إن يك ما تقول فيه حقًا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أك أظنه منكم ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه .. وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمَّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم .. وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} إلى قوله {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا. فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر بن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنًا بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سيظهر" (¬1). "والله ما زلت ذليلًا مستيقنًا بأن أمره سيظهر" (¬2) لكنها الزعامة والسلطة التي تخول صاحبها تشويه الحقيقة وتبرير رفضها لم ينتفع هرقل من تلك الرسالة لكنه يشعر بوخزها المؤلم في ضميره ولم يكن أبو سفيان أحسن حالًا منه .. أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يكن يعقد آمالًا على عناد كهذا .. كان يتطلع إلى مساحات خصبة يقف هذان العنيدان حراسًا للقحط وتغييب الأخضر عنهما .. لكن لا يأس مع الدعوة ومن يحمل الحق لا بد أن ينتشر وينتصر ولو متأخرًا. .فالتأخير مجرد تمحيص للضمائر والأتباع .. والتأخير في حقيقة الأمر هو اتجاه نحو الجذور وسفر في الأعماق كي ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1658 و3 - 1076. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1658 و 3 - 1076.

تتعالى شجرته في السماء بعد أن تتمكن في الضمائر والعقول والوجدان .. أما تلك النباتات التي تظهر فجأة وبسرعة ودون رصيد جذري فما هي إلا ريح واحدة وتختفي .. لم يكن في رسائل النبي التهديد بقوة عسكرية أو زحف أحمر لا يرحم .. كانت الرسائل موجهة نحو الضمير والعقل .. كانت رسائل تهز من الداخل وتغزو من العمق فليس هناك من يستطيع اليوم تهديد هرقل أو كسرى .. لكنها رسالة الإسلام التي لا تعرف حدودًا. وقد أدرك هرقل أنه إن لم يستقبل الحق اليوم فسوف يستقيل له غدًا .. وأدرك أبو سفيان من قول هرقل ما كان يرفض إدراكه منذ سنين .. والقريب دائمًا لا يقنع بإبداع القريب منه إلا بعد أن يرى اعترافات الأبعد والأقوى تنهال على قريبه المبدع .. والنبي-صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليضيع أوقاته في إقناع المعاند والحاسد فالإسلام والزمن كفيلان بهما .. وبعد أن وصلت إلى مسامع النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الردود قال لأصحابه وحيًا صادقًا وبشرى لن تتخلف .. قال "-صلى الله عليه وسلم-: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده .. وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله" (¬1). أما النجاشي فلا أدري ما هو رده على الرسالة الموجهة له .. لكن يبدو أن الرسالة الموجهه إلى هرقل أحدثت تداعيات مزعجة ومقلقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولدولته مما جعله يعد جيشًا لملاقاة طموحات الروم بإيقاف النبوة والإسلام وتداعيات الرسالة .. النبي -صلى الله عليه وسلم- يعد الآن جيشًا للتوجه للشام .. لكنه قبل ذلك يقوم بـ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1135.

إرسال عبد الله بن رواحة إلى خيبر

إرسال عبد الله بن رواحة إلى خيبر وقد أرسله عليه السلام لكي يقبض نصف المحصول السنوي من زراعة أرض خيبر حسب الاتفاق المبرم بين النبي -صلى الله عليه وسلم- واليهود والذي على أساسه أبقاهم هناك ولم يطردهم منها وكان عبد الله يقوم بذلك عن طريق الخرص نظرًا لاستحالة الوزن والعد .. والخرص هو تقدير الثمر وهو على رؤوس النخل. وفي هذا العام حاول اليهود رشوة ابن رواحة .. حيث "كان عبد الله ابن رواحة يأتيهم كل عام يخرصها عليهم .. ثم يضمنهم الشطر .. فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه .. فقال: يا أعداء الله أتطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي .. ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير .. ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم .. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض" (¬1) وبهذا العدل قام الإسلام وانتشر وبغيره تنهار دولته مهما تدين أصحابها وصاموا وصلوا وادعوا أنهم أهل الإسلام وحماته .. وقد أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه المعذبين ذات يوم إلى رجل يعلق الصليب على صدره لأنه عادل لا يظلم عنده أحد .. عاد ابن رواحة إلى المدينة محملًا بنصيب دولة الإسلام من التمر .. وعاد اليهود إلى بيوتهم بعد أن فشلت رشوتهم في بث الفساد الإداري إلى هذه الدولة التي تزرع رقابة الله قبل أن تزرع الخوف من السلطة والحكومة .. عاد اليهود يخططون لجريمة جديدة ضد رأس الدولة وأخيرًا فكر اليهود بـ: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه ابن حبان 11 - 608.

سحر النبي (صلى الله عليه وسلم)

سحر النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يجدوا أنسب للقيام بهذه الجريمة من خادم للنبي يدعى "لبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف لليهود كان منافقًا .. " (¬1) وقد كان يخدم النبي عليه السلام ويثق به رغم أنه يهودي .. وقد خضع هذا الخادم لإلحاح اليهود فأحضر لهم مشطه وبه شيء من مشاطه أي الشعر الذي يعلق بالمشط .. ووضعه في وعاء للقاح النخل يسمونه جف طلعة .. ثم قرأوا عليه تعاويذ السحر بمساعدة الجن .. ثم أخذوه إلى مكان لا يمكن لأحد أن يعثر عليه .. مكان غائر كحقد اليهود .. لقد وضعوه تحت صخرة يسمونها رعوف توضع في أسفل البئر .. ثم بدأ مفعول السحر يسري في جسد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط لا غير. تقول "عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن" (¬2) أي أنه أثر على جسده فقط أما الوحي والتبليغ فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. لكن هذا السحر أثر على النبي -صلى الله عليه وسلم- جسديًا حيث إنه حرمه من الاتصال بنسائه أيامًا .. لكن الله لم يترك نبيه. تقول عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن .. فقال: يا عائشة .. أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر ما بال الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف لليهود كان منافقًا. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2175. (¬2) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2175.

قال: وفيم؟ قال في مشط ومشاطة. قال: وأين؟ قال في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان. فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- البئر حتى استخرجه فقال هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رؤوس الشياطن فاستخرج فقلت: أفلا؟ أي تنشرت فقال: أما والله فقد شفاني الله وأكره أن أثير على أحد من الناس شرًا" (¬1). ويروي زيد بن أرقم تفاصيل إخراج السحر فيقول: "سحر النبي-صلى الله عليه وسلم- رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين .. وقال: إن رجلًا من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان .. فأرسل عليًا فجاء به .. فأمره أن يحل العقد وتقرأ آية .. فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنما أنشط من عقال .. فما ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك اليهودي شيئًا مما صنع به ولا أراه في وجهه" (¬2). أي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل ذلك الرجل ولم يشعره حتى في تعابير وجهه عليه السلام أنه يضمر له شيئًا .. فلم يكن عليه السلام ينتقم لنفسه .. لم يعد لليهود من وزن .. فقد تلاشت قواهم وأصبح همه عليه السلام موجهًا للقوة العظمى التي سيطول الصراع معها في المستقبل قوة النصارى ممثلة بالروم .. لذلك أعد جيشًا لملاقاة الروم الزاحفين نحوه في مكان شمال المدينة يقال له: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5 - 2175. (¬2) سنده صحيح رواه عبد بن حميد 1 - 115 وغيره من طرق عن الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال والأعمش إمام وشيخه تابعي ثقة سمع زيد بن أرقم رضي الله عنه انظر التقريب 2 - 363.

مؤتة

مؤتة هيأ النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشه وعين له قائدًا هو ابن عمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فهو لن يذهب معهم هذه المرة .. وبعد أن انتهى من كل شيء خرج لتوديعهم مبكرًا وهي سنته -صلى الله عليه وسلم- .. وجعل زيد بن حارثة أميرًا عليهم ثم قال لهم "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن قتل زيد فجعفر وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" (¬1) إذًا هذه أول غزوة يشارك فيها جعفر رضي الله عنه بعد قدومه من الحبشة .. وهي كذلك أول غزوة يشارك فيها فارس الإسلام الجديد خالد بن الوليد .. يا لها من أسماء تهز الأرض ويا له من وداع يأخذ بنياط القلب .. كيف لا وهذا الجيش القليل ذاهب لملاقاة جيش الروم الذي هزم جيش فارس .. كيف لا والوداع كان لزيد وجعفر .. زيد الذي يقول عنه أحد أفراد هذا الجيش: "ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل في القرآن {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} " (¬2). زيد المولى هو القائد وغيره تبع له .. زيد الذي ملأ سمع النبي وبصره وقلبه .. زيد حب النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول عنه عائشة: "ما بعث رسول الله زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم ولو كان حيًا بعده لاستخلفه" (¬3) .. زيد يودع النبي-صلى الله عليه وسلم- ويودع ابنه أسامة وينطلق نحو مؤته أم نحو موته والجنة .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1554. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1884. (¬3) سنده قوى رواه ابن أبي شيبة 6 - 392 والإمام أحمد 6 - 281 عن سعيد بن محمد الوراق ومحمَّد بن عبيد عن وائل بن داود قال سمعت البهى يحدث أن عائشة ... ووائل بن داود التيمي ثقة التقريب 2 - 329 وشيخه البهى تابعي ثقة كما قال ابن سعد انظر التهذيب والبهى عن عائشة على شرط مسلم.

وجعفر ابن عمه الذي عانى الآلام والكثير من الغربة والبعد عنه -صلى الله عليه وسلم- أما عبد الله بن رواحة فهو شاعر الموت الذي ردد الخندق شعره وتغنى به شهداء خيبر وفرسانها .. الشاعر الذي قال أحد أفراد هذا الجيش إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عن شعره "إن أخًا لكم لا يقول الرفث يعني بذاك بن رواحة قال: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع" (¬1) وقبل انطلاق أمراء مؤتة تقدم جعفر رضي الله عنه بأمنية أملتها عليه قرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. أبو قتادة كان هناك يرى ويسمع "أبو قتادة فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيش الأمراء وقال عليكم زيد بن حارثة .. فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب .. فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة .. فوثب جعفر فقال: يا رسول الله ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيدًا فقال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير فانطلقوا" (¬2) حتى وصولوا إلى أرض مؤتة وهي قرية من قرى البلقاء بالشام وهناك واجهوا أمواجًا بشرية تدفقت من أرض الروم. واستعدت وأعدت ولا أدري بالضبط عددهم لكن الذي أعرفه أن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5 - 2278. (¬2) سنده قوي رواه ابن أبي شيبة 7 - 412 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا الأسود بن شيبان عن خالد بن سمير قال قدم علينا عبد الله بن رباح الأنصاري قال وكانت الأنصار تفقهه قال حدثنا أبو قتادة: عبد الله تابعى ثقة -التقريب 1 - 141 وتلميذه تابعى صدوق يهم قليلًا أي حسن الحديث -التقريب 1 - 214 والأسود وسليمان ثقتان المصدر السابق 1 - 76/ 322.

ما هو القرار في مثل حال مؤتة

عدد المسلمين كان قليلًا جدًا جدًا بالنسبة لجيش الروم .. أما من حيث الاستعداد فلا يمكن مقارنة جيش دولة الإسلام التي تبلغ الثامنة من عمرها بجيش إمبراطورية الروم ذات القرون .. والتي تسيح جيوشها بين قارتين .. وهنا ترد الإشكاليات العسكرية والسياسية التي تداعت على دولة الإسلام أثناء أزمة الخندق. ما هو القرار في مثل حال مؤتة جيش رومي أوله في أوروبا وآخره في مؤتة لم يتوقعه المسلمون أمام جيش مسلم لا أظن أن عدده يتجاوز الألفين .. وهو العدد الذي حضر الحديبية وخيبر بالإضافة إلى القادمين من الحبشة والمؤمنين الجدد .. مع ملاحظة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وكثيرًا من كبار الصحابة رضي الله عنه لم يشاركوا .. إنها معركة أشبه بالأساطير لكن القرآن نزل ليطبقه البشر لا ليدهشهم فقط .. القرآن يتعامل مع مثل هذا الظرف بواقعية تناسب البشر وقدراتهم وعددهم والأدوات المتاحة بين أيديهم .. نزل قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬1). و"لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين ومئة ألفًا فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬2) ¬

_ (¬1) الأنفال 65. (¬2) الأنفال 66.

نصارى العرب يقاتلون مع الروم

وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم أن يقاتلوا وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم" (¬1) أي ينسحبوا من مواجهة العدو ويلتحقوا بباقي المسلمين وهو ليس كالفرار فالفرار هروب إلى أي جهة أما التحيز فانسحاب منظم هدفه الإبقاء على قوة الجيش المسلم عند تعذر المقاومة .. وهم الآن معذورون في التحوز والانسحاب نظرًا لأن عدد الروم يعادل أضعاف أضعاف عدد المسلمين وعدتهم وهو ما ينبغي ملاحظته عند التحدث عن الجهاد .. فالجهاد ليس مجرد حماس وشجاعة فقط .. وعندما تأمل أحد الصحابة جيش الروم وجد أن الروم لم يكونوا وحدهم .. معهم أبناء جلدتهم وديانتهم الذين لا يتخلون عنهم .. معهم جيوبهم المتغلغلة في أراضي المسلمين في كل زمان ومكان. نصارى العرب يقاتلون مع الروم ظروف قاسية للغاية فالحرب الآن ضد النصارى العرب والروم .. ويبدو أن المعارك تقفز نوعيًا إلى مرحلة المجابهة مع الدول الكبرى التي غالبًا ما يصيبها الهلع والغضب من انتشار أفكار تخالف أفكارها فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالدين .. كان الصحابة يأخذون قسطًا من الراحة ويتناولون شيئًا من الطعام .. أحد المجاهدين تبرع بذبح ناقته ليطعم بعض أفراد الجيش وكان ضمن هؤلاء رجل من أهل اليمن لا يملك رضي الله عنه إلا سيفه وإيمانه .. قدم ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري في تفسيره 10 - 39: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس وهذا السند على شرط البخاري في أكثر من خسة مواضع وابن أبي نجيح ثقة من رجال الشيخين التقريب 1 - 456.

صنيع اليمني

من بلاده للمساهمة في منازلة الروم .. تقدم اليمني إلى صاحب الناقة بطلب غريب .. وكان بالقرب منه عوف بن مالك الذي يحدثنا عن: صنيع اليمني يقول عوف: "كنت فيمن خرج مع زيد بن حارثة رضي الله عنه في بعث مؤتة فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه إلا سيفه فنحر رجل من الجيش جزورًا له فاستوهبه المددي من جلده فوهب له فبسطه في الشمس على أطرافه فلما جف اتخذه كهيئة الدرقة وجعل له مقبضًا" (¬1) أي جعله مثل الترس بعد الاستراحة قرر زيد رضي الله عنه حمل الراية وبدء القتال فكان له ما أراد .. قاتل زيد ومن معه قتالًا أشبه بالأساطير وبدأ فارس اليمن بتنفيذ ما برأسه .. يقول عوف: "خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه فنحر رجل من المسلمين جزورًا فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرق ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يغري بالمسلمين فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه" (¬2) لكن مهما بلغت شجاعة هؤلاء الأبطال فهم كنقطة وسط بحر من ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم مختصرًا ورواه أبو داود وأحمدُ وأبو عوانة من طريق صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك وتوبعوا عند أبي عوانة تابعهم ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم مختصرًا ورواه أبو داود وأحمدُ وأبو عوانة من طريق صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك وتوبعوا عند أبى عوانة تابعهم ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير.

جعفر

الروم والنصارى العرب .. قاتل زيد وقاتل بحماس من يريد اقتحام باب الجنة لكن حبيب النبي وأمير جيشه حوصر بالرماح والسيوف حتى خر شهيدًا على أرض المعركة فالتقط الراية جعفر بن أبي طالب ليقوم بما يشبه المعجزات .. وكأنه يسابق زيدًا ويزاحمه على دخول باب الجنة .. جعفر هذا المبحر في المعاناة المليء بالأسرار الذي يخبئ الكثير للإسلام .. يتفجر على أرض مؤتة وكأنه يعوض غيابه المرير عن بدر وأحد والخندق وباقي المعارك المجيدة .. وكأنه يبحث عن شهادة كشهادة عمه حمزة .. وكأن فرسه تعيقه عن اقتحام الجنة .. قام بعقرها فهو لن يحتاجها بعد اليوم فليس أمامه سوى جحافل الروم والنصارى العرب والموت .. وهو لا يهاب هذه المصطلحات وليس في ذاكرته حروف للهرب .. يقول أحد الصحابة: "وهو أحد بني مرة بن عوف وكان في الغزاة غزاة مؤتة قال: والله لكأني انظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردًا شرابها والروم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها عليَّ إذا لاقيتها ضرابها" (¬1) أما كيف قتل .. فعلى طريقته الخاصة والخارقة التي نحت تفاصيلها ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق وابن هشام 5 - 28 ومن طريقه ابن أبي شيبة 4 - 213 والحاكم 3 - 230 وأبو داود 3 - 29 حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده قال حدثني أبي الذي أرضعني وهو أحد بني .. يحيى ثقة ووالده تابعي ثقة كان خليفة والده. التقريب 1 - 392.

ابن رواحة والشعر والجنة

بحرقته إلى الشهادة. لقد عقر الفرس الشقراء ثم استقبل الروم حاملًا راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده اليمنى .. متلقيًا الطعنات والضربات بالرماح والسيوف حتى قطعت يده اليمنى وقطعت اليسرى كذلك .. فواصل احتفاءه بالطعنات حتى خر شهيدًا فحلق بعدها نحو أحلامه والجنة .. ثم أخذ الراية الأمير الثالث عبد الله بن رواحة الذي شاهد تلك المناظر المروعة لأصحابه وتلك الجموع التي لا يمكن مجابهتها إلا بالموت .. أحس عبد الله بن رواحة بشيء من التردد .. لكن الشعر يقوم بتذكيره. ابن رواحة والشعر والجنة كان تردده لسان حال المعركة الشرسة والأطراف المتطايرة والدماء التي تلون أرض موتة .. لكن ابن رواحة يقذف مرة أخرى بالخوف وبشعر كالحتف .. كان الشعر على أرض مؤتة صهوة من الأهوال .. كان الشعر وقودًا يؤجج أرض مؤتة التي تحترق بأنفاس المحاربين وتكبيرهم وصياحهم وأنينهم. يواصل ذلك الصحابي وصفه لما رآه من أمرائه الأشاوس فيقول: "لما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراك تكرهين الجنة قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه

أين خالد بن الوليد

وقال أيضًا: يا نفس إلا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت هل أنت إلا نطفة في شنه ... قد طال ما قد كنت مطمئنة يريد صاحبيه زيدًا وجعفرًا" (¬1) "ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال وأنت في الدنيا .. ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل" (¬2) رضي الله عنه واستشهد مع صاحبيه وفعل فعلهما .. اختفى الأمراء الثلانة لكن راية الإسلام ترفرف فقد اختطفتها يد أحد الصحابة الذين يحبون الموت في سبيل الله ولا يحبون الإمارة "أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال: يا معشر المسلمين .. اصطلحوا على رجل منكم .. قالوا: أنت .. قال: ما أنا بفاعل .. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. أين خالد بن الوليد في وسط هذه المعمعة كان ابن الوليد يفتك بالروم فردًا فردًا ويفتك أيضًا بالسيوف فردًا فردًا .. يقول رضي الله عنه وقد أفنى مجموعة من السيوف على رقاب النصارى العرب وأسيادهم: "يقول لقد انقطعت في ¬

_ (¬1) سنده صحيح وهو سند الحديث السابق انظر ابن هشام 5 - 28 وتاريخ الطبري 2 - 151 والبداية والنهاية 4 - 245. (¬2) سنده صحيح وهو سند الحديث السابق انظر ابن هشام 5 - 28 وتاريخ الطبري 2 - 151 والبداية والنهاية 4 - 245.

خالد بن الوليد واستراحة المحارب

يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية" (¬1) ثم أخذ الراية بعد الشهيد ابن رواحة. "فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس" (¬2) ووقى الله بحسن تصرف خالد جيش الإسلام من انتكاسة لأن استمرار الحرب معناها الإبادة لا محالة .. فقوة الروم ونصارى العرب لا يمكن هزيمتها بمثل هذا الجيش الصغير الذي يشرب أفراده الموت كما يشربون الماء .. هم لم ينتصروا على جيش الروم لكنهم أيضًا لم يهزموا وقد قنع كل فريق بما جرى له وعليه .. لكن بعض المسلمين تمكنوا من تحقيق أهدافهم الشخصية التي من أجلها خرجوا .. أما بقية الجيش فهم يشعرون بالهزيمة لأنهم لم يكونوا ضمن موكب أمرائهم الذين تعطروا بجراحهم لدخول الجنة .. لذلك مال بهم أميرهم الجديد إلى مكان آمن. خالد بن الوليد واستراحة المحارب خالد بن الوليد الذي ولد في عالم الإسلام أميرًا أخذ جيشه بعيدًا وقد أسعد الروم تصرفه ذلك فلم يقوموا بملاحقته .. لأنهم ليسوا على استعداد لتقديم المزيد من الضحايا على يد جيش لا تخيفه الأرقام ولا الأجسام .. ولو كان النصارى في حالة معنوية مرتفعة للاحقوهم حتى الإبادة .. لكن ذلك لم يحدث فهم يحبون الحياة كما يحب المسلمون الجنة .. في هذه الأثناء كانت المدينة تلهج بالدعاء بالنصر وعودة المحاربين ظافرين .. لكن الوحي سبق الجيش بالأخبار والبشائر والأحزان .. يقول أحد الصحابة ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 5551. (¬2) سنده صحيح وهو سند الحديث السابق انظر ابن هشام 5 - 28 وتاريخ الطبري 2 - 151 والبداية والنهاية 4 - 245 ومعنى خاشى أي تاركهم.

خالد بن الوليد سيف من سيوف الله

"إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعى زيدًا وجعفرًا قبل أن يجيء خبرهم نعاهم وعيناه تذرفان" (¬1) كان النعي مصحوبًا بالدموع والمجد ولقب خالد لخالد بن الوليد .. خالد بن الوليد سيف من سيوف الله " نعى -صلى الله عليه وسلم- زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذه ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان (¬2) حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم" (¬3) وهذا الفتح يعني ضمن ما يعني قرارًا سليمًا أو نصرًا على تلك الأرض الميتة .. انتشر الخبر فانتشر الحزن والبكاء واليتم .. أحد أيتام مؤتة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يتحدث عن مرارة ذلك اليوم فيقول: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيشًا واستعمل عليهم زيد بن حارثة فإن قتل واستشهد فأميركم جعفر بن أبي طالب فإن قتل واستشهد فأميركم عبد الله بن رواحة فانطلقوا فلقوا العدو فأخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عَزَّ وجَلَّ عليه فأتى خبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرج فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن إخوانكم لقوا العدو فأخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل حتى قتل أو ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه النسائي في الكبرى 1 - 615 والطبرانيُّ 2 - 105 والبخاريُّ ويأتي لفظ البخاري بعده وطريق النسائى هو طريق البخاري. (¬2) الذي ذرفت عيناه هو النبي -صلى الله عليه وسلم-. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 3 - 1372.

ما الذي أغضب عائشة في ذلك اليوم الحزين

استشهد ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه ثم أمهل آل جعفر ثلاثًا أن يأتيهم" (¬1) أي ترك زيارتهم .. لكنه حرض مشاعر المدينة على العناية والطواف بآلامهم فقال لمن حوله: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد جاءهم ما يشغلهم" (¬2) ثم توجه إلى بيته مثقلًا بالحزن الشديد على أحبابه وكانت عائشة تطل على ذلك المشهد الحزين لكن حزنها لم يمنعها من الغضب على تصرف أحد الصحابة الذي لم يراع حالة النبي-صلى الله عليه وسلم-. ما الذي أغضب عائشة في ذلك اليوم الحزين وبماذا همهمت في نفسها .. تقول رضي الله عنها: "لما جاء النبي-صلى الله عليه وسلم- قَتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس يعرف فيه الحزن وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب .. فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر وذكر بكاءهن فأمره أن ينهاهن فذهب ثم أتاه الثانية (فقال قد نهيتهن وذكر أنهن) لم ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبراني 2 - 105 حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبى ثنا وهب بن جرير عن أبيه عن محمد بن عبد الله بن أبى يعقوب عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر قال الحسن الهاشمي تابعي ثقة وكذلك ابن أبي يعقوب -التقريب 1 - 166 و2 - 181 ووهب ووالده ثقتان لكن رواية والده عن قتادة ضعيفة وهذه ليست منها انظر التقريب 1 - 127و2 - 338. (¬2) سنده ضعيف رواه الحميدي 1 - 247 ثنا سفيان قال ثنا جعفر بن خالد المخزومي قال أخبرني أبي أنه سمع عبد الله بن جعفر يقول لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ... وأبو داود وابن ماجه والحاكم والضياء والشافعيُّ في الأم والمسند والدارقطني والبيهقيُّ وابن راهويه والطبراني وغيرهم من طريق سفيان به وظاهر السند الصحة نظرًا لقول الحافظ في التقريب عن خالد بن ساره أنه صدوق والأصح غير ذلك راجع التفصيل في الموسوعة لكن له ما يشهد له.

يطعنه فقال: انْهَهُنَّ فأتاه الثالثة قال: والله غلبننا يا رسول الله .. فزعمت أنه قال: فاحثُ في أفواههن التراب فقلت: أرغم الله أنفك لم تفعل ما أمرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم تترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-من العناء" (¬1) "ثم أتاهم فقال لا تبكوا عليه بعد اليوم ثم قال ادعوا بني أخي فجيء بنا كأنا أفرخ فقال ادعوا لي الحلاق فأمره فحلق رؤوسنا ثم قال أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب وأما عون فشبيه خلقي وخلقي ثم أخذ بيدي فشالها فقال اللَّهم أخلف جعفرًا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه قالها ثلاث مرات فجاءت أمنا فذكرت يتمنا .. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة" (¬2) .. كلمات كالبرد على قلوب كالهجير. ولم تكن الحال بأحسن في بيت زيد بن حارثة حيث زوجته أم أيمن ويتيمه أسامة الذي ملك قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعيونه .. والذي قال فيه وفي والده الفقيد ذات يوم وهو يتحدث عن انتقاص البعض لـ"إمارة أبيه من قبله وايم الله إن كان لخليقًا لها وأيم الله إن كان لأحب الناس إلي وأيم الله إن هذا لها لخليق يريد أسامة بن زيد وأيم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده فأوصيكم به فإنه من صالحيكم" (¬3) أما بيت عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فقد شهد أهون من هذه المصيبة قبل الرحيل إلى مؤتة حيث "أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكى: واجبلاه .. واكذا .. واكذا .. تعدد عليه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 437. (¬2) هو باقي حديث عبد الله بن جعفر السابق. (¬3) صحيح مسلم ج:4 ص:1884.

فقال حين أفاق ما قلت شيئًا إلا قيل لي أنت كذلك" (¬1) فكيف هي حالها اليوم وقد بلغها أن عبد الله لن يعود بعد اليوم إلى المدينة .. يقول أحد الصحابة "أغمى على عبد الله بن رواحة بهذا .. فلما مات لم تبك عليه" (¬2) بكاء النواح والعويل الذي حدث منها في السابق بل بكته بكاء المؤمنة بقضاء الله وقدره التي تحتسب ما بها من حزن وأسى عند الرؤوف الرحيم بها وبأخيها .. هذه هي أجواء المدينة وتلك هي همومها .. أما على أرض مؤتة فاليتم له طعم آخر .. الأيتام هناك لم يعودوا صغارًا .. وعندما يكون اليتيم رجلًا فصفات الفقيد أعظم من أن تحيط بها جدران المنزل والقلوب .. على أرض مؤتة شعر بعض المساكين بيتم مرير .. وأبو هريرة أكثر من عانى ووصف وباح فقال: "ما احتذى النعال ولا انتعل ولا ركب المطايا ولا لبس الكور بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفضل من جعفر" (¬3) قال أبو هريرة ذلك مأخوذًا بسلوك جعفر وكرمه تجاهه وتجاه غيره من المساكين وهو سلوك يرتقى إلى مستوى الإسلام .. أبو هريرة المسكين الذي نحت الجوع على وجهه لغة لا يقرأها إلا جعفر والنبي -صلى الله عليه وسلم- يبكي على جعفر الممدد أمامه .. يبكي على الجود الممدد على أرض مؤتة .. يبكي على يديه اللتين طالما قدمتا له وأعطته وواسته وكأنهما انفصلتا عن جسده لتقديم المزيد من العطاء .. يتحدث أبو هريرة عن تلك اللغة التي ¬

_ (¬1) البخارى 4 - 1555. (¬2) البخاري 4 - 1555. (¬3) سنده صحيح رواه ابن سعد 4 - 41 وغيره من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي هريرة وخالد تابعي صغير ثقة وعكرمة إمام معروف وخالد عن عكرمة على شرط البخاري.

يعرف تفاصيلها حبيباه محمد وجعفر فيقول: "لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حجرة عائشة مغشيًا علي فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون .. وما بي من جنون ما بي إلا الجوع" (¬1) ويقول رضي الله عنه: "آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع .. وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع .. ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل .. ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل .. ثم مر بي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي .. ثم قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال: الْحقْ ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنًا في قدح فقال من أين هذا اللبن قالوا أهداه لك فلان أو فلانة قال: أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي -وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها- فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة .. كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها .. فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بد .. فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم .. وأخذوا مجالسهم من البيت .. قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله .. قال: خذ فأعطهم .. فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى .. ثم يرد علي القدح فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروي ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروي، ثم يرد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 6 - 2670.

علي القدح حتى انتهيت إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-وقد روى القوم كلهم .. فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر لي فتبسم .. فقال أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال بقيت أنا وأنت .. قلت صدقت يا رسول الله قال اقعد فاشرب فقعدت فشربت .. فقال اشرب فشربت .. فما زال يقول اشرب حتى قلت لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا .. قال فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة" (¬1) أبو بكر الذي تصدق بكل ماله على المساكين وعمر الذي تصدق بنصف ماله على أمثال أبي هريرة لم يقرءا ما خلف سؤال أبي هريرة من أنين .. لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأه .. أما جعفر فللحديث عنه عند أبي هريرة مذاق مميز .. إنه يدافع عن نفسه وعن كثرة رواياته لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحمله الحديث إلى بيت جعفر حيث تتدفق الرحمة والكرم فيقول: "إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشبع بطني حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير .. ولا يخدمني فلان ولا فلانة وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع .. وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني .. وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها" (¬2) .. جعفر القادم من الغربة والفقر ينجز في عام واحد فقط أضعاف ما ينجزه البعض في أعمارهم الطويلة والعريضة .. الإنسان موقف وجعفر أكثر من موقف .. ها هو الشاب الصغير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقلب جسد جعفر الطاهر بعينيه ويعدد ويحدد تلك الطعنات اللذيذة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5 - 2370. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1359.

الخلاف بين الصحابي اليمني وخالد بن الوليد

النازفة فيدهش لكثرتها ويدهش لمواقعها .. فليس فيها على كثرتها طعنة أو رمية من الخلف .. يقول ابن عمر "أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره يعني في ظهره" (¬1) لأنه ليس بحاجة إلى الالتفات إلى الدنيا القابعة خلفه فقد عقر فرسه وعقر الدنيا معها وهو بحاجة شديدة إلى هذه الجنة التي يحاول شق جموع الروم المحتشدة كي يرتمي بين أحضانها .. وقد دخل الجنة بطريقة غير مسبوقة فقد شاهده النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه فقال "رأيت جعفرًا ملكًا ذا جناحين" (¬2) ولما عاد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى المدينة "كان إذا سلم على ابن جعفر قال السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" (¬3) لكن قبل عودة عبد الله بن عمر ومن معه رضي الله عنهم حدث خلاف حول مسألة مادية هي أحقية الفارس بمتاع المقتول من الأعداء وكان: الخلاف بين الصحابي اليمني وخالد بن الوليد فبينما يطالب اليمني بكل سلب الرومي من سرجه المذهب وسيفه إلى فرسه الشقراء يرى قائد المعركة الجديد غير ذلك. وتدخل عوف بن مالك لحل الخلاف فلم يغير من الأمر شيئًا فكانت هذه القصة التي يرويها عوف نفسه وكان طرفًا فيها فيقول: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1553. (¬2) هذا الجزء من الحديث حسن وتخريجه طويل لذلك راجعه في موسوعة السيرة وهو عند الطبراني وابن سعد والحاكم وغيرهم. (¬3) صحيح البخاري 3 - 1360.

"كنت فيمن خرج مع زيد بن حارثة رضي الله عنه في بعث مؤتة فرافقني مددي من أهل اليمن ليس معه إلا سيفه، فنحر رجل من الجيش جزورًا له فاستوهبه المددي من جلده فوهب له فبسطه في الشمس على أطرافه فلما جف اتخذه كهيئة الدرقة وجعل له مقبضًا. ومضينا حتى لقينا الروم ومعهم من معهم من نصارى العرب فقاتلونا قتالًا شديدًا ومعهم رومي على فرس له أشقر عليه سيف مذهب وسلاحه مذهب فيه الجوهر وسرجه مذهب فجعل يغري بالناس فتلطف المددي فجلس له جانب صخرة فلما مر به ضرب عرقوبي فرسه فقعد على رجليه وخر عنه الرومي وعلاه المددي بالسيف حتى قتله وأخذ سلبه فأتى به خالد بن الوليد فلما فتح الله علينا أعطاه خالد بن الوليد السلب وأمسك منه فقلت يا خالد أما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى .. فقلت: فلم لم تعطه السلب كله؟ قال: استكثرته .. قلت: لتردنه إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فأبى أن يرد عليه .. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا خالد .. ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله .. استكثرته فقال رسول الله: -صلى الله عليه وسلم- يا خالد .. أعطه السلب كله .. فولى خالد ليفعل .. فقلت: كيف رأيت يا خالد ألم أف لك بما قلت لك؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ فأخبرته .. قال: يا خالد .. لا تعطه شيئًا .. هل أنتم تاركوا لي أمرائي لكم صفوته وعليهم كدره؟ قالها مرتين أو ثلاثًا" (¬1) لأن من حق الفرد مهما كان أن يشتكي أميره عند إمامه وأن يحتج ويبين وجهة نظره وأن ينكر الظلم ويحاول إزالته وهذا ما فعله عوف بن ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا تخريجه وهو عند مسلم مختصر واللفظ لأبي عوانة 1 - 4240.

مالك رضي الله عنه لأن الأمير ليس معصومًا ولا مقدسًا ولا إطلاق في صلاحياته .. لكن ليس من حق المأمور التشفي والتحدي ووضع الغرض الشخصي ضمن أهداف تلك الأعمال النبيلة الراقية وهو ما أفسد جهود عوف رضي الله عنه لأن الأمور اتخذت منحى آخر يرفضه الإسلام .. تعلم الجميع من النبي -صلى الله عليه وسلم- حريتهم وحدودهم وسعدوا ببشاشة النبي-صلى الله عليه وسلم- بوجوههم .. وبعد أيام رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رؤيا تحمل الفزع والسرور معًا ورأى فيها قادة مؤتة .. فقال لأصحابه: "بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتياني جبلًا وعرًا فقالا لي اصعد فقلت: إني لا أطيق فقالا إنا سنسهله لك فصعدت حتى كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة قلت ما هذه الأصوات قالوا هذا هو عواء أهل النار ثم انطلق بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دمًا. فقلت ما هؤلاء قال هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخًا وأنتنه ريحًا وأسوأه منظرًا. فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الزانون والزواني ثم انطلق فإذا أنا بنساء تنهش ثديهن الحيات. فقلت ما بال هؤلاء فقال هؤلاء اللواتي يمنعن أولادهن ألبانهن ثم انطلق بي فإذا بغلمان يلعبون بين نهرين. فقلت من هؤلاء قال هؤلاء ذراري المؤمنين ثم شرف لي شرف فإذا أنا بثلاثة نفر يشربون من خمر لهم.

قلت من هؤلاء قال هؤلاء جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ثم شرف لي شرف آخر فإذا أنا بثلاثة نفر. قلت من هؤلاء قال إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ينتظرونك" (¬1) هذه البشرى لم تمنع الصحابة من الحزن على أولئك الرجال الأفذاذ و"لما اشتد جزع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على من قتل يوم مؤتة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدركن الدجال قومًا مثلكم أو خيرًا منكم ثلاث مرات ولن يخزي الله أمة أنا أولها وعيسى بن مريم آخرها" (¬2) في غزوة مؤتة شهادة ومجد للأموات وأما الأحياء فيكفيهم رضا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أدائهم أما خالد بن الوليد فتميز بحيازته على شرف القيادة واللقب .. لكن ماذا عن عمرو بن العاص رفيق خالد؟ لا بد أنه يتحرق لخدمة الإسلام كما خدمه رفيقه .. لم يكن النبي-صلى الله عليه وسلم- بعيدًا عن مشاعر عمرو الداهية ولا عن توظيف دهائه في نشر دين الله .. استدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعرض عليه قيادة حملة سميت فيما بعد بـ ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحاكم 2 - 228 واللفظ له وابن حبان 16 - 536 والنسائيُّ في السنن الكبرى 2 - 246 وابن أبي شيبة ج: 7 ص: 331 من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سليم بن عامر الكلاعي حدثني أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .. عبد الرحمن ثقة من رجال الشيخين- التقريب1 - 502 وشيخه ثقة من رجال مسلم - التقريب 1 - 320. (¬2) سنده صحيح رواه الحاكم 3 - 43 حدثنا أبو بكر بن إسحاق أنبأ محمد بن شاذان الجوهري ثنا زكريا بن عدي ثنا عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن أبيه رضي الله عنه .. عبد الرحمن تابعي ثقة التقريب 1 - 475 وصفوان ثقة التقريب 1 - 368 وكذلك عيسى التقريب 1 - 103 وزكريا بن عدي وابن شاذان ثقتان.

غزوة ذات السلاسل

غزوة ذات السلاسل فبعد مؤتة وذات شتاء قارس استدعي عمرو بن العاص للمثول بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فمثل وتحدث عن ذلك الحوار مع نبيه فقال: "بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني .. فأتيته وهو يتوضأ .. فصعَّد فيَّ النظر ثم طأطأ .. فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك وأرغب لك من المال رغبة صالحة .. قلت: يا رسول الله .. ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبة في الإسلام وأن أكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فقال: يا عمرو .. نعم المال الصالح للمرء الصالح" (¬1) ونعم الجيش الصالح جيش عمرو هذا .. سمع عمرو تلك الكلمات الجميلة وأطاع قائده وانطلق بجيشه الذي كان ضمنه رجال سبقوا عمرًا بالفضل والإسلام أمثال أبي بكر وعمر. يقول أحد الصحابة المشاركين في ذلك الجيش: "رأيت أبا بكر رضي الله عنه في غزوة ذات السلاسل وكأن لحيته لهب العرفج على ناقة له أدمًا أبيض خفيفًا" (¬2) ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه أحمد 4 - 197 والبخاريُّ في الأدب 1 - 112 والبيهقيُّ في الشعب 2 - 91 وابن حبان 8 - 6 والحاكم 2 - 257 من طرق عدة عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه قال سمعت عمرو بن العاص يقول وعلي تابعى ثقة التقريب 1 - 36 وأبنه موسى حسن الحديث من رجال مسلم التقريب 1 - 186. (¬2) سنده قوي رواه الطبراني في الكبير 1 - 57 حدثنا فضيل بن محمد الملطي ثنا أبو نعيم ثنا مسعر عن أبي عون عن رجل من بني أسد وسند الطبراني صحيح لولا جهالة حال شيخ الطبراني رغم إكثار الطبراني للرواية عنه انظر الجرح والتعديل حيث سكت عنه 7 - 76 وله شاهد في الآحاد والمثاني 1 - 87 حدثني محمد بن عبد الله بن نمير أن عبدة بن سليمان حدثهم عن إسماعيل عن رجل من بني أسد قال رأيت أبا بكر وهذا السند رجاله ثقات ابن نمير ثقة حافظ فاضل وشيخه ثقة ثبت التقريب 2 - 180 و1 - 530 وشيخه إسماعيل ابن أبي خالد تابعى ثقة ثبت من رجال الشيخين التقريب 1 - 68.

إذا كان أبو بكر وعمر والعظماء أمثالهما تحت قيادة رجل لم يسلم إلا منذ أشهر فهناك تميز لهذا الرجل في مثل هذا الموقف .. فهل ستشير ذات السلاسل إلى الأفق الذي كان - صلى الله عليه وسلم -يرمي بتصرفاته إليه .. كانت المدينة في حالة طوارئ .. كان المسجد يموج بالمعنويات والحماس والرايات السوداء والوداع .. وبلال كان في حالة تأهب لحماية النبي -صلى الله عليه وسلم- .. أحد الصحابة قدم لتوه إلى المدينة وتساءل عما يجري داخل المدينة وقال: "قدمت المدينة فدخلت المسجد فإذا هو غاص بالناس وإذا رايات سود تخفق وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت ما شأن الناس قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص" (¬1) رفرف الصحابة ورفرفت الرايات خلف عمرو بن العاص منطلقين شرقًا حتى أتوا على مشارف بلاد طي عندها طلب عمرو بن العاص رجلًا عارفًا بالدروب للاستفادة منه في الوصول إلى الهدف .. فأخبره الصحابة أنهم لا يعرفون سوى لص محترف وشهير يدعى: رافع الطائي وهو أعلم الناس بالصحاري والدروب خاصة في هذه المنطقة .. رافع نفسه يروي قصة انضمامه إلى جيش ذات السلاسل فيقول: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل وبعث معه في ذلك الجيش أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وسراة أصحابه فانطلقوا حتى نزلوا جبل طي فقال عمرو انظروا إلى رجل دليل بالطريق فقالوا ما نعلمه إلا رافع بن عمرو فإنه كان ربيلًا في الجاهلية فسألت ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه الترمذيُّ 5 - 392 وغيره من طرق عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث بن يزيد البكرى قال وهو حسن من أجل الإمام عاصم وإلا فبقية رجاله ثقات: أبو وائل اسمه شقيق بن سلمة الأسدي وهو ثقة مخضرم -التقريب 1 - 354 وشيخه صحابي واسمه الحارث بن حسان.

طارقًا ما الربيل قال اللص الذي يغزو القوم وحده فيسرق" (¬1) ويذكر أحد الصحابة بعض أساليب رافع في البقاء حيًا في الصحاري بعد أن ينجح في سرقاته فيقول إنه: "كان لصًا في الجاهلية وكان يعمد إلى بيض النعام فيجعل فيه الماء ويضعه في المفازة" (¬2) للاستفادة منه بعد فراره حيث يدرك العطش من يلاحقه بينما يرتوي هو من ذلك البيض الفرغ المليء بالماء المفرق في الصحراء .. وافق رافع على مرافقة جيش عمرو بن العاص لكن الغريب في الأمر أن أحد الصحابة تمكن من سرقة هذا اللص الطائي الشهير بل وأسره وإجباره على التعلم منه .. لكن قبل أن نعرف ذلك دعونا نسير مع هذا الجيش المؤمن الذي أصابه الجوع ولم يستطع رافع أن يقدم له شيئًا من بيض النعام .. لكن عوف بن مالك الأشجعي صاحب المجاهد اليماني وخصم خالد بن الوليد يتبرع للقيام بشيء قد يخفف من جوع بعض رفاقه .. يقول عوف بن مالك رضي الله عنه: "غزونا وعلينا عمرو بن العاص ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ سيأتي كاملًا بعد قليل وقد رواه الطبراني في الكبير 5 - 21 ثنا إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر عن طارق بن شهاب عن رافع بن عمرو الطائي قال وهذا السند صحيح لولا إبراهيم بن المهاجر وهو من رجال مسلم صدوق لين الحفظ لكن الحديث رواه من هو أوثق منه كما سيمر معنا في تتمة القصة. (¬2) سنده قوي رواه الإمام أحمد 6 - 24 والبيهقيُّ في الكبرى 6 - 120 والدلائل 4 - 404 والروياني 1 - 396 وغيرهم من طرق عن سعيد بن أبي أيوب وابن لهيعة جميعًا عن يزيد ابن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط أخبره عن مالك بن هدم يعني عن عوف بن مالك الأشجعى .. ابن لهيعة تابعه سعيد وهو ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 292 وشيخه يزيد تابعى ثقة فقيه من رجال الشيخين وشيخه ربيعة وكذلك مالك تابعيان وثقهما الإمام توثيقًا لفظيًا -159 و 419.

أبو بكر الصديق يتمكن من سرقة رافع

وفينا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فأصابتنا مخمصة شديدة فانطلقت ألتمس المعيشة فألفيت قومًا يريدون ينحرون جزورًا لهم فقلت إن شئتم كفيتكم نحرها وعملها وأعطوني منها ففعلت فأعطوني منها شيئًا فصنعته ثم أتيت عمر بن الخطاب فسألني من أين هو فأخبرته فقال أسمعك قد تعجلت أجرك وأبى أن يأكله ثم أتيت أبا عبيد فأخبرته فقال لي مثلها وأبى أن يأكله فلما رأيت ذلك تركتها" (¬1) .. لم يبرر الجوع لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وعوف رضي الله عنهم أن يتناولوا لقمة شكوا في إباحة مصدرها .. وكأن الصديق يجعل من جهالة تحديد أجرة الذبح مبررًا لتركها .. وكأنه يقول لعوف: أنه لا بد من تحديد الأجرة قبل القيام بالعمل المتفق عليه وحكمة الإسلام هي في إقصاء أسباب النزاع بين العامل وصاحب العمل لا سيما إذا كان الاثنان من المسلمين .. فالاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي قبل كل شيء وليس كاقتصاد اليهود والمشركين الذين يتسم بالمراباة والاستغلال واللا أخلاقية لكن المدهش أن أبا بكر الصديق بعد هذا كله يقوم بسلب بعض أشياء رافع الطائي .. أبو بكر الصديق يتمكن من سرقة رافع السرقة هنا ليست على طريقة رافع الطائي بل على طريقة أبي بكر الصديق وفي وضح النهار وعلى مرأى من الجميع .. ففي تلك الأجواء ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه الإمام أحمد 6 - 24 والبيهقيُّ في الكبرى 6 - 120 والدلائل 4 - 404 والروياني 1 - 396 وغيرهم من طرق عن سعيد بن أبي أيوب وابن لهيعة جميعًا عن يزيد ابن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط أخبره عن مالك بن هدم يعني عن عوف بن مالك الأشجعى .. ابن لهيعة تابعه سعيد وهو ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 292 وشيخه يزيد تابعي ثقة فقيه من رجال الشيخين وشيخه ربيعة وكذلك مالك تابعيان وثقهما الإمام توثيقًا لفظيًا- 159 و 419.

والليالي الباردة جدًا كان دفء أبي بكر وعطفه يغمران رافعًا حتى أحس بقلبه ومشاعره بين يدي الصديق .. كان رافع مأخوذًا بصاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورفيق عمره وكأنه قد هبط عليه من السماء .. يقول رافع: "لما كان غزوة ذات السلاسل قلت اللَّهم وفق لي رفيقًا صالحًا فوفق الله عَزَّ وَجَلَّ أبا بكر رضي الله عنه فكان ينيمني على فراشه ويلبسني كساء له من أكسية فدك فإذا أصبح لبسه ولا يلتقي طرفه حتى يخله بخلال" (¬1) أي يجمع طرفي ثوبه بعود أو إبرة ولذلك صار رافع ينادي أبا بكر: يا ذا الخلال ويواصل رافع حديثه فيقول "رافقت أبا بكر في غزوة ذات السلاسل وعليه كساء له فدكى يخله عليه إذا ركب ونلبسه أنا وهو إذا نزلنا" (¬2) كانت مشاعر أبي بكر الفياضة تعرف طريقها إلى أحوج الناس إليها ولم يكن هناك أحوج إلى الرعاية والعطف من هذا الشقي الهائم في البراري والجريمة .. قدم له أبو بكر كرمًا وخلقًا ساحرين جعلته يتعلق به دون غيره .. ومارس أبو بكر دور الداعية الناضج بالتربية المحمدية ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الضحاك في الآحاد والمثاني 4 - 442 حدثنا إبراهيم بن حجاج السامي ثنا عبد الوارث بن سعيد نا محمد بن جحادة عن طلحة بن مصرف عن سليمان الأحول عن طارق بن شهاب عن رافع الطائي قال وسليمان بن أبي مسلم تابعى ثقة من رجال الشيخين -التقريب 1 - 330 وتلميذه طلحة ثقة قارىء فاضل من رجال الشيخين -التقريب 1 - 380 ومحمَّد بن جحادة ثقة من رجال الشيخين انظر التقريب 2 - 150 وعبد الوارث العنبري بالولاء ثقة ثبت من رجال الشيخين 1 - 527 وشيخ الضحاك ثقة ومن رجال الشيخين كبقية رجال السند -التقريب 1 - 33. (¬2) سنده صحيح رواه ابن أبي عاصم في الزهد 1 - 108 حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا وكيع وأبو معاوية المعنى واحد قالا حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن رافع بن أبي رافع الطائي قال .. في هذا السند أراني لا أحتاج لترجمة هؤلاء الأئمة سوى سليمان بن ميسرة وهو ثقة قاله ابن معين -الجرح والتعديل 4 - 143 وللحديث شواهد مرت أسانيدها.

السخية .. لم يحدثه عن الإسلام جعل أخلاق الإسلام تتحدث إليه .. تغطيه وتدفئه وتحنو عليه .. جعل أخلاق الإسلام تقله وتظلله حتى ذهل عن كل شيء سوى الإسلام .. استحضر دفاتره وحسابات عمره وأحصى ماله وما عليه فرأى بقلبه الذي ولد اليوم على يد أبي بكر أشياء جميلة ورائعة تمر بين يديه وهو غافل عنها .. رأى بذلك القلب كم هي المسافة بينه وبن هؤلاء القوم الذي يتولى بنفسه إرشادهم إلى دربهم .. هي المسافة بين من يحلق في الأجواء وبين من ينحشر في الجحور .. رايات سوداء لكن القلوب بيضاء ترفرف في سعادة غامرة .. لا خمر لا سباب لا بغضاء ولا عداوة .. نظافة وطهارة وانتظام وصلاة وحب لا مثيل له .. أما هو فسطو وقتل ونهب وغدر وخمر وفر وحياة أذل من حياة حيوان تطارده كل وحوش الأرض .. تلك هي حال رافع الطائي وهو يرافق جيش الإسلام حتى اقتربوا من جيش المشركين عندها بدأت ملامح الدهشة تحدق بعمرو بن العاص الذي بدأ يتصرف بغرابة أثارت الكثير من الجيش مما حدا بعمر بن الخطاب إلى التوجه نحو عمرو بن العاص ليطالبه بتفسير مقنع أو ليوقفه عند حد يراه عمر ومن معه رضي الله عنهم .. يقول أحد الصحابة: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لا ينوروا نارًا فغضب عمر وهم أن ينال منه [قال عمر لأبي بكر لِمَ لَمْ يَدَعْ عمرو الناس أن يوقدوا نارًا؟ ألا ترى إلى هذا الذي منع الناس منافعهم؟ فقال أبو بكر دعه قائمًا ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا] فنهاه أبو بكر رضي الله عنه وأخبره أنه لم يستعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليك إلا لعلمه

بالحرب فهدأ عنه عمر رضي الله عنه" (¬1) والتزموا طاعة الأمير رغم فضل الكثير منهم عليه وسبقهم إياه في الدخول إلى الإسلام .. وكان أبو بكر رضي الله عنه أرفع الصحابة منزلة وأعلم الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعلم الناس بمراده الذي خفي على كثير منهم .. لذا لجأوا إليه ووسطوه بينهم وبين عمرو بن العاص عله يأذن لهم بإشعال النار وسط هذا الزمهرير الذي لا يخففه سوى أكوام من الحطب واللهب .. فتوجه أبو بكر ليشفع لهم عند أميرهم فكان رد الأمير أشد من ذلك الزمهرير وأقسى .. لقد "منع الناس أن يوقدوا بليل نارًا فكلموا أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: كلمه لنا فأتاه فقال: زملوك إلي لا يوقد أحد منهم نارًا إلا ألقيته فيها" (¬2) إلى هذه المسافة وصلت الصرامة بعمرو بن العاص رضي الله عنه .. لم يأبه لتلك الوساطة التي تقدم بها خير الأمة رغم تقديره الشديد لصاحبها لكن يبدو أن لدى عمرو من المبررات ما يدفع به إلى هذا المستوى من الشدة .. وبالفعل فقد كان العدو على مقربة من جيش المسلمين الذي تأهب من الغد وأخذ أوامره وخططه من أميره لينفذها كما صدرت .. ودارت معركة كانت نهايتها للمؤمنين "فلقوا العدو فهزموهم" (¬3) وغنم المسلمون ذلك الجيش وهزموه ورأى عمرو ما بشره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم 3 - 45 عن المنذر بن ثعلبة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال والزيادة لابن أبي شيبة 6 - 539 حيث توبع ابن إسحاق تابعه الإمام الثقة وكيع بن الجراح رحمهم الله جميعًا والمنذر ثقة انظر التقريب 1 - 274 وشيخه تابعى ثقة من رجال الشيخين التقريب 1 - 403. (¬2) سنده صحيح رواه في الآحاد والثاني 2 - 103: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي نا أبي ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص وهذا السند صحيح مر معنا في هذه القصة وسعيد ثقة ووالده صدوق وهما من رجال الشيخين. (¬3) سنده صحيح وهو جزء من الحديث السابق في الآحاد والمثاني 2 - 103.

منثورًا بين يديه وولت فلول الأعداء منهزمة ذليلة "فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم" (¬1) ونهي جيشه أن يلاحق تلك الفلول المنهزمة رغم هشاشتها وسهولة أخذها مما جعل الأمر أشد غرابة من منع إشعال النار .. لكن الصحابة لم يحتجوا هذه المرة واكتفوا بموقف أبي بكر المتعقل والملتزم .. كما اكتفى عمرو بهذا الانتصار ثم أمر أتباعه بالعودة فأطاعوه .. والجدير بالانتباه أن عمرًا لم يكن أميرًا حربيًا يجب الالتفاف عليه والوقوف عند أوامره العسكرية فقط بل هو إمام الجيش في الصلاة رغم وجود من يحفظ من القرآن أكثر منه ورغم وجود من هو أفضل منه ومع ذلك التزم أبو بكر وعمر ومن معهما الصلاة خلفه مما يؤكد أنه لا مكان في القيادة الإسلامية للعلمانية النصرانية فهي قيادة لا تفرق بين الدين والدنيا .. هما مفهومان متناغمان ومهمة القائد تكمن بتنقية الدنيا بالدين وبإشعالها به حيث لا مكان للرهبانية وتصوفها .. ولا للمادية البحتة التي تجعل الإنسان رقمًا أو كتلة تحتل حيزًا من هذا الكون .. في ضوء هذا المبدأ كان عمرو بن العاص الأمير يؤم الناس في صلاتهم وجهادهم وذات ليلة من تلك الليالي القاتلة البرودة احتلم عمرو بن العاص ولما نهض لصلاة الفجر وجد لزامًا عليه أن يستحم .. لكن الماء بارد والجو أبرد وحتى لو قام بعملية تسخين الماء فالتسخين لن يزيل ضرر الاستحمام وسط هذا الجو الزمهريري القارس .. في مثل هذه الأحوال تتداعى الحلول من كل جهات الأرض والسماء .. يقول عمرو: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي ¬

_ (¬1) سنده صحيح وهو جزء من الحديث السابق في الآحاد والمثاني 2 - 103.

كلمات أبي بكر لرافع الطائي

الصبح" (¬1) أما سبب فعله ذلك فبسيط للغاية إنه يقول "إني سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما" (¬2) والله لا يكلف نفسًا إلا ما قدر طاقتها .. يقول-صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬3) وجد عمرو في القرآن مخرجًا لما هو فيه .. أما رافع الطائي فقد وجد في صاحب الخلال الرائعة بوابة يهرب خلالها مما هو فيه من تشرد وضياع وحياة وضيعة .. ففي طريق العودة توجه رافع بقلبه إلى صاحب الخلال .. إلى رفيقه الرائع أبي بكر الصديق فكانت كلمات الصديق أجمل ما تعلمه وأغلى ما حصل عليه رافع في حياته كلها .. كلمات أبي بكر لرافع الطائي يقول رافع "انطلقت معهم حتى إذا رجعوا من المكان الذي حاجتهم فيه أتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت يا ذا الخلال توسمتك من بين أصحابك قال ولم؟ قال: لتعلمني .. قال: قد اجتهدت .. فقلت: أردت أن تخبرني بشيء يسير إذا فعلت كنت معكم ومنكم .. قال: تحفظ أصابعك ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أبو داود 1 - 92 واللفظ له وأحمدُ 4 - 203 والحاكم 1 - 285 والبيهقيُّ 1 - 225 وغيرهم .. عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن عمرو بن العاص وهذا السند صحيح يزيد تابعى ثقة فقيه: التقريب 2 - 363 وشيخه المصري ثقة 2 - 82 وعبد الرحمن بن جبير تابعى كبير ثقة عالم بالفرائض التقريب 1 - 475. (¬2) سنده صحيح رواه أبو داود 1 - 92 واللفظ له وأحمدُ 4 - 203 والحاكم 1 - 285 والبيهقيُّ 1 - 225 وغيرهم .. عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن عمرو بن العاص وهذا السند صحيح يزيد تابعى ثقة فقيه: التقريب 2 - 363 وشيخه المصري ثقة 2 - 82 وعبد الرحمن بن جبير تابعى كبير ثقة عالم بالفرائض التقريب 1 - 475. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 6 - 2658.

الخمس؟ قلت: نعم، قال: فذكر شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة الخمس وتخرج زكاة مالك إن كان عندك وتحج البيت وتصوم رمضان .. قال: وخير لا تأمرن على اثنين .. فقلت: وهل تكون الإمرة إلا فيكم أهل المدر .. قال: لعلها تفشو فتبلغك ومن هو في دونك .. إن الله لما بعث نبيه -صلى الله عليه وسلم- دخل الناس في الإسلام فهم عواذ الله وجيران الله وفي خفرة الله .. إن الأمير إذا كان في قوم فظلموا فلم ينتصر بعضهم من بعض انتقم الله منهم .. ولعمر الله إن الرجل منكم يظل ناتيًا عضله غضبًا لجاره والله من وراء جاره" (¬1) اكتفى رافع بوصية الصديق العظيمة واعتنقها وودع أصحابه مؤمنًا بعد أن صاحبهم مشركًا .. ودعهم بغير القلب الذي استقبلهم به وبقي في أرضه ليبدأ حياة بيضاء بالتوحيد .. وغاب الجيش عن ناظريه لكنه لم يغب عن ذاكرته ووجدانه .. أما جيش ذات السلاسل فسافر كالشوق نحو المدينة .. وقد تزامن وصوله مع وصول مسافر حمل معه عجوزًا من بني تميم تقيم في بادية يقال لها الربذة بين مكة والمدينة وهي تبحث عن أحد يحملها إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- .. هذا المسافر هو أحد الصحابة واسمه الحارث بن حسان وقد أثارت تساؤله تلك الرايات السوداء وتلك الاحتفالية بعودة المحاربين منتصرين محملين بالغنائم وأحاديث السفر. يقول الحارث "خرجت لأشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله فمررت بالربذة فإذا عجوز منقطع بها من بني تميم فقالت يا عبد الله إن لي إلى رسول الله حاجة فهل أنت مبلغي إليه .. قال: فحملتها فقدمت المدينة" (¬2) فـ ¬

(¬1) حديث صحيح مر معنا وهو حديث رافع السابق. (¬2) حديثٌ حسنٌ رواه البخاري في التاريخ الكبير 2 - 260 والطبريُّ في التفسير: 8 - 220 و 221 من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث .. قال: وهذا السند =

"دخلت المسجد فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قائمًا على المنبر يخطب وفلان قائم متقلد السيف فإذا رايات سود تخفق .. قلت: ما هذا قالوا عمرو بن العاص قدم من جيش ذات السلاسل" (¬1) "فلما نزل رسول الله من على منبره أتيته فاستأذنت فأذن لي .. فقلت: يا رسول الله إن بالباب امرأة من بني تميم وقد سألتني أن أحملها إليك قال: يا بلال .. ائذن لها قال فدخلت فلما جلست قال لي رسول الله: هل بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم .. وكانت لنا الدائرة عليهم فإن رأيت أن تجعل الدهناء بيننا وبينهم حاجزًا فعلت. تقول المرأة: فإلى أين يضطر مضطرك يا رسول الله؟ قال: قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول معزى حملت حتفها وحملتك تكونين على خصمًا أعوذ بالله أن أكون كوافد عاد. فقال رسول الله وما وافد عاد قلت: على الخبير سقطت: إن عادًا قحطت فبعثت من يستسقي لها فبعثوا رجالًا فمروا على بكر ابن معاوية فسقاهم الخمر وتغنتهم الجرادتان شهرًا [جاريتان يقال لهما الجرادتان فخرج إلى جبال مهرة فنادى إني لم أجئ لمريض فأداويه ولا لأسير فأفاديه اللَّهم اسق عادًا ما كنت مسقيه فمرت به سحابات سود فنودي منها خذها رمادًا رمددًا لا تبق من عاد أحدًا] ثم فصلوا من عنده ¬

__ = حسن من أجل الإمام عاصم وقد سبق الحديث عن السند عند الحديث عن الرايات السود. (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه البخاري في التاريخ الكبير 2 - 260 والطبريُّ في التفسير: 8 - 220 و 221 من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث .. قال: وهذا السند حسن من أجل الإمام عاصم وقد سبق الحديث عن السند عند الحديث عن الرايات السود.

شكوى ضد عمرو بن العاص

حتى أتوا جبال مهرة فدعوا فجاءت سحابات .. وكلما جاءت سحابة قال: اذهبي إلى كذا حتى جاءت سحابة فنودي خذها رمادًا رمددًا لا تدع من عاد أحدًا فسمعه وكلمهم حتى جاءهم العذاب [فكانت المرأة تقول لا تكن كوافد عاد] " (¬1) ثم نظر -صلى الله عليه وسلم- في حاجة التميمية وحاجة حسان ثم قابل الأمير المظفر عمرو بن العاص بعد أن قام بعض أفراد جيشه بتقديم شكوى ضده لدى النبي -صلى الله عليه وسلم- شكوى ضد عمرو بن العاص تقبلها -صلى الله عليه وسلم- كما قبل تلك الشكوى ضد خالد بن الوليد بعد معركة مؤتة .. لكن هذه الشكوى لا تحمل شيئًا من التشفي أو الانتصار للذات .. كانت شكوى ضد الأمير هدفها الصالح العام وهي مشروعة ومبررة .. ولم يشفع انتصار عمرو بن العاص له برفض الدعوى .. فقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- باستدعاء عمرو بن العاص للتحقيق معه والنظر في الشكوى بل الشكاوى المقدمة ضده .. وتتلخص في ثلاثة أمور: الأول: منعه للجيش من إيقاد النار والأجواء شديدة البرودة. الثاني: حرمانه الجيش من غنائم مؤكدة برفضه ملاحقة فلول الأعداء الهاربة من المعركة. الثالث: صلاته بالجيش وهو جنب دون اغتسال. يقول عمرو رضي الله عنه: "لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة ذات السلاسل منع الناس أن يوقدوا بليل نارًا .. فكلموا أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: كلمه لنا .. فأتاه فقال: زملوك إلي لا يوقد أحد منهم نارًا إلا ألقيه ¬

_ (¬1) جزء من الحديث السابق.

عمرو بن العاص في يبحث عن مكانه في قلب النبي (صلى الله عليه وسلم)

فيها .. ثم لقي العدو فهزمهم ولم يدعهم يطلبون العدو .. فلما رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبروه بالخبر وشكوا إليه .. فقال: كانوا قليلًا فكرهت أن يوقدوا فيستبين للعدو قلتهم .. وكرهت أن يتبعوا العدو وخفت أن يكون لهم مادة فيعطفوا على الناس. فحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره" (¬1) وتبين للجميع بعد نظر النبي-صلى الله عليه وسلم- في اختياره لقادة جيشه ودهاء عمرو العسكري مع مساحة الحرية الشاسعة في طرح المشاكل والشكاوى دون قمع أو مصادرة للرأي الآخر .. بعد ذلك طرح النبي -صلى الله عليه وسلم-سؤالًا حول اجتهاده عندما صلى بأصحابه ولم يغتسل واكتفائه بالتيمم فقط ويقول عمرو: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح .. فذكروا ذلك للنبي-صلى الله عليه وسلم- فقال: يا عمرو .. صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت إني سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئًا" (¬2) انتصارات لعمرو بن العاص في الحرب والسلم .. خرج عمرو منها بأشياء كثيرة لكن نفسه كانت تحدثه بنصر أكثر اتساعًا وأعمق غورًا .. عمرو بن العاص في يبحث عن مكانه في قلب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد قام بأعمال قياسية في فترة قصيرة وهو أمر لم يكن يحلم به بل هو من المستحيلات لو ظل عمرو قابعًا متخثرًا بشركه .. ولاه -صلى الله عليه وسلم- على صاحبيه أبي بكر وعمر وهو أمر لم يكن عمرو يتوقعه .. ثم إنه انتصر في المعركة وأبدع في قراراته وأصاب في اجتهاده .. فماذا بقي سوى أن ينتصر على من ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا قبل قليل. (¬2) حديث صحيح مر معنا قبل قليل.

حوله في احتلال الجزء الأكبر من قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- .. توجه عمرو بن العاص نحو النبي -صلى الله عليه وسلم- بقلب يحلم بالكثير الكثير وسأله .. يقول رضي الله عنه: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو بن العاص على جيش ذات السلاسل .. قال: فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة .. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها .. قلت: ثم من؟ قال: عمر .. فعد رجالًا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم" (¬1) .. عندها أدرك عمرو فضل السابقين عليه وأدرك أيضًا تثمين النبي -صلى الله عليه وسلم-لقدراته وأن عليه حسب عدالة هذا النبي وإنصافه أن يبذل الكثير للَّحاق بمن سبقوه بإنجازاتهم العظيمة .. وذلك لأن عمْرًا ليس رجلًا عاديًا يقنع باعتناق الإسلام فقط دون أن يكون له دور في حياته الجديدة .. عمرو بن العاص ليس كهذا الرجل الذي جاء "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع .. وذكر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزكاة .. قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص .. قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: أفلح إن صدق" (¬2) أما عمرو فيبحث عن دور يخدم به هذا الإسلام ليعوض ذلك الفرق الذي قطعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية المهاجرين والأنصار .. وهو ممّن ينطبق عليه مفهوم الخيرية التي قدمها -صلى الله عليه وسلم- لبعض الصحابة عندما قالوا "للنبي -صلى الله عليه وسلم-: من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم .. قالوا: يا نبي الله: ليس عن هذا نسألك .. قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله .. قالوا: ليس عن هذا نسألك .. قال: فعن معادن العرب تسألونني .. قالوا: نعم .. قال فخياركم في الجاهلية ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1584. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 1 - 25.

خياركم في الإسلام إذا فقهوا" (¬1) وعمرو وخالد وأمثالهما أصحاب قرار وأدوار بارزة في الجاهلية .. فليس من المتوقع أن يخبو وهجهم بعد إسلامهم .. لأن الإسلام مأخوذ بتفجير الطاقات واستثمارها ولكن نحو الأجمل والأسمى .. وهل هناك تفجير واستثمار كهذا الذي حصل عليه عمرو وخالد .. هل هناك من قطع بلمح البصر تلك المسافة التي قطعاها أو اعتلى قمة كالتي يقفان عليها .. والمستقبل بالإسلام يعد لطاقات عمرو بن العاص الكثير والكثير مما لا يحلم به لو كان منبطحًا تحت أقدام هبل وبقية الأخشاب والأحجار المقذوفة فوق ظهر الكعبة .. ها هو بعد أن ترك تلك الأصنام التي حجمته في دائرة مساحتها لا تتجاوز مساحة دائرة الطواف بصنم .. ها هو يتبختر على مشارف أعظم دولتين في العالم فارس والروم بكل ثقة .. هذا بالضبط ما كان الإسلام يعده لأبي جهل وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط لو أسلموا .. وهذا ما تنبأ أبو سفيان بحدوثه وهو واقف على بلاط هرقل الروم ينصت إلى زعيم الروم وهو يتأهب للرحيل عن بلاطه وأرضه وسلطانه وملكه لمحمد البسيط الذي "يخصف نعله ويخيط ثوبه ويرقع دلوه" (¬2) لمحمد الذي يقول عن نفسه "آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد فإنما أنا عبد" (¬3) لمحمد الذي يأمن عنده الخائف .. أُتي له "برجل ترعد فرائصه، فقال له هون عليك فإنما أنا بن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء" (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1235. (¬2) حديث صحيح مر معنا وهذا لفظ ابن حبان 12 - 490. (¬3) صحيح الجامع للإمام الفقيد الألباني رحمه الله. (¬4) حديث صحيح رواه الحاكم 2 - 506 والطبرانيُّ 2 - 64 إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم عن جرير بن عبد وابن ماجه 2 - 1101.

ليس محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقط بل أي مسلم .. عندما يتقدم للعالم بمشروعه الحضاري .. عندما يضع نفسه خلف مشروعه لا أمامه .. عندها فقط تجد كل شيء يحبه ويخافه .. تجده يبدع يتوهج .. يعيد صياغة العالم بأحرف نقية وجديدة .. أما إذا رأيت خللًا في مشروع إسلامي ففتش عمن وضع نفسه أمام ذلك المشروع لا خلفه .. عندها تتهاوى أمام عينيك القيم والمبادئ والثوابت وينتهي بك المشهد إلى أكوام يستحيل معها الإبداع والإقناع .. لم يكن الصحابة يقدمون للعالم أنفسهم وأهواءهم كانوا يقدمون كتاب الله وسنة رسوله .. كانوا يضعون أخطاءهم ضمن أرصدتهم لا ضمن أرصدة الإِسلام .. وهو ما قفز بهم في فترة قياسية إلى حدود فارس والروم .. أما قريش ذلك الخصم الذي كان يحتقرهم ويطلق عليهم ألقابًا لا تليق إلا بالمجانين وقطاع الطرق .. قريش اليوم دون طرق دون معنويات .. فالمعنويات والانتصارات والمساحات لمحمد وأتباع محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. ولم يبق لقريش سوى شرف الحج وقد تحول إلى موسم يسخر من قريش وأصنامها وعنادها .. قريش اليوم مكبلة بعهد مع خصمها محمَّد .. ومحاطة بمناطق يملكها خصمها محمَّد .. ومخنوقة بإنجازات يصنعها خصمها محمَّد .. فما الذي بقي لقريش سوى مكة الحزينة والأصنام التي بدأت بالتآكل .. وهو في الحقيقة ليس خصمًا لها بل هي التي تصر على خصومته وها هو المجد الذي وعدها به يرف على أرض فارس والروم ولكنه للمؤمنين به أما قريش فقد أعماها رمد التحديق بهبل وبقية الأخشاب والأحجار الجاثمة على أنفاسها وعقولها كما أعمى سيد اليمامة الذي لم يكتف بالوثنية والشرك بل أقدم على شيء خطير يؤكد به كرهه لهذا النبي ودينه:

السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة (قراءة جديدة) محمَّد الصوياني الجزء الرابع مكتبة العبيكان

(ح) مكتبة العبيكان، 1424هـ فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر الصوياني محمَّد السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة. / محمَّد الصوياني - الرياض، 1424 هـ 400 ص، 16.5 × 24 سم ردمك: 0 - 375 - 40 - 9960 (مجموعة) 3 - 379 - 40 - 9960 (ج4) 1 - السيرة النبوية 2 - الحديث -مباحث عامة أ. العنوان ديوى 239 2878/ 1424 ردمك:0 - 375 - 40 - 9960 (مجموعة) رقم الإيداع: 2878/ 1424 3 - 379 - 40 - 9960 (ج4) الطبعة الأولى الخاصة بمكتبة العبيكان 1424هـ/2004 م حقوق الطباعة والنشر محفوظة للناشر الناشر مكتبة العبيكان الرياض -العليا- تقاطع طريق الملك فهد مع شارع العروبة ص. ب: 62807 - الرمز: 11595 هاتف:4654424 - فاكس: 4650129

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

زعيم اليمامة يحاول اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم)

زعيم اليمامة يحاول اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم) اسمه ثمامة بن أثال الحنفي سيد اليمامة وبني حنيفة يعلنها صريحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - "ما وجه أبغض إلي من وجهك ولا دين أبغض إلي من دينك ولا بلد أبغض إلي من بلدك" (¬1) لم يقنع ثمامة بتلك المشاعر بل حاول تجسيدها على أرض الواقع حاول أن يشفي غليله وغليل قريش والأصنام بسفح دماء النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن محاولته فشلت فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يمكنه منه .. يقول أبو هريرة رضى الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا الله حين عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما عرض له أن يمكنه الله منه وكان عرض له وهو مشرك، فأراد قتله" (¬2) لكنه خاب .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان كعادته لا يكتفي بالدعاء فقط دون الأفعال .. فالتوكل عنده هو القيام بالعمل بطريقة صحيحة مع جعل النتائج كلها على الله .. وهذا بالضبط ما قام به للإمساك بهذا المشرك الذي ملأ الحقد قلبه فأعماه عن رؤية شمس التوحيد ونهاره .. ويبدو أنه كان مدفوعاً بمفكر اليمامة ومنظرها مسيلمة الكذاب الذي بدأ يستعد لإعلان نفسه نبياً ونداً للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. في الوقت الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يعد جيشاً ذكياً لـ: غزو نجد ويبدو أن هذه الغزوة مرت بمرحلتين الأولى مواجهة جماعية غنم فيها المسلمون الكثير .. حيث يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في الدلائل 4 - 79: حدثني سعيد المقبري عن أبى هريرة وسعيد تابعي ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 297. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في الدلائل 4 - 79: حدثني سعيد المقبري عن أبى هريرة وسعيد تابعي ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 297.

عنهما "بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية وأنا فيهم قبل نجد فغنموا إبلًا كثيرة فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيرًا أو أحد عشر بعيرًا ونفلوا بعيرًا بعيرًا" (¬1) ما المرحلة الثانية فتتلخص في القبض على سيد أهل اليمامة ثمامة بن أثال الحنفي الذي يستعد للانطلاق من بلاده متوجهًا نحو مكة لأداء العمرة عندما فاجأته الخيل وأسرته وأخذته معها إلى المدينة .. قصة مثيرة تحمل حكمًا وأحكامًا عندما "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيلًا قبل نجد .. فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسرية من سواري المسجد .. فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة .. قال ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط ما شئت .. فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان من الغد فقال ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت" (¬2) .. كان أبو هريرة ومن معه من المساكين يستمعون إلى هذا الحوار ويتمنون لو ينتهى الأمر إلى شيء يفرحهم يقول رضي الله عنه "فجعلنا -المساكن- نقول -بيننا- ما يصنع بدم ثمامة، والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة" (¬3) أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرى أن الدنيا بحذافيرها لا تساوي شيئًا أمام هداية رجل أو امرأة فكيف بسيد اليمامة هذا .. "فقال ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1368. (¬2) حديث صحيح سيأتي تخريجه بعد الحديث التالي. (¬3) حديث صحيح سيأتي تخريجه بعد الحديث التالي.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عفوت عنك يا ثمامة" (¬1) "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل .. ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي .. والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي .. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي .. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يعتمر" (¬2) "فيسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرته وعلمه فخرج معتمرًا" (¬3) بعد أن اعترف بذنبه واستحقاقه لعقوبة القتل .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسره بكرمه وعفوه بعد أن أطلقه من أسر الحبال .. رافع الطائي وثمامة الحنفي وبنو المصطلق وكثير من البشر قد لا يتأثرون بكثرة صلاة المسلم أو صيامه ولا بشكل لحيته وطول ثوبه بل قد يرونها -قبل أن يسلموا- نوعًا من تعذيب الذات من أجل الخلاص .. هذه النوعية من البشر لا تأبه بالعبادات قبل هدايتها .. هي منساقة خلف خلق جميل وتعامل راق .. مأخوذة بالدين المعاملة لا بالدين العبادة .. وهي طائفة لا تجد أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - للتعامل معها .. لا تجد أفضل من محمد يتهادى خلف كلمات ربه التي تقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ¬

_ (¬1) حديث صحيح سيأتي تخريجه بعد الحديث التالي. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1386. (¬3) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في الدلائل 4 - 80 حدثني سعيد المقبرى عن أبي هريرة وأخبرني سعيد عن أبي عن أبي هريرة وهو سند صحيح انظر التخريج التالي.

غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬1) {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬2) تعامل - صلى الله عليه وسلم - بهذا المستوى مع ثمامة فحقق قول الله سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬3) وقد حولت أخلاق محمد ثمامة إلى ولي حميم بعد أن كان عدوًا مبغضًا .. ودع ثمامة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأحبابه الجدد متجهًا إلى مكة بقلب آخر وشخصية أخرى وأهداف أرقى وأسمى .. وكأنه اغتسل بنهر حياة أخرى .. وتوجه نحو قريش بعد أن "اغتسل وصلى ركعتين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد حسن إسلام أخيكم" (¬4) "فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت فقال لا ولكني أسلمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬5) "وأيم الذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة -وكانت ريف مكة- ما بقيت حتى يأذن فيها محمد - صلى الله عليه وسلم - وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش" (¬6) لقد "رجع فحال ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقى في الدلائل 4 - 80 حدثني سعيد المقبرى عن أبي هريرة وأخبرني سعيد عن أبى عن أبى هريرة وهو سند صحيح انظر التخريج التالي. (¬2) النحل: 125. (¬3) سورة فصلت - 34. (¬4) سنده قوى رواه عبد الرزاق 6 - 9 أخبرنا عبيد الله وعبد الله ابنا عمر عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبي هريرة، سعيد تابعي ثقة معروف التقريب 1 - 297 وتلميذاه أحدهما ضعيف وهو عبد الله لكن أخاه ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 537. (¬5) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1386. (¬6) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1386.

قريش تأكل الدم بسبب حصار اليمامة الاقتصادي

بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتي أكلت قريش العلهز" (¬1) أي الدماء. ادفع بالتي هي أحسن .. كلمات قليلة حولت أرض اليمامة إلى ربيع في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيف في يده .. أما قريش فـ: قريش تأكل الدم بسبب حصار اليمامة الاقتصادي بعد أن دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها فكان ثمامة استجابة الدعاء .. وعندما أشرفت قريش على الهلاك انطلق زعيمها أبو سفيان كارهًا مستغيثًا بالمدينة .. باحثًا عن مخرج لأزماته المتسارعة والثقيلة مستغلًا قرابته ومصاهرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - علها تنقذه مما هو فيه .. أبو سفيان في المدينة يطلب الرحمة من هذا الحصار ويستغيث وقد علم عبد الله بن مسعود بمجيئه فقال: "إن قريشًا أبطؤوا عن الإِسلام فدعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال اللَّهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان فجاءه أبو سفيان فقال يا محمَّد جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله فقرأ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ ¬

_ (¬1) سنده حسن كما قال الحافظ رحمه الله في الإصابة 1 - 411 وقد عزاه لابن منده من طريق علباء بن أحمر ووجدته عند البيهقي في الدلائل 4 - 81 من طريق علباء عن التابعى الثقة تلميذ ابن عباس عكرمة رحمه الله الذي رواه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو سند قوي فعلباء صدوق من رجال مسلم: التقريب 2 - 30.

ليلة المؤامرة على خزاعة عند نبع الوتير

أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} (¬1) استمر الوضع على ما هو عليه "حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلي حمل الطعام ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) وعفا عنهم لكن قريشًا لم تتأثر بذلك العفو ولم تتعظ .. لم تدرك الدرس جيدًا .. فقدت مبررات البقاء على جاهليتها ووثنيتها ولم يبق لها سوى العناد .. العناد هو آخر أسوار قريش التي بقيت لها .. لكن العناد تحول إلى قشرة خفيفة تستر بها عورة الشرك وعيوبه وفضائحه .. كانت الجزيرة العربية وما حولها تترقب نهاية حاسمة وقريبة فلم يبق في صف قريش إلا حلفاء الأصنام الذين وقعوا معها حلفًا بعد صلح الحديبية وهم بنو بكر .. لكن يبدو أن الظروف لا تساعد قريشًا كثيرًا فحتى هؤلاء الحلفاء لم تعد لهم أهمية تُذكر .. فقد تحولوا إلى فخ يُدني البقاء فيه قريشًا كل يوم من حتفها .. حتى جاءت تلك الليلة المشؤومة على قريش وحليفتها بكر عندما قررتا الانتحار عند نبع الوتير. ليلة المؤامرة على خزاعة عند نبع الوتير اتفق الطرفان قريش وبنو بكر على استغلال الليل للغدر بالقبيلة التى حالفها المسلمون عند توقيع صلح الحديبية وهي قبيلة خزاعة ومباغتتها .. وقد خطط طرفا المؤامرة أن تتم العملية بسرية لا يعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حتى ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1791. (¬2) حديث صحيح وهو أخر حديث ابن إسحاق السابق.

الشعر يستغيث النصر لخزاعة

خزاعة وكأن العملية من بقايا السلب والنهب الجاهلي .. يقول أحد الصحابة "كان في صلح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية بينه وبين قريش أنه من شاء أن يدخل في عقد محمَّد وعهده دخل ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فتواثبت خزاعة فقالوا نحن ندخل في عقد محمَّد وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرًا ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده ليلًا بماء لهم يقال له الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمَّد وهذا الليل وما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) والنيل منه ولو معنويًا .. لكن ذلك الليل لم يستطع طمس وجوه المجرمين الذين مزقوا معاهدة الحديبية التي تطرفوا في شروطها وتغطرسوا ومع كل هذا لم يلتزموا بها .. لم يستطع الظلام إخفاء تلك الجريمة فقد تمكن بعض رجال خزاعة من التعرف على المجرمين فأمرت خزاعة أحد رجالها واسمه: عمرو بن سالم كي ينطلق نحو المدينة لطلب النجدة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ففعل .. ولما وقف أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلق الشعر من أعماقه جمرًا ومراراة الشعر يستغيث النصر لخزاعة يقول أحد الصحابة "أن عمرو بن سالم ركب إلى رسول الله عندما كان من أمر خزاعة وبنى بكر بالوتير حتى قدم المدينة إلى رسول ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في الكبرى 9 - 233 حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعًا وهذا السند هو سند البخاري في روايته لأول القصة.

الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره الخبر وقد قال أبيات شعر فلما قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنشده إياها: اللَّهم إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا كنا والدا وكنت ولدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر رسول الله نصرًا عتدا ... وادعوا عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفًا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريش أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا فهم أذل وأقل عددا ... قد جعلوا لي بكداء مرصدا هم بيتونا بالوتير هجدا ... فقتلونا ركعًا وسجدا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نصرت يا عمرو بن سالم .. فما برح حتى مرت عنانة في السماء .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بالجهاز .. كتمهم مخرجه .. وسأل الله أن يعمي عليهم قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم" (¬1) فهذه الجريمة لن تمر دون عقاب رادع يوقف قريش ومن معها عند حدهم .. ولن يوقفهم عند حدهم إلا إجراء بالغ الصرامة .. لن يوقف تآمرهم وكفرهم إلا: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في الكبرى 9 - 233 حدثني الزهري عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدثاه جميعًا قالا .. وهذا السند صحيح تم الحديث عنه عند صلح الحديبية وهو سند البخاري في روايته لصلح الحديبية. والزهري وعروة تابعيان إمامان ثقتان ثبتان من أشهر الأئمة.

فتح مكة

فتح مكة فهذا النوع من البشر يستنفذ منك كل طاقات الإقناع والسلام والعفو والحكمة والموعظة الحسنة .. بل هو ينظر إلى هذه الأنماط السلوكية في الدعوة على أنها ضرب من ضروب السذاجة والسطحية والغباء تستحق الانتهازية والاستغلال والمماطلة ما أمكن .. هذا النوع لا يخضع للحق رغم سطوعه كالشمس في عينيه .. لكنه يسرع إليه إذا رأى شعاع الشمس منعكسًا على شفرة سيف حاد .. ولأهمية هذا الأمر لم يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه كيف سيكون الرد ولا متى .. حتى أهل بيته حتى أبو بكر لا يعلم هدف هذا الاستعداد ولا وجهته .. فقد دخل أبو بكر الصديق على ابنته "عائشة وهي تغربل حنطة لها .. فقال: ما هذا؟ أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاز .. فقالت: نعم فتجهز، فقال: وإلى أين؟ قالت: ما سمى لنا شيئًا، غير أنه قد أمرنا بالجهاز" (¬1) ثم صدرت أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين والأنصار جميعًا بالتأهب فامتثلوا .. وبعث - صلى الله عليه وسلم - إلى قياداته من بني سليم ومزينة فتطوع من بني سليم حوالي السبعمائة أما مزينة فتجاوزوا هذا العدد ليصلوا إلى ألف مقاتل .. وتداعت القوات من كل مكان في الجزيرة .. حتى توافر لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - قوة ضاربة قوامها عشرة آلاف مقاتل .. كل ذلك وهم لا يدرون إلى أين سيتوجه بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .. والمدهش في الأمر أن شهر رمضان قد دخل على الأمة فلم يتزحزح النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قراره بغزو مكة وتخليصها .. يقول أحد الصحابة عن عدد القوات المتوفرة "مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام الفتح حتى ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي في الدلائل 5 - 12 حدثنا محمَّد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة وهذا السند صحيح فجعفر ثقة من رجال الشيخين وعروة إمام ثقة مر معنا كثيرًا.

نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين .. فسبعت سليم وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام .. وأوعب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون والأنصار .. فلم يتخلف عنه منهم أحد .. وقد عميت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يدرون ما هو صانع" (¬1) وهو مؤشر على مدى السرية التي أحاط النبي - صلى الله عليه وسلم - هدف كل هذا الاستعداد الضخم الذي لم تشهد له الجزيرة العربية مثيلًا. ولا أستبعد أن يكون كبار الصحابة يرجحون أن مكة هي الهدف القادم .. لكنهم لا يستطيعون البوح بذلك لأن التلفظ به يعني مزيدًا من البلبلة والإشاعات والإرجاف وإعطاء العدو فرصة للتأهب .. وهم يعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يريد ذلك كله .. لكن أحد أفاضل الصحابة من المهاجرين ورجال بدر العظماء قام بعمل خطير جدًا لا يقوم به إلا منافق أو عدو لهذه الأمة .. لقد كان هذا الصحابي الجليل لماحًا فهم من هذه الجموع والترتيبات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يقصد قبيلة عادية من قبائل الجزيرة .. فقد انتصر على كل القبائل التي واجهها بسرايا محدودة العدد محدودة التجهيز .. لكن الأمر اليوم يحمل بين حروفه ضربة حاسمة ستغير وجه الجزيرة وأعماق من يسكنها .. فلا يمكن أن تكون إلا أعظم قبيلة على أرض الجزيرة ولا يمكن أن تكون إلا أقدس أرض على سطح الأرض .. وهذا ما جعل انتقام قريش من ذوي المسلمين الضعفاء متوقعًا .. وكان أهل حاطب في مكة معرضين لانتقام طواغيت قريش في حالة مداهمتهم .. وربما يستغلونهم كرهائن في حالة الانكسار وأشياء عديدة وثقيلة كالهموم تغرز حرابها في رأس ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم 3 - 46 حدثني الزهري عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: والزهري إمام مر معنا كثيرًا وعبيد الله تابعي ثقة فقيه ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 535.

حاطب ينذر قريشا معركة فاصلة

حاطب .. لكن حاطبًا يعلم من هذه الجموع ومن معنويات قريش أن النصر محسوم للإسلام وأهله فلن يضرهم أن يتصرف بطريقة تحمي أهله وهو يجزم أنها لن تعيق انتصار النبي - صلى الله عليه وسلم -: حاطب ينذر قريشًا معركة فاصلة فقد كتب خطابًا "فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) ثم تسلل - رضي الله عنه - إلى مكان إحدى النساء المسافرات إلى مكة أو أرسلها هو بذلك الخطاب .. لكن ومن باب السرية أيضًا أمرها أن تخفي كتابه بضفائر شعرها .. لكن جبريلًا عليه السلام نزل يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصنيع حاطب فاستدعى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود رضي الله عنهم فجاءوا .. ها هو علي سوف يخبرنا بما حدث. .. يقول رضي الله عنه: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها .. فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب .. فأخرجته من عقاصها (¬2) فأتينا به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممّن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬3) أخذ الفرسان الكتاب ثم عادوا إلى المدينة دون أن يمسوا المرأة بسوء فهي لا تعلم عما بداخله شيئًا .. ولما سلموه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقراءته ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 3 - 1095. (¬2) شعرها. (¬3) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1855.

مساءلة حاطب

ثم استدعى حاطبًا لمساءلته عن هذا الخطأ الشنيع الذي لا يفعله إلا أعداء هذا النبي وأعداء هذا الدين. مساءلة حاطب حاطب بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - دون قيود دون ضرب أو إهانة أو سجن على ذمة التحقيق .. لكن عمر بن الخطاب كان متأهبًا بالسيف لفصل رأس حاطب عن جسده فهو في نظر عمر منافق مرتد .. لكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - قولًا آخر وحلمًا آخر .. خاطب صاحبه بكلمات قليلة "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ .. إني كنت امرأ ملصقًا في قريش .. كنت حليفًا ولم أكن من أنفسها .. وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم .. فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي .. ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإِسلام .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه قد صدقكم .. فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق .. فقال: إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فأنزل الله السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} " (¬1) ما قام به حاطب رضي الله عنه خطأ شنيع لكنه لم يكن مقرونًا بنية فاسدة تحمله معها إلى حيث مراتع الردة وسيف عمر .. كان الدافع خوفًا على الأهل .. كان تصرفًا تمليه حالة ضعف بشرية يمر بها ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1557.

الجميع ويتجاوزها القليل .. ومع ذلك لم تفلح تلك النية السليمة في تمرير ذلك الخطأ .. لكن في هذه القصة ردع لأي حكم بالردة والسيف قبل المساءلة والتثبت واكتشاف الدوافع الحقيقية .. تلك الدوافع التي اكتشف حاطب أنه كان ضعيفًا جدًا أمامها واكتشف أيضًا كم هو مخطئ وكم هي ثقيلة تلك المسؤولية التي يحملها تجاه أمته وأسرار دولته .. ندم حاطب ندمًا شديدًا فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - واحة تقول "الندم توبة" (¬1) ووجد الإِسلام يحتفظ له برصيد أودعه أيام بدر .. وما زال يتنامى ولا يزال إلى يوم البعث .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد اطمأن إلى عدم وجود أي قناة تتسرب منها أخباره إلى أهل مكة .. ودخل شهر رمضان بروحانيته وسكينته وجماله ليضفي كل تلك الأشياء على أفراد جيشه .. ليغسلوا حماسهم بها حتى لا يتحول الحماس إلى ثأر أو تهور وللقوم ثارات لا يجتثها سوى تجذر الإِسلام في أعماقهم .. ولا يطفئ جحيمها سوى مطر الاحتساب .. ولما جاء اليوم العاشر من رمضان وكمل احتشاد الجموع نادى - صلى الله عليه وسلم - رجلًا من أصحابه اسمه كلثوم بن عتبة بن خلف الغفاري ويلقب بأبي رهم .. ولما جاء عينه - صلى الله عليه وسلم - أميرًا على المدينة حتى يعود: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه ابن حبان 2 - 379 وغيره من طريق مالك بن مغول عن منصور عن خيثمة عن بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والحاكم 4 - 272 وغيره عن عبد الله بن وهب عن يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن أنس مرفوعًا وأحمدُ 1 - 376 وغيره عن عبد الكريم قال أخبرني زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن معقل بن مقرن عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأسانيد صحيحة.

أبو رهم خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة

أبو رهم خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة يقول أحد الصحابة "مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسفره واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري .. وخرج لعشر مضين من رمضان فصام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد ماء بين عسفان وأمج أفطر .. ثم مضى حتى نزل بمر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين" (¬1) و"الظهران واد قرب مكة وعنده قرية يقال لها مر تنسب إلى هذا الوادي فيسمونها: مر الظهران" (¬2) ويحدد - رضي الله عنه - العام الذي خرج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول إنه "خرج في شهر رمضان من المدينة معه عشرة آلاف من المسلمين وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة .. فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد فأفطر وأفطر المسلمون معه .. فلم يصوموا من بقية رمضان شيئًا" (¬3) طوال مدة سفرهم .. إذًا فقد "نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين فسبعت سليم وألفت مزينة وفي كل القبائل عدد وإسلام وأوعب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد وقد عميت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يدرون ما هو صانع" (¬4) لكن ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الإمام أحمد 1 - 266 حدثني محمَّد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس وهذا السند صحيح مر معنا تحت عنوان فتح مكة. (¬2) انظر معجم البلدان 4 - 63. (¬3) سنده صحيح رواه عبد الرزاق 5 - 373 عن معمر عن الزهري فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس ومعمر ثقة ثبت فاضل معروف من رجال الشيخين: التقريب 2 - 266 وبقية السند كالحديث السابق. (¬4) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم 3 - 46 وهو السند السابق.

أبو سفيان يهرب من مكة المختنقة

بعض فرسان قريش يشعرون بسكون يسبق إعصارًا مدمرًا .. يشعرون بسكون مخيف مقلق وتحركات يجهلون هدفها بعد جريمة ارتكبها بعضهم تستحق انتقامًا فظيعًا مجهول التاريخ .. كان ليل مكة مخيفًا وكأن الجن تطل عليها من رؤوس جبالها وكأن تلك النجوم بريق عيون غيلان ووحوش .. لم يطق بعضهم هذا الجو الخانق فهرب يبحث عن محمَّد الذي لا ينضب عفوه ولا تنقطع أمطار تسامحه. أبو سفيان يهرب من مكة المختنقة إلى أجواء أكثر رحابة .. لكنه ليس أبا سفيان بن حرب والد معاوية وزوج هند بنت عتبة .. إنه أبو سفيان بن الحارث وهو ابن ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحارث بن عبد المطلب .. وبصحبته ابن له صغير ومعه أيضًا ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه: عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وخرج آخرون لتنقيب الأرض بحثًا عن شيء يريح هذه الأنفس والأرواح المتعبة وكأن حجارة ستهوي عليهم من السماء أو بركانًا ينفجر من تحت أقدامها وذلك عندما "نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران وقد عميت الأخبار عن قريش فلم يأتهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ولا يدرون ما هو فاعل خرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون وينتظرون هل يجدون خبرًا أو يسمعون به .. وقد كان العباس بن عبد المطلب أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق .. وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بين مكة والمدينة .. فالتمسا الدخول عليه فكلمت أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك .. قال: لا حاجة لي بهما .. أما ابن عمي فهتك عرضي .. وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما

قال. فلما أخرج إليهما بذلك ومع أبي سفيان بني له .. فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشًا وجوعًا .. فلما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لهما ثم أذن لهما فدخلا وأسلما" (¬1) وعفا عنهما - صلى الله عليه وسلم - تلك القائمة الطويلة من الجرائم بحقه .. فكان ذلك العفو جمرًا قذفه - صلى الله عليه وسلم - في مجمرة بين أضلع أبي سفيان بن الحارث .. فتعالى الشعر من صدره ذكريات وزفرات ومشاعر حركت مشاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام بحركة تنضح بالعتاب على ابن عمه وقسوته معه وهو الذي لم يؤذه يومًا ولم يؤذ مشاعره "فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى فيه فقال لعمرك أني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمَّد لكالمدلج الحيران أظلم ليلة ... فهذا أوان الحق أهدي واهتدي فقل لثقيف لا أريد قتالكم ... وقيل لثقيف تلك عندي هداني هاد غير نفسي ودلني ... إلى الله من طردت كل "فلما أنشد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله من طردت كل مطرد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدره فقال أنت طردتني كل مطرد" (¬2) تلك الضربة المعاتبة لم توقف نزيف الشعر .. فقد تدفق أبو سفيان ندمًا وحزنًا وقال: "أفر سريعًا جاهدًا عن محمَّد ... وادعي ولو لم أنتسب لمحمد هم عصبة من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذا رأي يلم ويفند ¬

_ (¬1) سند صحيح وهو حديث ابن عباس السابق وهذا لفظ الطبراني 8 - 10. (¬2) سنده صحيح وهو سند الحديث السابق لكن اللفظ هنا للحاكم.

الطفولة أيضا في طريق النبي (صلى الله عليه وسلم)

أريد لأرضيهم ولست بلافظ ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد فما كنت في الجيش الذي نال ... ولا كل عن خير لساني ولا يدي قبائل جاءت من بلاد بعيدة ... توابع جاءت من سهام وسردد وإن الذي أخرجتم وشتمتم ... سيسعى لكم سعي امرئ غير لم يكن الشعر وحده هناك الطفولة أيضًا في طريق النبي (صلى الله عليه وسلم) لئن كانت الطفولة أحد الأشياء التي يستسلم قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها فإن الحديث عنها وعن براءتها يذهب عناء الطريق إلى مكة .. فعلى ذلك الطريق كانت القبائل العربية تتوجس حدثًا يرفعها أو يحطها .. كان التساؤل ممتدًا على طول الطريق يرصفه حينًا ويثير غباره أحيانًا .. وكان على الطريق طفل عذب كالمطر شغوف كعينيه البريئتين يبلغ السادسة من عمره اسمه عمرو بن سلمة .. يشده منظر المترددين ما بين مكة والمدينة .. لكن توقد ذهنه وحافظته لا يقنع بالدهشة والتأمل كقومه .. كان يستدعي المزيد ويحفظ الآيات بشكل ملفت .. ويبدو أن قصر ثوبه الوحيد يتيح له خفة الانطلاق خلف الرائح والجاي .. وكان والده سفير قومه للمسير خلف هذا الجيش المتوجه نحو مكان مجهول .. يقول هذا الطفل عن نفسه وعن قومه وعن عرب الجزيرة: "كنا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه أو أوحى الله بكذا .. فكنت

ماذا عن العباس بن عبد المطلب

أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري .. وكانت العرب تلوم (¬1) بإسلامهم الفتح .. فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق .. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم" (¬2) أي ذهب قبل قومه للاستفسار عما يجري. ماذا عن العباس بن عبد المطلب لقد خرج - رضي الله عنه - وقد أخرجه من مكة خوفه على تاريخ قريش ومستقبلها .. ولعله بقي كل هذه المدة يخفي إيمانه للإبقاء على زعامة أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه القبيلة العظيمة فهو الوحيد الباقي من أبناء عبد المطلب العشرة .. ولا يمكن أن يفرط بتلك الزعامة لعبدة الأصنام من حوله .. فزعامة أبي سفيان لمكة كانت كزعامة أبي جهل زعامة إثارة وعزف على العواطف لا زعامة حكمة ونضج وتروي .. خرج العباس بن عبد المطلب خائفًا على مدينته وقبيلته من تهور تدفع ثمنه غاليًا وغاليًا جدًا .. ها هو العباس يتحدث عن تلك اللحظات التي تحبس الأنفاس وتزهق الأرواح وذلك "لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمر الظهران قال العباس: واصباح قريش .. والله لئن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر .. الدهر قال: فجلست على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت: لَعَلِّي ألقى بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة .. فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ¬

_ (¬1) يعني ينتظرون. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1564.

عمر يريد قتل أبي سفيان بن حرب

وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول ما رأيت كاليوم قط نيرانًا ولا عسكرًا .. يقول بديل: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب .. يقول أبو سفيان: خزاعة والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها .. قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة .. فعرف صوتي .. فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم .. قال: ما لك فداك أبي وأمي .. فقلت: ويحك يا أبا سفيان .. هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس واصباح قريش والله .. قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستأمنه لك .. فركب خلفي ورجع صاحباه" (¬1) إلى مكة أما العباس فكان خائفًا على صديقه أبي سفيان .. وكان خوفه في موضعه فقد رآه عمر بن الخطاب ففرح فرحًا شديدًا بتمكنه منه .. لكنه لا يستطيع أن يقدم على مس هذا التاريخ الطويل من الأذى والحرب على رسوله إلا بإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. لذلك ركض نحوه طالبًا الإذن بتصفية أبي سفيان فلن يجد فرصة كهذه الفرصة .. عمر يريد قتل أبي سفيان بن حرب والعباس يريد إنقاذه حيث يقول - رضي الله عنه -: "فحركت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلته .. حتى مررت بنار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: من هذا؟ وقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة قال: ¬

_ (¬1) سنده صحيح وتخريجه في نهايته.

أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد .. ثم خرج يشتد نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيء الرجل البطيء .. فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل عمر فقال: يا رسول الله .. هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد فدعني فلأضرب عنقه .. قلت يا رسول الله: إني أجرته ثم جلست إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت برأسه فقلت: لا والله لا يناجيه الليلة رجل دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلًا يا عمر أما والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا .. ولكنك عرفت أنه رجل من رجال بني عبد مناف .. قال: مهلًا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إسلام الخطاب. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اذهب به إلى رحلك يا عباس فإذا أصبح فائتني به .. فذهبت به إلى رحلي فبات عندي فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله. قال: بأبي أنت وأمي ما أكرمك وأوصلك .. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئًا .. قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك هذه والله كان في نفسي منها شيء حتى الآن" (¬1) كان داخل أبي سفيان كتلة من العناد والزعامة والأوهام المتكلسة التي تعيق نظره إلى الحقيقة لكن حد السيف جعله يتخلص منها .. لأن السيف سيبيده معها ¬

_ (¬1) تخريجه في نهايته.

إسلام أبي سفيان

كما أباد أبا جهل على أرض بدر .. ثم نسي الناس من يكون أبو جهل ونسوا زعامته وبقي محمَّد ومن معه .. لذلك تم: إسلام أبي سفيان وذلك عندما "قال العباس ويحك يا أبا سفيان أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد بشهادة الحق وأسلم .. قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر فاجعل له شيئًا قال: نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن" (¬1) لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يريد إيمانًا كإيمان ابن سلول .. فأبو سفيان زعيم وإيمان هذا الصنف من الناس لا يمكن أن يتم إلا إذا واجهته بعاصفة من الحقائق يستحيل بقاؤه معها .. وقد أحب - صلى الله عليه وسلم - أن يقدم لأبي سفيان برهان ما قاله هرقل زعيم الروم أمواجًا تتلاطم على وجه الأرض وتغرق الأصنام ومن يعبدها .. لكن قبل ذلك قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقسيم جيشه إلى أربع كتائب أو أقسام: كتيبة تمثل جناحًا أيمنًا يقودها الزبير - رضي الله عنه - .. وكتيبة أخرى تمثل جناحًا أيسر ويقودها خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. وقسم يقوده أبو عبيدة وهم الحسر الذين لا يملكون دروعًا ويبدوا أنهم في المؤخرة .. وقسم يقوده النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قلب الجيش وأكثره .. وهو عبارة عن معظم القبائل العربية .. وفرقة مدرعة ضخمة لقبت بالخضراء لشدة سوادها من كثرة الدروع وهو مكون من المهاجرين والأنصار .. ¬

_ (¬1) حديث صحيح تخريجه عند نهايته.

أما قريش فقد جمعت لها جيشًا من المرتزقة من بعض أفراد القبائل في محاولة كالمقامرة بحيث إذا ما تمت المعجزة وانتصروا شاركوهم في الغنائم وإن انهزموا فاوضوا المسلمين .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر حزمًا هذه المرة فقد قرر حصد كل من يقاوم من تلك القوات المرتزقة وغيرهم .. وخص الأنصار وحدهم دون غيرهم بتنفيذ هذه المهمة .. وهذا الحصد هو ما بقي من خيارات استنفذتها قريش كلها .. أبو هريرة - رضي الله عنه - كلف بمهمة تجميع الأنصار .. ها هو يقول: "أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل مكة فبعث الزبير على أحد الجنبتين .. وبعث خالد بن الوليد على اليسرى .. وبعث أبا عبيدة على الحسر فأخذوا الوادي .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتيبته .. وقد بعثت قريش أوباشًا لها وأتباعًا لها فقالوا: نقدم هؤلاء وإن كان لهم شيء كنا معهم .. وإن أصيبوا أعطينا ما سألوا .. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني فقال: يا أبا هريرة .. اهتف بالأنصار فلا يأتيني إلا أنصاري فهتف بهم: يا معشر الأنصار أجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فجاؤوا كأنما كانوا على ميعاد .. ثم قال: اسلكوا هذه الطريق ولا يشرفن لكم أحد إلا أنمتموه .. فجاؤوا فأحاطوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم وضرب بيده اليمنى مما يلي الخنصر وسط اليسرى وقال: احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا .. قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل من شاء منهم إلا قتله وما يوجه أحد منهم إلينا شيئًا" (¬1) ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1405 وابن حبان 11 - 74 والبيهقيُّ 9 - 117وابن أبي شيبة 7 - 397 وغيرهم واللفظ لابن حبان والزيادة للدارقطني والحاكم 2 - 62 من طريق محمَّد بن الفضل عارم وهدبة بن خالد قالا حدثنا سلام بن مسكين عن ثابت عن عبد الله ابن رباح عن أبي هريرة وهي زيادة صحيحة.

النبي يمر أمام أبي سفيان

أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أمر عمه العباس أن يأخذ زعيم قريش أبا سفيان إلى مكان يطل على ممر الجيش كله حتى يرى بعينيه قوات المسلمين وحتى يتأكد من عدم جدوى المقاومة وحتى يتطاير ما تبقى لديه من شك في صدق محمَّد ونبوته. يقول العباس مكملًا قصته: "فلما ذهب لينصرف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها .. قال: فخرجت به حتى حبسته حيث أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أحبسه .. ومرت به القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: من هؤلاء؟ فأقول: سليم .. فيقول: ما لي ولسليم .. ثم تمر القبيلة قال: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة .. فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى تعدت القبائل لا تمر قبيلة إلا قال: من هؤلاء؟ فأقول: بنو فلان .. فيقول: ما لي ولبني فلان؟ حتى" (¬1) حتى ماذا .. كان أبو سفيان ينتظر مرور النبي - صلى الله عليه وسلم - محاطًا بالمهاجرين والأنصار لأنه لا يزال يرى أن تلك القبائل ما هي إلا عبيد لمن غلب .. وهو يريد رؤية هذا الذي غلب وهل بالإمكان مقاومته .. بقي أبو سفيان متحرقًا حتى مر به سيل أسود كالموت. النبي يمر أمام أبي سفيان " مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخضراء كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق .. قال: سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجرين والأنصار. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبراني 8 - 9 حدثني محمَّد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس وهذا سند صحيح مر معنا تخريجه تحت عنران فتح مكة وقد تابع ابن إسحاق جعفر بن برقان.

أين والد الصديق

قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل .. لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا .. قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة .. قال: فنعم إذن" (¬1) إلى هذه اللحظات الحاسمة وأبو سفيان لا يزال يصر على أن الأمر زعامة وملك وقد أعمى العناد بصيرته كما هي حال الكثير من أمثال أبي سفيان ممّن يحملون أفكارًا منحرفة عن الإِسلام .. إذا رأوا انتصار الإِسلام ومده ينتشر كالطوفان ويجرف ما تبنوه من أفكار متهالكة برروا انتشاره وانتصاره بكل شيء إلا الاعتراف بأنه حق .. ولا يمكن أن يسلم أمثال هؤلاء إلا إذا رأوا حكم الإِسلام واقعًا مطبقًا وسيفًا يحطم تلك الكثافة الغليظة من العناد والتي لا يمكن معها أن يصبح الفرد إلا معيقًا لكل إبداع .. وفي الوقت الذي كان فيه أبو سفيان متحسرًا على مجد وثني ينهار أمام عينيه كان أول الناس إسلامًا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أسعد الناس بهذا النصر العظيم الذي شارك في كل لحظة من لحظاته وفي كل خطوة من خطواته .. وها هو اليوم يحوم على الخيل يرتبها وينظمها ويشرف على تحركاتها .. لكن شيئًا ما يكدر صفو هذا النصر ويحزن يوم أبي بكر ذلك هو والده الشيخ الطاعن في السن والعمى والشرك .. فأين هو الآن؟ أين والد الصديق في الوقت الذي كلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالإشراف على الخيل كان والده يرقبه من بعيد رغم أنه أعمى وبصحبته أصغر أخوات أبي بكر ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبراني 8 - 9 حدثني محمَّد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس وهذا سند صحيح مر معنا تخريجه تحت عنوان فتح مكة وقد تابع ابن إسحاق جعفر بن برقان.

الصديق وذلك "لما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي طوى قال أبو قحافة لأصغر بناته: أظهريني على الجبل .. وكان يومئذ أعمى .. قالت: فأشرفت به عليه .. فقال: ما ترين؟ فقالت: سوادًا مجتمعًا .. فقال: تلك والله الخيل .. قالت: وأرى بين يدي ذلك السواد رجلًا يسعى مقبلًا ومدبرًا فقال: ذاك الوازع -يعني الذي يأمر الخيل ويتقدم إليها- وكان الوازع يومئذ أبو بكر ابن أبي قحافة .. فقالت: وأرى أن ذلك السواد قد انتشر .. فقال: قد والله دفعت الخيل فأسرعي فانحدرت به من الجبل وتلقته الخيل قبل أن يصل إلى بيته .. وكان في عنق الجارية طوقًا لها من ورق .. فمر عليها رجل فاقتطعه منها" (¬1) وذهب العقد ولكن هناك ما هو أهم من العقد بالنسبة للعباس ابن عبد المطلب .. هناك قريش وأهل مكة .. لكن يبدو أن أبا سفيان لا يزال مشدوهًا مأخوذ العقل بما يجري على ساحة كانت قبل ساعات ساحة يظللها نفوذه وتخضع لكلمته .. وها هو اليوم لا يملك نفوذًا ولا كلمة .. فأراد العباس أن يوقظه مما هو فيه فالخيل إلى مكة ومن عليها أكثر شوقًا ولهفة .. يقول العباس - رضي الله عنه -: "قلت النجاء إلى قومك .. فخرج حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش .. هذا محمَّد قد جاءكم بما لا قبَلَ لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه امرأته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الدسم الأحمس فبئس من طليعة قوم. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه ابن راهويه 1 - 132 والطبرني 24 - 88 وأحمدُ 6 - 349 حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت ... وهذا السند صحيح مر معنا قبل قليل.

قال: ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاء ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: ويلك وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق بابه فهو آمن .. ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد" (¬1) يطاردهم الموت في كل شبر طاردوا فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. ها هو الموت يحمله عشرة آلاف محارب تغص بهم مكة .. وها هى طرقات مكة تخلو من أهلها الذين طالما نشروا الرعب والتعذيب والاضطهاد فيها .. ها هي طرقات مكة لا يسير فيها إلا مؤمن .. وها هي ساحاتها التي عذب فيها بلال وعمار وخباب تهتز ربيعًا بهم .. وها هو الشرك وأهله يفرون كالفئران إلى مساكنهم وإلى المسجد الحرام .. فقد عزلوا كالطاعون والأوبئة في تلك البيوت. ها هو أحدهم يحمل متاعه ويتسلل هاربًا نحو آخر معاقل المشركين .. إنه وحشي قاتل حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبيبه لم يستطع أن ينعم بحريته التي حصل عليها والتي دفع ثمنها غاليًا جدًا .. ومع ذلك فهو يشعر بجبال مكة تتحول إلى حتف يكاد يطبق على صدره .. ويشعر بفداحة جرمه وكأن هؤلاء العشرة آلاف قد جاءوا للأخذ بثأر حمزة .. لذلك فر وحشى ليجد أبواب الطائف مفتوحة لاستقباله .. لنترك وحشي ونعود إلى الصحابة الذين يعودون إلى بيوتهم ومراتع طفولتهم وبيت ربهم دون قيد أو شرط أو طعنة أو ضربة سوط .. أين أبو جهل وأبو لهب وأمية وعقبة ليشهدوا ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبراني 8 - 9 حدثني محمَّد بن مسلم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس وهذا سند صحيح مر معنا تخريجه تحت عنوان فتح مكة وقد تابع ابن إسحاق جعفر بن برقان.

هذا الأمان لا يشمل أربعة من مشركي قريش

هذا المنظر الذي عاشوا لاغتياله واغتيال من يتمناه .. أما أبو سفيان فبعد أن رأى هذه الفاجعة ذهب هذه المرة بنفسه خائفًا بعد أن قال - صلى الله عليه وسلم - "احصدوهم حصدًا حتى توافوني بالصفا. قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل من شاء منهم إلا قتله .. وما يوجه أحد منهم إلينا شيئًا فقال أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أغلق بابه فهو آمن .. ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن فأغلقوا أبوابهم" (¬1) لكن: هذا الأمان لا يشمل أربعة من مشركي قريش ربما لرفعهم السلاح ومقاومتهم للمسلمين وربما لجرائم شنيعة ارتكبوها وقد استثناهم - صلى الله عليه وسلم - وذلك "يوم فتح مكة أمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة وامرأتين وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة؛ عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح" (¬2). ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1405 وغيره مر قبل قليل وهو حديث أبي هريرة. (¬2) حديثٌ حسنٌ وسنده ضعيف رواه ابن أبي شيبة وغيره عن طريق أسبان بن نصر عن السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه وهذا السند ضعيف من أجل كثرة أخطاء أسباط وهو من رجال مسلم وهو صدوق التقريب 1 - 53 وشيخه أوثق منه وهو صدوق يهم أي أن حديثه حسن إذا لم يخالف وهو من رجال مسلم أيضًا ومصعب تابعي ثقة: التقريب 2 - 251 لكن الحديث له شاهد وهو مرسل عكرمة ولم يذكر فيه عكرمة لكن يشهد لذكر عكرمة أحاديث آخرى: ابن أبي شيبة 7 - 402 وللحديث شاهد عند الطبراني 6 - 66 وغيره من طريق عمرو بن عثمان المخزومي وهو مقبول حسب التقريب 2 - 75 أي عند المتابعة أو الشواهد ثم وجدت له شاهدًا يرفعه إلى درجة الحسن عند البزار: زوائد 2344 من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس ومبارك والحسن ثقتان لكنهما مدلسان وقد عنعنا وحديثهما في هذه الحالة حسن بالشواهد.

ما مصير هؤلاء الأربعة الذين أهدر دمهم

ما مصير هؤلاء الأربعة الذين أهدر دمهم خبر ورود هذه الأسماء ضمن لائحة المطلوبين أمواتًا ينتشر الآن في مكة .. وكلما انتشر الخبر في مكان خسر هؤلاء مساحة من الأمن .. حتى أصبحت مساكن مكة وطرقاتها ووديانها وجبالها تضاريس للموت والرعب الذي لا يطاق .. أما عكرمة بن أبي جهل وخليفته في حمل لواء العنف ضد الإِسلام والمسلمين فقد فر على وجهه من مكة حتى وجد نفسه أمام البحر "فركب البحر" (¬1) وأما مقيس فيبدو أنه لم يأخذ وقتًا طويلًا حتى قضي عليه فقد "أدركه الناس في السوق فقتلوه" (¬2) .. أما ذلك المرتد المدعو عبد الله بن أبي سرح والذي كان أحد كتبة الوحي الذين تم الاستغناء عنه وعن كتابته فهو مختبئ نادم على ما صدر عنه من سخافات فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مازال حيًا والوحي لم ينقطع ينزل كل يوم وجبريل يراجع لمحمد عليهما السلام كل عام ما نزل من القرآن وبالتحديد في كل رمضان من كل عام .. أما ابن أبي سرح فقد خسر شرف الكتابة وشرف الأمانة وشرف الفروسية والنصر وهو الآن يفتش عن ثقب إبرة يهرب من خلاله. أما الشقي الرابع ابن أخطل فقد أغلقت في وجهه أبواب الهروب ففر إلى الكعبة كخيار أخير للنجاة من الموت وهو الآن متعلق بأستار الكعبة .. وسنتركه معلقًا لنعود للنبي - صلى الله عليه وسلم - كي نعرف آخر تحركاته .. إنه الآن على أبواب مكة وهو يهم بدخولها لكنه سيدخل هذه المرة من مكان يقال له: (كداء) وهو في أعلى مكة ومعه الرجل الذي حدد ¬

_ (¬1) جزء من الحديث السابق. (¬2) صحيح البخاري 2 - 572 واللفظ الثاني عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.

الشعر يحدد مكان دخول النبي لفتح مكة

مكان الدخول .. صاحبه وشاعره حسان - رضي الله عنه - وذلك قبل سنين من هذا اليوم. الشعر يحدد مكان دخول النبي لفتح مكة تقول عائشة - رضي الله عنها - "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها" (¬1) "من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء" (¬2) وركز رايته بجبل من جبال مكة يقال له (الحجون) وأمر الزبير - رضي الله عنه - بركزها هناك .. كما أمر قوات خالد بن الوليد بالدخول من كداء أيضًا لكن خالدًا لقي مقاومة هناك وقد خسرت قواته اثنين من الرجال - رضي الله عنهما - .. ها هو "العباس يقول للزبير بن العوام يا أبا عبد الله ها هنا أمرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تركز الراية .. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء .. ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم - من كداء فقتل من خيل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يومئذ رجلان حبيش ابن الأشعر وكرز بن جابر الفهري" (¬3) أما عن قصة ذلك التحديد فترويه لنا عائشة بنت الصديق - رضي الله عنها - فتقول: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اهجوا قريشًا فإنه أشد عليها من رشق بالنبل .. فأرسل إلى بن رواحة فقال اهجهم فهجاهم .. فلم يرض .. فأرسل إلى كعب بن مالك .. ثم أرسل إلى حسان بن ثابت .. فلما دخل عليه قال حسان: قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه .. ثم اندلع لسانه فجعل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 572 واللفظ الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) صحيح البخاري 2 - 572 واللفظ الثاني عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1559 والصواب من أسفل مكة بالنسبة لخالد.

يحركه فقال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإن لي فيهم نسبًا حتى يخلص لك نسبي .. فأتاه حسان ثم رجع فقال: يا رسول الله .. قد خلص لي نسبك .. والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين .. قالت عائشة: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله .. وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى قال حسان: (¬1) هجوت محمدًا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء هجوت محمَّد برًا تقيًا ... رسول الله شيمته الوفاء فإن أبي ووالده وعرضى ... لعرض محمَّد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء تظل جيادنا متمطرات ... تلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتموا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم ... يعز الله فيه من يشاء وقال الله قد أرسلت عبدًا ... يقول الحق ليس به خفاء وقال الله قد يسرت جندًا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له [كِفَاءُ] (¬1) (*) بهذا المستوى من الشعر يفتح الشاعر الإِسلامي المستقبل على ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1935. (*) قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين ساقط من المطبوع، كما أن الإشارة إلى الحاشية سقطت كذلك من الطباعة.

مصراعيه .. يرسم أشكالًا أرقى للحياة ويعمق الشعور باللا مستحيل في حياة طاقتها يقين كالوحي .. عندما قال حسان هذه الأبيات لبى شيئًا من طموح النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يرتق إليه شعر ابن رواحة ولا شعر كعب - رضي الله عنهما - .. ومازال هذا الطموح حيًا يطلق الشعر إلى تلك المستويات الغائبة المأمولة .. ولئن كان للقرآن مسافات هائلة ومذهلة ومعجزة إلا أنه لم يزح الشعر عن عرشه .. ترك له عرشه لكنه قدم له تحديًا قاسيًا أن يردم تلك المسافات الشاسعة بينهما .. إذًا فالشعر في الإِسلام إما أن يكون قطعًا لمسافات جديدة أو لا يكون .. القرآن اليوم يفتح مكة لينطلق منها إلى غيرها فماذا سيقدم الشعر وماذا سيفتح .. لا أدري لكنني اليوم أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفسح للشعر طرقاته .. ها هو يقول في طريقه لفتح مكة كلمات تحتفي بالشعر سمعها ابن عمر ورواها فقال: "لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح رأى نساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر فتبسم فقال يا أبا بكر كيف قال حسان بن ثابت؟ فأنشد أبو بكر: عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء ينازعن الأعنة مسرجات ... يلطمهن بالخمر النساء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادخلوا من حيث. قال حسان" (¬1) الذي لم يكتف بجعل الشعر تعبيرًا عن تجربة شعورية بصورة موحية .. بل تجاوزها إلى جعله كشفًا وإضاءة للقادم وتشكيلًا له .. لا على طريقة المأخوذين ¬

_ (¬1) سنده قوى رواه الحاكم 3 - 76 والطحاويُّ في شرح معاني الآثار 4 - 296 من طريق إبراهيم بن المنذر بن الحزامي قال ثنا معن بن عيسى قال حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر - رضي الله عنهما - نافع وعبيد الله ثقتان معروفان ومعن الأشجعي ثقة ثبت: التقريب 2 - 267 وتلميذه صدوق من رجال البخاري: التقريب 1 - 45 واللفظ للطحاوى وآخره للحاكم من قوله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

بالسياحة في الحلم بل بأسلوب المأخوذين بإنجاز الحلم .. كيف لا وهو يسير خلف هذا النبي العظيم الذي ينحدر كالسيل نحو مكة العطشانة .. ولما وصلها لم يجد في طرقاتها سوى الهواء النقي والذكريات الجميلة والمريرة .. هنا ولد وهنا كان يتهادى طفلًا وهنا كان يلعب مع أبي بكر وأصحابه .. وهنا كانت أمه الحبيبة تناديه وتحمله وتلاعبه .. هنا كان يسير مع جده وعمومته وأبناء عمومته .. هنا التقي بخديجة وهنا تزوجا وهنا ولدت زينب وفاطمة وأم كلثوم ورقية .. من هنا جاء يخبر خديجة عن جبريل .. وهنا دعا الناس وهنا كذبه الناس وهنا صدقوه وهنا ناصروه وهنا خذلوه وعذبوه .. هنا مكة ما أطيبها وأطيب ريحها .. ذكريات تطوف لا شك بروح أبي بكر وبلال وعمر وعمار وعلي وعثمان وخباب وصهيب وبقية المهاجرين من مكة .. لا بد أن بعض الدموع والزفرات خالطت فرح السير في طرقات مكة الجميلة .. مواكب الإيمان الجارفة ونشوة النصر العظيم لا تسكر الفرسان المؤمنين عن شكر الله وذكره .. يقول أحد الصحابة الذين كانوا يرقبون النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وينصتون إليه: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجع" (¬1) أي يردد القراءة في الحلق. كان لسانه ممتنًا لله الذي أكرمه بنصره .. ولم يكن لسانه هو الممتن فقط كان قلبه بل كانت طريقته وهو يتقدم ذلك الجيش الضخم الممتزج بعظماء الرجال تنضح بالتواضع في أرقى صوره وأعظمها .. لم يكن - صلى الله عليه وسلم - وحده على ناقته .. لم يكن مردفًا أبا بكر سيد المهاجرين ولا سعد بن عبادة سيد الأنصار ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1560.

ولا حتى سيدًا من سادات العرب .. كان - صلى الله عليه وسلم - يردف شابًا أسودًا صغير السن اسمه أسامة ابن أمير مؤتة الشهيد: زيد بن حارثة .. وبجانبه صاحبه الحبشي بلال بن رباح وهو في طريقه نحو تحطيم الأصنام وتطهير الكعبة .. لكنه كان أثناء الطريق يحطم أصنام الجاهلية داخل النفوس .. يحطم الفخر بالآباء والأجداد ليشيد التنافس على الإنجاز والإبداع .. كان - صلى الله عليه وسلم - وفي لحظات النصر يؤكد تمسكه بمبدأ المساواة التي طالما اختبأ خلفه دعاة مذهب فإذا ما انتصروا تنكروا له .. مشهد جميل ورائع للنفوس المؤمنة والمتحضرة لكنه لا شك يؤذي نفوسًا غارقة في دبق الجاهلية والتخلف .. يقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد ومعه بلال" (¬1) في هذه الأثناء يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر .. فلما نزعه جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه" (¬2) فقتل .. فالرجل لم يعلن توبته عما بدر منه ولم يطلب الرحمة ولم يقبل دين الإِسلام .. كان عنادًا كأبي جهل وقد استجار بقماش مطروح على الكعبة فلم يمنعه ذلك القماش من السيوف .. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - يطمئن مكة باستمرار التوحيد فيها ويطمئن قريشًا التي بدأت ترتعد من مصير ابن خطل بحديث جميل سمعه أحد المعنيين واسمه العاص بن الأسود .. يقول العاصي: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم فتح مكة: لا يقتل قرشي صبرًا بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة" (¬3) "لا تغزى مكة بعد هذا اليوم" (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1562. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 2 - 655 ومسلمٌ 2 - 989. (¬3) صحيح مسلم 3 - 1409 وكلمة أبي عند الحاكم. (¬4) سنده صحيح رواه الحميدي 1 - 260 ثنا سفيان قال ثنا زكريا ابن أبي زائدة عن الشعبي =

ثأر خزاعة من بني بكر

وقد قبض - صلى الله عليه وسلم - على العاصى فعفا عنه وغير اسمه إلى مطيع .. يقول ابنه عبد الله: "لم يكن أسلم أحد من عصاة قريش غير [أبي] مطيع كان اسمه العاصي فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطيعًا" (¬1) لكن إذا كانت مكة لن تغزى كدولة غير مسلمة بعد اليوم فإن حلفاء الإِسلام بني خزاعة يريدون الاحتفال بفتحها على طريقتهم المفضلة .. فتقدموا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بطلب أخذ الثأر من سبب كل هذا الذي يحدث اليوم بني بكر: ثأر خزاعة من بني بكر أرادت خزاعة الثأر ممّن غدروا بها ونقضوا العهد والميثاق دون سابق إنذار وهم بنو بكر .. فتقدموا بطلب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن لهم بغزو بني بكر على ما فعلوه فأذن لهم لكنه حدد لهم فترة زمنية قصيرة تبدأ من الآن وحتى وقت العصر فقط .. وقد أعلن - صلى الله عليه وسلم - ذلك على الملأ مطمئنًا قريش على أموالها ودمائها وأعراضها فقال: "يوم فتح مكة: كفوا السلاح إلا خزاعة من بني بكر فأذن لهم حتى صلوا العصر ثم قال لهم كفوا السلاح" (¬2) ويقول أحد الصحابة من بين خزاعة واسمه أبو شريح "أذن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح ¬

_ = عن الحارث بن مالك بن البرصاء - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة يقول وهو سند مسلم في روايته للحديث السابق مع اختلاف تلميذ زكريا وهو أحد الأئمة الثقات وكذلك الصحابي. (¬1) صحيح مسلم 3 - 1409 وكلمة أبي عند الحاكم. (¬2) سنده قوي رواه ابن أبي شيبة 7 - 403 حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد ثقة متقن عابد: التقريب 2 - 372 وشيخه المعلم اسمه حسين بن ذكوان ثقة: التقريب 1 - 176 وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سند قوي مشهور.

تحطيم الأصنام

في قتال بني بكر حتى أصبنا منهم ثأرنا وهو بمكة .. ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برفع السيف" (¬1) وذلك بعد أن تم التخلص من ابن أخطل .. وتنفس المشركون حياة أخرى وخرجوا من بيوتهم آمنين وانطلقوا للتفرج على مكة وهي مدينة إسلامية .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوجه نحو الكعبة ليخلصها من أغلالها التي خنقتها ودنست طهارتها مئات السنين .. وكان برفقته هذان الأسمران العظيمان بلال وأسامة بن زيد .. فكم هو حجم الغيظ في قلوب أهل الأصنام وهم يرون الإِسلام يحتفي ببلال وأسامة كل هذا الاحتفاء .. ويقدمهما في ساعات النصر التي يتطاول لها زعماء العرب كلهم .. وهم يرون الأحساب والأنساب لا تنفع مشركًا ولا ترفع أنفه عن الوحل .. لكن ذلك كله يهون أمام تلك الخطوات التي كان - صلى الله عليه وسلم - يمشيها نحو "ثلاث مائة وستون صنمًا" (¬2) حول الكعبة وفوقها .. كان يمشي نحوها والمؤمنون ينتظرون هذه اللحظات منذ سنوات طويلة لتفيق قريش ومن معها على حقيقة الوهم الذي عاشوه مئات السنين .. أما المشركون فينتظرون فاجعتهم بأصنامهم ويطرقون السمع إلى صوت متوقع .. صوت: تحطيم الأصنام فقد "أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة" (¬3) ¬

_ (¬1) في سنده ضعف رواه أحمد 4 - 31 ثنا وهب بن جرير قال حدثني أبي قال سمعت يونس يحدث عن الزهري عن مسلم بن يزيد أحد بني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح وسبب الضعف هو التابعي ابن يزيد فهو لم يوثقه سوى ابن حبان لكن حديثه مقبول عند الشواهد فيشهد له ما قبله. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ وابن حبان 13 - 172 ولفظ الشيخين هو نصبًا بدل صنمًا. (¬3) صحيح مسلم 2 - 966.

ثم "أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحجر فاستلمه وطاف بالبيت في يده قوس أخذ بسية (¬1) القوس فأتى في طوافه صنمًا في جنبة البيت يعبدونه فجعل يطعن بها في عينيه ويقول جاء الحق وزهق الباطل" (¬2) ربما كان هذا هو هبل الذي تغنى باسمه أبو سفيان على أرض أحد .. ربما لكن هذا الصنم ليس الوحيد الذي يزعج الكعبة والحرم ومكة .. لم يكن وحده يلوث نقاء الحياة فيها فقد كان "حول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبًا فجعل يطعنها بعود في يده وجعل يقول جاء الحق وزهق الباطل" (¬3) .. ولما انتهى - صلى الله عليه وسلم - من الطواف وتم كنس بقايا تلك الأخشاب والحجارة التي كانت ملقاة على الكعبة وحولها اكتشف الوثنيون أنهم كانوا يعبدون نفايات جمعها المسلمون وقذفوها خارج الحرم وربما في إحدى المزابل .. هذا هو الشرك ببساطة غابة من الكلام والهشيم والعناد ليس لها جذور .. ويكفي للقضاء عليها عود ثقاب صغير .. تناثرت الأصنام وطهرت الكعبة من الخارج فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تطهيرها من الداخل فطلب مفاتيح الكعبة من العائلة التي شرفها الله بحجابة بيته وخدمته وسدانته. ¬

_ (¬1) طرفها. (¬2) سنده صحيح رواه ابن خزيمة 4 - 230 ثنا عبد الله بن هاشم ثنا بهز يعني بن أسد ثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال ثنا عبد الله بن رباح وقد سمعه من أبى هريرة ورواه أيضًا من طريق الربيع حدثنا سليمان .. به وسليمان بن المغيرة ثقة من رجال الشيخين وكذلك ثابت وعبد الله ثقة من رجال مسلم فقط وقد تم تخريج الحديث تحت عنوان إسلام أبي سفيان. (¬3) صحيح البخاري 2 - 876 ومسلمٌ 3 - 1408.

من هذه العائلة وما هي قصة السدانة

من هذه العائلة وما هي قصة السدانة باختصار شديد: كان في قريش زعيم يقال له قصي وكان يتم في بيته كل أمر يهم القبيلة ويؤثر في مسارها .. وكان له أربعة أولاد أكبرهم عبد الدار وأحدهم جد النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه: عبد مناف فجعل قصي أمر الكعبة من اختصاص ابنه عبد الدار الذي يقف حفيده بجانب النبي - صلى الله عليه وسلم - واسم حفيده هذا: "عثمان بن عبد الله بن عبد العزيز بن عثمان بن عبد الدار" .. وهو يلقب الآن بطلحة "الحجبي" (¬1) وكانت المفاتيح عند أمه وهي مشركة وترفض تسليمها فاستأذن لإحضارها .. يقول أحد الشباب القرشين المتشوقين لدخول الكعبة: "دعا عثمان بن طلحة فقال ائتني بالمفتاح فذهب إلى أمه .. فأبت أن تعطيه فقال: والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي .. فأعطته إياه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه إليه ففتح الباب" (¬2) لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفض دخول الكعبة بعد فتح بابها! لماذا رفض النبي دخول الكعبة لقد شاهد مناظر كدرته .. شاهد الشرك متعفنًا داخل الكعبة يلوثها ويخنق براءتها .. شاهد صورًا وتماثيل هي بالنسبة لكثير ممّن يعمرون القبور وينسون الإنسان تحفًا وآثارًا يجب الحفاظ عليها .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقدم درسًا علميًا لمن يجعلون من تلك الآثار وحيًا لا يكذب .. درسًا يقول إنها أعمال بشرية محضة تنبع من ميول الإنسان وخياله وهواه وأساطيره وخرافاته .. ولا تعدو إطلاقًا كونها عملًا فنيًا يعبر عمن رسمها ونحتها لا عن حقيقة هذا الشىء المرسوم ووجوده. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 966. (¬2) صحيح مسلم 2 - 966.

رفض - صلى الله عليه وسلم - دخولها حتى يتم تطهيرها تمامًا و"أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت .. فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام .. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها" (¬1) هذا هو مصير التماثيل أما الصور المرسومة على جدران الكعبة "فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم .. فقال: أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة. هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم" (¬2) و"لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت" (¬3) ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة .. لم يدخل معه أبو بكر ولا عمر ولا سعد بن عبادة ولا غيرهم من كبار الصحاية .. دخل معه أسامة وبلال وسادن الكعبة "دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وأمر بالباب فأغلق .. فلبثوا فيه مليًا" (¬4) "فكبر في نواحي البيت" (¬5) يقول الشاب عبد الله بن عمر: "فمكثوا فيه مليًا ثم فتح الباب فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورقيت الدرجة فدخلت البيت" (¬6) "فكنت أول من دخل فلقيت بلالًا .. فقلت أين صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال بين العمودين المقدمين فنسيت أن أسأله كم صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬7). استطاع الشاب ابن عمر أن يسبق غيره إلى الدخول إلى الكعبة فقد كان نموذجًا حرفيًا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحب الزيادة عليها ولا النقصان .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1561. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1223. (¬3) صحيح البخاري 3 - 1223. (¬4) صحيح مسلم 2 - 966. (¬5) صحيح مسلم 4 - 1561. (¬6) صحيح مسلم 2 - 967. (¬7) صحيح مسلم 2 - 967.

بيان النصر الأول

فهي الكمال وهي النموذج والناس تتأرجح صعودًا ونزولًا حولها .. وبينما كان ابن عمر مأخوذًا بتطبيق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان المسجد يغص بالمؤمنين المزينين بنصر الله وفتح مكة وبالمشركين اللائذين ببيت الله من الموت .. وكان هؤلاء المشركون على أحر من الجمر ينتظرون بيان النصر الأول فقد تناثرت الأصنام وسيطر الجيش المؤمن على كل شيء فما هي لغة هؤلاء المنتصرين الجديدة وما هو مصير هؤلاء الخائفين داخل الحرم وخارجه .. أسئلة أجاب عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خروجه من الكعبة مباشرة وسمعها أبو هريرة بذاكرة لا تعرف الصدأ .. يقول - رضي الله عنه -: "حتى إذا فرغ وصلى جاء فأخذ بعضادتي الباب ثم قال يا معشر قريش ما تقولون قالوا نقول ابن أخ وابن عم رحيم كريم .. ثم عاد عليهم القول .. قالوا مثل ذلك "قال: يا معشر قريش ما تقولون؟ قالوا: نقول ابن أخ وابن عم رحيم كريم .. ثم قال: يا معشر قريش .. ما تقولون؟ قالوا نقول: ابن أخ وابن عم رحيم كريم" قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم .. اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فخرجوا [كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام] " (¬1) إذا كان لعظمة محمَّد مقاييس فتلك هي مقاييسها .. لا انتقام للذات ولا للأهل والعشيرة .. لم يأخذ سبايا ولا أموالًا .. ترك كل شيء لله فمن ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا رواه النسائي في الكبرى 6 - 382 والزيادة للبيهقي في الكبرى 9 - 118 من طريق سلام بن مسكين ثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة وسلام ثقة. التقريب 1 - 342 وكذلك شيخه وشيخ شيخه التابعى ابن رباح.

أجل الله دعا وحورب وحارب وانتصر .. وها هو يشرع أبواب الله لمن يريد الدخول فيها .. يشرعها بالعفو والصفح ونسيان الماضي بآلامه .. والبدء من جديد لإعادة تشكيل الأرض ومن عليها .. هرول المشركون الطلقاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "فبايعوه على الإِسلام" (¬1) هرول من في المسجد نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - أما أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فقد هرول خارجًا من المسجد يدفعه البر وتحمله الصلة .. ثم عاد - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد "أتاه أبو بكر بأبيه يعوده .. فلما رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه .. قال أبو بكر يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه .. فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره ثم قال له أسلم فأسلم ودخل به أبو بكر - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه كأنه ثغامة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا من شعره .. ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد بالله وبالإسلام طوق أختي فلم يجبه أحد .. فقال: يا أخية احتسبي طوقك" (¬2) ثم أخذ أباه "فأمر به إلى نسائه قال: غيروا هذا بشيء" (¬3) .. أما عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقد تهادى نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصحبته رجل يسحب خجله وعاره معه .. ذلك الرجل الذي خان الأمانة والثقة ورضي بأكوام الحجارة .. لكن السيف أعاد له رشده وما شرد من صوابه .. عبد الله ابن أبي سرح يقدمه عثمان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ذليلًا خائفًا تائبًا معتذرًا .. ويلخص أحد الصحابة مصيبته ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا رواه النسائي في الكبرى 6 - 382 والزيادة للبيهقي في الكبرى 9 - 118 من طريق سلام بن مسكين ثنا ثابت البناني عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي هريرة وسلام ثقة. التقريب 1 - 342 وكذلك شيخه وشيخ شيخه التابعى ابن رباح. (¬2) حديث صحيح مر معنا رواه أحمد 6 - 349 وغيره. (¬3) صحيح مسلم 3 - 1663 أي غيروا لون الشيب الأبيض.

حب الأنصار ثم باقي البشر

وتوبته بكلمات فيقول "كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) .. ولما انتهى - صلى الله عليه وسلم - من مبايعة الحاضرين نهض نحو موعده مع الأنصار نهض نحو جبل الصفا ولما "أتى الصفا لميعاد الأنصار" (¬2) حسب اتفاقه مع أبي هريرة أن يجمع له الأنصار عند ذلك الجبل .. وتحت ذلك الجبل أحس الأنصار بمرارة لا تطاق .. شعروا بلهف النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكة وبيت ربه وأشعرهم عفو النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قريش وكأن المدينة والأنصار في حالة وداع لا يحتمل فكانت هذه القصة التي ترتب: حب الأنصار ثم باقي البشر أبو هريرة كان عند الصفا يروي فيقول: "أتى الصفا فعلاها حيث ينظر إلى البيت .. فرفع يديه وجعل يحمد الله ويذكره ويدعو بما شاء أن يدعو .. والأنصار تحته .. يقول الأنصار بعضها لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته .. قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يقضي .. فلما قضي الوحي .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الأنصار .. قالوا: لبيك يا رسول الله .. قال: قلتم ¬

_ (¬1) سنن أبي داود 4 - 128 حدثنا أحمد بن محمَّد المروزى ثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس .. يزيد ثقة عابد: التقريب 2 - 365 والحسين ثقة: التقريب 1 - 182 وابنه حسن الحديث إذا لم يخالف. التقريب 2 - 35 فهو صدوق يهم .. ومن لا يهم أما شيخ أبي داود فهو الإمام أحمد رحمهم الله جميعًا. (¬2) هو حديث أبي هريرة السابق عند النسائي وغيره.

أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته .. قالوا: قد قلنا ذلك يا رسول الله .. قال فما أسمى إذًا .. كلا إني عبد الله ورسول الله هاجرت إلى الله وإليكم .. المحيا محياكم والممات مماتكم .. فأقبلوا إليه يبكون يقولون: والله يا رسول الله ما قلنا الذي قلنا إلا للضن بالله ورسوله .. قال: فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم" (¬1) "فوالله ما منهم أحد إلا بل نحره بالدموع" (¬2) "قال أبو هريرة: فرأيت الشيوخ يبكون حتى بل الدموع لحاهم" (¬3) فهذا النوع من الوفاء لا تقاومه الدموع والكلمات وحدها لا تكفى .. بذلك الوفاء طهر - صلى الله عليه وسلم - قلوب الأنصار من الحزن بعد أن طهر المسجد الحرام والكعبة من الشرك والأصنام .. وبتلك العبارات شعر الأنصار أنهم سادة الدنيا وأن مدينتهم غدت عاصمة الإِسلام .. حتى مكة أفضل بقعة على وجه الأرض غدت مدينة تابعة للمدينة المنورة .. أدرك الأنصار كم هذا النبي وفي وعظيم ولا تعرف مصطلحات تعامله شيئًا عن الجحود والنكران .. وأدرك أبو سفيان ومن معه كم يرفع الإِسلام أهله ويعلي قدرهم .. فهو اليوم يرى نفسه ومن معه من صناديد ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم وأحمدُ 2 - 538 وابن أبي شيبة 7 - 397 واللفظ له من طرق عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال هاشم قال حدثى ثابت البناني ثنا عبد الله بن رباح. (¬2) هذه اللفظة صحيحة عند الدارقطني المستدرك على الصحيحين 2 - 62 من طريق محمَّد بن الفضل عارم وهدبة بن خالد قالا حدثنا سلام بن مسكين عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة وهو سند صحيح. سلام ثقة: التقريب 1 - 342 وعارم ثقة ثبت التقريب 2 - 200. (¬3) هو جزء من حديث أبى هريرة السابق وهذه اللفظة عند النسائي في الكبرى 6 - 382.

أحداث في بيت أم هانئ

قريش دون من سبقهم إلى الإِسلام .. دون من تخلوا عن العناد والمكابرة وإغلاق العقول .. وأدرك كذلك أن الإِسلام وضع اليوم قدمه وقدم من أسلم معه على أول المضمار .. وعليهم أن يبذلوا الكثير ليلحقوا بهؤلاء العظماء الذين اصطحبهم محمَّد - صلى الله عليه وسلم - معه من المدينة وغيرها .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أنهي كلماته تلك حيث كان الوقت ضحى .. ثم توجه نحو بيت ابنة عمه أبي طالب وهي أخت علي وتدعى أم هانئ كي يرتاح ويغتسل ويغسل غبار السفر والتعب عنه .. وأخذ بصحبته ابنته فاطمة وزوجها عليًا - رضي الله عنهما - .. وقد جرت بعض الـ: أحداث في بيت أم هانئ تقول - رضي الله عنها -: "إنه يوم فتح مكة اغتسل في بيتها ثم صلى ثماني ركعات قالت لم أره صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود" (¬1) وتقول - رضي الله عنها - عندما "كان نازلًا عليها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ستر عليه فاغتسل في الضحى فصلى ثمان ركعات لا يدري قيامها أطول أم ركوعها أم سجودها" (¬2) وأثناء ذلك جاء رجل من المشركين يقال له ابن هبيرة إلى أم هانئ فارًا من الموت طالبًا اللجوء والحماية .. فقد هدده أخوها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالقتل إن وجده .. تقول أم هانئ: "ذهبت إلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1562. (¬2) سنده صحيح رواه عبد الرزاق 5 - 30 عن ابن جريج قال حدثنا ابن شهاب عن عبد الله ابن الحارث عن أم هانئ وهذا سند صحيح ابن جريج لم يدلس وابن الحارث قال علي بن المديني عنه: ثقة سمع من عمر وعثمان وعلي سمع من العباس بن عبد المطلب ومن صفوان ابن أمية ومن أم هانئ - الجرح والتعديل 5 - 30.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب .. فسلمت .. فقال: من هذه؟ قلت: أم هانئ بنت أبي طالب .. قال: مرحبًا بأم هانئ .. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد فلما انصرف .. قلت: يا رسول الله .. زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلًا أجرته فلان بن هبيرة .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ .. قالت أم هانئ: وذلك ضحى" (¬1) فالإسلام لا يفرق بين الرجل والمرأة في هذا الشأن وللمرأة أدوارها العظيمة في الحياة الإِسلامية بشرط أن تعيها وترتقي إلى مستوى الإِسلام في تفكيرها واهتماماتها .. ولما جاء وقت العصر أمر - صلى الله عليه وسلم - بني خزاعة بالتوقف عن قتال بني بكر .. يقول أحد الصحابة: "لما فتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر فأذن لهم حتى صلوا العصر ثم قال كفوا السلاح" (¬2) فكفوا السلاح .. انقضى العصر وانقضى القتال وجاء الليل فأين سينزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. طرح أسامة هذا السؤال على النبي عليه السلام فقال "يا رسول الله أين تنزل غدًا قال النبي- صلى الله عليه وسلم - وهل ترك لنا عقيل من منزل ثم قال لا يرث المؤمن الكافر ولا يرث الكافر المؤمن" (¬3) .. أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرث نصيب أبيه من تلك الدار وكذلك علي - رضي الله عنه - لم يرث والده فاستولى عقيل على نصيبهما .. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 498. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1562. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1560.

البيان رقم 2 للدولة الإسلامية في مكة

بحث - صلى الله عليه وسلم - عن مكان يبيت فيه .. لم يصادر بيت زعيم أو صنديد ولم يغتصب أرضًا ولا بيتًا ولا حتى خيمة بحجة أنه رأس الدولة الإِسلامية .. فقط نام حيث يسر الله له .. ولما جاء الغد حدث خرق لذلك الأمر الذي صدر بالأمس من النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقف القتل والقتال .. وقد قام بارتكاب تلك الحماقة رجل من خزاعة ضد أحد رجال بني بكر ولما وصل الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب غضبًا شديدًا وأنكر ذلك العمل وأصدر: البيان رقم 2 للدولة الإِسلامية في مكة يقول أحد الصحابة: "لما فتح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قال: كفوا السلام إلا خزاعة عن بني بكر .. فأذن لهم حتي صلوا العصر ثم قال: كفوا السلاح .. فلقى من الغد رجل من خزاعة رجلًا من بني بكر بالمزدلفة فقتله فبلغ ذلك رسول - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبًا فقال: "يا أيها الناس إن الله عَزَّ وَجَلَّ كرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام من حرام الله تعالى إلى يوم القيامة .. لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا ولا يعضد بها شجرًا .. لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضبًا على أهلها .. ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس .. ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فمن قال لكم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قاتل بها فقولوا إن الله عَزَّ وَجَلَّ قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة .. وارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر أن يقع .. لئن قتلتم قتيلًا لأدينه فمن قُتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاؤوا فدم قاتله وإن شاؤوا فعقله" (¬1) ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق من طريقه الإِمام أحمد 4 - 32: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعى قال: وسعيد تابعي ثقة: التقريب 1 - 297 وشيخه صحابى.

إن أعدى الناس على الله من عدا في الحرم ومن قتل غير قاتله. ومن قتل بنحول الجاهلية (¬1) فقال رجل: يا رسول الله إن ابني فلانًا عاهرت بأمه في الجاهلية (¬2). فقال: لا دعوة في الإِسلام .. ذهب أمر الجاهلية الولد للفراش (¬3) .. وللعاهر الأثلب .. قيل: يا رسول الله .. وما الأثلب قال: الحجر وفي الأصابع عشر عشر (¬4) وفي المواضع خمس خمس (¬5) ولا صلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس .. ولا صلاة بعد العصر تغرب الشمس ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها (¬6) وأوفوا بحلف الجاهلية فإن الإِسلام لم يزده إلا شدة ولا تحدثوا حلفًا في الإِسلام" (¬7) ¬

_ (¬1) أي قتل أحدًا ثأرًا. (¬2) أنه أنجب هذا الولد عن طريق الزنا. (¬3) الولد للفراش أي أن ولد الزنا ينسب لأمه فيقال فلان بن فلانة أما العاهر أي الرجل فله الرجم بالحجر. (¬4) أي من قطع إصبع أحد فدية كل أصبع عشر من الإبل. (¬5) الجرح الذي يوضح العظم. (¬6) لا يجوز للمرأة أن تنفق من مال زوجها إلا بإذنه. (¬7) حديثٌ حسنٌ رواه الإِمام أحمد 2 - 207 وابن أبي شيبة 7 - 403 والحارث "زوائد الهيثمي" 2 - 709 وغيرهم من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهذا السند قوي مشهور.

قرر النبي (صلى الله عليه وسلم) البقاء في مكة

وبعد أن انتهى من خطبته "ودى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي قتلته خزاعة" (¬1) أي دفع دية الرجل المقتول من بني بكر .. ثم حدد - صلى الله عليه وسلم - عقوبة جنائية هي القتل خطأ "فقال: لا إله إلا الله وحده نصر عبده وهزم الأحزاب وحده .. الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده .. ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تعد وتدعى .. وكل دم أو دعوى موضوعة تحت قدمي (¬2) هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" (¬3) توالت التوبة تلو التوبة والبيعة تلو البيعة. وأعطى الطلقاء فرصة كبيرة للتفكير والتروي ومراجعة النفس والتعود على حياة صافية دون أصنام أو أوثان أو خرافات .. لذلك: قرر النبي (صلى الله عليه وسلم) البقاء في مكة لمدة تكفي لإذابة ما بقى في نفوس الطلقاء من بقايا الجاهلية .. يقول أحد الصحابة "أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يومًا يصلى ركعتين" (¬4) الظهر ركعتين والعصر والعشاء كذلك أما المغرب والفجر فليس فيهما ¬

_ (¬1) هو حديث ابن إسحاق وأحمدُ السابق وهو صحيح. (¬2) أي باطلة لما قيمة لها. (¬3) بين كملة: بالعمد والسوط قال الراوي: "قال هشيم مرة". سنده قوي رواه الإمام أحمد 3 - 410 من طريق خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة بن جوشن عن عقبة بن أوس عن رجل من أصحابي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم فتح مكة: وعقبة تابعي صدوق التقريب 2 - 26 وتلميذه تابعي أيضًا وثقة: التقريب 2 - 116 وخالد بن مهران الحذاء تابعي صغير ثقة: التقريب وللحديث شواهد تقوية. (¬4) رواه البخاري 4 - 1564.

قصر .. وكان من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقصر الصلاة إذا خرج من المدينة مسافة تقارب الأربع وعشرين كيلو مترًا .. يقول أنس بن مالك "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" (¬1) والقصر هو أن يؤدي الصلاة ذات الأربع ركعات ركعتين بدلًا من أربع طوال أيام السفر .. وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة بقائه في مكة .. حيث كانت تلك الأيام عبارة عن إعطاء الطلقاء فرصة لتغيير الزاوية التي كانوا ينظرون من خلالها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .. زاوية الحسب والنسب والقبيلة والعادات والتقاليد والتنافس والثأر لينتقلوا إلى زاوية أخرى حيث الصفاء والعقل والاتزان والتجرد من أثقال الموروثات البالية .. تسعة عشر يومًا يفز فيها أكثر من عشرة آلاف مؤمن للصلاة يحيطون بالكعبة ويملأون البيت الحرام خمس مرات في اليوم والليلة .. في سكون وحركات خاشعة رائعة موحدة راكعة ساجدة خلف رجل واحد هو محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .. مشهد مهيب وجليل اختفت فيه الأصنام والأزلام وبقي فيه التوحيد نقيًا دون شوائب .. مشهد مهيب أخذ عقول الطلقاء إلى المقارنة بين صلاة هؤلاء المؤمنين الخاشعين الراكعين الساجدين وبين صلاتهم المليئة بالجهل والتخلف والهمجية {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} أي ما كانت صلاتهم إلا تصفيرًا وتصفيقًا كما كانت تعريًا أيضًا .. وقد تمكن - صلى الله عليه وسلم - من استمالة كل مكة إلى الإِسلام في تلك الفترة القصيرة حتى هذه المرأة زوجة أبي سفيان التي كانت تحمل ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثارات وأحقادًا سوداء تتجه إليه مختارة طائعة ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 481. وبعد كلمة فراسخ قال الراوي: "شعبة الشاك" أي الذي تردد في الجزم بأنها ميل أو فرسخ هو أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الححاج وليس أنس فيؤخذ بالأكثر لأنه الذي لا شك في والفرسخ مسافة تقارب ثمانية كيلو مترا.

لتبايعه بعد أن أذهلتها أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماحته وعدالته عن كل ما مضى .. تقول عائشة - رضي الله عنها -: "جاءت هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله .. ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك .. ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك .. قال: وأيضًا والذي نفسي بيده .. قالت: يا رسول الله .. إن أبا سفيان رجل مسيك .. فهل عليَّ حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ قال: لا أراه إلا بالمعروف" (¬1) أي خذي من ماله قدر ما تعارف عليه الناس من مصروف. إن إسلام هذا الكم من البشر في هذه الفترة القصيرة يوحي بحقيقة ثقافة المنتصر المقنعة وأنها لا تحتاج إلى الكثير من العناء للقبول .. لأن كل أدوات العناد الهزيلة لا تستطيع التماسك أمامها .. أما إذا كان من يحملها دون سلطان أو دولة فالثقافة المقنعة تحتاج إلى رجال كمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المهاجرين والأنصار يحملونها بسلوكهم وتعاملهم ورحمتهم لا بالتزامهم في جانب العبادات فقط .. فالعبادة بين الإنسان وبين ربه وقد تنقع فئة قليلة من أصحاب العقول وممتازي البشر .. أما دهماء الناس فتنتظر وتنظر دائمًا إلى من يقدم لها شيئًا يروي غليلها ويحقق أحلامها بسلوكه وإنجازه .. عندها يجد التوحيد دروبًا فسيحة نحو النفوس .. وهذا ما يفعله محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام اليوم على أرض مكة وتحت سمائها .. ها هو أحد الرجال القادمين لرصد الأحداث يعود إلى قومه محملًا بالإيمان فيروي ابنه الصغير بغبطة قصة عودة والده وقصة المجد الذي توجه به قومه رغم صغر سنه فيقول: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1390. ومعني مسيك: أي بخيل

"كنا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ما للناس ما هذا الرجل .. فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحى إليه أو أوحى الله بكذا فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يقر في صدري وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق .. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حقًا فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلوا كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنًا .. فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأن ابن ست أو سبع سنين .. وكانت على بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني .. فقال امرأة من الحي: ألا تغطون عنا أست (¬1) قارئكم. فاشتروا فقطعوا لي قميصًا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص" (¬2) فرح الطفل الإمام بثوبه الجديد كعادة الأطفال ولم يأنف قومه من إمامة طفل لهم في الصلاة لأن الإِسلام يريد ذلك ويستحبه .. أما على أرض مكة فما زال المبايعون والطلقاء يتوافدون على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. أما المهاجرون والأنصار فلم يكن همهم الاحتفال بانتصارهم على أرض مكة ولا استعراض سبقهم على طرقاتها .. كانت أنفاسهم أطواق نجاة لمن حولهم وكانت كلماتهم بساتين كرم للمتعبين .. ينطلقون في اتجاه كل عقل حائر وكل قلب متعب بالشرك والضياع .. فكما نجح أبو بكر مع والده أسرع البقية إلى من بقي من أرحامهم .. بل إن من دخل منهم الإِسلام يقوم بعرض قناعته على غيره وها هو أحدهم ويدعى مجاشع بن مسعود يبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: "أتيت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1564. (¬2) أي عورته.

اكتبوا لأبي شاة

النبي - صلى الله عليه وسلم - أبايعه على الهجرة فقال إن الهجرة قد مضت لأهلها ولكن على الإِسلام والجهاد والخير" (¬1) .. ثم يتجه إلى أخيه فيقنعه ويأخذ بقلبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: "جئت بأخي أبي معبد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح فقلت يا رسول الله بايعه على الهجرة قال: قد مضت الهجرة بأهلها قلت فبأي شيء تبايعه قال على الإِسلام والجهاد والخير" (¬2) فقد "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم افتتح مكة: لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا .. فإن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة .. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطه إلا من عرفها .. ولا يختلى خلاها قال العباس: يا رسول الله .. إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم قال: قال: إلا الإذخر" (¬3) وهو (حشيش طيب الريح أطول من الثيل) (¬4) وقد وافق - صلى الله عليه وسلم - على استثنائه لحاجة أهل مكة له .. أما ما عدا ذلك فلا يجوز لأحد داخل منطقة الحرم قطع شجر أو مطاردة صيد أو حتى التقاط شيء ضائع إلا لإيصاله إلى أهله أو تسليمه لمن يتولى إمارة الحرم .. كان الصحابة يستمعون بإنصات إلى تلك التعليمات وفجأة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اكتبوا لأبي شاة يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: "لما فتح الله عَزَّ وَجَلَّ على رسول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1487. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1487. (¬3) صحيح البخاري 2 - 651. (¬4) لسان العرب 4 - 303.

هوازن متواترة

الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قام في الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لن تحل لأحد كان قبلي وإنها أحلت لي ساعة من نهار وإنها لن تحل لأحد بعدي .. فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدى وإما أن يقتل فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله .. فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الإذخر .. فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال: اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتبوا لأبي شاه" (¬1) وهو إذن منه - صلى الله عليه وسلم - لمشروع تدوين أقواله وأفعاله وتقريراته .. حتى لقد تحدث راوية الإِسلام أبو هريرة عن امتثال المأخوذين بالرواية فقال "ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب" (¬2) وسط هذا الاسترخاء الجميل على سواحل الإِسلام وتحت أشعة شمسه الساحرة كان التوتر يسود مناطق قريبة من مكة وبالذات تلك المناطق التي تقطنها قبيلة هوازن الهادئة المسالمة .. والشجاعة أيضًا. هوازن متواترة فقد أربكتها الإشاعات التي ترددت حول جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - لعشرة آلاف مجاهد وأثارت مخاوفها تلك الحشود .. كانت التخمينات قد ذهبت بهوازن بعيدًا فظنت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصدها بذلك الجيش الكاسح فاستعدت لنزاله استعدادًا انتحاريًا ولا أدري من الذي وسوس لها وهي القبيلة التي لم يشهد تاريخها أي تصرف يحسب ضدها .. وقد شاركتها هذا الخوف قبيلة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 988. (¬2) صحيح البخاري 1 - 54.

ثقيف وهي قبيلة لم تقم بأي نشاط معاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - سوى ذلك الموقف الذي صدر من بعض رجالها قبل الهجرة .. لكن المبادرة جاءت من هوازن فهي الآن "على بكرة أبيها بظعنها ونعمها وشائها هي في وادي حنين" (¬1) لم يبق منها ذكر ولا أنثى إلا توجه نحو وادي قريب من مكة يسمى وادي حنين .. وقد اختبأوا "في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا" (¬2) كل هذا كان يجري في الوقت الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ينعمون بأجواء مكة الهادئة الجميلة .. ويقترب عيد الفطر فيخرج المسلمون زكاة الفطر للفقراء والمساكن في مكة ويواسونهم بطريقة ناعمة لم يتعودوا على رقتها من قبل .. ويأتي العيد فيصلي المسلمون العيد ويخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسلمين ثم يحتفل المسلمون بعيد الفطر في مكة ويرى الطلقاء كم هو جميل هذا العيد بالإِسلام وكم هو جميل هذا الإِسلام الذي طالما أغواهم العناد والشيطان بتشويهه .. ويرى الطلقاء هذه الاحتفالية الإِسلامية المدهشة فمكة صاخبة بالحركة والحب والتراحم أكثر من عشرة آلاف يفزون جميعًا خمس مرات يوميًا للصلاة ثم يرونهم بعد أداء الصلاة حول المسجد يتحادثون بود يتبايعون بأمانة ويقرضون دون ربا ويواسي بعضهم بعضًا ويقضون أوقاتًا ممتعة ومرحة ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه في الآحاد والثاني 4 - 106 أو النسائي في الكبرى 5 - 273 وغيرهما من طريق: معاوية بن سلام عن جده أبي سلام عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية - رضي الله عنه - فأبو كبشة تابعى كبير ثقة: التقريب 2 - 465 وتلميذه تابعي ثقة أيضًا من رجال مسلم: التقريب 2 - 372 ومعاوية ثقة من رجال الشيخين: التقريب 2 - 259. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق - ابن هشام 5 - 110 حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: عبد الرحمن تابعي ثقة التقريب 1 - 475 وعاصم تابعي ثقة عالم بالمغازي من رجال الشيخين: التقريب 1 - 385.

الجريمة والواسطة

تدخل البهجة على النفوس .. أهذه مكة التي كانت قبل أيام بطيئة مملة كئيبة ملوثة الأجواء بالأصنام والطبقية والعنصرية والربا والأحقاد .. لو لم يكن هذا الرجل نبيًا لما تغيرت مكة هذه الطريقة المعجزة ولو بعد آلاف السنوات .. لكن هذه الأجواء الساحرة تظل بشرية بحتة لكنها موجهة بالوحى النقي والعادل .. وما دامت بشرية فلا بد من الزلل والخطأ .. وقد حدث ذلك عندما أقدمت امرأة مخزومية على السرقة فكانت سرقتها رحمة للمسلمين ودرسًا جديدًا للطلقاء. الجريمة والواسطة حددت المرأة السارقة واعترفت بجريمتها كانت من قريش "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تقطع يدها" (¬1) "فأتي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فعاذت بأم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) بعد أن عرفت أن عقوبة السرقة هي قطع اليد .. وانتشر خبر السرقة في مكة واهتز الطلقاء لقطع يد امرأة من أعرق قبائل العرب .. لكن تلك النعرة تفتت أمام العدالة كالجذع المتآكل .. فتوجه أشرف الطلقاء وأرفعهم نسبًا متنازلين إلى شاب يتيم أسود اللون يدعى أسامة بن زيد لكي يتوسط عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإسقاط حد السرقة عن تلك المرأة نظرًا لمكانتها الاجتماعية ولأن في تطبيق الحد عليها مساسًا بتلك المكانة في نظرهم .. تقول "عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن قريشًا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح فقالوا من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فأتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه فيها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1316. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1316.

أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتشفع في حد من حدود الله فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله .. فلما كان العشي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد .. فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه .. وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد .. وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها .. ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها" (¬1) .. وتعلم الطلقاء درسًا جديدًا اسمه المساواة في العقوبة بعد أن استوعبوا المساواة في التعامل والمكافأة .. وأيقنوا أنهم أمام وحي لا يزحزحه شيء فليس بعد فاطمة من قرابة .. فالقضية لا تتعلق بشخصين أو ثلاثة يمكنهم التفاهم حول ما أخذه أحدهما من الآخر .. بل يتعلق بأمن الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم وبالتالي فهو يتناول بشكل خطير أمن الدولة برمتها فالدولة التي لا تجيد التعامل مع الجريمة لا تستحق أن تسمى دولة .. والحياة فيها لا تعرف معنى للرفاه والاستقرار .. لكن تنفيذ العقوبة في الإِسلام لا يعني سوى تنفيذ العقوبة ثم يعود المذنب بعدها بريئًا ليواصل مع غيره مسيرته في الإبداع والإنجاز في موكب هذه الدولة العادلة المنطلقة للآفاق .. هذه المرأة لم تمسح من ذاكرة الأمة ولم تصادر حقوقها في المواطنة فهي امرأة أخطأت ونالت عقابها وانتهى الأمر .. لقد تابت فـ: "قالت عائشة فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬2) .. وقد كان بإمكان أهلها ومن يهمه أمرها طلب الشفاعة من صاحب المال المسروق قبل أن يصل الأمر إلى إمام المسلمين وقائدهم وقاضيهم - صلى الله عليه وسلم - .. لكن عند وصول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1315. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1315

النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر بقتل امرأة

الشكوى إلى الإِمام تكون الشفاعة قد وصلت إلى طريق مسدود .. وتتحول الشفاعة في هذه الحالة إلى كبيرة قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عَزَّ وَجَلَّ فقد ضاد الله في أمره" (¬1) كان تطبيق هذا الحد يعني أشياء كثيرة منها تسليم الجميع بوجود دولة عظيمة ذات نظام يرتب حياتها وينطلق بها ماديًا وروحيًا .. وكان من ضرورات النظام الجديد إزالة كل شوائب الجاهلية وآثارها التي قد تسبب ارتكاسة للأمة في الحاضر أو المستقبل .. ومن أجل ذلك لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بقطع يد إحدى النساء بل أمر بقتلها .. فلماذا: النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمر بقتل امرأة هذه المرأة لم تسرق مالا ولم تقتل إنسانًا .. فقط اكتفت بجر الأمة إلى هاوية الشرك .. تلك هي العزى التي هتف أبو سفيان باسمها بعد انتهاء غزوة أحد .. فما هي العزى ومن بعث - صلى الله عليه وسلم - من شجعانه للقضاء عليها؟ أحد الصحابة يقول: "لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى .. فأتاها خالد بن الوليد وكانت على تلال السمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها .. ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: ¬

_ (¬1) سند صحيح رواه الإمام أحمد 2 - 70 وغيره من طريق زهير بن معاوية ثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد عن ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعمر بن راشد 11 - 425 وغيره من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عطاء الخراساني عن ابن عمر .. زهير ثقة: التقريب 1 - 265 وعمارة لا بأس به من رجال مسلم: التقريب 2 - 51 ويحيى بن راشد الدمشقي تابعي ثقة: التقريب 2 - 347.

ارجع فإنك لم تصنع شيئًا .. فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى خبليه يا عزى عوريه وإلا فموتي برغم فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فعممها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره قال: تلك العزى" (¬1) ولا أدري هل هذه المرأة من السحرة المشعوذين أو من مدعي الألوهية لكن القضاء عليها كان من حتميات العقيدة الإِسلامية وإلا فلا معنى للرسالة والنبوة إذا تركت تنشر خزعبلاتها وضلالاتها دون عقاب .. لكن في طريق الدولة الإِسلامية ما هو أخطر من العزى فالعزى لم تحتمل أكثر من ضربة بالسيف .. هذه الدولة تواجه الآن آخر خطر يقبع في طريقها وهو ذلك الحشد الهائل من هوازن فقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتلك التحركات فأرسل جاسوسًا من أصحابه ذكيًا يرصد تحركاتهم وأخبارهم اسمه عبد الرحمن بن أبي حدرد ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه أبو يعلى 2 - 196 والنسائيُّ في السنن الكبرى 6 - 474 وغيرهما من طريق محمَّد بن فضيل حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال .. وهذا السند حسن من أجل الوليد بن عبد الله بن جميع فهو حسن الحديث من رجال مسلم: التقريب 2 - 333 والوليد عن أبي الطفيل على شرط مسلم انظر الصحيح (3 - 1414 و 42144) وقد توبع تابعه عن أبي الطفيل في الأحاديث المختارة 8 - 220 من طريق أبي يعلى الموصلي ثنا عبد الله بن عمر بن أبان ثنا عبد الله بن المبارك أخبرني عبيد الله بن أبي زياد عن أبي الطفيل ولعل الضياء رحمه الله قد وهم في هذا السند (انظر موسوعة السيرة).

السلمي رضي الله عنه .. عن ذلك يتحدث جابر بن عبد الله الذي لم يتخلف عن أي غزوة منذ استشهاد والده العظيم فيقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لما فرغ من فتح مكة جمع مالك بن عوف النصري من بني نصر وجشم ومن سعد بن بكر وأوزاع من بني هلال .. وناسًا من بني عمرو بن عاصم بن عوف بن عامر .. وأوزعت معهم الأحلاف من ثقيف وبنو مالك .. ثم سار بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الأموال والنساء والأبناء .. فلما سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي فقال: اذهب فادخل بالقوم حتى تعلم لنا من علمهم فدخل فمكث فيهم يومًا أو يومين .. ثم أقبل فأخبره الخبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال عمر كذب ابن أبي حدرد. فقال ابن أبي حدرد: إن كذبتني فربما كذبت من هو خير مني. فقال عمر: يا رسول الله .. ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد كنت يا عمر ضالًا فهداك الله عَزَّ وَجَلَّ. ثم بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صفوان بن أمية فسأله أدراعًا مائة درع وما يصلحها من عدتها، فقال: أغصبًا يا محمَّد؟ قال: بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائرًا" (¬1) بعد أن عين أميرًا ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم 3 - 51: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار إلى حنين .. وهذا السند صحيح شيخ ابن إسحاق تابعي ثقة عالم بالمغازي التقريب 1 - 385 وشيخه تابعي ثقة من رجال الشيخين التقريب 1 - 475 لكن له شاهد عند ابن أبي شيبة 7 - 348 عن عبد الله بن أبي الهذيل مرسلًا.

غزوة حنين بين مكة والطائف

على مكة وهو صحابي اسمه: عتاب بن أسيد ويبدو من لغة الحوار بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفوان بن معطل أن صفوان لا يزال على جاهليته أو أنه أسلم مجاملة. .. أخذ - صلى الله عليه وسلم - الأدراع ثم خرج إلى: غزوة حنين بين مكة والطائف بعد أن تجهز بجيش كبير مؤلف من عشرة آلاف مجاهد قدموا معه قبل الفتح بالإضافة إلى أعداد غفيرة من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة .. وفي الطريق نطق بعض الصحابة المخلصين من الطلقاء ممّن أسلم حديثًا بكلام ينسف ما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجله بل وما بعث من أجله .. بعض الصحابة يريد تقليد المشركين يقول أحد المشاركين في تلك الغزوة واسمه الحارث بن مالك: "قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية قال فسرنا معه إلى حنين .. وكانت كفار قريش ومن سواهم من العرب لهم شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط .. يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يومًا .. فرأينا ونحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سدرة خضراء عظيمة .. فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله .. اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر؛ قلتم والذي نفس محمَّد بيده كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة .. قال: إنكم قوم تجهلون إنها السنن

لتركبن سنن من كان قبلكم" (¬1) أي اليهود والنصارى. صحح النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الزلة ثم أخذ صحابته نحو حنين .. "ساروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فأطنبوا السير حتى كانت عشية فحضرت الصلاة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله .. إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله ثم قال من يحرسنا الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله .. قال: فاركب، فركب فرسًا له فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قِبَلِكَ الليلة (¬2) .. فلما أصبحنا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل أحسستم فارسكم؟ قالوا: يا رسول الله .. ما أحسسناه .. فثوب (¬3) بالصلاة فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال: أبشروا فقد جاءكم فارسكم. فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم .. فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق (السيرة النبوية 5 - 110) حدثني ابن شهاب الزهريّ عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أن الحارث ابن مالك .. الزهريّ إمام ثقة تابعي معروف مر معنا كثيرًا وشيخه تابعي ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 334 والبقية صحابة. (¬2) أي احذر أن تسهو فيفاجئنا العدو من الجهة التي تراقبها. (¬3) نادى للصلاة.

غطفان وغيرهم ينضمون إلى هوازن

حيث أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدًا. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل نزلت الليلة قال: لا إلا مصليًا أو قاضيًا حاجة. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها" (¬1) بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحبه بثواب عظيم لا يضره معه -ربما- أن لا يقوم بشيء من النوافل .. كما بشر أصحابه بالنصر والغنائم الهائلة التي ساقتها هوازن معها بتهور وانتحارية غير معهودة .. ولم تكن هوازن وحدها فقد انضمت إليها قبيلة أخرى. غطفان وغيرهم ينضمون إلى هوازن استطاع زعيم هوازن مالك بن عوف أن يحرض من بقي من المشركين حوله على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - والقضاء عليه بعد أن فشلت قريش في ذلك .. فقد "جمع مالك بن عوف النصري: من بني نصر وجشم ومن سعد بن بكر وأوزاع من بني هلال ¬

_ (¬1) سنده صحيح مر معنا تحت عنوان: هوازن متوترة وهذا لفظ أبي داود 3 - 9 والحديث من طريق معاوية يعني بن سلام عن زيد يعني بن سلام أنه سمع أبا سلام قال حدثني السلولي أبو كبشة أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم. ومعنى أوجبت: أي فعلت فعلًا يدخلك الجنة.

ماذا أحضر المشركون معهم

وناسًا من بني عمرو بن عاصم بن عوف بن عامر وأوزعت معهم الأحلاف من ثقيف وبنو مالك. ثم سار بهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسار مع الأموال والنساء والأبناء" (¬1) ولم تكن غطفان وغيرها أقل انتحارية ولا أقل حماسًا في الاستعداد للجيش المسلم فـ: ماذا أحضر المشركون معهم لا يصدق المرء ما قام به مالك بن عوف ومن معه من زعماء المشركين في حشدهم لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سئل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تفكيرهم فأقدموا على إحضار النساء والأطفال وكل حيوان أليف تملكه هوازن وغطفان .. يقول أحد الصحابة المشاركين رضي الله عنهم: "لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنعمهم وذراريهم ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف ومن الطلقاء" (¬2) إن أشخاصًا فعلوا هذا لا يمكن وصفهم إلا بالتهور .. فالحكيم يخوض الحرب وهو يحسب حسابات النصر والهزيمة معًا .. فإن انتصر فقد حقق ما يريد وإن خسر فلا بد من خاسر والأيام تمنح له أكثر من فرصة .. لكن مالك زعيم هوازن الآن رجل المغامرة والمقامرة .. رجل الفرصة الواحدة .. ربما لثقته ببسالة جيشه .. ولم يكن المسلمون أقل ثقة منهم فقد أعجبتهم كثرتهم حتى خيل لبعضهم أن لا أحد يستطيع أن يهزمهم بعد اليوم .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح وهو حديث ابن إسحاق السابق عن جابر ومن طريقه رواه الحاكم 3 - 51. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1576.

وادي حنين وأرضها

أخبرنا الله سبحانه عن تلك المعنويات فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} لدرجة أن "خرج شبان أصحابه وإخفاؤهم حسرًا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح" (¬1) هذه الكثرة قد ترفع المعنويات لكنها قد تسحب خلفها غرورًا يكبد الكثير من الضحايا والخسائر فالنصر من عند الله لكنه لا يتحقق إلا بمجهود بشري أمر الله بتنفيذه بدقة .. ولن ينصر الله جيشًا مسلمًا مفرطًا متهاونًا أو مخالفًا للأوامر أو غير مستعد .. لذلك لا بد من تلافي الأخطاء التي تكلف أثمانًا باهظة حتى لا يقع الجيش المسلم في فخ غزوة أحد مرة أخرى .. تعالوا نقرأ تفاصيل حنين ففيها الكثير من المفاجآت .. تعالوا إلى: وادي حنين وأرضها فهي الآن تحت سيطرة جيش المشركين ويبدو من شهود العيان أن المشركين قاموا بتنظيم ما معهم من قوات وغير قوات في منتهى التهور والدهاء معًا .. بل ربما قاموا باستنساخ خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد مع اختلاف التضاريس .. فبينما كانت أرض أحد تحتوي جبالًا استغلها النبي - صلى الله عليه وسلم - نجد أرض حنين تحتوي على أودية استغلها قادة هوازن وغطفان بشكل سليم .. أما تخطيط مشركي هوازن وغطفان ومن معهما لتسيير المعركة (¬2) فهو كالتالي: قسمت هوازن وغطفان جيشها إلى قسمين: أولًا- قسم أمامي ومكانه مقدمة بطن الوادي أو لنقل مدخل الوادي ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1400. (¬2) هذا الاستنتاج بنيته على مجموع الأحاديث الصحيحة فقط لمجريات المعركة.

وهو خط المعركة الأول وقد قسمه المشركون إلى أربعة صفوف أو أربع مجموعات يقف بعضها خلف بعض وهي: الصف الأول: الفرسان الصف الثاني: المقاتلون من الرجال والشباب الصف الثالت: الأقل قوة وهم النساء والشيوخ والأطفال الصف الرابع: ومهمته معنوية وهو مكون من الأغنام الصف الخامس: ومهمته معنوية أيضا وهو مكون من بقية الأنعام وقد عبر أحد جنود الإسلام عن إعجابه بتلك الصفوف وهو أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: "افتتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينًا فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت؛ قل فصفت الخيل ثم صفت المقاتلة ثم صفت النساء ومن وراء ذلك ثم صفت الغنم ثم صفت النعم" (¬1) ثانيًا- قسم الرماة: وقد تترس هؤلاء بتجاويف الوادي وتعرجاته ويبدو أنهم في مكان مرتفع بحيث يسهل إصابة المسلمين من خلاله وعن ذلك يقول جابر رضي الله عنه: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 736.

"لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في وادي من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارًا .. وفي عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا" (¬1) أما جيش المسلمين فكان كالعادة منظمًا ومقسمًا يقول أنس: "وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد" وهذا يدل على أن هناك جناحًا أيمن وآخر أيسر وقلبًا يقوده النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشعر ببعض الخوف ليس من الأعداء فما خرج إلا وقد أعد لهم واستعد .. لكن خوفه كان من هذا الجيش العظيم الذي يقوده الآن .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أحواله يتذكر نعمة الله وأنه لا بد من شكره عليها في غمرة الانتصار .. ولا بد أن يتذكر الإنسان في أوج الانتصار أنه لا يزال إنسانًا مخلوقا ولا بد لهذا المخلوق أن يظهر ويبطن الامتنان لخالقه تحت أي ظرف من الظروف .. ها هو - صلى الله عليه وسلم - وبعد كل صلاة فجر يحرك شفتيه فيتساءل الصحابة عن تلك الأحرف التي لا يسمعونها ويشعرون بالشوق إليها .. فيقول الصحابي المهاجر الصابر المجاهد صهيب الرومي رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يحرك شفتيه أيام حنين بشيء لم يكن يفعله قبل ذلك: قال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن نبيًا كان فيمن كان قبلكم أعجبته أمته فقال لن يروم هؤلاء شيء فأوحى الله إلي أن خيرهم بين إحدى ثلاث: إما أن أسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيستبيحهم أو الجوع ... أو الموت .. فقالوا: أما القتل أو الجوع فلا طاقة لنا به ولكن الموت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمات في ثلاث سبعون ألفًا فقال - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه إسحاق -السيرة النبوية 5 - 110 حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال .. وعاصم وعبد الرحمن ثقتان وقد مر معنا تخريج السند عند الحديث عن العزى.

القبض على جاسوس هوازن

فأنا أقول الآن: اللَّهم بك أحاول وبك أصول وبك أقاتل" (¬1) "اللَّهم إنك إن تشأ لا تعبد بعد هذا اليوم" (¬2) بالدعاء كان - صلى الله عليه وسلم - يبدأ معاركه .. لكن قبل بداية المعركة كانت هوازن قد بثت جواسيسها لرصد تحركات وتجهيزات النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقد تمكن أحدهم من أن يندس بين جند النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن نظراته وحركاته وربما ألفاظه أفصحت للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن هويته فكانت هذه القصة التي تم فيها: القبض على جاسوس هوازن يقول الفارس سلمة بن الأكوع والذي كلف بمهمة القبض أو القضاء على الجاسوس: "غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن فبينا نحن نتضحى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ثم انتزع طلقًا من حقبه فقيد به الجمل .. ثم تقدم يتغدى مع القوم وجعل ينظر .. وفينا ضعفة ورقة في الظهر وبعضنا مشاة إذ خرج يشتد .. فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه .. وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل فاتبعه رجل على ناقة ورقاء. قال سلمة: وخرجت أشتد .. فكنت عند ورك الناقة .. ثم تقدمت ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الإمام أحمد 4 - 322: وكيع عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب وعبد الرحمن تابعي ثقة كبير ووكيع إمام معروف وكذلك بقية السند. (¬2) سنده ثلاثي صحيح رواه ابن أبي شيبة 7 - 416 حدثنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس قال كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين: يزيد وحماد ثقتان معروفان وحميد الطويل سمع من أنس.

كيف سارت المعركة على أرض حنين

حتى كنت عند ورك الجمل .. ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته .. فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر .. ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه. فاستقبلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه فقال: من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: له سلبه أجمع" (¬1) حصل ابن الأكوع على سلب الجاسوس وتخلص المسلمون من شره .. وتهيأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه لقتال المشركين وتواجه الجيشان فـ: كيف سارت المعركة على أرض حنين في البداية كانت المواجهة بين الجيشين على أرض الوادي دون تدخل رماة المشركين .. وعندما التحم الجيشان هجم المسلمون ببسالتهم المعروفة فاكتسحوا عدوهم وهزموهم بل وطاردوهم .. وكان فارس الإِسلام أبو قتادة أحد هؤلاء حيث يقول رضي الله عنه "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة .. فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا من المسلمين فاستدرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه .. فأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني" (¬2) وسقط ذلك المشرك جثة هامدة وهرب المشركون من أرض المعركة فلاحقوهم ولكن يقول البراء: "لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم" (¬3) وبدأ الطلقاء يجمعون الغنائم الهائلة التي خلفتها هوازن ومن معها .. ومرة أخرى تطل المأساة برأسها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1374. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1144. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1568.

الغنائم والرماة يهزمون المسلمين

البشع .. مرة أخرى يرتكب بعض المؤمنين الخطأ نفسه .. لكنهم معذورون فهم لم يحضروا ولم يتجرعوا كأس أُحد المر .. مرة أخرى الغنائم والرماة يهزمون المسلمين الغنائم هي الغنائم لكن الرماة ليسوا هم الرماة .. إنهم رماة هوازن وهم دقيقوا التصويب .. وعندما وصل الجيش المسلم إلى مرمى تلك السهام وهو يطارد تلك الفلول الهاربة انهمر سيل السهام من تلك التجاويف والمنحنيات .. فقد كان الوادي مفخخًا بالرماة البارعين .. وقد أعان الرماة في مهمتهم ذلك الارتباك الذي أحدثه تكالب الطلقاء على الغنائم وهم لا يعلمون أنها ليست للنهب ولا لمن سبق .. ولك أن تتصور جيشًا قوامه أكثر من عشرة آلاف مقاتل يتدفق مسرعًا مدمرًا كالموج خلف عدوه ثم تعترض طريقه مجموعة من أفراده بطريقة غير منظمة لالتقاط غنائم في الطريق .. لقد تحول الجيش مرة أخرى إلى كومة من الفوضى زاد في بعثرتها ذلك الموت المنهمر من سهام المشركين .. يقول البراء نافيًا تهمة الفرار عن الرسول عندما سئل: "أفررتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين؟ فقال لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفر .. كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام" (¬1) "والله ما ولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن ولى سرعان الناس .. فلقيهم هوازن بالنبل والنبي - صلى الله عليه وسلم - على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا بن عبد المطلب" (¬2) وكان كثير ممّن ولى لم يستعد للحرب استعدادًا يليق بها ظنًا أن هذا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1568. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1054.

ثم هرب بعدهم الأعراب

الجيش الضخم ليس من الممكن هزيمته .. فقد "خرج شبان أصحابه وإخفاؤهم حسرًا ليس بسلاح فأتوا قومًا رماة سمع هوازن وبني نصر ما يكاد يسقط لهم سهم .. فرشقوهم رشقًا ما يكادون يخطئون .. فأقبلوا هنالك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته البيضاء .. وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل واستنصر ثم قال: أنا النبي لا كذب ... أنا بن عبد المطلب" (¬1) .. كان هذا الصوت المتأجج حماسًا وثباتًا مثيرًا .. لكنه لا يجد حوله سوى غبار الطلقاء الذين ولوا وتركوا غبارهم يخنق أرض حنين: ثم هرب بعدهم الأعراب يقول أنس رضي الله عنه: "فجعلت خيلنا تلوي خلف ظهورنا فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب ومن نعلم من الناس" (¬2) وقد ساهمت منحدرات الوادي في هزيمه المؤمنين ووقوعهم في الفخ المعد لهم حيث يصف جابر ذلك الوادي وما حدث فيه فيقول: "كان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد" (¬3) إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان كما وصفه البراء بن عازب وهو ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1071. (¬2) صحيح مسلم 2 - 736. (¬3) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 5 - 110 حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر وهذا السند صحيح مر معنا قبل قليل عاصم وعبد الرحمن ثقتان ومعنى: انشمر الناس أي أسرعوا.

يتحدث عن الفرار يوم حنين بقوله: "أشهد على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما ولى" (¬1) "كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) لقد توجه - صلى الله عليه وسلم - نحو الكفار بمفرده بعد أن "ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته نحو الكفار" (¬3) كان مشهد الهروب محزنًا لفارس الإِسلام أبي قتادة رضي الله عنه الذي يقول عن تلك اللحظات "لما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلًا من المشركين علا رجلًا من المسلمين .. فاستدرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه .. فأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت .. ثم أدركه الموت فأرسلني .. فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله" (¬4) ففرار جيش هذا الحجم شيء لا يصدقه عمر .. "وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمن .. ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إلي أنا رسول الله .. أنا محمَّد بن عبد الله .... فلا شيء حملت الإبل بعضها على بعض .. فانطلق الناس إلا أنه قد بقي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من المهاجرين والأنصار واهل بيته وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد قتل يومئذ .. ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح له طويل أمام هوازن وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1401. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1401. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم 3 - 1398 والنسائيُّ في السنن الكبرى 5 - 197 واللفظ له. (¬4) صحيح البخاري 3 - 1144.

فاتبعوه وأبو سفيان بن حرب وبعض الناس يشمت بالمسلمين" (¬1). ويتوقعون بل يتمنون هزيمة ساحقة للمؤمنين .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يترك مساحة أكبر من هذه لانشراح قلوب هؤلاء الشامتين .. فمثل هذه الحالات الشديدة والحرجة يصعب تجاوزها بأمثال الطلقاء الذين لم يقضوا فترة تربوية كافية على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولهذا صاح النبي عليه السلام يستدعي البنائين الأوائل للدولة الإِسلامية الذين شيدوها بدمائهم وعرقهم وإيمانهم .. صاح بهم وناداهم .. "نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يال المهاجرين يال المهاجرين .... ثم قال يال الأنصار يال الأنصار ... " (¬2) قال أنس "قلنا: لبيك يا رسول الله" (¬3) وحتى يصل الصوت أقصى مدى استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعمه الثابت الشجاع العباس بن عبد المطلب الممسك الآن بلجام بغلته عليه السلام يواجه بها عاصفة هوازن ونبالها ويقول "إني لمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها .. وكنت امرءًا جسيمًا شديد الصوت .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين رأى ما رأى من الناس: أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء .. فقال: يا عباس اصرخ: يا معشر الأنصار يا معشر أصحاب السمرة .. فأجابوا لبيك لبيك .. فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك .. فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه .. ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله فيؤم الصوت حتى ينتهي إلى ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 5 - 110 حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر وهذا السند صحيح مر معنا قبل قليل عاصم وعبد الرحمن ثقتان. (¬2) درجته: حديث صحيح رواه مسلم 2 - 736. (¬3) درجته: حديث صحيح رواه مسلم 2 - 736.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس .. فاقتتلوا وكانت الدعوى أول ما كانت: ياللأنصار .. ثم خلصت أخيرًا ياللخزرج .. وكانوا صبرًا عند الحرب فأشرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون فقال: الآن حمي الوطيس" (¬1) والجلاد والقتال واستعر كالبركان .. وقد كان الصحابة الذين حضروا المعركة ورووا أحداثها قليلين وهم كالغصن وسط تلك الغابة التي تجاوزت العشرين ألف مقاتل من الطرفين .. لذلك كان قرب معظمهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء المعركة نادرًا وللحظات .. فكان كل صحابي يروي المشهد الذي رآه والحالة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء مروره فقط .. أحد هؤلاء الصحابة مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء الهزيمة فرأى صحابيًا يدعى زيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوصف ذلك المشهد بقوله "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين انكشف الناس عنه فلم يبق معه إلا رجل يقال له زيد .. آخذ بعنان بغلته الشهباء وهي التي أهداها له النجاشي .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ويحك يا زيد ادع الناس فنادى: أيها الناس هذا رسول الله يدعوكم فلم يجب أحد عند ذلك فقال: ويحك حض الأوس والخزرج فقال: يا معشر الأوس والخزرج .. هذا رسول الله يدعوكم فلم يجبه أحد عند ذلك .. فقال: ويحك ادع المهاجرين فإن لله في أعناقهم بيعة .. فحدثني بريدة أنه أقبل منهم ألف قد طرحوا الجفون وكسروها تم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى فتح عليهم" (¬2) ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة: 5 - 110 حدثني الزهريّ عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: وهذا السند صحيح الزهريّ تابعي إمام ثقة أشهر من أن يعرف وشيخه صحابي صغير. (¬2) سنده صحيح رواه ابن أبي شيبة 7 - 417 حدثنا الفضل بن دكين قال حدثنا يوسف بن صهيب عن عبد الله بن بريدة مرسلًا وآخره متصل وليس كما في المطالب حيث وهم =

وأحد الصحابة يقول: "انطلق الناس إلا أن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهطًا من المهاجرين والأنصار واهل بيته غير كثير وفيمن ثبت معه - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وابنه الفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن وأسامة بن زيد" (¬1) هذا ما يحدث في المقدمة أما في المؤخرة فقد كانت هناك امرأة ثابتة تفوقت على كثير من المحاربين الرجال .. إنها المرأة التي سجلت حضورها لمعظم معارك النبي - صلى الله عليه وسلم -"أم أنس بن مالك" أو أم سليم أو زوجة أبي طلحة المقدام .. كانت رضي الله عنها تتأهب بخنجر للمشركين بل لمن يولي هاربًا من الطلقاء .. يقول ابنها "أنس: إن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر .. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا الخنجر؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك .. قالت يا رسول الله: اقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أم سليم إن الله قد كفى وأحسن" (¬2) فقد نظم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من جديد ثم هجم بهم على المشركين وهب علي ابن أبي طالب وشجاع آخر من الأنصار نحو حامل الراية حتى استطاعوا: ¬

_ = الهيثمي رحمه الله فوصله فالذي وصله هو الروياني 1 - 73 حدثنا محمَّد بن إسحاق حدثنا عبيد الله بن موسى أنا يوسف به موصولًا. (¬1) حديث صحيح مر معنا وهو عند ابن إسحاق. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1442.

إسقاط راية المشركين

إسقاط راية المشركين فقد كان "رجل من هوازن على جل له أحمر في يده راية سوداء في رأس رمح طويل له أمام الناس وهوازن خلفه فإذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفعه لمن وراءه فاتبعوه قال جابر بن عبد الله بينا ذلك الرجل من هوازن صاحب الراية على جمله ذلك يصنع ما يصنع إذا هوى له علي بن أبي طالب ورجل من الأنصار يريدانه .. فيأتيه علي من خلفه فضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه .. ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه .. فانعجف عن رحله واجتلد الناس .. فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتفين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) فعاد النصر إلى أصحابه و: نزلت المعجزة يقول أحد الذين رأوها: سلمة بن الأكوع "تقدمت فأعلو ثنية فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهمه فتوارى عني فما دريت ما صنع .. ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى .. فالتقوا هم وصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فولى صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرجع منهزمًا وعلي بردتان متزرًا بإحداهما مرتديًا بالأخرى .. فاستطلق إزاري فجمعتهما جميعًا ومررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهزمًا وهو على بغلته الشهباء .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد رأى ابن الأكوع فزعًا .. فلما غشوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن ¬

_ (¬1) سنده صحيح مر معنا رواه ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن ابن جابر عن أبي جابر بن عبد الله: السيرة النبوية 5 - 113 ومن طريقه الإمام أحمد 3 - 376: عاصم إمام ثقة وعبد الرحمن تابعي ثقة.

شاهت الوجوه

البغلة .. ثم قبض قبضة من تراب من الأرض .. ثم استقبل به وجوههم فقال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله عَزَّ وَجَلَّ" (¬1) وقد اختصر سلمة أحداثًا رآها غيره قبل أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. شاهت الوجوه فالعباس كان هناك يرى ويقاتل ويروي تفاصيلًا فاتت سلمة فيقول "لزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نفارقه .. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي .. فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قبل الكفار قال عباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكفها إرادة أن لا تسرع .. وأبو سفيان ابن الحارث آخذ بركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي عباس ناد أصحاب السمرة .. فقال عباس وكان رجلًا صيتًا: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة .. فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك .. فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار .. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج .. فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج .. يا بني الحارث بن الخزرج .. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا حين حمي الوطيس ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1402.

ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: انهزموا ورب محمَّد ... فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى .. فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى أحدهم كليلًا وأمرهم مدبرًا" (¬1) حتى انقشع الغبار فإذا ساحة الحرب أكوام من القتلى و"الأسرى مكتفين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) أما الغنائم فهائلة لا تعد ولا تحصى .. إنها ثروة هوازن وما تملك كاملة وثروة من جاء معها من المشركين .. تحولت إلى أيدي المسلمين بعد أن كادت تضيع منهم ويضيع معها ما هو أثمن .. ليس هناك ألفاظ تعبر عما جرى مثل كلمات الله {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}. .. وبعد أن هدأ كل شيء "التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب .. وكان ممّن صبر يومئذ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وكان حسن الإِسلام .. حين أسلم وهو آخذ بثفر بغلته فقال من هذا؟ قال: أنا ابن أمك يا رسول الله" (¬3). يقول أبو قتادة: ثم إن "الناس رجعوا وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه .. فقمت فقلت: من يشهد لي .. ثم جلست، ثم قال: من قتل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1398. (¬2) آخر حديث ابن إسحاق الصحيح الماضي. (¬3) آخر حديث ابن إسحاق الصحيح الماضي.

قتيلًا له عليه بينة فله سلبه .. فقمت فقلت: من يشهد لي .. ثم جلست .. ثم قال الثالثة مثله .. فقمت .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك يا أبا قتادة؟ فاقتصصت عليه القصة فقال رجل: صدق يا رسول الله وسلبه عندي فأرضه عني .. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يعطيك سلبه .. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق فأعطه. فبعت الدرع .. فابتعت به مخرفًا في بني سلمة .. فإنه لأول مال تأثلته في الإِسلام" (¬1) هذه هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في سلب المقتول وهي غير الغنائم .. فالغنائم تم توزيعها من قبل الله سبحانه الذي قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أما السلب فهو أسلحة وأمتعة القاتل المشرك الشخصية وهو من حق من يقتله من المؤمنين أثناء المعركة وللسلب قيمة معنوية تحفيزية على الإقدام أثناء المعركة .. يقول - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" (¬2) ولما سمع الصحابة هذا الكلام منه - صلى الله عليه وسلم - جاء أبو طلحة لأخذ ما يستحق .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: من قتل كافرًا فله سلبه .. فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلًا فأخذ أسلابهم" (¬3) أما الغنائم الهائلة فلم يقسمها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى الآن فتوزيعها ليس في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1144. (¬2) صحيح مسلم 3 - 1371. (¬3) سنده صحيح رواه ابن أبي شيبة 7 - 419 حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك ورواه غيره من طرق عن حماد بن إسحاق بن أبي طلحة تابعي ثقة حجة: التقريب 1 - 59.

حبس الغنائم في الجعرانة

قائمة اهتماماته الآنية .. فهناك أخطار ملحة تحتاج إلى حل عاجل جدًا .. هناك الطائف الذي شارك زعماؤه ورجاله في هذه المعركة ثم لجأوا بعد الهزيمة إليه .. وهم الآن في حصن منيع يحتاج إلى تفكير عسكري ناضج .. وهناك الفلول المنهزمة من هوازن وغطفان ومن معهم وهي تحتاج إلى معالجة جادة .. فالظروف قد تغيرت ومكة قد فتحت ومعظم العرب الآن تحت لواء التوحيد .. لذلك قرر - صلى الله عليه وسلم -: حبس الغنائم في الجعرانة فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد الصحابة واسمه: بديل بن ورقاء فجعله أميرًا على الغنائم وأمره أن يأخذها إلى الجعرانة وهو مكان قريب من مكة لكنه خارج الحرم مثل التنعيم .. يقول بديل عن مهمته: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بديلًا أن يحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى يقدم عليه فحبسه" (¬1) فامتثل بديل ثم تفقد النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشه ودفن من استشهد منهم .. واطمأن على إصابات أفراده خاصة قواده المصابين وكان أحد القادة الذين أصيبوا خالد بن الوليد .. وهو قائد قسم من خيل جيش المسلمين فجاء - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وسأل واطمأن على إصابة خالد بن الوليد يقول أحد الصحابة: "إن خالد بن الوليد بن المغيرة جرح يومئذ وكان على الخيل خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما هزم الله الكفار ورجع المسلمون إلى رحالهم يمشي في المسلمين ويقول من يدل على رحل خالد بن الوليد .. فمشيت بين يديه وأنا محتلم أقول من يد ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البخاري في التاريخ الكبير 2 - 141 والطبرانيُّ 2 - 30 حدثني بن أبي عبلة عن بن بديل بن ورقاء عن أبيه. وشيخه تابعي ثقة والبقية صحابة واسم ابن أبي عبلة: إبراهيم وهو من رجال الشيخين: التقريب 1 - 39.

إقامة الحد على شارب الخمر

على رحل خالد حتى حللنا على رحله .. فإذا خالد بن الوليد مستند إلى مؤخرة رحله فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى جرحه ونفث فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) .. وقد أصيب غير واحد من الصحابة منهم: عبد الله بن أبي أوفى .. حيث يقول أحد الذين رأوا إصابته: "رأيت بِيَدِ ابن أبي أوفى ضربة .. قال ابن أبي أوفى: قد ضربتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين" (¬2) وهناك إصابات أخرى عديدة ألمت ببعض الصحابة أثناء المعركة .. لكن هناك ما هو أكثر من تفقد الجرحى والصلاة على الشهداء .. فقد كان الإِسلام على تلك الساحة حاضرًا بكليته بسماحته وعدله .. فعلى تلك الأرض وبعد انتهاء معركة حنين .. وبينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفقد جرحاه أحضر بعض الصحابة رجلًا من الصحابة أنفسهم ابتلى بحب الخمر فشربها فسكر وهو في ظرف تتجول فيه المنايا بين الجنود .. ولما مثل بين يديه - صلى الله عليه وسلم - وتأكد من ارتكابه لجريمة الشرب أمر بـ: إقامة الحد على شارب الخمر يقول أحد الصحابة: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين سأل عن رحل خالد ابن الوليد فجريت بين يديه أسأل عن رحل خالد بن الوليد حتى أتاه جريحًا وأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشارب فقال: اضربوه. فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب .. وحثوا عليه من التراب ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بكتوه فبكتوه ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الإِمام أحمد 4 - 88: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ قال وكان عبد الرحمن بن الأزهر يحدث وعبد الرزاق هو الإِمام الثقة صاحب المصنف وشيخه معمر ثقة ثبت فاضل معروف من رجال الشيخين التقريب 2 - 266 والزهري من أئمة التابعين الثقات وشيخه صحابي .. وبعد كلمة جرحه "قال الزهريّ: وحسبت أنه قال" وجاء عند الحميدي بسند صحيح وعند غيره الجزم بها. (¬2) حديث صحيح رواد البخاري 4 - 1568.

حصار الطائف

ثم أرسله" (¬1) وقد طهر من ذنبه الذي ارتكبه لكي يعود من جديد لمشاركة إخوته في جهادهم ونشر دين ربهم .. فالمسلم لا يدع للمعصية فرصة لإعاقته عن البذل في سبيل الله والإبداع في مرضاته .. هي كبوة أو كبوات لكنها ليست أغلالًا إلا عند من يجهل أعماق هذا الدين وآفاقه .. أو عند من لا يرى في الآخرين سوى الزوايا المعتمة متغاضيًا عن تلك الجوانب الوضاءة المبدعة ومتغاضيًا عن تلك العتمة القابعة في أعماقه .. نهض ذلك الصحابي مع إخوته خلف نبيهم - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر بالتوجه لـ: حصار الطائف توجه - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف لحصاره في الوقت الذي بعث فيه أبا عامر الأشعري لملاحقة مجموعة من المقاتلين كانوا تحت توجيه الشاعر الجاهلي الكبير دريد بن الصمة في معركة سميت: غزوة أوطاس - وقتل دريد بن الصمة حيث أوكل قيادة هذه السرية إلى أبي عامر الأشعري وذلك "لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر فرمي أبو عامر في ركبته .. رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته .. فانتهيت إليه فقلت يا عم من رماك؟ فأشار .. فقال: ذاك قاتلي الذي رماني فقصدت له فلحقته .. فلما ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الشافعي في مسنده 1 - 285 وغيره .. أخبرنا معمر عن الزهريّ عن عبد الرحمن بن أزهر قال: وهذا السند صحيح وهو السند الذي مر معنا قبل قليل.

رآني ولى فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ فكف فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته .. ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك .. قال: فانزع هذا السهم .. فزعته فنزا منه الماء .. قال: يا ابن أخي أقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام وقل له: استغفر لي واستخلفني أبو عامر على الناس فمكث يسيرًا .. ثم مات .. فرجعت فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته على سرير مرمل وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه .. فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقلت له: قال: قل له: استغفر لي .. فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللَّهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه ثم قال: اللَّهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس. فقلت: ولي .. فاستغفر فقال: اللَّهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه .. وأدخله يوم القيامة مدخلًا كريمًا" (¬1) في تلك الأتناء كان الطائف محاطًا بالقوات الإِسلامية المنتصرة المتوثبة وقد طال الحصار إلى مدة أحصاها أحد المقاتلين بقوله: "انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة" (¬2) وهم في حصنهم المنيع فلم يستطع المسلمون اقتحامه وفتحه .. وقد استخدم النبي عليه الصلاة والسلام كافة المحفزات على الفتح لدى جنوده حسب الوسائل المتاحة .. ولم يكن هناك أفضل من الرمي بالسهام بعد اختباء أهل الطائف خلف حصنهم .. يقول أحد الصحابة الذين استجابوا "حاصرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصن الطائف فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1571. (¬2) صحيح مسلم 2 - 736.

التمرد والفرار من أسوار الطائف

من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر (¬1) فبلغت يومئذ بستة عشر سهما فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من رمى بسهم في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ فهو له درجة في الجنة .. ومن شاب شيبة في الإِسلام كانت به نورًا يوم القيامة .. وأيما رجل مسلم أعتق رجلًا مسلمًا فإن الله عَزَّ وَجَلَّ جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرر من النار وأيما امرأة مسلمة أعتقت فإن الله عَزَّ وَجَلَّ جاعل وفاء كل عظم من عظامها محرر من النار" (¬2) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجفف منابع الرق حول أسوار الطائف بل داخل أسوار الطائف بعد أن فشلت الأسهم فلم تُجْدِ شيئًا ورد أهل الطائف عليها فاستشهد صحابيان جليلان وسقطا دون أسوار الطائف المنيعة. بما حدا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى استخدام أساليب جديدة في حربه مع مشركي الطائف .. من هذه الأساليب أسلوب نقل الحرب إلى داخل أسوار الطائف دون تكبد خسائر أو حتى أدنى مشقة وذلك عن طريق التحريض على التمرد والعصيان العام وذلك بتقديم إغراءات لمن يقوم بـ .. التمرد والفرار من أسوار الطائف هذا العرض يستفيد منه أناس لهم ثقلهم في حرب المدن وهم الأرقاء .. وهو عرض يواصل تجفيف الرق داخل الطائف نفسها .. فمن هرب من ديار الشرك من العبيد إلى معسكر المسلمين فهو حر كما حدث ¬

_ (¬1) أجر عتق رقبة (¬2) سند صحيح رواه الطيالسي 1 - 157حدثنا هشام عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي نجيح السلمي قال ورواه غير الطيالسي من الطريق نفسه .. وهشام الدستوائي ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 2 - 319 وشيخه إمام ثقة معروف وسالم تابعي ثقة: التقريب 1 - 279 وكذلك شيخه معدان 2 - 263.

قبل عامين في الحديبية .. وقد استجاب ثلاثة وعشرون من أرقاء الطائف فهربوا وتدلوا كالفرح من تلك الأسوار .. أبرزهم رجل يدعى أبو بكرة الذي "نزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف" (¬1) حصل المسلمون على بعض ما أرادوا وانقذف الرعب في قلوب المشركين وأدركوا أن الفتح إن لم يحدث اليوم فهو قادم لا محالة .. أما في معسكر المسلمين فالدولة الإِسلامية كانت تمارس أنشطتها خلف أسوار الطائف وكأن الدولة ليست في حالة حرب .. كان - صلى الله عليه وسلم - يمارس دوره التربوي حتى في ظروف الحرب فالقائد الناجح لا يتخلى عن مبادئه ومرتكزاته .. هي زاده وجراب زاده .. كان - صلى الله عليه وسلم - يصحب زوجاته في تلك المعركة وبينما هو متوجه نحو خباء زوجته أم سلمة سمع كلمة أزعجته فبادر إلى إصلاحها وإصلاح قائلها وسامعها أيضًا .. فقد كان ضمن جيش المسلمين شخص لم يتحدد جنسه حتى الآن هل هو ذكر أم أنثى وكانوا يطلقون على هذا النوع من الناس لقب: (المخنث) وكان هذا الشخص جالسًا عند أم سلمة ويتحدث إلى أحد الصحابة بلهجة الرجال الذين يميلون إلى النساء .. كان يتكلم بطريقة فيها من قلة الذوق أمام النساء ما أغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث تقول "أم سلمة رضي الله عنها: دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله ابن أمية يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدًا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان" (¬2) فهو يصف امرأة بعينها ويسميها ويغري أحد المسلمين بجسدها الممتلئ حتى تثني بطنها من الإمام فأصبح أربعة أحزمة دهنية لدرجة أن بإمكانه رؤية أطراف تلك الأحزمة الدهنية ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1573. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1572.

من خلفها لأنها تطل من جوانبها .. أربعة من الجانب الأيمن ومثلها من الجانب الأيسر .. عندها "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدخلن هؤلاء عليكن" (¬1) .. فهذا الشخص يبدو أنه خبير بالطائف أو من أهلها وبدلًا من أن يكشف للمسلمين نقاط ضعف فيها تؤدي إلى فتحها .. أشغل نفسه بكشف العورات وإثارة غرائز المجاهدين .. ويبدو أنه يجهل أحكام الجهاد الصارمة وحرمة أعراض الأعداء حتى في حالة السبي وأن هناك أحكامًا للنصر يرجع فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. فليس هناك إباحية أو همجية أو اغتصاب في غمرة الانتشاء بالنصر .. هناك انضباط وخوف من الله .. فالمسلم لم يخرج طلبًا للنساء ولا للمال والشهرة بل خرج طلبًا للموت في سبيل الله أن تكون كلمة الله هي العليا .. أما من يتهور في انتهاك الحرمات بدعوى أن أولئك النساء كافرات فهو يرتكب حماقة وجريمة خلقية تستحق اللعن .. ولما حاول أحد المسلمين فعل ذلك مع امرأة حامل غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبًا كاد الرجل أن يحترق به وذلك لما "أتى بامرأة مجح على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها فقالوا: نعم .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره .. كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له" (¬2) لم يفلح ذلك الشخص بنصيحته بل خسر ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .. وخسر توقعاته بفتح الطائف فقد طالت مدة الحصار ولم تفلح جهود المسلمين في اقتحامها .. لذلك قرر - صلى الله عليه وسلم - العودة إلى الجعرانة حيث تقبع الغنائم والسبي لكن بعض الصحابة تضايق من العودة دون دخول الطائف في الإِسلام مما جعلهم يعترضون على العودة ويصرون على القيام بـ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1572. (¬2) صحيح مسلم 2 - 1065.

آخر محاولة لفتح الطائف

آخر محاولة لفتح الطائف وذلك "لما حاصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطائف لم ينل منهم شيئًا قال: إنا قافلون إن شاء الله .. فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه؟ فقال: اغدوا على القتال .. فغدوا .. فأصابهم جراح فقال: إنا قافلون غدًا إن شاء الله .. فأعجبهم .. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) ثم أمر أصحابه بـ العودة إلى الجعرانة حيث تحرك الجيش تاركًا مشركي الطائف في حيرة من أمرهم فالشرك يذبل يومًا بعد يوم ومحمَّد يملك الجزيرة شبرًا فشبر .. وشمس التوحيد تشرق على الجميع إلا عليهم .. وأعوانهم وعضدهم أسرى في أيدي المسلمين قد تكوموا في الجعرانة كالذل .. نساء وأطفال ورجال وشيوخ وأموال وبهائم لا تعد ولا تحصى .. ورغم عجز المسلمين عن فتح الطائف إلا أنهم لم يعجزوا عن إيقاظ الإيمان المنطمر في أعماق أهل الطائف تحت أرتال العادات والتقاليد الجاهلية .. أما هوازن فقد خسرت كل شيء إلا قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. كان أفسح من حنين لهم ولأبنائهم ونسائهم وأطفالهم .. لقد كان - صلى الله عليه وسلم - أرحم بهؤلاء من قادتهم الذين ساقوهم وخاطروا بهم .. بل كان أرحم بهم من أنفسهم .. فعندما وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى الجعرانة لم يبادر إلى تقسيم شيء من الغنائم أو السبي على أصحابه .. فقد كان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: 4 - 1572.

النبي يريد رد الغنائم على هوازن

النبي يريد رد الغنائم على هوازن ولذلك انتظر عودتهم على أرض الجعرانة أيامًا قال عنها أحد الصحابة "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف" (¬1) ولما لم يعودوا قام عليه السلام بـ: توزيع الغنائم وقد كانت طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في توزيع الغنائم على غير المعتاد .. كانت طريقة تناسب هذه الظروف الجديدة تمامًا .. فقد دخل في الإِسلام أعداد لا حصر لها ما بين يوم وليلة .. وهذه النوعية من الناس تحتاج إلى من يعمق جذور الإيمان الغضة الطرية في داخلها لأنها عرضة للتلف في العراء .. وقد تبين ذلك قبل أيام على أرض حنين عندما هرب الأعراب والطلقاء ومن أسلم حديثًا وتركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أرض المعركة .. كانت كثرتهم غير مجدية بل ضارة ومعيقة .. ومن أجل هذا انسابت الغنائم بشكل أثار استغراب الكثيرين لكنه بُعْد نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعة أفقه .. فرغم أن تلك الغنائم كانت هائلة جدًا وكثيرة جدًا إلا أن شيئًا منها لم يذهب إلى أحق الناس بها وهم الأنصار .. كانت غنائم حنين تقييمًا للإيمان والمؤمنين لا مكافأة هذه المرة .. كان توزيعها نقلة نوعية في طريقة الدعوة عند ما تتهاوى الدول أمام زحف الدولة الإِسلامية .. لأن الشدة وحدها توجد تلك النوعيات الفذة والممتازة من الرجال أما الرخاء فحلفاء الرخاء والرفاه كثيرون .. بدأ - صلى الله عليه وسلم - بتوزيع الغنائم فهجم الأعراب الذين هربوا من المعركة عليه بأسلوب فوضوي قال عنه أحد الذين كانوا برفقته - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 920.

قصة الأنصاري وخيوط الشعر

تلك اللحظات: "إنه بينما يسير هو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الناس مقفلة من حنين فعلقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاه نعمًا لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا" (¬1) ثم حذرهم عليه السلام من الغلول وهو الاختلاس من الغنائم دون إذن منه فكانت هذه القصة الأنصارية: قصة الأنصاري وخيوط الشعر وذلك بعد أن: "اتبعه الناس يقولون يا رسول الله اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم حتى ألجؤوه [إلى سمرة] .. فاختطفت الشجرة عنه رداءه فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس فوالله لو كان لي عدد شجر تهامة نعمًا لقسمتها عليكم ثم ما لقيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذابًا .. ثم قام إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين أصبعيه ثم رفعها فقال: أيها الناس إنه والله ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم .. فأدوا الخياط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله عارًا ونارًا وشنارًا يوم القيامة. فجاءه رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله .. أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لي دبر .. قال: أما نصيبي منها فلك فقال: إنه إذا بلغت هذه فلا حاجة لي بها ثم طرحها من يده" (¬2) .. فلا حاجة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1038. (¬2) سنده حسن رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري 2 - 175 والبيهقي في الكبرى 6 - 336 وغيرهما قال حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال وهو سندٌ حسنٌ مشهور والزيادة لأحمد 2 - 184.

له في إفساد جهده وجهاده من أجل كنوز الدنيا فكيف يفسده من أجل كومن من شعر تافه رخيص .. هذا هو الجيش الإِسلامي المنطلق من الكتاب والسنة لا من ثكنات التشريعات العسكرية البشرية التي عجزت عن ضبط جنودها عن النهب والسلب والاغتصاب وقائمة شنيعة من جرائم الحرب بل عجزت عن ضبطهم حتى ضد أنفسهم .. أما محمَّد عليه السلام فبكلمة واحدة تم كل شيء لأنه لا يخاطب جنوده من الخارج بل يشيدهم من الداخل .. هو صوت دائم في أعماقهم يجذر خوف الله قبل كل شيء فيهم .. وها هو صوته الذي لا يخبو ينادي من أجل ذلك رجالًا ليس لهم تاريخ ولا رصيد حتى الآن في الإِسلام .. بل إن بعضهم سخر كل ما يملك من أجل القضاء على هذا الدين .. ومع ذلك وفي أصفى لحظات الانتقام يطل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - رحمة وعطاء أخجلهم طوال حياتهم وعرفهم بربهم تعريفًا جديدًا لا تحجبه الأحقاد .. استدعى - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان بن حرب وعيينة بن حصن والأقرع ابن حابس فحولهم إلى أثرياء في لحظات كان الجميع يترقب أن يكون الثراء من نصيب أبي بكر أو عمر أو علي أو سعد بن عبادة أو أسيد بن حضير أو غيرهم من عمالقة الأنصار والمهاجرين .. استدعى - صلى الله عليه وسلم - أولئك الرجال فـ "أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصين مائة من الإبل فقال ناس من الأنصار: يعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمنا ناسًا تقطر سيوفهم من دمائنا أو تقطر سيوفنا من دمائهم فبلغه ذلك" (¬1) كان هذا الكلام صادرًا من بعض فتيان الأنصار المتحمسين والذين ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الإمام أحمد 3 - 201 ثنا يزيد بن هارون أنا حميد عن أنس وهذا سند ثلاثي صحيح. يزيد ثقة مر معنا وشيخه تابعي ثقة سمع من أنس.

الاحتجاج على توزيع الغنائم

يرون في الغنائم أوسمة للمحاربين ومكافأة لهم والأقرع وعيينة وأبو سفيان وأمثالهم لا يستحقون مثل هذا التكريم نظرًا لتاريخهم البعيد وحتى القريب حيث فروا من أرض المعركة .. هذه الكلمات غير المتزنة والتي ينقصها التروي وبعد النظر وجدت خصوبة لدى أحد المتهورين من فتيان الأنصار فأطلق كلمات غيرت وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعكرت صفو انتصاره بعد أن نقلها له أحد الصحابة الذي يروي ما حدث من: الاحتجاج على توزيع الغنائم فيقول: "لما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمة حنين قال رجل من الأنصار ما أراد بها وجه الله" (¬1) وذلك حين "آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسًا في القسمة وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسًا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله .. فقلت: والله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قال: فأتيته فأخبرته بما قال .. فتغير وجهه حتى كان كالصرف (¬2) .. فغضب من ذلك غضبًا شديدًا واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له .. ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله .. ثم قال: يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر .. قلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثًا" (¬3) لم يكن ذلك الأنصاري الطائش وحده الذي تطاول على النبي - صلى الله عليه وسلم - واتهمه بعدم العدل فإن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه سمع ورأى متهورًا آخر يتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعلن عن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1576 والزيادة له أيضًا. (¬2) الصرف شجر أحمر. (¬3) صحيح مسلم 2 - 739.

مولد أول الطوائف المتطرفة

مولد أول الطوائف المتطرفة وهي طائفة الخوارج الذين غرتهم كثرة عبادتهم فتوجهوا نحو عيوب الناس وتناسوا عيوبهم فجرهم ذلك إلى قذف التهم يمينًا وشمالًا .. وتطاولوا فتسوروا القلوب واقتحموا النوايا ورسموها لا كما هي بل كما يريدون وكما تشكلت في مخيلتهم المريضة .. والنوايا حصون منيعة لم يجرؤ النبي - صلى الله عليه وسلم - على اقتحامها يومًا إلا بوحي يحمله جبريل .. أما هؤلاء الخوارج فتطوعوا لاقتحام واكتشاف ما عجز عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - .. بل تجرأ أحدهم اليوم على تصحيح الوحي ذاته ونقد النبوة .. يقول أبو سعيد رضي الله عنه: "بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسمًا أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه .. فقال: دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم .. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء .. ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء .. قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر ويخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1321.

عن هؤلاء الخوارج الذين ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - مزيدًا من صفاتهم حتى لا ينخدع الناس بكثرة ركوعهم وسجودهم وصيامهم وقراءتهم للقرآن ولا بكثرة حلقهم لرؤوسهم .. يقول عليه الصلاة والسلام: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإِسلام كما يمرق السهم من الرمية .. لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة" (¬1) "قيل ما سيماهم قال سيماهم التحليق" (¬2) أي حلق شعر الرأس .. لكن هذا الخارجي يعتبر شاذًا اليوم أمام الحضور الغامر والجميل لكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أما غير الشاذ على ساحة الجعرانة فهو إحساس بعض شباب الأنصار ببعض الغضاضة من ذهاب الغنائم إلى رجال لم يعرفوا الإِسلام إلا منذ أيام عندما قام - صلى الله عليه وسلم - "فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئًا فقالت الأنصار إذا كانت الشدة فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا" (¬3) .. أحس - صلى الله عليه وسلم - بعتاب الأنصار وحبهم يتمددان في صدره فأحب أن يقدم لهم كنوزًا لا يستحقها سواهم .. ومجدًا لا يطاوله سواهم في الوقت الذي يفرح غيرهم بخشاش الأرض .. وذلك "لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبي بالجعرانة أعطى عطايا قريشًا وغيرها من العرب [أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة ابن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس: أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1321. (¬2) صحيح البخاري 6 - 2748. (¬3) صحيح مسلم 2 - 735.

فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع قال فتم له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة] (¬1) ولم يكن في الأنصار منها شيء فكثرت القالة وفشت حتى قال قائلهم أما رسول الله فقد لقي قومه .. فأرسل إلى سعد بن عبادة فقال ما مقاله بلغني عن قومك أكثروا فيها؟ فقال له سعد: فقدكان ما بلغك. قال: فأين أنت من ذلك؟ قال: ما أنا إلا رجل من قومي .. فاشتد غضبه وقال: اجمع قومك ولا يكن معهم غيرهم. فجمعهم في حظيرة من حظائر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام على بابها وجعل لا يترك إلا من كان من قومه وقد ترك رجالًا من المهاجرين وزاد أناسًا .. ثم جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف في وجهه الغضب [فقال: هل فيكم من غيركم قالوا: لا إلا ابن أخت لنا .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابن أخت القوم منهم] (¬2) [فجمعهم في قبة من آدم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا .. وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسوله يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر أتألفهم] (¬3) ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه 2 - 737. (¬2) سنده صحيح رواه الإمام أحمد 3 - 201 ثنا يزيد بن هارون أنا حميد عن أنس وهو سند ثلاثي صحيح مر معنا قبل قليل. (¬3) صحيح مسلم 2 - 733.

فقال: يا معشر الأنصار .. ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله؟ فجعلوا يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. يا معشر الأنصار .. ألم أجدكم عالة فأغناكم الله؟ فجعلوا يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. يا معشر الأنصار: ألم أجدكم أعداء فألف الله بين قلوبكم؟ فيقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. فقال: ألا تجيبون؟ قالوا: الله ورسوله آمن وأفضل. فلما سري عنه قال ولو شئتم لقلتم فصدقتم: ألم نجدك طريدًا فآويناك ومكذبًا فصدقناك وعائلًا فآسيناك ومخذولًا فنصرناك؟ فجعلوا يبكون ويقولون الله ورسوله آمن وأفضل. قال: أوجدتم من شيء من دنيا أعطيتها قومًا أتألفهم على الإِسلام وكلتكم إلى إسلامكم. لو سلك الناس واديًا أو شعبًا وسلكتم واديًا وشعبًا لسلكت واديكم أو شعبكم وأنتم شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار [الأنصار كرشي وعيبتي] (¬1) ثم رفع يديه حتى إني لأرى ما تحت منكبيه فقال: ¬

_ (¬1) سنده صحيح وهو حديث الإِمام أحمد السابق.

هوازن كلها تدخل في الإسلام

اللَّهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار. أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى بيوتكم؟ فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وانصرفوا وهم يقولون رضينا بالله ربًا وبرسوله حظًا ونصيبًا" (¬1) بعد أن أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى مواقعهم ومواقع غيرهم .. وأراهم هول الكنوز والأمجاد الخالدة التي سيسافرون بها عبر التاريخ .. فهم وحدهم الذين استدعاهم النبي عليه السلام في الشدة بعد أن هرب الناس وتركوه .. وهم وحدهم الذين لم يقبضوا شيئًا من تلك المعركة التي هي في الحقيقة معركتهم وحدهم .. وهم وحدهم غنموا النبي عليه السلام وفازوا به .. بينما فاز غيرهم بالبقر والماعز .. أفاق الأنصار من كبوة عابرة وتجلى حب الله لهم قبل أن يحركوا رواحلهم من هذا المكان المزدحم بالعواطف الجياشة فقد حدث شيء سار ومفرح للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه خاصة الأنصار وذلك عندما شاهدوا جميعًا: هوازن كلها تدخل في الإسلام ها هي خيل فرسانهم تنهب الأرض نحو الجعرانة تبحث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لتقاتله بل لتسلم وترجوه أن يطلق أطفالها ونساءها وأموالها ويحررها لتعود بها .. لكن الوقت قد فات فقد انتظرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشرة أيام في هذا الوقت كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد سبق الجميع إلى مكة ... وذلك لـ ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه ابن أبي شيبة 7 - 418: حدثني عاصم بن عمر ابن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري وعاصم تابعي ثقة عالم بالمغازي: التقريب 1 - 385 وشيخه صحابي.

وفاء نذر نذره عمر في الجاهلية

وفاء نذر نذره عمر في الجاهلية يقول ابنه عبد الله بن عمر "إن عمر بن الخطاب سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف فقال: يا رسول الله .. إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام فكيف ترى؟ قال: اذهب فاعتكف يومًا" (¬1) فهو وإن كان نذر طاعة إلا أنه عبادة تحتاج إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخذ شرعيتها .. لأن العبادات في الإِسلام محرمة إلا إذا كان لها دليل من كلام الله أو موافقة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا النذر كصلاة بلال عندما "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال عند صلاة الغداة: يا بلال .. حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإِسلام منفعة فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة قال بلال: ما عملت عملًا في الإِسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورًا تامًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي" (¬2) فلو لم يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل بلال لتحول ذلك العمل إلى ابتداع مرفوض في الإِسلام .. فذات يوم و"بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذا هو برجل قائم .. فسأل عنه .. فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم .. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه" (¬3) فقد وافقه النبي - صلى الله عليه وسلم - على نذر الطاعة فقط وهو الصوم واحتج على نذر المعصية وأبطله .. ففي الإِسلام يجب أن تظل العبادة نقية من الزيادة والنقصان والغلو حتى يبقى هذا الدين نقيًا كما أنزل .. وحتى لا يتكئ ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1277. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1910. (¬3) صحيح البخاري 6 - 2465.

هل ستحصل هوازن على ما طلبته

المسلم على فعل عمر أو بلال أو أبي إسرائيل رضي الله عنهم بدعوى أن الصحابة لا يمكن أن يخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا المنطق المقبول يعكر عليه كون الصحابة غير معصومين فهم يخطئون وينسون بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى وقد عصمه الله عن الخطأ في التبليغ والتشريع .. والمستند الوحيد المقبول هو فعله وقوله وموافقته - صلى الله عليه وسلم - .. لأنه هو وحده الذي يوحى إليه .. وهو وحده النبي بل وخاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام وآخرهم والبقية تبع لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبذلك نضمن بقاء الإِسلام جديدًا طريًا نشربه من النبع لا من الفروع التي قد تلتاث عبر التاريخ بالأهواء والعواطف والنزوات .. إذًا فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر على نذر الطاعة في الجاهلية وهو الآن في مكة ليفي بنذره .. في الوقت نفسه وصل مقاتلوا قبيلة هوازن إلى أرض الجعرانة معلنين إسلامهم وانضوائهم تحت لواء الإِسلام راجين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرر أطفالهم ونساءهم وأموالهم .. فـ هل ستحصل هوازن على ما طلبته أحد شهود العيان "عبد الله بن عمرو بن العاص قال أتى وفد هوازن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة وقد أسلموا فقالوا: يا رسول الله .. إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك فامنن علينا منَّ الله عليك. فقام رجل من هوازن أحد بني سعد بن بكر وكان بنو سعد هم الذين أرضعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له زهير بن صرد وكان يكنى بأبي صرد فقال:

يا رسول الله .. إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه وعائدته وأنت خير المكفولين .. ثم قال: امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر امنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزق شملها في دهرها غير في أبيات قالها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا يا رسول الله: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا بل ترد علينا نساءنا وأبناءنا فهم أحب إلينا فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا أنا صليت بالناس فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمن إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم .. فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به؛ فقال رسول الله أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله. قال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. قالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله .. قال العباس لبني سليم: وهنتموني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما من تمسك بحقه من هذا السبي منكم فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم

مجموعة من الشباب يسخرون من الأذان

ونساءهم" (¬1) .. وعادت هوازن مبتهجة مجموعة الشمل بالإسلام والنساء والأطفال ونهض الجيش المسلم متوجهًا نحو مكة لأداء العمرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمايلت مطايا الأنصار تحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو غنيمتها من هذه المعركة العظيمة .. وفي الطريق توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه لأداء الصلاة ولما بدأ المؤذن بالنداء للصلاة انطلقت صيحات غريبة من خارج المعسكر المسلم .. كانوا: مجموعة من الشباب يسخرون من الأذان ويقومون بترديد ما يقوله مقلدين صوته الجميل وساخرين منه .. وكان أشدهم تقليدًا هو أكثرهم بغضًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولدينه .. وصلت صيحات الساخرين إلى مسامع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحرك نحو الصوت المستهزئ حاملًا في صدره حلم الداعية ووعي المربي وبأسلوب عذب وراق ودون تجهم وجه أو تشنج أو ضجيج تهادى نحو أولئك الفتيان برفق .. وقدم للتربويين في كل الدنيا درسا في استغلال الطاقات وعدم إهدار القدرات .. فحدثت هذه القصة التي يرويها أبو محذورة .. وأبو محذورة هذا هو ذلك الشاب الذي كان شديد البغض والتقليد للاذان وأهله حيث يقول "نعم خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين .. فقفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حنين فلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق .. فأذن مؤذن ¬

_ (¬1) سند صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري في التاريخ 2 - 173 وغيره: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهذا السند مشهور جدًا وهو حسن لكن كلمة الأنصار وَهْمٌ من عمرو أو من ابن إسحاق لأن الأنصار لم يحصلوا على شيء من غنائم هوازن إلا إن كان المقصود كل ما حصلوا عليه حتى السلب فقد حصل بعض الأنصار على سلب من قتلوه أثناء المعركة.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكيه ونستهزئ به .. فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصوت فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع فأشار القوم كلهم إلي وصدقوا فأرسل كلهم وحبسني فقال: قم فأذن بالصلاة فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مما يأمرني به .. فقمت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فألقى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين هو نفسه فقال قل: (¬1) "الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله ثم يعود فيقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين الله أكبر الله أكبر ... لا إله إلا الله" (¬2) تم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمارها على وجهه مرتين ثم مرتين على يديه ثم على كبده ثم بلغت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرة أبي محذورة ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بارك الله فيك. ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في الحديث بعد التالي. (¬2) صحيح مسلم 1 - 287.

أداء العمرة ..

فقلت: يا رسول الله .. مرني بالتأذين بمكة .. فقال قد أمرتك به وذهب كل شيء كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كراهية وعاد ذلك محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) الذي لم يعنفه ولم يأمر بقطع رأسه بل اكتفى بالنظر داخل هذا الفتى فوجد طيشًا يحتاج إلى من يترفق به .. ووجد مواهب ليس من العدل سكبها على الطريق .. أما الفتى فوجد من يعتني به ويقدر ما لديه فاحتضنه بقلبه وتحول إلى أحب الناس إليه .. ولم يكتف بذلك بل طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحال أن يوظف ما لديه من قدرات في الخير له وللناس فكان ما أراد .. فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل بيئة لتفجير الإبداع ورعاية المواهب ولكن نحو خير البشرية ورفاهها .. لذلك أطلق ذلك الفتى وانطلق بجيشه نحو مكة لـ أداء العمرة .. وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فأدى العمرة وهذه العمرة هي الثالثة بعد عمرة الحديبية وعمرة القضاء .. ثم وفى بعهد الحب بينه وبين الأنصار فانطلق نحو شعاب الأنصار .. لكن قبل أن ينطلق قام - صلى الله عليه وسلم - بـ ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه الإمام أحمد 3 - 409 وغيره من طريق ابن جريج قال أخبرني عبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيما في حجر أبي محذورة عن أبي محذورة ... ثم قال ابن جريج: وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممّن أدرك أبا محذورة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز وهذا السند فيه ضعف من أجل عبد العزيز فهو مقبول عند المتابعة .. ولذلك قال الحافظ في التقريب: مقبول 1 - 510 أما شيخه فهو تابعي ثقة: التقريب 1 - 449 وعبد العزيز لم ينفرد فقد توبع تابعه من أدرك ابن جريج من أهله وكذلك فإن للحديث شاهدًا عند ابن خزيمة: 2001 حدثني عثمان ابن السائب أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة لكن عثمان مقبول حيث يحتاج إلى متابعة وقد توبع .. وقد صححه الإمام الألباني في صحيح النسائي (613).

إعادة أدراع صفوان بن أمية

إعادة أدراع صفوان بن أمية فقد "استعار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفوان بن أمية سلاحًا .. فقال صفوان: أعارية أم غصب فقال: بل عارية .. فأعاره ما بين الثلاثين إلى أربعين درعًا .. فغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنينًا فلما هزم الله المشركين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجمعوا أدراع صفوان ففقدوا من دروعه أدراعًا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصفوان: إن شئت غرمناها لك .. فقال: يا رسول الله .. إن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن يومئذ" (¬1). لقد أخجله كرم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغامر وتسامحه وسعة حلمه فأصبح لا يرى في الدنيا غير محمَّد وأخلاق محمَّد ودين محمَّد .. فبمثل هذا المستوى من الأخلاق تنتزع القلوب .. وتتهاوى تلك الجدران الغليظة التي تحول بين صاحبها وبين استمراء الحقيقة والانفتاح عليها .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤثر على كثير من الناس بسبب كثرة صلاته وصيامه أو مظهره .. فبالإضافة إلى حمله حقيقة كالنهار فإنه يحمل معها أخلاقًا كالماء البارد للعطشى والمتعبين .. يعفو عن هذا ويعطي هذا ويثني على ذاك ويمدح رابعًا ويتنازل لخامس و .. ويبتسم في وجه الجميع ويصدق مع الجميع ويفي بوعوده ويلتزم بمواثيقه ولا ينتقم لنفسه .. وقائمة طويلة من ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه البيهقي في السنن الكبرى 6 - 89 وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمَّد المقري أنبأ الحسن بن محمَّد بن إسحاق ثنا يوسف بن يعقوب القاضي ثنا مسدد ثنا أبو الأحوص ثنا عبد العزيز بن رفيع عن عطاء بن أبي رباح عن ناس من آل صفوان بن أمية فقالوا .. وأخبرنا أبو علي الروذباري أنبأ أبو بكر بن داسة ثنا أبو داود ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل عبد الله بن صفوان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يا صفوان هل عندك سلاح فذكر معناه. وله شاهد من طريق شريك بن عبد الله في مسند أحمد 6 - 465 عن عبد العزيز بن رفيع عن أمية.

صفوان بن أمية في المدينة

الأخلاق البيضاء التي أعيى الكثير من المتدينين وغير المتدينين حملها .. فتلك الصفات أثقل من الجبل إذا لم يتخلَّ الإنسان عن أنانيته وذاته الكثيفة المعتمة التي لا يرى معها سواها .. أما أولئك الذين يضعون أنفسهم ضمن الجميع ويحكمون عليها كما يحكمون على الجميع ويحبون للجميع ما يحبونه لها فهم تلك النوعية الممتازة من البشر التي تستمع بممارسة الأخلاق وتبدع في إهدائها .. وهذا ما يجيده النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه تمكن من أخذ صفوان بن أمية .. رغم أن صفوان لا يزال حتى الآن في مكة .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حمله الأنصار نحو شعبهم عندما توجه الناس نحو شعابهم .. ومعه المهاجرون الأبرار .. ولم يمض من الوقت غير قليل حتى تمايلت المطايا نحو المدينة فإذا: صفوان بن أمية في المدينة حيث تحول الوطن عنده إلى مساحات يرسمها قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ففي مكة ولما "قيل لصفوان: إنه من لم يهاجر هلك فدعا براحلته فركبها فأتى المدينة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما جاء بك يا أبا وهب؟ قال: بلغني أنه لا دين لمن لا هجرة له قال ارجع إلى أباطح مكة فرجع" (¬1) لكنه كان متعبًا "فدخل المسجد فتوسد رداء فجاء رجل فسرقه فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فقال: يا رسول الله سرق هذا ردائي فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطعه. ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه الإمام مالك عن ومن طريقه الضياء في المختارة 8 - 20 أخبرنا سليمان الطبراني ثنا أبو مسلم الكشي ثنا أبو عاصم عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن صفوان ابن عبد الله بن صفوان عن جده قال ورواه الإمام أحمد أيضًا عن حسين بن محمَّد عن سليمان بن قوم عن سماك عن جعيد ابن أخت صفوان عن صفوان وعن عفان عن وهيب عن ابن طاوس عن أمية عن صفوان بنحوه.

فقلت: يا رسول الله لم يبلغ ردائي ما تقطع فيه يد رجل قد جعلتها صدقة عليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهلا قبل أن تأتيني به" (¬1) فالشفاعة تجوز عندما تكون الشكوى في طريقها إلى الحاكم أما إذا وصلت إليه فإن الشفاعة تتحول إلى جرم خطير يهدد الأمن الداخلي للدولة ويمكن للفساد من التسلل إلى جهاز القضاء والعدالة فيها .. وفي التشريع الإِسلامي حدود خمسة لا تجوز الشفاعة فيها هي: حد السرقة .. وحد شرب الخمر .. وحد الزنا .. وحد القذف .. وحد الحرابة. وهي حدود ضرورية لحماية الدماء والأموال والأعراض والعقول والأنساب ولا خير في حياة تمتهن تلك الأشياء التي تعادل الحياة نفسها .. وتميز الإنسان وترفعه عن مرتبة الحيوان .. فليس من المستغرب أن يرتكس الإنسان إلى درجة أسفل من درجة الحيوان في تلك اللحظات التي ينتهك فيها تلك الأشياء .. لأنه قد يفعل ذلك بوعي وإرادة وترتيب .. أما الحيوان فهو يسفك ويفترس بدافع غريزي بحت ودون وعي أو ترتيب مسبق .. تلك الأفعال التي يقوم بها الحيوان هي شرط الحياة الوحيد الذي يملكه وهو شرط مبرمج داخله من الخالق سبحانه .. أي أنه لا يمكن له العيش دون ذلك .. أما الإنسان فله طرق كثيرة جدًا للعيش دون الإضرار ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه الإِمام مالك عن ومن طريقه الضياء في المختارة 8 - 20 أخبرنا سليمان الطبراني ثنا أبو مسلم الكشي ثنا أبو عاصم عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن صفوان ابن عبد الله بن صفوان عن جده قال ورواه الإِمام أحمد أيضًا عن حسين بن محمَّد عن سليمان بن قوم عن سماك عن جعيد ابن أخت صفوان عن صفوان وعن عفان عن وهيب عن ابن طاوس عن أمية عن صفوان بنحوه.

بالآخرين لكنه يختار أحيانًا طرقًا شديدة الضرر. بمحض إرادته إرضاءً لغروره أو جشعه أو نوازع الحقد في داخله .. أو تحت تأثير العاطفة والشهوة وهي أشياء لا تمت للضرورة أو للصراع من أجل البقاء بصلة .. ومسؤولية الفرد الشخصية أمر جعله الإِسلام من ثوابته .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يمارس تطبيقه الآن مع هذا السارق على أرض المدينة لا سيما وهو يسرق شيئًا ليس مضطرًا للحصول عليه للبقاء حيًا .. كما أنه مارس ذلك داخل المسجد وباعترافه هو .. مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في مثل هذه الحالة يمارس الحبس على ذمة التحقيق أو التعذيب لانتزاع الاعتراف بالقوة القهر .. كان - صلى الله عليه وسلم - يقرر قاعدة الوقوف مع المتهم حتى تثبت عليه التهمة .. فقد "أتي بسارق قد سرق شملة فقالوا: يا رسول الله .. إن هذا سرق .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أخاله سرق فقال السارق: بلى يا رسول الله .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم إيتوني به فقطع .. ثم أتي به فقال: تب إلى الله .. فقال: تبت إلى الله .. فقال: تاب الله عليك" (¬1) فتطبيق الحد لا يعني أن ينصرف المذنب وهو يحس أنه مراقب من قبل السلطة والمجتمع فقط لأن تلك الرقابة تذوب متى ما أمن العقوبة وتوفرت له سبل الفرار والخروج والتحايل على النظام .. أما الإِسلام فيجذر في أعماق الفرد رقابة الله والخوف منه قبل كل شيء .. فالله لا يغفو ولا ينام ولا تخفى عليه خافية وبذلك يتوفر لدى الشريعة الإِسلامية وحدها رقابتان: من الداخل ¬

_ (¬1) حديث صحيح وسنده حسن رواه الحاكم 4 - 422 والبيهقيُّ الكبرى 8 - 271 وغيرهما من طرق عن عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي أخبرني يزيد بن خصيفة عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا السند صحيح ابن ثوبان تابعي ثقة: التقريب 2 - 182 وتلميذه تابعي من رجال الشيخين: التقريب 2 - 367 أما الدراوردي فحسن الحديث إلا عن عبيد الله العمري فمنكر وهذا ليس منها وللحديث طريق أخرى عند الطبراني: 7 - 157 عن السائب بن يزيد.

مارية تلد ابنا للنبي (صلى الله عليه وسلم)

حيث استشعار مراقبة الله ومن الخارج حيث أحكام الشريعة المالية والشخصية والدولية والجنائية وغيرها .. كان - صلى الله عليه وسلم - يقدم في المدينة لمن يأتي بعده دور الزعيم والإمام والقاضي والأب والمواطن الصالح لكل زمان ومكان .. لا يشغله شيء عن شيء ولا يعتذر عن مخالطة الناس وتحسس قضاياهم بكثرة مشاغله واتساع دولته وكثرة غزواته .. ها هو في إحدى بيوته وأحد أيامه السعيدة يبتهج بهدية جميلة تقدمها له مارية القبطية: مارية تلد ابنًا للنبي (صلى الله عليه وسلم) سَعِدَ عليه السلام بولادة ابنه الجميل وسماه باسم أبيه وأبي الأنبياء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - .. وكان هذا الرضيع الجميل يملأ قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحظى بعنايته .. حتى انتقى له بيتًا من عوالي المدينة يتولون رضاعه وكان يترد على ذلك البيت كالشوق .. يصفه أنس بن مالك فيقول: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. كان إبراهيم مسترضعًا له في عوالي المدينة .. فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت .. وإنه ليدخل وكان ظئره قينًا فيأخذه فيقبله ثم يرجع" (¬1) كانت تلك القبلات الحانية موضع استهجان بعض الأعراب الذين أكسبتهم الصحراء بعض ما فيها .. فقد "قدم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتقبّلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم فقالوا: لكن والله ما نُقَبِّل .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1808. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1808.

وليس هناك شيء أشنع من نزع الرحمة من القلب سوى توهم أن الرجولة تتطامن بتقبيل الأطفال والانحناء لهم وكأنهم نسل بهائم مستقذرة .. وإذا كان إبراهيم الصغر عليه السلام قد أدخل البهجة على قلب والده وكبده من الشوق الكثير .. حتى تجشم وهو رأس الدولة عناء البحث عنه لتقبيله وضمه مع أن باستطاعته أن يطلب إحضاره متى شاء وأين شاء .. فإنه حزن كثيرًا على ابن ابنته -لعلها- زينب فهو الآن يعاني من مرض شديد .. يقول "أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن ابنة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إليه وهو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعد وأبي .. نحسب أن ابنتي قد حضرت فاشهدنا .. فأرسل إليها السلام ويقول: إن لله ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده مسمى .. فلتحتسب ولتصبر .. فأرسلت تقسم عليه .. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمنا فرفع الصبي في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفسه تقعقع .. ففاضت عينا النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء" (¬1). وما هذا النبي إلا رحمة مهداة. كان لا يشغله اهتمامه بشؤون أسرته عن الاهتمام بقضايا أمته ومواصلة رسالته (¬2). ها هو يستدعي أحد القادة الذين برزوا سريعًا وبشكل ملفت: خالد بن الوليد ويطلب منه التوجه نحو منطقة يسكنها بنو جذامة .. وهم حتى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5 - 2141. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه أبو داود 4 - 92 والبيهقيُّ 4 - 141 حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت:

غزوة بني جذيمة .. ومأساة عاشق وحبيبته

الآن في موقف يبدو غامضًا تجاه الإسلام ودولته .. فتحرك خالد بن الوليد رضي الله عنه مأخوذًا بحماس المنتصر العائد من فتح مكة وإخضاع أكبر قبائل الجزيرة (قريش) لدولة الإسلام لكن أحداثًا غريبة ومؤسفة وقعت في: غزوة بني جذيمة .. ومأساة عاشق وحبيبته لم ينطلق ابن الوليد وحده نحو بني جذيمة .. فمن مكان لا أعرفه لكنه مفعم بالعواطف الغامرة .. كان هناك شاب يعشق فتاة يقال لها: حبيش .. وهي تبادله العواطف نفسها .. كان حبًا عذريًا لم يتدنس برذيلة أو يتلوث بعهر .. لكن ذلك العفاف لم يسلم من المنغصات فقد قدم الجاه والمال مع أمير لينتزعا حبيشا من بين عيني عاشقها .. فتنطلق المطايا وتتمايل الهوادج بحبيش ووصيفاتها فيتحطم قلب العاشق ويرغم صاحبه على التحرك .. فينطلق خلفها كالمجنون عابرًا المفاوز والمغاور لا يعرف وجهة غير وجهة هودجها .. ولا عنوانًا غير عنوان طويل تكتبه آثار راحلتها .. كان سفرها الطويل يلهب قلبه ويلهم شعره حتى توقفت تلك المطايا في آخر المحطات ونهاية الأسفار .. حيث بلغ الجنون ذروته .. ولم يبق في رأس العاشق وقلبه مكان لغير الحبيبة حبيش .. توقفت الرواحل عند ماء بني جذيمة في الوقت الذي وصلت فيه خيل خالد بن الوليد .. وهنا أصبح العاشق أمام حتفين حتف حبيش وحتف جيش .. وكان ذلك العاشق لا يبالي بأمر خالد فهو لا يعرفه ولا يعرف رسالته ولا يهمه أمر ما أرسل به ولا ما يتحدث هو وجيشه عنه .. كان مأخوذ القلب والعقل وهو في حالة ذهول تام عما حوله من جيش ودماء وحتى منطق أو حتى مجرد رغبة في الحياة .. توقف خالد بن الوليد وكان من بين جنده شاب تضلع بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه وسمته هو عبد الله بن عمر بن الخطاب .. وقد كان جنديًا مطيعًا

لإمامه الذي عينه عليه النبي عليه السلام .. غير أن ذلك الجندي المطيع لله ولرسوله وولي أمره سرعان ما أبدى احتجاجه على أمره وتبرمه من تصرفه .. كل ذلك كان يحدث دون حقد أو شحناء بين الشاب وقائده .. إنما هي الحرية التي منحها الإسلام لأتباعه في محاسبة القائمين عليهم وإنكار المنكر حتى في حالات تفوق حالات الطوارئ خطورة كحالة الحرب التي يخوضها ابن الوليد اليوم .. تلك السماحة التي جعلت فتى الإسلام يقول: "بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره. فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره" (¬1). لكن خالدًا رضي الله عنه أصر على حكمه وأن هؤلاء يملكون وقاحة وتحديًا للإسلام في ساحة حرب لا يردعه سوى السيف .. فقام بتوزيع الأسرى لتنفيذ حكم القتل فيهم .. وكان بين هؤلاء الأسرى شاب في مثل سن آسره .. شاب مسكين لم يكن من أهل هذه الديار ولا شأن له بما يحدث .. فهو في واد والعالم كله في واد .. شاب قاده قلبه المسكين وضعف إرادته وعدم معرفته بدين التوحيد إلى التيه في الصحاري خلف هذا الهودج الذي تتربع فيه معشوقته ومهرى فؤاده التي تدعى حبيشًا .. لم يكن يريد من الدنيا سواها سوى التأمل في عينيها .. لكن راحلته ساقته ليلتقي بسيف خالد بن الوليد وهو الآن مأسور عند شاب اسمه ابن أبي حدرد .. فما هي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6 - 2628.

قصة عاشق حبيش

قصة عاشق حبيش هي قصة ليست من خيال الأدباء والروائيين .. هي حقيقة مرة يرويها من شارك في أحداثها معترفًا بالمأساة التي ارتكبها ويستغفر الله من ذلك .. يرويها شاب اسمه: ابن أبي حدرد كتب نهاياتها بيده وأسدل ستائرها على أرض بني جذيمة .. تبدأ القصة عندما كان شاب يعشق فتاة تدعى حبيشًا منذ صغره .. ربما كان والدها أميرًا فارتحل عن دياره وجيرانه .. وربما جاء أمير فأخذها إلى بيت أكثر ثراءً وجاهًا .. لكن يبدو أن الأمير لم يحمل في هودجه سوى جسدها .. أما قلبها فقد أردفه ذلك الشاب معه على راحلته .. يسير كلما سارت ويتوقف عندما تتوقف .. وفي ديار بني جذيمة توقفت القافلة وخلفها الشاب المتيم أمام جيش خالد .. فحدث ما حدث .. وأُخذ الشاب أسيرًا غير آبه بالأسر ولا بهذه الحبال فالحبال التي تربطه بحبيش أقوى وأسرها لقلبه أقسى .. يقول ابن أبي حدرد: "كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال لي فتى من بني جذيمة وهو في سني وقد جمعت يداه إلى عنقي برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى فقلت: ما تشاء .. قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة ثم تردني بعد فتصنعوا بي ما بدا لكم [إني لست منهم عشقت امرأة فلحقتها فدعوني انظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم] قلت والله ليسير ما طلبت فأخذت برمته فقدته بها حتى وقف عليهن (فإذا امرأة طويلة أدماء) فقال: اسلمي حبيش قبل نفاد العيش:

أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق ألم يك أهلًا أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السرى والودائق فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا ... أثيي بود قبل إحدى الصفائق أتييي بود قبل أن تشحط ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق فإني لا ضيعت سر أمانة ... ولا راق عيني عنك بعدك رائق قالت: [نعم فديتك] وأنت فحييت عشرًا وسبعًا وترًا وثمانيًا تترى ... قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه" (¬1). كانت المرأة تشاهد عاشقها وهو يضرب بالسيف .. تشاهد رأسه يهوى عن جسده الحبيب .. فلم تحتمل .. ولما سقط على الأرض تخلت عن وقارها وأسرارها وانحدرت من هودجها غير آبهة بما حولها ولا بمن حولها .. انحدرت نحو ذلك الجسد الذي هوى على الأرض كالفجيعة .. وانحنت. بمشاعر تنبض بالموت للموت .. "جاءت المرأة فوقفت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت" (¬2) وجدًا عليه وحزنًا .. كأنها أقسى العشاق وأضعفهم. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق: السيرة النبوية 5 - 100: حدثني يعقوب عن عتبة بن المغيرة بن الأخنس عن الزهري عن ابن أبي حدرد الأسلمي .. يعقوب ثقة: التقريب 2 - 376 وشيخه تابعط ثقة وإمام معروف أما الزيادة فسندها حسن رواها النسائي في السنن الكبرى 5 - 201 أنبأ محمد بن علي بن حرب قال أنبأ علي بن الحسن بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس وهذا السند حسن من أجل علي بن الحسين فحديثه حسن إذا لم يخالف وللحديث شاهدان في كل منهما ضعف يسير عند البيهقي في الدلائل 5 - 116 وبقية رجال النسائي ثقات وهو سندٌ حسنٌ لذاته انظر التقريب (2 - 35) حيث قال الحافظ صدوق يهم .. من لا يهم. (¬2) انظر ما قبله فهو جزء منه.

كان الصحابة ينظرون إلى ذلك المشهد الفاجعة منهم الرافض له والمتكدر كعبد الله بن عمر وأصحابه .. منهم المندهش الذي فوجئ بما حدث .. والصحابة بشر يخطئون ويصيبون لكن ما هو تقييم الإسلام لهذه المصيبة .. وما هو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل خالد ومن أطاع خالدًا .. دفنت المعشوقة ودفن العاشق وبقية القتلى وعاد الصحابة إلى المدينة مثقلين بالهموم والتساؤل .. ولما وصلوا قال ابن عمر رضي الله عنهما "ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اللَّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين" (¬1). لم يكن الدافع لهذه الأحداث هو التعطش للدماء وشهوة السيطرة والتوسع .. لكنها الغيرة على التوحيد والحماس المفرط الذي يطغى على لغة المنتصر غالبًا .. وهو أمر لا يمكن تبريره تحت أي عذر .. فهو خطأ من خالد وقد تولى النبي - صلى الله عليه وسلم - تحمل مسؤولية ذلك الخطأ .. ولم يتنصل من تبعاته بل لام أصحابه .. والنبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه البراءة من ذلك العمل الفظيع الذي استبيحت فيه دماء بريئة يؤيد احتجاج الشاب عبد الله بن عمر على تلك الحادثة وإنكاره على أميره في ساعة ليست من ساعات السلام والراحة .. بل في ساحة حرب يحتاج فيها القائد إلى الطاعة والامتثال من جنده أكثر من أي شيء آخر .. لكن الإنكار لا يعني الخروج على إمارة خالد والتمرد عليه أبدًا بل هو مجرد رد الأمير إلى الوحي والصواب الذي بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فالأمير يظل بشرًا مهما بلغت عظمته .. أما موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - الرحيم تجاه ذلك العاشق وما حدث له فيحدثنا عنه ذلك الشاب الذي شارك في إيلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتألم هو أيضًا مما اقترف .. ¬

_ (¬1) هو حديث البخاري السابق.

ابن أبي حدرد الذي أحزنه ما حدث منه تجاه ذلك المسكين يقول: "فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما كان فيكم رجل رحيم" (¬1). أما كان فيكم رجل رحيم فالله غني عن تلك الدماء .. الإسلام غني عنها .. ومحمَّد بريء مما حدث .. أما فيكم رجل رحيم يمنع حدوث ذلك المشهد المؤلم الذي لم يكن من المفترض حدوثه .. والنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يبعث هذه السرية لإرغام الناس على الإسلام .. والقائد المسلم يحتاج إلى إعادة النظر كثيرًا والتفكير أكثر قبل اتخاذ قرار بقسوة قرار خالد بن الوليد رضي الله عنه .. فالرحمة هي التي جعلت النبي - صلى الله عليه وسلم - يحجم عن قتل الأسرى في بدر رغم تاريخ بعضهم الأسود ضده وضد أصحابه وأين هؤلاء من أسرى بدر .. والرحمة هي التي جعلت النبي عليه السلام يعفو عن صناديد قريش فما بالك في أناس أبرياء أرادوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا .. أي صبأنا من دين قومنا .. فما بالك برجل عاشق لا ناقة له ولا جمل فيما يحدث .. كان الأمر شديدًا على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. لكنه لم يكتف بالحزن فقط .. لقد مضى الأمر وأصبح تاريخًا ولم يعد بالإمكان فعل شيء تجاه ذلك سوى الحزن ومحاولة التعويض ولو ماديًا .. حيث اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قرارًا بدفع تعويضات للمتضررين عن ذلك الذي أحدثه تسرع خالد وحماسه فقد قال - صلى الله عليه وسلم - "أما كان فيكم رجل رحيم .. فداء الإثنين بالواحد" (¬2). ودفعت التعويضات من قائد الدولة الكبرى والوحيدة التي تكاد تسيطر على كل الجزيرة العربية لأهل المقتولين خطأ .. فأدرك أولئك ¬

_ (¬1) حديث صحيح وهو جزء من حديث النسائي السابق. (¬2) حديث صحيح وهو جزء من حديث النسائي السابق.

تجهيز جيش تبوك في ساعة العسرة

عظمة هذا الدين وهذا القائد الذي يدفع تعويضات وهو في مركز القوي الذي لا يخاف إلا من ربه .. ويدفع التعويضات وهو في حالة حرب لكن الحرب الإسلامية لها قواعد لا يجوز اختراقها وقد تم اختراقها خطأ .. فلا بد من الالتزام تجاه العدو في هذه الحالة .. أما المخطئون فقد استغفروا ربهم وواصلوا حياتهم مع نبيهم وإخوانهم .. وفي هذا العام مرت بالمدينة أوقات عصيبة وظروف صعبة رغم وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم .. ولما اقترب وقت نضج ثمارهم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعداد للتوجه لمناجزة الروم على أرض تبوك بجيش كان بحاجة إلى كل شيء إلا العزيمة والإيمان .. فقد كان يعاني من قلة المال والطعام والمراكب وكانوا يتطلعون إلى هذه الأوقات ليستريحوا ويتمتعوا بظل المدينة وثمارها التي بدأت في النضوج .. لكن كيف سيتم تجهيز جيش تبوك في ساعة العسرة والفاقة والحاجة إلى أي شيء يخفف من معاناة هذا الجيش الكبير الذي يتجاوز عدده عدد جيش الفتح .. لم يكن هناك ميزانية تسلح ولم يكن هناك جيش نظامي .. الكل كانوا جنودًا للإسلام .. الكل كانوا أصحاب مبادئ وأهداف لا أصحاب وظائف ومرتبات .. الكل يساهم حسب طاقته وإمكاناته فلا إكراه ولا ضرائب ولا مكوس ولا قهر .. و: في مثل هذه الظروف يشرق عثمان بن عفان يشرق الكرم العثماني ليؤسس نموذجًا راقيًا لرجل الأعمال المسلم الذي لا ينظر إلى الدنيا من خلال الأرقام .. بل ينظر إلى الأرقام من خلال الدنيا والآخرة معًا .. وليست هذه هي المرة الأولى التي ينفرد فيها عثمان

عمر يحاول منافسة أبي بكر

بإنجاز فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان .. وقال من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان" (¬1). عثمان يتحدث عن ذلك عندما أشرف على الناس من فوق داره ثم "قال أذكركم بالله هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جيش العسرة من ينفق نفقة متقبلة والناس مجهدون معسرون فجهزت ذلك الجيش قالوا نعم ثم قال أذكركم بالله هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل قالوا اللَّهم نعم وأشياء عددها" (¬2). ومن المؤكد أن هناك من استجاب بسخاء لذلك النداء النبوي لا سيما وأن هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها للتبرع للجيش بينما كان في المعارك السابقة يدعو القادرين وأصحاب الرواحل للاستعداد .. ولعل عمر بن الخطاب كان في سباق .. لكن منافسه لم يكن يشعر به بقدر ما كان يشعر بنداء النبي - صلى الله عليه وسلم -. عمر يحاول منافسة أبي بكر يقول رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق فوافق ذلك مالًا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا فجئت بنصف مالي ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 3 - 1351. (¬2) سنده رواه الترمذيُّ 5 - 625 حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي حدثنا عبيد الله بن عمر عن زيد هو بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: والسلمي تابعي كبير وثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 108 وتلميذه تابعي ثقة مشهور وزيد ثقة من رجال الشيخين التقريب 1 - 272 وتلميذه عبيد الله بن عمرو ثقة انظر التقريب 1 - 537 (ملاحظة: ذكر الحافظ رحمه الله أنه من الثالثة وترجمته لا توحي بذلك والصواب أنه تابع تابعي لأنه يروي عن صغار التابعين كالأعمش وتلميذه ثقة أيضًا: التقريب 1 - 406 وهو من رجال الشيخين وتلميذه هو الإمام الدارمى.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله .. فأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر .. ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله .. فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا" (¬1). ولعل هؤلاء الثلاثة يجدون منافسة من رجل الأعمال الناجح المجاهد الرائع عبد الرحمن بن عوف الذي يقول: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثًا .. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله .. إن عندي أربعة آلاف؛ ألفين أقرضهما الله وألفين لعيالي .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بارك الله لك فيما أعطيت .. وبارك لك فيما أمسكت .. فقال رجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمر صاعًا لربي وصاعًا لعيالي" (¬2). لكن يبدو أن المنافقين لم يعجبهم هذا التسارع الجميل بالنفس والمال نحو تبوك فقاموا بتعويض قصورهم بإطلاق الألفاظ الساخرة من المؤمنين يشفون بها تشوهات نفوسهم ويطفئون بها جمر الحقد في قلوبهم: "فلمز المنافقون وقالوا ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياء وقالوا أو لم يكن الله غنيًا عن صاع هذا فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الدارمى 1 - 480 أخبرنا أبو نعيم ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر وله طريق آخر عند البزار 1 - 263 حدثنا محمد بن عيسى نا إسحاق بن محمد الفروي نا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر. (¬2) سنده حسن رواه الطبري 10 - 195 والبزار من طريق أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه وهو حسن من أجل عمر حفيد ابن عوف وهو حسن الحديث إذا لم يخالف قال الحافظ في التقريب صدوق يخطئ 2 - 56 وللحديث شواهد في الصحيح وغيره. (¬3) هو آخر الحديث السابق تفسيره.

بعض المنافقين يعتذر عن المشاركة في غزوة تبوك

المنافقون هم علمانيو ذلك الزمان لا يريدون للدين أي تأثير على حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى العسكرية .. ورسالتهم محصورة في محاربة النجاح والدهشة بما عند الأعداء .. وحساباتهم للأمور تنطلق من الخواء الذي يملؤهم ويعيشون فيه .. والاستهزاء بالآخرين وإطلاق الكلمات الساخرة على الناجحين هو أسلوبهم .. ولن يجدوا كغزوة تبوك أنسب لهذه السخرية .. فكيف يجابه هؤلاء المسلمون ونبيهم جحافل أقوى دولة في الدنيا بجيش يجمع التبرعات ويحتاج إلى نصف صاع وحبات تمر .. هذه هي حسابات المنافقين وهي حسابات تفتقد إلى الإيمان بالله وتفتقد كذلك إلى الثقة بالنفس وقدراتها .. لذلك بدأ: بعض المنافقين يعتذر عن المشاركة في غزوة تبوك رغم توفر المال والراحلة والصحة لديهم لكنهم أحسوا بالموت يربض على أرضها ويحدق بالقادمين إليها وقد ذكر الله اعتذارهم فقال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (¬1). وإذا كان المنافقون يبخلون بأموالهم وأنفسهم عن صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن هناك رجالًا يتحرقون للخروج معه عليه السلام .. رغم أنهم لا يملكون ولا يملك ما يحملهم عليه .. فكانت لحظات الوداع لحظات من الدموع فـ: عند الوداع بكى الرجال فبعد أن رجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحملهم اعتذر من لهفهم وقال لهم: ¬

_ (¬1) التوبه 49.

لا أجد ما أحملكم عليه .. عندها فاضت محاجرهم بالدموع وعادوا من حيث أتوا مكسوري القلوب وألم الحرمان يملأ صدورهم .. دموع تفيض لأن الفقر يحول بينهم وبن معانقة الموت والشهادة .. دموع خلدت أصحابا وتردد ذكرها على مر الأجيال .. أولم يكفهم فخرًا أن يذكر ربهم دموعهم ويتحدث لعباده عنهم .. نزل جبريل بكلام الله الذي يقول: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). وهؤلاء هم المنافقون الذين يملكون من الوقاحة والأعذار أرصدة طائلة .. هذا أحدهم جاء يعتذر فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عذره لكن لم يهنأ بالقعود حتى أنزل الله فضيحته آيات ترددها المدينة في الطرقات والمساجد والبيوت وترددها الدنيا .. نزل الوحي يفضح المنافقين ويشد أزر المؤمنين الذين تثاقل بعضهم مفضلًا تأجيل الخروج إلى ما بعد الحصاد. .. نزل الوحى يسلط الأضواء على زوايا المنافقين المعتمة وأغوارهم المليئة بالأحقاد والكراهية .. فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى ¬

_ (¬1) التوبة 93.

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا

مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)} (¬1). ويبدو أن هذه الآيات قد خنقت المنافقين فلم يجدوا هواءً يطيق صدورهم ولا أرضًا تحتمل خطاهم .. لقد تحولت غزوة تبوك إلى مسرح كبير يسخر فيه المنافقين من جرأة المؤمنين على غزو الروم ويتشفون فيه من قلة ما لهم ومتاعهم وضعف حالهم .. فقلب الله عليهم مسرحهم ذلك ¬

_ (¬1) سورة التوبة: [38 - 64].

علي يتخلف عن تبوك

وحطمه فوق رؤوسهم فأصبحوا خائفين خجلين من أنفسهم ومن الشوارع والأطفال والرجال والنساء وحتى من نخيل المدينة وجدرانها .. أما المؤمنون فيذكرهم إلههم بحال نبيهم عندما كان شريدًا طريدًا هو وأبو بكر في غار ثور .. وكيف تحقق له نصر الله عليهم .. وها هم الذين كانوا يطاردونه يتأهبون لغزو الروم خلفه جنودًا مخلصين .. وسوف يأتي اليوم الذي يتأهب الروم خلفه عليه الصلاة والسلام أو خلف من يخلفه ولكن حسابات المنافقين لا تتغير أبدًا .. نهض الصحابة خلف نبيهم في معركة تمحيص النوايا وتميز الإيمان .. ولإن كانت خيبر تحمل بصمة لعلي رضي الله عنه فإن بصمة عثمان كانت الأبرز على غزوة تبوك .. لكن ما الذي حدث لعلي هذه المرة .. إنه ليس ضمن المسافرين هل هو الرمد مرة أخرى .. علي يتخلف عن تبوك فقد سار النبي - صلى الله عليه وسلم - مغادرًا المدينة "ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد .. واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا وعدوًا كثيرًا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان .. فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله .. وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال .. وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه" (¬1) ثم خرجوا وقبل خروجهم توقف وتوقف معه علي رضي الله عنه معاتبًا ومتوسلًا أن يصحبه في هذا السفر الذي يحتاج إلى ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1602.

علي وأمثاله رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف عليًا .. فقال: أتخلفني والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي" (¬1). كان عليه السلام يثمن كل مجهود وكل مجتهد .. وكان لا يغفل أي دور يقوم به أحد من أصحابه فلئن كان بقاء علي في المدينة يعني في نظر علي الغياب عن ساحة الوغى فإنه في نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم بدور هارون عندما توجه موسى نحو جبل الطور وهو دور لا يقل عن دور أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم .. وقد كان عليه السلام يعين في كل غزوة رجلًا من أصحابه خليفة له على المدينة - العاصمة واليوم هو دور علي .. لكن عليًا هنا تميز عن سابقيه بقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك استحق أن يكون بمنزلة هارون لأن هارون كان خليفة وأخًا لموسى في الوقت نفسه .. يقوله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى تبوك خلَّف علي بن أبي طالب فأتاه بالجرف يحمل سلاحه فقال: يا رسول الله .. أتخلفني بعدك ولم أتخلف عنك في غزاة قط؟ قال: يا علي .. ارجع .. فقال: يا رسول الله .. إن المنافقين يزعمون أنك إنما خلفتني إلا استثقالًا بي .. قال: يا علي .. أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ارجع فاخلفني في أهلي وأهلك" (¬2). وهو تميز يضع لكل فرد من أفراد الأمة مساحة يطلق فيها إبداعاته ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 4 - 1602. (¬2) سنده قوي رواه ابن إسحاق ومن طريقه الدورقي في مسند سعد 1 - 139: حدثني محمد ابن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أبا سعد بن أبي وقاص يقول وهو سند قوي إبراهيم تابعى ثقة من رجال الشيخين التقريب 1 - 35 وتلميذه ثقة أيضًا التقويب 2 - 173.

النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في حالة غضب

ويجسد فيها إنجازاته .. فالله أنزل آيات كريمات في منزلة أبي بكر .. وحاز عثمان على الجنة بتلك التبرعات السخية .. ومن قبل تميز غيرهم بإبداعات رضي الله عنهم جميعًا .. فمن أراد أن ينظر إلى الصحابة نظرة الإسلام لهم فليسلط أضواء الشمس عليهم جميعًا ليرى كيف حركوا الدنيا وشغلوا العالم بتكاملهم وتنافسه وتميز كل فرد بقدرات وإنجازات وظفها النبي - صلى الله عليه وسلم - أجمل ما يكون التوظيف .. أما أولئك الذين يزوَّرون حياة الصحابة باختزال الأضواء على حدث أو فرد فهم يسيئون للأحداث وللصحابة معًا .. كما يسيء هؤلاء المنافقون الذين يزرعون المدينة بالإرجاف والتخذيل والسخرية من ثقة المسلمين بأنفسهم وجرأتهم على حدود أقوى دولة في الدنيا .. ولم يكن علي وحده يلح في الخروج .. بعض المؤمنين المعدمين الذين تنوء ظروفهم بهممهم يتوجهون نحو: النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في حالة غضب ربما من المنافقين .. أحد هؤلاء الفقراء رشحه أصحابه للتحدث وهو أبو موسى الذي يقول: "أرسلني أصحابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله لهم الحملان إذ هم معه في جيش العسرة وهي غزوة تبوك فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إلك لتحملهم فقال: والله لا أحملكم على شيء [وما عندي ما أحملكم عليه] ووافقته وهو غضبان ولا أشعر .. فرجعت حزينًا من منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. ومن مخافة أن يكون رسول الله - صلى الله ليه وسلم - قد وجد في نفسه علي .. فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالًا ينادي: أي عبد الله بن قيس .. فأجبته .. فقال: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك ..

ثلاثة رجال من الأغنياء يتخلفون

فلما أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خذ هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فانطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله -أو قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملكم على هؤلاء فاركبوهن. قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي بهن فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملكم على هؤلاء .. ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سألته لكم ومنعه في أول مرة ثم إعطاءه إياي بعد ذلك .. لا تظنوا أني حدثتكم شيئًا لم يقله .. فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت .. فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنعه إياهم ثم إعطاءهم بعد فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء" (¬1) .. ثم انطلق الجميع خلفه عليه السلام محملين بالمعاناة وشظف العيش وقلة الزاد وكثير من الإيمان وقد "خرج يوم الخميس في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم الخميس" (¬2) .. ولم يبق في المدينة سوى علي وأهل الأعذار و: ثلاثة رجال من الأغنياء يتخلفون عن مصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم أنهم ليسوا من المنافقين .. فأحدهم كان من أهل بيعة العقبة وهو الصحابي الشاعر كعب بن مالك رضي الله عنه الذي لم يتخلف عن غزوة أحد وما بعدها .. بل إنهم كانوا من أهل الاستعداد والإعداد لهذه الغزوة .. لكنه التسويف والثقة المفرطة بالنفس .. والوقت الذي لا يعرف الانتظار .. يقول كعب رضي الله عنه عن ظروف تخلفه: "لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك غير أني كنت ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1269 والزيادة له 1268. (¬2) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1078.

تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .. ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها .. كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة .. ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا وعدوًا كثيرًا .. فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ -يريد الديوان- فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم يزل فيه وحي الله وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال .. وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئًا .. فأقول في نفسي: أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا .. فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز .. فرجعت ولم أقض شيئًا .. ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئًا .. فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك .. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق أو رجلًا ممّن عذر الله من الضعفاعه" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1603.

أبو خيثمة يلحق بالنبي

كان كعب يضعر بغربة داخل مدينته لأنه لم ير فيها إلا الضعفاء والمنافقين .. وهو ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء .. هو من أولئك الذين يكابدون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجابهة الروم الذين تأهبوا للقضاء على هذه الدولة الجديدة .. لكنه التسويف الذي يورث الندم ويكدس الوظائف ويصيب الإنسان بالإحباط .. لم يكن كعب وحيدًا في معاناته ... هلال بن أمية ومرارة بن الربيع يمران بالتجربة المريرة نفسها .. ولما تحدث الناس عنهما أمام كعب قال: مثنيًا عليهما "ذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما إسوة" (¬1) ثلاثة من السابقين إلى الإسلام يبحثون عن مخرج مما هم فيه ولا سبيل .. فالنبي عليه السلام الآن في طريقه يشق السراب والعطش والقفار في قيظ محرق ولهيب مشتعل .. وإذا كان هؤلاء الثلاثة قد فقدوا الأمل باللحاق به عليه السلام فإن رجلًا رابعًا لم يتسلل اليأس إلى نفسه .. إنه الرجل الذي تصدق بالصاع وسخر منه المنافقون: أبو خيثمة يلحق بالنبي في قصة تفيض بحب الله ورسوله .. يتحدث عنها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيقول: "حتى إذا سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها .. وقد بردت له فيها ماء وهيأت له طعامًا فلما دخل قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وماء بارد ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 2124.

وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم .. ما هذا بالنصف .. والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهيئا لي زادًا .. ففعلتا ثم قدم ناضحة فارتحل ثم خرج في طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أدركه حين نزل تبوك .. وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي يطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال لعمير: إن لي ذنبًا فلا عليك أن تخلف عني حتى أقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسار" (¬1) أبو خيثمة نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يعاني وأصحابه من لهيب القيظ وشدة العطش إلى درجة لا يستطيع التعبير عنها إلا الذي عاناها وكابدها .. ومن بين هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول: "خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع .. حتى أن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع .. حتى أن الرجل ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده .. فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله .. إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا فادع لنا .. فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم .. فرفع يده فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلمت .. ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر .. فلم نجدها جازت العسكر" (¬2) ¬

_ (¬1) سنده قوي وهو جزء من حديث ابن إسحاق السابق: حدثنى محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أبا سعد بن أبي وقاص وقد مر تخريجه وله شاهد عند الطبراني 6 - 31. (¬2) سنده صحيح رواه ابن خزيمة 1 - 53 من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن أبي عتبة عن نافع بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب حدثنا من شأن العسرة فقال وهذا السند صحيح ولا يضره ما ذكره الدارقطنى في العلل 2 - 83 بقوله وخالفهم يعقوب بن محمد الزهري فرواه عن وهب ولم يذكر في الإسناد عتبة جعله بن أبي هلال عن نافع بن جبير والقول فيه قول من ذكر عتبة =

المنافقون لا تنفع معهم حتى المعجزات

المطر كان على معسكر المؤمنين فقط .. معاناة شديدة تكشف عن طبيعة هذا الدين .. وأن الله قضى أن لا ينتشر ويحكم في الأرض إلا بجهد البشر وتضحياتهم وبدون ذلك لن يتمكن أبدًا .. أما المعجزات الحسية فهي أدلة وبراهن تأتي مع الأنبياء وترتحل معهم .. لكن المعجزات تقف أحيانًا طويلًا على أبواب موصدة بأقفال صدئة كأبواب المنافقين التي أقفلوها وأقفلوا عقولهم دونها قديمًا وحديثًا .. المنافقون لا تنفع معهم حتى المعجزات في الطريق إلى تبوك مثال كالشمس .. معجزة إلهية فوق السماء وآثارها على الأرض لا تحتاج إلى بيان لكن عقول المنافقين قد تعفنت مع الزمن والعناد .. سأل رجل أحد الصحابة عن النفاق والمنافقين فقال له: "هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم قال: نعم والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن بني عمه ومن عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضًا على ذلك .. لقد أخبرني رجل من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث سار .. فلما كان من أمر الحجر ما كان ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس أقبلنا عليه نقول: ويحك أبعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سار حتى كان ببعض الطريق ضلت ناقته فخرج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبها وعند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه يقال له عمارة بن حزم .. وكان عقبيًا بدريًا وهو من بني عمرو بن مخزوم ¬

_ = ابن أبي عتبة وهو عتبة بن مسلم .. والسبب فيما أقول هو أن يعقوب سيئ الحفظ. التقريب 2 - 377.

وكان في رحله يزيد بن نصيب القينقاعي وكان منافقًا فقال يزيد وهو في رحل عمارة وعمارة عند النبي عليه السلام: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء ولا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمارة عنده: إن رجلًا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته .. وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني عليها وهي في هذا الوادي من شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها .. فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فجاءوا بها فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: والله لأعجب من شيء حدثناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنفًا عن مقالة قائل أخبره الله عنه كذا وكذا للذي قال: يزيد بن نصيب .. فقال رجل ممّن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن نصيب والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي .. فأقبل عمارة على يزيد يجافي عنقه ويقول يا آل عباد الله إن في رحلى لداهية وما أشعر أخرج أي عدو والله من رحلي فلا تصحبني" (¬1) ولا يلام عمارة بما فعله بيزيد المنافق هذا .. فهؤلاء الذين أغلقوا ضمائرهم وعقولهم وأكل الحسد والعناد قلوبهم واستنفدوا كل طرق الإقناع لا يجدي معهم سوى الترك لأنه لا فائدة ترجى ولا أمل يبقى .. ومصاحبتهم إهدار لوقت يستحقه غيرهم ممّن يتلهفون للحقيقة والتوحيد .. الخوف كان يخيم على بعض مراحل الطريق .. يقول المتدلي من حصن الطائف نحو الإسلام .. أبو بكرة رضي الله عنه: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى بهم ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه ابن حزم في المحلى 11 - 222 والطبريُّ في التاريخ 2 - 184: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الطفري قال: قلت لمحمود ابن لبيد: وعاصم تابعي مر معنا كثيرًا ثقة عالم بالمغازي وشيخه صحابي.

الصيام في السفر الشاق

ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعًا ولأصحابه ركعتين ركعتين" (¬1) كما كان عليه الصلاة والسلام يجمع في طريق ذلك بالطريقة التي يقول عنها "معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب" (¬2) هذا عن الصلاة وطريقة جمعها وقصرها .. أما عن: الصيام في السفر الشاق الصيام في هذا السفر الشاق حدث من بعض الصحابة .. "جابر بن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة تبوك وكانت تدعى غزوة العسرة فبينما نسير بعد ما أضحى النهار فإذا هو بجماعة تحت ظل شجرة ¬

_ (¬1) سنده على شرط البخاري رواه أبو داود وغيره داود 2 - 17 من طرق عن أبي حرة والأشعث وهما ثقتان عن الحسن عن أبي بكرة قال وقد سمع الحسن من أبي بكرة فتبقى عنعنته ولذلك قلت أنه على شرط الإمام البخاري لأنه رحمه الله روى بهذا السند أربعة أحاديث وربما أكثر في: الركوع دون الصف .. وصلاة الكسوف .. وحديث تولية المرأة .. وحديث أن الحسن سيصلح به الله بين فئتين .. وأبو بكرة لم يسلم إلا بعد حنين. (¬2) سنده صحيح رواه الترمذيُّ 2 - 438 وابن حبان 4 - 313 والبيهقي في سننه الكبرى 3 - 163 وغيرهم عن قتيبة بن سعيد الثقفى ثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ويزيد تابعي ثقة فقيه ولم ينفرد بل تابعه أبو الزبير وقد عنعن لكن لا يضره ذلك فهو من طريق الليث كذلك صرح أبو الزبير بالسماع عند الدارمي 1 - 426 وأبو الطفيل صحابي.

الوصول إلى ديار ثمود

فقالوا يا رسول الله رجل صام فجهده الصوم فقال - صلى الله عليه وسلم - ليس البر أن تصوموا في السفر" (¬1) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد وصلوا إلى مكان اسمه حجر ثمود وهو ما يسمى بـ (مدائن صالح) وهو المكان الذي كانت تعيش فيه قبيلة ثمود وهم قوم النبي صالح عليه الصلاة والسلام الذي أهلكهم الله بعد كفرهم وقتلهم الناقة التي جعلها الله آية ومعجزة لنبيه .. وبعد: الوصول إلى ديار ثمود أسرع بعض الصحابة يروون عطشهم ويستسقون الماء ويعدون الطعام مستخدمين الماء الموجود في هذا المكان .. لكنهم فوجئوا بصوت مرتفع يناديهم: الصلاة جامعة .. الصلاة جامعة ... وهي لفظة ينادي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه للاجتماع داخل المسجد أو خارجه .. فما الذي حدث .. يقول أحد الصحابة: "نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس عام تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستسقى الناس من الآبار التي كان يشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم" (¬2) و"لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه ابن حبان 8 - 321 حدثنا عمارة بن غزية عن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة عن جابر وهو سندٌ حسنٌ من أجل عمارة وقد أخطأ والصواب هو ما قاله ابن أبي حاتم في العلل 1 - 331 قال أبي روى هذا الحديث شعبة عن محمد بن عبد الرحمن عن محمد بن عمرو بن الحسن عن جابر بن عبد الله عن النبي ومحمَّد بن عمرو تابعي ثقة وكذلك تلميذه. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري وأحمدُ واللفظ له وسند أحمد صحيح 2 - 117 حدثنا عبد =

خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم)

من بئرها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء" (¬1) و"قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم ثم تقنع بردائه وهو على الرحل" (¬2) "ثم زجر فأسرع حتى خلفها" (¬3) ونهض الصحابة "فأهراقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا قال إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم" (¬4) "وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة" (¬5) فامتثلوا أمر نبيهم عليه السلام ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه خطيبًا وحدثهم عن قوم صالح وعن مصير الرجل الشهير أبي رغال. فما هي .. خطبة النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول جابر رضي الله عنه: "لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: لا تسألوا الآيات وقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج .. فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فكانت تشرب ماءهم يوم ويشربون لبنها يوما .. فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله عَزَّ وجَلَّ من تحت أديم السماء منهم إلا رجلًا واحدًا كان في حرم الله عَزَّ وجَلَّ قيل: ¬

_ = الصمد حدثنا صخر يعني بن جويرية عن نافع عن بن عمر قال وصخر ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 365 وهو عند البخاري بلفظ آخر .. انظر ما بعده. (¬1) صحيح البخاري 3 - 1236. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1237. (¬3) صحيح مسلم 4 - 2286. (¬4) هو جزء من حديث أحمد السابق أحمد 2 - 117. (¬5) صحيح البخاري 3 - 1237.

نحو وادي القرى

من هو يا رسول الله؟ قال: هو أبو رغال .. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه" (¬1) ويبدو أن غزوة تبوك ستكون حافلة بالدروس لكن هل ستكون حافلة بالدماء .. غادر النبي - صلى الله عليه وسلم - وجيشه أرض ثمود: نحو وادي القرى وهي مدينة بين تبوك والمدينة وفيها مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديقة امرأة مسلمة فكان هذا الحوار الذي يذكره أحد الصحابة فيقول "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اخرصوها فخرصناها وخرصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق وقال أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله وانطلقنا حتى قدمنا تبوك" (¬2) والخرص هو تقدير ما على النخل من رطب تمهيدًا لأخذ زكاته .. وكان تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - لرطب المرأة أنه يبلغ عشرة أوسق أي ستمائة صاع لأن الوسق يساوي ستين صاعًا. خرص النبي - صلى الله عليه وسلم - الرطب ثم غادر وادي القرى متوجهًا نحو تبوك في: طريق مفروش بالمعجزات والدروس .. فقد كان عليه السلام يجمع في طريقه ذلك ويقصر كعادته في أسفاره: ¬

_ (¬1) صحيح رواه أحمد 3 - 296 ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر وهذا السند على شرط مسلم لكن أبا البير مدلس وقد عنعن لكنه صرح بالسماع عند الفاكهي في أخبار مكة 2 - 251. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1785.

يقول أنس رضي الله عنه "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" (¬1) وقد سئل عليه السلام عما يضعه المصلى أمامه كي لا يقطع أحد صلاته "سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلى فقال كمؤخرة الرحل" (¬2) أي العود الموجود في آخر المقعد الموجود في رحل البعير .. ويقول معاذ رضي الله عنه: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام غزوة تبوك فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا .. حتى إذا كان يومًا أخر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا ثم دخل ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعًا ثم قال: إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل مسستما من مائها شيئًا قالا: نعم فسبهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لهما ما شاء الله أن يقول .. ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا حتى اجتمع في شيء وغسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر أو غزير حتى استسقى الناس .. ثم قال: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانًا" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 481 وبعد كلمة أميال قال الراوي: شعبة الشاك أي أن الإمام شعبة شك. (¬2) صحيح مسلم 1 - 359. (¬3) صحيح مسلم 4 - 1784 وقد تحققت المعجزة الأخرى اليوم فتبوك اليوم من أكبر المناطق الزراعية.

نبي تقله المعجزات وتظله ويلهج بها لأجيال لم تخلق أصلاب آبائها بعد .. وحين انتهى عليه السلام إلى تبوك توقف الجيش فلم يجد أحدًا .. أين الروم أين جيشهم الذي لا يقهر أين دولتهم التي أولها في أقاصي أوروبا وآخرها ليس في تبوك لا أحد على هذه الأرض سوى النبي وأصحابه والمعجزات .. نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقيم معسكر كبير جدًا .. وفي أحد مجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه افتقد صاحبه كعب بن مالك وسأل عنه فكانت الإجابة نقدًا لاذعًا لكعب تفوه بها أحد الجالسين .. يقول كعب وهو يروي مأساته وأحزانه: "ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه .. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت .. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا .. فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) فكعب من أهل العقبة وأحد والخندق وكل الغزوات .. وما فعله معاذ بن جبل رضي الله عنه من دفاع عن عرض أخيه الغائب هو استيعاب معاذ لمعنى الأخوة .. وامتثال لقوله عليه السلام "من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة" (¬2) فالغائب له أعذاره ومبررات غيابه ولا مجال للقذف والتكهنات في ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1604. (¬2) سنن الترمذيُّ 4 - 327 وهو صحيح انظر صحيح السنن للإمام الألباني رحمه الله.

مجاعة على أرض تبوك

حياة المسلم النقي .. فمن أجمل ما يزين به المرء حياته وقلبه حسن الظن وسلامة الصدر .. كما يزين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اليوم أرض تبوك .. وبينما كان الصحابة حول نبيهم في مجلسهم الودي هذا لاح بهم بين السراب بياض يموج خلاله .. بعد أن "رأى رجلًا مبيضًا يزول به السراب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون" (¬1) "فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هذا أبو خيثمة فلما أناخ سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولى لك أبا خيثمة فقص عليه خبره فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير وقال له خيرًا" (¬2) وبعد أن مرت أيام على هذا المعسكر وتبين أن الروم قد أصابهم الخوف والرعب من هذا الجيش الجائع الذي يعاني الآن من: مجاعة على أرض تبوك " لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة قالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افعلوا .. فجاء عمر فقال: يا رسول الله .. إن فعلت قَلَّ الظَّهر .. ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم .. فدعا بنطع فبسطه .. ثم دعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة قال ويجيء الآخر بكف تمر .. قال: ويجيء ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 2122. (¬2) سنده قوي وهو جزء من حديث ابن إسحاق السابق: حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أبا سعد بن أبي وقاص وقد مر تخريجه وله شاهد عند الطبراني 6 - 31.

إرسال رسالة إلى قيصر الروم

الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير .. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه بالبركة .. ثم قال: خذوا في أوعيتكم فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة" (¬1) معجزات كثيرة طمأنت قلوب المؤلفة قلوبهم ومسلمي الفتح ومسلمي حنين وغيرهم .. وهي ليست غريبة على عمر الذي طلبها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وبعد فماذا سيفعل عليه السلام ولا حرب ولا روم هنا ولا فائدة من البقاء في مكان لا يرون فيه سوى الجوع والعطش .. لقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبقى أيامًا جاعلًا أرض تبوك مركزًا لنشاطات عسكرية وسياسية مختلفة .. وأول المستهدفين بتلك النشاطات هم من جاء من أجلهم: الروم .. لقد قرر - صلى الله عليه وسلم - إرسال رسالة إلى قيصر الروم " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة .. فقال رجل من القوم: وإن لم أقتل؟ قال: وإن لم تقتل .. فانطلق الرجل به فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس قد جعل له بساط لا يمشي عليه غيره فرمى بالكتاب على البساط وتنحى .. فلما انتهى قيصر إلى الكتاب أخذه ثم دعا رأس الجاثليق فأقرأه فقال: ما علمي في هذا الكتاب إلا كعلمك .. فنادى قيصر: مَنْ صاحب الكتاب فهو آمن؟ فجاء الرجل فقال: إذا أنا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 56.

قدمت فأتني فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت ثم أمر مناديًا ينادي: ألا إن قيصر قد اتبع محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وترك النصرانية .. فأقبل جنده وقد تسلحوا حتى أطافوا بقصره فقال لرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد ترى إني خائف على مملكتي ثم أمر مناديًا فنادى ألا إن قيصر قد رضي عنكم وإنما خبركم لينظر كيف صبركم على دينكم فارجعوا .. فانصرفوا .. وكتب قيصر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني مسلم وبعث إليه بدنانير .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حين قرأ الكتاب كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على النصرانية وقسم الدنانير" (¬1) كانت هذه الإجابة المرتبكة تدل على أن الروم وعلى رأسهم قيصر بدأوا بمطالعة كتبهم المقدسة ومراجعة نبواتها وظهر خوفهم الشديد من هذا النبي التي تشير جميع النبوات في الكتاب المقدس إلى صدقه وصدق ما جاء به .. لكنها السلطة التي تكمم الأفواه وتغلق القلوب وتحرم صاحبها من اتباع الحق .. ففى داخل بئر بدر يتعفن أحد الأدلة .. وعلى أرض بني النضير وقينقاع وخيبر أدلة أخرى من الحسد والعناد لهذا النبي وكأن كونه عربي النسب سبة على بني إسرائيل الذين أهانوا النبوة والأنبياء بما فيه الكفاية .. كان ارتباك قيصر وخوفه دافعًا لملك مدينة تدعى أيلة على ساحل البحر الأحمر أن يأتي بنفسه يحمل هداياه ويقدم الولاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - "جاءه ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن حبان 10 - 357 أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف قال حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم صاعقة قال حدثنا علي بن بحر قال حدثنا مروان ابن معاوية الفزاري قال حدثنا حميد عن نس بن مالك قال وهذا السند صحيح. حميد الطويل تابعى ثقة سمع من أنس وتلميذه الفزاري ثقة حافظ. التقريب 2 - 239 وتلميذه علي ثقة فاضل. التقريب 2 - 32. وصاعقة ثقة. حافظ التقريب 2 - 185 وابن إسحاق قال عنه الخطيب في تاريخ بغداد 1 - 248: كان من المكثرين الثقات الصادقين الأثبات عَنِيَ بالحديث وصنف كتبًا كثيرة وهي معروفة مشهورة.

دومة الجندل

ملك أيلة وأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغلة بيضاء فكساه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بردًا وكتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) "كتب له ببحرهم" (¬2) أي أبقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ملكًا على أيلة .. ثم بعث بسرية إلى مكان آخر هو دومة الجندل " بعث إلى أكيدر صاحب دومة بعثًا" (¬3) وأوكل قيادة هذه السرية إلى الفارس والقائد الذي لا يهزم: خالد بن الوليد رضي الله عنه .. وريثما يعود خالد من مهمته دعونا نتجول داخل هذا المعسكر الذي حوله النبي - صلى الله عليه وسلم - من معسكر جيش إلى مدرسة يتعلم منها الجميع .. حيث "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يومًا" (¬4) وفي إحدى تلك الليالي وبعد أن فرغ من صلاته قام النبي (صلى الله عليه وسلم) يبشر أصحابه بخمس خمس هبات من الله لنبيه ولهذه الأمة تفيض رحمة ورأفة بهم .. وعزاء لهذا الجيش الذي عانى الكثير ولم يسعد بلقاء العدو وقطف الشهادة .. يقول أحد المشاركين في هذه الغزوة: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 2 - 539 وابن حبان 10 - 355 واللفظ الأول له. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 2 - 539 وابن حبان 10 - 355 واللفظ الأول له. (¬3) سنده حسن رواه النسائي 8 - 199 وغيره من طريق محمد بن عمرو عن واقد بن عمرو ابن سعد بن معاذ قال دخلت على أنس بن مالك حين قدم المدينة فسلمت عليه فقال ممّن أنت قلت أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال إن سعدًا كان أعظم الناس وأطوله ثم بكى فأكثر البكاء ثم قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وواقد تابعي ثقة من رجال مسلم: التقريب 2 - 329 وتلميذه حسن الحديث من رجال الشيخين: التقريب 2 - 196. (¬4) سنده صحيح رواه أحمد 3 - 295 ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد ابن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله قال: وابن ثوبان تابعي ثقة من رجال الشيخين: التقريب 2 - 182 وتلميذه مثله والبقية أئمة.

يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى وانصرف إليهم فقال لهم لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرست إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه. ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبًا .. وأحلت لي الغنائم آكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها .. وجعلت لي الأرض مساجد وطهورًا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم .. والخامسة هي ما هي قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" (¬1) ويقصد بها شفاعته لأمته يوم القيامة حيث يقول "- صلى الله عليه وسلم - لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا" (¬2) وقد أعطى الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع شفاعات يوم القيامة: الأولى: هي الكبرى وهي التي يقبلها - صلى الله عليه وسلم - تلبية لنداء البشر جميعًا بعدما ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه أحمد 2 - 222 وغيره من طرق عن يزيد بن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه .. يزيد بن الهاد تابعي صغير وثقة مكثر: التقريب 2 - 367 وعمرو عن أبيه عن جده إسناد حسن معروف. (¬2) صحيح مسلم 1 - 182.

يعتذر الأنبياء للناس عن مخاطبة الجبار يوم القيامة .. يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لذريتك فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها ولكن عليكم بموسى عليه السلام فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فأوتى فأقول أنا لها" (¬1). الثانية: شفاعته لأهل الكبائر من أمته يقول - صلى الله عليه وسلم -: "فأقول: أنا لها .. فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله ثم أَخِرُّ له ساجدًا فيقال لي: يا محمد .. ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع .. فأقول: رب أمتي أمتي .. فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدًا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول أمتي أمتي فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدًا فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل" (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 189. (¬2) صحيح مسلم 1 - 183.

الثالثة: شفاعته لإخراج أناس من أهل النار من الذين ارتكبوا ذنوبًا كبيرة وكثيرة لكنها لم تصل إلى حد الشرك الأكبر .. وهي الشفاعة التي يختص بها الله سبحانه وتعالى .. يقول - صلى الله عليه وسلم -: "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدًا فيقال لي: يا محمد .. ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذاك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وكبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله" (¬1) الرابعة: شفاعته لعمه أبي طالب أن يخفف عنه من العذاب فيوضع على جمرتين على شكل نعلين من النار يغلى منهما دماغه يقول "أبو سعيد الخدري: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه" (¬2) كان الصحابة ينصتون إلى تلك الهبات الإلهية ويرجون الله شفاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواصل تعليمه وتثقيفه لأتباعه في أي مكان وأي زمان .. ها هو داخل خيمته الصغيرة التي تقصدها خطوات الصحابي عوف بن مالك وبعدما وصل قال رضي الله عنه: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك [في آخر السحر وهو في فسطاطه فسلمت عليه وقلت: أأدخل يا رسول الله؟ فقال: ادخل .. فقلت: كلي؟ فقال: كلك] .. وهو في قبة من أدم فقال عدد ستًا بين يدي الساعة: موتى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 183. (¬2) صحيح مسلم 1 - 195.

ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطي الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا" (¬1) وهذا الحديث من معجزاته عليه السلام .. وأما دروسه لأمته في هذه الغزوة فلم تنته ها هو يواصل تعليم أصحابه أمرًا يتعلق بالنظافة والصلاة يعلمهم .. دروسًا في المسح على مقدمة الرأس والعمامة والخفين وكان رفيقه في تلك الليلة صاحبه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه الذي يقول: "أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبوك" (¬2): "فقال: يا مغيرة خذ الإداوة .. فأخذتها ثم خرجت معه .. فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني فقضى حاجته ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فذهب يخرج يده من كمها فضاقت عليه فأخرج يده من أسفلها فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة" (¬3) "فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم غسل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1159 والزيادة صحيحة وهي عند الحاكم 3 - 630 وغيره. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 317. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 229.

درس آخر في الصلاة

وجهه ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين" (¬1) "فمسح بناصيته وعلى العمامة" (¬2) "مقدم رأسه وعلى عمامته" (¬3) عندها أراد المغيرة رضي الله عنه أن يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - بنزع الخفين من قدميه الشريفتين لكن ذلك لم يحدث .. يقول المغيرة: "فأهويت لأنزع خفيه فقال دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما" (¬4) أي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الخف وهو متوضئ وإلا لما مسح على الخف .. كما بين عليه السلام لصحابته مدة المسح على الخفين التي تبدأ من أول مسحة .. يقول أحد الصحابة واسمه عوف بن مالك: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوم وليلة للمقيم" (¬5) ولما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من وضوءه وطهارته توجه مع صاحبه المغيرة لأداء صلاة الفجر فكان في ذهابهما: درس آخر في الصلاة يقول: "المغيرة فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم .. فأدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة .. فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 317. (¬2) صحيح مسلم 1 - 231. (¬3) صحيح مسلم 1 - 231. (¬4) صحيح البخاري 1 - 85. (¬5) سنده صحيح رواه ابن أبي شيبة 1 - 161حدثنا هشيم بن بشير قال أخبرنا داود بن عمر عن بسر بن عبد الله الحضرمي عن أبي إدريس الخولاني قال حدثنا عوف بن مالك الأشجعى: هشيم لم يدلس والبقية ثقات وهو متصل.

درس في الأحكام الجنائية

صلاته فأفزع ذلك المسلمين .. فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنتم .. أو قال: قد أصبتم .. يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها" (¬1). لم يستفد الصحابة من دروس العبادة فقط كان هناك درس في الأحكام الجنائية فقد حدث بين بعض الرجال ما يحدث بين البشر من نزاع وسوء تفاهم قد يصل إلى الاشتباك بالأيدي أحيانًا .. وقد وصلت الأمور هذه المرة إلى الاشتباك فتضرر أحد الطرفين فذهب مشتكيًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يؤدي دور القائد والأخ والقاضي والمعلم وقبل ذلك النبي .. صحابي اسمه: يعلي بن منية "رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك فحملت على بكر فهو أوثق أعمالي في نفسي .. فاستأجرت أجيرًا فقاتل رجلًا فعض أحدهما الآخر فانتزع يده من فيه ونزع ثنيته .. فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهدرها (¬2) فقال: أيدفع يده إليك فتقضمها كما يقضم الفحل" (¬3) فتعلم الصحابة أن خسائر المعتدي لا تعوض لاعتدائه ولأنه هو السبب فيها لا خصمه .. وإذا كان أحد الصحابة قد خسر أحد أسنانه فإن آخرًا كاد أن يفقد حياته عندما حذر عليه السلام أصحابه: أمرًا مرعبًا سيحدث على أرض تبوك ومعجزة أخرى ستحدث على أرض المعجزات - تبوك .. يقول أحد ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 317. (¬2) أي لم يعوضه. (¬3) صحيح البخاري 3 - 1086.

الذين شاهدوا تلك الحادثة: "قدمنا تبوك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم فيها أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء" (¬1) أما كيف عرف هذا الصحابي بمكان أخيه فهذا ما سنعرفه بعد العودة للمدينة التي يبدو أنها قد اقتربت .. فبعد أن "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يومًا" (¬2) قال أبو هريرة رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا يوم تبوك فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله أذن لكم بهذا المسير وقد أذن لكم بالرجوع [والذي نفس محمد بيده لولا أنه ليس عندي سعة فأعطيكم ولا تطيب أنفسكم أن تقعدوا خلفي ما قعدت خلف سرية ولا بعث من المسلمين فلوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيى ثم أقتل ثم أحيى بعدها مرارًا .. جرح الرجل .. جرح في سبيل الله والله أعلم بمن يجرح في سبيله يأتي يوم القيامة كلون الدم وريح المسك" (¬3) فتأهب الجميع للعودة إلى المدينة ثم تحركوا .. وبعد أن انطلق الجيش وخلال الطريق وجد معاذ بن جبل رضي الله عنه نفسه أقرب الناس إلى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1785. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد 3 - 295 ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد ابن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله قال: وابن ثوبان تابعي ثقة من رجال الشيخين: التقريب 2 - 182 وتلميذه مثله والبقية أئمة. (¬3) سنده حسن رواه ابن أبي عاصم في السنة 1 - 177 حدثنا ابن مصفى حدثنا بقية بن الوليد ثنا الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي مريم عن أبي هريرة .. قال الإمام الألباني رحمه الله: إسناده حسن وفي ابن مصفى كلام يسير وبقية من جهة تدليسه ولكنه صرح بالتحديث وأبو مريم هو الأنصاري الشامى وهو ثقة وهو كما قال رحمه الله .. وفي ترجمة محمد بن مصفى أنه مدلس لكنه صرح بالسماع هنا والزيادة عند الطبراني في مسند الشاميين 2 - 33 وهي صحيحة لأنها زيادة الثقة يزيد بن عبد ربه الجرجسي وقد تابع محمد بن مصفى في روايته.

النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجدها فرصة لا يمكن تفويتها .. لذلك قدم استفسارًا يلح على مشاعره بشدة .. فقال رضي الله عنه: "أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك فلما رأيته" (¬1) و"وقد أصاب الحر فتفرق القوم حتى نظرت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقربهم مني فدنوت منه فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة المكتوبة وتوتي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان قال: وإن شئت أنبأتك بأبواب الجنة .. قلت أجل يا رسول الله قال: الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله .. ثم قرأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} قال: وإن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه .. قلت: أجل يا رسول الله .. قال: أما رأس الأمر فالإسلام .. وأما عموده فالصلاة .. وأما ذروة سنامه فالجهاد في سبيل الله وإن شئت أنبأتك. بملاك ذلك كله .. فسكت .. فإذا راكبان يوضعان قبلنا فخشيت أن يشغلاه عن حاجتى قال: فقلت: ما هو يا رسول الله؟ ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه ابن أبي شيبة 6 - 158 أحمد 5 - 237 عن شعبة عن الحكم قال سمعت عروة بن النزال يحدث عن معاذ بن جبل وسنده فيه ضعف من أجل الراوي عن معاذ لكن يشهد له ما بعده ففيه متابعة قوية له.

المنافقون يسخرون من النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته

فأهوى بإصبعه إلى فيه قال: فقلت: يا رسول الله .. وإنا لنؤاخذ بما نقول بألسنتنا قال: ثكلتك أمك ابن جبل .. هل يُكبُّ الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم" (¬1) لقد تحولت حياة هؤلاء العرب الأجلاف بهذا النبي إلى حياة أخرى .. نظافة وعبادة نقية وعلم وثقافة .. بل أصبح العلم والثقافة في مقدمة اهتماماتهم .. وأصبح رضى الله هو هدف الحصول على هذا العلم .. وبذلك ولدت أمة جديده تجعل العلم نوعًا العبادات .. والنظافة نوعًا من العبادات .. والحركة نوعًا من العبادات حتى حركة اللسان وسكونه حوَّلَها الإسلام إلى عبادة .. كان - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه عن اللسان وخطورته وكأنه يستشعر تلك الأفاعي التي يخفيها المنافقون داخل أفواههم والتي تتلمظ لنهش أعراض الصحابة وتشويه صورتهم .. وقد حدث ذلك في أحد المجالس التي شملت بعض المنافقين .. حيث قام هؤلاء المنافقون يسخرون من النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته فقد "قال رجل في غزوة تبوك في مجلس ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء فقال رجل في المسجد كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه الحاكم 2 - 447 من طريقين عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت والحكم بن عتيبة عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل رضي الله عن: وميمون تابعي صدوق: التقريب 2 - 291 والحكم وحبيب تابعيان ثقتان وله شاهد حسن الإسناد عند أحمد 5 - 231 ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل.

ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمرو: أن رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} " (¬1) فالسخرية من الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن والسنة لا تعني سوى الازدراء والاحتقار ولا يمكن تغليفها بأي غلاف آخر يخفي حقيقة الغيض والتبرم .. وهو أسلوب منحط وسافل لا ينتهجه سوى العاجزين عن مطاولته والنيل منه .. فالسخرية ديدن الفاشلين والوضعاء من البشر .. لكن كما يقال القافلة تسير والكلاب تنبح .. لكن نباح الكلاب هنا مرير بعد أن أنزل الله آيات تفضح هؤلاء الناس الذين عادوا النجاح والحقيقة فأصبحوا أعداء لكل شيء حتى أنفسهم .. سارت القافلة عائدة إلى المدينة حتى وصلوا إلى وادي القرى .. وهناك مروا على المرأة صاحبة النخل "فلما أتى وادي القرى قال للمرأة كم جاءت حديقتك قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني متعجل إلى المدينة فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل" (¬2) لكن يبدو أن الظروف لم تكن تساعد على العجلة فطريق العودة لم يخل بعد من المنغصات التي يقذفها المنافقون الطافحون بالكراهية والحقد بعد هذه الغزوة التي تعتبر رصيدًا من النجاح للدولة المسلمة رغم عدم وجود قتال فيها .. إلا أنها كشفت عن هيبة المسلمين عند إمبراطورية الروم وعن حقد ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبري في 2 - 368 وابن كثير في تفسيره 2 - 368 حيث قال رحمه الله قال عبد الله بن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر فذكره إلى قوله تستهزئون وقد توبع ابن وهب تابعه الليث عن هشام بن سعد. (¬2) صحيح البخاري 2 - 539.

صراخ الجاهلية داخل معسكر المؤمنين

المنافقين على هذه النجاحات التي صارت تحققها دولة الإسلام في فترة قياسية من أعمار الأمم .. وقد حدث بين أحد المهاجرين والأنصار خلاف حاول المنافقون استثماره لإشعال سعير الفتنة داخل هذا الجيش المسلح عل هذه الأسلحة تجد أغمادًا لها داخل أجساد المؤمنين وذلك بعدما تعالى صراخ الجاهلية داخل معسكر المؤمنين وكانت بداية هذا النزاع مزاحًا ثقيلًا من أحد المهاجرين المرحين حيث قام بضرب أخيه الأنصاري برجله أو بيده في مؤخرته فلم يتحمل الأنصاري هذا المزاح الثقيل .. يقول جابر رضي الله عنه: "غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريًا فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين" (¬1) ويقول أيضًا: "اقتتل غلامان .. غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجر أو المهاجرون يال المهاجرين .. ونادى الأنصار يال الأنصار فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ما هذا دعوى أهل الجاهلية قالوا: لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر قال: فلا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا إن كان ظالمًا فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلومًا فلينصره" (¬2). بهذه العدالة والحكمة تقتل الفتنة مهما كانت كبيرة .. انصر أخاك ظالمًا بمنعه من الظلم وانصره مظلومًا بالدفاع عنه .. لكن عبد الله بن أبي ابن سلول لم تعجبه تلك الحكمة ولا تلك العدالة فقرر أن يثير مزابل ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1296. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1998.

النفاق التي طال ركودها في وجه المؤمنين لعل وعسى أن تقوم حرب أهلية داخل المدينة يتم فيها طرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المهاجرين لتعود الأصنام والجاهلية والخرافة فيتوج ابن سلول ملكًا عليها .. يقول جابر رضي الله عنه: "سمع ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال دعوى جاهلية قالوا: يا رسول الله .. كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار فقال: دعوها فإنها منتنة .. فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .. فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر فقال: يا رسول الله .. دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه .. وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم إن المهاجرين كثروا بعد" (¬1) فأغاضت كثرتهم صدور المنافقين وتبنى زعيمهم مشروعًا لطردهم من المدينة وهو لا يستطيع ذلك مهما فعل والدولة الإسلامية أقوى من أن تتأثر بقول منافق .. لكن هذا القول يخلق نوعًا من العصبية المقيتة التي قد تستشري في المستقبل وتفسد قلوب كثير من الناس وتنحرف بنواياهم وجهودهم نحو زوايا ضيقة وحفر صغيرة جربها العرب آلاف السنوات قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - فما تقدموا شبرًا واحدًا .. وقد وصل هذا التهديد لمسامع البى - صلى الله عليه وسلم - فقدم لأصحابه ولخلفائه وللزعماء من بعده درسًا في التعامل مع أقوال الخصوم من رعاياهم مهما كانوا .. وحطم عليه السلام أي حجة تبرر فيها السلطة التنكيل بمن تشاء لمجرد أنهم قالوا كلامًا يصادم سياستها أو يحتج على ممارسة من ممارساتها .. فها هي السلطة ممثلة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - تكذب مؤمنًا وهي تعلم أنه صدوق لأنه لم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1861.

حصار المهاجرين اقتصاديا

يحضر شهودًا أو أدلة على ما يقول .. وبرأت رأس المنافقين وهي تجزم بكفره ونفاقه وكذبه لأن الأصل في أي إنسان يعيش في الدولة الإسلامية أنه بريء حتى تثبت التهمة عليه .. حدث ذلك رغم أن ذلك القول يحمل أشد أنواع الخروج على السلطة بل يدعو صراحة إلى تغيير نظام الحكم بالقوة .. بل إن هذا المنافق لم يكتف بالتهديد فقط بل قدم لأهل المدينة مشروعًا خطيرًا جدًا يأمرهم فيه بـ: حصار المهاجرين اقتصاديًا فقال لمن حوله: "لا تنفقوا على من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينفضوا من حوله" (¬1) وكان الذي سمع هذه المقولة من فم ذلك المنافق مباشرة صحابي جليل اسمه زيد بن أرقم وهو من الأنصار أنفسهم ومن المعنيين مباشرة بكل حرف بصقه ابن سلول .. فنقل ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - لكن زيدًا تأذى كثيرًا بعد نقله لذلك القول .. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعره اهتمامًا .. فقد أراد قطع كل طرقات المنافقين في التسلل نحو وحدة المسلمين بعد أن نجحوا في التسلل في صفوفهم .. تلك الوحدة التي بدأ المؤمنون بقطف ثمارها وبدأت البشرية تتمتع بشمسها وهوائها .. يقول زيد رضي الله عنه وهو يتحدث عن معاناته: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر أصاب الناس في شدة [في غزوة تبوك] " (¬2) "كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 2140. (¬2) صحيح مسلم 4 - 2140 وأما بين المعقوفين فعند الترمذيُّ 5 - 417 بسند صحيح حدثنا محمد بن بشار حدثنا بن أبي عدي أنبأنا شعبة عن الحكم بن عتيبة قال سمعت محمد بن كعب القرظي منذ أربعين سنة يحدث عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن عبد الله بن أبي قال في غزوة تبوك .. وشيخ الترمذيُّ ثقة يلقب - بندار وهو من رجال الشيخين التقريب 2 - 147 وكذلك شيخه واسمه محمد بن إبراهيم بن أبي عدي وقد ينسب لجده ثقة =

أبي بن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا .. وقال أيضًا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكر عمي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا .. فصدقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذبني .. فأصابني هم لم يصبني مثله" (¬1) لأن المتحدث صادق والحالف كاذب والكل يعرف الطرفين .. وكان مما زاد حزن زيد ومعاناته ذلك العتاب القاسي الذي صدر من عمه وقومه .. يقول رضي الله عنه: "وقال عمي: ما أردت إلى أن كذبك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقتك" (¬2) التحف زيد آلامه وأحزانه وأكمل مسيرًا ثقيلًا إلى المدينة .. فقد عكر المنافقون صفو غزوته وجهاده مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وعكروا على المؤمنين ذلك أيضًا .. وابتهج المنافقون بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - ونجحوا في التملص من عواقب تلك الكلمات الخطيرة .. لكن المنافقين لم يكتفوا بتلك النتيجة المفرحة ولا بتلك البلبلة التي أثاروها .. فقد خيل لهم أن هذا الجيش وقائده من السذاجة لدرجة أنه يمكن توجيه ضربة أخرى لكنها هذه المرة عسكرية .. لقد قرر المنافقون ¬

_ = التقريب 2 - 141والبقية أئمة ثقات معروفون أما ما جاء عن علاقة هذا القول بغزوة بني المصطلق فهو ضعيف وإن كان في صحيح مسلم لأنه من بلاغات سفيان رحمه الله. (¬1) صحيح البخاري 4 - 1859. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1861.

محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم)

محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وسلم) " رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلًا من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناس من أصحابه فتآمروا عليه أن يطرحوه في عقبة في الطريق .. فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه .. فلما غشيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمعوا بذلك واستعدوا وتلثموا وقد هموا بأمر عظيم .. وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه مشيًا وأمر عمار أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة أن يسوقها فبينا هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم من ورائهم قد غشوهم .. فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر حذيفة أن يردهم وأبصر حذيفة غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربًا بالمحجن .. وأبصر القوم وهم متلثمون .. فرعبهم الله عَزَّ وجَلَّ حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه .. فأسرعوا حتى خالطوا الناس. وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أدركه .. قال: اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار فأسرعوا حتى استوى بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة: هل عرفت يا حذيفة من هؤلاء الرهط أو الركب أو أحدًا منهم قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون فقال - صلى الله عليه وسلم -: هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ قالوا: لا والله يا رسول الله قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها. قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمدًا قد وضع يده على أصحابه فسماهم لهم وقال: اكتماهم" (¬1) ¬

_ (¬1) حديثٌ حسنٌ رواه البيهقي في الدلائل 5 - 256 والفظ له عن عروة مرسلًا لكن رواه =

مرة أخرى يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - درسًا في السلوك السلطوي الإسلامي الرائع في تعامله مع الآخر .. وتتضح سعة الأفق التي كان يتميز بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعامله مع الأحداث الخطيرة التي يمكن السيطرة عليها وتحجيمها وتجاوزها بهدوء وتعقل ودون تعريض المجتمع والأمة إلى هزة مؤثرة .. رغم قول حذيفة رضي الله عنه في الموضع نفسه: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابي اثنا عشر منافقًا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة" (¬1) وهي عبارة عن دمل كبيرة قاتلة .. تجاوز النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الأزمة بنجاح وقاد جيشه باقتدار ولما أقبل الجيش على المدينة هش لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وطاب له الحديث عنها وعن أهلها .. فلهج بكلمات من القلب عندما اقترب منها فقال "رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي ومن شاء فليمكث فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة فقال: هذه طابة وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه .. ثم [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بخير دور الأنصار قالوا: بلى يا رسول الله] .. قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير فلحقنا سعد بن عبادة فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير دور الأنصار فجعلنا آخرًا .. فأدرك سعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله .. خيرت دور الأنصار فجعلتنا أخرًا .. فقال: أوليس بحسبكم أن تكونوا من ¬

_ = البيهقي أيضًا في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن إسحاق عن الأعمش عن عمرو ابن مرة عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان وهو سند قوي لولا عنعنة ابن إسحاق لكنه لم ينفرد فقد تابعه عند البزار 7 - 350 أبو بكر بن عياش عن الأعمش وكذلك شاهد عند أحمد 5 - 453 من طريق يزيد أنا الوليد يعني بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل. (¬1) صحيح مسلم 4 - 2143.

الصبيان الذين تسابقوا نحو ثنية الوداع

الخيار .. [ثم قال بيده فقبض أصابعه ثم بسطهن كالرامي بيده ثم قال وفي كل دور الأنصار خير] " (¬1) ثم بشر الفقراء والمعذورين داخل المدينة بحديث يرويه أنس بن مالك فيقول رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر" (¬2) وكان شوقه عليه السلام للمدينة يعرف بحركة تفيض بالمشاعر .. يقول عنها "أنس رضي الله عنه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته وإن كان على دابة حركها من حبها" (¬3) وتحرك الجيش من خلفه .. ثم أقبلوا على مشارف المدينة وبعض القلوب محطمة من كلام عبد الله بن أبي بن سلول الشنيعة .. أما داخل المدينة فالمشاعر مختلفة كاختلاف الألوان .. هناك المشتاقون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم المؤمنون وهناك المنافقون الذين انتهوا من إعداد أعذارهم وأسفهم ليقدموها كالأفخاخ للنبي عليه السلام .. وهناك الصبيان الذين تسابقوا نحو ثنية الوداع انطلقوا كالعصافير نحو مدخل المدينة من جهة تبوك يقال لها ثنيات الوداع يتلقون النبي - صلى الله عليه وسلم - ها هو أحدهم يقول: "خرجت مع الصبيان نتلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه من تبوك إلي ثنية الوداع" (¬4) و"خرج الناس يتلقونه فخرج النساء والصبيان .. فكنت فيمن تلقاه مع الصبيان حتى لقينا رسول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1785 والزيادة للبخاري 5 - 2031. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1610. (¬3) صحيح البخاري 2 - 666. (¬4) صحيح البخاري 3 - 1121 وابن حبان 11 - 113 والطبرانيُّ في الكبير 7 - 158 وأحمدُ 3 - 449 وغيرهم واللفظ لابن حبان والطبرانيُّ على الترتيب.

الله - صلى الله عليه وسلم - بثنية الوداع" (¬1). يقول أحد هؤلاء الأطفال وهو ابن الشهيد جعفر الطائر قائد مؤتة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته .. قال: وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد أبني فاطمة فأردفه خلفه قال فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة" (¬2) وبعد أن حيى الأطفال والنساء توجه نحو المسجد لـ "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس" (¬3) ثم جلس للناس وأثناء جلوسه تهادى نحوه رجل محطم القلب له قصة مؤثرة جدًا سنعرفها بعد قليل بعد أن نصاحبه عليه السلام إلى بيت فاطمة حيث "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج في سفر فآخر ما يكون عهده به من أهل بيته فاطمة رضي الله عنها وإذا قدم فأول ما يدخل عليه فاطمة رضي الله عنها" (¬4) ثم توجه إلى أحد أبياته وبعد دخوله في ذلك البيت بزمن سمع: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1121 وابن حبان 11 - 113 والطبرانيُّ في الكبير 7 - 158 وأحمدُ 3 - 449 وغيرهم واللفظ لابن حبان والطبرانيُّ على الترتيب. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1885. (¬3) صحيح البخاري 3 - 1123. (¬4) حديثٌ حسنٌ رواه في الآحاد والمثاني 5 - 359 وغيره من طريق سليمان المنبهي عن ثوبان وسليمان تابعي مجهول لكن للحديث شاهد عنده أيضًا لكنه ضعيف من طريق إبراهيم قعيس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه إبراهيم ضعفه أبو حاتم وله شاهد ثالث في المستدرك على الصحيحين 1 - 664 من طريق يزيد بن سنان وهو أبو فروة الرهاوي عن عروة بن رويم اللخمي قال سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول وأبو فروة ضعيف وشاهد رابع بسند جيد لولا أخطاء أحد الرواة وهو الأسود بن حفص المروزي حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر قبَّل ابنته فاطمة.

صوت الدف في بيت النبي (صلى الله عليه وسلم)

صوت الدف في بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) بل وتحت سمعه وبصره ورضاه وفي يوم ليس من أيام العيد فقد "جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إني نذرت إن ردك الله سالمًا أن أضرب على رأسك بالدف فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن نذرت فافعلي وإلا فلا قالت إني كنت نذرت فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضربت بالدف وقالت: أشرق البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع" (¬1) كان - صلى الله عليه وسلم - يقر هذه الجارية على نذرها ولو كان نذر معصية لما وافقها عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول "لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد" (¬2) "لا نذر في معصية الله" (¬3) وقد حدث من الجارية ما يؤكد ذلك في اليوم نفسه فقد: "قالت: يا رسول الله .. إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف قال: أوفي بنذرك. قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا؛ مكان كان يذبح فيه أهل ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن حبان (موارد الظمآن (1 - 493) أخبرنا محمَّد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا زياد بن أيوب حدثنا أبو ثميلة يحيى بن واضح حدثني الحسين بن واقد حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعض مغازيه .. وهذا سند صحيح فشيخه هو الإِمام ابن خزيمة وزياد بن أيوب ثقة حافظ لقبه أحمد بشعبة الصغير: التقريب 1 - 265 وأبو ثميلة ثقة من رجال الشيخين 1 - 359 وشيخه وشيخ شيخه ثقتان. لكنني لم أجد الأبيات في صحيح ابن حبان 10 - 231 مما يعني أنها مدرجة أو أن الهيثمي وجدها في بعض نسخ ابن حبان لذلك وضعها في هامش الموارد وقد وضعت هذا الحديث هنا لمقدمه - صلى الله عليه وسلم - من ثنيات الوداع وهي الغزوة الأنسب لهذا الحدث. (¬2) صحيح مسلم ج:3 ص:1262. (¬3) صحيح مسلم ج:3 ص:1262.

صورا مجسمة في بيت عائشة

الجاهلية، قال: لصنم؟ قالت: لا .. قال: لوثن؟ قالت: لا، قال: أوفي بنذرك" (¬1) وصدر منها بعد ذلك تصرف مضحك لكنه في الوقت نفسه شهادة لأحد عظماء الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بعد ما قال عليه السلام لها: "إن كنت نذرت فاضربي فجعلت تضرب فدخل أبو بكر رضي الله عنه وهي تضرب، ثم دخل عمر رضي الله عنه فألقت الدف تحتها وقعدت عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الشيطان يخاف منك يا عمر" (¬2) ويبدو أن شدة عمر رضي الله عنه قد تصاعدت بعد أقوال المنافقين وأعمالهم الخطيرة .. وسوف تكشف الأيام عن مواقف هذا الرجل العظيم تجاههم .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان سنة من السماحة واللين والرفق .. ها هو يرى صورًا مجسمة في بيت عائشة تقول رضي الله عنها: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك وقد نصبت على باب حجرتي عباءة وعلى عرض بيتي ستر أرمني فدخل البيت .. فلما رآه قال: ما لي يا عائشة والدنيا، فهتك الستر حتى وقع بالأرض وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشف ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه أبو داود 3 - 237 حدثنا مسدد ثنا الحرث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سندٌ حسنٌ معروف وعبيد الله ثقة وليس كما قال الحافظ رحمه الله أنه صدوق يخطئ - انظر تعليقي على التقريب 1 - 530 تلميذه الحارث حسن الحديث إذا لم يخاف وهو من رجال مسلم: التقريب 1 - 142. (¬2) سنده صحيح رواه البيهقي في الكبرى 10 - 77 وغيره من الحسين بن واقد ثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه وهو سند صحيح مر تخريجه في الحديث قبل السابق.

قالت: بناتي. قالت: ورأى بين طوبها فرسًا له جناحان من رقع قال: فما هذا الذي أرى في وسطهن؟ قالت: فرس قال: ما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان قال: فرس له جناحان؟ قالت: أوما سمعت أن لسليمان بن داود خيلًا له أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجده" (¬1) من قول عائشة إلى تتمتع بدلال هذا الزوج الرائع ورفقته ورفقه .. كانت عائشة تتلقى منه الذوق الراقي والمستوى الرفيع في التعامل حتى مع أعدائه .. ذات مرة كان في بيتها فدخل عليه بعض اليهود فألقوا عليه تحية كالسم .. تقول عائشة رضي الله عنها "دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا السام عليكم .. قالت عائشة: ففهمتها .. فقلت: وعليكم السام واللعنة .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مهلًا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله .. فقلت: يا رسول الله .. أولم تسمع ما قالوا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد قلت وعليكم" (¬2) وإذا كان هذا هو رفقه - صلى الله عليه وسلم - بأعدائه فكيف سيكون موقفه من رجال ثلاثة لا يدرون ما يقولون .. بل ولا ما يفعلون وقد رجع - صلى الله عليه وسلم - من تبوك .. لنعد بالأحداث إلى حيث المسجد النبوي لحظة وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - وجلوسه فيه .. هناك بدأت المعاناة لـ: ¬

_ (¬1) سنده حسن رواه البيهقي في السنن الكبرى 10 - 219 واللفظ له والنسائيُّ في السنن الكبرى 5 - 306 وأبو داود 4 - 283 عن يحيى بن أيوب حدثني عمارة بن غزية أن محمَّد ابن إبراهيم التيمي حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها والسند حسن من أجل يحيى الغافقى وهو من رجال الشيخين وشيخه لا بأس به من رجال مسلم والبقية ثقات وقد جاء في أبي داود الشك بين خيبر وتبوك. (¬2) صحيح البخاري 5 - 2242.

الصحابة الثلاثة الذين غابوا عن تبوك

الصحابة الثلاثة الذين غابوا عن تبوك والذين ضاقت بهم الدنيا واسودت بوجوههم وضاقوا بأنفسهم .. ها هو: أحدهم الشاعر المؤمن كعب بن مالك الذي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة والذي انشغل وتردد حتى فاتته الغزوة وهو في المدينة الآن يصف شعوره طوال تلك الأيام التي أمضاها بين جدران يشعر بأنها تحاول خنقه .. وهواء يشعر بأنه لا يريد الدخول إلى رئتيه .. وأرض تضيق به .. وأعذار لا قيمة لها ولا رصيد .. كعب بن مالك يروي قصته الطويلة الدامية في تلك الأيام السوداء فيقول: "غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي أنا قادرٌ عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا .. فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئًا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئًا فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك .. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق أو رجلًا ممّن عذر الله من الضعفاء .. ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله .. حبسه برداه ونظره في عطفيه .. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت .. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كعب بن مالك فلما بلغني أنه توجه قافلًا

حضرني همي .. وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدًا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي .. فلما قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادمًا زاح عني الباطل .. وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب .. فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادمًا وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس .. فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلًا فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله .. فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك فقلت: بلى إني والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلًا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي .. ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله .. لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضى الله فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر إليه المتخلفون .. قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك فوالله مازالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم .. رجلان .. قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك.

فقلت: من هما قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي .. ونهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه .. فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف .. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان .. وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة .. فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي .. وإذا التفت نحوه أعرض عني .. حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت .. فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناه. وتوليت حتى تسورت الجدار فبينما أنا أمشى بسوق المدينة إذا نبطى من أنباط أهل الشام ممّن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابًا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك .. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال: لا

بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صابي مثل ذلك فقلت لامرأتي: الحقى بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا .. ولكن لا يقربك .. قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان إلى يومه هذا .. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك كما أذن لامرأة هلال ابن أمية أن تخدمه .. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا .. فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا .. فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت .. سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر .. قال: فخررت ساجدًا وعرفت أن قد جاء فرج .. وآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا .. وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسًا (¬1) وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس .. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه .. والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما .. وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنونني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك .. قال كعب: حتى دخلت ¬

_ (¬1) جاء على فرسه مبشرًا.

المسجد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة .. فلما سلمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك .. قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه .. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله .. إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك .. قلت: فإني أمسك سهمى الذي بخيبر .. فقلت: يا رسول الله .. إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما لقيت .. فوالله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني .. ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبًا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت وأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا .. فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ

لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (¬1). هذه هي قصة كعب ومعاناته التي لا تطاق والتي استمرت لأكثر من شهرين .. لكنها تصفية المؤمنين وتربيتهم وامتحانهم .. ولو كانوا من المنافقين لتم تجاهلهم كأن لم يكونوا ولم يكن تخلفهم .. ولو مر مشرك بتلك الظروف التي مرت بكعب ورفاقه لكان الانتحار أفضل خيار في نظره .. لكنه الإيمان الذي يؤهل المسلم للتفوق على كل ما يمر به من أزمات .. الإيمان الذي يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صاحبه وعن قدرته على تجاوز الأزمات مهما بلغت شدتها وعن الفرق بينه وبين المنافق: "مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كشجر الأرز" (¬2) "الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد" (¬3) وإذا كانت أحزان كعب قد انتهت فماذا عن أحزان زيد بن أرقم سنتوجه إليه فهو الآن في بيته محزون لا يخرج منه .. خجلًا من صدقه الذي حولته أيمان المنافقين ووقاحتهم إلى كذب .. ها هو غارق في الحزن يقول: "أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا: فكذبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي ما أردت إلى أن كذبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقتك فأنزل الله تعالى إذا جاءك المنافقون: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1603 وقد أكملت الآية بين المعقوفين وليست في البخاري. (¬2) صحيح مسلم 4 - 2163. (¬3) صحيح مسلم 4 - 2163.

إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} فبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ .. فقال إن الله قد صدقك يا زيد" (¬1) ولم يعد لكذب النفاق من أرض تقله أو سماء تظله .. طاشت ضربة عبد الله بن أبي بن سلول الأخيرة .. لكن هذه المرة ليست في الهواء بل في صدره .. وبدأ حقده الأسود يفتك به كالسرطان .. فقد عرته الآيات الأخيرات التي نزلت تصدق زيد بن أرقم وتكذب أيمانه وأيمان من معه من المنافقين .. فضحته تلك الآيات ولم تبق له عيب مستور بعد اليوم .. تحول إلى خرائب من الإحباط .. ومما زاد في إحباطه مشاهد المجموع والوفود التي بدأت تتدافع نحو المدينة لتعلن دخولها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1859 وقد أكملت الآيات وهي ليست ضمن النص.

خالد بن الوليد يعود مصحوبا بأكيدر

في الإِسلام ومبايعتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. وكان من بين الواصلين إلى المدينة القائد المظفر: خالد بن الوليد يعود مصحوبًا بأكيدر خرجت خيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع بها أكيدر دومة الجندل فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله بلغني أن خيلك انطلقت وإني خفت على أرضي ومالي فاكتب لي كتابًا لا تعرض له ولا لشيء هو لي فإني مقر بالحق الذي هو علىّ فكتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا وأخرج أكيدر قباء منسوجًا بالذهب مما كان كسرى يكسوهم فقال: يا رسول الله اقبل عني هذا" (¬1). يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "رأيت قباء أكيدر حين قدم به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسى بيده لمناديل سعد ابن معاذ في الجنة أحسن من هذا" (¬2) وتحدث أنس رضي الله عنه عن سعد ابن معاذ فانهمرت دموعه لذكراه وقال: "إن سعدًا كان أعظم الناس ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه في معجم الصحابة 2 - 351 حدثنا محمَّد بن بشر أخو خطاب نا جعفر بن حميد نا عبيد الله ابن إياد عن أبيه عن قيس بن النعمان قال الخطيب في تاريخ بغداد ج: 2 ص:90 قال الدارقطنيُّ محمَّد بن بشر بن مطر ثقة وشيخه ثقة من رجال مسلم: التقريب 1 - 130وعبيد الله بن إياد صدوق من رجال مسلم ووالده ثقة انظر التقريب 1 - 86/ 531 لكن هناك وهم في المتن بلفظ: فإني أهديته لك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ارجع بقبائك فإنه ليس أحد يلبس هذا في الدنيا إلا حرمه في الآخرة فالصحيح أنه قبلها كما سيأتي في الصحيح وغيره. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق: السيرد النبوية 5 - 208 حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس. وشيخ ابن إسحاق تابعى ثقة وإمام في المغازي مر معنا كثيرًا.

أين زينب .. أين أم كلثوم

وأطوله .. ثم بكى فأكثر البكاء ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أكيدر صاحب دومة بقباء فأرسل إليه جبة ديباج منسوجة فيها الذهب فلبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام على المنبر وقعد فلم يتكلم ونزل فجعل الناس يلمسونها بأيديهم فقال أتعجبون من هذه لمناديل سعد في الجنة أحسن مما ترون" (¬1) "ثم أوشك أن نزعه فأرسل به إلى عمر فقيل له: قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله قال نهاني عنه جبريل عليه السلام فجاء عمر يبكي فقال يا رسول الله كرهت أمرًا وأعطيتنيه قال: إني لم أعطكه لتلبسه إنما أعطيتكه تبيعه .. فباعه عمر بألفي درهم" (¬2) ثم إن أكيدر بعث هدية ثانية فيما بعد فاستدعى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا ثم أمره بأمر قال عنه علي رضي الله عنه: "إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوب حرير فأعطاه عليًا .. فقال: شققه خمرًا بين الفواطم" (¬3) والفواطم: فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفاطمة بن أسد وهي أم علي وفاطمة بنت عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهم جيعا .. لكن مهلًا لماذا قال المصطفى شققه بين الفواطم .. أين زينب .. أين أم كلثوم لماذا لم يذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ لماذا لم ينلهما شيء من هذا الحرير الثمين والجميل؟ سألنا وسألنا وتوجهنا نحو بابيهما وانتظرنا طويلًا على تلك ¬

_ (¬1) سنده قوي وقد مر معنا تحت عنوان: دومة الجندل وانظر السنن الكبرى 5 - 472. (¬2) سنده قوي وقد مر معنا تحت عنوان: دومة الجندل وانظر السنن الكبرى 5 - 472 حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم المصيصي قال حدثنا حجاج بن محمَّد عن بن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر وشيخه ثقة حافظ: التقريب 2 - 381 وشيخه حجاج ثقة ثبت: التقريب 1 - 154. (¬3) صحيح مسلم 3 - 1645.

الأبواب فلم تعد زينب ولم ترجع أم كلثوم .. وأمامة الصغيرة تبحث مثلنا فلا تجد أمها ولا خالتها في طرقات المدينة ولا عند الجيران .. لقد رحلت الأم زينب رضي الله عنها والخالة أم كلثوم ولم يبق إلا فاطمة الزهراء. لم نجد من يحدثنا عنهما سوى إحدى نساء الأنصار العظيمات وتدعى أم عطية .. أم عطية المجاهدة التي تقول: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى" (¬1) حدثتنا أم عطية عن زينب .. فقط عن غسلها لأنها شاركت فيه .. تقول رضي الله عنها: "لما ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلنها وترًا" (¬2) "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر .. واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور فإذا فرغتن فآذنني" (¬3) وقال لهن: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" (¬4) فنفذت أم عطية ومن معها ما قاله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: "فضفرنا شعرها ثلاثة أثلاث قرنيها وناصيتها" (¬5) "ومشطناها ثلاثة قرون" (¬6) "فلما فرغنا آذناه فألقى إلينا حقوه فقال: أشعرنها إياه" (¬7) أي أعطاهن إزاره الذي يشد على الخصر وأمرهن أن يجعلوه يلاصق جسدها الطاهر مباشرة ثم حملوها على الأعناق أمام حزن ابنتها الصغيرة أمامة .. ثم واروها في مثواها الأخير رضي الله عنها .. وبعد فترة أو قبل ذلك فجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1447. (¬2) صحيح مسلم 2 - 648. (¬3) صحيح مسلم 2 - 646. (¬4) صحيح مسلم 2 - 648. (¬5) صحيح مسلم 2 - 648. (¬6) صحيح مسلم 2 - 647. (¬7) صحيح مسلم 2 - 646.

مرة ثالثة بفقد ابنته الصغرى الطاهرة أم كلثوم رضي الله عنها .. سألنا أنسًا رضي الله عنه عن قصة موت أم كلثوم فأوحت روايته أنها ماتت دون مرض .. فقد كانت تقضي مع زوجها يومًا ودودًا ثم ماتت .. يقول أنس رضي الله عنه: "شهدنا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان فقال: هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: أنا .. قال: فأنزل في قبرها .. فنزل في قبرها فقبرها" (¬1) .. "فلم يدخل عثمان بن عفان رضي الله عنه القبر" (¬2) .. كان الأحبة والأصحاب يرحلون أمام عينيه ويسقطون بين يديه وهو صابر محتسب تدمع عينه ويحزن قلبه ولا يقول إلا ما يرضي الرب سبحانه .. فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى. أما أمامة فكانت تنافس الحسن والحسين في التسلل داخل مشاعره عليه السلام وداخل المسجد .. أما خارج المسجد فكانت أمامة دلالًا يتبختر عبر رياض النبي - صلى الله عليه وسلم - .. تقول عائشة رضي الله عنها: "قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - حلية من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعود معرضًا عنه أو ببعض أصابعه ثم دعا أمامة ابنة أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذا يا بنية" (¬3) فتحلت به كما تحلت بعطف جدها ورعايته .. جدها الذي لم تصفُ له الحياة من الكدر والهموم والتعب .. ومع ذلك يتجدد نشاطه كل يوم في نشر رسالة ربه والتبشير بها .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 450. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد 3 - 229 وغيره من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وهو سند صحيح متصل على شرط الشيخين. (¬3) صحيح البخاري 1 - 431.

فاطمة تريد أن تثبت ذلك لزوجها

فكما كانت تلك الأيام مليئة بالفراق المرير فهي كذلك تفيض بمشاهد العناق والمصافحة واللقاءات التي تسر كل مسلم مخلص .. فقد سالت الوفود في هذا العام من كل الجهات تبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدخل في دولة الإِسلام طائعة مختارة .. لقد رحلت أم كلثوم ورحلت زينب .. رحلتا من طيبة في قافلة لا تمهل أحدًا كي ينهي أعماله أو يودع الجميع .. قافلة لا يعرف جدول رحلاتها التأجيل أبدًا ولم تتأخر مواعيد وصولها أو مغادرتها يومًا من الأيام .. لا أدري من غادرت قبل الأخرى .. رحلن فلم يبق للنبي - صلى الله عليه وسلم - من بناته سوى فاطمة الزهراء التي تحتل قلبه .. والتي تصفها عائشة رضي الله عنها وتصف مشاعرها ومشاعر أبيها بالكثير عندما تقول: "ما رأيت أحدًا من الناس أشبه كلامًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا حديثًا ولا جلسة من فاطمة .. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها ثم أخذ بيدها فجاء يجلسها في مكانه وكانت إذا رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - رحبت به ثم قامت إليه قبلته" (¬1) تعاظم هذا الحب لدرجة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني" (¬2) أما فاطمة عليها السلام فتريد أكثر من ذلك .. فاطمة تريد أن تثبت ذلك لزوجها فقد تقدم علي رضي الله عنه لخطبة صحابية هي ابنة أبي جهل .. فوصل الخبر إلى فاطمة فانطلقت إلى أبيها فحدث ما يرويه أحد الصحابة: ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه إسحاق بن راهويه 1 - 8 وغيره من طريق إسرائيل أنا ميسرة بن حبيب النهدي أخبرني المنهل بن عمرو قال حدثتني عائشة ابنة طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت .. وعائشة بنت طلحة تابعية ثقة مشهورة وتلميذها المنهال بن عمرو صدوق من رجال البخاري: التقريب 2 - 278 وتلميذه ميسرة صدوق من رجال التقريب 2 - 291. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1361.

ملفاق النفاق وأهله

"إن عليًا خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك .. وهذا علي ناكح بنت أبي جهل فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني .. وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوؤها [أتخوف أن تفتن في دينها] [وأني لست أحرم حلالًا ولا أحل حرامًا ولكن] والله لا تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله عند رجل واحد .. فترك علي الخطبة" (¬1) فلم يبق لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - سواها وهي على وشك الرحيل أيضًا .. أما كلمة بنت عدو الله فليس فيها شتم لتلك الصحابية الجليلة بقدر ما هو توظيف للفظ من أجل إيصال هذه الفكرة بصوت أقوى. هذا بعض ما كان يحدث في بيت النبوة .. أما خارج ذلك البيت الكريم فقد: قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع نهاية لمشكلة النفاق التي أزفت على الزوال وبدأت بالتلاشى بموت أصحابها .. وتضاءل نشاطها بعد أن انسابت الجزيرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودولته وسالت الوفود من كل فج تنضو عنها عباءة الشرك والظلام وتدخل في دين الله أفواجًا أفواجًا .. ملفاق النفاق وأهله كلها اليوم مسجلة في ذاكرة أحد الصحابة .. فقد استدعى النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان وسلم لذاكرته قائمة بأسماء المنافقين حيث يقول رضي الله عنه: "في أصحابي اثنا عشر منافقًا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1364 والزيادة لمسلم 4 - 1903.

عام الوفد

الجمل في سم الخياط" (¬1) أي حتى يدخل الجمل في فتحة الإبرة .. وهم أولئك الذين حاولوا اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما "خرجوا من العقبة ينتظرون الناس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة: هل عرفت يا حذيفة من هؤلاء الرهط أو الركب أو أحدًا منهم؟ قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون فقال - صلى الله عليه وسلم -: هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ قالوا: لا والله يا رسول الله قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت في العقبة طرحوني منها قالوا: أفلا تأمربهم يا رسول الله إذا جاء الناس فتضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا إن محمَّد قد وضع يده في أصحابه. فسماهم لهما وقال: اكتماهم" (¬2) فامتثل حذيفة وعمار رضي الله عنهما وكتما السر ولم يخبرا أحدًا بهويته إلا بعد موته حتى لا يصلى عليه .. وكان مما جعل مشكلة النفاق تتلاشى ويتلاشى أثرها ما يحدث في هذا العام المبهج: عام الوفد ففى هذا العام توافد زعماء القبائل نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تحولت المدينة إلى عاصمة مزدانة ومزدحمة بالمبايعة والالتزام السياسي والديني بالإِسلام .. كان كل يوم يمر يدني الجاهلية من نهايتها .. حيث يعود كل وفد إلى دياره محطمًا داخل أعماقه كل رموز الجاهلية .. وعندما تطأ أقدامه دياره تبدأ الأيادي التي تعلمت الطهارة في المدينة بتحطيم الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله الواحد الأحد .. ولعل من أول الوافدين ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 2143. (¬2) حديثٌ حسنٌ مر معنا عند الحديث عن العودة من تبوك.

وفد الطائف (ثقيف)

وفد الطائف (ثقيف) الذين انحدروا من جبال العناد والطائف نحو المدينة مبايعين .. وكان بصحبتهم رجل شريد أعياه التعب والخوف من النبي - صلى الله عليه وسلم - وضاق به الطائف بل ضاقت به الأرض .. ضاقت الدنيا بوحشي بن حرب قاتل حمزة لكن رجلًا حكيمًا نصحه بالانحدار معهم والتوجه نحو أبواب الحرية الحقيقة التي أشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - .. يقول وحشي: "لما قدمت مكة أعتقت ثم أقمت حتى إذا افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة هربت إلى الطائف .. فمكثت بها فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسلموا تعيت علي المذاهب فقلت ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد .. فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله ما يقتل أحدًا من الناس دخل في دينه وتشهد شهادته .. فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة" (¬1) مع وفد ثقيف الذين فرضوا على النبي عليه السلام شروطًا غريبة تمنحهم -كما يظنون- تميزًا بين القبائل .. لكن أفق النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كالمدى ونظرته كانت أبعد بكثير .. فما هي قصة وفد ثقيف المملوءة بالكثير والجميل .. اقتربنا من المدينة فإذا رواحل ثقيف تقف خارجها حيث يقوم بحراستها شاب يقال له عثمان بن العاص .. سألناه ما شأنك يا عثمان ولمَ لم تذهب مع أصحابك لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فهم هناك منذ أيام وأنت هنا .. أولم تسلم بعد .. ؟ أجابنا عثمان عن كل تساؤلاتنا فقال: "قدمت في وفد ثقيف حين وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلبسنا حللنا بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: من يمسك لنا رواحلنا؟ وكل القوم أحب الدخول ¬

_ (¬1) جزء من الحديث الصحيح الذي مر معنا حول شهادة حمزة وهذا لفظ ابن إسحاق.

على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكره التخلف عنه .. قال عثمان: وكنت أصغر القوم .. فقلت: إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد الله لتمسكن لي إذا خرجتم. قالوا: فذلك لك. فدخلوا عليه" (¬1) تركنا عثمان لفترة ولحقنا بالوفد الذي يصحبهم الآن رجل مصاب بمرض معدي فأحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقدم لأمته وللدنيا درسًا في الوقاية من الأمراض المعدية .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنه: "كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنا قد بايعناك فارجع" (¬2) فرجع وهو في ذلك يؤكد عمليًا ما قاله من قبل: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد" (¬3) فهو في هذا الحديث يسقط خرافة العقيدة الجاهلية حول العدوى والتشاؤم والبومة وشهر صفر .. وأن هذه الأشياء وإن كانت موجودة حقيقة لكنها لا تقدم ولا تؤخر ولا تضر ولا تنفع ولا تؤثر بنفسها وأن الأمر بيد الله وحده .. أما عن انتقال المرض فقد خلق الله له أسبابًا وطرقًا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على قطعها والسلامة منها .. فالجذام قد ينتقل عن طريق اللمس أو استخدام أدوات المريض ولذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بالفرار من المجذوم .. وأما الطاعون وهو مرض معدي وفتاك فقد شدد - صلى الله عليه وسلم - في أمره حتى أوجب أن يكون هناك حجر ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الطبراني في الكبير 9 - 50 حدثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري ثنا سعيد بن أبي مريم ثنا محمَّد بن جعفر عن سهيل بن أبي صالح عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن عثمان بن أبي العاص قال فحكيم قال الحافظ في التقريب: صدوق 1 - 194 وتلميذه من رجال الشيخين وهو صدوق: التقريب 1 - 338 ومحمَّد بن جعفر ابن أبي كثير ثقة: التقريب 2 - 150 وسعيد بن أبي مريم ثقة ثبت فقيه التقريب 1 - 293 وشيخ الطبراني صدوق من رجال التقريب 2 - 343. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1752. (¬3) صحيح البخاري 5 - 2158.

صحي على المريض والمرض معًا حتى في حالة عدم وجود دولة أو نظام أو أطباء فقال: "إن هذا الطاعون رجز سلط على من كان قبلكم أو على بني إسرائيل فإذا كان بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه وإذا كان بأرض فلا تدخلوها" (¬1) إذًا فقد رجع المريض من حيث أتى أما بقية وفد ثقيف فبايعوا واشترطوا شروطهم .. ولما سألنا "جابرًا عن شأن ثقيف إذ بايعت قال اشترطت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يقول سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا" (¬2) تلك هي نظرة النبي الحكيم الذي يبحث عن القلوب لا عن الجيوب .. كان - صلى الله عليه وسلم - يدرك أن هؤلاء القوم الباحثين عن تميز إيجابي لن يرضوا بالنقيصة مستقبلًا فهم وإن امتنعوا عن الجهاد ودفع الزكاة فسيأتي اليوم الذي يشعرون فيه أن امتيازهم هذا تحول إلى نقص في الحقيقة وعيب عندما يرون الأمة كلها تدفع زكاة ربها وتهب كلها للجهاد في سبيل الله .. ولم يكن النبي يستخدم هذا الأسلوب مع الجماعة فقط بل مع الأفراد أيضًا فقد قدم إلى المدينة رجل يريد الإِسلام ولكن بشرط أعجب من شرط ثقيف: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يصلي صلاتين فقبل منه" (¬3) لأن المشكلة هنا ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1738. (¬2) حديث صحيح رواه أبو داود 3 - 163 حدثنا الحسن بن الصباح ثنا إسماعيل يعني ابن عبد الكريم حدثني إبراهيم يعني ابن عقيل بن منبه عن أبيه عن وهب قال سألت ... وله طريق آخر عند أحمد 3 - 341 وفي الآحاد والمثاني 3 - 188من طريق ابن لهيعة وموسى بن عقبة عن أبي الزبير سألت جابر وهما طريقان الأول قوي والثاني صحيح. (¬3) سنده صحيح رواه أحمد 5 - 363 ثنا وكيع ثنا شعبة عن قتادة عن نصر بن عاصم الليثي =

هي الشرك ووحشته .. فإذا خرج من ضيق الشرك إلى فضاءات الإِسلام الرحبة فإنه سوف يرف مع غيره في تلك الأجواء الجميلة والرائعة ولن يرضى لنفسه البقاء في القاع .. لا سيما وأن من يشترطون تلك الشروط يرون لأنفسهم ما لا يرون لغيرهم قبل دخول الإِسلام فإذا دخلوه أدركوا أن غيرهم قد تجاوزهم بمسافات من الوعي والإنجاز .. لنعد إلى ثقيف التي دخلت الإِسلام فضرب لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبة وأقام معهم فيها ترقيقًا لقلوبهم ولمنحهم مزيدًا من الجرعات الإيمانية والعلمية حتى بدأوا يسألون عن فروع الإِسلام .. فتحت تلك القبة تلقت ثقيف دروسًا واشترطت شروطًا .. يقول أحد الأنصار رضي الله عنهم وهو "جابر بن عبد الله إن وفد ثقيف سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن أرضنا أرض باردة فكيف بالغسل؟ فقال: أمَّا أنا فأفرغ على رأسى ثلاثًا" (¬1) .. يقول أحدهم واسمه أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف فكنا في قبة فقام من كان فيها غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل فساره فقال اذهب فاقتله ثم قال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله قال: بلى ولكنه يقولها تعوذًا فقال رده. ثم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها" (¬2) ¬

_ = عن رجل منهم أتى .. ووكيع وشعبة وقتادة أئمة معروفون ونصر تابعى ثقة من رجال مسلم وقتادة عن نصر على شرط مسلم .. انظر صحيح مسلم 1 - 293 حدثني أبو كامل الجحدري حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث. (¬1) صحيح مسلم 1 - 259. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد 4 - 8 والدارميُّ 2 - 287 والطبرانيُّ 1 - 217 والنسائيُّ في الكبرى 2 - 283 من طرق عن شعبة عن النعمان قال سمعت أوسًا .. وشعبة بن الحجاج =

درس في الوقاية من الأمراض ودرس في النظافة وثالث في وقاية النفس وحفظ الدماء .. يقدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتهورين الذين سمحوا لأنفسهم بالقفز فوق أسوار المظاهر لاقتحام النوايا والبواطن .. وخلال تلك الدروس تسلل من تلك الخيمة رجل قد تلفع بالخجل والعار والخوف والرجاء أيضًا .. تسلل وحشي فجأة راميًا بحربة الشرك وحريته ودماء حمزة وكل ذنوبه بين يدي الله ورسوله راضيًا بحكم الله في مصيره .. وحشي يكمل قصته فيقول بعد مقتل حمزة: "فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسلموا تعيت علي المذاهب فقلت ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إنه والله ما يقتل أحدًا من الناس دخل في دينه وتشهد شهادته فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فلم يرعه إلا بي قائمًا على رأسه أتشهد بشهادة الحق فلما رآني قال: أوحشي؟ قلت: نعم يا رسول الله .. قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة .. قال: فحدثته كما حدثتكما .. فلما فرغت من حديثي قال: ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك .. قال: فكنت أتنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لئلا يراني حتى قبضه الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) مع بقائه رضي الله عنه في المدينة وسكناه فيها ومشاركته للنبي عليه السلام في غزواته وحضوره لمجالسه وروايته لحديثه .. لكن حجم حمزة رضي ¬

_ = إمام لقب بأمير المؤمنين في الحديث وشيخه تابعي ثقة من رجال مسلم: التقريب 2 - 304. (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق - السيرة النبوية ج: 4 ص: 17. حدثي عبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث عن سليمان بن يسار عن جعفر ابن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار ... وقد مر معنا تخريجه، فشيخ ابن إسحاق وشيخ شيخه ثقتان.

وبعد إسلام ثقيف ووحشي ..

الله عنه وطريقة قتله في ميزان محمَّد الإنسان لا النبي جعلته لا يطيق النظر إلى وجه قاتل حمزة ذلك الوجه الذي سيجدد أحزانه وينشط أوجاعه .. وبعد إسلام ثقيف ووحشي .. بعد تلك الدروس وغيرها وبعد أيام ودعوا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - متجهين نحو الطائف .. ولما وصلوا إلى حيث رواحلهم التي يحرسها الشاب عثمان بن العاص طلبوا منه التحرك وعدم الدخول إلى المدينة .. لكن ذلك الشاب كان يحمل في قلبه أشياء لا يستطيع أحد أن يحملها أو يترجمها عنه .. يقول رضي الله عنه: إن قومه ثقيف "خرجوا فقالوا: انطلق بنا قلت: أين؟ فقالوا: إلى أهلك .. فقلت. ضربت من أهلي حتى إذا حللت بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - أرجع ولا أدخل عليه وقد أعطيتموني من العهد ما قد علمتم قالوا: فاعجل فإنا قد كفيناك المسألة لم ندع شيئًا إلا سألناه عنه .. فدخلت .. فقلت: يا رسول الله: ادع الله يفقهني في الدين ويعلمني .. قال: ماذا قلت فأعدت عليه القول فقال: لقد سألتني شيئًا ما سألني عنه أحد من أصحابك اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من تقدم عليه من قومك وأُمَّ الناس بأضعفهم" (¬1) ثم أوصاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوصية هامة: تحريم اتخاذ مؤذن يطلب أجرًا على أذانه قال - صلى الله عليه وسلم - لعثمان "أنت إمامهم فاقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا" (¬2) ¬

_ (¬1) حديث صحيح مر معنا أوله عند قدوم وفد ثقيف. (¬2) سنده صحيح أحمد 4 - 21وغيره من طريق سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف عن عثمان بن أبي العاص .. فسعيد بن إياس ثقة التقريب 1 - 291 وأبو العلاء كان ثقة فاضلًا =

فالتطويل على الناس في الصلاة ليس دليل علم بل دليل جهل إذا كان فيهم الضعيف والمريض .. واتخاذ الأجر على الأذان ينقل الأذان من قائمة العبادات إلى قائمة الحرف والمهن والوظائف الدنيوية .. وقد يفقد صاحبها ذلك الحلم الرائع الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة عندما يكون "المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة" (¬1) وهذا ما يبحث عنه عثمان الذي يواصل حديثه الممتع فيقول "فخرجت حتى قدمت عليه مرة أخرى فقلت يا رسول الله اشتكيت بعدك" (¬2) فـ"شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا يجده في جسده منذ أسلم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل باسم الله ثلاثًا .. وقل سبع مرات أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وحاذر" (¬3) وشكا له أمرًا آخر يجده في صلاته "فقال يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي .. فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثًا .. قال: ففعلت ذلك .. فأذهبه الله عني" (¬4) ومثل هذا الشيطان الذي عرض لعثمان في صلاته شياطين آخرون يعرضون لكل مسلم يصلي وبطريقة غاية في الخبث .. فهم يشغلون المصلي بالطريقة التي يحبها المصلى نفسه .. فهو يأتي التاجر أثناء صلاته بقائمة من ¬

_ = كبير القدر سير أعلام 4 - 494 أما مطرف بن عبد الله فتابعي كبير ثقة التقريب 2 - 253. (¬1) صحيح مسلم 1 - 290. (¬2) هو آخر حديث عثمان السابق. (¬3) صحيح مسلم 4 - 1728. (¬4) صحيح مسلم 4 - 1728.

المشاريع الاقتصادية الناجحة ويذكره بما له وما عليه ويثير خوفه على ماله .. ويقدم لمن تستهويه النساء ألبومًا بالصور والأساليب الجديدة للقنص .. أما العلماء فهو يحاورهم في بحوثهم ومراجعهم وآخر ما توصلوا إليه بل يناقش بعضهم بأمور الصلاة نفسها ويشغلهم بصلاة من حولهم وكيف يرتكبون أخطاء فيها .. أما العباد والزهاد الذين لا يحتمل أن الشيطان يستطيع التغلغل إلى صلاتهم فهو يقدم لهم النصح والإرشاد والوعظ أيضًا أثناء صلاتهم ويحثهم على القيام بأداء النوافل بعد الصلاة والتصدق وبر الوالدين وصلة الرحم بل ويذكرهم بعناوين الأقارب الذين لم يروهم منذ فترة وفي النهاية يسلم المصلي وقد أدرك أنه كان في رحلة مثيرة مع الشيطان .. أما قصة عثمان مع الشيطان فيقول عنها: "قلت: يا رسول الله إني أجد في نفسي شيئًا قال: أدنه فجلسني بين يديه ثم وضع كفه في صدري بين ثديي ثم قال تحول فوضعها في ظهري بين كتفي ثم قال: أم قومك فمن أم قومًا فليخفف فإن فيهم الكبير وإن فيهم المريض وإن فيهم الضعيف وإن فيهم ذا الحاجة وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء" (¬1) وكان "آخر ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أممت قومًا فأخف بهم الصلاة" (¬2) فـ"آخر ما فارقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا صليت بقوم فخفف بهم حتى وقت لي اقرأ باسم ربك الذي خلق" "وأشباهها من القرآن" (¬3) وهي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يقول عنها أنس ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 341. (¬2) صحيح مسلم 1 - 342. (¬3) سنده قوي رواه أحمد 4 - 218 واللفظ له والآخر لـ ابن سعد 5 - 508 عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال حدثني داود بن أبي عاصم عن عثمان بن أبي العاص وداود تابعي ثقة: التقريب 1 - 232 وتلميذه عبد الله صدوق من رجال مسلم: التقريب 1 - 432.

وفد جميل من المشرق

رضي الله عنه "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). انطلق وفد ثقيف وجاءت وفود أخرى وكان أفضلها وفد قبائل: عبد القيس وأسلم وغفار ومزينة وجهينة، وقدمت بعدها وفود أخرى وفد جميل من المشرق هذا الوفد القادم من الشرق قد يتميز بأشياء جميلة عطر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أجواءهم وأشجى بها أسماعهم .. وكأنها مكافأة لهم على تجشمهم الصعاب في الوصول إليه .. حيث إنهم لا يستطيعون السفر للمدينة إلا في الأشهر الحرم نظرًا لأن أعداءهم يحولون بينهم وبن ذلك .. ذلك الوفد هو: وفد البحرين يقول أحد الصحابة: "إن وقد عبد القيس لما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنِ الوفدُ؟ قالوا ربيعة قال مرحبًا بالوفد أو القوم غير خزايا ولا ندامى قالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك كفار مضر فمرنا بأمر ندخل به الجنة ونخبر به من وراءنا فسألوا عن الأشربة فنهاهم عن أربع وأمرهم بأربع أمرهم بالإيمان بالله قال: هل تدرون ما الإيمان بالله قالوا: الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة -وأظن فيه- صيام رمضان وتؤتوا من المغانم الخمس ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير" (¬2) "احفظوهن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 342. (¬2) صحيح البخاري 6 - 2652.

وأبلغوهن من وراءكم" (¬1) "قالوا: يا نبي الله ما علمك بالنقير؟ قال: بلى جذع تنقرونه فتقذفون فيه من القطيعاء أو من التمر ثم تصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى إن أحدكم أو إن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف قال وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك قال: وكنت أخبئها حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ففيمَ نشرب يا رسول الله قال: في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان ولا تبقى بها أسقية الأدم فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان .. وإن أكلتها الجرذان" (¬2) أي وإن قلت تلك الجلود وأصبحت نادرة لأكل الجرذان لها .. لكن هذا الحكم لم يدم فقد أنزل الله على نبيه حكمًا بالسماح بالشرب في الدباء وهو وعاء مصنوع من القرع بعد تفريغه .. والحنتم وهي جرة الخمر الخضراء .. والمزفت وهو وعاء مطلي بالزفت .. وكذلك النقير وهو خشبة منحوتة على شكل إناء لشرب الخمر .. وكأن الحكم السابق نزل لنزع كل ما يذكر الإنسان بالخمر من أواني تفنن في صنعها لإضفاء أجواء معينة على مجالس الشرب .. كما نزلت أحكام جديدة .. قال "بريدة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها .. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم .. ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرًا" (¬3) ثم توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد أبرز هذا الوفد الكريم وأثنى على صفتين ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6 - 2652. (¬2) حديث صحيح رواه مسلم 1 - 48. (¬3) صحيح- مسلم 1 - 48.

من صفاته حيث "قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة" (¬1) وقد طال مجلس عبد القيس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاة الظهر إلى صلاة العصر .. ولما انصرفوا حدث من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء لم يكن يصنعه .. فقد كان - صلى الله عليه وسلم - لا يصلي بعد العصر بل قد "نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس" (¬2) "قالت أم سلمة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنهما ثم رأيته يصليهما أما حين صلاهما فإنه صلى العصر ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فصلاهما فأرسلت إليه الجارية فقلت قومي بجنبه فقولي له تقول أم سلمة يا رسول الله: إني أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما فإن أشار بيده فاستأخري عنه قال ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه فلما انصرف قال يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإِسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان" (¬3) انصرف وفد عبد القيس ليبني مسجدًا في البحرين وليكون هذا الوفد قد حقق سبقًا قال عنه ابن عباس "إن أول جمعة جمعة بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين" (¬4) وجاءت وفود أخرى ولم يكن متوقعًا من كل تلك الوفود أن تكون على مستوى واحد من حسن التعامل والثقافة، فهي وفود ضاربة الجذور ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1563. (¬2) صحيح البخاري 1 - 212. (¬3) صحيح مسلم 1 - 571. (¬4) صحيح البخاري 1 - 304.

قدوم وفد تميم ووفد من اليمن

في الجاهلية .. كما أن تلك الوفود لم تكن تمثل قبائلها إلا رسميًا لكنها لا تمثل أخلاقيات وسلوك كل فرد فيها .. فعند: قدوم وفد تميم ووفد من اليمن كان هناك تنافس بين سيدي كهول أهل الجنة حول من يتكلم من بني تميم أولًا فقد "قدم ركب من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد .. وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس .. فقال أبو بكر: ما أردت إلى أو إلا خلافي .. فقال عمر: ما أردت خلافك .. فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} حتى انقضت الآية" (¬1) وكان لخلاف الشيخين العظيمن ورفع أصواتهما عقوبة آنية عندما خيب المحتفى بهما آمال الشيخين .. أحد المحتفى بهما يقول عن نفسه "إنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فناداه [فلم يجبه] فقال: يا محمَّد إن مدحي زين وإن شتمي شين فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ويلك ذلك الله فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}] " (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1834 وقد أكملت الآية للفائدة. (¬2) سنده صحيح رواه الطبري في التفسير 26 - 122 وأحمدُ والزيادة له أحمد 3 - 488 وغيرهما من رواية عفان قال ثنا وهيب قال ثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة قال ثنا الأقرع بن حابس التميمى.

لكن هذا الرجل الذي غلبته أعرابيته تمادى ليفخر على من سبقه بالبيعة فقال: "إنما بايعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة .. وجهينة بن أبي يعقوب" (¬1) فكان رد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه قاسيًا جدًا .. ثم التفت عليه السلام إلى من جاء معه من قومه مبشرًا فقال: "اقبلوا البشرى يابني تميم قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين. ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبله بنو تميم .. قالوا: قد قبلنا يا رسول الله .. قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر .. قال: كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني كنت تركتها" (¬2) وبعد أن عاد الأقرع ومن معه إلى ديارهم بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بخروج جيل من أصلاب هؤلاء الأجلاف يعز الله بهم الإِسلام كما تنبأ لثقيف من قبل بذلك .. فقال عليه السلام: "هم أشد أمتي على الدجال" (¬3) أما أهل اليمن الذين قبلوا البشرى فالمدينة تستقبل كل فترة وافدًا منهم .. فمن أرض اليمن انطلق رجل يقال له جرير بن عبد الله البجلي نحو المدينة .. ولما وصلها غير ملابسه ودخلها وعندما دخلها وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في أصحابه ولكن أصحابه كانوا لا ينظرون إلى النبي بل ينظرون إلى جرير وهو يمشي نحوهم .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1294. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1166 وابن الحصين هو راوي الحدث وكان حاضرًا. (¬3) صحيح البخاري 2 - 898.

كل الصحابة كانوا يحدقون بوافد اليمن

كل الصحابة كانوا يحدقون بوافد اليمن لماذا .. أوليس من هدي الصحابة الإنصات للنبي عليه السلام .. بلى ولكن لدى جرير ما يثير .. ولديه ما يخبرنا عنه فيقول رضي الله عنه: "لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي ثم لبست حلتي ثم دخلت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي: يا عبد الله ذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم ذكرك آنفًا بأحسن ذكر .. فبينا هو يخطب إذ عرض له في خطبته وقال: يدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفج من خير ذي يمن ألا إن على وجهه مسحة ملك قال: جرير فحمدت الله عَزَّ وجَلَّ على ما أبلاني" (¬1) وبعد أن التقى جرير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجده كالنسمة الباردة لهجيره .. كالماء البارد لعطشه يقول رضي الله عنه: "ما حجبني النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي" (¬2) هذا هو سلوك النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابة فليبحث المتجهمون عن قدوة غيره ليبرروا تجهمهم وضيقهم بالناس وبأنفسهم .. أما عبارات بيعة جرير فتغير أعماق الأرض وأعماق البشر .. يقول رضي الله عنه: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه أحمد 4 - 359 مسند الحارث - زوائد 2 - 935 من طريق يونس بن أبي إسحاق ثنا المغيرة بن شبل الأحمسى قال سمعت جرير بن عبد الله البجلى ... المغيرة تابعي ثقة: التقريب 2 - 269 وتلميذه صدوق من رجال مسلم التقريب 2 - 384. (¬2) صحيح البخاري 5 - 2260.

والنصح لكل مسلم" (¬1) و"على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت .. والنصح لكل مسلم" (¬2) وجاء وافد آخر من أهل اليمن وزعيم من زعمائهم .. بل ورجل سبق الأنصار في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للهجرة لكنه لم يكن واثقًا من ردة فعل قومه إزاء قراره استقبال هذا النبي المضطهد: "الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة .. -حصن كان لدوس في الجاهلية قال - صلى الله عليه وسلم -: [أمعك من وراءك قال لا أدري] فأبى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي ذخر الله للأنصار فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص له فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات .. فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطيًا يديه فقال له: ما صنع بك ربك فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما لي أراك مغطيًا يديك قال: قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللَّهم وليديه فاغفر" (¬3) وقد شكا الطفيل رضي الله عنه تأخر إسلام قومه وعصيانهم فبعد أن "قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها فقيل هلكت دوس قال اللَّهم اهد دوسا وأت بهم" (¬4) وعاد أبو موسى الأشعري إلى اليمن ليأتي بقومه فقال - صلى الله عليه وسلم - و¬

_ (¬1) صحيح مسلم1 - 75 والزيادة من صحيح ابن حبان 7 - 287 وهي صحيحة السند. (¬2) صحيح مسلم 1 - 75 والزيادة من صحيح ابن حبان 7 - 287 وهط صحيحة السند. (¬3) صحيح مسلم 1 - 108. (¬4) صحيح البخارى 3 - 1073.

الأشعريون في طريقهم إلى المدينة

الأشعريون في طريقهم إلى المدينة " يقدم عليكم أقوام هم أرق منكم قلوبًا قال فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري فلما دنوا من المدينة كانوا يرتجزون يقولون: غدًا نلقى الأحبة ... محمدًا وحزبه" (¬1) النبي يثني على أهل اليمن فيقول: "أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبًا وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية رأس الكفر قبل المشرق" (¬2) "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا الإيمان يمان والحكمة يمانية والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم" (¬3) والذي يبدو من سياق الأحاديث أن سر الوهج اليماني وعلو منزلتهم يكمن في تواضعهم وابتعادهم عن مظاهر الفخر والسلوك الجاهلي القائم على الاعتداد بالنفس وازدراء الآخرين .. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره .. وأهل النار كل جواظ عتل مستكبر" (¬4) وإذا كانت القلوب اليمنية بهذه الرقة والصفاء فلا بد أن يوازيها صفاء على أرض اليمن نفسها .. فهي مازالت تئن تحت أكداس من ركام ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد 3 - 105 وابن حبان 16 - 164 من طريق ابن أبي عدي ويزيد ابن هارون عن حميد عن أنس قال .. فحميد الطويل تابعي ثقة من رجال الشيخين سمع من أنس: التقريب 1 - 202. (¬2) صحيح مسلم 1 - 73. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1594. (¬4) صحيح البخاري 6 - 2452.

هدم كعبة اليمانية

الجاهلية وأوثانها وأصنامها .. بل لقد بنى المشركون هناك كعبة لهم .. فمن هو المرشح لـ: هدم كعبة اليمانية لم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنسب من صاحب المسحة الملائكية جرير بن عبد الله .. لكن جريرًا كان يفقد توازنه عند ركوبه الخيل ويتمنى لو يثبت على ظهرها لا سيما وهو يقول: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوي ناصية فرس بإصبعه وهو يقول الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة" (¬1) لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجرير: "يا جرير ألا تريحني من ذي الخلصة -بيت لخثعم كان يدعى كعبة اليمانية- قال: فنفرت في خمسين ومائة فارس وكنت لا أثبت على الخيل فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضرب يده في صدري فقال: اللَّهم ثبته واجعله هاديًا مهديًا .. فانطلق فحرقها بالنار ثم بعث جرير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يبشره يكنى أبا أرطأة منا فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ما جئتك حتى تركناها كأنها جمل أجرب .. فبرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خيل أحمس ورجالها خمس مرات" (¬2) أي دعا لهم بالبركة .. أما اليمن فقد أصبحت أكثر استعدادًا لتقبل الدعاة والأمراء إلى هذا الدين الجديد بعد تلك الإرهاصات وبعد انتشار التوحيد على أرضها .. فمن سيبعث إلى اليمن للتعليم ومن سيعين أمرًا عليها لا سيما وأن هناك اثنين من أهل اليمن تقدموا بطلب تلك الوظيفة .. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1493. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1926.

قصة الرجلين اللذين طلبا إمارة اليمن

قصة الرجلين اللذين طلبا إمارة اليمن هما رجلان من أهل اليمن قدما إلى المدينة بصحبة أبي موسى الأشعري دون أن يشعر أبو موسى بما يضمران في نفسيهما .. ولما وقفا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - قدما طلبيهما .. فماذا كانت إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - على من يطلب الإمارة .. أبو موسى حضر تلك المحادثة وروى تلك القصة فقال: "أقبلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي رجلان [من بني عمي] من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخر عن يساري فكلاهما سأل العمل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يستاك .. فقال: ما تقول يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل .. وكأني انظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت فقال: لن أو لا نستعمل على عملنا من أراده [ولا أحدًا حرص عليه] ولكن اذهب أنت يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس فبعثه على اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل" (¬1) فـ"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم .. أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة .. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم .. أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم .. فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم .. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبن الله حجاب" (¬2) فـ "لما قدم اليمن صلى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1456 والزوائد له أيضًا. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1580.

بهم الصبح فقرأ {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم" (¬1) وبعد أن "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن وبعث كل واحد منهما على مخلاف -واليمن مخلافان- ثم قال يَسِّرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا [وتطاوعا فقال أبو موسى يا نبي الله إن أرضنا بها شراب من الشعير المزر وشراب من العسل البتع فقال كل مسكر حرام .. فانطلقا فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال قائمًا وقاعدًا وعلى راحلتي وأتفوقه تفوقًا .. قال: أما أنا فأنام وأقوم فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي وضرب فسطاطًا فجعلا يتزاوران] فانطلق كل واحد منهما إلى عمله .. وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبًا من صاحبه أحدث به عهدًا فسلم عليه .. فسار معاذ في أرضه قريبًا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه .. فقال له معاذ: يا عبد الله بن قيس أيم هذا (¬2)؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه .. قال: لا أنزل حتى يقتل قال: إنما جيء به لذلك فانزل .. قال: ما أنزل حتى يقتل فأمر به فقتل ثم نزل" (¬3) .. ولا يعني قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسرا وبشرا أن يتخليا عن تنفيذ الحدود الموحى بها .. لأن التيسير مساحة لا نهاية لها .. أما تطبيق الحدود فهو وإن كان في مخالفات قليلة بعدد أصابع اليد الواحدة: إلا أن هذه الحدود تحفظ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1580. (¬2) إيش هذا أو ما هذا؟ (¬3) صحيح البخاري 4 - 1578 والزيادة له 4 - 1579.

حجة أبي بكر رضي الله عنه

أساسات الحياة وهي: العرض والمال والدم والعقل والدين .. فإذا تم العبث بهذه الأشياء وانعدمت حمايتها تحول العالم إلى بقعة شرسة يعتبر ما يحدث في الغابة الحيوانية أرقى بكثير مما يحدث فيها .. فما يجري في الغاب هو صراع من أجل البقاء لا أكثر .. أما على الأرض فسيتحول الصراع إلى هدف لإفناء الآخر وسحقه .. فإذا غابت الحدود يومًا عن الأرض فستغيب أشياء كثيرة أولها التسامح وآخرها الإنسان .. وما وصل الإِسلام إلى اليمن إلا من أجل الإنسان .. هكذا جرت الأحداث في اليمن .. أما في المدينة فقد كانت الوفود تسيل إليها ومنها في الوقت الذي قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - إرسال أكبر بعث لا للغزو بل إلى مكة لأداء الحج .. وقد اختار لإمارة هذا البعث صاحبه أبا بكر الصديق وقد سميت هذه الحجة: حجة أبي بكر رضي الله عنه وقبل أن ينطلق رضي الله عنه أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعلان بيانات نبوية خلال مواسم الحج القادمة تحمل توحيدًا نقيًا يقطع آخر الطرق بين الشرك والأجيال الجديدة المفعمة بالفطرة .. القرار الأول: منع أي مشرك يعلن شركه من الحج بعد هذا العام. الثاني: منع التعري داخل البيت الحرام وأثناء الطواف وهي من عادات الشرك البالية المتخلفة. يقول أبو هريرة: "بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" (¬1) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 982.

وهذا يعني أن أبا بكر حج بالعرب كافة مسلمهم ومشركهم .. أما في المدينة فقد نزلت سورة براءة على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقد أمر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعلانها بنفسه على الحجاج أو يكلف رجلًا من أهل بيته بذلك .. فأمر عليًا رضي الله عنه أن يحملها إلى مكة وأن يعلنها بنفسه على أولئك الحجاج .. مما خلق تساؤلًا لدى أبي بكر الصديق بصفته أميرًا على الحجاج وأميرًا على علي رضي الله عنه .. ولم يكن يعلم وقتها أن عليًا كان مكلفًا فقط بإعلان براءة مع بقائه تحت إمرة أبي بكر رضي الله عنهما: يقول أبو هريرة: "فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" (¬1) أحد الصحابة يقص ما حدث بتفصيل أكثر فيقول: "بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليًا فبينا أبو بكر في بعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القصواء .. فخرج أبو بكر فزعًا فظن أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فإذا هو علي فدفع إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر عليًا أن ينادي بهؤلاء الكلمات .. فانطلقا فحجا فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله ورسوله بريئة من كل مشرك، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان .. ولا يدخل الجنة إلا مؤمن .. وكان علي ينادي فإذا عيى قام أبو بكر فنادى بها" (¬2) ولما سئل علي رضي الله عنه "بأي شيء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1709. (¬2) حديث صحيح رواه البيهقي 9 - 224 والترمذيُّ 5 - 275 واللفظ له حدثنا محمَّد بن إسماعيل حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام حدثنا سفيان بن حسين عن الحكم ابن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس وهذا سند قوي وله شاهد عند النسائي في الكبرى2 - 416 سنن الدارمي 2 - 92 وغيرهما من طريق موسى بن طارق عن ابن جريج قال =

بعثت قال بأربع، أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع مسلم ومشرك بعد عامهم هذا في الحج ومن كان له عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر" (¬1) وبذلك تم تحرير مكة من كل علاقة بالشرك والمشركين وقطعت كل صلة لها بالخرافة والوثنية .. أتم الجميع مناسك حجهم وعادوا إلى ديارهم وتوجه أبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة .. وعند وصوله سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عن ذلك الأمر "فلما رجع أبو بكر قال: هل نزل في شيء؟ قال: لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي" (¬2) ولم يكن في الأمر سوى تكريم لعلي بالإضافة إلى تكريم أبي بكر وخصه بقيادة المسلمين كافة إلى الحج .. ولو كان في الأمر مساس بأبي بكر وإمارة أبي بكر لعزله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمارة وسلمها لأحد الصحابة لكن الأمر غير ذلك فقد بقي علي وغيره رضي الله عنهم تحت إمرة أبي بكر رضي الله عنه طوال مدة الحج .. ¬

_ = حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبي الزبير عن جابر وهذا سند صحيح لولا عنعنة أبي الزبير عن جابر وهو على شرط مسلم. (¬1) سنده صحيح رواه الترمذيُّ 3 - 222 والحميديُّ 1 - 26 سنن سعيد بن منصور 5 - 233 واللفظ له من طريق سفيان عن أبي إسحاق الهمداني عن زيد بن يثيع قال سألنا عليًا .. انظر ما بعده. (¬2) تفسير الطبري10 - 64 والنسائيُّ في السنن الكبرى 5 - 128 وأحمدُ 1 - 3 من طريق يونس بن أبي إسحاق وإسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع قال وهو سند صحيح قال في الدارقطني في العلل 1 - 274 بعد أن ذكر طرق الحديث: وقال ابن عيينة عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع قال سألنا علي بن أبي طالب بأي شيء بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربع وقول بن عيينة أشبه بالصواب والله أعلم وكذلك قال أبو بكر بن عياش وأبو شيبة إبراهيم بن عثمان عن أبي إسحاق.

وفد مزينة

وخلال تلك الأيام لم تنقطع الوفود عن القدوم إلى المدينة لمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. كانوا يتدفقون موجات من الحب والشوق نحو المدينة .. فهذا وفد لم يمنعه الفقر والعوز من الرحيل إلى المدينة: وفد مزينة يقول أحدهم وهو النعمان بن مقرن رضي الله عنه "قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربعمائة من مزينة فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره فقال بعض القوم يا رسول الله ما لنا طعام نتزوده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: زودهم فقال ما عندي إلا فاضلة من تمر وما أراها تغني عنهم شيئًا فقال انطلق فزودهم فانطلق بنا إلى علية له فإذا فيها تمر مثل البكر الأورق فقال خذوا فأخذ القوم حاجتهم .. وكنت أنا في آخر القوم فالتفت وما أفقد موضع تمرة وقد احتمل منه أربعمائة رجل" (¬1) ثم عادوا إلى بلادهم مزودين بالتمر والإيمان .. وجاء: وفد بني أسد وتميز هذا الوفد بلغة بليغة لكنهم أفسدوها ببعض الفخر والمنة في وقت لا مكان فيه للفخر ولا للمنة .. لا سيما وهم قد قدموا لتقديم الولاء والبيعة والطاعة .. "ابن عباس قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد بني أسد فتكلموا فأبانوا فقالوا: يا رسول الله قاتلتك مضر كلها ولم نقاتلك .. ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد 5 - 445 ثنا عبد الصمد ثنا حرب يعني ابن شداد ثنا حصين عن سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن مقرن وسالم تابعي ثقة يرسل كثيرًا لكنه سمع من النعمان هذا الحديث كما في التدوين في أخبار قزوين 1 - 82 وحصين السلمى تابعي صغير وثقة من رجال الشيخين التقريب 1 - 182 وتلميذه حرب ثقة أيضًا وكذلك عبد الصم بن عبد الوارث.

وفد بني محارب

ولسنا بأقلهم عددًا ولا أكلهم شوكة وصلنا رحمك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر حيث سمع كلامهم: أيتكلمون هكذا؟ قال: يا رسول الله؟ إن فقههم لقليل وإن الشيطان لينطق على لسانهم" (¬1) أما الوفد القادم فكانت تحملهم الذكريات وتنطق المشاعر على لسانهم إنهم وفد بني محارب وأحدهم يحمل ذكريات أليمة عن مكة وبدايات الدعوة في مكة المكرمة واسمه طارق بن عبد الله المحاربي حيث يقول رضي الله عنه: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي .. فمر وعليه حلة حمراء فسمعته يقول: يا أيها الناس .. قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه يرميه بالحجارة قد أدمى كعبه .. وهو يقول: يا أيها الناس .. لا تطيعوا هذا فإنه كذاب .. فقلت: من هذا؟ فقيل: غلام من بني عبد المطلب .. فلما أظهر الله الإِسلام خرجنا من الربذة ومعنا ظعينة لنا حتى نزلنا قريبًا من المدينة فبينما نحن قعودًا إذ أتانا رجل عليه ثوبان فسلم علينا .. فقال: من أين القوم؟ فقلنا: من الربذة .. ومعنا جمل أحمر فقال: تبيعوني ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه النسائى في الكبرى 6 - 467 أبو يعلى 4 - 250 ومن طريقه الضياء 10 - 345 حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي حدثنا أبي حدثنا محمَّد بن قيس الأسدي عن محمَّد بن عبيد الله الثقفى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: محمَّد بن عبيد الله أبو عون تابعي ثقة من رجال الشيخين: التقريب 2 - 187 وتلميذه ثقة من رجال مسلم التقريب 2 - 202 ويحيى صدوق من رجال الشيخين: التقريب 2 - 348 وابنه ثقة من رجالهما انظر التقريب: 1 - 308.

هذا الجمل؟ فقلنا: نعم .. فقال: بكم؟ فقلنا: بكذا وكذا صاعًا من تمر .. قال: أخذته وما استقصي .. فأخذ بخطام الجمل فذهب به حتى توارى في حيطان المدينة .. فقال بعضنا لبعض: تعرفون الرجل؟ فلم يكن من أحد يعرفه .. فلام القوم بعضهم بعضًا فقالوا: تعطون جملكم من لا تعرفون .. فقالت الظعينة: فلا تلاوموا .. فلقد رأينا رجلًا لا يغدر بكم ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه .. فلما كان العشي أتانا رجل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أأنتم الذين جئتم من الربذة؟ قلنا: نعم .. قال: أنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم .. وهو يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا .. فأكلنا من التمر حتى شبعنا واكتلنا حتى استوفينا .. ثم قدمنا المدينة من الغد فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب الناس على المنبر .. فسمعته يقول: يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك وثَمَّ رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله .. هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية فخذ لنا بثأرنا .. فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى رأيت بياض إبطيه فقال: لا تجني أمّ على ولد .. لا تجني أمّ على ولد" (¬1) إذا كان طارق المحاربي مسافر تحمله الذكريات إلى حيث النبي عليه السلام فإن هذا المسافر يجعل الذكريات تحمل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عالم الطفولة ومضارب بني سعد حيث الغنيمات وإخوته الصغار وأمه حليمة السعدية إنه: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحكم 2 - 668 وابن حبان 14 - 518 وغيرهما من طرق عن يزيد بن زياد ابن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي: وجامع تابعي ثقة: التقريب 1 - 124 وتلميذه ثقة أيضًا: التقريب 2 - 364.

أفضل وافد: ضمام بن ثعلبة

أفضل وافد: ضمام بن ثعلبة أما لماذا صار هذا الأعرابي أفضل وافد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فله قصة يرويها أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول: "بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم: أيكم محمَّد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم .. فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ .. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب .. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتك .. فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك .. فقال: سل عما بدا لك .. فقال: أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللَّهم نعم .. قال أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة، قال: اللَّهم نعم .. قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللَّهم نعم .. قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهم نعم. فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر" (¬1) "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص ثم انصرف إلى بعيره راجعًا قال .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى .. قالوا: مه يا ضمام .. اتق البرص اتق الجنون .. قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان .. إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 35.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يرسل خالدا إلى اليمن

استنقذكم به مما كنتم فيه .. وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه .... فوالله ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا .. قال عبد الله بن عباس فما سمعنا بوافد قدم كان أفضل من ضمام ابن ثعلبة" (¬1) الوفد تأتي وتذهب .. والأمراء يذهبون ويأتون .. ها هو: النبي (صلى الله عليه وسلم) يرسل خالدًا إلى اليمن يرسله أميرًا وداعية لأرض الإيمان والحكمة .. وبعد فترة بعث إليه علي بن أبي طالب كي يخلفه ويقبض منه خمس الغنائم التي كانت تحت إدارة سيف الله .. يقول أحد الصحابة وهو البراء: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد إلى اليمن .. ثم بعث عليًا بعد ذلك مكانه فقال مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقبل فكنت فيمن عقب معه فغنمت أواقي ذوات عدد" (¬2) وقد حدثت خلال تلك الفترة الانتقالية بعض القصص مثل هذه القصة التي أضافت لعلي رضي الله عنه الجديد من الفضائل .. يقول "بريدة رضي الله عنه: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض عليًا وقد اغتسل فقلت لخالد ألا ترى إلى هذا؟ فلما ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 5 - 267 حدثني محمَّد بن الوليد بن نويفع عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس وابن الوليد قال عنه الدارقطني يعتبر به ولم ينفرد فقد تابعه سلمة بن كهيل عند أبي داود 1 - 132 وغيره وسلمة وكريب تابعيان ثقتان من رجالهما: التقريب 1 - 318. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1580.

جذور الخوارج

قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرت ذلك له .. فقال: يا بريدة .. أتبغض عليًا؟ فقلت؛ نعم .. قال: لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك" (¬1) ويقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الجارية التي اغتسل علي من أجلها .. بعد أن أخذها من الخمس .. فغضب بريدة من صنعه واستكثرها عليه .. أما علي رضي الله عنه فقد استلم مهمته الجديدة وبدأ بإدارة الأمور بكفاءة .. وحصل المسلمون على بعض الغنائم فأرسل علي منها للنبي - صلى الله عليه وسلم - .. فقسمها بين بعض أصحابه وحضر تلك القسمة متطرف من: جذور الخوارج يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها .. فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن بدر وأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء .. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً .. فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار فقال: يا رسول الله اتق الله قال: ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله، ثم ولى الرجل قال خالد ابن الوليد: يا رسول الله .. ألا أضرب عنقه؟ قال: لا لعله أن يكون يصلي .. فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم .. ثم نظر إليه وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1581.

يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود" (¬1) فقتال هؤلاء الخوارج من واجبات إمام المسلمين حتى تنكسر شوكتهم وينعدم تأثيرهم على أمن دولة الإِسلام .. عندما يتحولون إلى مجرد أفكار متطرفة تعرض على الكتاب والسنة .. لكنها لا تعرض على السيف إلا في حالة تحولها إلى سرايا أو قوة تتحرك على وجه الأرض لشق جاعة المسلمين وزعزعة أمنهم وأمن دولتهم .. وهذا ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطه لأمته .. فهو لم يكفره ولم يقتله بل ولم يمسه بأذى لأنه لا يمثل تهديدًا في ظل توجه الدولة بكليتها بكتاب الله وسنة رسوله .. إنما بين انحرافه وانحراف أمثاله .. وهذا الصنف من المسلمين قد لا ينقصهم الإخلاص وحسن النية لكنهما لا يكفيان لتبرير أقوالهم وأفعالهم المتطرفة .. وإذا كان علي أرسل للنبي - صلى الله عليه وسلم - بذهب (تبر) من اليمن .. فإن أحد الصحابة الذين رافقوا عليًا إلى اليمن لم يبعث هدية لزوجته بل بعث لها بطلقتها الثالثة ثم استشهد رضي الله عنه هناك .. وأثناء تأيمها حدثت بعض المشاكل حول حقها في الحصول على مصروفها من دخل زوجها الذي طلقها .. وهل للمطلقة ثلاث طلقات حق في الحصول على النفقة والسكن من مال زوجها المتوفى أم لا؟ "فاطمة بنت قيس تقول: أرسل إليَّ زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة بطلاقي وأرسل معه بخمسة آصع تمر وخمسة آصع شعير .. فقلت: أما لي نفقة إلا هذا ولا أعتد في منزلكم قال: لا .. فشددت علىّ ثيابي وأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كم طلقك؟ قلت: ثلاثًا قال: صدق ليس لك نفقة [فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت ميمونة فقالوا: إن أبا حفص طلق امرأته ¬

_ (¬1) البخاري 4 - 1581.

ثلاثًا فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليست لها نفقة وعليها العدة .. وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك .. ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك] اعتدي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنه ضرير البصر تلقى ثوبك عنده فإذا انقضت عدتك فآذنين " (¬1) "قالت قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا حللت فآذنيني فآذنته فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما معاوية فرجل ترب لا مال له .. وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء .. ولكن أسامة بن زيد فقالت بيدها هكذا أسامة أسامه فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طاعة الله وطاعة رسوله خير لك قالت: فتزوجته فاغتبطت" (¬2) لكن قبل حفل الزفاف وأثناء فترة العدة سمعت فاطمة أشياء خطيرة حملها وافد قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. هذا الوافد المحمل بالأخبار وغرائب الأسفار التي لا يصدقها أحد لولا إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - له .. وقد كان في قدوم هذا المسافر نسفًا لشكوك تدور في أذهان بعض الصحابة حول رجل مخيف وغريب وغامض .. كان بعض الصحابة يعتقد أن هذا الرجل هو المسيح الدجال الذي حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته منه .. ذلك الدجال اليهودي الذي أخبر عنه الأنبياء وحذروا منه أممهم .. ذلك الدجال الذي سيعيث يومًا من الأيام فسادًا في الأرض وسيخوض ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 1119 والزيادة لمسلم 2 - 1115. (¬2) صحيح مسلم 2 - 1119.

ابن صياد وهل هو المسيح الدجال

حروبًا طاحنة ضد المؤمنين وهو يقول يهود العالم للسيطرة على الأرض محاولًا إقامة دولة لليهود .. الشبهات اليوم تدور حول رجل من اليهود يعيش في المدينة يعتقد البعض أنه الدجال .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينزل عليه شيء حول هذا الرجل .. لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصًا على اكتشاف أمره وكشف حقيقته .. دعونا نتجول في شوارع المدينة وبين نخيلها لنتعرف إلى هذا الرجل الذي يشك بعض المؤمنين أنه المسيح الدجال تعالوا نتعرف على ابن صياد وهل هو المسيح الدجال كان في المدينة رجل يهودي مخيف الشكل مريب الحركات والأصوات والتصرفات .. وقد شك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعض الصحابة أنه المسيح الدجال وكان يدعى (ابن صياد) .. فعندما كان ذلك اليهودي طفلًا يلعب مع الصبيان قرب حصن أناس يقال لهم بني مغالة حدث شيء غريب يرويه عبد الله بن عمر فيقول: "إن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط قِبَلَ ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بن مغالة وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم .. فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره بيده ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه ابن صياد فقال: أشَهد أنك رسول الأميين .. فقال ابن صياد: لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتشهد أني رسول الله فرفضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: آمنت بالله وبرسله .. ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ماذا ترى؟ قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب .. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلط عليك الأمر ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني قد خبأت لك خبيئًا

قال ابن صياد: هو الدخ .. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اخسأ فلن تعدو قدرك .. فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله أضرب عنقه .. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله" (¬1) في ذلك الحوار بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن صياد اتضح تعاطي ابن صياد لنوع من السحر والكهانة وذلك عندما قال: الدخ ويعني بذلك سورة الدخان التي نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه قال الدخ فقط لأن النبي عليه السلام قاطعه فورًا قبل أن يكمل اسم السورة وقال له: اخسأ .. أما عن تلك الأشياء التي يراها ابن صياد فيقول: "جابر بن عبد الله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي ابن صياد ومعه أبو بكر وعمر أو قال رجلان فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشهد أني رسول الله؟ فقال ابن صياد أتشهد أني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آمنت بالله ورسوله .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى؟ فقال ابن صياد: أرى عرشًا على الماء .. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ترى عرش إبليس على البحر .. قال: ما ترى؟ قال: أرى صادقين أو كاذبين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس عليه فدعوه" (¬2) وقد وصل الشك ببعض الصحابة إلى درجة اليقين أنه الدجال .. ومنهم جابر رضي الله عنه يقول أحد من صحب جابرًا: "رأيت جابر بن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 2244. (¬2) سنده صحيح رواه ابن أبي شيبة 7 - 495 حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا سليمان التيمي عن أبي نضرة عن جابر. أبو نضرة تابعى ثقة من رجال مسلم. انظر التقريب. وتلميذه سليمان بن طرخان التيمي تابعى مشهور من صغار تابعى أهل البصرة وهو ثقة من رجال الشيخين 1 - 326 وتلميذه ثقة معروف مر معنا كثيرًا.

عبد الله يحلف بالله أن ابن صائد الدجال .. فقلت: أتحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) وذلك للشبه الكبير بين الاثنين: الدجال وابن صياد .. ولتصرفات ابن صياد المريبة وما يصدر عنه من أفعال لا تصدر عن إنسان طبيعي أبدًا .. ويبدو أنه كان يتعاطى السحر والشعوذة ويتعامل مع شياطين الجن ولا أدل على ذلك من هذه القصة التي حدثت أمام عيني ابن عمر رضي الله عنه وذلك عندما "لقي ابن عمر ابن صائد في بعض طرق المدينة فقال له قولًا أغضبه فانتفخ حتى ملأ السكة (¬2) .. فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها فقالت له: رحمك الله ما أردت من ابن صائد أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما يخرج من غضبة" (¬3) ويقول "ابن عمر لقيته مرتين .. فلقيته فقلت: لبعضهم هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا والله قلت: كذبتني والله لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالًا وولدًا فكذلك هو زعموا اليوم .. فتحدثنا .. ثم فارقته .. فلقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه .. فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري .. قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه .. فنخر كأشد نخير حمار سمعت .. فزعم بعض أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت .. وأما أنا فوالله ما شعرت .. وجاء حتى دخل على أم المؤمنين فحدثها فقالت ما تريد إليه: ألم تعلم أنه قد قال: إن أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه؟ " (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 2243 عن محمَّد بن المنكدر قال رأيت .. (¬2) الطريق الضيقة جدًا. (¬3) صحيح مسلم 4 - 2246. (¬4) صحيح مسلم 4 - 2246.

قصة الدجال الحقيقي والجساسة

وقد حاول النبي - صلى الله عليه وسلم -بعد أن سمع كلامه وهو يلعب مع الصبيان- التسلل ليسمع زمزمته والأصوات الغريبة الصادرة عنه عله يكتشف هويته لكن ذلك لم يتم .. يقول ابن عمر: "انطلق بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بن كعب إلى النخل التي فيها ابن صياد وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئًا قبل أن يراه ابن صياد .. فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع يعني في قطيفة له فيها رمزة .. أو زمرة فرأت أم ابن صياد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد: يا صاف -وهو اسم ابن صياد- هذا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فثار ابن صياد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو تركته بين" (¬1) واتضح أمره .. كل تلك الأمور كانت قبل أن يأتي تميم الداري رضي الله عنه إلى المدينة ويسلم ويقص على النبي - صلى الله عليه وسلم - قصته العجيبة المخيفة: قصة الدجال الحقيقي والجساسة هذه القصة ترويها الصحابية الجليلة المطلقة المدعوة: فاطمة بنت قيس وكانت من المهاجرات الأول فتقول: "خطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مولاه أسامة بن زيد وكنت قد حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحبني فليحب أسامة .. فلما كلمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: أمري بيدك فأنكحني من شئت .. فقال: انتقلي إلى أم شريك وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان .. فقلت: سأفعل .. فقال: لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين .. ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله ابن عمرو بن أم مكتوم .. فانتقلت إليه فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي .. منادي رسول ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 454.

الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد .. فصليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت في صف النساء التي تلى ظهور القوم .. فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته جلس على المنبر وهو يضحك .. فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم .. قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميمًا الداري كان رجلًا نصرانيًا فجاء فبايع وأسلم .. وحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال .. حدثنى أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلًا من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهرًا في البحر ثم أرفؤا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس .. فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر .. فقالوا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة .. قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق .. قال: لما سمت لنا رجلًا فرقنا منها أن تكون شيطانة .. فانطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقًا وأشده وثاقًا مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد .. قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم .. فلعب بنا الموج شهرًا ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها .. فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدري ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة .. قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق .. فأقبلنا إليك سراعًا وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة فقال: أخبروني عن نخل بيسان .. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال:

أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم .. قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر .. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية .. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء .. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب .. قال: أخبروني عن عين زغر .. قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم هى كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها .. قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب .. قال: أقاتَله العرب؟ قلنا: نعم .. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه .. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم .. قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه .. وإني مخبركم عني .. إني أنا المسيح .. وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج .. فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة .. فهما محرمتان علي كلتاهما .. كما أردت أن أدخل واحدة أو واحدًا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتًا يصدني عنها .. وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطعن بمخصرته (¬1) في المنبر: هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة .. يعني المدينة .. ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم .. فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة .. ألا أنه في بحر الشام .. أو بحر اليمن .. لا بل من قبل المشرق ما هو .. من قبل المشرق ما هو .. من قبل المشرق ما هو وأومأ بيده إلى المشرق قالت: فحفظت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وأمته على الاستعاذة من هذا اليهودي ¬

_ (¬1) بعصاه. (¬2) صحيح مسلم 4 - 2263.

الدجال .. بل كان يستعيذ منه كل صلاة .. تقول عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: اللَّهم إني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللَّهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف" (¬1) إذًا فالدجال مأسور في تلك الجزيرة .. أما ابن صياد فهو شخص آخر يحاول استغلال الشبه بينه وبين الدجال في إخافة من حوله وبث الرعب فيهم محاولًا إشباع غروره .. مع أنه من المحتمل أن يكون بينه وبن الدجال صلة ما لكن ما هى .. الله أعلم .. تبين ذلك في حوار جرى بين ابن صياد وأبي سعيد الخدري وهما في سفر متجهين نحو مكة .. حيث بث ابن صياد شكواه وبعض أسراره لأبي سعيد وبث فيها مرارة كذبه وانتحاله لتلك الشخصية ونتائج تلك الأشياء التي ارتكبها من أجل لفت الأنظار إليه .. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "أقلنا في جيش من المدينة قبل هذا المشرق .. فكان في الجيش عبد الله بن صياد وكان لا يسايره أحد ولا يرافقه ولا يؤاكله ولا يشاربه ويسمونه الدجال .. فبينا أنا ذات يوم نازل في منزل لي إذ رآني عبد الله بن صياد جالسًا فجاء حتى جلس إلي .. فقال: يا أبا سعيد .. ألا ترى إلى ما يصنع الناس لا يسايرني أحد ولا يرافقني أحد ولا يشاربني أحد ولا يؤاكلني أحد ويدعوني الدجال؛ وقد علمت أنت يا أبا سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الدجال لا يدخل المدينة وأني ولدت بالمدينة .. وقد سمعت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 286.

وفد اليمامة

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول إن الدجال لا يولد له وقد ولد لي .. فوالله لقد هممت مما يصنع بي هؤلاء الناس أن آخذ حبلًا فأخلو فأجعله في عنقي فأختنق فأستريح من هؤلاء الناس .. والله ما أنا بالدجال .. ولكن والله لو شئت لأخبرتك باسمه واسم أبيه واسم أمه واسم القرية التي يخرج منها" (¬1) تلك هي قصة ابن صياد الدجال .. لكن ذلك الدجال المنتظر ليس هو الدجال الوحيد الذي سيظهر في أمة محمَّد عليه الصلاة والسلام .. لقد حذر عليه السلام من ثلاثين دجالًا سيظهرون قبله لكنه أشدهم خطرًا على هذه الأمة .. أما أسرعهم ظهورًا فكان كذاب حنيفة الذي يقود الآن: وفد اليمامة لبيعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يدعى مسيلمة .. وقد رأى عليه السلام رؤيا قصها على أصحابه "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينا أنا نائم أتيت خزائن الأرض فوضع في يدي إسوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني فأوحى إلي أن انفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة" (¬2) ولما وصل وقد اليمامة "قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فجعل يقول: إن جعل لي محمَّد الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه .. فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه ثابت ابن قيس بن شماس وفي يد ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد 3 - 79 ثنا محمَّد بن جعفر ثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أبو نضرة تابعي ثقة من رجال مسلم التقريب 2 - 275 وعوف بن أبي جميلة وغندر ثقتان من رجال الشيخين: التقريب 2 - 89 و1 - 151. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1781.

كذاب اليمن الأسود العنسي

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه .. فقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك .. ولئن أدبرت ليعقرنك الله .. وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عنى ثم انصرف عنه .. قال ابن عباس فسألت عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنك أرى الذي أريت فيه ما رأيت فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إلى في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسى والآخر مسيلمة" (¬1) كذاب اليمامة الذي يعود خائبًا محتقنًا من الغيظ إلى بلاده بعد أن حوله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حاوية للسخرية بين الوفود .. هذا الأفاك الذي لا يعي ما يخرج من رأسه يريد أن يكون نبيًا .. يريد كما يريد تلاميذه من بعده أن يستبدلوا شريعة الله بتخاريفهم .. إنهم لا يقدمون بدائل صناعية أو زراعية أو حتى عسكرية فيها من الإبداع ما يفيد فهم أعجز من ذلك .. وبدلًا من ذلك يسخرون ثرثرتهم في محاولة استبدال الوحي بالخرافة والحقيقة بالوهم فقط لا أكثر .. لذلك رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - تقديم أي تنازل لأستاذهم مسيلمة حتى ولو كان مجرد قطعة من جريد النخل لا تنفع ولا تضر ولا تقدم ولا تؤخر .. أما: كذاب اليمن الأسود العنسي فقد كان يضمر في نفسه الخروج على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقرب فرصة أما الآن فهو لا يستطيع الجهر بما في نفسه خوفًا من علي بن أبي طالب الأسد الهصور القادم من المدينة إلى اليمن .. ولم يكن الأسود وحده الذي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1590.

أبو رجاء العطاردى يعترف

سيدعي النبوة فقد قال أحد الصحابة: "أكثر الناس في مسيلمة قبل أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئًا فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا فقال: أما بعد ففي شأن هذا الدجال الذي قد أكثرتم فيه وإنه كذاب من ثلاثين كذابًا يخرجون بين يدي المسيح" (¬1) أولهم مسيلمه الذي عاد إلى دياره ثم أفرز ما كان محتقنًا به من أكاذيب وأعلن أنه نبي جديد لهذه الأمة .. ولم يكتف بذلك بلغت به الوقاحة أن يبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برسولين يخبرانه بما فعل .. يقول الصحابي نعيم بن مسعود: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لهما وأنتما تقولان بمثل ما يقول؟ قالا: نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" (¬2) وهو مبدأ إسلامي رفيع زاد من رصيد الاحترام للدولة الإِسلامية وقائدها .. إلا أن الجاهلية أعمت الكثيرين عن رؤية الحقيقة .. هذا أحدهم يعترف بذلك: أبو رجاء العطاردى يعترف يقول رضي الله عنه: (كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرًا هو خير منه ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه معمر بن راشد في الجامع11 - 392 عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن أبي بكرة قال وهذا السند صحيح. الزهريّ وشيخه طلحة بن عبد الله بن عوف الزهريّ تابعيان ثقتان تهذيب التهذيب 5 - 18. (¬2) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم 3 - 54: حدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال .. وسعد بن طارق تابعى ثقة من رجال مسلم أبو مالك الأشجعي انظر التقريب 1 - 287.

قدوم عدي بن حاتم

ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا منصل الأسنة فلا ندع رمحًا فيه حديدة ولا سهمًا فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه شهر رجب .. كنت يوم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - غلامًا أرعى الإبل على أهلي فلما سمعنا بخروجه فررنا إلى النار إلى مسيلمة الكذاب) (¬1) وإذا كان وفد مسيلمة قد تميز بالوقاحة والكذب فإن الحقيقة التي جاء بها الإِسلام كفيلة بإحراق كذابهم وإحراق من صدقه واحدًا واحدًا .. الحقيقة التي لا يصمد أمامها أي منتحل أو معاند لها .. وكان من بين الوفود القادمة رجل من النصارى يدعى عدي بن حاتم الطائي .. هذا الرجل الذي هرب من بلاده خوفًا من جيش الإِسلام وتوجه نحو الشام حيث الكنائس .. لكن تلك الكنائس زادت غربته فعاد إلى رشده وطرح على نفسه أسئلة تغنيه عن الهرب لو طرحها في وقت أبكر .. أسئلة محرجة أخجلته خاصة وهو ابن رمز الكرم العربي في الجاهلية .. قدوم عدي بن حاتم دعونا نستمع إلى عدي وهو يقص حكايته وحكاية هروبه وعودته للحق .. فيقول: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث بعث فكرهته أشد ما كرهت شيئًا قط فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الروم .. فقلت: لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبًا لم يخف علي وإن كان صادقًا اتبعته .. فأقبلت فلما قدمت المدينة استشرف لي الناس وقالوا: جاء عدي بن حاتم .. جاء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1591.

عدي بن حاتم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لي: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم قلت: إن لي دينًا قال: أنا أعلم بدينك منك، أنا أعلم بدينك منك .. مرتين أو ثلاثًا .. ألست ترأس قومك؟ قلت: بلى .. قال: ألست تأكل المرباع (¬1)؟ قال: قلت: بلى .. قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك .. قال عدي: فتضعضعتُ (¬2) لذلك .. ثم قال: يا عدي بن حاتم .. أسلم تسلم فإني قد أظن .. أنه ما يمنعك أن تسلم خصاصة تراها من حولي وتوشك الظعينة أن ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت .. ولتفتحن علينا كنوز كسرى بن هرمز وليفيضن المال .. حتى يهم الرجل من يقبل منه ماله صدقة (¬3) قال عدي بن حاتم: فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت .. وكنتُ في أول خيل أغارت على المدائن على كنوز كسرى بن هرمز وأحلف بالله لتجيئن الثالثة إنه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي" (¬4) هكذا حولت الحقيقة هذا الرجل النصراني المتشائم المغتصب حق غيره إلى ثقة بالله ورسوله بعد أن كان مزيجًا من الشكوك والتساؤل المحير .. يحلف ثقة ويتحرك ثقة ويعد من حوله ثقة .. فإذا لم يثق بالحقيقة فبم تكون ثقته .. لا سيما وقد اعتنق النصرانية كخلاص من الوثنية ولم ¬

_ (¬1) أي أنه كان يغتصب من قومه ربع أرباحهم وغنائمهم دون حق. (¬2) ضعفت. (¬3) أي إن الرجل لا يجد من يأخذ الصدقة منه. (¬4) سنده قوي رواه الحاكم 4 - 564 من طريق هشام بن حسان عن محمَّد بن سيرين وابن أبي شيبة 7 - 342 من جرير بن حازم عن محمَّد بن سيرين ابن حبان 15 - 71 من طريق أيوب عن محمَّد عن أبي عبيدة بن حذيفة قال كنت أسأل عن حديث عدي بن حاتم وهو إلى جنبي لا آتيه فأسأله فأتيته فسألته فقال وأبو حذيفة ثقة .. روى عنه محمَّد بن سيرين ويوسف بن ميمون وخالد بن أبي أمية الكوفي وحصين بن عبد الرحمن السلمى ويزيد أبو خالد الواسطي تهذيب التهذيب 12 - 177 ووثقه العجليّ توثيقًا لفظيًا فقال في: معرفة الثقات 2 - 413 أبو عبيدة بن حذيفة كوفي تابعي ثقة وابن سيرين غني عن التعريف.

وفد نصارى نجران

يرثها عن والديه وراثة .. فمن الصعوبة التخلص من الموروث حتى ولو كان غير مقنع .. ولعل في هذا الوفد القادم من نجران: وفد نصارى نجران دليل على صعوبة التخلص من الموروث .. حيث جاءوا من بلادهم بعد أن وصلتهم بعوث الإِسلام وأخبار انتصاراته .. وكانوا في بلادهم يحاولون إحراج هؤلاء المسلمين بالتنقيب عن أي خطأ في تعاليم هذا الدين الجديد .. وقد حدث هذا مع الصحابي الداهية المغيرة بن شعبة الذي كل دهاؤه عن إجابة تساؤلهم فقال رضي الله عنه: "لما قدمت نجران سألوني فقالوا إنكم تقرؤون يا أخت هارون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألته عن ذلك فقال إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم" (¬1) ولعل تلك التساؤلات خلقت لدى هؤلاء شعورًا بالجرأة والتفوق فبحثوا عن مزيد من الإحراج .. فأحبوا أن يفجروه على أرض المدينة معقل الإِسلام وعاصمته .. وقد تصدى لهذا رجلان من رجال الدين .. حيث إن الدين النصراني يقسم الناس إلى طبقتين لا وجود لهما في الدين الإِسلامي إطلاقًا .. هاتان الطبقتان هما: طبقة رجال الدين وطبقة أخرى لبقية الرجال .. أما النساء فلا دور لهن على الإطلاق ولا طبقات سوى الخطيئة .. وكان اسم رجلي الدين هذين: العاقب والسيد وقد بلغت بهما الجرأة أن يطالبا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالملاعنة على الحقيقة .. والملاعنة هي المباهلة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1685.

عبد الله بن سلول مريض

وهي أن يدعو كل من الخصمين على نفسه باللعنة إن كان كاذبًا في دعواه .. كانت نتيجة المباهلة اكتشاف هذه الأمة لأمينها في قصة يرويها لنا حذيفة بن اليمان أمين سر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول: "جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدان أن يلاعناه .. فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيًا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا .. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلًا أمينًا ولا تبعث معنا إلا أمينًا .. فقال: لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين فاستشرف له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح فلما قام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا أمين هذه الأمة" (¬1) الذي فاز بلقب كما فاز غيره بألقاب .. أما نصارى نجران فعادوا مثقلين بالشك والجزية والهزيمة .. الهزيمة التي لحقت بكل من أعمى قلبه عن رؤية الشمس التي يحملها - صلى الله عليه وسلم - خارج المدينة وداخلها .. ففي داخل المدينة تطحن أقدام هذه الوفود في ذهابها وإيابها رجلًا كالحجارة عنادًا وحسدًا. عبد الله بن أبي بن سلول يتجرع اليوم سمومًا كثيرة ويتلقى طعنات لا تعد ولا تحصى .. لم يصنعها أحد له هو الذي صنعها بحقده وعناده .. عبد الله بن سلول مريض ويبدو من تقاسيمه أنه راحل عن هذه الدنيا .. ورغم كل ما فعله وما خطط له وما جرى منه ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضد المسلمين ودولتهم .. رغم ذلك كله ينهض النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيارته عله يجد في قلبه مكانًا لله ورسوله .. عبد الله بن أبي بن سلول تاريخ أسود من التآمر والخيانة والنفاق ومع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1592.

ابن سلول يطلب ثوب النبي (صلى الله عليه وسلم)

ذلك فلا يأس في حياة الداعية .. استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدخول عليه ولما دخل عرف فيه الموت .. "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي يعوده في مرضه الذي مات فيه فلما عرف فيه الموت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود فقال: أبغضهم أسعد بن زرارة فمه" (¬1) أي فماذا أفاد أسعد بن زرارة كرهه لليهود حيث مات في أول أيام الهجرة .. هذه الإجابة تكشف عن ضيق أفق هذا المنافق ونظرته المحدودة بين جدران الدنيا الفانية .. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعني أن حب اليهود هو الذي يجلب لك الموت فاليهود قد غادروا غير ماسوف عليهم .. بل كان يعنى أننى كنت أنهاك عن موالاتهم التي لا تفيدك في مثل هذه الساعة التي تكون فيها أحوج ما تكون لله ولرسوله وللحقيقة - الإِسلام .. لكنه الحسد والحقد الذي يتفنن في إحراق أصحابه .. كان ابن سلول مغرورًا متكبرًا حتى في أيام احتضاره .. لم يقل للنبي عليه السلام أي كلمة تشير إلى أسفه وندمه وتوبته .. ولكن بعد أن خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنده استدعى ابنه وطلب منه أمرًا غريبًا ابن سلول يطلب ثوب النبي (صلى الله عليه وسلم) فبعد خروجه عليه السلام استدعى عبد الله بن سلول ابنه وقال له: "أي بني .. اطلب ثوبًا من ثياب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكفني فيه ومره فليُصلّ عليّ" (¬2) ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق البداية والنهاية (السيرة) 5 - 34 ومن طريقه أبو داود 3 - 184 حدثني الزهريّ عن عروة عن أسامة بن زيد الزهرى تابعي ثقة رأس طبقته وعروة ابن الزبير بن العوام تابعى كبير وإمام ثقة معروف. (¬2) سنده صحيح رواه الطبراني في الكبر 11 - 438 والأوسط 6 - 16 من طرق عن بشر بن السري قال نا رباح بن أبي معروف المكي عن سالم بن عجلان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن ابن عبد الله بن أبي قال له أبوه: سعيد بن جبير من أئمة التابعين الثقات =

ويبدو أن الابن شعر بالإحراج أو نسي ذلك حتى وضع أبوه في قبره فتوجه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فقال: يا رسول الله .. أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه واستغفر له" (¬1) يقول جابر رضي الله عنه: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي بعد ما دفن فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه" (¬2) وعندما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على ابن أبي سلول وقف عمر بن الخطاب في وجهه بل جذبه من ثوبه معترضًا على الصلاة عليه .. شاهد عبد الله بن عمر ما حدث فقال: "إن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله .. أعطني قميصك أكفنه فيه وصل عليه وأستغفر له .. فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه، فقال: آذني أصلي عليه فآذنه .. فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال: أليس نهاك أن تصلي على المنافقين .. فقال: أنا بين خيرتين .. قال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم .. فصلى عليه .. فنزلت {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬3) والآية التي نهت عن الصلاة على المنافقين بعد اليوم هي قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} (¬4). شاهد جابر ما حدث فقال مفسرًا ما حدث حول قميص النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ = وسالم بن عجلان الأفطس ثقة من رجال البخاري: التقريب 1 - 281 ورباح حسن الحديث من رجال مسلم 1 - 242 وبشر بن السري ثقة متقن: التقريب 1 - 99. (¬1) حديث صحيح رواه البخاري 1 - 427. (¬2) حديث صحيح رواه البخاري 1 - 427. (¬3) صحيح البخاري 1 - 427. (¬4) سورة التوبة: 84.

قائمة بأسماء المنافقين

"لما كان يوم بدر أتى بأسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب .. فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - له قميصًا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه .. فكساه النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه .. فلذلك نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصه الذي ألبسه" (¬1) مكافأة له .. هذه هي وجهة نظر جابر رضي الله عنه فربما لم تبلغه قصة طلب ابن أبي .. هناك سؤال يطرح نفسه على الصحابة هو أنهم سيتمكنون من معرفة المنافقين بعدم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم عند وفاتهم .. لكن كيف سيعرفون المنافقين بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. لم يغب ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قام - صلى الله عليه وسلم - باستدعاء أحد الصحابة ليقدم له: قائمة بأسماء المنافقين يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كنت آخذًا بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقود به وعمار يسوق الناقة أو أنا أسوقه وعمار يقوده .. حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبًا قد اعترضوه فيها فانبهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين ولكنا قد عرفنا الركاب. قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا؟ قلنا لا .. قال: أرادوا أن يزاحموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة فيلقوه منها .. قلنا: يا رسول الله .. أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال: لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدًا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1095.

يقتلهم .. ثم قال: اللَّهم أرمهم بالدبيلة" (¬1) ولا سئل عمار حول قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقديم توصية خاصة له قال: (ما عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لم يعهده إلى الناس كافة، ولكن حذيفة أخبرني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: في أصحابي اثنا عشر منافقًا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) (¬2) وهي دمل أو خراج يسبب الموت .. وبذلك التحديد لأسماء هؤلاء المنافقين تم عزلهم وإقصاء رواياتهم وأخبارهم .. بل لقد تحولوا إلى رماد تذروه رياح التاريخ .. بعد أن نجح الشيطان في إنزالهم من مقاعدهم الرفيعة التي منحهم إياها الإِسلام فرضوا بالدرك الأسفل من النار التي يقول الله تعالى عنها: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث محمَّد بن إسحاق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة: تفسير ابن كثير 2 - 373 ولم يصرح ابن إسحاق بالسماع لكن له شاهد في مسند أحمد 5 - 453 حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل وهو سند ثلاثي حسن وشاهد عن عروة مرسلًا.

موت إبراهيم عليه السلام

اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)} (¬1). وهناك من تاب قبل هؤلاء بعد أن زالت عنهم العصبية وتبين لهم خواء ابن سلول وخواء أفكاره .. لكن تلك الأسماء التي تلقاها حذيفة ظلت على عنادها حتى انتزعها الموت كما انتزع ابن سلول والذي برحيله انكسرت شوكة النفاق والخيانة والتآمر .. أما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فيتمنون لو آمن ابن سلول ومن معه فرسالتهم في هذه الدنيا موجة إلى بقع الظلام وبؤره لملئها بنور التوحيد .. طهرت المدينة من قيادات اليهود والمنافقين المشركين .. ومرت الأيام فعاد الموت مرة أخرى إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنه يزاحم كل خبر سار يبتهج به النبي عليه السلام .. ذات يوم ألم المرض بإبراهيم بن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - ثم انتزعه الموت فكانت دموع النبي - صلى الله عليه وسلم - وحزنه تسيل لـ: موت إبراهيم عليه السلام يقول أنس بن مالك رضي الله عنه عن حياة إبراهيم وموته: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم .. ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له: أبو سيف .. فانطلق يأتيه واتبعته .. فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره قد امتلأ البيت دخانًا .. فأسرعت المشي بين ¬

_ (¬1) النساء: 138 - 146.

الشمس قد كسفت يوم موت إبراهيم

يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا أبا سيف .. أمسك .. جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فأمسك فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصبي فضمه إليه وقال: ما شاء الله أن يقول .. فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا .. والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون" (¬1) وقد أثارت تلك الدموع وذلك الحزن تساؤل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .. "فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا بن عوف .. إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا .. وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" (¬2) في هذا اليوم نفسه الذي توفي فيه إبراهيم عليه السلام نظر الناس إلى السماء فوجدوا أن: الشمس قد كسفت يوم موت إبراهيم وكان هناك اعتقاد سائد في الجاهلية أن كسوف الشمس لا يكون إلا لموت إنسان عظيم أو لمولد عظيم .. فما هو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتقاد الجاهلى لا سيما وقد صادف يوم رحيل ابنه الحبيب: يقول "المغيرة بن شعبة: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مات إبراهيم فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته .. فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله" (¬3) ثم أمر الناس بالاجتماع في المسجد حيث يقول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4 - 1807. (¬2) صحيح البخاري 1 - 439. (¬3) صحيح البخاري 1 - 354.

صفة صلاة الكسوف

"عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نودي: إن الصلاة جامعة" (¬1) ويقول أبو بكر: "كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانكسفت الشمس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يجر رداءه حتى دخل المسجد فدخلنا فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم" (¬2) كانت صلاة الكسوف ركعتين لكن كيف كانت: صفة صلاة الكسوف هي ركعتان لكن باختلاف بسيط عن الركعات المعتادة .. فالصلاة العادية المكونة من ركعتين كالفجر والجمعة وكذلك النوافل تكون الركعة الواحدة عبارة عن قراءة الفاتحة وبعض القرآن ثم الركوع ثم الرفع من الركوع ثم السجود ثم الرفع من السجود والجلوس ثم السجود مرة ثانية هذا باختصار ما تتكون منه الركعة الواحدة أي ركوع واحد وسجدتين .. أما في صلاة الكسوف فتتكون كل ركعة من ركوعين وسجودين .. أي أن المصلي يقوم فيقرأ الفاتحة وبعض القرآن ثم يركع ثم يرفع من الركوع ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن ثم يركع ثانية ثم يرفع من الركوع ثم يسجد ثم يرفع من السجود ويجلس ثم يسجد ثانية ثم يقوم ليفعل مثل ذلك في الركعة الثانية .. أي أن عدد الركوعات يساوي عدد السجودات .. تقول عائشة رضي الله عنها: "خسفت الشمس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه فكبر فاقترأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 354. (¬2) صحيح البخاري 1 - 353.

قراءة طويلة .. ثم كبر فركع ركوعًا طويلًا .. ثم قال سمع الله لمن حمده .. فقام ولم يسجد وقرأ قراءة طويلة هي أدني من القراءة الأولى .. ثم كبر وركع ركوعًا طويلًا وهو أدني من الركوع الأول .. ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد .. ثم سجد .. ثم قال في الركعة الأخيرة مثل .. ذلك فاستكمل أربع ركعات في أربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف .. ثم قام فأثني على الله بما هو أهله .. ثم قال: هما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة" (¬1) فهذه الآية تذكر الإنسان الغافل وتوظف ما نام من مشاعره تجاه خالقه ورازقه وإلهه .. ففي خضم الحياة وسعير المادة والركض خلفها يغفل الإنسان أحيانًا ويتبلد إحساسه تجاه موقعه من خالقه وفضله عليه .. ففي تلك الصلاة إيقاظ له .. وفي تلك الصلاة قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بحركة غريبة ليست من الصلاة فسأله الصحابة عنها وذلك بعد أن "قال - صلى الله عليه وسلم -: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئًا في مقامك ثم رأيناك كعكعت قال - صلى الله عليه وسلم -: إني رأيت الجنة فتناولت عنقودًا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا .. وأريت النار فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع .. ورأيت أكثر أهلها النساء .. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن .. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط" (¬2) ووصفه هذا لا يشمل النساء جميعًا بل قال: إن نسبتهن أكثر من ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 355. (¬2) صحيح البخاري 1 - 357.

نسبة الرجال نظرًا لصفة الجحود التي تتميز بها هذه النسبة من النساء تجاه أفضال الغير عليها .. حتى أن هذه النوعية من النساء وفي لحظة عتاب أو غضب يسيرة تنسف كل أفضال الآخرين خاصة الزوج دون مبرر بل دون أن يكون هناك داع لذكر تلك الأفضال والتطرق لها .. وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من هذه الصفة التي تقترب من صفة المنافق الذي إذا خاصم فجر .. في هذه الأثناء كانت أسماء ذات النطاقين في طريقها نحو بيت أختها عائشة .. تقول رضي الله عنها: "أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خسفت الشمس .. فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء وقالت: سبحان الله .. فقلت: آية؟ فأشارت: أي نعم. فقمت حتى تجلاني الغشي فجعلت أصب فوق رأسي الماء .. فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمد الله وأثني عليه ثم قال: ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار .. ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبًا من فتنة الدجال يؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول: محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا .. فيقال له: نم صالحًا فقد علمنا إن كنت لموقنا .. وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته" (¬1) وتقول أسماء: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف فقال: دنت مني النار حتى قلت أي رب وأنا معهم؟ فإذا امرأة تخدشها هرة قال: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعًا" (¬2) وكأن صلاة الكسوف هذه توقظ مشاعر المؤمنين على هذا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 358. (¬2) صحيح البخاري 2 - 833.

رمضان العام العاشر مختلفا

الكون كله .. حتى البهائم .. حتى البهائم تنعم بحياة طيبة إذا كانت في محيط يحكمه الإِسلام ويحكم أهله الإِسلام .. كان ذلك الكسوف آية ورحمة لعباد الله تقول ذات النطاقين رضي الله عنها: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعتاقة في كسوف الشمس" (¬1) أي أمر أصحابه بإعتاق عبيدهم وحثهم على ذلك فقال: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوًا من النار" (¬2) وحتى ذلك الرقيق الذي يملكه أكثر من شخص دخل في ذلك .. بل نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - عملية إعتاقه فألزم الشركاء الآخرين بقبول العتق مع حقهم في أخذ تعويض مالي من الشريك الذي أعتق نصيبه .. يقول عليه السلام: "من أعتق عبدًا بين اثنين فإن كان موسرًا قوم عليه ثم يعتق" (¬3) دفن إبراهيم عليه السلام وانتهى الكسوف ومرت الأيام وجاء رمضان فكان: رمضان العام العاشر مختلفًا صام المسلمون شهر رمضان في أجواء نقية آمنة بسط الإِسلام فيها سيطرته على كل جزيرة العرب .. لكنه كان بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مختلفًا فقد "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام" (¬4) العاشر الذي نحن فيه الآن "اعتكف عشرين يومًا" (¬5) ليس ذلك فحسب ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 892. (¬2) صحيح البخاري 6 - 2469. (¬3) صحيح البخاري 2 - 892. (¬4) صحيح البخاري 2 - 719. (¬5) صحيح البخاري 2 - 719.

قصة حجة النبي (صلى الله عليه وسلم)

بل كان جبريل عليه السلام يراجع معه كل ما نزل من القرآن "كان يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي" (¬1) نحن فيه الآن .. وانقضى رمضان وجاء العيد فاحتفى به المسلمون واحتفلوا وبعد أن احتفل المؤمنون بعيد الفطر ودخل أول أشهر الحج: شوال .. قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - القيام بأداء فريضة الحج. قصة حجة النبي (صلى الله عليه وسلم) البداية كانت ترغيبًا يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله .. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله .. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور" (¬2) ويقول رضي الله عنه: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (¬3) ويقول أيضًا: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (¬4) ثم دعوة للحج يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أيها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1911. (¬2) صحيح البخاري 2 - 553. (¬3) صحيح البخاري 2 - 553. (¬4) صحيح البخاري 2 - 629.

الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم .. ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم .. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم .. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" (¬1) لأن التشدد والتقعر ليس من الصفات التي تعود على صاحبها بخير .. وكانت تلك الدعوة أمنية حملتها عائشة رضي الله عنها عندما قالت: "يا رسول الله .. ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج .. حج مبرور. فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) ونظرًا لخطورة الوضع الأمني على المرأة وتعرضها أكثر من الرجل للاستغلال الجسدي في الأسفار فقد "قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم .. فقال رجل: يا رسول الله .. إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج فقال: اخرج معها" (¬3) وكأن هذا الحديث يعطي لمن يسافر مع زوجته لأداء الحج أجرًا أكثر من أجره إذا سافر مع الجيش للجهاد .. هذه العناية بالمرأة لا تعني كما يتصور البسطاء فرض حصار على المرأه بقدر ما هو حمايتها في عالم يتسيد فيه الرجل من أقصاه إلى أقصاه .. لم تكن عائشة وحدها في شوق إلى الحج .. هذه امرأة مؤمنة أرادت أن يحملها الحج إلى البر "امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 975. (¬2) صحيح البخاري 2 - 658. (¬3) صحيح البخاري 2 - 658.

مواقيت الحج المكانية

عنها .. أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء" (¬1) وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل بلد من البلاد يبدؤون منه حجهم وسميت هذه الأماكن بـ مواقيت الحج المكانية فالحج لا يؤدى إلا في مواقيت زمانية هي: شهر شوال وشهر ذي القعدة .. وشهر ذي الحجة. أما المواقيت المكانية فهي أماكن محددة يبدأ الحاج والمعتمر منها أو قبل أن يصلها حجه وعمرته .. وهي تحيط بمكة من جميع الجهات وتمثل نقاط مرور على الطرقات المؤدية إليها .. فإذا وصلها الحاج أو المعتمر وجب عليه خلع ثياب معينة حددها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ملابس لا تجوز في الإحرام السنة أن تكون مكونة من قطعتي قماش: إزار ورداء يلف إحداهما حول وسطه لتغطي عورته وأسفل جسمه فتكون له إزارًا .. وأما القطعة الأخرى فيديرها تحت إبطه الأيمن مغطيًا بها كتفه الأيسر وتسمى رداءًا وطريقة لف الرداء تحت الإبط الأيمن وفوق الكتف الأيسر تسمى: (الاضطباع) .. وليس لها ألوان محددة لكن قال - صلى الله عليه وسلم -: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم" (¬2) .. أما الملابس التي يحرم لبسها على ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 656. (¬2) سنده قوي رواه عبد الرزاق 3 - 429 وغيره من طرق عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وعبد الله بن خثيم صدوق من رجال مسلم: التقريب =

محظورات الإحرام

الرجال فهي التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما "قام رجل فقال: يا رسول الله .. ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تلبسوا القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس (¬1) .. إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران ولا الورس (¬2) " (¬3) أما "من لم يكن له إزار فليلبس السراويل ومن لم يكن له نعلان فليلبس خفين" (¬4) أما النساء فليس لهن ملابس معينة لكن لا يجوز للمرأة لبس القفازين ولا النقاب إذا دخلت في الحج أو العمرة .. قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" (¬5) وبعد أن يرتدي الحاج أو المعتمر ملابس الإحرام ينوي البدء والدخول في العبادة التي سافر من أجلها سواء كانت حجًا أو عمرة. والسنة أن يكون ذلك في المواقيت المكانية المحددة .. فإذا دخل في الإحرام وجب عليه الامتناع عن عدة أشياء كانت مباحة له قبل أن يحرم تسمى محظورات الإحرام ومنها باختصار: الصيد في البر لا في البحر .. لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ¬

_ = 1 - 432 وشيخه من أئمة التابعين الثقات. (¬1) هي ثياب في أعلاها غطاء للرأس. (¬2) نبات أصفر ينبت في اليمن تزين المرأة به وجهها. (¬3) صحيح البخاري 2 - 653. (¬4) صحيح البخاري 5 - 2199. (¬5) صحيح البخاري 2 - 653.

أسماء المواقيت المكانية

وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} (¬1). الخطبة والزواج والجماع .. لقوله عليه السلام "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" (¬2) وقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬3). حلق الشعر .. لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬4) أسماء المواقيت المكانية [وقَّتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأهل المدينة: ذا الحليفة (¬5) ولأهل الشام: الجحفة (¬6) ولأهل نجد: قرن المنازل (¬7) ولأهل اليمن: يلملم (¬8)] (¬9) .. ¬

_ (¬1) المائدة: 96. (¬2) صحيح مسلم 2 - 1030. (¬3) البقرة: 197. (¬4) البقرة: 196. (¬5) مكان يبعد ستة أميال أو أكثر من المدينة. (¬6) قرية قريبة من مدينة رابغ الآن. (¬7) مكان بين الطائف ومكة. (¬8) بينه وبين مكة ثلاثون ميلًا. (¬9) صحيح مسلم 2 - 838.

توقف في واد يقال له وادي العقيق

إذًا لكل جهة ميقات لكن ماذا عن الحاج والمعتمر الذي يمر بميقات غير ميقات بلاده .. وماذا عن الحاج والمعتمر الذي تكون بلاده أقرب إلى مكة من الميقات .. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تلك المواقيت لمن مر عليهن كائنًا من كان: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممّن أراد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمن أهله .. وكذا فكذلك حتى أهل مكة يهلون منها" (¬1) أي أن من كان بيته أقرب إلى مكة من اليقات يحرم من بيته حتى أن أهل مكة يحرمون من بيوتهم .. هذه بعض المعلومات التي تلقاها الصحابة قبل تحركهم إلى مكة .. وأثناء فترة الاستعداد للحج انتشر الخبر في أرجاء الجزيرة فعادت معظم تلك الوفود وقدمت إلى المدينة حشود عظيمة كلها رغبة في الحج والاقتداء بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. جابر بن عبد الله رضي الله عنه يتحدث عن تلك الأيام البهيجة فيقول: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله فخرجنا معه انطلق عليه السلام وأصحابه وقبل أن يصلوا الميقات وهو ذو الحليفة توقف في واد يقال له وادي العقيق حيث جاءه الوحي في ذلك الوادي وأمره بسنة يقول عنها عمر رضي الله عنه "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 838.

ما معنى عمرة في حجة

ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك .. وقل: عمرة في حجة" (¬1) عمرة في حجة ما معنى عمرة في حجة قبل ذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - منطلقًا قاصدًا الحج فقط تقول "عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج" (¬2) أي نوى الحج فقط لكن جبريل أتاه في واد العقيق وأمره أن يقرن العمرة بالحج ويجعلهما معًا في سفرته هذه .. ومعني القران هو: أن يؤدي العمرة فإذا انتهى منها بقي على إحرامه حتى ينتهي الحج دون فاصل بينهما .. أما المفرد فهو الذي ذهب لأداء الحج فقط دون عمرة .. إذًا لا يوجد حتى الآن إلا طريقتان أو نسكان: القِران أو الإفراد .. لن نستبق الأحداث سنواصل السفر الذي يحمل المزيد والجديد .. في الطريق كان الصحابة لأول مرة يسمعون بعمرة في وقت الحج يقول جابر رضي الله عنه: "لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة" (¬3) "حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ قال اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي .. فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ثم ركب القصواء .. حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 556. (¬2) صحيح مسلم ج:2 ص:875. (¬3) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 887 وهو حديث طويل وعظيم وشامل سأنقل منه مكتفيًا بالرمز له بـ: حديث جابر.

متى غادروا المدينة والوصول إلى الميقات

ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به" (¬1) متى غادروا المدينة والوصول إلى الميقات وماذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مغادرته .. لقد لبد عليه السلام شعره بالصمغ أو غيره حتى لا يتطاير ويدخله الغبار .. وقد قامت عائشة رضي الله عنها بتطييبه حيث يقول: "كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطوف على نسائه ثم يصبح محرمًا ينضخ طيبا" (¬2) وأشياء يتحدث عنها ابن عباس فيقول: "انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد فأصبح بذي الحليفة [صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنته أو أتى ببدنته فاشعر صفحة سنامها الأيمن ثم سالت الدم عنها وقلدها بنعلين ثم أتى راحلته فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج] ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه (¬3) وقلد بدنته (¬4) وذلك لخمس بقين من ذي القعدة" (¬5) أي قبل نهاية شهر ذي القعدة بخمسة أيام .. "فأهل بالتوحيد: ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه مسلم 2 - 887 وهو حديث طويل وعظيم وشامل سأنقل منه مكتفيًا بالرمز له بـ: حديث جابر. (¬2) صحيح البخاري 1 - 104. (¬3) أي لبى ومعني أشعر أي جرح سنامها تمييزًا لها عن بقية الإبل. (¬4) أي علق على رقبتها شيئًا يميزها وقد علق نعلين عليها. (¬5) صحيح البخاري 2 - 560 والزيادة سندها صحيح رواها أحمد 1 - 254 وغيره من طريق شعبة قال قتادة أخبرني قال سمعت أبا حسان يحدث عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وهذا السند صحيح فأبو حسان الأعرج ثقة وليس كما قال الحافظ في التقريب: 2 - 411 صدوق انظر التهذيب.

الروحاء حيث الذكريات والوعود والتشريع

لبيك اللَّهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به [والناس يزيدون: ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئًا] فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئًا منه ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته قال جابر رضي الله عنه لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة" (¬1) فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك ثم سار حتى بلغ مكانًا يبعد من المدينة ستًا وثلاثين ميلًا يقال له: الروحاء حيث الذكريات والوعود والتشريع أما الذكريات ففى ذلك الوادي زُفت أم المؤمنين صفية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد عودته من غزوة خيبر يقول أنس إن صفية: "اصطفاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه فخرج بها حتى بلغنا سد الروحاء حلت فبنى بها ثم صنع حيسًا في نطع صغير ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آذن من حولك فكانت تلك وليمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صفية" (¬2) .. أما الوعود فيقول عليه السلام: "والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًا أو معتمرًا" (¬3) وأما التشريع فيقول ابن عباس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لقي ركبًا بالروحاء فقال: مَنِ القومُ؟ ¬

_ (¬1) حدثنا جابر في صحيح مسلم والزيادة عند البيهقي 5 - 45 وغيره من الطريق نفسه وهي صحيحة. (¬2) صحيح البخاري 2 - 778. (¬3) صحيح مسلم 2 - 915.

الاشتراط

قالوا المسلمون فقالوا من أنت؟ قال رسول الله: فرفعت إليه امرأة صبيًا .. فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر" (¬1) لكن يلزم هذا الصبي أن يحج إذا بلغ لأنه غير مكلف .. فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم .. وعن النائم حتى يستيقظ .. وعن المعتوه حتى يعقل" (¬2) .. واصل عليه السلام سفره وهو يلبي مضطبعًا وتلبيته هي: "لبيك اللَّهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" (¬3). لكن ماذا عن مستوى الصوت أثناء التلبية .. يقول - صلى الله عليه وسلم - "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال يريد أحدهما" (¬4) هذا ما يقوله الحاج الذي في طريقه إلى مكة .. لكن ماذا عن: الاشتراط أي ماذا عن حاج تعرض لمشكلة ما وهو في طريقه للحج وهذه المشكلة أعاقته عن الوصول إلى مكة أو أعاقته أثناء أداء الحج فلم يتمكن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 974. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد 6 - 101 ثنا حسن بن موسى وعفان وروح قالوا ثنا حماد بن سلمة عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وله شواهد كثيرة. (¬3) صحيح البخاري ج: 2 ص: 561. (¬4) سنده صحيح رواه مالك في الموطأ 1 - 334 عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو ابن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام عن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... خلاد تابعى ثقة: التقريب 1 - 229 وتلميذه تابعي أيضًا وثقة من رجال الشيخين التقريب: 1 - 517 وتلميذ هذا الشيخ تابعى ثقة أيضًا انظر التقريب 1 - 405.

من المواصلة .. في هذه الحالة عليه أن يذبح هديًا من الغنم أو البقر أو الإبل: لأن الله سبحانه يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} لكن هنا يأتي الاشتراط مخرجًا من هذه الأزمة .. تقول عائشة رضي الله عنها: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير فقال لها: لعلك أردت الحج؟ قالت والله لا أجدني إلا وجعة فقال لها: حجي واشترطي .. قولي: اللَّهم محلي حيث حبستني" (¬1) أي أنها إذا تعرضت لمانع ما فإن إحرامها ينتهي مباشرة وتصبح في حل من إحرامها دون ذبح فدي إذا اشترطت بتلك الكلمات عند إحرامها .. امتثلت ضباعة وانطلقت مع الحجيج .. كان سيلًا بشريًا متدفقًا هادرًا كالرعد يغسل السماء والأرض من عفن الخرافة والوثنية .. رجل كان قبل عشر سنوات يفر مع رفيقه من مكة طريدًا شريدًا باحثًا عن مأوى .. واليوم يعود إلى مكة بالمهاجرين والأنصار وبالجزيرة العربية كلها .. مشهد يتمنى المرء لو تمتع به ولو للحظات .. كان بعض الصحابة قد أحضر معه هديًا من الإبل ليذبحه لله في الحج فتحرج من ركبوها واكتفى بالسير على قدميه فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - .. "فقال: اركبها .. قال: إنها بدنة .. قال: اركبها .. قال: إنها بدنة .. قال: اركبها ويلك" (¬2) وقال: "اركبها بالمعروف حتى تجد ظهرًا" (¬3) .. ركب الصحابي دابته وجاء صحابي آخر يسأل عن: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ج: 5 ص: 1957. (¬2) صحيح البخاري 5 - 2280. (¬3) صحيح مسلم ج:2 ص: 961.

حكم الهدي إذا جرح أو أصيب

حكم الهدي إذا جرح أو أصيب وذلك بعد تقليده وإشعاره .. الصحابي الذي قدم سؤاله هو ناجية الخزاعي وكان مسؤولًا عن شؤون الهدي الذي ساقه النبي - صلى الله عليه وسلم - معه "ناجية الخزاعى صاحبُ بُدْنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قلت يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن قال: انحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم خل بين الناس وبينها فيأكلوها" (¬1) لكن لا يأكلها هو أو رفاقه في الحج يقول "ابن عباس: إن ذؤيبًا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتًا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم أضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك" (¬2) اقترب السيل البشري من مكة وكان: تاريخ الوصول إلى مكة بالتحديد هو ما ذكره ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة" (¬3) أي في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة .. فيكون قد بقي على يوم عرفة خمسة أيام وهنا نزل حكم جديد فيه رحمة بهذه المجموع الغفيرة .. تقول عائشة رضي الله عنها "فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الترمذيُّ 3 - 253 وغيره من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي وهو سند صحيح. (¬2) صحيح مسلم 2 - 963. (¬3) صحيح البخاري 2 - 560.

التمتع

هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل" (¬1) أي إذا انتهى من العمرة يخلع لباس الإحرام .. وهنا نزل الوحي بنسك ثالث من أنساك الحج هو: التمتع أي أن من لم يحضر معه هديًا من البقر أو الغنم أو الإبل فله أن يكمل عمرته ثم يتحلل أي يتمتع بكل ما كان نهي عن فعله من الأشياء الجائزة قبل أن يحرم .. كالطيب ولبس القميص وغيرها ويخلع لباس إحرامه حتى يأتي اليوم الثامن من ذي الحجة وهو الذي سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - (يوم التروية) .. وقد أثار هذا الأمر تساؤل بعض الصحابة لعدم فعل النبي له .. يقول جابر رضي الله عنه: إن "النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردًا فقال لهم؛ أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالًا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة .. فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم .. ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله .. ففعلوا" (¬2) أي حتى أذبح الهدي .. ولعل في إدخال العمرة في أشهر الحج ضربة موجعة لبقايا الشرك الذي تسلل إلى الحج قبل الإِسلام حيث كان العرب قبل الإِسلام "يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض" (¬3) هذا عن الرجال فـ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 611. (¬2) صحيح البخاري 2 - 568. (¬3) صحيح البخاري 2 - 567 عن ابن عباس.

ماذا عن النساء في دورتهن

ماذا عن النساء في دورتهن ماذا عن عائشة وبقية النساء اللواتي تمر بهن دورتهن الشهرية (الحيض) .. هل هناك داع للخوف من ذوات الحج والعمرة عليهن .. تقول رضي الله عنها: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فأهللنا بعمرة .. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا .. فقدمت معه مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة .. فشكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: انقضي رأسك وامتشطى وأهلي بالحج ودعي العمرة ففعلت" (¬1) اتضحت الصورة تمامًا ونحن على أبواب مكة حيث بات النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقف عن التلبية وبات في مكان يسمى بـ: ذي طوى ودخلها صبحًا لكنه قام بـ: الاغتسال قبل دخول مكة حيث "كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله" (¬2) من أي مكان دخل مكة وفي أي وقت يقول "ابن عمر رضي الله عنهما: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء ويخرج من الثنية السفلى" (¬3) وهو ما ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1596. (¬2) صحيح البخاري 2 - 570. (¬3) صحيح البخاري 2 - 571.

ما هو أول شيء فعله

تؤكده عائشة رضي الله عنها بقولها: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها" (¬1) توجه عليه السلام نحو بيت الله الحرام .. فـ ما هو أول شيء فعله كان "أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ" (¬2) أي أنه "توضأ ثم طاف" (¬3) لأن "الطواف صلاة" (¬4) ولذلك لم يحل لعائشة أن تطوف لأنها حائضى .. تقول رضي الله عنها "دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقال ما يبكيك قلت لوددت والله أني لم أحج العام قال لعلك نفست قلت نعم قال فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" (¬5) أي أنها تمارس كل مناسك الحج إلا الطواف حول الكعبة .. ثم توجه - صلى الله عليه وسلم - نحو الكعبة وبالتحديد نحو الحجر الأسود .. حيث يقول جابر رضي الله عنه متحدثًا عن: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 918. (¬2) صحيح مسلم 2 - 906. (¬3) صحيح البخاري 2 - 584. (¬4) سنده صحيح رواه عبد الرزاق في المصنف 5 - 495 عن ابن جريج قال: أخبرني الحسن ابن مسلم عن طاووس عن رجل قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابن جريج لم يدلس والحسن وطاووس من التابعين الثقات .. انظر التقريب 1 - 171/ 377 وله شاهد عن ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا. (¬5) صحيح البخاري 1 - 117.

الطواف

الطواف " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا" (¬1) أي جعل الكعبة والحجر عن يساره .. وكان في طوافه لا يستلم من الكعبة إلا الحجر الأسود والركن اليماني .. وكان يطوف حول الكعبة سبعة أشواط يرمل في أول ثلاثة أشواط أي يسير سيرًا بين الركض والمشي .. ثم يمشي مشيًا عاديًا في بقية .. يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني" (¬2) والاستلام يكون باليد .. كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بتقبيل الحجر الأسود فقط لكنه لم يقبل الركن اليماني .. ولذلك توجه عمر نحو الحجر الأسود ممتلئًا بالتوحيد والإخلاص لله وخاطبه بلغة المتبع للوحى لا المبتدع .. بلغه حفظها لنا الصحابي عبد الله بن سرجس رضي الله عنه فقال "رأيت الأصلع يعني عمر بن الخطاب يقبل الحجر ويقول: والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك" (¬3) أما ابنه عبد الله فكان "يستلم الحجر بيده .. ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله" (¬4) إذًا فلدينا حتى الآن ثلاث سنن حول الحجر الأسود: الاستلام باليد فقط .. والاستلام باليد ثم تقبيل اليد .. وتقبيل الحجر مباشرة ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 893. (¬2) صحيح مسلم 2 - 924. (¬3) صحيح مسلم 2 - 925. (¬4) صحيح مسلم 2 - 924.

هل هناك أدعية مخصوصة أثناء الطواف

هذا هو الطواف .. لكن: هل هناك أدعية مخصوصة أثناء الطواف الطواف بحد ذاته عبادة والعبادة في الإِسلام لا بد أن تكون وحيًا نقيًا فقط وإلا فقدت كوفا عبادة لأنها لا تستند إلى دليل .. والصحابة لم ينقلوا لنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا صحيحًا يجعل للطواف أذكارًا خاصة به .. لذلك فالأمر متسع لكل الأذكار من قراءة القرآن إلى الدعاء إلى التسبيح والتهليل بل وحتى الصمت .. أما الكلام في الطواف فجائز إذا كان قليلًا لقوله عليه السلام: "إنما الطواف صلاة فإذا طفتم فأقلوا الكلام" (¬1) طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة أشواط فماذا فعل: بعد الطواف بعد أن انتهى توجه عليه السلام مباشرة نحو مكان يقع أمام باب الكعبة والحجر بمسافة قصيرة يسمى: مقام إبراهيم .. وصلى خلفه ركعتين. يقول جابر رضي الله عنه: "ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبن البيت" (¬2) و"كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج" (¬3) نحو جبل الصفا .. وبذلك انتهى من الطواف تمامًا ليبدأ في ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه عبد الرزاق 5 - 495 وقد تم تخريجه قبل أربعة أحاديث ولم أجد سندًا صحيحًا لذكر معين بين الركنين. (¬2) جزء من حديث جابر عند مسلم 2 - 887. (¬3) جزء من حديث جابر عند مسلم 2 - 887.

السعي بين الصفا والمروة

السعي بين الصفا والمروة أي المشى بين جبلي الصفا والمروة. يقول جابر رضي الله عنه: "ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .. لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .. ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى" (¬1) أي ركض عندما نزل بطن الوادي .. وقد رأته إحدى الصحابيات فقالت: "أبصرت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة يقول لا يقطع الأبطح إلا شدًا" (¬2) وقد أشير لبطن الوادي بعلامتين بعد ذلك .. وقد سعى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة أشواط .. مقدار كل شوط هو مقدار ما بين الجبلين .. من الصفا والمروة شوط .. ومن المروة إلى الصفا شوط .. وبذلك تكون نهاية الشرط السابع والآخير عند المروة وتنتهي العمرة بعد إكمال الشوط السابع .. ولما أكمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته شوط السعي السابع ذكرهم بما قاله من قبل .. وهو أن من لم يحضر معه غنمًا أو إبلًا أو بقرًا فعليه أن يقصر شعره ويخلع ¬

_ (¬1) جزء من حديث جابر عند مسلم 2 - 887. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد 6 - 404 وغيره من طريق هشام الدستوائي عن بديل بن ميسرة عن صفية بنت شيبة عن أم ولد شيبة وهشام وبديل ثقتان وصفية صحابية وقال العجلي: تابعية ثقة. معرفة الثقات 2 - 454.

السكن في الحجون

لباس إحرامه ويتمتع بكل المباحات حتى يأتي اليوم الثامن .. نحن الآن في اليوم الرابع وقد "كان آخر طوافه على المروة فقال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله .. ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين .. لا بل لأبد أبد" (¬1) قال جابر: "لم يكن بيننا وبن عرفة إلا خمس" (¬2) "فقام النبي- صلى الله عليه وسلم - فينا فقال: قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا فحللنا وسمعنا وأطعنا" (¬3) فأحلوا وخلعوا ثياب إحرامهم وتطيبوا وفعلوا ما كان محظورًا عليهم أثناء الإحرام. نفذ الصحابة ما طلب منهم فأحل من لم يُحْضِر الهدي وبقي النبي - صلى الله عليه وسلم - على إحرامه هو والصحابة الذين ساقوا الهدي معهم ثم توجه - صلى الله عليه وسلم - لـ: السكن في الحجون مكان في أعلى مكة وهو ذلك المكان الذي خاطب فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الجن قبل الهجرة إذًا فهو قد "نزل بأعلى مكة عند الحجون وهو مهل بالحج ولم يقرب الكعبة بعد طوافه" (¬4) وكانت "فاطمة رضي الله عنها ممّن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت" (¬5) وقد استغربت أم المؤمنين حفصة رضي ¬

_ (¬1) حديث جابر عند مسلم 2 - 888. (¬2) صحيح مسلم 2 - 883. (¬3) صحيح مسلم 2 - 883. (¬4) صحيح البخاري 2 - 560. (¬5) حديث جابر عند مسلم.

علي بن أبي طالب وأبا موسى يصلان من اليمن

الله عنها تصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصرفات بعض صحابته يقول أخوها "ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها قالت: يا رسول الله .. ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر" (¬1) أي حتى يذبح الهدي الذي أحضره معه .. أثناء ذلك وبينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجون شاهد الصحابة: علي بن أبي طالب وأبا موسى يصلان من اليمن حيث كانا قد علما بتحركه عليه السلام لأداء الحج فلحقا به .. وكان لكل واحد منهما حالة تختلف عن الآخر فقد "قدم علي من اليمن ببدن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة رضي الله عنها ممّن حل ولبست ثيابًا صبيغًا واكتحلت فأنكر ذلك عليها .. فقالت: إن أبي أمرني هذا .. قال: فكان علي يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشًا (¬2) على فاطمة للذي صنعت مستفتيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه .. فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها .. فقال: صدقت صدقت .. ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللَّهم إني أهلّ بما أهلّ به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة .. فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي" (¬3) يقول جابر رضي الله عنه: "لم يكن مع أحد منا هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة وجاء علي من اليمن معه الهدي فقال أهللت بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬4) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 568. (¬2) أي يريد من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاتبها. (¬3) حديث جابر الصحيح عند مسلم. (¬4) صحيح البخاري 6 - 2642.

جاء اليوم الثامن من ذي الحجة

أما أبو موسى فيقول رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنى إلى اليمن فوافقته في العام الذي حج فيه فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا موسى كيف قلت حين أحرمت؟ قلت: لبيك إهلالًا كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فقال: هل سقت هديًا؟ فقلت: لا .. قال: فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل" (¬1) "ففعلت حتي مشطت لي امرأة من نساء بني قيس" (¬2) وبذلك بقي علي بن أبي طالب في إحرامه لأنه ساق الحيوانات (الهدي) معه .. وخلع أبو موسى إحرامه بعد العمرة لأنه لم يحضر معه هديًا .. أي أن عليًا كان قارنًا .. أما أبو موسى فأصبح متمتعًا مثل جابر الذي يقول: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج معنا النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يكن معه هدي فليحلل قلنا: أي الحل؟ قال: الحل كله. قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب" (¬3) واستمر الوضع على هذه الحال حتى: جاء اليوم الثامن من ذي الحجة وهو المسمى بـ (يوم التروية) وهو بداية أيام الحج .. يقول جابر: إنه لما "كان يوم التروية أهلوا بالحج" (¬4) حيث غادر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجون متجهًا بالجموع نحو (منى) لقضاء يوم التروية كاملًا فيها يقول جابر رضي الله عنه: "فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 896. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1579. (¬3) صحيح مسلم 2 - 882. (¬4) صحيح البخاري 2 - 562.

وجاء اليوم التاسع (يوم عرفة)

الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر" (¬1) .. كان يومًا جميلًا حافلًا بذكر الله .. لكنه كان يومًا حزينًا بالنسبة لعائشة التي يتحدث جابر بن عبد الله عن بكائها ذلك اليوم فيقول: "أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها فوجدها تبكي .. فقال ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن .. فقال: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت" (¬2) كما فعل الحجاج ودخلت معهم الحج يوم التروية حيث يسن أن يقضي الحجاج ذلك اليوم في منى .. وليس هناك أذكار مخصوصة أو أفعال مخصوصة في ذلك اليوم سوى التزود بالطاعات ومحاولة ضبط النفس عن الانفعال في تلك الأيام التي يشتد فيها الزحام وأحيانًا العطش والتعب .. فالحج جهاد ومجاهدة للانفعالات وردود الأفعال البشرية غير المحمودة. وجاء اليوم التاسع (يوم عرفة) فبعد أن صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فجر ذلك اليوم في منى أمر بعض صحابته ببناء خيمة صغيرة في مكان في عرفة يسمى نمرة ثم تحرك هو وأصحابه نحو عرفة وكان الصحابة بين: التكبير والتلبية يوم عرفة فقد سأل رجل أنس بن مالك: عن الذكر في الطريق "من منى إلى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 889. (¬2) صحيح مسلم 2 - 881.

الخطبة يوم عرفة

عرفة كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه" وتوقف عند تلك الخيمة وبقي تحتها حتى مالت الشمس من فوق الرؤوس نحو الغروب وهو وقت الظهر أو ما يسمى بالزوال .. يقول جابر رضي الله عنه: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها" (¬1) حيث خطب الناس هناك .. وكانت الخطبة يوم عرفة قصيرة ومختصرة رغم أن الخطيب كان أبلغ الناس وأكثرهم تأثيرًا وهو الذي لا ينطق عن الهوى .. ورغم أن الناس لن يملوا من حديثه .. إلا أنه سن سنته بقصر الخطبة يقول جابر "حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعًا في بين سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع وأول ربًا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله. ¬

_ (¬1) حديث جابر عند مسلم 2 - 890.

صلاة الظهر والعصر في عرفة

فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله .. ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح .. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني (¬1) فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس. اللَّهم اشهد اللَّهم اشهد ثلاث مرات" (¬2) صلاة الظهر والعصر في عرفة يقول جابر "ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا" (¬3) الوقوف عن جبل عرفة يقول جابر "ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص" (¬4) .. وقبل أن نغادر عرفة نود أن نعرف: ¬

_ (¬1) ستسألون عني يوم القيامة أو في القبر. (¬2) حديث جابر عند مسلم. (¬3) حديث جابر عند مسلم. (¬4) حديث جابر عند مسلم.

أي الأماكن من عرفة يجوز الوقوف بها

أي الأماكن من عرفة يجوز الوقوف بها يقول عليه السلام: "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف" (¬1) أما عن: فضل يوم عرفة فتقول عائشة: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة .. وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ " (¬2) .. وقد قدم أناس من أهل نجد يوم عرفة متوجهين بسؤال عن الحج .. ذلك السؤال الذي حملت إجابته: أهمية الوقوف بعرفة بالنسبة للحجاج يقول الصحابي: عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه: "قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا بعرفات فأقبل أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال الحج يوم عرفة من أدرك قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج" (¬3) أي أن من لم يقف بعرفة قبل طلوع الفجر من هذه الليلة فقد فاته الحج .. ومن وقف بعرفة ولو ساعة من نهار أو ليل فقد أدرك الحج .. وبعد أن غابت الشمس ركب عليه السلام ناقته لـ: مغادرة عرفة نحو مزدلفة ولمزدلفة اسم آخر هو: (جمع) يقول جابر رضي الله عنه "وأردف ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 893. (¬2) صحيح مسلم 2 - 982. (¬3) سنده صحيح رواه البيهقي 5 - 152 وغيره من طرق عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن ابن يعمر الديلى وبكير بن عطاء الليثى تابعى ثقة من رجال التقريب 1 - 108.

أسامة خلفه ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة .. السكينة كلما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة" (¬1) ولما سئل أسامة بن زيد رضي الله عنه عن طريقة سير النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو مزدلفة: "كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع حين دفع قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص" (¬2) أي كان يسير ببطء في المكان الضيق حتى لا يتضايق من وراءه من الزحام فإذا وجد طريقًا فسيحًا أنطلق .. ويقول: "ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءه زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع" (¬3) أي ليس البر أن ترغموا الرواحل على السرعة .. واستمر الحال على ذلك حتى توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطريق .. وعن ذلك التوقف يقول رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد رضي الله عنه: "دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت: الصلاة يا رسول الله .. فقال: الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلى ولم يصل بينهما" (¬4) ¬

_ (¬1) حديث جابر. (¬2) صحيح البخاري 2 - 600. (¬3) صحيح البخاري 2 - 601. (¬4) صحيح البخاري 1 - 65.

أهمية الوقوف بمزدلفة

في تلك الأثناء وصل رجل من جبل طي أنهكه التعب وأنهك راحلته .. حيث كان يقوم بعمل غريب ومرهق جدًا رغبة في إدراك الحج .. كان لا يمر بجبل من جبال مكة إلا وقف عليه حتى انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مزدلفة .. عندها طرح أسئلته التي بينت: أهمية الوقوف بمزدلفة كان اسم ذلك الصحابي: "عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائيّ قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة فقلت: يا رسول الله جئت من جبلي طيء والله ما جئت حتى أتعبت نفسي وأنضيت راحلتي وما تركت جبلًا إلا وقفت عليه .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شهد معنا هذه الصلاة وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه وقضى تفثه" (¬1) إذًا فالنبي عليه السلام "وقف بالمزدلفة وقال: وقفت ها هنا والمزدلفة كلها موقف" (¬2) ثم نادى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس ومن معه من الصغار والنساء الضعفة وأمرهم أن يتوجهوا من الليل نحو منى ليرموا الجمرات وذلك لشدة الزحام المتوقعة غدًا .. ولكنه نبههم إلى عدم رمى الجمرات قبل طلوع الشمس .. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا ممّن قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله" (¬3) ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحميد 2 - 400 وغيره من طرق عن الشعبي قال سمعت عروة بن مضرس والشعبي تابعي إمام ثقة معروف. (¬2) سنده صحيح رواه ابن خزيمة 4 - 271 وغيره من طرق عن جعفر ثنا أبى قال أتينا جابر ابن عبد الله وهذا هو سند مسلم. (¬3) سنده صحيح رواه أبو داود 2 - 194 حدثنا أحمد بن حنبل ثنا سفيان أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس ... وعبيد الله تابعى ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 540.

التوجه نعو المشعر الحرام

وقال ابن عباس: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم ضعفاء أهله بغلس ويأمرهم يعني لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس" (¬1) في تلك الليلة لم يقم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتهجد حيث "اضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة" (¬2) ثم نهض قبل أن يسفر الجو لـ: التوجه نعو المشعر الحرام والمشعر الحرام عبارة عن جبل في منطقة مزدلفة يقول جابر رضي الله عنه: "ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا" (¬3) وعن موقفه في مزدلفة يقول عليه السلام: "وقفت ها هنا وجمع كلها موقف" (¬4) وبعد أن أسفر الجو توجه عائدًا: إلى منى لرمي جمرة العقبة يقول جابر رضي الله عنه: "فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل ابن عباس وكان رجلًا حسن الشعر أبيض وسيمًا فلما دفع رسول ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه أبو داود 2 - 194 والنسائيُّ في الكبرى 2 - 437 وغيرهما من طرق عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عباس وهو سند صحيح لولا عنعنة حبيب وله شاهد عند ابن ماجه 2 - 1007 من طريق الحسن العربي عن ابن عباس وفيه إرسال وعند ابن أبي شيبة 3 - 234 وغيره من طريق المسعودي عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس والمسعودي فيه ضعف. (¬2) حديث جابر عند مسلم. (¬3) حديث جابر عند مسلم. (¬4) صحيح مسلم 2 - 893.

مر بطريقه بوادى محسر

الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى" (¬1) مر بطريقه بوادى محسر وهو الوادي الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل ولذلك أسرع بالسير حتى تجاوز الوادي وهو مستمر في التلبية .. يقول جابر رضي الله عنه: "أتى بطن محسر فحرك قليلًا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى" (¬2) وصل إلى منى عندها توقف لالتقاط الحصى .. لكن ما هو حجم الحصى وهل يزيد الأجر كما كبر حجم الحصاة الإجابة بالعكس .. يرويها لنا ابن عباس الذي أوصاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقاط الحصى وحدد له: حجم الحصى قال ابن عباس: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو واقف على راحلته: هات القط لي فلقطت له حصيات وهي حصا الخذف (¬3) فلما وضعتهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا .. بأمثال هؤلاء فارموا .. ¬

_ (¬1) حديث جابر عند مسلم. (¬2) حديث جابر عند مسلم. (¬3) الرمي بالحصى الصغار بأطراف الأصابع لسان العرب 9 - 40.

توقف عن التلبية عند الرمي

بأمثال هؤلاء فارموا .. وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" (¬1) ومن الغلو في الدين الرمي بأحجار كبيرة أو بالأحذية أو أي شيء غير حصى الخذف الصغير .. أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بسنته ثم "أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف رمى من بطن الوادي" (¬2) كان عليه السلام يكبر فقط يعني يقول: الله أكبر لا يزيد ولا ينقص عليها شيء .. وهذا معناه أنه: توقف عن التلبية عند الرمي كما يقول رديفه الفضل بن عباس رضي الله عنهما: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة" (¬3) وهذا معناه أنه ترك التلبية عند بدء الرمي مباشرة لأنه انشغل بالتكبير أثناء الرمي .. "فرمى الجمرة بسبع حصيات وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه" (¬4) وقد كان عليه السلام يرمي جمرة العقبة راكبًا ويقدم لأمته صورة من صور التلاحم والتواضع والسكينة وضبط النفس في شدة الزحام التي ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن حبان - موارد الظمآن 1 - 249 وأبو يعلى 4 - 316 وغيرهما من طرق عن عوف الأعرابي عن زياد بن حصين قال حدثنى أبو العالية قال حدثني ابن عباس وأبو العالية هو التابعيّ الثقة رفيع بن مهران التقريب 1 - 252 وتلميذه زياد بن الحصين ثقة من رجال مسلم التقريب 1 - 267 وعوف الأعرابي من رجال الشيخين التقريب 2 - 89. (¬2) حديث جابر عند مسلم. (¬3) صحيح مسلم 2 - 931. (¬4) صحيح مسلم ج:2 ص:943.

عظمة هذا النبي يوم الرمي

تحتاج إلى هذا المستوى الرفيع من التعامل والأخلاق والقيادة .. الصحابة يروون: عظمة هذا النبي يوم الرمي يقول أحد الصحابة رضي الله عنه "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر على ناقته صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك" (¬1) أي أن الناس لا يُضربون ولا يُدفعون أثناء مروره بل لا يقال لهم أفسحوا الطريق أو ابتعدوا كي يمر .. كان جزءًا من أمته يسبح في مشاعرها وتسبح في مشاعره .. يمتع ناظريه بهم ويمتعون أنظارهم به .. صحابية أخرى تدعى: أم الحصين "تقول حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقول به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولًا كثيرًا ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا" (¬2) ويقول جابر رضي الله عنه: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" (¬3) ثم تحرك عليه السلام متوجهًا ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه ابن خزيمة 4 - 278 والحاكم 1 - 638 والترمذيُّ 3 - 247 وغيرهم من طرق عديدة عن أيمن بن نابل أخبرني قدامة بن عبد الله .. وأيمن بن نابل تابعي حسن الحديث من رجال البخاري .. انظر التقريب 1 - 88. (¬2) صحيح مسلم 2 - 944. (¬3) صحيح مسلم 2 - 943.

نحو المذبح

نحو المذبح لينحر هديه بيده ولذلك سمي هذا اليوم بـ (يوم النحر) ولما وصل عليه السلام قام بذبح ثلاث وستين منها بيده ثم ترك لعلي رضي الله عنه الباقي ليذبحه .. يقول جابر رضي الله عنه: "ثم انصرف إلى النحر فنحر ثلاثًا وستين بيده" (¬1) ثم بين لهم: سنته في نحر الإبل يقول ابن عمر رضي الله عنه عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في نحر هديه من الإبل: "كان هو ينحر هديه بيده يصفهن قيامًا ويوجههن إلى القبلة ثم يأكل ويطعم" (¬2) ولذلك لما شاهد ابن عمر رجلًا ينحر إبله وقد أناخها على الأرض قال له: "ابعثها قيامًا مقيدة سنة محمَّد - صلى الله عليه وسلم -" (¬3) أما: سنته في ذبح الغنم فقد بينها عليه السلام قبل ذلك في المدينة يقول أنس رضي الله عنه "ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده" (¬4) أي وضع قدمه على جنبها و"يقول باسم الله والله أكبر" (¬5) ¬

_ (¬1) حديث جابر عند مسلم. (¬2) سنده صحيح رواه مالك في الموطأ 1 - 379 عن نافع عن عبد الله بن عمر وهذا سند كالذهب. (¬3) صحيح البخاري 2 - 612. (¬4) صحيح البخاري 5 - 2113. (¬5) صحيح مسلم 3 - 1557.

السماحة في مكان الذبح

وقال رجل لـ "ابن عباس رضي الله عنهما: قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} قال: إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها ثم قل: الله أكبر الله أكبر منك ولك .. ثم سم .. ثم انحرها .. قلت: وأقول ذلك في الأضحية؟ قال: والأضحية" (¬1) "ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها" (¬2) ثم بين لأصحابه: السماحة في مكان الذبح فقال: "نحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم" (¬3) أي اذبحوا في أماكن إقامتكم في منى دون التكلف للذهاب إلى المذبح. أما عن الاشتراك في البقر أو الإبل فيقول جابر رضي الله عنه: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة" (¬4) "فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة" (¬5)، ثم أرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى التيسير في أمر لحوم الهدي فبعد أن كانوا لا يأكلون لحوم الهدي إلا خلال ثلاثة أيام هى أيام منى سمح لهم بالأكل .. بل بالتزود من ذلك اللحم وأخذه معهم إلى ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحاكم 2 - 422 وغيره عن الأعمش ومنصور وغيرهما عن أبي ظبيان عن ابن عباس. وأبو ظبيان تابعي كبير وثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 182. (¬2) حديث جابر عند مسلم. (¬3) صحيح مسلم 2 - 893. (¬4) صحيح مسلم 2 - 955. (¬5) صحيح مسلم 2 - 955.

ديارهم وخلال أسفارهم .. يقول جابر: "كنا لا نمسك لحوم الأضاحى فوق ثلاث فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ونأكل منها يعني فوق ثلاث" (¬1) ويجوز لمن شاء أن يأخذ من ذلك اللحم ما شاء إذا أذن صاحبه فقد قال أحد الصحابة الذين حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يذبح واسمه: "عبد الله بن قرط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر وهو الذي يليه .. فقدمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن (¬2) إليه بأيتهن يبدأ فلما وجبت جنوبهم تكلم بكلمة خفية لم أفهمها فقلت للذي يليني: ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: من شاء اقتطع" (¬3) وقد كان ذلك السلوك الكريم من النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثرًا بقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} (¬4) وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجاته بلحم بقر كان قد ذبحه عنهن .. تقول عائشة رضي الله عنها: "دخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قال: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه" (¬5) لكن ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3 - 1562. (¬2) معجزة للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهي أن هذه الحيوانات يسرن نحوه. (¬3) سنده صحيح رواه البيهقي 7 - 288 وغيره عن ثور بن يزيد عن راشد بن سعد عن عبد الله بن لحي عن عبد الله بن قرظ. وعبد الله بن لحي مخضرم ثقة: التقريب 1 - 444 وتلميذه راشد بن سعد تابعي ثقة: التقريب 1 - 240 وثور بن يزيد ثقة ثبت: التقريب 1 - 121. (¬4) الحج: 37. (¬5) صحيح البخاري 2 - 611.

ماذا عن الذي لا يستطيع النحر؟

ماذا عن الذي لا يستطيع النحر؟ لفقره مثلًا .. الحجاج ثلاثة أنواع: حاج مفرد نوى الحج فقط فليس عليه أن يذبح .. وحاج قارن أحضر معه هديه وانتهى أمره .. والحاج الثالث هو المتمتع وعليه ذبح هدي فإذا عجز عن الذبح لظرف من الظروف فعليه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده لأن الله سبحانه يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} (¬1). هذه الآيات التي تعلم بعض أحكام الحج توحي ببعض مكاسبه - ضبط النفس والتحكم في الغرائز المتوثبة والامتناع عن الانتصار لغرور الذات والتفوق الواهم .. آيات تنثر على دروب الحج عطورًا وتغمر أجواءه بنسيم بارد: حسن الخلق وحسن الجوار والإيثار .. ومن الأشياء التي تقدم للحاج المساعدة في أداء ذلك السلوك الجميل التزود بالمال والمركب والأمتعة التي تجعل الرحلة أكثر راحة والرفقة أكثر متعة .. فقد "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ} " (¬2) إذًا فقد أرسل عليه السلام لنسائه اللحم ثم نادى حلاقه ليقوم بـ: ¬

_ (¬1) الحج 196 - 197. (¬2) صحيح البخاري 2 - 554.

الحلق بعد النحر

الحلق بعد النحر فبعد أن "انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس وقال بيده عن رأسه فحلق شقه الأيمن" (¬1) لقد "ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر فقال: احلق .. فحلقه .. فأعطاه أبا طلحة .. فقال: أقسمه بين الناس" وقد كان بيت أنس بن مالك أسعد الناس بشعره - صلى الله عليه وسلم - .. فهو لم يعط أبا طلحة فقط .. بل أعطى زوجته أم سليم وهي أم أنس الذي يقول: "وزعه الشعرة والشعرتين بين الناس" (¬2) "ثم أشار إلى الحلاق وإلى الجانب الأيسر فحلقه فأعطاه أم سليم" (¬3) ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهم اغفر للمحلقين قالوا: يا رسول الله .. وللمقصرين قال: اللَّهم اغفر للمحلقين قالوا: يا رسول الله .. وللمقصرين قال: اللَّهم اغفر للمحلقين قالوا: يا رسول الله .. وللمقصرين قال: وللمقصرين" (¬4) أما النساء فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير" (¬5) ثم توجه - صلى الله عليه وسلم - إلى عائشة لتطيبه وهذا يعني أنه قد أبيح له الطيب ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 947. (¬2) صحيح مسلم 2 - 947. (¬3) صحيح مسلم 2 - 947. (¬4) صحيح مسلم 2 - 946. (¬5) سنده صحيح رواه الدارمى 2 - 89 وغيره من طريق ابن جريج أخبرني عبد الحميد بن جبير عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن بن عباس مرفوعًا .. وعبد الحميد تابعى ثقة: التقريب 2 - 467 والبقية صحابة.

خطب الناس يوم النحر

وانتهى من الإحرام .. تقول رضي الله عنها: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف وبسطت يديها" (¬1) وتقول: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت" (¬2) ومعنى يفيض أي يطوف بالبيت طوافًا آخر يسمى طواف الإفاضة .. وبعد أن تطيب - صلى الله عليه وسلم -: خطب الناس يوم النحر وخاطب فيهم إيمانهم بالله .. خاطب فيهم هذا الصفاء وهذه الأخوة الرائعة آملًا أن تستمر دون منغصات .. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض .. السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم ثلاث متواليات: ذو القعدة .. وذو الحجة والمحرم .. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .. أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم .. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم .. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس البلدة؟ قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم .. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 624. (¬2) صحيح مسلم 2 - 847.

لا حرج

هذا .. في بلدكم هذا .. في شهركم هذا .. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم .. ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالًا يضرب بعضكم رقاب بعض .. ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه .. ثم قال: ألا هل بلغت .. ألا هل بلغت" (¬1) وبعد أن انتهى عليه السلام من خطبته سأله بعض الصحابة عن أشياء كانت الإجابة عليها كلها واحدة هي: لا حرج يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما "إنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم النحر فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا ثم قام آخر فقال كنت أحسب أن كذا قبل كذا" (¬2) لقد "وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته فطفق ناس يسألونه فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل الرمي؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فارم ولا حرج وطفق آخر يقول: إني لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر؟ فيقول: انحر ولا حرج .. فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افعلوا ذلك ولا حرج" (¬3) ثم: توجه عليه السلام لمكة لأداء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5 - 2110 وبعد كلمة وأموالكم قال الراوي: "قال محمَّد وأحسبه قال". (¬2) صحيح البخاري 2 - 619. (¬3) صحيح مسلم 2 - 948.

طواف الإفاضة

طواف الإفاضة يقول جابر رضي الله عنه: "ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت" (¬1) .. ومعنى أفاض أي طاف طوافًا يسمى طواف الإفاضة وقد كان عليه السلام في طوافه ذلك راكبًا لشدة الزحام كما، تقول عائشة رضي الله عنها: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس" (¬2) أما جابر فيعتقد أن هناك سببًا آخر هو تعليم الناس المناسك .. يقول رضي الله عنه: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشموه" (¬3) .. وهنا يتساءل المسلم كيف يستلم عليه السلام الحجر وهو راكب على بعير .. والإجابة عند ابن عباس رضي الله عنهما الذي يقول: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت وهو على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر" (¬4) سألنا الصحابي أبا الطفيل رضي الله عنه ما هذا الشىء الذي بيده فقال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن" (¬5) والمحجن هو العصا المعوجة الرأس ويسمى الصولجان أيضًا .. لكن ماذا عن الأشخاص ضعيفي البنية الذين لا يستطيعون الزحام وشدته .. ها هي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها تتوجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 619. (¬2) صحيح مسلم 2 - 927. (¬3) صحيح مسلم 2 - 927. (¬4) صحيح البخاري 2 - 588. (¬5) صحيح مسلم 2 - 927.

التوجه نحو بئر زمزم للشرب منه

يصلي داخل المسجد لتسأله عن طوافها وضعفها وتقول: "شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي .. فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة قالت: فطفت" (¬1) وطافت فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفية وبقية أمهات المؤمنين حتى عائشة التي كانت سعيدة أكثر من غيرها بهذا اليوم .. فقد طهرت فيه من حيضها وأصبح بإمكانها الطواف بالبيت بعد أن أدت مع الحجيج مناسك الحج كلها عدا الطواف .. وإذا كانت عائشة قد طهرت وطافت فإن صفية قد طافت ثم أصابها الدم بعد طوافها وعن ذلك تقول عائشة رضي الله عنها "حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية .. فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرجل من أهله فقلت: يا رسول الله .. إنها حائض قال: حابستنا هي .. قالوا: يا رسول الله .. أفاضت يوم النحر .. قال: اخرجوا" (¬2) ويعني بذلك أنها لو حاضت قبل طواف الإفاضة لوجب عليها أن لا تسافر حتى تطوف طواف الإفاضة .. لكنها إذا أدت طواف الإفاضة فعليها إكمال باقي مناسك حجها ثم السفر دون حاجة إلى طواف الوداع قبل مغادرة مكة .. أكمل النبي - صلى الله عليه وسلم - طوافه وصلى ركعتي الطواف ثم قام بـ: التوجه نحو بئر زمزم للشرب منه يقول جابر: "فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم .. فناولوه دلوًا فشرب منه" (¬3) ثم توجه عليه السلام إلى منى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 927. (¬2) صحيح البخاري 2 - 618. (¬3) حديث جابر عند مسلم.

العودة بعد الإفاضة إلى منى

العودة بعد الإفاضة إلى منى يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهربمنى" (¬1) "فكان ابن عمر يفيض يوم النحر ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله" (¬2) عاد - صلى الله عليه وسلم - إلى منى ليمضي بقية أيام الحج في منى وتسمى هذه الأيام الباقية: "أيام التشريق" وهي: اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة .. وخلال تلك الأيام يجب على الحاج أن يبيت بمنى لكن يجوز له التحرك خارج منى وزيارة الكعبة لكن مبيته ونومه يجب أن يكون في منى .. وخلال تلك الأيام أيضًا يجب على الحاج أن يرمي الجمرات الثلاث يوميًا كل جمرة بسبع حصيات .. ووقت الرمي يختلف عن وقت الرمي يوم النحر يقول جابر رضي الله عنه: "رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس" (¬3) أي أن رمي أيام التشريق يكون بعد تحرك الشمس من منتصف السماء نحو الغروب سنته عليه السلام وطريقته في الرمي: هي أنه يأتي للجمرة الأولى وهي الصغرى فيرميها بسبع حصيات يقول بعد كل رمية: الله أكبر .. فإذا انتهى من الرمي تحرك عن يمينه ثم استقبل القبلة ورفع يديه ودعا طويلًا ثم يتحرك نحو الجمرة الوسطى ثم يرميها بسبع حصيات يكبر بعد كل ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2 - 950. (¬2) صحيح مسلم 2 - 945. (¬3) صحيح مسلم 2 - 945.

الاكتفاء بالرمي يومين فقط

حصاة .. ثم يتحرك عن يساره ويستقبل القبلة ويدعو دعاءً طويلًا رافعًا يديه .. ثم يتحرك نحو جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات ثم يغادرها دون أن يقف عندها .. فابن عمر رضي الله عنهما "كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلًا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلًا ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلًا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله" (¬1) وذلك لمدة ثلاثة أيام هي أيام التشريق .. لكن من الممكن: الاكتفاء بالرمي يومين فقط وذلك إذا تمكن الحاج من مغادرة حدود منى قبل أن تغرب الشمس في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة لقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)} (¬2) ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: "من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد" (¬3) لكن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 623. (¬2) البقرة: 203. (¬3) سنده صحيح رواه مالك 1 - 407: عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: فنافع تابعى إمام ثقة وهو مولى ابن عمر.

هل المبيت في مني واجب على كل الحجيج

هل المبيت في مني واجب على كل الحجيج النبي - صلى الله عليه وسلم - سمح للمضطرين وأصحاب الأعذار في المبيت خارج منى فقد "استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له" (¬1) والسقاية هي تقديم الشراب إكرامًا لضيوف بيت الله .. يقول ابن عباس رضي الله عنهما عن سقايتهم: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس: يا فضل .. اذهب إلى أمك فأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها .. فقال: اسقني .. قال: يا رسول الله .. إنهم يجعلون أيديهم فيه قال: اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح .. ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه يعني عاتقه وأشار إلى عاتقه" (¬2). وكان العباس يقدم النبيذ المباح الذي لم يتحول إلى خمر وقد انتقد أحد الأعراب بني العباس تقديمهم للنبيذ يقول أحد الجالسين أثناء ذلك الحوار واسمه: بكر بن عبد الله المزني "كنت جالسًا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ .. أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل .. قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى .. فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال: أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا .. فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬3) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 589. (¬2) صحيح البخاري ج: 2 ص: 589. (¬3) صحيح مسلم 2 - 953.

للرعاة أن يرموا بالليل

من أجل ذلك توجه العباس نحو مكة للمبيت بها من أجل السقاية .. كما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم -: للرعاة أن يرموا بالليل حيث "رخص للرعاء أن يرموا بالليل وأن يجمعوا الرمي" (¬1) "وقد أوضح الصحابي الذي روى هذا الحديث معنى الجمع بقوله: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للرعاة أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا" (¬2) أخبر عليه السلام أصحابه بذلك وقضى أيام التشريق بمنى ولما انتهت أيام التشريق الثلاثة توجه نحو مكة ليطوف بالكعبة طواف الوداع وبين لأصحابه أن: طواف الوداع واجب فقال لهم: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" (¬3) ثم طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - طواف الوداع سبعة أشواط يفعل مثل ما كان يفعل في الطواف السابق .. وفعل الصحابة مثل ما فعل لكن: ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن خزيمة 4 - 319 حدثنا سلم بن جنادة ثنا وكيع عن مالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر عن أبي بداح عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وابن جنادة ثقة من رجال التقريب 1 - 313 وعبد الله بن أبي بكر بن حزم تابعي ثقة معروف: التقريب 1 - 405 لكنه سمع الحديث من والده الثقة أبي بكر كما في الحديث التالي وأبو البداح تابعي ثقة: التقريب 2 - 394 ووالده عاصم بن عدي صحابي رضي الله عنه. (¬2) سنده صحيح رواه ابن خزيمة 4 - 319 وغير من طريق عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أبى البداح بن عدي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص ... وقد مر تخريجه في الحديث السابق. (¬3) صحيح مسلم 2 - 963.

ماذا عن المرأة الحائض وطواف الوداع

ماذا عن المرأة الحائض وطواف الوداع هل تحبس من معها حتى تطهر أم تغادر مكة معهم ولا شيء عليها .. هذه المشكلة تعرضت لها أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها .. تحكي عائشة قصتها فتقول: "إن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه سلم - .. فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت قال فلا إذًا" (¬1) أي أنها لن تحبسكم عن الخروج فليس عليها طواف وداع ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لما أخبروه: "قالوا: يا رسول الله .. أفاضت يوم النحر قال: اخرجوا" (¬2) ويقول ابن عباس: "أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض" (¬3) ولكن بشرط أن تكون قد طافت طواف الإفاضة .. وقبل أن يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد لأصحابه مكانًا للاجتماع قبل الانطلاق .. اسمه: (المحصب) وهو ذلك المكان الذي يحمل ذكريات مريرة جدًا للنبي عليه السلام وأهله وصحابته عندما حاصرتهم قريش فيه وقاطعتهم ومنعت الاتصال بهم والتعامل معهم .. قال أسامة بن زيد: "قلت: يا رسول الله .. أين تنزل غدًا في حجته قال: وهل ترك لنا عقيل مترلًا؟ ثم قال نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة المحصب" (¬4) فيقول عليه السلام: "حين أراد أن ينفر من منى نحن نازلون غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة .. حيث تقاسموا على الكفر يعني بذلك المحصب وذلك أن قريشًا وبني كنانة .. تقاسموا على بني هاشم وبني ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 625. (¬2) صحيح البخاري 2 - 618. (¬3) صحيح مسلم 2 - 963. (¬4) صحيح البخاري 3 - 1113.

عائشة تريد أداء العمرة

المطلب أن لا يناكحوها ولا يكون بينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج الصحابة رضي الله عنهم ولكن قبل خروجهم طلبت عائشة من النبي عليه السلام طلبًا فيه قربة إلى الله: عائشة تريد أداء العمرة وهي تشتكي من أن الناس سوف يرجعون إلى ديارهم وقد أدوا عمرة وحجًا أما هي فستعود وقد أن حجة فقط .. تقول رضي الله عنها: "قدمت مكة وأنا حائض .. لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة .. فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلى بالحج ودعي العمرة .. قالت: ففعلت فلما قضينا الحج" (¬2) "قالت: يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة" (¬3) "أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر فأمر عبد الرحمن ابن أبي بكر أن ينطلق بها إلى التنعيم قالت: فأردفني خلفه على جمل له" (¬4) لكي تحرم بالعمرة من ذلك المكان الذي يسمى (التنعيم) وهو مكان خارج الحرم .. تقول رضي الله عنها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلى بعمرة ثم موعدك كذا وكذا" (¬5) وتقدم عائشة تفصيلات أكثر عن ذلك المكان الذي حدده النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمى: المحصب .. تقول ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلمٌ والبيهقيُّ في الكبرى 5 - 160 واللفظ له. (¬2) صحيح مسلم 2 - 870. (¬3) صحيح مسلم 2 - 873. (¬4) صحيح مسلم 2 - 880. (¬5) صحيح البخاري 2 - 566.

شكوى زوجته صفية من جملها

رضي الله عنها: "خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب .. ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن ابن أبي بكر .. فقال: اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا ثم ائتيا ها هنا فإني أنظركما حتى تأتياني .. قالت: فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر فقال: هل فرغتم؟ فقلت: نعم فآذن بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس فمر متوجهًا إلى المدينة" (¬1) فتقول: "فلقيني النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها" (¬2) "فاعتمرت فقال - صلى الله عليه وسلم -: هذه مكان عمرتك" (¬3) ثم لحقت هي وأخوها عبد الرحمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولما التحقت عائشة بالركب حدثت قصص طريفة بين زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينه وبينهن .. لعبت الغيرة دورها المعتاد رغم عودة الجميع من رحلة الحج الرائعة .. وتألق النبي - صلى الله عليه وسلم - كعادته بسلوكه التربوي الرائع .. في طريق الأشواق إلى المدينة كان النبي عليه السلام يشعر بمعاناة و: شكوى زوجته صفية من جملها وقد كانت صفية قاسية على مشاعره الفياضة .. وقد استغلت صفية كون ذلك اليوم يومها كي تقطف المزيد من الحنان والدلال .. لكنها بالغت في الشكوى حتى كلفتها مبالغتها تلك متعة يومها ذلك .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "كانت صفية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي وتقول حملتني على بعير ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2 - 565. (¬2) صحيح البخاري 2 - 566. (¬3) صحيح البخاري 2 - 590.

بطيء فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح بيديه عينيها فأبت إلا بكاء [وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها فلما أكثرت زبرها وانتهرها وأمر الناس بالنزول فنزلوا ولم يكن يريد أن ينزل] .. فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركها فقدمت فأتت عائشة فقالت: يومي هذا لك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أنت أرضيتيه عني .. فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك؟ فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث فرضي عن صفية وانطلق إلى زينب فقال لها: إن صفية قد أعيا بها بعيرها فما عليك أن تعطيها بعيرك قالت زينب: أتعمد إلى بعيري فتعطيه اليهودية؟ فهجرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أشهر فلم يقرب بيتها .. وعطلت زينب نفسها وعطلت بيتها وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخر البيت وأيست أن يأتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فبينا هي ذات يوم إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل البيت فوضع السرير موضعه فقالت زينب: يا رسول الله .. جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم هي لك فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها" (¬1) كان بيت النبوة بيتًا كبقية البيوت يجري فيه ما يجري في تلك البيوت ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه النسائي في السنن الكبرى 5 - 369 أخبرنا محمَّد بن خلف قال ثنا آدم قال نا سليمان بن المغيرة قال ثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك .. ابن خلف العسقلاني صدوق من رجال التقريب 1 - 158 وشيخه ابن أبي إياس العسقلاني ثقة عابد من رجال البخاري: التقريب 1 - 30 وبقية السند صحيح على شرط مسلم. والزيادة عند أحمد 6/ 337 من طريق شميسة وهي لم توثق.

حفصة تسب صفية

من خصومة لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم من خلال تلك الخلافات حلولًا لأمته دون مثالية أو إسفاف .. حفصة تسب صفية ربما وجدت حفصة بنت عمر في أصل صفية اليهودي مكانًا جيدًا للوخز والإيلام وإشباعًا لغيرتها منها .. لكن صفية وجدت الإنصاف في كلمات زوجها العذبة الحانية .. يقول أنس رضي الله عنه: "بلغ صفية أن حفصة قالت: يا بنت يهودي .. فبكت، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي .. فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت حفصة إني ابنة يهودي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي فبم تفخر عليك ثم قال: اتقى الله يا حفصة" (¬1) فأي نسب بعد هذا النسب لكنها الغيرة التي تلم بالمرأة والتي لا يجب أن تتحول إلى عداوة أو شحناء أو إضرار بالآخر .. وهو فن يجيده النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتفنن في تشكيله لنساء الأمة ورجالها .. وهن معذورات فالرجل الذي يغرن عليه ليس كبقية الرجال .. إنه محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي كانت عائشة من فرط حبا ووَلَهِهَا به تتحسس فراشه وهو نائم خشية أن يغادره. ذات ليلة كان نائمًا معها فاستيقظت فلم تجده .. فينتابها شعور تتحدث عنه فتقول: "افتقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه .. فتحسست ثم رجعت فإذا هو راكع أو ساجد يقول سبحانك وبحمدك لا ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه عبد بن حميد 1 - 373 وغيره من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك وهو سند مشهور على شرط الشيخين.

إله إلا أنت .. فقلت: بأبي أنت وأمي إني لفى شأن وإنك لفى آخر" (¬1) إنه الحب الذي يذهل صاحبه ويذهل عائشة حتى كررت فعلها مرة أخرى ولكن بصورة أشد تأثرًا .. تقول رضي الله عنها: "ألا أحدثكم عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: بلى .. قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع .. فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت فأخذ رداءه رويدًا وانتعل رويدا وفتح الباب فخرج .. ثم أجافه رويدًا فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري .. ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام .. ثم رفع يديه ثلاث مرات. ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت .. فسبقته فدخلت فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال ما لك يا عائش حشيًا رابية؟ قلت: لا شيء قال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. قلت: يا رسول الله .. بأبي أنت وأمي .. فأخبرته .. قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي. قلت: نعم .. فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله .. قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله نعم قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك فأجبته فأخفيته منك ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي .. فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون" (¬2) ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 351. (¬2) صحيح مسلم 2 - 670.

آثار سورة النصر

وأنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} وكان لنزول هذه السورة ظلالًا مؤثرًا ووقعًا تتحدث عنها عائشة وابن عباس حديثًا مؤثرًا فما هي: آثار سورة النصر تقول رضي الله عنها "ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ نزل عليه إذا جاء نصر الله والفتح يصلي صلاة إلا دعا أو قال فيها: سبحانك ربي وبحمدك اللَّهم اغفر لي" (¬1) لم تترك هذه المرأة العظيمة هذا الأمر يمر دون استفسار فهي لا تحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط .. بل تحب سنته وتعشق التتلمذ على يديه .. فتقول "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه فقلت: يا رسول الله .. أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه .. فقال: خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه .. فقد رأيتها إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" (¬2) لكن هذه العلامة فسرها ابن عباس وعمر ببيان أكثر لقد وصفوها بأنها: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1 - 351. (¬2) صحيح مسلم 1 - 351.

نعي مبكر

نعي مبكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حوار جرى بين عمر رضي الله عنه وبين أشياخ بدر بحضور ابن عباس الذي يقول إن عمر قال: "ما تقولون في {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} حتى ختم السورة فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا .. وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئًا فقال لي: يا بن عباس أكذاك تقول؟ قلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة فذاك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم" (¬1). إذًا فقد اقترب أجله عليه السلام ولذلك راجع معه جبريل القرآن مرتين هذا العام .. ومع شعور النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلا أنه لم يكن ليغفل عن أمر دعوته حتى في آخر ساعاته لينشغل بنفسه .. لقد كان ينظر إلى ما بعد الموت فالموت مرحلة لا أكثر في حياة المسلم .. لقد استدعى - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد وأمره على جيش وأمره بالتوجه نحو الشام .. ولما أحس من بعض الرجال نوعًا من التبرم بإمارة أسامة الأسمر: "فقالوا فيه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وإنه أحب الناس إلي" (¬2) "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله .. وأيم الله إن كان لخليقًا للإمرة .. وإن كان لمن أحب الناس إلي .. وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده" (¬3) كان وداعًا لأسامة وللدنيا واقتراب الوداع مرير فهل ستحتمله القلوب .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1563. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1620. (¬3) صحيح البخاري 6 - 2628.

هل سيقوى عليه قلب فاطمة وعائشة وبقية أمهات المؤمنين .. ذات يوم كانت عائشة تشتكى رأسها فقالت: "وارأساه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك .. فقالت عائشة: واثكلياه والله إني لأظنك تحب موتي ولو كان ذاك لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك .. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل أنا وارأساه لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون" (¬1) "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" (¬2) كانت كلمات كالوداع فقد مرض بعدها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرضًا شديدًا أقعده وأثقل حركته حتى عن التنقل بين أبيات زوجاته وذلك بعد عودته من دفن بعض أصحابه رضي الله عنهم .. تقول عائشة رضي الله عنها: "رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعًا في رأسى وأنا أقول: وارأساه قال: بل أنا والله يا عائشة .. وارأساه ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟ فقلت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استعز به وهو في ميمونة فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي .. فأذِنَّ له فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس ورجل آخر (¬3) تخط قدماه الأرض عاصبًا رأسه حتى دخل بيتي" (¬4) كان مشهدًا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6 - 2638. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1857. (¬3) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬4) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري 2 - 226 - 229 واللفظ له والبيهقيُّ في الدلائل 7 - 169: حدثني يعقوب بن عتبة عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري عن =

يدمي القلب لمن رآه .. نبي الله لا يستطيع السير لوحده وهو الذي كان يقود الجموع قبل أشهر إلى تبوك ومكة .. ها هي قدماه تخطان على الأرض خطوطًا وآثارًا كآثار المسافرين المغادرين بالقلوب والأرواح .. حيث نزل عليه الوحي في تلك الأيام يخبره أن الله يخيره بين لقائه أو البقاء حيًا .. "ثم غمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشتد به الوجع فقال: أهريقوا علي من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم .. قالت: فأقعدنا في مخضب لحفصة بنت عمر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم" (¬1) لقد "قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لَعَلِّي أعهد إلى الناس .. وأُجْلِسَ في مخضب لحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طفقنا نصب عليه تلك حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتن ثم خرج إلى الناس" (¬2) "فصلى بهم وخطبهم" (¬3) ليخبرهم بجوابه لوحي الله ويبدو أن هذه الخطبة التي ارتجلها يوم الأربعاء ستكون: ¬

_ = عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ويعقوب ثقة من رجال التقريب 2 - 376 والزهري رأس طبقته وشيخه تابعي ثقة فقيه ثبت من رجال الشيخين انظر التقريب 1 - 535 .. (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري 2 - 226 - 229 واللفظ له والبيهقيُّ في الدلائل 7 - 169: حدثني يعقوب بن عتبة عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ويعقوب ثقة من رجال التقريب 2 - 376 والزهري رأس طبقته وشيخه تابعي ثقة فقيه ثبت من رجال الشيخين انظر التقريب 1 - 535 .. (¬2) صحيح البخاري 1 - 83. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1614.

آخر خطبة للنبي (صلى الله عليه وسلم)

آخر خطبة للنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول ابن عباس: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه عاصبًا رأسه بخرقة .. فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذًا من الناس خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن خلة الإِسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر" (¬1) كان أبو بكر محورًا من محاور تلك الخطبة .. كان أكثر الناس استيعابًا لمعناها وأشد الناس تأثرًا بها فقد سالت دموعه وسالت ولم تتوقف إلا بعد رجاء الحبيب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - الذي ناشده أن يتوقف عن البكاء .. وكيف لا يبكي أبو بكر وهو يرى نبيه وصاحبه وصديق طفولته وشبابه وشيخوخته يهم بالرحيل .. يقول أبو سعيد الخدري: "خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبن ما عنده فاختار ما عند الله .. فبكى أبو بكر رضي الله عنه [وبكى فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا] فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله .. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا .. قال: يا أبا بكر .. لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإِسلام ومودته .. لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر" (¬2) وقد جلس على المنبر لشدة المرض وكان "عليه ملحفة متعطفًا بها على منكبيه وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 178. (¬2) صحيح البخاري 1 - 177 والزيادة عند مسلم 4 - 1854.

عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم" (¬1) كان - صلى الله عليه وسلم - يخطب رأفة ورحمة بأمته من أن تمزقها الخلافات بعد رحيله .. بعد هذا الحب الغامر والأخوة الحانية .. بعد هذه الفتوحات وعلو التوحيد وأهله ونظافة الجزيرة من الأصنام والأوثان والجاهلية .. كان يخطب امتنانًا لمن آزره وعاضده في مسيره الطويل المضني .. كان يخطب مؤكدًا أن العواطف نحوه ستتأجج وتجمح بعد رحيله ولا بد للعواطف من سياج وإلا كبحت بأهلها وساقتهم بعيدًا عن التوحيد والهدى .. يقول أحد الصحابة "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلًا .. كما اتخذ إبراهيم خليلًا ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا .. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخدون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك" (¬2) ثم نهض - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت عائشة الملاصق للمسجد ليمكث فيه ما تبقى من عمره .. وكان الصحابة رضي الله عنهم يقومون بعيادته والاطمئنان على حاله .. أحدهم عبد الله بن مسعود الذي يقول: "دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك فقلت: يا رسول الله .. إنك لتوعك وعكًا شديدًا قال: أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم .. قلت: ذلك بأن لك أجرين قال: أجل ذلك كذلك .. ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1383. (¬2) صحيح مسلم 1 - 377.

آلام سم اليهودية

كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" (¬1) .. خرج ابن مسعود وجاء غيره بينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعاني الألم والمعانة حتى أغمي عليه فاقترح عمه العباس أن يقدم له علاجًا يسمونه: (اللد) واللد هو أن يسقى المريض دواءًا من أحد شقي الفم مما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يعاقب من قام بذلك بعقاب ظريف بعد أن أفاق .. تقول عائشة: "ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بيته وتتام به وجعه حتى غمر .. واجتمع عنده نساء من نسائه أم سلمة وميمونة ونساء من نساء المؤمنين منهم أسماء بنت عميس وعنده عمه العباس بن عبد المطلب .. وأجمعوا على أن يلدوه فقال العباس: لألدنه .. فلد فلما أفاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صنع بي هذا؟ قالوا: يا رسول الله .. عمك العباس قال: هذا دواء أتى به نساء من نحو هذه الأرض وأشار نحو أرض الحبشة قال ولم فعلتم ذلك؟ فقال العباس: خشينا يا رسول الله أن يكون بك وجع ذات الجنب .. فقال: إذن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي .. فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة لقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقوبة لهم بما صنعوا" (¬2) كان - صلى الله عليه وسلم - يذكر لعائشة شيئًا محددًا من الألم كان يشعر بـ: آلام سم اليهودية يخاطبها وهي تمرضه فيقول: "يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر .. فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" (¬3) أي انقطاع عرقي من أثر ذلك السم .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5 - 2139. (¬2) جزء من حديث ابن إسحاق السابق. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1611.

وجاء يوم الخميس

وجاء يوم الخميس يقول ابن عباس "يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال: اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع [فقال عمر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابًا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوموا] فقالوا هجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة" (¬1) كان ذلك الكتاب يحمل نوعًا من اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لم ينزل به وحي وإلا لو كان وحيًا لوجب عليه تبليغه كبقية رسالته لأن الله يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} (¬2). إذًا فعدم تبليغ جزء من الوحي يعتبر عند الله عدم تبليغ للرسالة .. وهو أمر لا يمكن التخلي عنه مهما كان السبب أما هذا الكتاب الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينوي كتابته فقد تراجع عنه لأنه محض اجتهاد حرصًا منه ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3 - 1111 والزيادة عند مسلم 3 - 1259. (¬2) المائدة: 67.

على اجتماع أمته .. فاكتفى - صلى الله عليه وسلم - بتلك الوصايا الثلاث .. ولم تكن هي الوصايا الوحيدة فقد كان يوصي كل من يدخل عليه بوصية كهذه الوصية التي تقرب الإنسان إلى ربه وتقربه إلى الإنسان أيضًا والتي تفيض راحة ورحمة لمن يمتثل لها .. تقول أم المؤمنين هند أم سلمة رضي الله عنها: "كان عامة وصية نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته الصلاة .. الصلاة .. وما ملكت أيمانكم حتى جعل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه" (¬1) من حرصه على الأخذ بهما .. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الخميس هذا يصلي بالناس وهو جالس ولما حانت صلاة المغرب حمل عليه السلام ليصلى بالمؤمنين فصلى بهم وقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ...} كان الرجال والنساء ينصتون إلى ذلك الصوت الخاشع الذي أنهكه المرض .. تقول إحدى النساء اللواتي كن خلف تلك التلاوة وخلف ذلك الإمام وهي أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنهما "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفًا ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" (¬2) فقد صلى ثم أخذ إلى بيت عائشة حيث كان يتنفل جالسًا .. ولما حانت صلاة العشاء .. وحاول عليه السلام جاهدًا النهوض فلم يستطع .. حاول مرة ومرتين لكن ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه أحمد 6 - 315 وغيره من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال حدث سفينة مولى أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ... وسفينة صحابي والبقية أئمة ثقات معروفون وسعيد من أثبت الناس في قتادة وللحديث شاهد عن علي وآخر مضطرب عن أنس. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1611.

جسده لم يساعده فقد أقعده الألم وأمسى يعاني من الإغماء تلو الإغماء .. بينما كان الشوق يفتك بالصحابة ينتظرون خروجه بلهفة وحزن عظيمين .. لكنه لم يخرج ولم يستطع النهوض من مكانه .. كانت عائشة رضي الله عنها تعاني معه وتحكي معاناته عليه الصلاة والسلام فتقول: "ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا .. هم ينتظرونك. قال: ضعوا لي ماء في المخضب .. ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه .. ثم أفاق فقال - صلى الله عليه وسلم -: أصلى الناس؟ قلنا: لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله .. قال: ضعوا لي ماء في المخضب .. فقعد فاغتسل .. ثم ذهب لينوء فأغمي عليه .. ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله .. فقال: ضعوا لي ماء في المخضب .. فقعد فاغتسل .. ثم ذهب لينوء .. فأغمي عليه .. ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا .. هم ينتظرونك يا رسول الله .. والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة العشاء الآخرة. فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس" (¬1) وعندما سمعت عائشة اسم أبيها على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يجعله أحق الصحابة بالصلاة وإمامة المؤمنين خشيت على أبيها من التشاؤم الذي لا مبرر له إلا في حزن عائشة المشفقة على أبيها الحزينة على زوجها فقالت للنبي عليه السلام: "إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء [إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطيع أن يصلي بالناس] فقال: مروه فيصلي فعاودته قال: مروه فيصلي إنكن صواحب يوسف [فقلت لحفصة قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فَمُرْ عمر فليصل للناس .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ج: 1ص: 243.

عودة أسامة بن زيد

ففعلت حفصة .. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس .. فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا] " (¬1) فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رجلًا رقيقًا: يا عمر .. صل بالناس .. فقال له عمر: أنت أحق بذلك .. فصلى أبو بكر" (¬2) كانت ليلة ثقيلة على سماء المدينة وأهلها .. ليلة تخنق صدورهم بالهموم والتفكير بنبيهم لكن لعل هذا الفجر يحمل فرجًا .. وجاء الفجر فلم يستطع النبي - صلى الله عليه وسلم - النهوض فصلى أبو بكر رضي الله عنه فجر الجمعة بالمؤمنين وحان وقت صلاة الجمعة فجاء المؤمنون من كل المدينة .. وعاد أسامة بن زيد وكانت: عودة أسامة بن زيد ومن معه من الجيش إلى المدينة تعني تأجيل السفر فلعلهم يحظون بخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة خلفه .. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث وخرج أبو بكر رضي الله عنه وسلم على المصلين وارتقى درجات المنبر وخطب الناس .. فلا أدري أي شعور كان يخالج الناس ويخالج أبا بكر وهم يعلمون أن نبيهم طريح الفراش خلف تلك الستارة الصغيرة لا يستطيع الحراك مما به من الألم .. لا بد أن دموعًا غزيرة سألت وشهقات علت ونحيبًا طال من الرجال والنساء جميعًا .. ودخل أسامة رضي الله عنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فكانت هذه القصة التي يرويها أسامة بنفسه فيقول: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 241 والزيادة له 1 - 240 و1 - 240. (¬2) صحيح البخاري ج:1 ص: 243.

النبي (صلى الله عليه وسلم) يخرج للصلاة

"لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هبطت وهبط الناس معى إلى المدينة .. فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصمت فلا يتكلم فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي فعرفت أنه يدعو لي" (¬1) ومضى يوم الجمعة كاملًا والنبي عليه السلام على فراشه لم يخرج .. وجاء يوم السبت فصلى أبو بكر الفجر والظهر فكانت المفاجأة عندما رأى المصلون النبي (صلى الله عليه وسلم) يخرج للصلاة وذلك بعد أن أذن بلال رضي الله عنه وأقام الصلاة فتقدم أبو بكر للصلاة وكبر وأمهم وأثناء الصلاة خرج علي بن أبي طالب والعباس رضي الله عنهما يحملانه عليه السلام من غرفة عائشة التي تقول: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلى بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر .. فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يتأخر قال: أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر .. فجعل أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) فتحول المسجد إلى ساحة من البهجة والسعادة التي لم تدم فقد أدخل عليه الصلاة والسلام إلى بيت عائشة من جديد يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى خلف أبي بكر في ثوب واحد برد مخالفًا بين طرفيه فلما أراد أن يقوم قال: ادع لي أسامة بن زيد ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 6 - 67 حدثني سعيد بن عبيد بن السباق عن محمَّد بن أسامة عن أبيه أسامة بن زيد وسعيد ومحمَّد بن أسامة تابعيان ثقتان من رجال: التقريب 1 - 301 و2 - 143. (¬2) صحيح البخاري 1 - 243.

فجاء فأسند ظهره إلى نحره" (¬1) حيث تفاقم عليه المرض .. وكانت فاطمة عليها السلام وأمهات المؤمنين لا يتوقفن عن زيارته بينما كان الألم لا يتوقف عنه .. وبعد أن خرج أسامة والعباس وعلي رضي الله عنهم رأى العباس بفراسته تقاسيم الموت في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولما خرجا من عنده "قال الناس: يا أبا الحسن .. كيف أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئًا .. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا وإني والله لأرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوف يتوفى من وجعه هذا .. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت .. اذهب بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلنسأله فيمن هذا الأمر .. إن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا .. فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده .. وإني والله لا أسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) كان العباس يريد معرفة من يخلف النبي- صلى الله عليه وسلم - لكن عليًا كان أبعد نظرًا لأن الخلافة ليست منحة منه عليه الصلاة والسلام: وقد تحدث عليه الصلاة والسلام بكلام خطير ودقيق وهام عن الخلافة وعن الصفات التي لا بد أن تتوفر في الخلفاء .. وما يحل للخليفة وما لا يحل وعن أنه لا يعطي الإمارة من سألها وأشياء كثيرة .. بينما لم يتحدث عن شخص بعينه يجب أن يتولى من بعده مما يعني أنه سيترك للمؤمنين أمر انتخاب الأصلح لهم ولها .. والصحابة بشر لهم وجهات نظر مختلفة وآراء مختلفة ومواهب مختلفة ومزايا مختلفة ولا يمكن أن يجمعوا على شخص بعينه .. لكن هناك ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه البيهقي في الدلائل 7 - 192 من طريق سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثنا حميد الطويل عن ثابت عن أنس وهذا السند على شرط البخاري وقد رواه كثيرًا انظر مثلًا صحيح البخاري (1 - 157 و1 - 209). (¬2) صحيح البخاري 4 - 1615.

ميزات إذا جمعت برز صاحبها كما برز أبو بكر الذي عينه عليه السلام للصلاة دون أن يسعى للإمامة أو يقدم طلبًا لها .. النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي اختاره وعينه رغم رفضه لها في البداية .. وبعيدًا عن ذلك وبينما كان عليه السلام تبرحه الآلام وتزداد به الأوجاع وتنشغل بجسده كان مشغولًا بأمته خائفًا عليها أن تضل كما ضلت اليهود والنصارى .. تقول عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما "لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه .. قال -وهو كذلك-: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا" (¬1) فبعد وفاة أي نبي تزداد العاطفة وتجيش المشاعر فتطيش بدعًا وخرافات ومزارات وزخارف .. حتى يتحول من مجرد قبر إلى وثن يطاف به ويتمسح ويستقبل وتشد الرحال إليه ويذبح عنده وتحيط به السرج والشموع والمصابيح ويطلى بالذهب ويرصع بالجواهر .. وفي النهاية ينصرف الناس عن الخالق ليتعلقوا بمخلوق لا يملك من أمره شيئًا إلا ما وهبه الخالق سبحانه وحباه به .. عندها ينهدم ما بناه النبي - صلى الله عليه وسلم - خلال أكثر من عشرين عامًا ويعود الشرك من جديد لكن بدلًا من عبادة الصنم الذي على شكل صورة يصبح وثنًا على شكل قبر .. كان عليه السلام يخشى ذلك ويحذر منه رغم ما هو فيه من المعاناة والحمى التي يزداد اشتعالها داخل جسده الشريف مما أعجزه عن الخروج للمسجد .. حيث صلى أبو بكر في الناس العصر والمغرب والعشاء والفجر والناس يترددون على المسجد وفي الطرقات وفي الأسواق فلا يرون فيها حبيبهم ونبيهم فيها فيزداد شوقهم وحزنهم حتى: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 168.

جاء يوم الأحد

جاء يوم الأحد وتوالى الزائرون من أهل بيته وغيرهم .. كانت فاطمة عليها السلام في طريقها إلى هناك تنظر إلى هذا الأب الحاني فتبكي وتتأثر لما هو فيه من الكرب فيناديها ليخفف ما بها من حزن فيهمس في أذنها فتبكي ثم يهمس مرة أخرى فتبتسم ابتسامة تسرها وتحزن أحبابها .. كانت عائشة رضي الله عنها ترى ذلك المشهد الحزين وتقول: "أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مرحبًا بابنتي .. ثم أجلسها عن يمينه .. أو عن شماله .. ثم أسر إليها حديثًا فبكت .. فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثًا فضحكت .. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن .. فسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فسألتها .. فقالت أسر إلي إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحاقًا بي فبكيت فقال أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين فضحكت لذلك" (¬1) امتزجت لدى فاطمة مشاعر الحزن بالسرور وأقبل الليل وازداد الحزن بالمدينة وعادت الآلام إلى أبيها من جديد و"لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل يتغشاه فقالت فاطمة عليها السلام: واكرباه .. فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم" (¬2) ودخل فجر يوم الإثنين وصلى أبو بكر بالمؤمنين الفجر فحدث شيء مفرح كاد معه المصلون أن يفتنوا في صلاتهم .. فبينما كان أبو بكر خاشعًا في صلاته ارتفع الستر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1326. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1619.

الموت

الذي على يساره وهو ستر بيت ابنته عائشة فأطل الحبيب منها وهو يبتسم .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "إن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة .. فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف .. ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف .. وظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج إلى الصلاة فأشار إلينا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أتموا صلاتكم .. [فقال أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له .. ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا .. فأما الركوع فعظموا فيه الرب عَزَّ وَجَلَّ .. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يستجاب لكم] وأرخى الستر" (¬1) وعاد إلى فراشه وصلى الفجر ثم ضعف ضعف: الموت الذي لا ينتظر أحدًا من البشر حتى الأنبياء منهم .. وفي لحظات الكرب وشدة سكرات الموت كانت فاطمة تشاهد حركة أبيها من شدة الألم وذلك "لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يبسط رجلًا ويقبض أخرى ويبسط يدًا ويقبض أخرى قالت فاطمة يا كرباه لكربك يا أبتاه ... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي بنية لا كرب على أبيك بعد اليوم" (¬2) ثم رفع طرفه إلى ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 240 والزيادة عند مسلم 1 - 348. (¬2) سنده صحيح رواه أبو يعلى 6 - 111 حدثنا القواريري حدثنا حماد بن زيد حدثنا ثابت البناني عن أنس قال .. والقواريري هو الثقة الثبت العالم عبيد الله بن عمر من رجال =

السماء وكأنه يرى منزله من الجنة .. تقول عائشة رضي الله عنها: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح: إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير .. فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه .. ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: اللَّهم الرفيق الأعلى، فقلت: إذًا لا يختارنا .. وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا" (¬1). وتقول رضوان الله عليها: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا .. فلما مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل أخذت بيده لأصنع به نحو ما كان يصنع فانتزع يده من يدي .. ثم قال: اللَّهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى" (¬2) "وأخذته بحة وهو يقول مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا .. قالت: فظننته خير حينئذ" (¬3) وهنا دخل عبد الرحمن بن أبي بكر أخو عائشة وفي يده سواك فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى السواك في يده "دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك فأشار برأسه أن نعم .. فتناولته .. فاشتد عليه .. وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم] (¬4) فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن .. فأعطانيه فقضمته .. ثم مضغته" (¬5) "ونفضته وطيبته ثم دفعته ¬

_ = الشيخين: التقريب 1 - 537 وشيخه ثقة ثبت فقيه: التقريب 1 - 197 وثابت تابعي ثقة معروف. (¬1) صحيح البخاري 4 - 1620. (¬2) صحيح مسلم 4 - 1721. (¬3) صحيح مسلم 4 - 1893. وكلمة (هو) ليست في النص. (¬4) صحيح البخاري 4 - 1616 وجاء بعد كلمة (علبة) يشك عمر. (¬5) صحيح البخاري 4 - 1617.

إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستن به فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استن استنانًا قط أحسن منه [وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات] (¬1). فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو إصبعه ثم قال: في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى ثم قضى" (¬2) "ومالت يده" (¬3) "فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري وخالط ريقه ريقي" (¬4) "في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة" (¬5) "فلما خرجت نفسه لم أجد ريحًا قط أطيب منها" (¬6) .. عندها بكت فاطمة والدها بحرقة بكته بقلبها ودمعها وقالت: "يا أبتاه أجاب ربًا دعاه يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه" (¬7) أما عائشة الشابة الثكلى فقد ذهلت ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1616 وجاء بعد كلمة (علبة) يشك عمر. (¬2) صحيح البخاري 4 - 1613. (¬3) صحيح البخاري 4 - 1616. (¬4) صحيح البخاري 4 - 1617. (¬5) صحيح البخاري 4 - 1617. (¬6) سنده صحيح رواه أحمد 6 - 121 ثنا همام قال أنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت. (¬7) صحيح البخاري 4 - 1619.

وتحدثت عن ذهولها فقالت: "مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وفي بيت لم أظلم فيه أحدًا فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض وهو في حجري .. ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألدم مع النساء وأضرب وجهي" (¬1) .. بكت أمهات المؤمنين وبكت النساء وبكى الرجال ولم يبك عمر بن الخطاب بل قام يخطب غاضبًا فيمن حوله ومهددًا من يقول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات .. فطلبوا من رجل من أهل الصفة اسمه سالم بن عبيد أن ينادي أبا بكر فقد اشتد غضب عمر حتى لقد قال من شدة الصدمة "لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا. فسكتوا وكانوا قومًا أميين لم يكن فيهم نبي قبله .. قالوا: يا سالم .. اذهب إلى صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فادعه قال سالم: فخرجت فوجدت أبا بكر قائمًا في المسجد قال أبو بكر: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قلت: إن عمر يقول لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا .. فوضع يده على ساعدي ثم أقبل يمشي حتى دخل .. فوسعوا له حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكب عليه حتى كاد أن يمس وجهه وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استبان له أنه قد مات .. فقال أبو بكر: إنك ميت وإنهم ميتون" (¬2). وصل أبو بكر من بيته الذي يقع في مكان شرقي المدينة يقال له: (السنح) .. "أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه أبو يعلى 8 - 63 والبيهقيُّ في الدلائل 7 - 213 حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال سمعت عائشة تقول ... ويحيى ووالده ثقتان وقد مر معنا هذا الإسناد كثيرًا. (¬2) سنده صحيح رواه النسائي في السنن الكبرى 4 - 263 أنبأ قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد ابن عبد الرحمن عن سلمة بن نبيط عن نعيم عن نبيط عن سالم بن عبيد .. ونبيط بن شريط صحابي صغير ونعيم تابعى ثقة: التقريب 2 - 306 وهو ابن أبي هند وتلميذه ثقة من صغار التابعين: التقريب 1 - 319 وحميد الرواسي ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 203 وقتيبة ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 2 - 123.

خرج أبو بكر في وقت أبي بكر

فدخل المسجد .. فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مغشى بثوب حبرة .. فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى .. ثم قال: بأبي أنت وأمي .. والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها" (¬1) ثم: خرج أبو بكر في وقت أبي بكر خرج إلى هذه الجموع المفجوعة بنبيها فشاهد عمر يهدد من يقول أنه مات ويهدد المنافقين بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوف يعود ليمزقهم فرجع بعضهم عن النفاق .. لكن كلمات عمر كانت كلمات مفجوع مصدوم لا يدري ما يخرج من رأسه .. كان ظرفًا ليس له سوى أقرب الناس من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم صحبة له .. خرج أبو بكر بهدوئه المعروف ليزيل عن العقول كلمات عمر وتخاريف الفاجعة .. أخذ الأمة مما هى فيه إلى كتاب الله فأفاقت العقول ورضيت بقضاء الله .. لم ينههم عن الحزن والبكاء ولكن نهاهم عن الاستسلام للعواطف والانجراف في تيارها فيهلكون كما هلكت الأمم السابقة .. فما هي خطبة عمر تقول عائشة: "فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وليبعثنه الله .. فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم .. فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبله قال: بأبي أنت وأمي طبت حيًا وميتًا .. والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدًا .. ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك [خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس فقال: اجلس .. فأبى .. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1618.

فقال: اجلس .. فأبى .. فتشهد أبو بكر رضي الله عنه .. فمال إليه الناس وتركوا عمر] (¬1) فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدًا قد مات .. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت .. وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فنشج الناس يبكون" (¬2) بكاء المفجوع الذي أدرك الحقيقة وأفاق مما هو فيه من صدمة .. كان ابن عباس هناك وقد وصف حال الصحابة بعد خطبة أبي بكر فقال: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها من الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها" (¬3) كان أبو بكر رضي الله عنه رجل المهمات الصعبة والأزمات .. أعاد الأمة إلى صوابها وقال لها في غياب نبيها المفجع: إن هذا النبي الحبيب مازال بشرًا .. وأن الغلو فيه ليس من صفات المؤمنين .. فلم يبق سوى الصلاة عليه واتباع رسالته والمشي على خطاه .. وما عدا ذلك فهو من الغلو الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله" (¬4) أما عمر رضي الله عنه فكان أكثر المتأثرين بتلك الآيات وبخطبة أبي بكر لدرجة أنه سقط على الأرض من شدة التأثر .. يقول رضي الله عنه: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1 - 419. (¬2) صحيح البخاري 3 - 1341. (¬3) صحيح البخاري ج: 4 ص: 1618. (¬4) صحيح البخاري 3 - 1271.

فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات" (¬1) كانت تلك اللحظات شديدة الدقة والخطورة فقد فارق النبي - صلى الله عليه وسلم - الدنيا وهي مصيبة ما بعدها مصيبة .. كما كان هناك أيضًا الفراغ الرهيب الذي تركه من بعده حيث إن الأمة اليوم دون قائد يرأسها .. وهذا الفراغ يكون أكثر خطورة على الأمة إذا كان الراحل قائدًا عظيمًا .. فكيف إذا كان الراحل اليوم ليس مجرد قائد عظيم فحسب بل نبي يأتيه الوحي من السماء وتحمله الأمة كلها في قلوبها .. شعر بعض رجالات الأنصار بهذا الفراغ فرشحوا سعد بن عبادة لخلافة النبي - صلى الله عليه وسلم - .. بينما توجه علي بن أبي طالب والزبير بن العوام حزينين إلى بيت فاطمة في الوقت الذي كان فيه أبو بكر مشغولًا بالأمة والأمة مشغولة بحزنها على نبيها .. لكن أبا بكر يتجدد عظمة في مثل هذه الظروف الحرجة .. فقد انطلق إلى حيث أخوانه الأنصار المجتمعن بعد أن سمع باجتماعهم خشية أن تفترق الأمة بعد توحيدها .. أو أن تقع فتنة بين الأنصار والمهاجرين الذين التفوا حول أبي بكر رضي الله عنهم جميعًا .. ولما وصل أبو بكر وجدهم قد التفوا حول رجل مريض وقد غطوه .. كان ذلك الرجل هو الصحابي الجليل سعد بن عبادة وهم يريدون مبايعته بالخلافة .. لكن عمر بن الخطاب كان له رأي آخر في ذلك المكان الذي اجتمع فيه الأنصار والمهاجرون والمسمى بـ: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4 - 1618.

سقيفة بني ساعدة

سقيفة بني ساعدة دعونا نتجه إلى سقيفة بني ساعدة والذي سيأخذنا إلى هناك شاب من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - هو عبد الله بن عباس الذي يقول إن عمر بن الخطاب قال: "كان من خبرنا حين توفى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما .. واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر .. انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار [فاجتمع المهاجرون يتشاورون فبينا هم كذلك يتشاورن إذ قالوا: فانطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار فإن لهم في هذا الحق نصيبًا] فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان .. فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة .. فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك .. فلما جلسنا قليلًا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله .. ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإِسلام .. وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر .. فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقدمها بين يدي أبي بكر .. وكنت أداري منه بعض الحد .. فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك: فكرهت أن أغضبه .. فتكلم

أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر .. والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت .. فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل .. ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبًا ودارًا .. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم .. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا .. فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر .. اللَّهم إلا أن تسول لي نفسي عند الوت شيئًا لا أجده الآن .. فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش .. فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف .. [قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير .. فأتاهم عمر رضي الله عنه فقال: [سيفان في غمد واحد إذًا لا يصطلحا] .. يا معشر الأنصار .. ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضي الله عنه .. فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه] (¬1). [قلت: يا معشر الأنصار .. يا معشر المسلمين .. إن أولى الناس بأمر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ثاني اثنين إذ هما في الغار أبو بكر السباق المتين .. [من هذا الذي له هذه الثلاث؟ إذ هما في الغار من هما .. إذ يقول لصاحبه من صاحبه لا تحزن إن الله معنا مع من هو؟ فبسط عمر يد أبي بكر رضي الله عنهما فقال: بايعوه فبايع الناس أحسن بيعة وأجملها] .. ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب ¬

_ (¬1) سند الزيادة حسن رواه أحمد 1 - 21 وغيره من طرق عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود وعاصم بن أبي النجود إمام القراء حسن الحديث من رجال الشيخين التقريب 1 - 383 والمعقوفان داخله من حديث سالم بن عبيد السابق.

على يده قبل أن أضرب على يده] (¬1) فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته .. وبايعه المهاجرون .. ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة .. فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة .. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة .. قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلًا منهم بعدنا .. فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلًا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه" (¬2) كل هذه الأحداث جرت بسرعة كبيرة خلال يوم الاثنين الذي مر بحزن وسلام .. فقد أصبح للدولة الإسلامية قائد جديد وللمسلمين إمام كفوء لقيادتها .. تقبل الأنصار قيادة أبي بكر المهاجر إلى أرضهم لأنهم رجال تثقفوا بالكتاب والسنة وآمنوا بالله ورسوله .. ورضوا أن يؤمهم رجل ارتضاه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بين أظهرهم فيكف لا يرضونه بعد مماته .. وهم الذين ما كانوا ليقبلوا رجلًا من غيرهم لو لم يتشبعوا بالتربية الإِسلامية العظيمة .. بل ما كان الأوس ليقبلوا عليهم زعيمًا من الخزرج ولن يرضى الخزرج أن يتأمر عليهم زعيم من الأوس لو كِانوا لا يزالون على ثقافتهم الخشبية .. ثقافة الأصنام التي أزاحها الإسلام عن قلوبهم وعقولهم إلى غير رجعة .. أما أبو بكر فلم يشغله حزنه على نبيه عن مسؤوليته الضخمة تجاه أمته .. فهذا الرجل العظيم هو الذي أعاد ¬

_ (¬1) سند الزيادة صحيح رواها ابن إسحاق ومن طريق الضياء في المختارة 1 - 288 حدثني عبد الله بن أبي بكر عن الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر قال وهو سند صحيح فعبد الله بن حزم الأنصاري تابعي صغير وثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 405 وبقية السند سند البخاري والمعقوفان داخله من حديث سالم بن عبيد السابق. (¬2) صحيح البخاري 6 - 2506.

وجاء يوم الثلاثاء

للمفجوعين رشدهم .. وهو الذي ساقته طول صحبته لنبيه عليه السلام إلى النظر للأمور بمنظار أبعد وأكثر اتساعًا .. فاستحق أن يواصل صلاته بالأمة الظهر والعصر وبقية الصلوات بعد أن استقر الوضع السياسي ليعود للنفوس كمدها وحزنها على نبيها - صلى الله عليه وسلم - في يوم أسود رسمه أنس بن مالك لنا فقال: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء .. فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء" (¬1) ومضى ذلك اليوم لترحل شمس الإثنين بالفتنة جثة هامدة .. مضى الإثنين الحزين وجاء يوم الثلاثاء وقبل أن يصلي أبو بكر في الناس صلاة الصبح قام عمر فتوجه إلى المنبر مخاطبًا الصحابة ومعتذرًا عفا بدر منه بالأمس من أقوال وداعيًا بقية الصحابة لمبايعة أبي بكر رضي الله عنه: يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: "إنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم .. قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم .. فإن يك محمَّد - صلى الله عليه وسلم - قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نورًا تهتدون به بما هدى الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - .. وإن أبا بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثاني اثنين فإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه .. وكانت طائفة ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الترمذيُّ 5 - 588 وغيره من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس بن مالك وجعفر صدوق زاهد من رجال مسلم: التقريب 1 - 131 وشيخه تابعي ثقة سمع من أنس.

منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر" (¬1) وبعد أن انتهى عمر من خطبته نزل عن المنبر وطلب من أبي بكر الصعود كي يبايعه المؤمنون .. لكن أبا بكر رفض فلم يزل عمر يلح عليه حتى صعد .. يقول أنس رضي الله عنه: "سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر .. فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة" (¬2) "فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة [فلما قعد أبو بكر رضي الله عنه على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليًا رضي الله عنه .. فسأل عنه فقام ناس من الأنصار فأتوا به .. فقال أبو بكر رضي الله عنه: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين؟ فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم لم ير الزبير بن العوام رضي الله عنه فسأل عنه حتى جاءوا به .. فقال: ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين؟ فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله .. فبايعاه] فتكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله .. ثم قال: أما بعد أيها الناس .. فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني ... الصدق أمانة والكذب خيانة .. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله .. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله .. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل .. ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6 - 2639. (¬2) صحيح البخاري 6 - 2639.

تغسيل النبي (صلى الله عليه وسلم) وتكفينه

فإذا عصيت الله رسوله فلا طاعة لي عليكم .. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله" (¬1) فنهض الجميع إلى الصلاة خلف أبي بكر في يوم امتزج فيه الأسى بالطمأنينة .. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مازال مسجى لم يدفن بعد والأمة قد اجتمع أمرها على خليفة لرسول الله .. وبعد أداء الصلاة بدأ الإعداد لـ تغسيل النبي (صلى الله عليه وسلم) وتكفينه فقد قال الخليفة الجديد أبو بكر لأبناء عمه - صلى الله عليه وسلم -: "دونكم صاحبكم لبني عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يعني في غسله- يكون أمره" (¬2) وكان ذلك في آخر النهار فكان الذي تولى تغسيله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا أدري بالتحديد من هم الصحابة الذين شاركوه في تغسيله من أبناء عمومته .. لكنهم كانوا في حيرة من أمرهم قبل أن يبدأوا بتغسيله عليه السلام .. هل يخلعون ثيابه أم يغسلونه في ثيابه التي مات بها وقد كانت هذه الثياب "إزار غليظ مما يصنع باليمن وكساء من التي يسمونها الملبدة" (¬3) وعائشة رضي الله عنها "تقسم بالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض في هذين الثوبين" (¬4) وبينما هم في حيرتهم تلك نزلت ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 6 - 82 حدثني الزهريّ قال حدثني أنس بن مالك قال والزهري تابعي وإمام طبقته والمقطع الذي بين المعقوفين سند صحيح رواه الحاكم 3 - 80 والبيهقيُّ في الكبرى 8 - 143والاعتقاد 1 - 350من طرق وهيب ثنا داود بن أبي هند ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال وهذا السند صحيح أبو نضرة اسمه المنذر بن مالك بن قطعة وهو تابعى ثقة من رجال مسلم: التقريب 2 - 275 وداود تابعي صغير وثقة متقن من رجال مسلم: التقريب 1 - 235 وتلميذه وهيب بن خالد بن عجلان ثقة ثبت من رجال الشيخين انظر التقريب 2 - 339. (¬2) جزء من حديث سالم الصحيح وهذه رواية البيهقي 8 - 145. (¬3) صحيح مسلم 3 - 1649. (¬4) صحيح مسلم 3 - 1649.

آخر المعجزات عند غسله

آخر المعجزات عند غسله تقول عائشة رضي الله عنها: "لما أرادوا غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثيابه كما نجرد موتانا أو نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه .. فقاموا إلى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه والقميص دون أيديهم" (¬1) أي أنهم يدلكون القميص على جسده عليه الصلاة والسلام بعد سكب الماء على الثوب .. وكان علي رضي الله عنه يتأمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يغسله وكأنه يبحث عن شيء فيقول: "غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلت انظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا وكان طيبًا حيًا وميتًا - صلى الله عليه وسلم -" (¬2) وبعد أن انتهوا من غسله ندمت عائشة قائلة: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه" (¬3) أي أنها تمنت لو غسله نساؤه فهن في نظرها أولى من الرجال وهو الأصوب وكأنها تتذكر ابتسامته عليه السلام لها قبل أسبوع .. حيث تقول رضي الله عنها: "رجع إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 6 - 84 ومن طريقه الطبري2 - 239 وغيره: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد عن عائشة وهذا السند صحيح وقد مر معنا كثيرًا. (¬2) سنده صحيح رواه الحاكم 3 - 61 والبيهقي في الدلائل 7 - 243 والكبرى 3 - 388 من طرق عن معمر عن الزهرى عن سعيد بن المسيب عن علي رضي الله عنه وسعيد بن المسيب إمام طبقته وكذلك تلميذه ومعمر بن راشد إمام ثقة ثبت فاضل انظر التقريب 2 - 266 (¬3) هو آخر حديث عائشة السابق عند ابن إسحاق.

مزج الماء بالكافور

أجد صداعًا في رأسي وأنا أقول: وارأساه .. قال: بل أنا يا عائشة وارأساه ثم قال: وما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ثم دفنتك .. قلت: لكأني بك أن لو فعلت ذلك قد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) وكأنها فهمت من هذا الحديث أن تغسيل الزوج لزوجته والعكس هو الأولى .. لكن ذلك لم يحدث وشرف الله عليًا ومن معه بتغسيل نبيه وقبل أن ينتهي علي رضي الله عنه ومن معه من تغسيله مزج الماء بالكافور في آخر غسلة لجسد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي السنة التي أرشد إليها عليه السلام من يغسلون الموتى وهي تساعد على نقاء جسد الميت ونظافته .. وقد حضر الصحابي عبد الله بن مغفل رضي الله عنه ذلك العمل فروى ذلك لمن حوله فقال: "إذا أنا مت فاغسلوني واجعلوا في آخر غسلة كافورًا" (¬2) ثم قال: "فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك به" (¬3) ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه ابن حبان 14 - 551 وغيره وقد مر معنا عند الحديث عن بداية مرضه - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) سنده حسن رواه الروياني 2 - 95 والحاكم 3 - 670 والخطيب في تاريخ بغداد 4 - 28 من طريق مسلم بن إبراهيم نا صدقة بن موسى نا الجريري عن عبد الله بن بريدة أن عبد الله ابن مغفل وابن بريدة تابعيان ثقتان وصدقة حسن الحديث إذا لم يخالف: التقريب 1 - 366 ومسلمٌ ثقة مأمون مكثر. (¬3) سنده حسن رواه الروياني 2 - 95 والحاكم 3 - 670 والخطيب في تاريخ بغداد 4 - 28 من طريق مسلم بن إبراهيم نا صدقة بن موسى نا الجريري عن عبد الله بن بريدة أن عبد الله ابن مغفل وابن بريدة تابعيان ثقتان وصدقة حسن الحديث إذا لم يخالف: التقريب 1 - 366 ومسلمٌ ثقة مأمون مكثر.

تطييبه عليه السلام

وبعد أن انتهى علي ومن معه من تغسيله - صلى الله عليه وسلم - قام علي بـ تطييبه عليه السلام فقد طيبه علي رضي الله عنه بمسك ثم احتفظ بباقيه كي يحنط به عند موته .. يقول أحد أصحاب علي: "كان عند علي مسك فأوصى أن يحنط به .. وقال علي: وهو فضل حنوط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1) أي باقي المسك الذي طيب به النبي - صلى الله عليه وسلم - .. ولما انتهوا من تطييبه بدأوا بـ: تكفينه (صلى الله عليه وسلم) فجاء عبد الله بن أبي بكر الصديق بحلة يمانية غالية اشتراها لكي يكفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - .. فكفن فيها ثم تشاور الصحابة .. فأحسوا بأن الأمر فيه تكلف فنزعوها عنه ثم كفن عليه الصلاة والسلام في ثلاث أثواب قطنية بسيطة ليس من ضمنها قميص أو عمامة .. تقول عائشة رضي الله عنها: "كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة .. أما الحلة فإنما شبه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية .. فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسى .. ثم قال: لو رضيها الله عَزَّ وَجَلَّ لنبيه لكفنه فيها .. فباعها وتصدق بثمنها" (¬2). ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه الحاكم 1 - 515 وغيره من طريق: حميد بن عبد الرحمن الرواسي ثنا الحسن بن صالح عن هارون بن سعد عن أبي وائل قال وأبو وائل مخضرم ثقة وتلميذه العجليّ صدوق رمي بالتشيع والرفض وقيل رجع عنه: التقريب: 2 - 311 والحسن بن صالح ثقة فقيه عابد رمي التقريب 1 - 167 وحميد ثقة من رجال الشيخين التقريب 1 - 203. (¬2) صحيح مسلم 2 - 649.

الصلاة عليه

ولما فرغوا رضي الله عنهم من تكفينه أرادوا: الصلاة عليه وقد كان الصحابة رضي الله عنهم قد سألوا أبا بكر فقالوا: "يا صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - .. هل يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - .. قال: نعم" (¬1) وكان بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجده محاطًا بجموع الصحابة رجالًا ونساء وأطفالًا ينتظرون الصلاة عليه .. لكن بيت عائشة لا يتسع لهم جميعًا فقد قدم صحابة من أطراف المدينة وما حولها .. ولا يمكن أن تحرم هذه الجموع المحبة المفجوعة من الصلاة على نبيها ووداعه والدعاء له .. فسألوا أبا بكر رضي الله عنه عن كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: "يا صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم .. قالوا: وكيف يصلى عليه؟ قال: يدخل قوم فيكبرون ويدعون ويجيء آخرون" (¬2) فنظموهم مجموعات مجموعات وحددوا أحد أبواب عائشة للدخول وآخر للخروج بعد أداء الصلاة .. يقول أحد الذين شاهد تدفق أمواج الحب تلك: "لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: كيف نصلي عليه؟ قالوا: ادخلوا من ذا الباب أرسالًا أرسالًا فصلوا عليه واخرجوا من الباب الآخر" (¬3) فتحولت الحشود إلى مجموعات صغيرة ودخلت بترتيب ¬

_ (¬1) جزء من حديث سالم بن عبيد السابق. (¬2) جزء حديث سالم بن عبيد السابق. (¬3) سنده صحيح رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 2 - 289 أخبرنا عفان بن مسلم والأسود بن عامر قالا أخبرنا حماد بن سلمة قال أخبرنا أبو عمران الجوني أخبرنا أبو عسيم شهد ذلك .. وأبو عمران الجوني هو عبد الملك بن حبيب تابعى ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 518 وحماد إمام معروف وكذلك تلميذه عفان والأسود هو المعروف بـ: شاذان وهو ثقة من رجال الشيخين: التقريب 1 - 76.

دفنه ليلا

وسكينة وخشوع مخضبة بالدموع والبكاء .. فتحول المسجد وبيت عائشة إلى ساحة من النحيب والأنِين والرضا بقضاء الله والحمد للذي لا يحمد على مكروه سواه .. ولا أدري ما هي حال المكان بعد دخول أمهات المؤمنين وبقية النساء .. لا أدري ما هي حال الفقراء والمساكين وأهل الصفة وهم يصلون على كافلهم والحاني عليهم .. وكيف هي حال المدينة كلها في ذلك اليوم الثقيل المؤلم .. انتهى الرجال والنساء والأطفال من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا الدنيا مساء وإذا الشمس قد غربت فلم يجدوا بدًا من: دفنه ليلًا في غرفه عائشة وذلك لأنه المكان الذي توفي فيه وقد سألوا أبا بكر عن ذلك فقالوا: "يا صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - هل يدفن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم قالوا: وأين يدفن؟ قال: في المكان الذي قبض الله فيها روحه فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيبة" (¬1) وتقول عائشة رضي الله عنها: "لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: أين يدفن فقال أبو بكر: في المكان الذي مات فيه" (¬2) لكن الصحابة قد تحيروا من ذهولهم في كيفية شكل قبره هل يضرحون له أم يلحدونه .. تقول عائشة الحزينة عائشة التي فقدت دلال حبيبها وعنايته: "لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا: نستخير ¬

_ (¬1) جزء من حديث سالم بن عبيد الصحيح. (¬2) سنده صحيح رواه ابن سعد 2 - 292 أخبرنا أبو الوليد الطيالسي أخبرنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وأبو الوليد الطيالسي هو هشام بن عبد الملك ثقه ثبت من رجال الشيخين: التقريب وبقية السند صحيح على شرط مسلم 4 - 1836.

ربنا فبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد فألحدوا له" (¬1) والضريح شق في الأرض أما اللحد فشق كذلك ولكن في أسفله وبالتحديد في جهة القبلة منه ميل في زاوية القبر يوضع فيها الميت على جنبه الأيمن تجاه القبلة .. ولما وصل الرجل الذي يلحد حفر لحدًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعاونه بعض الصحابة .. كانت المساحي تحفر قلب عائشة ومن معها .. وتدمي قلوب المؤمنين الساهرين حول بيت نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .. تقول عائشة رضي الله عنها: "ما شعرنا بدفن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل" (¬2) .. وكان عدد الذين دخلوا القبر أربعة رجال أو أكثر .. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه دخل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي والفضل وأسامة" (¬3) وقال أحد الصحابة "إنهم أدخلوا عبد الرحمن بن عوف فكأني أنظر إليهم في القبر أربعة" (¬4) .. وبعد أن أتموا حفر قبره الشريف ودخلوه ¬

_ (¬1) سنده قوي رواه أحمد 3 - 139 وابن ماجه 1 - 496 من طريق المبارك بن فضالة حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك والمبارك صدوق لكنه مدلس لكنه صرح بالسماع من شيخه التابعي الثقة حميد الطويل وله شاهد قوي صحيح السند رواه ابن سعد بالسند السابق. (¬2) سنده قوي رواه عبد الرزاق 3 - 520 عن ابن جريج وغيره عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة عن عائشة .. عمرة تابعية ثقة أكثرت الرواية عن عائشة وأبو بكر بن محمَّد عمرو بن حزم وابنه ثقتان وابن جريج ثقة وقد توبع لأنه مدلس كما رواه ابن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر وفاطمة بنت محمَّد عن عمرة عائشة. (¬3) سنده صحيح رواه أبو يعلى 4 - 253 وعبد الرزاق 3 - 495 والبيهقيُّ 4 - 53 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبى قال أخبرني ابن عباس وقال الشعبى حدثني أبو مرحب وهذا السند صحيح إسماعيل ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 68 والشعبي تابعى ثقة من أئمة التابعين. (¬4) سنده صحيح رواه أبو يعلى 4 - 253 وعبد الرزاق 3 - 495 والبيهقيُّ 4 - 53 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرني ابن عباس وقال الشعبي حدثني أبو مرحب =

فرشوا على أرض القبر كساء أحمر يسمى قطيفة يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء" (¬1). وبعد أن فرشت تلك القطيفة قال علي رضي الله عنه: "إنما يلي الرجل أهله" (¬2) ويبدو أن عبد الرحمن خرج مكسورًا من القبر فنزل بدلًا منه قثم بن العباس رضي الله عنهم جميعًا .. وحانت ساعة الوداع المريرة .. حان وضع الحبيب في قبره فلن تراه العيون بعد اليوم إلا يوم القيامة .. حانت ساعة النحيب المر في ليلة كان السهر والحزن هو الجليس لأهل المدينة .. حيث حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - من فوق السرير فاستلمه علي ومن معه في القبر فأدخلوه في اللحد على جنبه الأيمن باتجاه القبلة ثم جعلوا اللِّبْنَ منصوبًا على اللحد .. وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يشهد المنظر ويقول لمن حوله: "ألحدوا لي لحدًا وانصبوا علي اللبن نصبًا كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬3) وبعد أن فعل علي ومن معه رضي الله عنهم ذلك خرجوا ليهيلوا التراب على القبر وكان آخر من خرج من القبر قثم بن العباس .. يقول علي رضي الله عنه: "أحدث الناس عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قثم بن ¬

_ = وهذا السند صحيح إسماعيل ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 68 والشعبي تابعي ثقة من أئمة التابعين. (¬1) صحيح مسلم 2 - 665. (¬2) سنده صحيح رواه أبو يعلى 4 - 253 وعبد الرزاق 3 - 495 والبيهقيُّ 4 - 53 من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال أخبرني ابن عباس وقال الشعبي حدثني أبو مرحب وهذا السند صحيح إسماعيل ثقة ثبت من رجال الشيخين: التقريب 1 - 68 والشعبي تابعي ثقة من أئمة التابعين. (¬3) صحيح مسلم 2 - 665.

عباس" (¬1) .. لكن المغيرة بن شعبة كان يرقب المشهد بألم .. كان يفرك دهاءه كي يمس النبي عليه السلام في قبره قبل أن يهال التراب عليه: "فلما وضع في لحده - صلى الله عليه وسلم - قال المغيرة: قد بقي من رجليه شيء لم يصلحوه قالوا: فادخل فأصلحه فدخل وأدخل يده فمس قدميه فقال: أهيلوا علي التراب فأهالوا عليه التراب حتى بلغ أنصاف ساقيه ثم خرج فكان يقول: أنا أحدثكم عهدًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ثم أهالوا التراب والدموع عليه وبكاه من في بيت عائشة ومن في المسجد ومن في الطرقات والمنازل .. بكوا ذلك النبي الذي كان أرحم الناس بهم وأحب الناس إليهم .. بكوا محمدًا الذي كانت مصيبة موته تخفف كل المصائب التي تمر بالمؤمنين .. محمدًا الذي فارق الحياة جسدًا لكنه بقي سنة ومنهجًا .. نهض الصحابة من عند قبره مثقلين بالكمد ¬

_ (¬1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق السيرة النبوية 6 - 87 حدثني أبي؛ إسحاق بن يسار عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل عن مولاه عبد الله بن الحارث عن علي وهو سند صحيح فوائد ابن إسحاق تابعى ثقة وكذلك مقسم وعبد الله بن الحارث مجمع على توثيقه انظر التقريب 1 - 408. (¬2) سنده صحيح رواه أحمد 5 - 81 وغيره من طريق عن حماد بن سلمة عن أبي عمران يعني الجوني عن أبي عسيب أو أبي عسيم قال بهز إنه شهد الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأبو عسيب صحابي وأبو عمران الجوني اسمه عبد الملك بن حبيب وهو ثقة من كبار التابعين: التقريب 1 - 518 وحماد إمام ثقة معروف.

محملين بسنته وقرآن ربه وربهم .. نهض الصحابة بعد دفنه ولم يعكفوا عند قبره ولم يحولوا ذلك القبر إلى مزار مرصع بالجواهر مطلي بالذهب .. بل إن عائشة استمرت في السكن في بيتها ولم تفارقه .. أما الصحابة فلم يضيعوا أوقاتهم عند قبره بتلاوة الأشعار والمدائح والبكائيات الفارغة بل ولا بقراءة القرآن .. لقد علمهم عليه الصلاة والسلام كيف يصنعون الحياة .. كيف يشرقون كالشمس في عروق المستقبل والأجيال .. نهضوا من عند قبره فحملوا رسالته إلى العالم لينقذوه بها كما أنقدهم هو قبل ذلك بها .. فصلى الله عليه وسلم وجزاه عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته وجمعنا به في جناته.

§1/1