السيرة النبوية - راغب السرجاني

راغب السرجاني

السيرة وبناء الأمة

سلسلة السيرة النبوية_السيرة وبناء الأمة أعظم مخلوق وطئ الثرى هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله عز وجل في حياته من العبر والعظات ما يجعل كل ناظر فيها يتعجب منها، ويأخذ من حياته عليه الصلاة والسلام نبراساً يستضيء به، فهو شخصية عظيمة جداً، كيف لا وهو خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، وكل حركة من حركاته مؤيدة بالوحي.

عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وكبير مقامه بين الخلق

عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وكبير مقامه بين الخلق إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فها نحن اليوم مع موضوع من أهم الموضوعات في حياة المسلمين، بل في حياة الأرض بأكملها، نحن مع سيرة رجل هو أعظم رجل خلقه الله عز وجل منذ خلق آدم وإلى يوم القيامة. الناس عادة يتفوقون في مجال ويتأخرون في آخر، لكن هذا الرجل تفوق في كل مجال، تفوق في عبادته، في معاملاته، في شجاعته، في كرمه، في حلمه، في زهده، في حكمته، في ذكائه، في تواضعه، في كل شيء، إن هذا الرجل بحق قد سبق غيره! فمع سيرة الإنسان الذي خاطبه الله عز وجل وقال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. بل قد أقسم الله جل وعلا بحياة هذا الرجل فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. مع سيرة الرجل الذي لن يحاسب الله عز وجل الخلائق يوم القيامة إلا عندما يشفع لهم، وكل نبي في الموقف لن يشفع حتى لأتباعه المؤمنين به إلا بعد أن يشفع هذا الرجل. مع سيرة الرجل الذي لن ندخل الجنة إلا خلفه، ولن نروى يوم القيامة إلا من حوضه وكوثره، وهذا متوقف على معرفتنا بسيرته ونهجه، واتباعنا له فيهما، فإن صنعنا ذلك كانت لنا النجاة في الدنيا والآخرة، وإن جهلنا طريقته أو خالفناها قيل لنا: سحقاً سحقاً. نحن أمام سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الماحي الذي محا الله عز وجل به الكفر، وأول من يبعث من الخلائق يوم القيامة، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب المقام المحمود والحوض المورود صلى الله عليه وسلم. أمام سيرة الرجل الذي فتحت له أبواب السماء ليخترقها بجسده إلى ما بعدها، لما صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل في رحلة المعراج إلى السماء وطرق الباب أجاب الملك فقال: (من؟ قال: جبريل. قال: ومن معك؟ قال: محمد. قال: أو أرسل إليه؟ قال: نعم) ففتح باب السماء، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان لم يدخله بشر قبل ذلك وهو حي. نعم، هذا هو الرجل الذي وصل إلى مكان لم يصل إليه بشر، ولم يتجاوزه حتى جبريل الملك العظيم، ويصل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنه الرجل الذي شاهد الجنة والنار بعينه لا بعقله. ونحن هنا لا نقارن عظمة هذا الرجل صلى الله عليه وسلم بعظمة بوذا وكونفوشيوس وهتلر ولينين وستالين كما فعل صاحب كتاب الخالدون المائة، وإن كان قد جعل أعظمهم محمداً، والعجيب أنك تجد الناس فرحين بذلك الكتاب. إن مقام هذا الرجل لا يسمح إلا بأن نضعه في مصافِّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ في رتبة أعلى من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وكل أنبياء الله عز وجل عليهم الصلاة والسلام أجمعين، في مقام ضخم جداً نقارنه بالملائكة أجمعين، بملك الأرزاق، بملك البحار، بملك الجبال، بحملة العرش، بل وبجبريل عليه السلام، جبريل لما وصل إلى سدرة المنتهى لم يستطع أن يتقدم، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تقدمت خطوة لاحترقت)، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم مكنه الله عز وجل أن يتقدم، فتقدم للقاء الله عز وجل. إن عظم مقام هذا الرجل جعل له ذكراً خالداً، وعلى قدر هذه العظمة يجب أن يكون اهتمامنا بسيرته وحياته، وبكل دقيقة مرت من حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم.

حال أمة الإسلام في الوقت الحاضر

حال أمة الإسلام في الوقت الحاضر إخواني في الله! إن دراسة السيرة النبوية مهمة في كل زمان، وهي ولا شك في زماننا أهم، فحال الأمة وما أصيبت به من تصدع وتفكك وانهيار في أجزاء، وانحلال في أجزاء أخرى، ما هو إلا أزمة خطيرة تمر بها أمة الإسلام، ونجد تبايناً كبيراً بين ما وصف الله عز وجل به هذه الأمة في كتابه الكريم وبين حال الأمة الواقع الذي نراه بأعيننا، فالله عز وجل يقول في كتابه مثلاً: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]. ويقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. ثم تأتي بعد ذلك لتنظر إلى واقع المسلمين وحالهم، فتجد التأخر في كل المجالات التي يجب أن تنافس أمتنا غيرها فيه، فمثلاً على الصعيد العسكري انظر إلى أي دولة إسلامية، وضع في الحسبان أن على مساحة الأمة الإسلامية أكثر من ستين دولة، تجد أن معظم الدول الإسلامية تسليحها أقل من تسليح الدول المحاربة لها. ولأول مرة في التاريخ نسمع عن دولة تؤمر بتدمير أسلحتها بنفسها وإلا عوقبت، والدول المحيطة من دول العرب والمسلمين اعتقدت أن هذا هو الطريق الأمثل للنجاة، ثم تتتابع إليها الخطابات الحادة، والكلمات اللاذعة: ما زال هناك سلاح لم يدمر، ما زال هناك سلاح مداه طويل، ما زال هناك سلاح عند عدوك مثله ويصبح الأصل أن تدمر الدولة أسلحتها بنفسها، وإلا عوقبت. لأول مرة في التاريخ نسمع عن دول توقع على نفسها أنها لا تنتج سلاحاً يمتلكه عدوها، بل ونفتخر بهذا الأمر، ويعلن بصيغة الفخر، وأننا نشارك في هذه المعاهدات، مع أن معظم دول الأرض عندها نفس السلاح، وتصبح منتهى أحلام المسلمين أن ينزع السلاح من إسرائيل فقط، مع أنهم يعلمون أن فرنسا وإنجلترا وأمريكا وروسيا وحتى كوريا تمتلك نفس السلاح، لكن لا ينزع السلاح من هؤلاء. وما هذا في الحقيقة إلا تأخر عسكري رهيب لم يسبق في تاريخ المسلمين. أما الجانب الاقتصادي فإن التأخر فيه غير مفهوم مع إمكانيات الأمة الضخمة، فأمة الإسلام مشتهرة بالبترول والمعادن والكميات الهائلة من منتجات المواد الخام، ومن سيطرتها على ممرات بحرية، ولا أحد يعرف ما سبب هذا التخلف الضخم مع كل هذه الأمور؟! كذلك يوجد تأخر علمي، بل فجوة هائلة بيننا وبين غيرنا تقدر بمئات السنين، لا أقول بعشرات السنين أو بآحاد السنين. تأخر حتى في الوحدة، فلا تجد دولتين مسلمتين إلا وبينهما صراع ونزاع على الحدود. وهذا أمر يشق كثيراً على النفس. حتى في المجال الأخلاقي، نحن دائماً نقول: إن الحضارة ليست هي الأشياء المادية فقط، ليست السلاح أو المعمار أو الأموال، بل الحضارة أشياء كثيرة مجتمعة مع بعضها، ومن أهمها الأخلاق، ثم انظر إلى الأمور الأخلاقية في العالم الإسلامي، لا تسأل عن كيفية التعامل بين الجيران في البلاد الإسلامية، أو كيف يعامل الموظفون الجمهور، أو ما هي أخبار الرشوة والفساد، وأخبار الإعلام وشاشات الأفلام، والإباحية المفرطة في الأغاني والإعلانات والشوارع وفي كل مكان، حتى في أماكن العلم كالجامعات والمدارس نرى أموراً كنا نتخيل أنها لا توجد إلا في ملهى ليلي، ثم وجدناها في الجامعة، في مكان العلم، في المكان الذي يفترض أن تركز الناس فيه أكثر تركيز على رفعة هذه الأمة.

عوامل بناء الأمة وتحقيق النصر

عوامل بناء الأمة وتحقيق النصر من المؤكد أن القرآن حق لا باطل فيه، وصدق لا كذب فيه، فالقرآن يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، ويقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]. فإذا كان القرآن صادقاً وحقاً، فالخلل والعيب فينا نحن عندما لم نطبق تعاليمه، ولم نطبق سنة نبينا صلى الله عليه وسلم جيداً، لذلك حصل فينا ما حصل. وأنا مع هذا كله لا أدعوكم إلى الإحباط، ولكن أدعوكم إلى إعادة بناء الأمة الإسلامية، وترميم الصدع الكبير الذي حدث، فيها، وأقول لكم: هناك أمل كبير في إعادة البناء، بل هناك يقين في إعادة البناء، ووالله لسوف تقوم الأمة من جديد وتنهض؛ لأن هذا ما وعد الله عز وجل به، والله لا يخلف الميعاد، إن الله عز وجل يقول في كتابه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، ليس فقط يوم القيامة، بل في الحياة الدنيا أيضاً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) فسيبلغ ملك أمة المسلمين حتماً مشارق الأرض ومغاربها، فهذا وعد ملك الملوك على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. لكن في مسألة اليقين لا بد من الحديث عن نقطتين عليهما محور هذه المسألة.

اليقين الجازم بوعد الله بالنصر

اليقين الجازم بوعد الله بالنصر النقطة الأولى: أننا نريد يقيناً مثل يقين الصحابة رضي الله عنهم أجمعين خاصة في غزوة الأحزاب، والأحزاب متجمعة حول المدينة المنورة في عشرة آلاف رجل، وهذا رقم ضخم جداً في زمان الجزيرة العربية وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ضائقة شديدة جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم في وسط هذه الضائقة يضرب الحجر الضخم الذي استعصى على الصحابة ويقول: (الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله! إني لأرى قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثانية وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إني لأرى قصر المدائن الأبيض، ثم ضرب الثالثة وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله! إني لأرى قصور صنعاء من مكاني). تخيل حال الصحابة وهم يسمعون بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح فارس والشام واليمن وهم في هذه الضائقة ماذا كان حالهم؟! أما المؤمنون فقد قالوا كما حكى الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. في هذه الضائقة علموا أن نصر الله عز وجل قريب؛ لأن نصر الله عز وجل يأتي بعد اشتداد الأزمات، لكن المنافقون لما شاهدوا الفجوة الواسعة بين إمكانيات المسلمين في المدينة المنورة، وبين إمكانيات الأحزاب، قالوا كما حكى الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، هكذا قال المنافقون لما اعتمدوا في تقييمهم على رؤية الفجوة الواسعة الضخمة بين حال المؤمنين في هذه اللحظة وبين حال الكافرين، لم يقدروا قدر الله عز وجل، لم يقدروا عظمة الله عز وجل، لم يقدروا قوة الله عز وجل، ولما كان المنافقون لا يؤمنون كان هذا هو التقييم اللائق بهم، أما المؤمنون الصادقون الذين يعلمون قدر الله عز وجل وعظمته فقد علموا أن النصر قريب؛ لأن الأزمة اشتدت. وها هي الأزمة قد اشتدت على الأمة الإسلامية واستحكمت حلقاتها، وسيأتي النصر إن شاء الله رب العالمين.

الدور المنوط بكل فرد وجماعة في بناء الأمة وفق المنهج الشرعي

الدور المنوط بكل فرد وجماعة في بناء الأمة وفق المنهج الشرعي النقطة الثانية: ما هو دورك في بناء هذه الأمة الإسلامية؟! نحن دائماً ننتظر أناساً من الخارج تأتي لتعيد بناء الأمة الإسلامية من جديد، لكن أين الدور الذي كلفك الله عز وجل به لإعادة إعمار الأمة الإسلامية، أو لإعادة ترميم الأمة الإسلامية لكي تعود إلى الصدارة كما وصفها الله عز وجل بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. إن قصر كل الناس في أعمالهم فلن يحاسبك الله عز وجل إلا على تقصيرك أنت فقط، وهذا من عدل الله عز وجل. كل واحد منا يريد أن يعيد بناء الأمة على طريقته، وعلى منهجه، فهناك من يقول: إن كنا نريد أن نعيد بناء الأمة الإسلامية لا بد وأن نأخذ المنهج الاشتراكي، ورغم ما استفاض من أنه منهج خطأ، إلا أن بعض الدول ما زالت مستمرة في النفاح عنه، مع أن الدول التي اخترعته قد تخلت عنه. ثم جماعة أخرى تقول: نأخذ المنهج الرأسمالي. وأخرى تقول: نجرب القانون الفرنسي، وأخرى الإنجليزي، وأخرى الإيطالي وهكذا نلملم من الشرق ومن الغرب، ونختلف ونتصارع ونتشاحن؛ لأننا مختلفون على المناهج، فعندما يأتي وقت الاختلاف من نحكم؟ اسمع لنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، وهذه هي المشكلة التي نحن واقعون فيها الآن، يا ترى بمنهج من نأخذ؟ نأخذ بمنهج الشرق أو الغرب!! ثم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). من هنا كانت دراسة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودراسة حياة الخلفاء الراشدين المهديين أمراً حتمياً لمن أراد أن يهتدي إلى الطريق الصحيح لبناء الأمة الإسلامية، ولن ينفع أن نبنيها على غير منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سبب الاقتصار على ذكر بعض جوانب العهد المكي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

سبب الاقتصار على ذكر بعض جوانب العهد المكي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المجموعة من الدروس نتحدث عن جانب من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العهد المكي من السيرة النبوية، وليس الغرض من وراء هذا المجموعة استقصاء كل واقعة حدثت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فهذا أمر يطول شرحه، ويعجز البيان عن وصفه لأمور:

كثرة الوقائع والتفاصيل المسجلة في حياته عليه الصلاة والسلام

كثرة الوقائع والتفاصيل المسجلة في حياته عليه الصلاة والسلام الأمر الأول: أن الفترة المكية قد سجلت كل وقائعها بدقة، وبالذات منذ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات، كل لحظة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن بعث وإلى أن مات سجلت، ولم تسجل حياة إنسان على وجه الأرض بهذه الدقة، حتى دخل التسجيل إلى أدق تفاصيل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل من حِكَمِ زواجه صلى الله عليه وسلم من عدد كبير من النساء: أن ينقلن الحكمة التي تعلمنها من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصية الداخلية التي لا يراها غيرهن، وما هذا التسجيل الضخم الدقيق إلا لأنه صلى الله عليه وسلم قدوة كاملة، وليس بعده نبي إلى يوم القيامة، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. إذاً: نحن مطالبون باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطوات حياتنا، في رضاه وغضبه صلى الله عليه وسلم، في حزنه وسروره، وفي حله وترحاله، إذا رضي فهذا هو الموضع الذي يجب أن نرضى فيه، وإذا غضب فهذا هو الموضع الذي يجب أن نغضب فيه.

التنوع في حياته عليه الصلاة والسلام

التنوع في حياته عليه الصلاة والسلام الأمر الثاني الذي جعل إحصاء كل أمر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر صعب: التنوع العجيب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتارة يكون مطارداً معرضاً للأذى والاضطهاد كما في حادث الهجرة، يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فارين من أهل مكة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مطلوب الرأس، وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، إلى أن يصلا إلى المدينة المنورة بعد أيام من الفرار، وفي نفس سيرة هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم تجد أنه ممكنّ في الأرض، يرسل الرسائل إلى كل عظماء الأرض: من محمد صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس. من محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيصر عظيم الروم. إلى المقوقس عظيم مصر. انظروا الفرق الضخم الهائل بين حالة كان يعيشها صلى الله عليه وسلم، وبين حالة أخرى عاشها ذاته، تارة تجد أنه صلى الله عليه وسلم يعاهد قوماً، وتارة يحاربهم، تارة يكون فقيراً معدماً يربط على بطنه حجرين من الجوع، ولا يوقد في بيته النار ثلاثة أهلة في شهرين، وفي وقت آخر من السيرة تجد أن هذا الرجل ذاته قد أصبح غنياً تأتيه الأموال من كل بقاع الجزيرة العربية، وينفق الأموال في سبيل الله إنفاقاً غير مسبوق، يعطي هذا مائة من الإبل، وهذا مائة من الإبل، وهذا أكثر، وهذا أقل ينفق إنفاقاً عجيباً! هذا هو نفس الرجل الذي كان يتعامل مع المشركين واليهود والنصارى والمنافقين والمؤمنين، فتارة ينتصر عليهم، وتارة يهزم. كل تنوع ممكن يحصل في حياة أمة قد حدث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذا أمر يجعل إحصاء كل مواقف السيرة أمر صعب جداً، خصوصاً وأنت تريد أن تلاحظ كل هذه المتغيرات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن مجموعة واحدة من الدروس.

أثره صلى الله عليه وسلم في بناء الجيل الفريد الذي غير مجرى التاريخ

أثره صلى الله عليه وسلم في بناء الجيل الفريد الذي غير مجرى التاريخ الأمر الثالث: أن هناك جيلاً رائعاً عظيماً عاش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الجيل العظيم خلق أحداثاً لا نهاية لها، تعجز عشرات المجلدات عن حملها. وهكذا الإنسان العظيم إذا عاش في مجتمع من الناس ليست لهم قيمة يضيع بينهم، لكن الرجل العظيم هو من يعيش في وسط عظماء يتفاعلون معه بصورة إيجابية في كل لحظة من لحظات الحياة، يتحركون بحمية، يفكرون بجدية، يتناقشون بفهم ووعي وإدراك، يفكرون بذكاء، وكل واحد من هؤلاء الصحابة قصة ضخمة في حد ذاته، فهذا أبو بكر مثلاً يحتاج إلى عشرات المجلدات لوصف مواقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك عمر وعثمان وعلي وعائشة وحفصة وصفية، وكل المهاجرين والأنصار، آلاف من الكتب والمراجع كتبت عن هؤلاء الصحابة، وكل هذا في النهاية هو جزء من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها أحداث عظيمة

حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها أحداث عظيمة الأمر الرابع: الأحداث العظيمة التي تحدث في حياة الناس، كلما عظم الحدث احتاج إلى دراسة وتحليل ووصف وشرح، أحياناً تمر على حياة الناس عشرات السنين دون حدث عظيم يؤثر في حياة مجموع البشر، لكن الأحداث المؤثرة تحتاج إلى تفصيل ودراسة، ممكن تجد دولة تعيش عشرات السنين دون أن تجد في حياتها حدثاً ضخماً مؤثراً. فمثلاً عندما حدث في مصر حرب رمضان المباركة، نسأل الله عز وجل أن يعيد للمسلمين أمثالها، كم جرى لها من تحليل ودراسة رغم أنها وقعت من عقود، وإلى الآن نكتب عنها، وسيظل يكتب عنها المحللون والمؤرخون؛ لأنها حدث كبير. كيف وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها أحداث ووقائع؟ ففي سنة (92) حدثت موقعة حربية ضخمة هي غزوة بدر، وفي (3هـ) غزوة أحد وبنو قينقاع، وفي (4هـ) بنو النضير، وفي (5هـ) الأحزاب وبنو قريظة وبنو المصطلق وهكذا هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر كم نحتاج إلى تحاليل ودراسات.

قواعد في دراسة السيرة النبوية

قواعد في دراسة السيرة النبوية السيرة معين لا ينضب، وفي كل زمن ينظر المفكرون في هذه السيرة يستخرجون منها الجديد، مع أن الحدث نفسه قد فكر فيه من قبل آلاف من المفكرين والمحللين، إلا أن هناك أثراً ملحوظاً من أحداث السيرة النبوية، وهدفاً كبيراً نحن نفكر فيه، وهو إعادة بناء الأمة الإسلامية بدراسة السيرة النبوية المطهرة المشرفة، وأي دراسة للسيرة سنخرج منها بفوائد، لكن نحن نريد أن نضع بعض القواعد التي لو جعلناها نصب أعيننا أثناء دراسة كل حدث سنستفيد استفادة أكبر وأعمق، وسنضع لهذا الأمر أربع قواعد، فكل حدث حاول أن تلاحظ فيه هذه القواعد، وكل موقف يمر عليك جرب أن تطبق عليه هذه القواعد.

السيرة النبوية المصدر الثاني للتشريع في دين الإسلام

السيرة النبوية المصدر الثاني للتشريع في دين الإسلام القاعدة الأولى: أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع في الدين الإسلامي؛ إذ المصدر الأول بلا جدال هو القرآن الكريم، والمصدر الثاني هو السنة المطهرة. والسنة: هي كل قول أو فعل أو تقرير لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بمعنى: أن أي فعل فعله أحد الصحابة وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن سكت عنه أو استحسنه فهو من السنة المطهرة، وليس من الممكن أن تعرف السنة من غير دراسة السيرة النبوية. إذاً: مصادر التشريع الرئيسية هي القرآن والسنة، وهناك مصادر أخرى كثيرة، مثل: الإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب والعرف إلى مصادر كثيرة اختلف الفقهاء في ترتيبها، لكن لم يختلف أحد في أن القرآن هو المصدر الأول والسنة هي المصدر الثاني، وليس عنهما بديل. السنة في غاية الأهمية في التشريع الإسلامي، وكذلك السيرة لا بد منها لفهم السنة في التشريع الإسلامي، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، من غير السيرة ومن غير السنة لن تستطيع أن تفهم القرآن الكريم. عندما نمر على حدث من أحداث حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نمر على أمر من الأمور التشريعية في الدين الإسلامي لحياة المسلمين؛ لأننا ندرس في السيرة الدين، فليست دراسة السيرة مجرد شيء لطيف نقرؤه، أو نتسلى بقراءته، أو مجرد سيرة رجل عظيم، هذا هو دينك، هذا هو الذي ستقابل به الله سبحانه وتعالى وسيسألك عنه، ولو فهمت السيرة بشكل صحيح وطبقتها ستقابل ربك بوجه حسن، وبعمل صالح. ثم أحذركم من طائفة بعضهم من المسلمين تشك في أمر السيرة النبوية، وتزعم أنها تكتفي بالقرآن الكريم، وقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الطائفة في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك رجل منكم متكئ على أريكته يُحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي حرم الله). ونحن أيضاً نقول لهم: استمعوا إلى كلام الله عز وجل في القرآن الكريم الذي تؤمنون به، يقول الله عز وجل في كتابه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. ويقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] أي: يحكموك أنت يا محمد {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. والصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يفرقون بين قرآن وسنة، أما لو كان أحد لا يؤمن بالقرآن أصلاً وبأوامر القرآن فلا داعي للكلام معه، إذ الأمر معه منقطع. إذاً: فكل حدث في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون أمراً تشريعياً، حتى وإن كان جزئياً من الدين، لا بد أن تنتبه له لكي تطبقه، وإذا لم تطبقه فلعلك أن تضل وتبعد، ثم يقال لك: سحقاً سحقاً.

التعرف الصحيح على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم

التعرف الصحيح على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة الثانية: هي التعرف على شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، نريد أن نعرف من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هو خير البشر أجمعين، وخاتم المرسلين، وسيد الأولين والآخرين هو أعظم شخصية سارت على هذه الأرض منذ بدء الخلق وإلى يوم القيامة، فهو شخصية جديرة بالدراسة، وهناك أشياء كثيرة نريد أن نعرفها عن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونضعها في أذهاننا بوضوح عند كل موقف من مواقفه صلى الله عليه وسلم. أهم شيء في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أنه رسول من عند رب العالمين. لقد شاء الله عز وجل ألا يكلم عباده في الدنيا كفاحاً، وأبقى ذلك نعيماً لمن دخل الجنة، وشاء كذلك أن يخاطب عباده عن طريق رسول من البشر، ومن كل الخلق اختار محمداً صلى الله عليه وسلم ليبلغ الناس الرسالة العالمية عنه سبحانه وتعالى. إذاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقيقته ما هو إلا ناقل عن رب العزة سبحانه وتعالى، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وعلى هذا القدر من الأهمية يجب أن يؤخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القدر من العظمة يجب أن تؤخذ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه السيرة هي النموذج العملي التطبيقي الذي رسمه الله عز وجل لخلقه كي يقتدوا به ويقلدوه. والسيرة هي المنهج الذي نمشي عليه، وهي الدليل في الصحراء، ومن غير الدليل سوف نهلك لا محالة. فلو ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً ما، فهو ما أراده الله عز وجل منا، حتى لو كان هذا الفعل من النوافل! فهي ليست من اختراع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهناك من يظن أن الظهر فرضه ربنا سبحانه وتعالى علينا أربع ركعات، ثم اجتهد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أربع ركعات قبلها وأربع ركعات بعدها، الأمر ليس كذلك، فالله عز وجل قد شرع للفرائض رواتب من السنن جاءت قبله وبعده، وجعل هذه فرضاً وجعل هذه نافلة، وكل شيء في الأخير مرده إلى الله سبحانه وتعالى. حتى لو اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ما خلاف الأولى، حيث كان من المفروض أن يختار كذا، ولكنه اختار رأياً آخر أقل منه درجة، فإن الوحي يأتي ليعدل المسار ويختار لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاختيار الأكمل، الذي يصلح لهذه الأمة في زمانه وإلى يوم القيامة. إذاً: دراسة السيرة من هذا المنظور تعطي لها قدراً عظيماً جداً من الأهمية، نحن لا ندرس أي شخصية، نحن ندرس شخصية رسول من رب العالمين، وليس فقط أي رسول! بل خير الرسل وخاتم النبيين. هذه القاعدة الثانية من القواعد التي من المفروض أن نضعها في أذهاننا عند كل حدث من أحداث السيرة النبوية؛ لأننا نتعامل مع وحي من رب العالمين.

كيفية محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

كيفية محبة الرسول صلى الله عليه وسلم القاعدة الثالثة: هي أن نتعلم كيف نحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ حب الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يفوق كل حب، إن لم يحدث هذا الحب فهناك خلل في الإيمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). ويقول: (لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)، رواه البخاري ومسلم. وكلنا نحفظ الحوار اللطيف الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمر بن الخطاب، فقد جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب قال: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي)، كلنا يحب نفسه، ولكن انتبه وقف وقفة صادقة مثلما وقف عمر مع نفسه، وراجع نفسك: هل أنت تقدم أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون حياتك، أم أن حبك حب سطحي، تقدم حب أشياء كثيرة فوق حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن كان سيدنا عمر قال: يا رسول الله! أنا أقدم حبك على كل شيء إلا نفسي، فقال له صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فأنت الآن والله! أحب إلي من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر) يعني: الآن اكتمل الإيمان، الآن اكتمل الصدق مع الله عز وجل، لن تكون صادقاً مع الله عز وجل في اتباعه وفي محبته إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. إن دراسة السيرة تعين على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قضية محورية في إيمان العبد، والتعرف السطحي على شخصية ما لا يتولد عنه عميق حب، إنما التعرف على دقائق الحياة، واكتشاف مواطن العظمة المختلفة في الشخصية هي التي تولد الحب في قلب الإنسان، ولا أحسب إنساناً صاحب فطرة سليمة يقرأ أو يسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحبه، وكلما عرفته أكثر كلما أحببته أكثر، وكلما أحببته أكثر زاد إيمانك، إنها علاقة تفاعلية في غاية الأهمية في حياة المؤمنين. اقرأ عن أي موقف من مواقف السيرة، ضع إصبعك بصورة عشوائية على أي موقف من مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، منذ ولد وإلى أن مات صلى الله عليه وسلم، اقرأ في حياته كلها عن معاملاته: كيف كان يتعامل في بيته مع زوجته، مع بناته؟! كيف كان يتعامل مع أصحابه؟! كيف كان يتعامل مع أعدائه؟! اقرأ عن جهاده، عن أي غزوة قادها صلى الله عليه وسلم، عن صدقه، عن أمانته، عن شجاعته، عن تقواه، عن عبادته، عن قضائه، عن سياسته، عن المعاهدات التي عقدها صلى الله عليه وسلم كالحديبية مثلاً. اقرأ عن الهجرة، عن بدر، عن أحد، عن فتح مكة، عن أي موقف وستحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عميقاً. لقد عدَّ الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم نعمة ومنة منه على الخلق، قال الله عز وجل في كتابه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. إذاً: من القواعد الهامة جداً التي تضعها في تفكيرك وأنت تدرس السيرة: أنك تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما تستطيع، ركز في كل حدث من سيرته صلى الله عليه وسلم أن تزرع هذا الحب في قلبك وإلا لن تنجو، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، المسألة ليست فقط ارتفاعاً في قدر الإيمان، بل المسألة مسألة تهديد بأن تكون من الفاسقين، كما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108].

تعلم الحكمة في التعامل من خلال دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم

تعلم الحكمة في التعامل من خلال دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة الرابعة والأخيرة التي نضعها في عقولنا أثناء دراسة هذه السيرة الشريفة: أن نتعلم الحكمة من خلال دراستنا لجزئيات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيفية وضع الأمر في نصابه، كيف تفضل رأياً على رأي آخر؟ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الحكمة بعينها، إذا اختار رأياً ما، فهذا هو الرأي الحكيم، إذا فعل فعلاً ما، فهذا هو الفعل الحكيم، هكذا دراسة السيرة تعلمنا الحكمة في أرقى صورها. مثلاً: حكمته صلى الله عليه وسلم في فن امتلاك القلوب، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكسب قلوب الذين يتعامل معهم؟ فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن يمتلك قلوب أصدقائه فقط، بل كان يمتلك قلوب أعدائه أيضاً، وهذه حكمة جديرة بالتأمل، والوقوف معها طويلاً. حكمة أخرى في منتهى الأهمية، وهي حكمة المرحلية، والاعتراف بما يسمى بفقه الواقع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في فترة من فترات حياته يطوف بالكعبة، فما رفع معوله ليكسر صنماً، وكان بها ثلاثمائة وستون صنماً، ثم يأتي وقت آخر على الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقبل فيه بوجود صنم واحد في جزيرة العرب، وعندما يفتح مكة يبعث خالداً إلى الطائف لكي يكسر الأصنام التي هناك، فهذا وضع وهذا وضع، فلا يصح أن تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل كذا في يوم كذا أو في سنة كذا دون دراسة الملابسات والظروف التي كانت حول الموقف الذي عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلام هذا لن يستقيم إلا عن طريق دراسة السيرة. وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة وفيها الرايات الحمر المعلقة على خيام الزانيات، فهناك من تعلن عن نفسها أنها تزني، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعيش بينهم، ولم يحطم خيمة من خيام الرايات الحمر في وقت من الأوقات، ولكن يأتي ظرف آخر لا يتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن إقامة الحد على امرأة واحدة زنت، فإن الغامدية لما زنت أقام الرسول صلى الله عليه وسلم الحد عليها؛ لأنها زنت، فهذا وقت وهذا وقت. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن يعاهد اليهود، وفي زمن آخر يحاربهم، فلا يصح أن تقول: أنا أعاهد اليهود كما عاهدهم، من غير دراسة الظروف والملابسات التي كانت حول تلك المعاهدات في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأت هذا وقت الحرب، ولا يجوز أن أحارب في وقت معاهدة، لن نعرف هذا إلا عن طريق دراسة السيرة. كذلك الحكمة في اختيار القرار المناسب في الوقت المناسب، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكف يده يوماً عن القتال، ويوماً يقاتل من قاتله، ويوماً يقاتل كل الكفار. كان يمر الرسول صلى الله عليه وسلم على آل ياسر - ياسر وسمية وعمار - وهم يعذبون تعذيباً أليماً شديداً أدى إلى قتل ياسر وسمية رضي الله عنهما، يمر عليهم وهم يعذبون فيكتفي صلى الله عليه وسلم بقوله لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة) لم يرفع صلى الله عليه وسلم سيفاً ليدفع به أبا جهل الذي كان يعذبهما، ولم يأمر أحداً من شبابه أو من أتباعه الأقوياء كـ الزبير بن العوام أو سعد بن أبي وقاص أو فرسان الصحابة الأشداء في ذلك الزمن لقتل أبي جهل، أو أبي سفيان، أو أبي لهب، وعنده مبررات كثيرة تدفعه لذلك، كأن يقول: من أجل أن تسير الدعوة في مكة، ولكن لم يفعل صلى الله عليه وسلم، لكن في يوم آخر من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم سير جيشاً كاملاً لحرب اليهود في بني قينقاع لقتلهم رجلاً مسلماً، بعد كشف عورة امرأة مسلمة واحدة من قبل يهودي. تخيل الفرق الضخم بين الموقفين! وسير الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً لحرب الروم، وهي دولة في منتهى الضخامة في ذلك الزمان؛ لأنهم قتلوا رجلين من المسلمين، لكن هذا زمن وزمن مكة آخر. أول العهد في المدينة غير آخر العهد في المدينة، غزوة بدر غير غزوة أحد. انتبه وأنت تدرس كل موقف إلى الظروف المحيطة بذلك الموقف، فإنك لو فعلت ذلك ستستطيع أن تفهم ما يسمى بفقه الواقع، أو بحكمة المرحلية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. حكمة أخرى أيضاً في غاية الأهمية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي التدرج في التربية، والتدرج في تغيير المنكر، مثل: تحريم الخمر حرم بالتدرج، وليس مرة مُنع الناس عن الخمر، كذلك التدرج في تحريم الربا، وفي أمر الناس بالجهاد في سبيل الله، كل هذا أخذ مراحل ومراحل طويلة، وكل مرحلة نصل إليها نبني عليها مرحلة أخرى. وهناك حكمة أخرى رائعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي حكمة الوسطية، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، لا إفراط ولا تفريط. ما هو تعريف الإفراط؟ وما هو تعريف التفريط؟ في كل جزئية من جزئيات الحياة أنت لك تعريف، وأنا لي تعريف، وذ

بعض مراجع السيرة النبوية

بعض مراجع السيرة النبوية مما ينبغي أن يعلم أن السيرة النبوية تؤخذ من عدة كتب، وكثير من الناس يغفلون عن دراسة السيرة من خلالها، وهي كتب الأحاديث وشروح الأحاديث، مثل كتاب البخاري رحمه الله، وفتح الباري في شرح صحيح البخاري لـ ابن حجر العسقلاني رحمهما الله. كذلك صحيح مسلم وشرح النووي لصحيح مسلم. كذلك الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً. ومن كتب السيرة الهامة: سيرة ابن هشام، فقد نقل معظم سيرته عن ابن إسحاق، وسيرة ابن إسحاق رحمه الله ليست موجودة، فالذي بقي وهو كتاب سيرة ابن هشام، ولكن هناك أحداث كثيرة غير موثقة في كتاب سيرة ابن هشام، لذلك لا بد أن تدرس كتاباً محققاً، هناك كتاب اسمه صحيح سيرة ابن هشام، للأستاذ مجدي فتحي السيد وهو كتاب طيب. أيضاً كتاب صحيح السيرة النبوية لـ إبراهيم العلي. وكتاب زاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن القيم رحمه الله. وكتاب السيرة النبوية لـ ابن كثير رحمه الله. والرحيق المختوم للمباركفوري. والسيرة النبوية للصلابي، والأساس في السنة لـ سعيد حوى، هو كتاب كبير يقع في أربع مجلدات. وفقه السيرة للبوطي. وفقه السيرة للغزالي. والمنهج الحركي للسنة النبوية لـ منير الغضبان. والسيرة النبوية دروس وعبر للدكتور مصطفى السباعي، وهو كتاب صغير لكنه يحتوي على معلومات هامة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

من الظلمات إلى النور

سلسلة السيرة النبوية_من الظلمات إلى النور قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان العالم يعج بصور شتى من الانحرافات العقدية والأخلاقية والطبقية والاستعباد والاغتصاب للحقوق بكل صورها لا يختص ذلك ببلد دون آخر، والفارق هو في ازدياد فئة لنوع من الشر على فئة أخرى، وما ذاق أهل الأرض العدل إلا بالنور الساطع من شمس النبوة على أرجاء العالم.

حال العالم قبل البعثة النبوية

حال العالم قبل البعثة النبوية إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثاني من سلسلة الدروس الخاصة بالمرحلة المكية من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. في هذا الدرس نتحدث عن الوضع في العالم قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولسائل أن يسأل: لماذا الحديث عن الفترة السابقة للإسلام؟ بمعنى: أننا في هذه الدروس نتحدث عن قواعد بناء الأمة الإسلامية، فما الذي يدفعنا للحديث عن فترة سابقة لفترة الإسلام؟ أقول: لن تدرك قيمة النور إلا إذا عرفت الظلام، ويكفي لبيان ذلك ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه، فإنه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث وضح حال الأرض قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب)، وصل حال الأرض إلى حالة من التردي والضياع الشديد، إلى الدرجة التي يمقتهم فيها الله عز وجل، والمقت هو شدة الكراهية، وكلمة (بقايا) توحي بأنهم مجرد آثار، وليس ثمة أثر مباشر لهم في واقع الناس، وهذه البقايا لم تكن مجتمعات، يعني: ما كانت مثلاًَ مجتمعاً صالحاً في مكان ما على الأرض، بل كانوا أفراداً معدودين، رجل في مدينة، ورجل في مدينة أخرى يبتعد عنه مئات أو آلاف الأميال، وهكذا. تعالوا نخترق الزمان والمكان، نخترق الزمان بالوصول إلى ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونخترق المكان بالوصول إلى كل بقعة على الأرض كانت تعاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتجول بين الشرق والغرب. تعالوا نرى حال الناس، والملوك، والأخلاق، والطباع، ونرى ما يسمى بالحضارات في ذلك الزمان.

حال الدولة الرومانية قبل البعثة النبوية

حال الدولة الرومانية قبل البعثة النبوية أول شيء يلفت الأنظار في ذلك الزمن دولة ضخمة جداً تمتلك نصف الأرض تقريباً وهي الدولة الرومانية، ومن ضخامتها سمى الله عز وجل سورة من سور القرآن الكريم بسورة الروم، ذكر فيها قصة الروم مع الفرس، قال الله: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4] إلى آخر الآيات، ولكن ما هي الدولة الرومانية؟ كانت الدولة الرومانية ضخمة جداً، مساحتها ممتدة على ثلاثة أرباع أوروبا مقسمة إلى قسمين رئيسيين، دولة رومانية شرقية وعاصمتها القسطنطينية، كان يحكمها القيصر هرقل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيصر هذا لقب للملك الذي يحكم الدولة الرومانية. وأما الدولة الرومانية الغربية فكانت عاصمتها روما، وهذه سقطت قبل البعثة النبوية ولم تبق إلا الدولة الرومانية الشرقية. كانت هناك خلافات عقائدية عقيمة بين طوائف النصارى في أطراف الدولة الرومانية الشاسعة، فالدولة الشرقية أرثوذكسية، والغربية كاثوليكية، ودارت بينهما حروب فني فيها الآلاف والآلاف على مدار السنين، وظلت هذه الحروب مشتعلة حتى العهد القريب، وإلى الآن هناك خلافات عقائدية ضخمة، وحروب بين الطوائف المختلفة من النصارى. أما الجوانب الأخلاقية فقد كانت في انحدار شديد في هذه الدولة، مثل تأخر سن الزواج، أو بمعنى أصح اختفى الزواج، وفضل الجميع العزوبة على الزواج؛ لأن تكاليف الزواج كانت غالية والناس كلها فقراء، الأموال كثيرة جداً في الدولة، ولكنها مجموعة في أيدي قلة قليلة من رجال الدولة الرومانية الواسعة، فأدى ذلك إلى انحلال رهيب بين أوساط الناس، وانتشر الزنا في كل مكان، واختلطت الأنساب. وأصبحت الرشوة أصلاً في التعامل مع موظفي الدولة، فأي مصلحة تريد أن تقضيها لابد أن تقدم بين يديها رشوة. والضرائب ضخمة باهظة على كل سكان البلاد، وهي على الفقراء أكثر منهم على الأغنياء. الوحشية الشديدة في الطباع؛ فمن وسائل التسلية التي كانت في الدولة الرومانية الشرقية: وسيلة صراع العبيد مع الوحوش المفترسة في أقفاص مغلقة، والوزراء والأمراء ينظرون من الخارج، ويستمتعون برؤية الأسد أو النمر وهو يأكل العبد بعد قتال يدوم قليلاً أو كثيراً. نحن نتعجب من هذه الصورة، ونقول: هذه كانت عادة مجتمعات مظلمة، ولكننا نرى أيضاً في إسبانيا صراع الرجال مع الثيران، وكيف يدمر الثور أو يقتل الرجل والناس تشاهد وتصفق وتهلل، وهي صورة كما يسمونها من صور الحضارة. أيضاً هناك حروب بربرية همجية وحشية، على سبيل المثال: في عهد اسفسيانوس أحد قياصرة الرومان، حاصر اليهود في أورشليم (القدس) سنة (70 م) خمسة أشهر كاملة، انتهت في سبتمبر سنة (70 م) ثم سقطت المدينة بعد هزيمة مهينة عرفها التاريخ، لماذا نقول: هزيمة مهينة؟ لأن الرومان قتلوا أبناء اليهود ونساءهم بأيديهم، يعني: يجبر كل يهودي أن يمسك بزوجته وأولاده ويقتلهم بنفسه، هكذا أتى الأمر الروماني إلى دولة اليهود المحاصرة داخل مدينة القدس، الغريب أن اليهود أطاعوا ووافقوا على ذلك، وقاموا به من شدة الرعب، وطمعاً منهم في النجاة، وهم أحرص الناس على حياة، وخرجوا يقتلون أبناءهم ونساءهم بسيوفهم، ثم خرجوا للرومان الذين بدءوا بعمل قرعة بين كل اثنين من اليهود، أيهما يقتل أخاه إلى أن صفوا كل اليهود الموجودين في القدس ولم ينج منهم إلا الشريد، أو أولئك الذين كانوا يسكنون في أماكن بعيدة. إذاً: هذه كانت صورة من صور الحرب الرومانية التي كانت تتميز بالشراسة وأشد أنواع الهمجية المتخيلة. كان العبيد في المجتمع الروماني ثلاثة أضعاف الأحرار، ومعاملة العبيد كانت في منتهى القسوة، لدرجة أن أفلاطون الفيلسوف صاحب فكرة المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) التي ألفها وتخيلها في عقله، هذه المدينة الخيالية المثالية يقول فيها: إنه لا يجب أن يعطى فيها العبيد حق المواطنة. مع أنهم من أهل البلد، لكن ليست لهم أي قيمة في بلاد الرومان. كانت هذه لقطات سريعة من حال الدولة الرومانية في العهد السابق لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حال الدولة الفارسية قبل البعثة النبوية

حال الدولة الفارسية قبل البعثة النبوية ننتقل إلى جهة الشرق لنرى الدولة الفارسية التي كانت تمتلك نصف العالم الآخر في ذلك الزمن، وكانت تمثل مأساة حضارية بكل المقاييس! انهيار شديد في الأخلاق بلغ إلى ما يسمى بزواج المحارم، وهذا شيء رغم بشاعته إلا أنه كان منتشراً في الدولة الفارسية، فقد كان الرجل يتزوج من ابنته أو أخته أو أمه، كبار القوم وصغارهم في ذلك سواء، فكسرى يمكن أن يتزوج أي واحدة في المجتمع كله، وقد وقع من يزدجرد الثاني كسرى فارس أنه تزوج من ابنته ثم قتلها. كذلك بهرام جوبين وهو أحد الأكاسرة كان متزوجاً من أخته، وبعضهم كان يتزوج أمه، وهذا الأمر كان مستنكراً في كل بقاع الأرض، وكل الشعوب تعيب على أهل فارس أنهم يتزوجون بالمحارم، ولم يقولوا: إن هذا متعارف عليه في المجتمعات؟ لا، بل كان هذا شيئاً منكراً ضد الفطرة، ولكنهم كانوا يفعلونه. وسبب ذلك: أنه في عهد قباذ -وهو أحد الأكاسرة الكبار في تاريخ الفرس- ظهر رجل اسمه مزدك، وهناك من يضعه في طائفة الفلاسفة والمفكرين، قال مزدك: إن الناس سواسية في كل شيء! وكانت كلمته ظاهرها جيد، لكن هل هم سواسية في الحقوق، والمعاملة؟ لا، لم يرد هذا فقط، بل أراد سواسية حتى في المال والنساء، فلا يوجد احترام لأي ملكية في البلد، كل شيء مباح للناس كلها، كل شيء مشاع، يمكن لأي أحد أن يدخل إلى بيت الآخر ويأخذ من ماله ونسائه، فبالتبعية استفاد الأقوياء من هذا القانون على حساب الضعفاء، وكان الرجل القوي يدخل على الضعيف يغلبه على ماله وزوجته فلا يستطيع الضعيف أن يتكلم، بينما الضعيف لا يستطيع أن يدخل على القوي، ولا أن يعترض أو يرفع شكواه؛ لأن هذا أصبح جزءاً من الدين في بلاد فارس. ثم عمت البلاد المشاكل؛ لأن كل الناس لا تريد أن تعمل؛ لأن كل من يعمل لا يملك شيئاً، فلماذا يعمل؟ وعمت السرقات كل مكان، وباركها كسرى قباذ؛ لأن هذا عنده من الدين الذي وضعه مزدك، وفسد الناس كلهم أجمعون. قارن هذا بالذي سيأتي ويقول: (والذي نفس محمد بيده! لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) صلى الله عليك وسلم يا رسول الله. وتقديس الأكاسرة في بلاد فارس كان أمراً عظيماً جداً عند عامة الناس، فالناس كانت تعتقد أن في دم كسرى هذا دماً إلهياً، وأنهم فوق البشر وفوق القانون، كان الرجل إذا دخل على كسرى ارتمى ساجداً على الأرض، فلا يقوم حتى يؤذن له، وأقرب الناس إلى كسرى وهم طبقة الكهان والأمراء والوزراء كانوا يقفون على بعد (5) أمتار، ومن أدنى منهم درجة على بعد (10) أمتار، والرسل كانوا يقفون على مسافة (15) متراً من كسرى، من أراد أن يدخل على كسرى ليضع على فمه قطعة من القماش الأبيض الرقيق، حتى لا تلوث أنفاسه الحضرة الملكية لكسرى! بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استقبله رجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، يعني: يتواضع لجليسه حتى إنه لا يمد رجله أمام الجليس، كما روى ذلك الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه. كانت هناك طبقية شديدة فيها مهانة كبيرة جداً للإنسانية، فقد قسموا شعب فارس من أوله إلى آخره سبع طبقات: الأولى: طبقة الأكاسرة فوق الجميع. الثانية: طبقة الأشراف وهؤلاء سبع عائلات، ولا يمكن أن يوجد شريف خارج هذه العائلات السبع. الثالثة: طبقة رجال الدين. الرابعة: طبقة رجال الحرب وقواد الجيوش. الخامسة: طبقة المثقفين، ورجال العلم، والكتاب، والأطباء، والشعراء. السادسة: طبقة الدهاقين، وهم رؤساء القرى، وجامعو الضرائب. الطبقة السابعة: وهي طبقة الشعب، وهم أكثر من (90%) من مجموع سكان فارس، وهم: العمال، والفلاحون، والتجار، والجنود، والعبيد. وهذه الطبقة ليس لها حقوق تذكر. كانوا يربطون بالسلاسل في المعارك، كما حدث في موقعة الأبلة، وهي أول موقعة إسلامية في فتح فارس، كانت بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، كان الفرس يربطون ستين ألفاً من الجنود بالسلاسل، كل عشرة في سلسلة، حتى إن الموقعة سميت بعد ذلك في التاريخ بذات السلاسل، ولك أن تتصور كيف يستطيع هؤلاء المقيدون في السلاسل أن يحاربوا قوماً وصفهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بقوله في رسالته إلى زعيم الأبلة في نفس الموقعة: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة. شيء آخر أيضاً في منتهى البشاعة، كان في بلاد فارس عبادة النار، ظهر رجل اسمه زرادشت في بلاد فارس، يعتبرونه من كبار الفلاسفة ليس فقط لأهل فارس بل للعالم بأسره، حتى إن صاحب (الخالدون المائة) وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، عدّه من ضمن الخالدين، وجعل رقمه (89)؛ لأن ديانته محلية، بينما ديانة الرس

حال أوروبا الشمالية قبل البعثة النبوية

حال أوروبا الشمالية قبل البعثة النبوية أوروبا الشمالية، وهي: إنجلترا، والدول الإسكندنافية السويد والدنمارك وفنلندا وألمانيا. هذه المناطق الشمالية من أوروبا كانت خارج حدود الدولة الرومانية، يقول عنها المؤرخ الفرنسي رينو -وشهد شاهد من أهلها: طفحت أوروبا في ذلك الزمن بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر وشيوع الظلم والاضطهاد، فشت فيها الأمية، للدرجة التي كان الأمراء يفتخرون بأنهم لا يستطيعون أن يقرءوا، والعلماء كانوا في مهانة شديدة في هذه البلاد، هذا إن وجدوا. قارن هذا بدين كانت أول كلماته {اقْرَأْ} [العلق:1] كما قال الله عز وجل. ثم قال: كانت أوروبا مسرحاً للحروب والأعمال الوحشية. ويقول جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) يصف وضع أوروبا: لم يجدوا في أوروبا بعض الميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر والثاني عشر من الميلاد. وهذا موافق للقرن الرابع والخامس الهجري. ثم يقول جوستاف لوبون: وذلك حين ظهر فيهم أناس أرادوا أن يرفعوا أكفان الجهل، فولوا وجوههم شطر المسلمين الذين كانوا أئمة عصرهم. وهذا الكلام كان بعد أربعة أو خمسة قرون من نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة (اقرأ). إذاً: كيف كان الوضع قبل هذا؟ كتب مؤرخ أندلسي اسمه صاعد كتاباً اسمه (طبقات الأمم) وهو كتاب رائع، يصف فيه حال البلاد في زمانه، وقد توفي في القرن الخامس الهجري سنة (462هـ) في طليطلة، يحكي حال البلاد الشمالية في القرن الخامس الهجري فيقول: كانوا قوماً أشبه بالبهائم، وقد يكون ذلك من إفراط بعد الشمس عن رءوسهم فصارت بذلك أمزجتهم باردة، وأخلاقهم فجة رديئة، وقد انسدلت شعورهم على وجوههم، وعدموا دقة الأفهام، وغلب عليهم الجهل والبلادة، وفشت فيهم الغباوة. وهذا الرحالة الأندلسي إبراهيم الطرطوش يصف أهل جليقية الذين كانوا يعيشون في شمال إسبانيا، قال: هم أهل غدر ودناءة أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة أو مرتين بالماء البارد، لا يغسلون ثيابهم منذ يلبسونها إلى أن تتقطع عليهم، ويزعمون أن الوسخ الذي يعلوهم من عرقهم تصح به أبدانهم. قارن بين هذا وبين دين يأمر بالوضوء خمس مرات في اليوم، والاغتسال من الجنابة، ويوم الجمعة، وفي الأعياد، ويأمر باجتناب صلاة الجماعة -وهي من أشرف العبادات- لمن أكل ثوماً أو بصلاً! انظر إلى احترام الإنسان للإنسان، ومدى تكريم الله عز وجل لعباده المؤمنين! يروي ابن فضلان الرحالة المسلم في القرن الرابع الهجري ما شاهده بنفسه من موت أحد السادة في أوروبا، فجاءوا بجارية له كي تموت معه، فشربت الخمر ورقصت وقامت بطقوس معينة، ثم قيدوها بالحبال من رقبتها، ثم أقبلت امرأة عجوز يسمونها ملك الموت وبيدها خنجر كبير، ثم أخذت تطعنها في صدرها بين الضلوع في أكثر من موضع، والرجال يخنقونها بالحبل حتى ماتت، ثم أحرقوها ووضعوها مع سيدها الميت، وهم بهذا يحترمون إنسانية السيد كما يظنون! قارن هذا بما جاء به الإسلام وتعجب من أجل أن تعرف دينك، جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه) سواء كان هذا العتق على سبيل الوجوب أو الاستحباب. فهذه نظرة الإسلام لمعاملة الرقيق.

حال مصر قبل البعثة النبوية

حال مصر قبل البعثة النبوية كانت مصر محتلة من قبل الرومان منذ هزيمة كليوباترا على يد أوكتافيوس في سنة (31) قبل الميلاد، يعني: أكثر من (5) قرون من الاحتلال الروماني لمصر، حتى سقط في سنة (476م) لما سقطت الدولة الرومانية الغربية، لكن الدولة الرومانية الشرقية سرعان ما استولت على مصر قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم بحوالي (100) سنة. والدولة الرومانية سواء كانت شرقية أو غربية كانوا يتخذون من مصر مخزناً يمد الإمبراطورية الرومانية باحتياجاتها من الغذاء، وحصل تدهور شديد في الاقتصاد المصري، وتدهور شديد أيضاً في الحالة العلمية والاجتماعية، وفقد المصريون السلطة بكاملها في بلادهم، لكن الرومان حرصوا على أن يتركوا بعض الرموز من أجل أن تبقى صورة من المصريين موجودة في السلطة، فيتجنبوا ثورة الشعوب، لكن الواقع أن كل الحكم والإدارة كانت في يد الرومان. فرضوا الضرائب الباهظة على الشعب الفقير المعدم، ضرائب عامة على الأفراد والصناعات والأراضي والماشية، وحتى على المبيعات. وضرائب على المارة، إذا أردت أن تذهب من مكان إلى مكان أو من مدينة إلى مدينة تدفع ضريبة. وضرائب حتى على زوجات الجنود، الجندي يدفع روحه من أجل البلد وامرأته وهو غائب تدفع ضريبة. وضرائب على أثاث المنزل، بل تجاوزت ضرائب الأحياء إلى الأموات، فقد كان لا يسمح بدفن الميت إلا بعد أن تدفع ضريبة معينة تشبه ضريبة التركات، ولم يكتفوا بمصيبة الموت فأضافوا إليها ضريبة. فوق كل هذا كان هناك التعذيب لأجل المخالفة في المعتقد الديني، فالكل لابد أن يكون تحت مظلة النصرانية الأرثوذكسية.

حال الصين قبل البعثة النبوية وبعدها

حال الصين قبل البعثة النبوية وبعدها أما وضع الصين أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان فيها ثلاث ديانات: الأولى: لرجل اسمه لاوتسوا وله ديانة نظرية غير عملية، فيها بعد كامل عن النساء، وزهد كامل في الدنيا، وانعزال كامل عن المجتمع. الثانية: لـ كنفوشيوس، ويعتبرونه من كبار الفلاسفة الصينيين، وهو صاحب مادية بحتة، وهي ديانة تعنى بقوانين وقواعد وتجارب، وتشير إلى أن الحياة بصفة عامة شيء بائس، ومن ناحية العبادة أنت حر، اعبد ما أردت: شجرة أو نهراً، أو إلخ، فهذا أمر لا يعني كنفوشيوس. الثالثة: لـ بوذا، وهي تعاليم أخلاقية معينة، ولكن فيها أيضاً الكثير من الانعزال عن المجتمع، والزهد في الحياة، وبعد قليل تحول بوذا من مجرد مشرع إلى معبود رسمي، صنعت له التماثيل، وظل يعبد على مدار السنين. وإلى الآن هؤلاء الثلاثة موجودون، حتى إن صاحب كتاب (الخالدون المائة) وأعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وضعهم في الخالدين، بوذا الخامس وكنفوشيوس السادس. بل إن مؤلف الكتاب لم يتردد أن يقول في وقاحة شديدة: إن بوذا يستحق أن يتصدر قائمة الخالدين ويسبق محمداً صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام لولا أن أتباع بوذا الآن أقل من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباع عيسى عليه السلام، من أجل هذا أخر بوذا إلى المرتبة الخامسة، وهذا يضمر لنا إلى أي حد أصبحت المقاييس مختلة عند أمثال هؤلاء.

حال الهند قبل البعثة النبوية وبعدها

حال الهند قبل البعثة النبوية وبعدها أما الهند فأعجوبة الأعاجيب؛ حيث كثرت فيها المعبودات بشكل مريع، فأي شيء في الهند يعبد، تماثيل لكل شيء، يعبدون الأشخاص والجبال والأنهار، مثل: نهر الكنج فهو مقدس عندهم، حتى المعادن، وأشهر المعادن التي كانت تعبد الذهب والفضة. وعبدوا آلات الحرب من سيف أو درع، وآلات الكتابة من قلم أو كراسة. كذلك الأجرام الفلكية تعبد من دون الله عز وجل، والحيوانات، وأكثر حيوان يعبد في بلاد الهند هو البقرة، وللأسف ما زالت تعبد إلى الآن من قبل علماء كمبيوتر وعلماء ذرة وأطباء ومهندسين، وليس فقط البقرة، بل كل الحيوانات عبدت في بلاد الهند، لدرجة أنهم عبدوا الفئران، وحصلت مجاعة ضخمة في بلاد الهند كان سببها ترك الفئران فأكلت كل المزروعات الهندية. الشهوة الجنسية الجامحة عمت بلاد الهند، الكهان يرتكبون أبشع الفواحش في المعابد، ويعتبرون ذلك من الدين، ويتقربون بذلك إلى الآلهة. الطبقية البشعة في بلاد الهند قسمت الناس إلى أربع طبقات: طبقة البراهمة الكهنة والحكام. طبقة شتري وهؤلاء رجال الحرب. وطبقة ويش وهي طبقة التجار والأغنياء. طبقة شودر، وهذه طبقة منبوذة، ومعنى كلمة (شودر) المنبوذين، وهذه الطبقة هي أحط عندهم من البهائم، وأذل من الكلاب، حتى إن القانون عندهم ينص: من سعادة شودر أن يقوموا بخدمة البراهمة من دون أن يكون لهم أجر. قارن هذا بما رواه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه). ليس لطبقة شودر أن يقتنوا مالاً؛ لأن هذا يؤذي البراهمة، فلا يصح أن تكون عندك ملكية لأي جزء ولو القليل من المال. وإذا همّ شودري أن يضرب برهمي قطعت يده، وإذا هم بالجلوس إليه كوي استه بالنار، ونفي خارج البلاد، وإذا سبه اقتلع لسانه، وإذا ادعى أنه يعلمه شيئاً سقي زيتاً مغلياً. يقول القانون الهندي: إن كفارة قتل الكلب والقطة والضفدعة والبومة سواء بسواء مثل كفارة قتل الشودر. هذا هو وضع بلاد الهند التي يكتب عنها في الكتب عبارة: حضارة، وأنها كذا وكذا. المرأة في المجتمع الهندي أحياناً يكون لها أكثر من زوج، وهي في منزلة مثل منزلة الأمة، حتى ولو كانت زوجة لشريف. أحياناً في بلاد الهند يلعب الرجل القمار ويخسر، ثم لا يجد إلا أن يقامر على زوجته، وممكن أن يخسرها في القمار. قارن هذا بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً) (النساء شقائق الرجال) (خيركم خيركم لأهله) وغير ذلك من الأحاديث.

موقع اليهود على خارطة الأحداث قبل وبعد البعثة النبوية

موقع اليهود على خارطة الأحداث قبل وبعد البعثة النبوية في هذه الصورة البشعة للأرض أين كان اليهود؟ عاش اليهود مضطهدين في آسيا وأوروبا وإفريقيا وفي كل بقعة وفي كل زمن، وليس هناك طاقة لأحد من البشر بمعاشرة اليهود، فهم في لحظات الضعف خنوع ونفاق ودس وكيد وكذب، وفي لحظات القوة تجبر وتكبر وظلم ووحشية وربا وفتن ومؤامرات. اليهود في ذلك الزمن تركزوا في منطقة الشام، وفي سنة (610) ميلادية، بعد حوالي ثلاث سنوات أو سنتين من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم حصلت المعركة الضخمة ما بين الفرس والروم، التي ذكرت في كتاب الله عز وجل: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2]، وانتصر الفرس على الرومان، واليهود كانوا في بلاد الشام التي تتبع الدولة الرومانية، فلما غلبت الدولة الرومانية تحول اليهود من رعايا الدولة الرومانية إلى قتلة وسفاكي دماء لكل رهبان النصارى الموجودين في بلاد الشام، وصارت لهم شوكة فترة من الزمان، ثم دارت الأيام وانتصر الرومان على الفرس {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، فجمع اليهود أنفسهم وذهبوا إلى هرقل وقدموا له القرابين وتذللوا له، وأظهروا له الانصياع الكامل والتبعية لحكومته، فقبل منهم هرقل ذلك، وأعطاهم العهد بالأمان، لكن أتى رهبان الشام بعد ذلك فذكروا لـ هرقل ما فعله اليهود في وقت هزيمة الرومان، فغضب وأراد أن يعاقب اليهود، ولكن منعه العهد الذي أعطاه إليهم، فجاء إليه الرهبان النصارى وقالوا لـ هرقل: لا عليك من العهد، اقتلهم وسنصوم عنك جمعة كل سنة أبد الدهر، فقبل كلام هرقل وعذبهم عذاباً شديداً، ولم يفلت إلا الذي هرب من الشام. ومن حينها اشتد العداء بين النصارى واليهود، علماً بأن النصارى يكرهون اليهود لادعائهم بأنهم قتلوا المسيح عليه السلام، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، حتى إن النصارى في عهد سيدنا عمر بن الخطاب لما فتح القدس سنة (16) هجرية اشترطوا ألا يعيش في القدس يهودي، وألا يبقى فيها يوماً وليلة إلا المرور، وأعطاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه العهد بذلك، لكن الآن نرى اتفاق اليهود مع الأمريكان والإنجليز والفرنسيين وغيرهم؛ لأن معركتهم واحدة هي المعركة ضد الإسلام. اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتمركزون في شمال المدينة المنورة في خيبر، وكانوا كعادتهم قوماً غلاظ الطباع، قساة القلوب، منحرفي الأخلاق، يعيشون على الربا، وإشعال الفتن والحروب والتكسب من بيع السلاح، وإيقاع السادة في الفضائح الأخلاقية وتهديدهم بها، والسيطرة على الجهال بكتبهم المحرفة وأفكارهم الضالة.

حال الحبشة قبل البعثة النبوية وبعدها

حال الحبشة قبل البعثة النبوية وبعدها كانت الحبشة -أثيوبيا حالياً- على النصرانية المحرفة، وكانوا يتبعون الكرسي الإسكندري في الدين، يعني: مثل الديانة المصرية، ويعتقدون أن المسيح هو الله أو ابن الله، وليس له طبيعة بشرية، كانت حياتهم بدائية إلى حد كبير، وإن كان لهم قوة وجيش وسلاح، لكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد البعثة كان يحكمهم رجل لا يظلم عنده أحد، وهو النجاشي أصحمة، والنجاشي لقب وليس اسماً، مثل ملك فارس لقبه كسرى، وملك الروم لقبه قيصر، كذلك ملك الحبشة لقبه النجاشي. هذا وضع بلاد الحبشة ذكرناه لأهميته في السيرة كما سيأتي بعد ذلك.

حال الأمريكيتين قبل البعثة النبوية

حال الأمريكيتين قبل البعثة النبوية أما الأمريكتان فقد كانتا تعيشان في ذلك الوقت في مرحلة طفولة حضارية، في حياة بدائية تماماً، وقد رأيت آثار السكان الأصليين لأمريكا (الهنود الحمر) وهي آثار في غاية البدائية، وما كان لهم أي دور في حركة الأرض في ذلك الزمن.

حال الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية

حال الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية كان هذا هو الوضع في بلاد العالم المختلفة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته، أما عن الجزيرة العربية فقد كانت تعيش حالة من الوثنية المفرطة، مع إيمان هؤلاء الناس بالله عز وجل، إلا أنهم اتخذوا إليه شفعاء ووسطاء، كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، ومضت الأيام وأصبحوا يعتقدون أن هؤلاء الشفعاء -أي: الأصنام- تملك قدرة ذاتية على أن تنفع أو تضر، فأصبحوا يتوجهون إليها مباشرة بالعبادة، وكان لكل قبيلة صنم، فمكة مثلاً كان أعظم أصنامها: هبل، والطائف أعظم أصنامها: اللات وهكذا. وأحياناً لكل بيت صنم، وكان هناك تجار للأصنام وصناع للأصنام، تجد من يبيع آلهة في داخل البيت الحرام، بل كانت الكعبة نفسها حولها (360) صنماً، وهي أشرف بقعة على الأرض، ومما يذكر كمثال على أن لكل بيت صنماً أن عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان في جاهليته يعبد صنماً من الخشب صنعه بيده. أما الأجواء الأخلاقية في جزيرة العرب كانت شنيعة، كان شرب الخمر متفشياً تفشياً كبيراً، حتى كتبت فيه أشعار عظيمة، ووصفت مجالسه بأدق التفاصيل، مع أنه كان يؤدي إلى كثير من النزاع بين الناس. وكان الميسر أيضاً متفشياً، وكثيراً ما أورث البغضاء والشحناء بين الناس، من أجل هذا قال الله سبحانه وتعالى عنه في القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:91]. وكان الربا من المعاملات الأساسية في جزيرة العرب، وكانوا يقولون كما أخبر الله عنهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275]. أما الزنا فكانت له صور بشعة في المجتمعات العربية قبل الإسلام، وتصف السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها -كما جاء في صحيح البخاري - أنواع النكاح في الجاهلية: النوع الأول: هو النوع المعروف الذي عليه نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، وهذا الزواج الطبيعي كان أحد صور الزواج. النوع الثاني: تقول السيدة عائشة: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها -أي: من الحيض- اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها -أي: من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، يعني: يبعث امرأته من أجل أن يجامعها رجل من أشراف مكة، وما يمس امرأته إلى أن يتأكد أنها حملت من الرجل الغريب- فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد. هذا النكاح كان يسمى بنكاح الاستبضاع، أين مروءته وغيرته؟! تنعدم إلى درجة أنه يبعث امرأته إلى هذا الفعل الشنيع، وهذا قانون يوافق أهواء الأسياد. كانوا يحيون على هذه المفاسد، لذا لما أتى الإسلام وحرم عليهم هذه الأمور، كان العداء بينهم وبين الإسلام؛ لأنه يحرم عليهم هذه الشهوات وهذه المفاسد. النوع الثالث: تقول السيدة عائشة: (هو النكاح الذي يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت وهو ابنك يا فلان، وتختار واحداً من الناس فتلحقه به، ولا يستطيع أن يمتنع الرجل. النوع الرابع والأخير في أيام الجاهلية كما تقول السيدة عائشة: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها -وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، وهي مشهورة في التاريخ بالرايات الحمر، فمن أرادهن دخل عليهن- فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها اجتمعوا لها، ودعوا لها القافة -وهم الرجال الذين يستطيعون تمييز الوالد والولد عن طريق الشبه- ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به. يعني: التصق به ودعي على أنه ابنه، ولا يمتنع من ذلك. تقول السيدة عائشة: فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. كانت هناك عادة أخرى من أبشع العادات في جزيرة العرب: وهي وأد البنات، يعني: دفن البنت وهي حية، وكان يفعل ذلك لأسباب كثيرة أهمها خشية الفقر، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] يعني: خشية الفقر. وأحياناً خوف العار، وأحياناً لعيوب خلقية أو من أجل اللون. ومنها: ادعاء أن الملائكة بنات الله، سبحانه عما يقولون! فيقولون: ألحقوا البنات به فهو أحق بهن، تعالى الله عن ذلك، يقول الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]. كذلك العصيبة القبيلة والحروب المستمرة بين القبائل كانت أمراً طبيعياً، والإغار

قصة إسلام سلمان وبحثه عن نور الهداية قبل البعثة وبعدها

قصة إسلام سلمان وبحثه عن نور الهداية قبل البعثة وبعدها لم يكن على الحق إلا النادر القليل قبل البعثة، ويوضح ذلك حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه كما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وهو يحكي قصة إسلامه. هذا الحديث يحكي فيه سلمان الفارسي رضي الله عنه قصته مع الإيمان، وكيف أنه كان مجوسياً يعبد النار، بل ويعمل خادماً لها، يوقدها حتى لا تخبو، ثم لما سمع بصلاة من صلوات النصارى أعجب بها، فسأل عن أصل هذا الدين وهرب من بلده في قصة طويلة نذكرها مختصرة. هرب من بلده أصبهان إلى بلاد الشام حيث يوجد النصارى، وهناك سأل عن أفضل أهل هذا الدين، فدله الناس على أسقف الكنيسة، فذهب إليه وعاش معه فترة، ولكنه اكتشف أنه رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزها لنفسه، حتى جمع من ذلك سبع قلال من الذهب والفضة. يقول سلمان: فأبغضته بغضاً شديداً؛ لأنه جاء من بلاد فارس من أجل هذا الرجل، ثم وجد أنه بهذا السوء، ثم مات الرجل وكشف سلمان رضي الله عنه أمره للناس وأخرج لهم القلال، فغضب الناس على الأسقف وصلبوه وهو ميت ورجموه بالحجارة، ثم استخلفوا بعده رجلاً آخر، وكان عظيماً تقياً ورعاً فأحبه سلمان حباً شديداً وعاش إلى جواره فترة، ثم حضرت هذا الأسقف الوفاة، فقال له سلمان: قد حضرك ما ترى من أمر الله عز وجل، فإلى من توصي بي، قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد غير الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل. يعني: من كل أهل الأرض لا يعرف إلا واحداً صالحاً فقط في الموصل في أرض العراق، وفي كل الشام ليس هناك رجل على الحق، فذهب إليه سلمان ومكث عنده فترة وكان رجلاً طيباً كصاحبه، ثم اقتربت وفاته، فقال له سلمان: إلى من توصي بي؟ قال: والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا بنصيبين، وهو فلان فالحق به، فلما مات ذهب سلمان إلى نصيبين. بقي حياة طويلة من الكفاح والبحث عن الحق رضي الله عنه وأرضاه، ونحن نكسل عن البحث في المكتبة عن كتاب -وهو داخل البيت- من أجل معلومة معينة، انظر لـ سلمان الفارسي من بلد إلى بلد من أجل أن يعبد الله عز وجل حق العبادة. عاش سلمان في نصيبين مع الرجل فترة، وكان رجلاً صالحاً، ثم ما لبث أن حضرته الوفاة، فقال له سلمان: إلى من توصي بي؟ قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً بقي على أمرنا إلا رجلاً بعمورية -تركيا حالياً- فالحق به، يقول سلمان: فلحقت بصاحب عمورية، وكان الرجل على هدي أصحابه، فاكتسبت من التجارة حتى كان لي بقرات وغنيمة، ثم حضرت الرجل الوفاة، فقال له سلمان: إلى من توصي بي؟ فقال الرجل: أي بني! والله ما أعلم أن أحداً قد أصبح على ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل، بها علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، قال سلمان: ثم مات الرجل. ثم مكث سلمان رضي الله عنه فترة في عمورية وهو يبحث عن طريقة يصل بها إلى أرض العرب، حتى مر به مجموعة من التجار، فقال لهم: تحملونني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي، قالوا: نعم، يريد أن يضحي بكل الذي امتلكه من أجل أن يصل إلى هذا الدين، يقول: فأعطيتهم إياها وحملوني، حتى إذا قدموا به وادي القرى في شمال المدينة المنورة ظلموني، فباعوني إلى رجل من يهود عبداً، ثم مرت الأيام وسلمان الفارسي عبد وقد كان ابناً لأحد رؤساء القرى في بلاد فارس. يقول سلمان: فبينما أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها، وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي -يعني: أعلى النخلة- أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذا أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال: قاتل الله بني قيلة -الأوس والخزرج-، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، يقول سلمان: فلما سمعتها أخذتني العرواء -رعشة شديدة في جسده- حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك، فقلت: لا شيء لا شيء، إنما أردت أن أستثبت عما قال. ثم كانت له قصة إسلام لطيفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الآن مجال ذكرها. الشاهد من القصة أن بقاع النور في الأرض كا

حال مكة قبل البعثة النبوية

حال مكة قبل البعثة النبوية أما الوضع في مكة نفسها فما كان يختلف عن ذلك كثيراً، لم يكن هناك على الدين الصحيح إلا القليل مثل: زيد بن عمرو بن نفيل أبو سيدنا سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زيد بن عمرو بن نفيل حنيفياً على ملة إبراهيم عليه السلام. كذلك كان ورقة بن نوفل قد تنصر.

أهمية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وضرورة الدعوة إلى دين الإسلام في وقتنا الحاضر

أهمية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وضرورة الدعوة إلى دين الإسلام في وقتنا الحاضر كانت الأرض على اتساعها قبل البعثة النبوية تعيش الانهيار الشديد في الأخلاق والقيم والعادات والعلاقات والعقيدة، ظلمات بعضها فوق بعض، من هنا ندرك فعلاً قيمة النور الذي أنزله الله عز وجل على الأرض ببعثة الرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، {قدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16]. كان من الواضح أن الأرض تحتاج في هذا التوقيت إلى الإسلام، إلى وحي السماء، إلى الهداية إلى الطريق المستقيم، في زمان تشعبت فيه طرق الضلال حتى استحال حصرها، كان ذلك منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، فماذا عن حالنا الآن، هل الأرض تحتاج إلى الإسلام كما كانت تحتاج إليه قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل حال الأمم المختلفة في الأرض الآن لا يحتاج إلى تقويم إلهي وتعديل رباني وهداية سماواية وشريعة إسلامية؟ إن الناظر إلى حال الأرض في زماننا يرى الأوضاع شديدة الشبه بما كانت عليه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى الجرائم الأخلاقية، والانحراف في السلوك وصل إلى درجات شنيعة، تجد شعوباً كاملة غارقة تماماً في الجنس والإباحية والشذوذ، فمعدل الزنا في أمريكا تحت (18) سنة مراهقين وصل إلى (55%)، في إنجلترا (65%)، في العالم الإسلامي معدلات الزنا في ارتفاع رهيب، لكن الحمد لله ما زال المجتمع المسلم لا يسمح بالمجاهرة بمثل هذه الفواحش وإن كانت موجودة، والكل يلاحظ الإباحية التي تنتشر بلا حدود في وسائل الإعلام والشوارع والجامعات والأندية، ناهيك عن الشواطئ وحمامات السباحة. العنف في الأرض في ازدياد ملحوظ، جرائم القتل والاغتصاب والسرقة بالإكراه والخطف منتشرة بشكل بشع، نوعيات الجرائم البشعة والتعذيب في السجون، والقتل الجماعي تنتشر بأشكال رهيبة في الأرض، الحروب الظالمة وأكل أموال الشعوب أصبح ظاهرة في كل بلاد الأرض، وللأسف العالم الإسلامي من أكثر المناطق تعرضاً لهذه الحروب ولهذا الظلم، وأحياناً الظلم يأتي من الأقربين، ولا يلزم أن يكون من محتل شعره أصفر وعينه زرقاء، لا، الظالم قد يكون من نفس بلد المظلوم، وتأمل حال إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية فهي تعيش دكتاتورية وقهراً وبطشاً في كل مكان من أمريكا وأوروبا، وإن كانت بلاداً ديمقراطية إلا أنها ما زالت استعمارية، نعم تغيرت أشكال الاستعمار لكنها ما زالت استعمارية، فحروب الفرس والرومان القديمة لم تكن تحمل وحشية حروب أمريكا وإنجلترا وفرنسا وروسيا والصرب وغيرهم، فأمريكا قتلت في هيروشيما وناجازاكي أكثر من مائتي ألف مدني، في (6) أغسطس (1945م)، وفي (19) مارس من نفس السنة قتلت أمريكا ثمانين ألف ياباني مدني بقنابل النبالم المحرمة، رمتها طائرات البي (29) على طوكيو، وهذا لم يشتهر؛ لأن موضوع القنبلة النووية غطى على كل شيء. وقتلت أمريكا مليون ونصف كوري وصيني من العسكريين، ومليون مدني في حرب كوريا سنة (1950م) أرقام مهولة. وقتلت أمريكا من ثلاثة إلى أربعة ملايين فيتنامي في الحرب الفيتنامية من سنة (1963م - 1975م) أعنف حرب إبادة في التاريخ، ناهيك عما رأيناه في العراق وأفغانستان وغيرهما، ما سمعنا عن شيء مثل هذا في أيام الجاهلية الأولى. كذلك حروب الصرب وروسيا والهند حروب رهيبة، وللأسف القتلى كلهم من المسلمين، حتى أمريكا والغرب لما ضربوا الصرب في كوسوفا رموا عليها آلاف الأطنان من القنابل المخصبة باليورانيوم المشع، والتي سيبقى أثرها في أراضي كوسوفا آلاف السنين، هذا إن كان في عمر الأرض بقية! فالوثنية في العالم باتت بشعة؛ لأن الغالب الأعم من أهل الأرض وثنيون، لو قسمت العالم إلى مسلمين ونصارى ويهود ووثنيين، فإن نسبة الوثنيين أعلى نسبة: ألف مليون في الهند يعبدون البقر والشجر والفئران الخ، مليار وثلاثمائة مليون في الصين ينكرون وجود الإله شيوعية ملحدة تماماً! روسيا ليست بعيدة عن الاعتقاد هذا، وإن كانت الشيوعية انتهت إلا أن معظم الشعب لا يزال ملحداً. البوذية منتشرة في جنوب شرق آسيا واليابان. إفريقيا فيها قبائل كثير جداً وثنية تماماً، يعبدون أصناماً وأشجاراً ونجوماً. في بلاد أوروبا وأمريكا كثير من المحسوبين على النصارى أصبحوا ملحدين، ففرنسا تقول: أنا علمانية بحتة، وأمريكا كذلك علمانية بحتة، وألمانيا كذلك، وتركيا وتونس وغيرهما من بلاد المسلمين يقولون: نحن علمانيون. رأينا في بلاد مسلمة من يعبد الشيطان مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي منكم بما تحقرون) لكن في هذا الوقت بعض شباب وشابات المسلمين أعطوا الشيطان الذي كان قد يئس منه أمر لا يتخيله عقل. بعد كل هذا ألا تشعرون أن العالم بأسره وليس العالم الإسلامي فقط يتجه إلى هاوية سح

من هنا بدأ الإسلام

سلسلة السيرة النبوية_من هنا بدأ الإسلام من حكمة الله جل وعلا البالغة أن اختار جزيرة العرب لتكون مهبط الوحي لخاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن العرب أمة لم تعرف ديناً من قبل سوى ملة إبراهيم، ولم يصلها من حضارات وفلسفات الأمم من حولها شيء، لتحافظ بذلك على وحدة المصدر المتلقى عنه، دون أن تضيف إليه شرائع وأحكام وقوانين البشر، كما أن خلو بقعة الرسالة في الجزيرة من الجيوش أو الملوك ساعد على عدم قمع الدعوة في مهدها، وساهم في صنع الأحلاف لدولة الإسلام مع غيرها، وجعل الدعوة تبني جيش الإسلام.

الحكمة من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب

الحكمة من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية: الفترة المكية. هناك سؤال قد يستغربه البعض: لماذا ينزل الوحي في مكة؟ لماذا تحدث قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية؟ لماذا لم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في فارس أو الروم، أو في فلسطين مثل بقية الأنبياء، أو في مصر مثل سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام؟ إخواني! لا توجد نقطة واحدة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عشوائية؛ إذ كل شيء بحساب، كل شيء مقصود؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون قدوة لكل المسلمين إلى يوم القيامة، فلابد أن تكون كل خطوة في هذه الشخصية محسوبة تماماً. كان الوضع في جزيرة العرب هو الوضع المناسب لقيام الدعوة الإسلامية, يتضح ذلك من آثار التجربة الإسلامية الأولى، فقد كانت تجربة ناجحة تماماً، والبيئة التي نشأت فيها الرسالة كانت بيئة صالحة، فقد رأينا الإسلام ينتشر بسرعة في الأرض، ففي غضون سنوات قليلة لا تحسب في التاريخ بشيء وصل الإسلام من أقصى الأرض إلى أقصاها، بل ودخل الناس في دين الله أفواجاً، راغبين غير مكرهين. إذاً: فنحن نسأل هذا السؤال ونهدف من ورائه لمعرفة المقومات التي أنجحت رسالة الإسلام. من المعلوم أن الرسالة من الممكن أن تحقق نجاحاً ذاتياً في أي مكان تقوم به؛ لأن الرسالة في ذاتها عظيمة تصلح لكل زمان ومكان، لكن من منظور هذه المجموعة من الدروس نحن نقول: كيف نبني أمة؟ فأول البناء هو وضع الأساس، ونحن نريد أن نعرف لماذا ربنا سبحانه وتعالى اختار هذا المكان بالذات لوضع الأساس لهذا المشروع العظيم، مشروع الإسلام. ما هي مواصفات هذا المكان؟ ما هي ظروفه؟ ما هي طبيعته؟ لو استطعنا أن نعرف هذه المواصفات لسوف نستخرج قواعد في غاية الأهمية لإعادة بناء الأمة الإسلامية على أساس صحيح، وسوف نعلم ما هي البيئة التي يمكن أن تكون أصلح لنشأة الدعوة الإسلامية، ولنشأة هذا الدين وتمكينه. أما الحكمة الكامنة وراء ذلك الأمر فلا يعلمها إلا الله عز وجل، لكن نحن نحاول أن نبحث على قدر الاستطاعة، ونسأل الله عز وجل التوفيق.

المحافظة على نقاء الرسالة ووحدة المصدر

المحافظة على نقاء الرسالة ووحدة المصدر أول حكمة تتبدى في ذلك الأمر: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ ثقافي يذكر، ولا فلسفات سابقة، أو تشريعات مركبة، أو قوانين مفصلة، بل حياة بسيطة إلى أبعد درجات البساطة، الحضارات المعاصرة لها كانت لها أفكار مرتبة وفلسفات خاصة وتاريخ طويل، فالدولة الرومانية الغربية والشرقية كانت فيها قوانين كثيرة، وتشريعات في معظم المجالات، وكان بها ظلم وقهر وبطش. فاليونان كانت جزءاً من الدولة الرومانية الشرقية، وكانت فيها فلسفات كثيرة قوية، وظهر فيها فلاسفة كبار، أمثال: أرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم. والدولة الفارسية ظهر فيها مزدك صاحب الشيوعية وزواج المحارم، وظهر فيها زرادشت صاحب النار. والهند كان فيها حكماء كثيرون جداً كما يقال. والصين ظهر فيها بوذا وكونفوشيوس ولاوتسو. ومصر كان فيها الفراعنة وتاريخهم طويل وقديم وقوي، وعندهم أيضاً قوانين وتشريعات وأحكام، ومع كل هذا نزلت الرسالة في مكان يعتبر تقريباً بلا تاريخ ثقافي، اللهم الشعر، لكن حتى الشعر لم يكن له دور فعال في بناء الأمة الإسلامية، ولم يكن ذا أهمية خاصة في إنشاء الأمة الإسلامية على الأقل في البداية، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف نظم الشعر على بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم، وقد كان أبلغ البشر أجمعين، ومع ذلك لم يكن يقول الشعر، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] يعني: لا يصح أن يقول شعراً، وما ينبغي له ذلك؛ لئلا يختلط على الناس الأمر، ويعتقد الناس أن القرآن نوع جديد من الشعر ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل أراد ألا يختلط القرآن بأي شيء من كلام البشر، حتى لو كان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل هذا من أجل نقاء الرسالة، وحتى لا تختلط بأفكار سابقة، ثم يقال: إن الإسلام مجرد تطور للمعتقدات السابقة. فـ كونفوشيوس أو بوذا أو سقراط أو غيرهم من الفلاسفة لهم معتقدات معينة، وقواعد خاصة وضعوها منذ مئات السنين، بعضها قد يحض على معنى معين حض عليه الإسلام أيضاً، ولكن سيكون بشيء من الاختلاف أو التغيير، فقد يحض بعضهم مثلاً على الصدق، أو الزهد في الدنيا، أو الأمانة، فإذا جاءت هذه الأفكار في الإسلام قد يعتقد البعض أنها مجرد تطور لأفكار سقراط أو بوذا أو غيرهما، وهذا ما قاله بعض المتطاولين على الإسلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً عن هؤلاء الفلاسفة، وما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، فما بالكم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة مليئة بالفلاسفة وبالثقافات القديمة، ماذا سيقال عنه؟ ثم أيضاً قد تتسرب بعض هذه الأفكار إلى الإسلام دون دراية المسلمين بذلك، فقليلاً قليلاً يختلط الصواب بالخطأ، ويختلط الحق بالباطل، فإن قواعد الجاهلية التي كانت مترسخة في الناس أخذت مجهوداً ضخماً من الإسلام؛ لكي يلغيها من أذهان الناس، فمثلاً: عادة التبني، لكي يلغيها الإسلام حصلت القصة المشهورة من طلاق زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه للسيدة زينب بنت جحش، ثم زواج الرسول صلى الله عليه وسلم منها. كل هذا أحدث هزة كبيرة جداً في المجتمع المسلم، والناس كلها تنتبه إلى أن هذه العادة ليست من الإسلام. وتخيل لو أن هذا البلد مليء بتشريعات وقوانين وفلسفات، كيف سيصبح الوضع؟ فربنا سبحانه وتعالى يريد للرسالة أن تكون نقية تماماً، ليس فيها أي خلط بأي أفكار أخرى، وربما من أجل هذا أيضاً ما نزلت الرسالة في فلسطين، فلو نزلت فيها الرسالة فستبقى مجرد امتداد لليهودية أو النصرانية، نعم، أصول التوحيد واحدة، لكن الإسلام أتى بتشريع كامل متكامل يحكم الدنيا والدين. إن الله سبحانه وتعالى أراد للرسالة الخاتمة أن تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حتى لا يدعي بعض المدعين على الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخذ التوراة والإنجيل وحرف فيهما قليلاً، واستخرج منهما الإسلام، ادعى أهل مكة أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتلقى هذه الآيات من غلام نصراني، فكيف لو نزلت الرسالة في بلد مملوء بأهل التوراة والإنجيل مثل فلسطين؟ لذلك نزلت هذه الرسالة في مكان ليست فيه بالفعل أي نوع من الثقافات السابقة أو القوانين أو التشريعات، كل هذا من أجل أن يبقى الدين في النهاية نقياً خالصاً: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]. ونحن رأينا بأعيننا بعد ذلك آثار اختلاط الإسلام بالأفكار الغريبة عنه، ومدى الخطورة على الإسلام لو أدخلنا عليه أي أفكار، حتى ولو كانت من أفكار الفلاسفة وكبار الحكماء كما يقولون. مثال ذلك: دخول المناهج الفلسفية اليونانية إلى الإسلام، عندما ترجمت

إدراك حقيقة أن النصر بيد الله وأن القلة المؤمنة تغلب الكثرة المشركة

إدراك حقيقة أن النصر بيد الله وأن القلة المؤمنة تغلب الكثرة المشركة الحكمة الثانية من نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ أو واقع عسكري ملموس، لم يكن هناك ما يعرف بالجيوش العربية، بل كانوا قبائل متفرقة متشرذمة، لا يعرفون إلا حرب الإغارات والسطو على بعضهم البعض، وأعدادهم قليلة، وسلاحهم قديم، وخططهم بدائية، فلما جاء الإسلام إلى هذه البقعة من الأرض حصل انقلاب هائل بمعنى الكلمة، إذا بالرجال البدو البسطاء الذين كانوا يعيشون في هذا المكان يصبحون قادة عسكريين على أعلى المستويات، لا مثيل لهم في التاريخ كله، وإذا بالقبائل المتفرقة تكون جيشاً واحداً مترابطاً، وإذا بالبدو الرحل يحاورون ويناورون ويفاوضون، ويفتحون البلاد، ويدعون العباد إلى عبادة رب العباد، اقرءوا تاريخ الفتوح الإسلامية الإعجازية، راجعوا التاريخ من أول نزول آدم وإلى الآن لا تجد لهم نظير، ولا للفتوحات الإسلامية مثيل. في غضون سنوات قلائل تسقط فارس الدولة الرهيبة العظيمة. في غضون ثلاث عشرة سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تسقط فارس، التي هي إيران والعراق وأوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وكازاخستان وأفغانستان وباكستان، نصف الأرض تقريباً تسقط في ثلاث عشرة سنة على أيدي هؤلاء البدو الرحل. كذلك في نفس الوقت على الجهة الغربية من العالم تسقط معظم ممتلكات الدولة الرومانية في آسيا وإفريقيا، معجزة عسكرية هائلة بكل المقاييس، من المستحيل أن تكون من فعل البشر! ماذا كان موقف العرب من كسرى فارس قبل الإسلام؟ كان العرب مثل أصغر دولة نامية في الأرض في هذا الوقت بالنسبة لأعظم قوة في الأرض في زمانهم دولة فارس ودولة الروم، والعربي إذا أتى إيوان كسرى يقف على بعد خمسة عشر متراً منه، وكان يعتبر ذلك فخراً أبد الدهر فـ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في جاهليته يفخر على غيره بأنه دخل إيوان كسرى، فهذا يشبه عندما تأتي بشاب من دولة نامية ليقابل رئيس دولة عظمى. وكان الفرس يتصدقون على العرب بالقمح من شدة المجاعات التي كانت تقع في أرض العرب؛ لذا لما ذهبت الجيوش الإسلامية لفتح فارس تعجب كسرى من العرب، كيف أتوا كي يفتحوا بلاده بينما هو يرى أنه من مضيعة الوقت أن يحاربهم؟ وقال: أنا أعرض عليكم عرضاً مغرياً جداً -في نظره-، سأعطي ثوباً لكل جندي ودرهم. هذا العرض الذي عرضه كسرى فارس على الجيوش الإسلامية، وأما القائد الإسلامي فسيغريه جداً ويعطيه ثوبين ومائة درهم كان هذا الرقم مهولاً جداً، وهذه كانت نظرة كسرى فارس ودولة فارس كلها للعرب، وهذه النظرة كانت واقعية بالنسبة لتاريخ العرب وتاريخ فارس، وتذكروا معي مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه لما جيء به من غزوة أحد ليدفن لم يجدوا ما يغطونه به، فعلاً كان الصحابة بسطاء جداً؛ لذا فإن كسرى فارس يقول: أعطيكم ثوباً لكل جندي، وهو يرى أنه يسترهم به. وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب ليأتي بخبر القوم في الأحزاب كان عليه ملابس زوجته؛ لأن الجو كان بارداً. هذا كان وضع الصحابة الذين فتحوا بلاد فارس الرهيبة وبلاد الروم الهائلة. والعرب لما كشروا عن أنيابهم في الأحزاب بالكاد جمعوا عشرة آلاف، وهذا كان رقماً مهولاً عندهم، فكيف يمكن لهؤلاء أن يفكروا في غزو بلاد فارس، مع علمهم أن جيش فارس لا يقل عن اثنين مليون جندي! فجوة هائلة في التسليح والإعداد! بالإضافة إلى أن الحرب في عقر دار الفارسيين في وسط بلاد الفرس في العراق وإيران وغيرهما من البلاد على بعد مئات الأميال من المدد. حقاً إنها معجزة عسكرية بكل المقاييس!! أين كان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح والقعقاع بن عمرو التميمي والبراء بن مالك وأبو موسى الأشعري والزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة والمقداد بن عمرو؟ الكوادر العظام في الإسلام أين كانوا قبل الإسلام؟ أين كان هؤلاء العباقرة العسكريون قبل إسلامهم؟ خالد بن الوليد في أُحد أمام خمسين من الرماة وهو في ثلاثة آلاف لم يحرك ساكناً، لولا خطأ الرماة بترك الجبل فيما بعد وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من فوق الجبل، هذا هو خالد، ما الذي جعله يدخل بلاد فارس بثمانية عشر ألف جندي مسلم ويكسر بهم مائة وعشرين ألفاً ولا يغلب في موقعة؟ كيف ينتصر المسلمون باثنين وثلاثين ألفاً في القادسية على ربع مليون فارسي؟ كيف ينتصر المسلمون بتسعة وثلاثين ألفاً على مائتي ألف رومي في اليرموك؟ كيف فتحوا بلاد الأندلس باثني عشر ألفاً وأمامهم مائة ألف إسباني صليبي في عقر دار الأسبان؟ ألغاز لا يمكن أن تفهم إلا بحقيقة واحدة لا ثاني لها: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنّ

الاستفادة من تعدد موازين القوى وعدم وجود حكم مركزي أو دكتاتوري في مكة

الاستفادة من تعدد موازين القوى وعدم وجود حكم مركزي أو دكتاتوري في مكة الحكمة الثالثة من وراء نزول الرسالة في أرض مكة وجزيرة العرب: نظام الحكم في أرض مكة. لم يكن الحكم في مكة حكماً مركزياً، ولم يكن في مكة ثمة حاكم معين، بل مجلس يضم عشرة أشخاص يمثلون عشر قبائل، حكم ائتلافي يشبه الحكم الديمقراطي، وقد أفادت كثرة موازين القوى في مكة الدعوة، ووجدت إضافة إلى ذلك بعض القوانين الوضعية في أرض مكة استفاد منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يتنازل عن شيء من دينه ولا من عقيدته، ليعلمنا أن المسلم الذكي الواعي الفاهم يستطيع أن يستفيد من هذه القوانين طالما يحافظ على دينه. وهذا يرد على كثير من غير الفاهمين لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إننا لا نحتكم مطلقاً لقانون وضعي، لكن هذا الكلام ليس بصحيح على إطلاقه، فنحن لا نحتكم إلى قانون وضعي إذا تعارض مع شرع الله عز وجل، ونستفيد مما ليس له تعارض بالشرع. فقانون الجوار كان في مكة، ولو كان الحكم مركزياً مثل فارس أو الروم ما تمت هذه الإجارة، والرسول عليه الصلاة والسلام استفاد من هذا القانون، ودخل في جوار المطعم بن عدي المشرك؛ لكي يحميه من أهل مكة، ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جوار ابن الدغنة المشرك، ودخل عثمان بن مظعون رضي الله عنه في جوار الوليد بن المغيرة المشرك. هكذا استفادوا من قانون الجوار الوضعي في مكة، لكن بدون تفريط في العقيدة أو الدين. كذلك هناك قانون قبلي أيضاً كان في مكة استفاد منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حماية بني هاشم له، وبالذات في أثناء حياة أبي طالب مع كون معظمهم على الشرك، أبو طالب بالذات كان مشركاً، وبقي إلى آخر لحظة من لحظات حياته مشركاً، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قبل حمايته. كذلك قانون الأحلاف، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بفكرة الأحلاف مع المشركين، إذا كان الحلف يهدف إلى أمر نبيل ولا يتعارض مع الدين الإسلامي، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (شهدت وأنا غلام -أي: قبل البعثة- حلفاً مع عمومتي المطيبين) كان حلفاً بين بني هاشم وبني تيم وزهرة على نصرة المظلوم. يقول: (فما أحب أن لي به حمر النعم وأني نكثته، ولو دعيت به اليوم في الإسلام لأجبت). وأكثر من هذا ما كان في صلح الحديبية، فقد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة خزاعة وكانت مشركة. وكان للمسلمين دولة وكيان معروف وقوي. ووقع صلى الله عليه وسلم معاهدة مع قريش، وبهذه المعاهدة حالف خزاعة ووضع يده في يدها، وما تنازل عن أي قانون إسلامي أو أي عرف إسلامي، لكنه تعاون مع خزاعة ضد قريش. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم استفاد من تعدد موازين القوى، ومن قوانين المجتمع الوضعية ما دامت لا تتعارض مع الدين والشرع والعقيدة. وهذه الحكمة ما كانت لتظهر لو نزلت الرسالة في بلد فيه حكم ديكتاتوري مثل: فارس أو الروم أو غيرهما من الممالك الموجودة في ذلك الوقت.

إتقان أهل الجزيرة العربية والدعاة للغة العربية لغة القرآن

إتقان أهل الجزيرة العربية والدعاة للغة العربية لغة القرآن الحكمة الرابعة من نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث اللغة العربية، وهي أشرف اللغات، وبها نزل القرآن الكريم، وهي لغة أهل الجنة، والقرآن كلام الله عز وجل، ولم ينزله الله عز وجل بهذه اللغة لأهل الجزيرة فقط، بل للعالم كله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد زمانه وإلى يوم القيامة. وقد نزل القرآن بهذه اللغة في وقت كانت فيه لغات كثيرة موجودة في الأرض، واستحدث غيرها من اللغات على مر التاريخ، وستكون لغات أخرى إلى يوم القيامة، ومع ذلك أراد الله عز وجل لهذا القرآن وهذا المنهج أن يكون باللغة العربية؛ لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى. وهو سبحانه وتعالى يعلم أن اللغة العربية قد تكون أقل انتشاراً من غيرها من اللغات في زمان من الأزمان، مثل زماننا هذا فإن اللغة العربية أقل انتشاراً من الإنجليزية أو الصينية أو الفرنسية، ومع علم الله عز وجل بذلك الأمر إلا أنه أنزل القرآن باللغة العربية، لحكمة كاملة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وأنا في اعتقادي أن سبب ذلك هو أن اللغة العربية أثرى لغة، فالشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة، فلك أن تعبر عنه بعشرات الكلمات، فمثلاً: العسل له ثمانين اسماً، والثعلب له مائتا اسم، والأسد له خمسمائة، والجمل له ألف، والسيف له ألف، والداهية لما توصف واحداً بأنه داهية في أربع أو ثلاث كلمات تفسر معنى الداهية، شيء مهول لا يتخيله عقل، هذه هي اللغة العربية. وأيضاً الكلمة الواحدة في اللغة العربية تكون بنفس الحروف، إلا أن تغيير حركات التشكيل يعطيها أكثر من معنى، كل هذا أعطى اللغة إمكانيات هائلة، تنزل الآية بكلمات قليلة محدودة ومع ذلك تحمل من المعاني ما يصعب حصره. كلما نظر المفسر في الآية استخرج منها معاني جديدة مختلفة عن التي استخرجها غيره، قد ينظر المفسر الواحد في الآية أكثر من مرة، وفي كل مرة يخرج بمعنى جديد، وتمر الأزمان والأزمان ثم يأتي مفسرون آخرون ليستخرجوا معاني جديدة. وصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عندما وصف القرآن بأنه لا يخلق من كثرة الرد، أي: لا يبلى من كثرة الترديد والقراءة. أيضاً كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت باللغة العربية، وآتاه الله عز وجل جوامع الكلم، كان يقول الحديث في كلمات قليلة جداً، فإذا به يحوي أحكاماً لا تنتهي. فإذا كان ربنا سبحانه وتعالى اختار أن القرآن ينزل باللغة العربية فيلزم الناس أن يتكلموا العربية، بل ووصلوا فيها إلى أعظم درجات الإعجاز البشري، إتقان عجيب جداً للغة، يتصرفون فيها كما يريدون، وأصبحت ألسنتهم سهلة لينة طيعة بها. وكان أمر الشعر عند العرب عجيباً، فالمعلقات الهائلة التي كانت تعلق على الكعبة من الشعر، فالشعر يقال في كل الظروف، الفرحان يقول الشعر، والحزين يقول الشعر، ويقال في السلم، وفي الحرب، حتى قبل الموت والسيف على رقبة الشخص وهو يقول الشعر؛ لأنه كان على لسانه مثل الكلام عندنا. كذلك المعارضة بالشعر تأليف فوري، واحد يقول بيت شعر والثاني يرد عليه ببيت على نفس الوزن والقافية وفي نفس اللحظة، ولا يفكر كثيراً، هذه كانت كفاءتهم بالنسبة للغة العربية. إذاً: من عوامل نجاح الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، إتقان أهل هذه البقاع اللغة العربية، لماذا إتقان اللغة العربية كان سبباً في نجاح الدعوة؟ أولاً: كان أدعى لإيمان الناس بكلام الله عز وجل وبإدراك الإعجاز الإلهي في كل آية وفي كل سورة، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198 - 199]. فالعرب المتقنون للغة أدركوا منذ أول لحظة سمعوا فيها القرآن أن هذا الكلام معجز، لذا لم ينتقدوا آية واحدة من آيات القرآن الكريم، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبداً، وما اجتمعوا لكي يعارضوا القرآن الكريم، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدة مع تحدي القرآن لهم. فالقرآن يتحداهم أن يأتوا بسورة أو عشر سور أو بمثل القرآن كله وهم لا يستطيعون، كرجل تقول له: اذهب وخذ هذا البيت، وهو يذهب أصلاً ولا يحاول؛ لأن هذا شيء بالنسبة له معجزة، نعم، أنا قوي وأقدر على أخذ كذا أو كذا أو كذا، لكن ذلك البيت مستحيل، هم كانوا هكذا بالضبط، يعلمون أن القرآن الكريم، وهذه الكلمات والآيات والسور من المستحيل أن تعارض. فمعرفة العربية كانت أدعى لفهم الإعجاز العجيب في كتاب الله عز وجل. وهذا الأمر ليس مقصوراً فقط على الإعجاز اللغوي، بل حتى أي نوع من أنواع الإعجاز في القرآن الكريم يحتاج إلى فهم دقيق للغة، بل حتى الإعجاز العلمي الذي نستخرجه من القرآن الكريم لابد له من فقه للغة، ومعرفة معنى الكلمات، ومعنى الآيات، والمقصود من وراء كل كلمة. ثم أيضاً لابد أن تعلم أن الذي يقرأ ترجمة ا

وجود بقايا من ملة إبراهيم في الجزيرة

وجود بقايا من ملة إبراهيم في الجزيرة الحكمة الخامسة من وراء نزول الرسالة في جزيرة العرب: أن أهل هذه البقعة من الأرض كانوا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ويعلمون أنه الخالق، ولكنهم حكموا غيرهم في حياتهم، واتخذوهم إليه شفعاء، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]. ويقول: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. الذي يؤمن بالله ولكن عنده اضطراب في فهمه وقصور في إدراكه أقرب من الذي يؤمن بإله آخر، أو لا يؤمن بوجود إله أصلاً، ما كان في وقت البعثة النبوية على الأرض من يفقه هذه الحقائق إلا القليل، كان هناك على ظهر الأرض من يعبد النار وبوذا، والمسيح عليه السلام، وبقرة أو شجرة أو فأراً أو إلخ، كما هو واقع في الهند، لكن ربنا سبحانه وتعالى يعلمنا أن ندعو الأقرب فالأقرب، ندعو الذي يؤمن بوجود الله عز وجل قبل الذي ينكر وجوده، ندعو الذي يعظم الله عز وجل قبل الذي لا يعظمه، ندعو الذي يحب الدين ولكن لا يتبعه قبل الذي لا يحبه أصلاً. ولست ضد دعوة اليهود والنصارى وأهل الأرض أجمعين، بل بالعكس، ولكن نبدأ بالأقرب فالأقرب، يعني: لا تترك جارك في السكن أو العمل أو النادي أو غيره دون دعوة وهو مسلم، وتتجه إلى دعوة غيره من غير المسلمين، لكن لو انتهيت من الدائرة التي حولك انتقل إلى الدائرة التي تليها، ولما تنتقل إلى الدائرة التي تليها ابحث عمن يحبون الإسلام، فهؤلاء أقرب إلى الدعوة من المعادين لدين الله عز وجل.

صفات خلقية أهلت العرب لحمل رسالة الإسلام

صفات خلقية أهلت العرب لحمل رسالة الإسلام الحكمة السادسة من نزول الرسالة في جزيرة العرب مع كل ما سبق من أجواء أخلاقية وأمراض اجتماعية في جزيرة العرب إلا أن المجتمع كان يتصف بصفات أصلية في فطرة ساكني هذه المنطقة، تساعد على حمل الدعوة ونشر الإسلام، نعم، كان عندهم ظلم وقهر لكن، كان عندهم صفات جبلوا عليها، وهذه الصفات لا بد أن تكون في كل داعية، ولولا هذه الصفات لما استطاعوا حمل رسالة الإسلام. من هذه الصفات على سبيل المثال: الصدق، وهي أهم صفة مميزة للداعية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أهم صفة كانت مميزة له الصدق، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وأكثر من ساعد الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، اسمه: الصديق، فصفة الصدق صفة أساسية في الذي يحمل هم هذا الدين. وتفكر معي ماذا لو أنزلت الرسالة في بيئة من البيئات الكذب منتشر فيها؟ انظروا إلى فعل اليهود والنصارى بدينهم، يقول الله عنهم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78] والإسلام يحول الكذاب إلى صادق، لكن ليس بالصورة التي فطر فيها الإنسان على الصدق. فقد كان العرب يأنفون من الكذب، فيأتي الإسلام بعد ذلك ليحسن ويجمل ويعظم قيمة الصدق عند هؤلاء الصادقين، فيربط الأمر بالجنة، والصديقية عند الله سبحانه وتعالى. فهذا أبو سفيان لما كان يتحدث مع هرقل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، وكان لا يزال مشركاً يحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال أبو سفيان: كنت أنا أقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل: أدنوه مني -أي قربوه- ثم قال: قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن النبي فإن كذبني فكذبوه، وبدأ يسأله ووضع أصحاب أبي سفيان وراءه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عمداً. هو يكرهه جداً، لكن يستحي أن يكذب؛ لأنه رذيلة. وفي لفظ آخر يقول: فوالله لو كذبت ما ردوا علي -لأنه سيد القوم- ولكني كنت امرأً أتكرم عن الكذب. وكان الحوار الذي دار بينه وبين هرقل حواراً عجيباً، كأنه داعية يتكلم عن الإسلام، ويدعو إليه. يقول له هرقل: كيف نسبه فيكم؟ يقول: هو فينا ذو نسب. فيقول له: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ قلت: لا، قال هرقل: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة، يعني: قوله: نحن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، لاحتمال أن يغدر بنا، لكن هو قال: لم يغدر قبل ذلك، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا -مثل بدر- وننال منه -مثل أحد-. قال: بماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة. لم يكذب، وكل الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته لخصه لـ هرقل؛ لأنه يكره الكذب. فلما تنزل الرسالة على أناس بهذا التكريم لصفة الصدق سوف يتحركون بالرسالة بأمانة ويقولونها للناس مثلما نزلت عليهم بالضبط. إذاً: هذه كانت صفة هامة في أهل الجزيرة العربية، ولم تكن موجودة في أهل الأرض في ذلك الزمن. الصفة الثانية العظيمة في العرب لما نزلت فيهم الرسالة: صفة الكرم، وهي صفة أصيلة في العرب، كان حاتم الطائي يضرب به المثل في الكرم، وكان يعتق العبد إذا جاءه بضيف؛ لأنه يحب الكرم. ومن العرب من لم تكن له إلا ناقة واحدة فيأتي له ضيف فيذبحها له كرماً منه، لدرجة أن العرب سموا العنب: كرماً؛ لأنهم يصنعون منه الخمر، ولما يشرب الرجل منهم الخمر ينفق بلا حساب، فمن حبهم الكرم سموا الخمر التي تؤدي إلى الإنفاق بدون حساب: كرماً. فجاء الإسلام ليهذب هذه الصفة النبيلة، فلا يصل الأمر إلى حد الإسراف والسفه، وأيضاً لا يصل إلى حب الخمر؛ لأنها تدفع إلى الكرم، لكن حرم الله عز وجل الخمر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسمية العنب بالكرم، وقال: (إنما الكرم المؤمن). تخيل أن الإسلام نزل ليقنن الكرم ويدخله في

بدء الوحي

سلسلة السيرة النبوية_بدء الوحي الهدف من دراسة السيرة النبوية هو استخراج المواقف والعوامل التي بها يعود بناء الأمة على أساس متين، فقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم وحياً، وكل خطوة من خطواته كانت مؤيدة بالوحي، وقبل البعثة صنع على عين الله تعالى ورعايته، فقد حفظه الله عز وجل من عبادة الأصنام، ومن الأخلاق السيئة التي كانت سائدة في الجاهلية، فما علينا إلا أن نقفو كل موقف وكل خطوة من خطواته لنستلهم منها ما يكون به إعادة بناء الأمة بناء صحيحاً.

دراسة السيرة النبوية لاستخراج مواقف تعيد بناء الأمة

دراسة السيرة النبوية لاستخراج مواقف تعيد بناء الأمة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الرابع من دروس السيرة النبوية: الفترة المكية. أعيد فأذكر بأن هدف ومنظور هذه المجموعة: هو دراسة كيف نعيد بناء أمة الإسلام على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ دراسة السيرة من هذا المنطلق تعطيك أبعاداً مختلفة عن دراسة السيرة بالطريقة العادية التي ألفها الناس، تقرأ قصته من أول الميلاد إلى آخر لحظة من لحظات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس هذا هو المقصود من هذه المجموعة، فنحن أمام مشروع ضخم هو كيف نبني أمة؟ أنت عندما تريد أن تبني مبنىً كبيراً تعمل ما يسمى بدراسة الجدوى، تدرس طبيعة المكان، ومن الذي سيشتغل معك؟ ما هي التكاليف التي ستدفعها؟ ما هي المعوقات التي تقف أمامك؟ هذا الكلام أيضاً ينطبق على أمة الإسلام، لكن تخيل الفارق بين دراسة الجدوى لبناء مبنى ضخم، وبين دراسة الجدوى لبناء أمة كاملة، لابد في دراسة السيرة لهذا الموضوع أن نبحث في كل نقطة من زوايا السيرة، لماذا فعل ذلك؟ ومتى فعل؟ وما هي الظروف الموجودة حول الرسول صلى الله عليه وسلم التي اختار هذا الرأي لأجلها؟ وما هي الحكمة من وراء اختيار هذا الرأي، هذا الذي يجعلنا نبني الأمة كما بناها الرسول صلى الله عليه وسلم. يعرف الناس السيرة من أولها إلى آخرها، يعرفون متى ولد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف ولد؟ وكيف عاش الفترة التي نزل فيها الوحي عليه، وكيف بدأت الدعوة في مكة إلى أن هاجر من مكة، ثم موقعة بدر وأحد وهكذا كل الغزوات لدينا تفاصيل كثيرة جداً عنها، لكن نحن لا نبحث عن هذه الأشياء، نحن نبحث عن أشياء أخرى فيما وراء الأحداث، يعني: لماذا بدأ بفلان وفلان وفلان ولم يبدأ بغيرهم؟ لماذا دعا أبا بكر أولاً؟ لماذا تحدث إلى السيدة خديجة وزيد بن حارثة وعلي بن أبي طالب مع وجود أناس كثير؟ لماذا بدأ أبو بكر بدعوة هذا وهذا وترك الآخرين؟ لماذا جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة بعد مضي ثلاث سنين من نزول الوحي عليه؟ وماذا حصل بعد الجهر بالدعوة في مكة؟ هل حاربت الناس الدعوة لأنها ليست مقنعة أم أن الدعوة مقنعة، وإنما وقفوا أمامها لأسباب أخرى منعت الناس من دخول الدعوة؟ وهل هذه الأسباب تتكرر أم لا؟ ثم كيف وقف الرسول عليه الصلاة والسلام أمام هذه الأسباب؟ كيف عالجها؟ كيف آمنت مكة؟ لماذا اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لهجرة أصحابه الحبشة، ولم يأمرهم بالذهاب إلى اليمن أو الشام أو مصر أو العراق؟ ولما فكر بعد ذلك في الذهاب إلى المدينة المنورة بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه يعلم الناس، لماذا اختار مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه من بين الصحابة؟ لماذا لم يبعث أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً أو غيرهم من الناس؟ لما خرج من مكة وذهب إلى الطائف لماذا لم يذهب إلى أي بلاد أخرى؟ كل هذه الأسئلة عندما نجيب عليها، ونفكر ونتدبر في هذه الأحداث سنخرج بقواعد في غاية الأهمية، هذا هو المقصود من هذه المجموعة: كيف نبني أمة؟ كيف يمكننا أن نضع قواعد لبنيان كالذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولا يمكن أن نقيم بنياناً قوياً إلا إذا قلدنا الرسول صلى الله عليه وسلم في كل موقف من مواقفه، لكن لابد من مراعاة الظروف التي اختار الرسول صلى الله عليه وسلم فيها هذا الرأي أو ذاك؛ لتكتمل لنا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قصة نزول الوحي وأهميته

قصة نزول الوحي وأهميته سنبتدئ القصة من الآن، لكنها بداية غير تقليدية، لن نبتدئ من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من نقطة نزول الوحي، وليس هذا تقليلاً من أهمية الأربعين سنة من حياته صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، لكن منظور هذه المجموعة هو كيف نبني أمة؟ نحن لن نحكي حكاية الرسول صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى الممات، لكن سوف نستخرج نقاطاً هامة تفيد في بناء الأمة الإسلامية. الإسلام كدين وكشرع وطريقة بدأ على الأرض منذ لحظة نزول الوحي، ولذلك سنبدأ بالحديث من هذه النقطة، فهذا لا يمنع من أننا نرجع لتحليل بعض النقاط في حياة رسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إذا كان لها علاقة في التمهيد للبعثة، لكن هذا لن يكون بالترتيب المألوف. كانت لحظة نزول الوحي على رسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء لحظة عظيمة في تاريخ البشرية، بل إنها أعظم لحظة مرت في تاريخ الأرض ككل إلى يوم القيامة، كثيراً ما نسمع عن هذا الحدث المهيب، لكن القليل منا من يعطي لهذا الحدث قدره، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسولاً إلى الإنسان، ما رأيك لو أنك تلقيت رسالة من زعيم دولة عظمى ووصلت إلى بيتك، يقول لك فيها: أنا أحبك، وخائف عليك، ومهتم بك، وعندي لك خير كثير. ما موقفك لو تلقيت رسالة بهذا الوعد من هذا الملك العظيم، ولله المثل الأعلى؟! يا ترى كيف سيكون اهتمامك بالرسالة؟ إن الله سبحانه وتعالى بعظمته وجبروته وقدرته وقوته أرسل رسولاً إلى هذا الإنسان البسيط الضعيف الذي يعيش على ظهر كرة معلقة في الفضاء، لا تكاد ترى في الكون الفسيح، هذا حجم الأرض بالنسبة لحجم الكون، فكيف سيكون حجم الإنسان بالنسبة لحجم الأرض؟ حجم الإنسان بالنسبة لحجم الكون شيء لا يتخيل، كذلك حجم الإنسان بالنسبة للملائكة. إن الناس لا يقدرون لهذا الحدث قدره؛ لأنها لا تعطي لله عز وجل قدره. إن الله جل وعلا لا يحتاج إلينا ولا لغيرنا، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ومع ذلك من رحمته بنا وحبه لنا أرسل إلينا رسالة هداية وبشرى وإنذار، وهذه الرسالة نزل بها أشرف الملائكة جبريل عليه السلام، على أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، بأشرف الكلام القرآن الكريم. في لحظة الوحي هذه نزل الكلام الذي سيظل دستوراً في الأرض إلى يوم القيامة، هذا الحدث فيه تكريم للإنسان، كما قال ربنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، ومن أعظم صور التكريم أن أنزل له الوحي، ونزلت له الهداية من رب العالمين سبحانه وتعالى. أحياناً لا يقدر الإنسان قيمته كإنسان، والله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، وأرسل له رسولاً من السماء إلى الأرض، وأتى معه بدستور كامل يوضح له كل نقطة في حياته، لكن الإنسان لا يقدر قيمته كإنسان، فأحياناً يقضي حياته في ترف وملذات وشهوات وأوقات ضائعة وطموحات تافهة، وأحياناً يظلم غيره ويؤذيه ويعذبه، هو لا يدري أنه إنسان مكرم يظلم إنساناً مكرماً، بل إن قيمة الإنسانية تنحدر إلى درجات هي أقل بكثير من درجات الحيوانية، لكن التفكر في لحظة الوحي يغير كثيراً من مفهوم الإنسان عن نفسه، وإخوانه من البشر، والأرض التي يعيش عليها. الوحي عبارة عن رسالة من رب العالمين إلى الإنسان، رسالة لك ولي ولكل واحد على وجه الأرض، افعل ولا تفعل. الوحي هداية ونور ودليل ليس مجرد تكاليف وقيود أبداً. الوحي نعمة ورحمة من ربنا سبحانه وتعالى، الله عز وجل المطلع على كل شيء، العالم بكل شيء، الذي يدرك الماضي والحاضر والمستقبل يقول لك: من مصلحتك في هذه النقطة أن تفعل كذا، وإياك إياك أن تفعل كذا، فاتباعك للوحي فيه سعادة الدنيا والآخرة، ومخالفتك للوحي فيه شقاء الدنيا والآخرة. تخيل نفسك تائهاً في الصحراء ولا تدري أين الطريق، وأنت على مشارف الموت، وفجأة وجدت دليلاً ليس فقط يأخذك لمكان فيه أكل أو شرب، لا، بل لأحسن مكان في الكون ولا يريد منك أي شيء، كل هذا من أجل مصلحتك، فهذا هو الوحي في وسط التيه الكبير الذي تعيشه البشرية يأتي ليأخذ بأيدي الناس إلى السعادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة في الجنة. يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:123 - 124] أي: من يعيش في التيه الذي اختاره بنفسه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126] أي: أتاك الوحي فنسيته، وسمعت به ولم ترض أن تتبعه، {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، تداعيات ضخمة تحدث للإنسان بحسب فقهه لقيمة الوحي، الذي يتبع الوحي لا يضل ولا يشقى في الدنيا والآ

مقدمات نزول الوحي

مقدمات نزول الوحي جاء في صحيح البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وعائشة وإن لم تكن معاصرة لأحداث نزول الوحي، لكنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من الصحابة، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح). كانت هناك مقدمات للوحي قبل أن ينزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، من هذه المقدمات: الرؤيا الصالحة، فقد كانت تأتي مثل فلق الصبح، يعني: كان يرى الرؤيا فتقع تماماً كما رآها صلى الله عليه وسلم، فكان هذا نوعاً من إنباء بالغيب، وهذا أمر غريب، فهو وإن لم يكن تصريحاً بالرسالة، لكنه شيء لافت للنظر، وتمهيد لأمر عظيم. وهل هذه هي المقدمة الأولى التي حدثت لرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي أم أن هناك مقدمات أخرى؟ الحقيقة لم يكن هذا هو التمهيد الأول، بل وجدت أشياء أخرى، فقد سبقت هذا بعض الأحداث العجيبة جداً في مكة، أحياناً كان يراها صلى الله عليه وسلم وحده، وأحياناً أخرى يراها معه غيره، مثل: سلام الحجر عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، وهذا قبل البعثة وقبل نزول الوحي، ومؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف تفسير هذا الأمر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تفاجأ بأمر الوحي، ولم يكن يعرف أنه سيكون رسول الله إلى الناس. وأغرب من سلام الحجر حادثة شق الصدر، فقد ثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد وصحيح ابن حبان (أن جبريل شق صدر رسول صلى الله عليه وسلم وهو غلام، واستخرج قلبه واستخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأخبر أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه رأى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم. وللعلم فهناك ممن لا يؤمن بالغيبيات ولا بقدرة الله عز وجل تنكر لهذه القصة، وهم في الحقيقة لا يؤمنون أن الله عز وجل قادر على هذا الأمر، ويقولون: لِمَ لمْ ينزع الله منه هذا الحظ من دون حاجة إلى ذلك؟ هذه حجتهم، وإلا فهم في الحقيقة ينكرون القدرة الإلهية، وإنما يقولون هذا حياءً، وقد التقيت مع أحد العلمانيين وتكلمت معه طويلاً في هذا الأمر، وهو ينكره تماماً، فقلت له: هذا في صحيح مسلم، فقال: لعله نقله بالخطأ. فهو ينكر أن يكون شق صدره في هذا العمق من التاريخ. إذاً: هذا نوع من الإعداد والتربية والتهيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه يقول له: أنت إنسان مختلف، تحدث لك أمور غريبة، وكل هذا من باب التمهيد، حتى إذا ما أتت الرسالة يكون لديه شبه تهيؤ لها، وأنها سبب تلك الأشياء الغريبة التي كانت تقع له، والآن هذا تفسير كل شيء: أنت رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. وهذا نوع من الإعداد أيضاً لأهل مكة، ولأهل جزيرة العرب لما تعلم بهذه القصة تضع هذا الإنسان في وضعية تختلف عن كل الناس في جزيرة العرب، بل عن كل الناس التي خلقت قبل هذا. الأهم من كل هذا أن هذا اختبار لإيمان المسلمين بقدرة الله عز وجل، المسألة مسألة إيمان، إذا كنت ستصدق بأن ملكاً يمكن أن ينزل من السماء إلى الأرض ثم يعود في لمح البصر، وأن الملائكة تحارب مع المسلمين، وتنزع قرى وجبالاً بأكملها، أو توزع الأرزاق على أهل الأرض في كل لحظة، إذا كنت تؤمن بكل هذه الأمور، وبكل هذه القدرات للملائكة، فلا بد أنك تؤمن بهذا الأمر البسيط بالمقارنة إلى غيره، فعملية جراحية ليست كرفع قرية كاملة أو جبل أو هذه الإمكانيات الهائلة للملائكة، مع العلم أن الملائكة لا تعمل هذه الأشياء بقدرة ذاتية فيها، أبداً؛ لكن لأن الله عز وجل يريد وهو قادر على تحقيق ما يريد. أما من في قلبه شك فيصعب عليه أن يصدق هذه القصة أو غيرها، مثل: الإسراء والمعراج، وشق القمر أو غير ذلك من الأحداث التي حدثت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: معجزة القرآن الكبرى، فهو دليل لا يقاوم على إمكانية وقدرات الله سبحانه وتعالى. ثم تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ثم حبب إليه الخلاء)، أي: أن الله عز وجل هو الذي دفعه لذلك، كان يصعد صلى الله عليه وسلم كل سنة فترة معينة من الزمن -لعله شهر رمضان- يختلي بنفسه في غار حراء، يتفكر في خالق هذا الكون، كيف يمكن أن نعبد هذا الإله، والعرب بصفة عامة كانوا يعرفون أن الله عز وجل هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي خلقهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، لكن العرب كانوا يسجدون للأصنام، ويق

الحكمة الإلهية من طول المدة الزمنية لإعداد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

الحكمة الإلهية من طول المدة الزمنية لإعداد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانت هذه التهيئة الطويلة مدة أربعين سنة من الإعداد والترتيب والتهيئة النفسية لحمل الأمانة الثقيلة، مع أن الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يعده لذلك في لحظة واحدة، ويثبت قلبه فلا يخاف ولا يتردد، لكن الحكمة من وراء هذا الإعداد الطويل أن ربنا سبحانه وتعالى يعلمنا التأني في التربية، والتدرج في حمل الناس على ما نريد، وحتى لو كان سيحمل رسولاً رسالة؛ فإنه يحمله إياها بالتدريج، والتدرج سنة من سنن الله عز وجل في التغيير والإصلاح، فالتربية تحتاج إلى تدرج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج أيضاً إلى تدرج. فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها (63) سنة، منها (40) سنة هي سنوات إعداد له ليكون رسولاً، وليتلقى الرسالة، ومنها ثلاثة وعشرون سنة فقط نبوة، وكل ما يريده ربنا منه جعله في (23) سنة، فكل المتغيرات التي يمكن أن تحصل في حياة الناس، وكل الثوابت التي لا يفرط فيها كانت في (23) سنة، لكن لابد أن تعرف أنك محتاج إلى وقت ومجهود وتربية وإعداد لمن سيحمل هم الأمة الإسلامية، ولا تستعجل، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يتربى (40) سنة؛ من أجل أن يحمل هم الدعوة، فإذا كان هذا يحصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد أي معنى للاستعجال في حياتنا، ولا بد أن نفهم هذا الدرس جيداً: التأني في التربية.

أهمية نزول جبريل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء

أهمية نزول جبريل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء بعد (40) سنة من الحياة في مكة جاء اليوم الذي ينزل فيه جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في خلوته في غار حراء، فمجيء جبريل عليه السلام لحظة خالدة، لحظة غير متكررة في تاريخ الأرض، هذا الموقف لم يحصل في الأرض منذ (600) سنة، وهي الفترة بين الرسول وبين عيسى عليه السلام، فقد بعث الرسول على فترة من الرسل، وعندما يموت الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الموقف لن يتكرر حدث فريد فعلاً! دخل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار في هيئة رجل، ودخوله على هذه الهيئة في الجبل ليس مفزعاً في حد ذاته، نعم، الرجل غريب، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، لكن ما سبب خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من رؤية جبريل عليه السلام أول مرة؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (دخل علي جبريل فقال: اقرأ)، هكذا بدون مقدمات، لم يعرف بنفسه، لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وإنما خاطبه وكأنه يعرفه، يقول له: اقرأ، والرسول لا يدري أي شيء يقرأ؛ لأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم بأدبه الجم: (ما أنا بقارئ)، أي: أنا لا أستطيع أن أقرأ، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يمكنه أن يقول له: من أنت؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بهت بدخول الرجل عليه فجأة بذلك السؤال، ثم إن هذا الرجل احتضنه بشدة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد)، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس بالضعيف، بل قوي البنية، معنى ذلك أن هذا الرجل قوته هائلة، ثم أرسله وتركه، وقال له: (اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني)، كل هذا العنف في تبليغ الأمر، حتى يعلم أنه في حقيقة وليس في حلم، ثم قال له بعدما أطلقه في المرة الثالثة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5]، ثم اختفى بعدما قال له هذه الكلمات. فالرسول صلى الله عليه وسلم أبلغ العرب مطلقاً وأفصحهم، وبالتأكيد أنه عرف منذ اللحظة الأولى أن هذا ليس من كلام البشر، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2]، هذه أول مرة ينزل فيها قرآن على الأرض. أيضاً هذا الرجل الذي جاءه كان يتحدث عن الإله الذي يبحث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ زمن، يتحدث عن الإله الذي يخلق ويتكرم ويعلم. كما أن الرجل لم يخبره عن أي شيء يريده منه، لم يخبره أنه سيصبح رسولاً، بل فقط قرأ عليه هذه الآيات التي لم تسمع من قبل على وجه الأرض ثم اختفى، وكان يغطه في كل مرة بشدة حتى يبلغ منه الجهد، حتى إنه قال من شدة الضمة: (يا خديجة لقد خشيت على نفسي). كل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى خوف الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذهب يجري إلى بيته قاطعاً اعتكافه باحثاً عن الأمان، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها تصف هذا الموقف: (رجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: بهذه الآيات الخمس- يرجف فؤاده)، لماذا يحدث هذا الرعب الشديد والهلع الكبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أولاً: لإثبات بشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفس هذا الموقف حصل مع سيدنا موسى عليه السلام، فقد خاف وجرى، فهو بشر له أحاسيس البشر. ثانياً: إثبات عدم انتظار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر النبوة، لكنه خاف لما جاءه جبريل عليه السلام، ثم هي التهيئة والإعداد والتشويق للأمر العظيم الذي سيأتي، وبالفعل الرسول بعد هذا الأمر كان يخرج مراراً إلى الجبال لعله يقابل ذلك الرجل الذي جاءه في الغار، بعدما كان خائفاً أصبح مشتاقاً إلى قدوم جبريل عليه السلام.

موقف خديجة رضي الله عنها من الوحي

موقف خديجة رضي الله عنها من الوحي رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الزوجة الحنون العاقلة الكاملة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وفؤاده يرجف حين نزل عليه جبريل بالوحي، وكانت السيدة خديجة تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لا يوصف، عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشر سنة كاملة قبل البعثة لم تر منه إلا كل خلق حميد، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ير منها إلا كل خير وحب، لا تذكر كتب السيرة مشاحنة واحدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، ثم عشر سنين بعد البعثة، ليس فيها لحظات غضب أو شقاق أبداً، حياة زوجية مثالية إلى أبعد درجة. حكى الرسول صلى الله عليه وسلم لـ خديجة ما حصل معه في الغار، وكان يظهر منه الرعب والهلع، وقال لها الكلمات التي نزلت عليه، ثم قال: (يا خديجة لقد خشيت على نفسي). وأغرب من كل ما سبق ردة فعلها رضي الله عنها، وهي بحاجة منا إلى وقفة طويلة؛ إذ من المتوقع والطبيعي أنها تخاف كعادة النساء، أو كعادة البشر بصفة عامة، أو على الأقل تتعجب، لكن الغريب أنها كانت على العكس من ذلك، فقد نظرت إلى الموضوع بمنتهى البساطة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقص عليها أمراً عادياً، ليس هذا فقط بل قامت تقول له في يقين: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق)، بعد كل هذه الأشياء كيف يمكن أن يضرك الله سبحانه وتعالى بشيء؟! استنبطت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها أن هذا الرجل صاحب الأخلاق الحميدة، وصاحب الآداب الرفيعة، لا يمكن أبداً أن يخزيه ربنا سبحانه وتعالى. يلاحظ أن الذي لفت نظر السيدة خديجة هي معاملات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البشر، لم تشر إلى تعبده واعتكافه وتفكره، بل إلى علاقاته مع الناس، فهي المحك الحقيقي لتقييم الإنسان، وتكاد تكون هذه المعاملات الطيبة هي السبب في اقتناع الناس بمصداقية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا درس مهم أيضاً. إذاً: كل نقطة وحركة وموقف في السيرة ليس فقط فيه درس، بل المئات من الدروس. هذا هو المقياس الذي ينبغي للبشر كلهم أن يقيسوا عليه حياتهم، لابد من أخذ القدوة والأسوة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتكون حياتنا كحياته مليئة بالروعة والجمال. (كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعين على نوائب الحق)، صلى الله عليك وسلم، فهدأت نفسه صلى الله عليه وسلم بعدما سمع كلام السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا هو دور الزوجة الصالحة، أنها في المقام الأول سكن لزوجها، ليست مصدر إزعاج أبداً، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]. إذاً: أول مهمة وأعظم مهمة للزوجة: أنها سكن وطمأنينة وهدوء وابتسام، ورفع للروح المعنوية للزوج، وتسكين لفزعه، وتخفيف لآلامه، هذه هي الزوجة المسلمة {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]، فهي نعمة من الله عز وجل، وآية من آياته سبحانه وتعالى. لما سكن الرسول صلى الله عليه وسلم واطمأن لم تشأ السيدة خديجة أن تترك نفسها وزوجها للأوهام، بل قالت له: دعنا نذهب إلى ورقة بن نوفل ابن عمها، تعال نذهب إلى أهل العلم لنرى رأي الدين في هذا الأمر. ذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ولم تذهب لأي شخص آخر في جزيرة العرب، لم تذهب لكاهن، أو لخادم للأصنام، أو لحكيم من حكماء قريش، بل اختارت رجلاً كان قد تنصر، عنده علم من دين السابقين. هذه كلمة لكل شاب مسلم: اختيار الزوجة الصالحة نقطة محورية في حياة الفرد المسلم، لا تتسرع، فهذه نقطة مهمة في بناء الأمة، لابد أن تكون زوجتك من نوعية خديجة، انتبه لا تسع خلف المال أو الجمال أو الوضع الاجتماعي وتنس الدين، لا تقل: أنا سأعلمها الدين، تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اظفر بذات الدين تربت يداك).

بشارة ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة

بشارة ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وزوجته خديجة إلى ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان ورقة بن نوفل يعلم أن نبيناً سيظهر في هذا الزمان، وكان ينتظره. ويدل على مدى الجرم الذي كان عليه أهل الكتاب، أنهم كانوا يعرفون من كتبهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وليس فقط من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يؤمنوا، لكن ورقة بن نوفل رحمه الله كان رجلاً صالحاً ورعاً، يعلم محمداً صلى الله عليه وسلم تاريخه وحياته وأخلاقه وصفاته، فلما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القصة العجيبة التي حدثت في غار حراء، قال مباشرة ودون تردد: هذا الناموس -يقصد: جبريل عليه السلام- الذي أنزله الله عز وجل على موسى عليه السلام. هنا يصرح ورقة بن نوفل بأمر خطير: أن هذا جبريل الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وجبريل لا ينزل إلا على الأنبياء. إذاً: محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله. أريد منك أن تتصور معي الموقف: كم من الأحاسيس والمشاعر التي كانت تتداخل في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام؟ هل هذا حلم أم حقيقة؟ حق أم باطل؟ النبوة ليست مقاماً يصل إليه أحد بالاجتهاد في العبادة، أو بالطريقة الفلانية، النبوة اختيار من رب العالمين سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، تأمل معي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام من ورقة، أيكون الله عز وجل قد اختاره من بين كل الخلق ليكون نبي آخر الزمان؟! لكن المشكلة: أن الرجل الذي جاءه في الغار لم يخبره بذلك، لم يقل له: إنه رسول، لكن على الناحية الأخرى ورقة يتكلم بيقين وثقة وتأكيد. ثم قال له ورقة: (يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً- إذ يخرجك قومك، فقال له رسول صلى الله عليه وسلم متعجباً: أو مخرجي هم؟)، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرف أي شيء عن الأمم السابقة وقصص الأنبياء ومعجزاتهم؛ لأن تفصيلات الأمم الماضية لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي. يقول الله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]. لم يكن يعرف قصص الأنبياء، وقصص التكذيب والمعاناة الشديدة التي عاشها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه مع أقوامهم، من أجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم؟)، لكن ورقة الحكيم العالم بقصص الأنبياء والمرسلين السابقين قال في يقين: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي). وهذه قاعدة تخرج من فم ورقة بن نوفل رحمه الله قاعدة أصيلة لكل داعية: ما حمل داعية هذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عودي، سنة من سنن الله عز وجل: تدافع الحق والباطل، صراع بين الدين وأعداء الدين، سنة باقية إلى يوم القيامة. ثم يقول ورقة: (وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)، وورقة بن نوفل لم يدرك ذلك اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مات بسرعة، وإن كان قد صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبل التصريح بالرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الحاكم بإسناد جيد يقول: (رأيت له جنة أو جنتين)، يعني: أنه من أهل الجنة إن شاء الله. مات ورقة بن نوفل بعد أن سطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة قاعدة أصيلة: (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي)، فهذه رسالة إلى كل الدعاة، هذا هو الطريق.

فترة انقطاع الوحي

فترة انقطاع الوحي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتيقن من النبوة؛ لذا أحب أن يأتي إليه جبريل مرة أخرى ليؤكد له أمر الرسالة، ويقول له ماذا يعمل، لكن حدث أمر غريب سبب قلقلاً كبيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد فتر الوحي وتأخر، وقد اختلف المؤرخون في الفترة التي فتر فيها الوحي، لكن أغلب الظن أنها كانت ما بين ثلاثة أيام إلى أربعين يوماً. فمثل ذلك الانقطاع صدمة للرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يتيقن بعد، ويريد أن يزيل عنه الشك، فقد كان يتوقع أنه عندما يرجع إلى الغار سيجد جبريل مرة أخرى، أو يأتي له في أي مكان آخر، لكن تأخر جبريل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج مراراً إلى الجبال لعله يلتقي جبريل عليه السلام، وازداد شوق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسالة التي يقول الله عنها: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]. إن لم يكن الحامل لهذه الرسالة متشوقاً إليها فحملها سيكون صعباً جداً، بل لعله مستحيل، فارق كبير بين أن تبحث الدعوة عن رجل ليحملها، وبين أن يبحث الرجل عن الدعوة ليحملها! عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ به الحزن مبلغه يأتيه جبريل عليه السلام فيقول له: يا محمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يختفي وهكذا إلى مجيء اليوم الذي سيبتدئ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم رحلة النبوة والتبليغ والتبشير والإنذار.

بدء الرسالة والأمر بالتبليغ

بدء الرسالة والأمر بالتبليغ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، ثم نوديت، فرفعت بصري إلى السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه حتى هويت على الأرض، فرجعت حتى أتيت خديجة فقلت: زملوني زملوني، دثروني دثروني) يعني: غطوني، بعد هذا الحدث مباشرة نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] أي: المتغطي بثيابه: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، هذا أمر واضح بالرسالة والتبليغ والإنذار، حينها علم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رسول، عندها تغيرت حالة الرسول صلى الله عليه وسلم النفسية تماماً، وتحول من حالة الشك والحزن والاكتئاب التي كان يعيش فيها إلى حالة اليقين والعزيمة والإصرار والنشاط. وكانت السيدة خديجة تطلب منه أحياناً أن يستريح ولو قليلاً، فيقول: (مضى وقت النوم يا خديجة)، الآن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف كل شيء، عرف تفسير كل الأشياء الغريبة التي مرت به في حياته، من سلام الحجر عليه، وشق الصدر، والرؤيا الصادقة، والرجل الذي جاءه في غار حراء، وبدأ الرحلة الطويلة، رحلة الدعوة إلى الله عز وجل، رحلة النبوة، رحلة البشارة والإنذار، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآيات ولم يقعد إلى أن مات، قام وما ترك صغيراً ولا كبيراً، ولا سيداً ولا عبداً، ولا فرداً ولا قبيلة، إلا ودعاهم إلى الإسلام (مضى عهد النوم يا خديجة).

منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في اختيار من يبدأ بدعوتهم

منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في اختيار من يبدأ بدعوتهم أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصل بدعوته إلى كل إنسان على وجه الأرض، فبمن يبدأ؟ لكي نفهم منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختيار الناس الذين يبدأ بهم في الدعوة، لا بد أولاً أن نسأل هذا Q هل يؤمن الإنسان بقلبه أولاً، أم بعقله؟ يعني: إذا أردت أن تقنع إنساناً بفكرة ما هل من الأفضل أن يحبك أولاً بقلبه قبل أن يسمع الفكرة؟ بمعنى آخر: الحب أولاً أم الحجة؟ كلا الاثنين مهم، القلب والعقل مطلوبان. من الصعب جداً على الإنسان أن يقبل فكرة ما من إنسان يكرهه أو لا يحبه، غالباً ما يدخل معه في جدل عقيم وحوار طويل، ومناقشة قد لا تنتهي بخير، بينما على الناحية الأخرى هو يتقبل الكثير من الأفكار ممن يحب، مع أن هذه الأفكار قد تكون غريبة، وهذا واقع ملموس في حياتنا، لذا إذا كنت تريد من الناس أن تسمع كلامك لابد أن تجعلهم يحبونك أولاً. إن فكرة الإسلام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة ومقنعة، إذا فكر فيها أي عقل سليم، ومع ذلك فالفكرة غريبة على أهل مكة، فقد مرت (600) سنة ليس فيها نبي، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، لذا استغرب الناس فكرة التوحيد على بساطتها ووضوحها، واستبعدوا فكرة أن يوجد رسول من البشر، كما في الحديث: (بدأ الإسلام غريباً). فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخاطب بدعوته كل أهل مكة، بل كل أهل الأرض أجمعين، فبدأ بأكثر الناس احتمالاً وقبولاً للفكرة دون تردد؛ من أجل أن يكونوا قاعدة قوية للدعوة نفسها، وحتى يساعدوه في أمر الدعوة، فأكثر الناس قبولاً لفكرته هم أكثر الناس حباً له، فكان هؤلاء هم الذين سيبدأ بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد شيء بالصدفة، كل شيء محسوب وعلى أساس ومنهج، وهذا المنهج لأهل الأرض أجمعين. إذاً: الحب هو أول مرحلة من مراحل الدعوة.

بدء الرسول صلى الله عليه وسلم بخديجة في الدعوة إلى الإسلام ثم بأبي بكر وزيد بن حارثة

بدء الرسول صلى الله عليه وسلم بخديجة في الدعوة إلى الإسلام ثم بأبي بكر وزيد بن حارثة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته أولاً إلى زوجته الصالحة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من آمن على ظهر الأرض، وكانت الوحيدة المتابعة لكل أحداث الوحي بكل تفاصيله منذ نزل جبريل في المرة الأولى بقول الله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، بل نستطيع أن نقول: إنها آمنت قبل التصريح بالرسالة، قبل: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، قالت: (كلا، والله لا يخزيك الله أبداً). فالسيدة خديجة أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً لا يوصف، فكان هذا الحب هو الطريق لتصديق العقل. أيضاً الحب وحده لا يكفي، لابد أن يقتنع العقل، قالت: (إنك لتصل الرحم وتحمل الكل) إلى آخر الصفات، وهذه الصفات لا يمكن أن تكون في كذاب أو منافق، كذلك لا يمكن أن ربنا سبحانه وتعالى يخزي مثل هذا. ثم الكلام الذي قاله الملك ليس من كلام العرب ولا من كلام البشر، مع أن الحروف عربية. إذاً: هناك طاقة فوق إمكانيات البشر، وهذه الطاقة لابد أن تكون لله عز وجل، كل هذا دار في ذهن السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، لكن لا أعتقد أبداً أنه كان سيدور بهذه السلاسة وهذه السرعة لو كان بينها وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مشاكل وكراهية مستحكمة. إذاً: الحب أولاً ثم الحجة ثانياً. ثم ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أحب الرجال إلى قلبه، لو كانت السيدة خديجة هي أحب النساء إلى قلبه فإن أبا بكر الصديق هو أحب الرجال إلى رسول صلى الله عليه وسلم، كما صرح هو بذلك لما سئل عن أحب الرجال إليه؟ فقال: أبو بكر بدون تردد، وسيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لم يخيب ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نور الله عز وجل قلبه، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة -أي: تردد ونظر- إلا أبا بكر ما إن ذكرته له حتى آمن وما تردد فيه)، لم يفعل أحد من البشر مثل هذا الفعل إلا هو والسيدة خديجة رضي الله عنها ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. فسرعة إيمان أبي بكر يحتاج إلى دراسة، نقول: إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان أقرب الناس إلى أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثيراً ما يختار من الآراء ما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في غياب أحدهما عن الآخر، ولم يمش على الأرض من هو خير من الصديق إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. كان بين الصديق رضي الله عنه وأرضاه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم توافق عجيب في أمور كثيرة من أمور الأخلاق، أشهرها: الصدق، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين، وأبو بكر هو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كذلك المروءة وخدمة الناس والتواضع والكرم والعفة، والبعد عن أماكن الفساد، كل هذه الأشياء أدت إلى سرعة إيمان الصديق رضي الله عنه وأرضاه. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وكان بينهما حب كبير لدرجة أن زيد بن حارثة من بين كل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه ابنه، وكان معروفاً بين الناس بـ زيد بن محمد وزيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، بل فضله على أبيه وعمه، وكان لهذا قصة هي: أن زيد بن حارثة خُطف من أبيه من قبيلة بعيدة عن مكة وبيع في سوق الرقيق، واشتراه حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، ابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها ثم أهداه لها، ولما تزوجت الرسول صلى الله عليه وسلم أهدته زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأصبح زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومرت الأيام وعلم حارثة بن شرحبيل أن ابنه في مكة، فجاء إليها هو وعم زيد، وقالا للرسول صلى الله عليه وسلم: (خذ ما شئت من المال نظير أن ترد زيداً إلينا، فقال لهما: وهل لكما فيما هو خير من الفداء؟ فقالا: وما هو؟ قال: أدعوه لكما فخيراه بيني وبينكما، فإن اختاركما فهو لكما بغير مال، وإن اختارني فما أنا بالذي يرغب عمن يختاره)، هذه الأخلاق كلها كانت قبل البعثة، صنع على عين الله عز وجل، صنع ليكون نبياً صلى الله عليه وسلم، عندها قال الرجلان: (لقد أنصفت وبالغت في الإنصاف، فجيء بـ زيد وقيل له: من هذان؟ قال: هذا أبي حارثة بن شرحبيل وهذا عمي كعب، فقال صلى الله عليه وسلم: قد خيرتك إن شئت مضيت معهما، وإن شئت أق

الدعوة سرا

سلسلة السيرة النبوية_الدعوة سراً بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته للناس سراً ثلاث سنين ينتقي فيها من سيقوم عليهم دين الإسلام فيما بعد، وكان للصديق رضي الله عنه قصب السبق في دعوة العديد من مشاهير الإسلام، وقد تميزت هذه الدعوة بشمولها لكل الطبقات ولم تفرق بين عرق وعرق أو لون ولون، أو جنس وجنس، مع الحرص على أن لا توأد الدعوة في مهدها.

وقفات مع إسلام علي بن أبي طالب ربيب بيت النبوة وإسلام بناته صلى الله عليه وسلم

وقفات مع إسلام علي بن أبي طالب ربيب بيت النبوة وإسلام بناته صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية المطهرة المشرفة. سبق أن وقفنا وقفة مع إسلام خديجة والصديق وزيد بن حارثة رضي الله عنهم، ولنا وقفات مع إسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقصة إسلامه في منتهى الغرابة. آمن هذا الطفل الصغير وعمره عشر سنوات، ووجه الغرابة أنه طفل يؤمن في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة، حيث بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته سراً في مكة، ثم يسر بهذا الأمر الخطير لطفل، وكيف لهذا الطفل أن يفهم هذه القضية الكبرى التي خفيت على بعض العقول التي كانوا يعتبرونها حكيمة في مكة؟! كان علي بن أبي طالب كابن الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، بنفس منزلة زيد، وكان يعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، لوجود أزمة اقتصادية في مكة في وقت ما، وأصبح صعباً على أبي طالب أن يرعى كل أولاده، فاقترح الرسول صلى الله عليه وسلم على العباس رضي الله عنه وأرضاه أن كل واحد منهما يأخذ طفلاً من أطفال أبي طالب ويقوم بكفالته، وكان من سعادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أن يعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره. تأثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم كأي طفل يتأثر بأبيه، فكيف لو كان الأب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يمثل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كل شيء، كان علي بن أبي طالب يعتقد الصواب في كل كلمة يقولها الأب الحنون صلى الله عليه وسلم، كأي طفل يعتقد أن الصواب الكامل في أبيه، وأن كل مشاكل الدنيا حلها عند أبيه، وهذا ليس كالآباء، فهو أعظم أب في الدنيا. إذاً: أول شيء: هو حب كبير في قلب علي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حب الطفل لأبيه الحنون. ثانياً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد نبوغاً مبكراً وعبقرية ظاهرة في علي بن أبي طالب تطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول له سراً خطيراً كهذا، ونحن نتصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف أن يعرف طفل صغير كـ علي بن أبي طالب بأمر الرسالة، خصوصاً إذا كان هذا الموضوع يفترض أن يظل سراً لا يعرف، وإلى متى؟ لا نعلم، مدة سنة أو سنتين أو ثلاث إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بجهرية الدعوة، لكن الظاهر أن علياً كان عبقرياً منذ طفولته، وأثبتت الأيام صدق ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان علي من أكثر الصحابة قدرة على استنباط الأحكام وعلى القضاء في الأمور، وكانت لديه فراسة عميقة إلى جوار العلم والفقه. كان في اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يدعوه تنوع، وهذا يوضح لنا أن مجال الدعوة أوسع بكثير جداً مما قد نتخيل، فهؤلاء الأربعة الأوائل فيهم الرجال والنساء، فيهم السادة والعبيد، فيهم الكبار والصغار لا حدود لهذه الدعوة، أنت عليك فقط أن تنظر من تقابل ومن تعرف؟ ومؤكد أنك ستجد الذي يصلح لأن تكلمه في أمر الإيمان والالتزام بدين الله عز وجل. فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه آمن وهو في العاشرة، ليصبح بذلك أول الصبيان إيماناً، وتصبح السيدة خديجة أول النساء، وأبو بكر أول الرجال، وزيد بن حارثة أول الموالي رضي الله عنهم أجمعين، وهذا كله في اليوم الأول للدعوة. ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بناته إلى الإسلام السيدة زينب وكانت في العاشرة من عمرها وهي الكبيرة، والسيدة رقية كان عمرها سبع سنين، والسيدة أم كلثوم كان عمرها ست أو خمس سنوات، فكلهن دخلن في الإسلام في هذا السن المبكر جداً، أما السيدة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها فقد كانت صغيرة جداً وقت البعثة. هذا كان الوضع في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.

الحكمة من الدعوة السرية

الحكمة من الدعوة السرية لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان في مكة، بل لكل إنسان على ظهر الأرض، وربما تصور المرء أن أسهل وسيلة لهذا أن يقف وسط الكعبة من أول يوم أُمر فيه بالبلاغ ويعلن للناس أمر الإسلام، لكن هذا لم يحدث، فماذا فعله صلى الله عليه وسلم؟ كان صلى الله عليه وسلم ينتقي رجلاً من رجال قريش، ثم يخبره سراً عن الإسلام، وكان يعلم أصحابه أن يفعلوا هذا، وقد ظلت الدعوة السرية فترة طويلة جداً بالقياس إلى عمر الدعوة الإسلامية، فالدعوة السرية امتدت حوالي ثلاث سنوات، والدعوة كلها (23) سنة. قد يتصور البعض أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا وقال للناس: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟)، يظن أن هذه المقولة كانت في بادئ الدعوة، لا. بل كانت بعد ثلاث سنين كاملة من نزول الوحي. وهي فترة كبيرة جداً أيضاً في حق مجتمع صغير كمكة، لكن لماذا هذا الوضع؟ ولماذا هذا التخفي؟ قد يتحمس المرء ويقول: دعوة الإسلام دعوة جميلة ومقنعة وعقلية، ولو وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط مكة وأعلن عنها لسوف يسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن، لكن هذا لم يحصل ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعرف أن دعوة الإسلام وإن كانت جميلة ومقنعة، إلا أنها ستتعرض إلى معارضة وحرب، ليس فقط من قريش، بل من العالم كله. ثم لو أتى سائل يسأل: هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً على نفسه من قريش؟ سأقول له: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن كانت هذه هي الحكمة، كل خطوة في حياته صلى الله عليه وسلم كانت محسوبة، تستطيع أن تقول: إن السرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختياراً نبوياً، ولكنها كانت أمراً إلهياً، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعلمنا منهج التغيير في مثل هذه الظروف، كيف يمكن للأجيال التي ستأتي بعده أن تغير في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إذا توافقت الظروف مع ظروف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة كيف يتصرف؟ والله سبحانه وتعالى قادر أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يصل إليه أي أذى من قريش، ومع ذلك هو يريد أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين، مهما اختلفت الظروف، ومهما كثرت المعوقات؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بها أمته بعد ذلك، وعلّم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع كل حدث؟ كيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود أي معوق؟

موقف المسلمين في الاتحاد السوفيتي أنموذج للدعوة السرية

موقف المسلمين في الاتحاد السوفيتي أنموذج للدعوة السرية كون الدعوة سرية في السنوات الثلاث الأولى من الإسلام، لحاجة المسلمين إلى هذا الأسلوب السري في الدعوة إذا توافقت الظروف مع هذه الفترة، وعلى سبيل المثال: المسلمون في الاتحاد السوفيتي قبل أن يسقط كانوا يعيشون في مثل هذه الفترة، الإلحاد في كل مكان، كان حمل المصحف أو حتى الاحتفاظ به في البيت جريمة يعاقب عليها القانون، من اكتُشف أنه يصلي أو يصوم يُعاقب ويُعذّب وقد يُقتل، فكان لابد أن تكون هناك سرية تامة في هذه المرحلة، ولو لم يفعلوا ذلك لاختفى الإسلام من هذه البلاد، لكن كانوا يتعلمون في ديار كدار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه وأرضاه، كانوا يحفظون القرآن في سراديب وخنادق وكهوف الجبال، والحمد لله مرت السنوات وبقي الدين وبقي المسلمون ورُفعت الغُمة، فما الذي حفظهم؟ حفظهم فقه المرحلة، نعم، ربنا سبحانه وتعالى هو الحافظ، وهو المعين، لكن هناك أسباب، والأسباب الصحيحة هي التي أخذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الظرف الذي كان يعيشه المسلمون، لو أعلن كل واحد من المسلمين إسلامه في الاتحاد السوفيتي وفتح صدره لنيران الشيوعية، لاختفى الإسلام من بقاع كثيرة في الأرض، وسوف يموت الشهداء لكن أين الدعوة وأين الإسلام؟ ففقه المرحلة كان هاماً جداً، ووجود المثال النبوي الحكيم في إخفاء الإسلام في مثل هذا الظرف كان معلماً لهم، وكان مؤيداً لمنهجهم، كان معهم دليل شرعي قوي يؤيد هذه السرية. اختلفت الظروف بعد ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتبعية سيختلف منهجه صلى الله عليه وسلم في إيصال دعوته للناس وفي تربيته للمؤمنين، سيأتي زمان بعد هذا يُعلن فيه البعض إسلامهم ويكتم المعظم، مثل إسلام سيدنا عمر وسيدنا حمزة رضي الله عنهما، وسيأتي زمان يعلن الجميع وتكون التربية في العلن، وذلك بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وسيأتي زمان سيدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه زعماء العالم إلى الإسلام، وهذا بعد صلح الحديبية، كل هذا سيحدث؛ حتى لا يأتي أحد من المسلمين ويستشهد بفعل من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم والظروف مختلفة، وإلا فلماذا هذا التنوع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ليعلمنا الحكمة الحقيقية في الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عند تشابه الظروف.

ضرورة الحفاظ على الدعوة بالسرية

ضرورة الحفاظ على الدعوة بالسرية نخرج من موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند بدء الدعوة بقاعدة مهمة: وهي أن الدعاة مطالبون بالحفاظ على أنفسهم وعلى حياتهم لا لخوفهم من الموت، فالموت في سبيل الله في حد ذاته غاية، ولكن حفاظاً على الدين وعلى الإسلام، وعلى استمرار المسيرة، أي: أن العملية ليست عملية ملل من الدعوة أو الحياة أو الأعداء، لا، فهنا نظام وحكمة ومنهج ثابت. ومن هذا أخذ العلماء حكماً فقهياً مشهوراً وهو: أنه يجوز للجيش المسلم أن يفر من مثليه، وقد بوب له الفقهاء باسم: باب جواز الفرار من المثلين، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66] الفقهاء قالوا: لو أن العدد أكبر من الضعف، أي: مائة مقاتل يقابلهم ثلاثمائة أو أربعمائة مقاتل يجوز لهم القتال ويجوز لهم الفرار حسب ما يرى القائد، بل إن الإمام مالك رحمه الله قال: يجوز الفرار من المثل، وليس من المثلين، وقال: إذا كان العدو أعتد جواداً وأجود سلاحاً وأشد قوة، وغلب على ظن قائد المسلمين الهلكة، وأخذ في الحسبان العوامل الأخرى غير العدد بل ذهب العز بن عبد السلام إلى أبعد من ذلك، فقال: إذا لم تحصل النكاية في العدو. أي: لو أنك تحارب عدوك وأنت متأكد أنك لا تستطيع أن تؤذي عدوك فلا تقاتله، قال: إذا لم تحصل النكاية في العدو وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكافرين، أي: أن النفس ستذهب والمسلمون سوف يموتون، والكفار لن يحصل فيهم أي أثر، بل سيزيد الكفر؛ لأن المسلمين قلوا. ويقول العز بن عبد السلام: وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة. أي: أنه يأثم المسلم بإظهار نفسه إذا كان الاختفاء والانسحاب هو الألزم للمرحلة، وهذا إدراك لسلوك المسلم وسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المواقف.

الفرق بين المحافظة على الدعوة والمحافظة على النفس

الفرق بين المحافظة على الدعوة والمحافظة على النفس هناك نقطتان مهمتان لتكتمل الصورة: النقطة الأولى: أن الفارق بين الحكمة في الحفاظ على النفس وبين الجبن خطوة، فمن الممكن أن يقول شخص: أنا أحافظ على نفسي؛ لأن المرحلة تريد هذا، فلا يقول كلمة حق ولا يجاهد، ولا يدعو إلى الله، ولا أي شيء أبداً في سبيل الله، بينما الدافع الحقيقي وراء هذا الركون أو القعود هو الجبن والخوف من مواجهة الباطل. إذاً: كيف نفرق بين الحكيم الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الجبان الذي لا يريد أن يحمل هم الدعوة؟ أولاً: يرجع في ذلك إلى الدليل الشرعي من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يكون موقفه هذا يشبه موقف الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أخذ بالسرية. ثانياً: الورع والإيمان والتقوى الذي في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى هو المطّلع على القلوب ويراك، وأنت أولاً وآخراً تتعامل مع الله سبحانه وتعالى. ثالثاً: الرأي المشار إليه من قبل القائد والجماعة والشورى في هذه المرحلة، والشورى في غاية الأهمية وهكذا يمكن أن يخرج عامل الهوى، ونستطيع أن نفرق بين الحكيم وبين الجبان. النقطة الثانية: أن الذي يُراعى هو مصلحة المسلمين والإسلام عموماً، وليس مصلحة الفرد، أي: أنه قد يهلك الفرد وتكون الهلكة محققة، لكن هذا في مصلحة المجموعة، هنا لا يُلتفت إلى الحفاظ على الفرد؛ لأننا نحافظ على الدين بصفة عامة، وعلى الأمة أو المصلحة العامة، أي: أنه سيأتي بعد ثلاث سنين من هذا الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته، وستكون هناك خطورة حقيقية عليه، لكن المصلحة الأعم للدعوة أنه يُعلن، وسيأتي بعد فترة يبعث مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة، وسيكون هناك خطورة حقيقية على مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، ففي المدينة المشركين واليهود وغيرهم، لكن المصلحة المتحققة أعلى، فيُضحى بمصلحة مصعب بن عمير على حساب تحقيق مصلحة أكبر للدعوة، من الذي يحكم في النهاية؟ الشورى والقائد، ومن المؤكد أن الهوى سيدخل إذا لم تدخل الشورى أو القائد في الموضوع. وقد يكون من الهوى أن يموت؛ لأنه لم يتحمل الظلم الواقع على المسلمين، ولا يستحمل أن الكفر له الغلبة، فيحاول أن يتخلص من الأمر بالتسرع في إعلان نفسه، أو التسرع بالقتال في سبيل الله، أو في إظهار أمر الدعوة في مكان لا يستقيم أن يُظهر فيه أمر الدعوة في هذه المرحلة، كل هذا قد يكون هوى في قلب الإنسان، والله سبحانه وتعالى يريد منك تصرفاً آخر، ولهذا نؤكد دائماً على الشورى والرجوع إلى قائد المسلمين.

فقه اختيار المدعوين في المرحلة السرية

فقه اختيار المدعوين في المرحلة السرية كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في السنوات الثلاث الأولى لا يتحدثون بالإسلام إلا سراً لرجال معينين يختارون لهذا، لكن كيف كان يتم هذا الاختيار؟ ما السبب في أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أبا بكر يذهب لدعوة عثمان بن عفان ولم يذهب إلى الوليد بن المغيرة أو لـ أبي جهل أو أمية بن خلف؟ من الواضح أن هناك قواعد دقيقة لهذا؛ لأننا لم نسمع أن اختيارهم كان خطأ، بل كل الذين اختاروهم وأسروا إليهم بالإسلام قبلوه. وهذا شيء مهم: أنك تعرف من الذي لو عرضت عليه أمر الدين قَبِلَه في الغالب، بهذا ستوفر مجهوداً كبيراً، وفي نفس الوقت ستنجح، وتبني لك قاعدة قوية. بالنظر إلى السابقين إلى الإسلام نستطيع أن نخرج بقواعد مهمة، وسبق أن ذكرنا قاعدة في دعوة المدعوين، وهي الحب أولاً، لكن هناك قاعدتان في غاية الأهمية أيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملهما في اختيار الناس: القاعدة الأولى: الحكمة النبوية العظيمة، (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا). الاختيار كان يقع غالباً على أصحاب الأخلاق الحسنة والأخلاق الحميدة، الذين يعظّمون الصدق والأمانة والكرم والشجاعة والعدل ومكارم الأخلاق، هناك كثير من الناس غير ملتزم بالإسلام، لكنه يحب الأخلاق الطيبة، هؤلاء لو التزموا بالدين سيكونون خير سند للدعوة، وبهؤلاء بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. القاعدة الثانية: التركيز على الشباب، نعم الدعوة موجهة لكل الأعمار، لكن التركيز على الشباب في الفترة الأولى كان واضحاً، لأسباب: أولاً: أن الشباب لم يَطُل عليهم الأمد في الاستمرار على تقاليد معينة، ولم يعتادوا على عبادة الأصنام لسنوات طويلة، ولم يتمسكوا بالدفاع عنها، فأنت عندما تذهب للكلام مع غير الشباب، وتقول له: أنت لك (40) سنة أو (50) سنة تدافع عن قضية باطلة، كيف يمكن له أن يؤمن بكلامك؟ صعب، لكن الشباب أيسر بكثير، لم تتلوث عقولهم بأفكار خاطئة، ومن ثم يستطيعون تقبل الفكرة الإسلامية بسهولة. ثانياً: أن الشباب بصفة عامة مولعون بالجديد، لذلك تجد أكثر المقلدين للموضات هم الشباب مهما كانت، حتى لو كانت لا تتوافق مع هواهم، لكن المهم أنها شيء جديد. ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى أعطى الشباب حماسة عالية، وحمية ونشاطاً، لا يعترفون بالصعب، بل تستطيع أن تقول: لا يعترفون بالمستحيل، وحمل الإسلام صعب وشاق يحتاج إلى عزيمة الشباب، وليس معنى هذا أن الشيوخ ليس لهم مكان في حمل دعوة الإسلام، لكن فرصة إيمان الشباب وفرصة حركة الشباب للدعوة بعد الإيمان، وفرصة ثبات الشباب على الحق وتحديه للصعاب والمشاكل أكبر من فرصة الشيوخ، ومن المؤكد أيضاً أن الدعوة تحتاج إلى الشيوخ وحكمتهم بجانب حماسة الشباب. كل هذا الكلام جعل التركيز الأول على الشباب ذي الأخلاق الطيبة والحسنة، فهؤلاء هم الذين يمكنهم أن يتحملوا الدعوة، سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الأزمان اللاحقة، أو في زماننا هذا وإلى يوم القيامة. هذه سنة من سنن الله عز وجل في التغيير.

ثمار الصديق الدعوية في الدعوة السرية إلى الإسلام

ثمار الصديق الدعوية في الدعوة السرية إلى الإسلام في اليوم الثاني من أيام الدعوة بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الأوائل يتحركون لانتقاء عناصر جديدة. ولنا وقفة مهمة مع حركة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان الصديق إيجابياً بدرجة لا يمكن وصفها، كان يتحرك بالدعوة وكأنها أُنزلت عليه، لم تكن الدعوة عنده مجرد تكاليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب الإسلام ويريد من الناس جميعاً أن يعرفوه، وفي نفس الوقت كان يحب كل الناس، وهذا الحب للدين وللناس نتج عنه حماسة دعوية على أعلى مستوى، ففي أول تحرك له أتى بمجموعة وليس فرداً، أتى بالأسماء الذين سأذكرهم، وأريدك أن تقف عند كل اسم وتتأمل صاحب هذا الاسم وتاريخ وقصة حياته، لتعرف ميزان الصديق عند الله عز وجل. الاسم الأول: عثمان بن عفان. قف وفكر في سيرة عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وفي تجهيز جيش العسرة جيش تبوك، وشراء بئر رومة، وتوسعة المسجد النبوي، وخلافة المسلمين (12) سنة، حياة طويلة من الإنفاق والجهاد والدعوة والعلم والصيام والقيام وقراءة القرآن. فـ عثمان بن عفان حسنة من حسنات الصديق رضي الله عنه وأرضاه. الاسم الثاني: الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه. الاسم الثالث: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه. ولن أفصل في سيرة هؤلاء؛ فكل واحد منهم يعتبر علماً ومنارة من منارات الإسلام. الاسم الرابع: طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه. الاسم الخامس: عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه. فهؤلاء الخمسة جميعهم من العشرة المبشرين بالجنة، وهؤلاء لم يغيروا طعاماً أو شراباً، أو سكناً، وإنما غيروا ديانة وعقيدة، فمكة لها مئات السنين وهي تعيش في الشرك، فما ذلك الإقناع الذي كان عند الصديق حتى أقنع هؤلاء الخمسة العمالقة بأمر الإسلام؟ ما مقدار الصدق الذي في قلب الصديق رضي الله عنه وأرضاه حتى يهدي الله عز وجل على يده هؤلاء الخمسة العظام. الغريب أن هؤلاء الخمسة لم يكونوا من قبيلة بني تيم، قبيلة الصديق رضي الله عنه باستثناء طلحة بن عبيد الله فـ عثمان أموي، والزبير أسدي، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، لكن من المؤكد أن علاقات الصديق كانت بهم قوية جداً ووثيقة قبل الإسلام، ليس من المعقول أن يتعرف عليهم بالصدفة وفي وقت إسلامهم، وإنما من المؤكد أنهم كانوا يحبونه حباً عظيماً، وبعد هذا يأتي الإقناع وتأتي الحجة. ثم لو نظرنا إلى أعمار هؤلاء فـ الزبير بن العوام رضي الله عنه كان عمره (15) سنة، وعندما تسمع اسم الزبير بن العوام تعتقد أن عمره (40) أو (50) سنة. وكان عمر طلحة بن عبيد الله (16) سنة. وسعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم له تاريخ طويل وجهاد وفتوح وكان عمره حين أسلم (17) سنة. أما عثمان بن عفان فقد كان كبيراً بالنسبة لهم، كان عمره حين أسلم (28) سنة. كذلك عبد الرحمن بن عوف كان عمره حين أسلم (30) سنة. كل هؤلاء أخذوا قرار تغيير الدين والارتباط بالإسلام وتحمل المشاق الضخمة في هذه السن المبكرة! فـ الزبير وطلحة وسعد لو كانوا في زماننا فلا يزالون في المرحلة الثانوية، فهل أولادنا في المرحلة الثانوية عندهم من الوعي والإدراك وتحمل المسئولية والقدرة على الفهم والتفكير مثل هؤلاء؟ هل عندهم من القدرات التي كانت عند شباب الصحابة؟ والله إننا لنحزن عندما نرى أن بعض الشباب في هذه المرحلة العمرية الثمينة جداً فرغت عقولهم تماماً من كل ما هو ثمين أو قيم، ولو بحثت في عقولهم لم تجد إلا بعض الأغنيات والمسلسلات والمباريات، وقصات الشعر والفيديو ورسائل الموبايل مع أن كثيراً منهم نشئوا في بيوت مسلمة، ومن آباء وأمهات مسلمين، وربما نشئوا في بيئة إسلامية صالحة، لم يكونوا في بيوت كافرة كبيت الزبير بن العوام أو طلحة بن عبيد الله أو سعد بن أبي وقاص. إذاً: أين المشكلة؟! نعم. هناك دور كبير جداً راجع لفساد الإعلام والتعليم، لكن نحن أيضاً علينا جزء كبير، لعلنا لم نعط الشباب الوقت الكافي من حياتنا، أو أننا نستصغر عقولهم وأفكارهم، فينتهي من الثانوية والجامعة والجيش ويتزوج، وهو لا يزال أيضاً صغيراً، والبلوغ العقلي عندنا (40) سنة! وعند ذلك لا يعتمد على نفسه، ولا يعتمد عليه مجتمعه. هذا الشيء في الحقيقة يحتاج منا إلى وقفة كبيرة جداً، الشباب إمكانيات هائلة، لو وقفت مع الشباب وأعطيتهم وقتاً وتربية وجهداً ستأخذ منهم كما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من

سبب نجاح الصديق في الدعوة إلى الله تعالى

سبب نجاح الصديق في الدعوة إلى الله تعالى هذا النشاط يحتاج إلى وقفة وتحليل ودراسة، ما معنى أن تكون دعوة الصديق بهذه الروعة؟ لماذا استُجيب للصديق بهذه الصورة؟ أعتقد أن المسألة ليست مجرد حركة، فهناك كثرة من المسلمين ومن الدعاة تتحرك في سبيل الله، لكنها تنفر الناس من دين الله عز وجل، فهم يتحركون وعندهم صدق في الحركة، لكن الأسلوب أو الهيئة أو الطريقة لا تناسب الوضع والشكل الذي كان عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لبعض المسلمين: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين) أي: بعض الدعاة ينفرون الناس من الإسلام عكس المطلوب تماماً، فما الذي جعل الناس تستمع لكلام الصديق رضي الله عنه؟ أولاً: كان الصديق -كما يقول طلحة بن عبيد الله - رجلاً سهلاً محبباً موطأ الأكناف، أي: ليّن الجانب، وببساطة ليس بالفظ ولا بالغليظ. هذه أول سمة: أن تكون لين الجانب مع الذي تدعوه، واترك العنف. ثانياً: كان تاجراً ذا خلق واستقامة، وهذا شيء في منتهى الأهمية. المال فتنة، وكثير من التجار يخسرون الناس بسبب التجارة، لكن الصديق كان عكس هذا تماماً، كان يكسب الناس بسبب التجارة كان تاجراً صدوقاً، بل تاجراً صديقاً، كريماً رحيماً، فيه رأفة وأدب وخلق حسن، فكيف يمكن أن يكون حب الناس لإنسان يتصّف بهذا، يعطي الناس ولا يأخذ منهم؟ ثالثاً: يقول طلحة: وكنا نألفه ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش وحفظه لأنسابها. أي: أن الصديق كان عالماً بعلم زمانه وهو علم الأنساب، والطبقة المثقفة في مكة كانت تحب أن تجلس معه وتسمع منه الأنساب، أي: أن الصديق ما كان يكتفي بالبسمة فقط أو المال، وإنما كان يعطي علماً أيضاً، وكان من أدبه رضي الله عنه أنه كان لا يطعن في أنساب أحد، مع علمه بكل نقيصة في كل نسب، فهذا من حسن خلقه رضي الله عنه وأرضاه، كيف لا يستجيب الناس لدعوته وهو بهذه الصفات؟ إذاً: هذه الدعوة لم تأت من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام للصديق رضي الله عنه. إذا أردت أن تكون داعية فادرس سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو من خير الدعاة بعد رسول الله. وهنا نقف وقفة مع أنفسنا ونسأل: أتى الصديق بهؤلاء ونحن بمن أتينا؟ أجب على هذا السؤال بينك وبين نفسك، وليس بالضرورة أن تأتي بغير المسلمين إلى الإسلام، أو برجال أمثال عثمان والزبير لكن أين الحركة للدين؟ هل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام بنفس حمية وحماسة الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ هل أتينا إلى المسجد بمسلم لا يعرف طريق المساجد؟ هل دفعنا بمسلم إلى قراءة القرآن بعد أن هجره السنوات الطوال؟ هل شرحنا لمسلم حال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وقد نسيهم أو تناساهم؟ هل هذّبنا من أخلاق أبنائنا وأصحابنا وشركائنا وزبائننا وجيراننا؟ هل وصلنا بالدعوة إلى كل من نعرف؟ هل؟ هل؟ أسئلة كثيرة جداً لمجالات من العمل لا تحصى ولا تعد، أبواب الدعوة لا حصر لها، المهم أن يتولد في القلب شعور بأنك أنت وحدك الذي تحمل هم الإسلام كله على كتفك، تشعر أنك أنت المسئول، وأن القضية قضيتك، وأن المهمة مهمتك. هذا هو الدرس الذي نأخذه من الصديق، ولو استمعنا للقصة لمجرد التمتع بها لن نفهم الغرض من هذه المجموعة من الدروس: كيف نبني أمة؟

عالمية دعوة الإسلام وقاعدة المفاضلة بين الناس في الدين الإسلامي

عالمية دعوة الإسلام وقاعدة المفاضلة بين الناس في الدين الإسلامي تزايد عدد المسلمين، والقاعدة الأصيلة التي تحكم هي: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا) لم تكن تحكم المسلمين أي قاعدة من القواعد التي اخترعها الناس للتفرقة، القواعد التي اخترعها الناس ظالمة، والله عز وجل عادل لا يظلم، وعدله مطلق سبحانه وتعالى لا ظلم فيه، لا تكون المفاضلة بين الناس إلا بأمور يستطيعون تغييرها، لكن لا ينفع التفاضل بأشياء ليس لهم يد فيها. فمثلاً: المفاضلة في قانون الله تعالى تكون بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وهي شيء مكتسب، فلكي تتحول من غير تقي إلى تقي فالطريق واضح في الدين، كذلك الأخلاق الحسنة هي شيء مكتسب، نعم لها جذور فطرية، والإنسان يكون مجبولاً على الكرم والصدق، لكن في النهاية الأخلاق الحميدة شيء مكتسب، تستطيع إذا أردت أن تتحول من كاذب إلى صادق، أو من خائن إلى وفي، أو من جبان إلى شجاع وهكذا، وعندها يمكن التفضيل بين واحد وآخر على أساس التقوى وعلى أساس الأخلاق. أيضاً كذلك تستطيع أن تسبق غيرك بالكفاءة. إذاً: هذه أمور تستخدم للمفاضلة بين الناس: التقوى، الأخلاق، الكفاءة، وجميعها أمور مكتسبة، لكن لا يجوز التفرقة والمفاضلة بين الناس على أشياء لا دخل لهم فيها، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم القواعد الإلهية ولا يستخدم القواعد الظالمة التي اخترعها الناس، فلم يكن هناك فرق بين الأحرار وبين العبيد، فالكل أولاد آدم عليه السلام، والكل سواسية، بل قد يسبق العبد الحر في مجال الأخلاق والتقوى والكفاءة؛ ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وجه دعوته للعبيد كما وجهها للسادة سواء، وهذا كان مستغرباً في البيئة المكية القديمة، وإلى الآن هو أمر مُستغرب، أنا أريد منك أن تتخيل أن الوزير جالس بجوار العسكري في نفس الدعوة، بل قد يُقدّم عليه إذا كان أكفأ وأقدر على إدارة الأمور، فلم يعط قانوناً ولا دستوراً للإنسان حقه مثل ما فعل الإسلام، فنحن نرى في الأوائل الذين أسلموا تباينات عجيبة، كما رأينا من الأشراف من الصديق رضي الله عنه وأرضاه وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وعثمان بن عفان وسعيد بن زيد كل هؤلاء من أشراف مكة، كما رأينا هؤلاء رأينا أيضاً العبيد والموالي، رأينا بلالاً وعامر بن فهيرة وزيد بن حارثة وغيرهم، وليس هذا إلا في دين الإسلام. أيضاً لم يكن هناك فرق بين الغني والفقير، المال لا يصلح للمفاضلة بين الناس، فالله عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب، الأوائل الذين أسلموا كان فيهم الأغنياء واسعو الثراء كـ الصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وكان فيهم أيضاً شديدو الفقر كـ عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسمية بنت خياط وخباب بن الأرت وغيرهم، لم يكن هناك أي فرق بين الغني والفقير. لكن هنا معلومة هامة، وهي على عكس ما يتخيل كثير من الذين يدرسون السيرة، فهم يعتقدون أن غالبية المسلمين كانوا من الفقراء البسطاء، لكن عندما نأتي نحلل شخصية كل مسلم من المسلمين الأربعين الأوائل سنجد أن الفقراء كانوا (13) والأغنياء كانوا (27)، أي أن (70%) من المسلمين الأوائل كانوا من الأغنياء، ولم تكن هناك ثورة من الفقراء على الأغنياء، كما يحب بعض الاشتراكيين أن يصوروا من ذلك؛ ليأخذوا سنداً شرعياً لاشتراكيتهم، فالوضع كان خلاف هذا تماماً، الأغنياء سعوا إلى هذا الدين القويم الرائع، وضحوا بثرواتهم، وعرّضوا أنفسهم للفقر الشديد، وليس أبلغ من الأمثلة الإسلامية الرائعة كـ الصديق، فقد كان يملك أربعين ألف درهم عندما أسلم، وعندما هاجر كان يملك خمسة آلاف درهم صرفها على الهجرة، أي: أنه أصبح فقيراً بعدما أسلم، ومصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه كان من أغنى أغنياء مكة، ومن أنعم شبانها، ثم أصبح من أشدها فقراً وحاجة، ولم تكن هناك ثورة من الفقراء على الأغنياء، أو عملية تقسيم للثروات على شعب مكة أبداً، لم يكن هناك أي فرق بين الغني والفقير، المهم التقوى. لم يكن هناك أيضاً فرق بين العرب وغير العرب، أين الذنب في ولادتي، سواء ولدت في مصر أو باكستان أو إندونيسيا أو نيجيريا أو أمريكا أو أي مكان من الأرض؟ المهم التقوى والأخلاق والكفاءة. دعوة الإسلام ليست دعوة قومية، حتى في هذه البيئة التي تفتخر بعربيتها، فقد ضمت هذه الدعوة بلالاً من الحبشة، وصهيباً الرومي، وبعد سنين ستضم سلمان الفارسي، وستدخل بعد ذلك كل العرقيات من فرس ورومان وسلاجقة وأتراك وأكراد وغيرهم كثير، سيدخل كل هؤلاء إلى دين الإسلام، وكل منهم سيخدم الإسلام في مكانه، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى. كذلك لم يكن هناك فر

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة وأفرادها

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة وأفرادها استمرت الدعوة السرية لمعظم الأفراد حتى بعد الإعلان النبوي الذي سوف يحصل بعد ثلاث سنين، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على الحفاظ على كل واحد من أفراد جماعته المؤمنة، سواء كان عبداً أو حراً، قرشياً أو غير قرشي، من قدماء الصحابة أو حديثي الإسلام كل الناس كانت قيمتهم عالية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قصة إسلام عمرو بن عبسة

قصة إسلام عمرو بن عبسة هناك بعض الراويات التي توضح لنا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يأخذ بكل عوامل الحرص والحذر؛ ليحمي الجماعة المؤمنة الجديدة التي في مكة. مثال ذلك: إسلام عمرو بن عبسة رضي الله عنه وأرضاه بعد أكثر من ثلاث سنين من الدعوة، وكان من قبيلة سُليم، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من (60) صحابياً، لكن انظر إلى الحوار الذي سوف يدور بين عمرو بن عبسة رضي الله عنه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول عمرو بن عبسة كما جاء صحيح مسلم: (فتلطّفت حتى دخلت عليه مكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيء، قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: معي حر وعبد، يقول عمرو بن عبسة: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به) فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يكشف أوراقه كلها أمام عمرو بن عبسة رضي الله عنه، ولا يريد أن يقول له على جميع المسلمين قبل أن يستوثق منه، بالذات أن عمراً ليس من مكة، فهو بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم مجهول، فلا يستطيع أن يخبره في هذا الوقت، ومع الأخذ بالاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان قال له: إن عددنا (60)، كان أكثر إقناعاً له؛ لأنه سيرى أن عدد الذين آمنوا بهذه الدعوة كبير، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم آثر الحرص والحذر على الدعوة في ذلك الوقت، وهذا شيء كان في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطواته في أثناء المرحلة السرية، وأيضاً بعد المرحلة السرية. آمن عمرو بن عبسة رضي الله عنه وأرضاه، ولما آمن أراد أن ينضم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا) لأن الموقف صعب، ولا يوجد أحد يحميه في داخل مكة، وسوف يُضطهد فيها أشد الاضطهاد، فهنا يضحي صلى الله عليه وسلم بالنصرة التي ستأتي من وراء عمرو بن عبسة ببقائه في مكة، ويضحي أيضاً بالعلم الذي قد يحصّله عمرو ببقائه في مكة، في نظير أن يؤمِّن حياته ويحفظه لمرحلة قادمة قد تكون الدعوة أحوج إليه، وأعاده مرة أخرى إلى قبيلة سُليم، وقال له: ادع إلى الله هناك، وأتى عمرو بن عبسة بنصف قبيلة سُليم بعد ذلك. إذاً: عمرو بن عبسة أخذ بقواعد الأمان، وبدأ يدعو في قبيلته حيث الحماية المتوافرة له في ذلك المكان، لم يضح أبداً بحياته في هذه المرحلة الخطيرة من مراحل الدعوة، كل هذه التدابير لا تنفي مطلقاً إيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم التام بالقدر، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولكنه يأخذ بالأسباب، ويعلمنا كيف نأخذ بها في كل مرحلة من مراحل الدعوة.

قصة إسلام أبي ذر الغفاري

قصة إسلام أبي ذر الغفاري كانت قصة إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه قصة لطيفة طويلة، سآخذ منها ما يفيد الموضوع. أخذ سيدنا علي بن أبي طالب أبا ذر الغفاري ليعرفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي أيضاً كان في منتهى الحرص، كان يقول لـ أبي ذر: إن رأيت شيئاً أخاف عليك منه قمت كأني أريق الماء، أي: أتبول، وفي رواية: كأني أصلح نعلي، فأخذه وذهب به لمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت الحرام أثناء الطواف ليلاً، لم يذهب به إلى دار الأرقم فهو لم يطمئن إليه بعد، وأبو ذر من قبيلة غفار المشهورة بقطع الطريق، فهو فعلاً أمره غير مأمون إلى أن يستوثق تماماً من إيمانه، فعندما ذهب أبو ذر يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم سأله أولاً: من أين أنت؟ فقال أبو ذر: من غفار هنا الرسول صلى الله عليه وسلم شعر بالقلق، يقول أبو ذر: (فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجهي، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار) يعني: عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا ذر من قبيلة خطيرة، ومع ذلك وضح له أمر الإسلام، لكن لم يعرفه على خبيئة من خبايا المسلمين الموجودة في مكة؛ حرصاً وحذراً، وحساً أمنياً راقياً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحكمة من اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم للاجتماع بأصحابه فيه في أول الدعوة

الحكمة من اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم للاجتماع بأصحابه فيه في أول الدعوة من المظاهر السرية العجيبة في ذلك الوقت: اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه (13) سنة من غير أن يعرف مكانهم أحد، شيء في منتهى الغرابة، ومكة بلد صغير، وأهلها جميعهم يعرفون بعضهم بعضاً، كيف استطاع المسلمون أن يأخذوا الحذر لكي لا يعرف مكانهم أحد طوال هذه الفترة، ليس يوماً أو يومين أو ثلاثة بل (13) سنة، واجتماعهم كان منتظماً، فقد كانوا يجلسون كثيراً، وعددهم غير قليل فهم (60) رجلاً، لم نسمع عن مداهمة واحدة من زعماء قريش لبيت الأرقم خلال (13) سنة. ولعل سائلاً يقول: ما سبب اختيارهم لدار الأرقم بن أبي الأرقم بالذات؟ ولماذا لم يختاروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة الآخرين؟ نقول: أولاً: الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، فلم تتم مراقبة بيته من قريش، فالرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة الذين عُرفوا بالإسلام لا تصلح بيوتهم لهذا الأمر. ثانياً: الأرقم من بني مخزوم، وبنو مخزوم هي القبيلة المتنازعة دائماً مع بني هاشم، وأكثر الناس كراهية لبني هاشم في مكة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يجتمع في عُقر دار عدوه، وذلك لم يخطر أبداً على أذهان زعماء أهل مكة. ثالثاً: الأرقم كان بيته بعيداً عن القوم، لم يكن في قلب المدينة، أي: أنه لم يكن هناك أحد يمشي من جوار البيت، ولم تكن هناك بيوت أخرى يمكن منها مراقبة بيت الأرقم بن أبي الأرقم. رابعاً: الأرقم كان عمره (16) سنة، شاب صغير لن يشك فيه أحد من أهل مكة، وأهل مكة قد يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعقد جلساته في بيت أحد من كبار الصحابة، مثل أبي بكر الصديق أو عثمان أو عبد الرحمن بن عوف لكن في بيت هذا الشاب الصغير. هذا احتمال بعيد جداً عن أذهان قريش. كيف استطاع الأرقم أن يأخذ المهمة الضخمة هذه مع أنه كان من قبيلة بني مخزوم؟ وكان زعيم قبيلة بني مخزوم أبو جهل، ومن المعروف أن أبا جهل فرعون هذه الأمة، أعتى أهل قريش على المسلمين، فلو اكتشف أمر الأرقم بن أبي الأرقم لا بد أن نهايته القتل، فرضي الله عن الأرقم ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

سبب عدم تعرض قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أول الإسلام

سبب عدم تعرض قريش للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أول الإسلام مع كل الحذر والاحتياط من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على أمر الدعوة إلا أن قريشاً اكتشفت الأمر، رأت بعض المسلمين يصلي صلاة غريبة لم يعتادوا عليها، فعرفوا أنهم على دين جديد، فقد رأى رجل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي مع السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وكان ذلك الرجل يجلس بجوار العباس، وكان العباس مشركاً فسأله عن عملهما؟ فقال: يزعم أنه يأتيه وحي من السماء، أو يقول: إنه نبي. وأيضاً أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ابنه علي بن أبي طالب وهو يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعلّق على هذا الموضوع، ومن المؤكد أن بعض العائلات الأخرى رأت أولادها يصلون أو يقرءون القرآن، لكن مع كل هذه المشاهدات ومع هذا الإدراك لأمر الإسلام لم تعترض قريش في هذه المرحلة، بل لم تعر ذلك أي اهتمام. بعض الأحيان يتعجب الواحد من أفعال قريش، لماذا سكتت عن أمر الإسلام في ذلك الوقت؟ ولماذا آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربته هذه المحاربة الشرسة بعد أن أعلن دعوته في مكة؟ الحقيقة أن قريشاً كان فيها قبل هذا رجال على نفس هذا النهج، مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل وكانوا على الحنيفية، وورقة بن نوفل وكان نصرانياً فهؤلاء لم تكن تعمل لهم أي حساب وظنت أن المسلمين مثلهم، لكن أن يجاهر بدعوتهم، ويدعو إلى تسفيه الأصنام والقوانين الوضعية التي وضعها أهل مكة وأنزلوها منزلة كلام الله عز وجل، فهذا ما لا تريده قريش. فمبدأ قريش واضح وهو: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أما أن يأتي دين يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في منظومة الأرض وفي حياة الإنسان والمجتمع، فهذا ما ترفضه قريش بالكلية. إذاً: في هذه المرحلة ترك القرشيون المسلمين دون تعرض، ولكن في المرحلة القادمة وبعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية سيجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته في وسط مكة، وسيعلن توحيده لله رب العالمين، وسيعلن نبذه للأصنام والأوثان. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدعوة جهرا

سلسلة السيرة النبوية_الدعوة جهراً سرية الدعوات تحوطها بالأمان وتهيئ لها كنف الاطمئنان، أما الجهر بها فيفتح عليها تيارات حربية لا هوادة فيها، ويرسل عليها من كل جانب من يجتث أصلها ويستأصل شأفتها، وهذا ما أريد لدعوة الإسلام لما جهر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونُفذ بإحكام من أطراف كانوا أعداء رأب صدعهم خطر دعوة الإسلام التي ستقضى على الرياسة والأموال والشهوات التي كان يتمتع بها صناديد قريش.

مراحل الدعوة الجهرية والبدء بدعوة الأقربين

مراحل الدعوة الجهرية والبدء بدعوة الأقربين إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهذا هو الدرس السادس من دروس السيرة النبوية المطهرة المشرفة. ذكرنا في الدرس السابق ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من بداية الدعوة السرية في أرض مكة، وكانت هذه الفترة قرابة ثلاث سنوات كاملة، وبلغ عدد المسلمين في آخر هذه الفترة نحو ستين فرداً من الرجال ومن النساء، وأصبح من المتعذر على أهل مكة أن يستأصلوا الإسلام بكامله؛ لأنهم كانوا من قبائل مختلفة، ومعظمهم من الأشراف، وهنا أذن الله عز وجل لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة، وكانت مرحلة الدعوة الجهرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرحلة جديدة. في أوائل هذه المرحلة أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته، بينما ظل بقية المسلمين في سرية ولم يجهروا، وهذا تدرج واضح في إيصال الدعوة للناس. أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وأن يبدأ بأقاربه دون بقية الناس، وهذا أيضاً نوع من التدرج في إيصال الدعوة إلى الناس، قال الله له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ولماذا الأقربون بالذات؟ أولاً: لوجود حب فطري للداعية لأقاربه، وهم أقرب إلى الإجابة من غيرهم؛ إذ القريب ليست بينه وبين الداعية حواجز قبيلة أو عنصرية فهو يحبه حباً فطرياً. ثانياً: حمية قبلية تدافع عنه، فهذا يعطي للداعية قوة، وبالذات إذا كانت للداعية عائلة كبيرة، فلو آمنت هذه العائلة بدعوته لأصبحت عضداً له في دعوته. ثالثاً: أن دعوة الأقارب هي المسئولية الأولى الملقاة على عاتق الداعية: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته). ومن هنا جاءت أهمية صلة الرحم وأهمية دعوة الأقربين، فلو أن الداعية يحارب من داخل بيته أو عشيرته أو قبيلته، أو أن أباه أو زوجته أو ابنه يعوق مسيرته، فإن هذه أمور تعيق طريق الدعوة. وهناك نقطة بنائية هامة لابد أن نخرج منها: وهي أن دعوة الأقربين أهم من دعوة عامة الناس؛ فهذا لوط عليه السلام عندما جاءه قومه يراودونه عن ضيفه، قال لهم: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]؛ لأن لوطاً عليه السلام لم تكن له عائلة قوية، فكان يتمنى لو أن له عائلة قوية لوقف أمام القوم يدافع عن ضيوفه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليقاً على هذا الكلام: (رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد -وهو الله عز وجل-، فما بعث الله بعده من نبي إلا في ذروة من قومه)، ليس عيباً أن الإنسان يحتمي بقومه وبعشيرته وبقبيلته مادام لا يتنازل عن شيء من عقيدته ودينه، على النقيض من هذا الموقف كان موقف شعيب عليه السلام، وانظر إلى قومه عندما جاءوا إليه ليعترضوا عليه قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ} [هود:91]، ولولا العائلة الضخمة الكبيرة التي تأوي إليها: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91]. إذاً: دعوة الأقربين هامة جداً في بناء الأمم، بل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزلت عليه هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] تحرك بسرعة صلى الله عليه وسلم، ودعا (45) من أهله إلى الطعام، والدعوة إلى الطعام ترقق القلوب؛ لأن فيها ألفة ومودة، فمن أجل أن يكلمهم في أمر الدعوة دعاهم أولاً إلى الطعام، ثم بعد ذلك يبلغهم أمر الدعوة، لكن قبل أن يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم وقف أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصُّباة، واعلم أنه ليس لقومك طاقة بالعرب قاطبة. كان أبو لهب يسمع بأمر الدعوة وأمر الإسلام، ولكنه لم يعترض على الإسلام من قبل، ولم يعترض أحد من أهل قريش قبل ذلك، ومع اكتشافهم لبعض المسلمين؛ لأن المسلمين كانوا يكتفون بعبادات فردية، ويعبدون الله عز وجل في بيوتهم، فظن أهل قريش أنهم يفعلون أفعال الذين تنصروا أو اتخذوا الحنيفية ديناً، وأهل الباطل لا يمانعون أن تعبد ما تشاء في بيتك دون تدخل في المجتمع، أما أن يجمع محمد صلى الله عليه وسلم الناس، ويبدأ في دعوتهم إلى ما هو عليه، ثم يسفه ما يعبدون من دون الله، ثم يحكمون الله في أمورهم! فهذا ما يرفضه أهل الباطل من قريش. كانت هذه مبادرة أبي لهب، ثم أتبعها بكلام شديد، قال: ما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يدع الناس، ولم يدخل في جدل مع أبي لهب، وهي حكمة نبوية بالغة؛ لأن الظرف غير موات، فليس من الحكمة إلقاء الدعوة في هذا الجو، وأبو لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أتباع وأنصار، فليجمع الرسول صلى الله عليه وسل

موقف الأقربين من الدعوة النبوية

موقف الأقربين من الدعوة النبوية الموقف الأول: هو موقف أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أحبه حباً يفوق حب أولاده، والذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب، وموقفه يعتبر من أكبر علامات الاستفهام في التاريخ، وقف أبو طالب إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يشجعه بكل طاقاته، لكنه ما دخل في دينه، أخذ أبو طالب كل تبعات الدين الشاقة، وما استمتع بأحلى ما في هذا الدين؛ من تضحية، وبذل، وجهاد، وعطاء، وتعب، وسهر؛ لأنه لم يؤمن، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. قام أبو طالب فقال: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب -أي: أسرعهم إلى نصرتك ومعاونتك-، فامض لما أمرت به. أي: أنه يعلم أن الله عز وجل هو الذي أمره بذلك، ولم يأت به من عنده صلى الله عليه وسلم، ثم يقول أبو طالب: فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. هذا يعني أنه تيقن أنه رسول من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه أمر بهذا الكلام ولم يأت به من عنده، وأنه صادق لا يكذب، ومع ذلك يقول: نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. هذا تناقض بشع في نفس المقالة، ما الذي وقف حاجزاً بينه وبين الإيمان؟ التقاليد، تقديس رأي الآباء والأجداد والعائلات، حتى وإن كان مخالفاً للحق، فهذه الجريمة وراء مصائب كثيرة حدثت لـ أبي طالب وتحدث لغيره ممن ساروا على نهج آبائهم وعصوا الله عز وجل، وخالفوا منهج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. المهم في هذا أن أبا طالب كان واضحاً في دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم جهر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة لأقاربه. وعلى الجانب الآخر قام أبو لهب وظل مصراً على عدائه، قال: هذه والله السوأة، خذوا على يده قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا. إذاً: يتضح أمامنا أن هناك موقفين لأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ موقف مدافع يتزعمه أبو طالب، وموقف مهاجم يتزعمه أبو لهب.

الجهر بالدعوة أمام قريش عامة

الجهر بالدعوة أمام قريش عامة جاءت الأوامر من الله عز وجل أن يوسع الرسول صلى الله عليه وسلم دائرة الدعوة، فيقوم بصيحة أعلى بعد ذلك لكل بطون قريش، فوقف صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني هاشم، يا بني مخزوم، حتى أتى على كل بطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر الأمر؛ لأنه يرى أن الأمر عظيم. يقول ابن عباس في رواية البخاري: جاء أبو لهب وقريش -يخص بالذكر أبو لهب؛ لأن له موقفاً من هذا الحدث- فقال صلى الله عليه وسلم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فهنا يقيم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجة على قومه، أولاً: سألهم: (أكنتم مصدقي؟ فقالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً)، بمعنى: أنهم يعتقدون تمام الاعتقاد أن هذا الرجل لا يكذب، فأنذرهم بالإنذار الذي جاء به: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، أي: إذا كنتم تصدقون إنذاري لكم بخيل وأعداء، فيجب أن تصدقوا إنذاري لكم بعذاب شديد، إذا بقيتم على ما أنتم عليه من عبادة الأوثان وتحكيمها في حياتكم. فلم يسكت أبو لهب بل قال: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت السورة الكريمة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. وهنا مشكلة واضحة بداخل أبي لهب منعته من الإيمان، إن كانت مشكلة أبي طالب التقاليد، فإن مشكلة أبي لهب كانت الجبن الشديد قال: (ليس لنا بالعرب من طاقة) ليس لنا قدرة على تغيير المألوف، ليس عند أبي لهب مانع من الوقوف بجوار القوي وإن كان مخالفاً للحق، وليس عنده مانع من أن يخذل ابن أخيه، أو يخذل الحق بصفة عامة وإن كان من أقاربه وعشيرته، هذا هو الذي أرداه فجعله من الخاسرين، الجبن الشديد المقعد عن العمل الصالح.

الجهر بالدعوة لعامة الناس من قريش وغيرهم

الجهر بالدعوة لعامة الناس من قريش وغيرهم حصل إعلان لقريش، وحصل إعلان لأقارب الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة قبل ذلك، ثم جاء بعد ذلك إعلان أوسع، الإعلان العام لأهل مكة ولغيرها، ويتضح من هذا التدرج في الدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] أي: فاصدع يا محمد بأمر الدعوة. هناك أمران متلازمان سيبقيان معنا طوال مرحلة جهرية الدعوة: الأمر الأول: هو إعلان الدعوة للناس كافة مع خطورة هذا الأمر. الأمر الثاني: الإعراض عن المشركين، بمعنى: عدم قتال المشركين، وهذا يتضمن معنى ضمنياً، وهو أنه سيحاول المشركون قدر استطاعتهم أن يوقفوا مد هذه الدعوة، وهذا هو ما أشار إليه ورقة بن نوفل من قبل لرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أن يتجنب الصدام مع المشركين: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، حتى لو حدث كيد وتعذيب وقتل فأعرض عن المشركين، هذه ظروف مرحلة معينة تمر بها الدعوة في هذه الفترة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم صدع بما أُمر به، فماذا حدث في مكة؟ حدث انفجار في مكة، مشاعر الغضب والاستنكار والرفض، اجتماعات وتخطيطات ومكائد ومؤامرات، قامت الدنيا ولم تقعد في مكة، إنها الحرب لا هوادة فيها. المسلمون في مكة لم يعلنوا إسلامهم باستثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من البشر يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة إلا أبو طالب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بدفاع أبي طالب مع كونه كافراً، فهو رجل واقعي يقدر خطورة الموقف، لم يقل: هذا كافر ولا يجوز أن أحتمي به، ولكنه في ذات الوقت ما فرط في كلمة واحدة من الدين، ما تنازل ما بدل ما غير صلى الله عليه وسلم، إنما كانت مساعدة غير مشروطة من أبي طالب، مساعدة دون أن يفرض رأياً أو يخطط مستقبلاً لرسول صلى الله عليه وسلم أو للمسلمين والإسلام. إذاً: هذا هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف أبي طالب وموقف مكة بصفة عامة.

موانع دخول أهل مكة في الإسلام

موانع دخول أهل مكة في الإسلام قبل الحديث عن خطة مكة في القضاء على الدعوة الإسلامية لابد أن نبحث في موانع الإسلام عند أهل مكة، لماذا لم يؤمن أهل مكة؟ هل لأنهم لم يقتنعوا بالدعوة؟ لماذا حاربوا الدعوة ولم ينصروها مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم ومن داخلهم؟ ألأنهم لم يدركوا الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أنا لا أعتقد هذا مطلقاً، على الأقل الغالبية منهم، فقد كانت الرسالة واضحة جداً، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، القرآن كلام معجز، وهؤلاء هم أهل اللغة، ويعرفون أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، ويعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله فعلاً ولا يكذب، ومع ذلك كان أبي بن خلف يقابل الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: إني سأقتلك، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله. فمرت الأيام وخرج أبي بن خلف متردداً إلى أحد يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه صلى الله عليه وسلم بسهم أصاب منه خدشاً في كتفه، فكان أبي بن خلف يصرخ من هذا الخدش صراخاً شديداً، فقال له الناس: هون عليك هذا أمر سهل، فقال أبي بن خلف: إنه قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني! فانظروا إلى مدى تصديقه لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فأين كان عقلك يا أبي؟ أين كان عقل الذين سمعوك ولا يزالون يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم؟ إذاً: أهل مكة كانوا يوقنون أن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا ريب فيه، فلماذا كذبوه؟ ذكرنا من الأسباب: التقاليد الذي كان عند أبي طالب والجبن الذي كان عند أبي لهب. من الأسباب أيضاً التي منعت بعض الناس من دخول الإسلام: القبلية، ففي مكة قبائل كثيرة، بل في داخل قريش بطون كثيرة، فـ أبو جهل من بني مخزوم، وكان يقول: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. فالتعصب لقبلية أو لقومية أو لعرق معين من شيم الجاهلية، وأعداء الأمة يستغلون هذا المدخل منذ القديم وإلى يوم القيامة، وهذه هي النقطة التي دخل منها اليهود والإنجليز لإسقاط الدولة العثمانية، عندما فرقوا المسلمين إلى عرب وأتراك. وهي النقطة التي دخل منها الفرنسيون لإسقاط الجزائر عندما فرقوا المسلمين إلى عرب وبربر. وهي النقطة التي دخل منها شاس بن قيس اليهودي لعنه الله للتفرقة بين الأنصار إلى أوس وخزرج. ومن الناس من منعه الكبر عن الإسلام، وما أكثر الذين امتنعوا عن لزوم الحق بسبب الكبر، قال الله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فالكبر يقود إلى الكفر. وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بقوله: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، (بطر الحق) أي: تعرف الحق ثم تنكره. (وغمط الناس): أي: احتقارهم. وانظر إلى كلام الوليد بن المغيرة الذي حكاه القرآن الكريم، قال الله عز وجل في كتابه: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] القريتان هما: مكة، والطائف، فالمقصود بالعظيم في مكة هو الوليد بن المغيرة، والعظيم في الطائف هو عروة بن مسعود الثقفي، فيقولون: لو كان نزل القرآن على رجل عظيم لكنا آمنا به، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق، لكنهم يقيسون العظمة بكثرة الأموال لا بقيم الأخلاق والدين والعقيدة، فالله عز وجل يوضح في كتابه الكريم أن الذي يتصف بصفة الكبر من المستحيل أن يتبع الحق، قال الله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146] أي: أن الله عز وجل بنفسه هو الذي سيصرف أولئك الذين يتكبرون عن آياته سبحانه وتعالى. ومن الناس من منعه الخوف على السيادة والحكم في أرض مكة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد تحكيم الله عز وجل في أمور العبادة، وهو صلى الله عليه وسلم ناقل عن رب العزة، وسيسحب البساط من تحت أقدام الزعماء كـ أبي سفيان وغيره؛ وذلك إن انتشر دين الإسلام بمكة، فكان الخوف على الحكم مع

المراحل السلمية لصد الدعوة الإسلامية

المراحل السلمية لصد الدعوة الإسلامية الدعوات الصحيحة لابد أن تحارب، ولابد أن يجتمع عليها أهل الباطل، قد تؤجل المعركة، قد تأخذ صوراً مختلفة، ولكن لابد لها من حدوث. بدأ الكفار في الكيد، وسلكوا السبيل الذي سلكه من قبلهم في صدر التاريخ، والذي سلكه أمثالهم إلى يومنا هذا، والذي سيظل كذلك إلى يوم القيامة، سنة الله عز وجل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62] بدءوا يأخذون خطوات متدرجة لإيقاف المد الإسلامي، ونفس الخطوات تتكرر في كل زمان، يقول الله عز وجل: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]، فهل أوصى بعضهم بعضاً بنفس الأساليب ونفس الطرق؟ قد تختلف اختلافات طفيفة لاختلاف الزمان أو المكان، لكن الأفكار واحدة، وطرق الصد واحدة.

تحييد أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم وتخويفهم

تحييد أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم وتخويفهم المرحلة الأولى من مراحل صد الدعوة الإسلامية المحاولات السلمية: تحييد أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، لا يوجد إلا شخص واحد يعلن نصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو طالب، فذهبوا إلى أبي طالب، وقالوا له: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فعندما استمع أبو طالب إلى هذه الكلمات تأثر وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء وقال لهم: ترون الشمس؟ قالوا: نعم، قال: فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها بشعلة. يعني: لو استطعتم أن تشعلوا من هذه الشمس شعلة، فأنا لا أستطيع أن أترك هذا الدين، فقال أبو طالب -وانتبه لتغيره الكبير، فمن لحظات كان متأثراً بكلام قريش، وكان يريد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمنع الأذى عن قريش، ثم بعد أن رأى ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط؛ فارجعوا راشدين، فأمر القوم أن يعودوا ويتركوا محمداً صلى الله عليه وسلم. إذاً: صلابة الداعية وثقته في الله عز وجل وفي دينه، وتعظيمه لأمر الأمانة التي يحملها يلقي بآثاره على من حوله، وتنتقل هذه الصلابة انتقالاً طبيعياً منه إلى أتباعه وأحبابه ومقربيه، بل انتقلت إلى أبي طالب وهو كافر، لكن إصرار رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يرد أهل الكفر دون إجابة لطلبهم، مع أنه لا يرجو جنة ولا يخاف من نار، فكيف بالمؤمنين؟! ثم إن هذه الصلابة من الداعية تؤثر سلباً على أعدائه، إن العدو المدجج بالسلاح صاحب القوة والسلطان والتنكيل عندما يرى داعية صلباً مستمسكاً بمبادئه وإسلامه يتزلزل كيانه ويتضاءل أمام الداعية، مهما كان في هيئته الخارجية ممكناً، وكلما رأيت العدو الذي أمامك يكثر من الحراسة والجيوش والتحصينات فاعلم أنه يخاف منك أكثر مما تخاف أنت منه، فلا تهتز! إذاً: فشلت المحاولة السلمية الأولى في تحييد أو تخويف أبي طالب واستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته.

تشويه صورة الداعية أمام الناس

تشويه صورة الداعية أمام الناس المرحلة السلمية الثانية: تشويه صورة الداعية أمام الناس، وكانت حرباً إعلامية كبيرة بقيادة الوليد بن المغيرة وأبي لهب وغيرهما، فهذا تحالف من قبائل مختلفة لحرب الإسلام، فهذا أبو لهب من بني هاشم، والوليد بن المغيرة من بني مخزوم، فبنو هاشم رغم عداوتها لبني مخزوم إلا أنها متفقة معها الآن في خطة لشن حرب إعلامية على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأقاموا مؤتمراً ضم معظم الفصائل المكية في ذلك الوقت، وكان من الواضح أن الوليد بن المغيرة هو الذي يتزعم هذا المؤتمر، قال الوليد: يا معشر قريش! إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا -يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم قول بعض. ويتضح أن الوليد بن المغيرة يحارب الإسلام بذكاء، فهو يريد أن يجمع أقوال الناس في قول واحد؛ حتى يكون مقنعاً للناس في إعراضهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس قل وأقم لنا رأياً نقول به، فقال: بل أنتم قولوا أسمع يعني: يريد أن يخرج كل ما في أنفسهم، فبدءوا يفكرون في كذبة مناسبة، ولنعلم أنهم يعلمون أن ما يقولونه هذا ليس صواباً، ولكنهم يفترون على الله عز وجل الكذب، فقالوا: هو كاهن، والوليد بن المغيرة ذكي، قال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه. يعني: لن يقتنع الناس إذا قلتم بأنه كاهن فقالوا: هو مجنون، فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، يكفي من هذه الألفاظ أنه ليس بالجنون، فقالوا: هو شاعر، فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. يعني: عرفنا كل أنواع الشعر، وهذا بالتحقيق ليس شعراً، قالوا: هو ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده. قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ فقال الوليد بن المغيرة: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق -العذق هي النخلة-، وإن فرعه لجناه -ما يجنى من الثمر-، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول -يعني: هو يعلم أن هذا القول ليس بصحيح، ولكن أكبر كذبة من الممكن أن تنطلي على الناس هي هذه الكذبة- أن تقولوا: جاء بقول هو سحر، وهو ساحر غير تقليدي، ليس كالناس المعروفين بالسحر عن طريق النفث والعقد، ولكنه يسحر بسحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته. يعلم أنه يكذب، ومع ذلك شجع الناس لتكذب؛ لكي تحارب الدعوة. فنزل قول الله عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:11 - 17]، وانظر إلى التصوير للحالة النفسية التي كان فيها الوليد بن المغيرة وهو يفكر كيف يحارب الدعوة: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:17 - 22]، صراع نفسي داخلي عنيف بين علمه بالحق وبين إنكاره له، وهكذا نفسية الكافر المضطربة، ثم ماذا كانت النتيجة بعد كل هذا التفكير الشديد الطويل؟ {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:23 - 25]، فما هو العقاب؟ {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26]. إذاً: من سنن الله عز وجل أن يقف الكافرون ضد الحق وهم يعلمون أن هذا حق، فهم يقفون ويحاربون الدعوة بكامل طاقتهم، كما فعل الوليد بن المغيرة وكما فعل أبو لهب وغيرهما. ثم مع كل هذا الإعداد ومع كل هذا المؤتمر الضخم، إلا أنهم ليسوا بموفقين؛ لأن الله عز وجل بنفسه يحاربهم، الإمكانيات الإعلانية لرسول صلى الله عليه وسلم كانت أقل بكثير من إمكانيات الكافرين، ومع ذلك كان يصل إلى الناس؛ لأنه يقول الحق، وشتان بين الحق والباطل! وهي رسالة إلى كل الدعاة: لا يحبطنك سطوة إعلان المحاربين لدعوة الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} [الأنفال:59]. إذاً: فأول محور سلكه أهل الباطل في حرب

تشويه صورة الدعوة الإسلامية

تشويه صورة الدعوة الإسلامية المرحلة السلمية الثالثة: تشويه الدعوة ذاتها، وتشويه الإسلام، وأنه يدعو إلى أشياء خرافية ليست حقيقة، فحتى لو لم يكن للناس اعتراض على شخص الداعية، فهناك اعتراض على كلام الداعية، يعني: الإعلان في مكة كان يضرب تارة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو في شخص الداعية، وتارة يضرب في الإسلام، قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان:4]، أي: هذا كذب ألفه بمساعدة آخرين، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]، أي: كتب الأولين استنسخها. مع أنهم يعلمون أنه أمي لا يقرأ، ويعلمون حياته من أولها إلى آخرها، وما غادر مكة إلا قليلاً، ولم يكن يغادرها بمفرده، فكيف عرف كل هذا القرآن؟ {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، فقد ادعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلم القرآن على يد غلام نصراني، وهم كاذبون، ولكنهم كما قال الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]. وقاموا أيضاً بتشويه فكرة التوحيد، وهذا يعتبر طعناً في أصل الرسالة، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وهذا الصوت العالي للباطل قد يشتت أفكار العوام. ثم عملوا على تشويه فكرة البعث: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سبأ:7 - 8]، أهل مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، وقد كانوا يسمونه: الصادق الأمين، {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8]. وعملوا على تشويه لأخلاقيات وطبائع هذا الدين، فقالوا: هذا دين يفرق بين المرء وزوجه، وبين المرء وأهله. مع أنه لم يأت دين يجمع الناس ويوحد صفوفهم مثل دين الإسلام، ولكن الإسلام يريد أن يوحد الناس على أساس متين يستوي فيه أهل الأرض جميعاً، وهو أساس العقيدة، وهذا ما تأباه قريش. وهكذا يفعل أهل الباطل؛ دائماً يتهمون الإسلام في ذاته، كما يشوهون صورة الداعية ويشوهون صورة الدين، والآن نرى الناس يتهمون الإسلام بأنه دين الإرهاب، مع أنه لم يأت دين يدعو إلى الرحمة كدين الإسلام، ويتهمونه بالجمود الفكري، مع أنه لم يأت دين يدعو إلى التفكر كدين الإسلام، ويتهمونه بالتخلف العقلي، مع أنه لم يأت دين يدعو إلى التعلم والتفقه وعمارة الأرض كدين الإسلام.

شغل الناس بالباطل واللهو عن الحق

شغل الناس بالباطل واللهو عن الحق المرحلة السلمية الرابعة: شغل الناس بالباطل، فمن الصعب على القلب المنشغل بالباطل أن يلتفت إلى دعوة إصلاحية أو إلى دعوة الحق، بل من الصعب على الإنسان الذي غرق في حياة اللهو والتفاهة والانحلال أن يهتم بدعوة جادة. خطة قديمة لأهل الباطل أن يقدموا للناس فنوناً مختلفة من الملهيات، فلا يكون عندهم وقت ولا عقل ولا قلب لدراسة هذا الدين، التفت إلى هذه الخطة الشيطانية رجل من كفار قريش، تولى ما يسمى بالإعلام المضاد لدين الإسلام، إعلام مضاد بصورة غير مباشرة، هو لم يطعن في دين الإسلام ولم يطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، لكنه سيقدم للناس مشهيات وملهيات تشغل الناس في يومهم وليلتهم عن الدين، وهذا الرجل هو النضر بن الحارث لعنه الله، وقف يحادث قريشاً عن خطته، فقال: يا معشر قريش! والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن. يتكلم وكأنه يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يكابر. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، يا معشر قريش! فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم. يقع الذين يصدون الناس عن الدعوات الإصلاحية وبالذات الإسلام في المشكلة الضخمة، وهي أن الدعاة إلى الله عز وجل عادة ما يكونون على صورة طيبة، تفوق بكثير صورة أهل الباطل، من صدق، وأمانة وأدب في المعاملة، ومروءة في الأخلاق، وتفوق في العلم، وحسن في المنطق، فصعب على الناس أن تقبل طعناً في الداعية، وقد يصعب عليها أيضاً أن تقبل طعناً في الرسالة؛ لأن الرسالة تتوافق مع فطرة الناس جميعاً. إذاً: الإلهاء عن الحق كان وسيلة من وسائل الكفر في حرب الإسلام، فماذا فعل النضر بن الحارث، ذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة في العراق يتعلم منها فناً جديداً؛ لكي يلهي الناس به؛ يبذل النضر بن الحارث المال والوقت والجهد والفكر للصد عن سبيل الله، ينفق أموالاً ضخمة وميزانيات هائلة لنشر الإباحية والمجون: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]. أخذ النضر بن الحارث يتعلم أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، أخذ يتعلم أساطير وحكايات وروايات وقصصاً فيها تشويق وإثارة، وفيها جذب للانتباه، وتنشيط للشهوات، وإباحية أحياناً، وغموض أحياناً أخرى، وصراع في أحيان ثالثة، ورومانسية في أحيان رابعة، وهزل وضحك وكوميديا في أحيان خامسة، وهكذا سيجد ما يوافق كل ذوق. ثم عاد النضر بن الحارث بهذا التنوير وبهذا التطور وبهذا الرقي -في زعمه- يرفع الناس في مكة إلى مستوى حضارات الفرس كما يزعم، ثم بدأ في حربه ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً جاداً محترماً يذكر بالله، ويرغب في جنته، ويرهب من ناره، جلس النضر بن الحارث بالقرب منه يحدث بحديثه الهزلي، ويمتع الناس برواياته، ويقول: والله ما محمد بأحسن حديثاً مني. ولم يكتف بذلك النضر، بل اشترى مطربات راقصات، فبدلاً من أن تتخيل الراقصات والمجون في رواياته، فلتشاهده عياناً بياناً بنفسك؛ إمعاناً في الإلهاء والتضليل، كلما سمع أن رجلاً مال قلبه إلى الإسلام سلط عليه المطربات والراقصات يلهينه عن سماع كلام الإيمان، وكلما نشط رسول الله صلى الله عليه وسلم نشط النضر بن الحارث؛ لأن هناك مواسم يكون فيها نشاط للدعوة، مثل موسم الحج، في هذه المواسم الدينية ينشط النضر بن الحارث في ملهياته، فنزل فيه وفي أمثاله قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:6 - 7]. وهكذا يتواطأ أهل الباطل بهذا المنهج؛ شغل الناس بلهو الحديث، وبالذات في فترات زيادة الإيمان، ولعلنا بذلك نفهم أحداثاً خفيت على بعضنا؛ نفهم مثلاً النشاط الإعلامي الرهيب في شهر رمضان، تكدس ضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جاد في الحياة؛ ملهية عن الدين وغير الدين، برامج حافلة بالفساد، وقنوات تلفزيونية لا حصر لها، وتنوع غير مسبوق فيما يقدم من أفلام، وتمثيليات، ومسرحيات، وأغان، وعروض كلامية، ورياضة، وحكايات، وبرامج ضاحكة، كل هذا في شهر

تربية الثبات

سلسلة السيرة النبوية_تربية الثبات قد تتعدد وسائل أهل الباطل في حرب الإسلام، وهذه سنة الله الجارية في خلقه، فما حدث مع نبي يحدث للآخر، لكن يقيض الله جل وعلا للمؤمنين ويمكن لهم أمر دينهم، فمع الصبر على المشاق يأتي التمكين، ومع الثبات على الحق ينتشر الدين، وفي كل ذلك حكمة لله عز وجل ونواميس كونية يريها لعباده، وتظهر لهم بمرور الأيام.

وسائل أهل الباطل في حرب الإسلام

وسائل أهل الباطل في حرب الإسلام إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية. تحدثنا عن جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة في مكة، وتكلمنا عن اعتراض معظم أهل مكة على دعوة الإسلام، وذكرنا الموانع الكثيرة التي كانت عند أهل مكة فصدتهم عن الدخول في دين الله عز وجل. ثم ذكرنا الوسائل التي اتبعها أهل الباطل في حرب الدعوة الجديدة، فقد استخدموا وسائل سلمية كثيرة، مثل: محاولة تحييد أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل الحرب الإعلامية الموجهة التي تمثلت في تشويه صورة الداعية، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي تشويه الدعوة والإسلام وقواعده وتعاليمه، وفي شغل الناس بالملهيات والأغاني والمعاصي وغيرها، والتي قام بها النضر بن الحارث لعنه الله، لكن لم تفلح هذه الوسائل في إبعاد الناس عن سماع كلام الله عز وجل، ولم تمنع الناس من الدخول في دين الله، فماذا فعلت قريش؟ أو ماذا يفعل أهل الباطل لمقاومة الإسلام؟

الضغوط النفسية لصد المسلمين عن الدين

الضغوط النفسية لصد المسلمين عن الدين اتخذ أهل الباطل وسيلة أخرى من وسائل الباطل في حرب الإسلام: إنها حرب نفسية شنها أهل الباطل في مكة على المسلمين؛ حتى لا يشعروا براحة، مثل: الضغوط النفسية من الأهل والأقارب. نحن نعرف أن معظم المؤمنين من الشباب، لذا اجتمع أهل الكفر وأعلنوا في مكة أنه على كل أب وأم وشيخ قبيلة أن يتصرف مع أبنائه، فنحن نعمل ذلك من أجل مصلحة الابن الذي خرج عن دين الآباء، وكذلك من أجل مصلحة الأب حتى يظل محافظاً على مكانه في مكة، مع العلم أن لهجة أهل السلطان في مكة كانت تحمل تهديداً خفياً أو صريحاً، مثل ما حصل مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يحمل مهمة إبعاده عن دين الله عز وجل أمه، فقد حاولت بكل طرق الترغيب والترهيب أن تمنع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن الإيمان، لكنها فشلت ولم تستطع رده عن الإسلام، حتى إنها لجأت إلى الإضراب عن الطعام والشراب، قالت: لن آكل ولن أشرب حتى ترجع عن الإسلام، ضغط نفسي رهيب على شاب عمره (20) سنة، لكن الله ثبت سعداً رضي الله عنه، ووقف أمامها وقد أشرفت على الهلاك يقول لها في يقين: تعلمين والله يا أماه! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني هذا لشيء، فكلي إن شئت أو لا تأكلي! إصرار شديد، استحالة أن يغير هذا الدين مهما كانت الأثمان، ومهما كانت العواقب، فأكلت الأم وبقي سعد رضي الله عنه وأرضاه مسلماً، لكن الأمر كان شديداً ولا شك على نفس الشاب الصغير. كذلك الضغط النفسي أيضاً مارسته أم مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، كان مصعب أنعم فتيان قريش، كانت أمه غنية، وكانت توفر له كل أسباب الرفاهية، كانت تحضر له العطر من الشام والملابس من اليمن، فلما آمن منعت عنه ذلك، بل طردته من البيت ومنعت عنه كل الأموال، لكنه وإن كان قد تعود على حياة الترف والرفاهية لم يتغير، تقشر جلده مثل جلد الحية؛ لأنه كان معتاداً على حياة الترف والرفاهية، كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إذا رأه بكوا لحاله وهو غير مبال، ثبت على الإسلام الذي غير تماماً من شخصية مصعب رضي الله عنه. كذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كان عمه يلف حوله الحصير، وبعد ذلك يشعله تحته حتى يكاد يختنق، لكنه أيضاً لم يرجع عن الدين. وكان أبو جهل لعنه الله قيادياً كبيراً في مكة، وكان له تأثير على بيوت كثيرة فيها، كان يمر بنفسه على أهل مكة يهدد ويخوف، ولما يعلم بإسلام أحد يذهب لأهله، ويتوعد أهله بالخسارة الفادحة في المال والجاه والمكانة، كان يطرد من الأعمال من شك في إسلامه، كان يضغط على كبراء مكة ليضيقوا اقتصادياً على المسلمين، ومن لم تقنعه الكلمات قد يقتنع بالجوع. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسلم من هذه الضغوط النفسية، فـ أبو لهب لعنه الله كان قد زوج ولديه عتبة وعتيبة من بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة رقية والسيدة أم كلثوم فلما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الدعوة، أمر ولديه أن يطلقا بنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالفعل طلقا البنتين، وهذا هم ثقيل، ولا شك أن فكر الرسول صلى الله عليه وسلم سوف ينشغل بهذه القضية ولو بدرجة ما. ثم صورته في مكة يصبح شكلها مختلفاً، فعمه لا يريد أن يزوج ولديه ببنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم وصل الأمر إلى أن زوجة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب -وكانت امرأة شديدة السوء- كانت تحمل الشوك وتضعه أمام بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم! تعدى الأمر من إيذاء الرجال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إيذاء النساء، هذا شيء في منتهى المشقة على نفسية أي رجل، بل خرجت هذه المرأة ذات مرة لتضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسكت بيدها فهراً من الحجارة، -يعني: ملء الكف من الحجارة- وجاءت لترجم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس بجانب الصديق رضي الله عنه في البيت الحرام فلما جاءت إليهما أخذ الله عز وجل ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني؟ وذلك في الآية الكريمة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]، فـ أم جميل بنت حرب قالت: والله لو وجدته لرجمته بهذا الفهر! وهذا الإيذاء لم يكن فقط في الشارع أو في البيت الحرام، لا، بل كانوا يتطاولون على رسول الله حتى وهو في بيته، فقد كان إذا صلى في فناء بيته ألقوا عليه رحم الشاة من فوق السور حتى يصيبه هذا الأذى؛ لذا كان يصلي وراء حجر يستتر به من

طلب المعجزات الخارقة للدلالة على صحة الإسلام تعنتا ومماراة

طلب المعجزات الخارقة للدلالة على صحة الإسلام تعنتاً ومماراة وسيلة أخرى من وسائل أهل الباطل: طلب الأمور المعجزة من باب الجدل والمراء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى لهم بمعجزة عظيمة خالدة: إنها معجزة القرآن الكريم، تحداهم به تحدياً صارخاً، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24]، تحدٍ في منتهى القوة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] ومع ذلك قريش ما حاولت مرة واحدة أن تعارض هذا القرآن الكريم، ومع علمهم بصدقه صلى الله عليه وسلم، ومع علمه بعجزهم وضعفهم أخذوا يطلبون المعجزات الأخرى من باب الجدل، مثل: انشقاق القمر، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأشار بيده إلى القمر فانشق إلى نصفين، نصف على جبل والنصف الآخر على جبل آخر أمام الناس جميعاً، فقالوا: سحركم محمد، والمنصف منهم قال: اسألوا المسافرين، فلو كان سحرنا لن يسحرهم، فلما أتت الناس سألها أهل قريش عن هذا الأمر، فقالوا: نعم، لقد رأينا القمر انشق في ذات الليلة التي انشق عندهم فيها، فكانت هي الليلة التي شق فيها للرسول صلى الله عليه وسلم القمر، ومع ذلك قالوا: هذا سحر مستمر ولم يؤمنوا؛ لأنهم ما طلبوا الآيات رغبة في التصديق وإنما لمجرد الجدال والمراء، ثم وصل الأمر إلى أن قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90 - 93]، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، أنكم إذا وصلتم إلى هذه الدرجة من الجدال والمراء فليس هناك إلا رد واحد وهو: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93]، هم لا يريدون الإيمان، وليس هناك داع للجدل العقيم مع هؤلاء الذين أنكروا بعقولهم وقلوبهم وجوارحهم المعجزة العظيمة، كل الذي طلبوه أقل من معجزة القرآن الكريم، لكنهم لا يريدون أن يؤمنوا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر:14]، أي: لو أخذناهم وأريناهم السماء والأفلاك والمجرات والجنة والنار {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15]. هكذا يفعل الكفار وأهل الباطل دائماً في حربهم للمسلمين. إذاً: من وسائل أهل الباطل في حرب المسلمين: طلب الأمور المعجزة من باب الجدل والمراء.

السخرية والاستهزاء بالمؤمنين

السخرية والاستهزاء بالمؤمنين هذه وسيلة من أقبح وسائل أهل الباطل في حرب الإسلام والمسلمين: هي السخرية والاستهزاء بالمؤمنين. لم يصبح هناك منطق ولا عقل ولا حجة {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33]. كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلس حوله المستضعفون من المسلمين، قال المشركون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟! هكذا سخرية بدون حجة وبدون دليل، وإذا دخل عليهم فقراء المسلمين، قالوا: هؤلاء ملوك الأرض، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لأهل مكة: قولوا كلمة واحدة -لا إله إلا الله، محمد رسول الله- تملكوا بها العرب والعجم. فيقولون: هؤلاء هم ملوك الأرض الذين سيملكون العرب والعجم. جلس عقبة بن أبي معيط لعنه الله مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه، فرآه أبي بن خلف فظن أنه آمن، فذهب بعد ذلك يقول له: أنت آمنت، قال: لم أؤمن؟ فلم يصدقه، وقال له: حتى تثبت لي أنك لم تؤمن بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم لابد أن تبصق في وجه محمد، فقام عقبة لعنه الله وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصق في وجهه! هكذا فعلوا مع أحب الخلق إلى الله عز وجل، لكن الوضع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين بصفة عامة أن ازدادت حركة الدعوة في مكة، وازداد عدد المسلمين، وشعر المشركون بأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فقدموا التنازلات، وبدءوا بعمل مفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يلتقوا في منتصف الطريق كما يقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، قدموا اقتراحين للرسول صلى الله عليه وسلم: أما الأول فقد كان سفيهاً من حكماء قريش، قاموا بما يسمى بالعبادة المشتركة فقالوا: هلم يا محمد فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر. يعني: أنت تعبد هبل واللات والعزى، ونحن أيضاً نعبد إلهك في نفس الوقت، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منها. هذا مفهوم مغلوط وسطحي عن الألوهية أن أعبد عشرة أو عشرين إلهاً، وهذا تفكير طفولي من حكماء قريش. الاقتراح الثاني كان على نفس المستوى من السطحية، فبعض المشركين تقدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يكون هناك ما يسمى بعبادة التناوب، يعني: نعبد إله محمد سنة، وهو يعبد إلهنا سنة، فنزل قول الله عز وجل يقطع الطريق تماماً على هذه المفاوضات الطفولية، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، المرة الوحيدة التي قال الله عز وجل فيها: (الْكَافِرُونَ)، ليقطع السبيل على كل كافر يساوم المؤمنين على أمر العقيدة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، بذلك أغلق الباب على هذه المفاوضات الهزلية، والدعوة تزداد، والمسلمون يتكاثرون.

وسيلة التعذيب الجسدي

وسيلة التعذيب الجسدي لم تجد قريشاً حلاً إلا أن تلجأ إلى السلاح المعتاد في أيدي أهل الباطل، إذا وجدوا صلابة في الصف المؤمن، ألا وهو سلاح الإيذاء والتعذيب والتنكيل، سبحان الله، ووالله ما هو إلا سلاح الضعفاء، وهناك من يظن أن من معهم السلاح أقوى من المسلمين، لا، بل هم الضعفاء؛ فهم يختفون وراء سيوفهم وسياطهم ودروعهم، ويخفون معهم ضعفاً شديداً في نفوسهم، يخفون ضعف العقيدة والإيمان والحجة والبرهان، وضعف الشخصية والحكمة والرأي، وضعف الأخلاق والضمير. إذاً: التعذيب والظلم والإجرام منطق من لا منطق له. وأنا في حيرة من أمري: كيف لإنسان أن تقبل نفسه أو فطرته أن يرى إنساناً يعذب أمامه، بل ويشارك في التعذيب أو يأمر به؟ أي طبيعة وأي شخصية داخل هذا الإنسان؟ ما شكل قلبه؟ كيف انحطت البشرية إلى هذا المستوى المتدني من فساد الفطرة، الإنسان السليم لا يستطيع أن يرى حيواناً يتألم، فكيف بإنسان يلهب ظهره بالسياط؟ كيف لإنسان أن يحبس إنساناً بلا جريرة أياماً وشهوراً، بل وسنوات، والإسلام قد حرم على المسلم أن يحبس هرة؟ مع كل التداعيات الخطيرة التي تحدث لأسرته ولزوجته ولأولاده ولأمه وأبيه دون ذنب أو خطأ؟ ليس لهم جريمة إلا كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف حال الكافرين مع المؤمنين: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، أي: مشكلة المؤمنين أنهم آمنوا بالله عز وجل، فقست قلوب الكافرين، وانطلقوا يفترسون المؤمنين والمؤمنات. {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، هذه نقطة سوداء في تاريخ البشرية حصلت في مكة، وما زالت تتكرر فيمن بعدهم وإلى يوم القيامة. مرّ بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه بسلسلة مضنية من التعذيب، كان أمية بن خلف عليه لعنة الله يعذبه، تعذيباً معنوياً وبدنياً لا ينقطع، فقد كان أمية يضع في عنقه حبلاً ثم يأمر أطفال مكة أن يسحبوه في شوارع وجبال مكة، ولم يكن هذا لمدة يوم أو يومين، بل كان لفترات طويلة إلى أن ظهر أثر الحبل على عنق بلال رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمية يمنع عنه الطعام، ويغدو به إلى الصحراء في مكة، ويضعه على الرمال الملتهبة في صحراء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة لا يقوى على حملها إلا المجموعة من الرجال فتوضع على صدر بلال، وهو يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، لكن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه صبر، وكان كثيراً ما يكرر: أحد أحد. ولما سئل: لماذا هذه الكلمة بالذات؟ قال: كانت أشد كلمة على الكفار، فكان يريد أن يغيظهم بها. فصبر بلال رضي الله عنه وأرضاه وما بدل وما غير، إلى أن اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه بعد ذلك، ومرت الأيام ونسي الألم، لكن يبقي الأجر، واحفظوا هذه الجملة: يذهب الألم ويبقى الأجر، كل شيء يذهب، الدنيا كلها تذهب، لكن يبقى الأجر والثواب. ياسر وسمية رضي الله عنهما والدا عمار بن ياسر رضي الله عنهم عذبا تعذيباً شديداً، وكان أبو جهل عليه لعنة الله يعذبهما مع عمار بنفسه، وزاد العذاب فوق الحد، إلى أن وصل الأمر أن قتل ياسر وسمية رضي الله عنها في بيت الله الحرام، وما ذنبهم حتى يعذبوا إلى أن يموت الأبوان، ليس لهم أي ذنب إلا إنهم أناس يتطهرون، وذنبهم أنهم يريدون الخير لهم ولكم وللمجتمع وللأرض كلها، وأنهم أناس صالحون يريدون أن يعبدوا ربهم بالطريقة التي شرعها الله، لكن {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، قتل ياسر وقتلت سمية، لكن من الذي انتصر في النهاية؟ القاتل أو المقتول؟ سيأتي يوم عظيم، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، في هذا اليوم سيأتي الذين عذبوا المسلمين على مر العصور، ويغمسون غمسة واحدة في نار جهنم، وسينسى هؤلاء الهمجيون سعادة الدنيا جميعاً بغمسة واحدة، فما بالك بالخلود في جهنم مع العذاب الشديد! وفي ذات اليوم سيأتي أيضاً بلال وياسر وسمية ومن سار على نهجهم، أولئك الذين عذبوا في سبيل الله عز وجل، سيأتي هؤلاء وسيغمسون غمسة واحدة في الجنة، وسينسى المؤمنون شقاء الدنيا جميعاً، أي جهل وغباء وحماقة يعاني منها أولئك المعذبون لغيرهم؟ {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4 - 5]. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ

نتائج الابتلاء في العهد المكي وفي كل عهد

نتائج الابتلاء في العهد المكي وفي كل عهد ما حصل في مكة ليس غريباً؛ لأن حرب الحق والباطل سنة من سنن الله عز وجل، ستبتلى الأمة المؤمنة بصفة عامة، وسيبتلى كل فرد من أفرادها بصفة خاصة، لن يكون هناك أي استثناء، يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، لابد من ابتلاء ولابد من فتنة؛ حتى تحدث ثلاثة أشياء مهمة نتيجة هذا الابتلاء: تنقية وتربية وتزكية. الأمر الأول: التنقية، تنقية الصف المسلم، ما أسهل أن يقول المرء بلسانه: آمنت وصدقت وأيقنت، لكن ما أصعب العمل، لابد من اختبار وإيذاء الدعاة والملتزمين بنهج الله عز وجل ونهج رسوله الكريم، هذه سنة ماضية لتنقية الصف المؤمن من المنافقين {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وإلا لقال كل الناس: نحن مسلمون، نحن مجاهدون في سبيل الله، لكن لابد من ابتلاء حقيقي وشديد. الأمر الثاني: التربية، يريد ربنا سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تقود العالمين، وقيادة العالمين تحتاج إلى طراز فريد من البشر لا يهتز أمام العواصف، والابتلاء برنامج تدريبي متدرج للمؤمنين، يرتفع بمستوى المؤمن يوماً بعد يوم، وكلما عظمت مهام المؤمن ازداد بلاؤه؛ ليزداد إعداده كالذهب كلما اصطلى بالنار كان أنقى، وهكذا المسلم الصادق يخرج من الابتلاء أقوى وأعظم. هذه أشياء رأيناها في التاريخ، ورأيناها في الواقع، وستظل إلى يوم القيامة سنة من سنن الله عز وجل. الأمر الثالث: التزكية، أي: التطهير من الذنوب والخطايا، أحيانًا يحب ربنا إنساناً ويريد أن يرفع درجته، وهذه الدرجة لا يبلغها بعمله، فيبتليه سبحانه وتعالى فيصبر، فيبلغ الدرجة العالية: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، إذا كانت الشوكة تعمل هكذا، فما بالك بالضرب والجلد والحبس والتعذيب. هذا كله مصلحة للمؤمنين. إذاً: تنقية للصف المسلم، وتربية للصف المسلم، وتزكية للصف المسلم، لابد لها من ابتلاء، وسيظل الابتلاء إلى يوم القيامة.

أسباب صبر الصحابة على الأذى في العهد المكي

أسباب صبر الصحابة على الأذى في العهد المكي كانت السمة المميزة لجميع الصحابة: الصبر على الأذى وتحمل الاضطهاد في سبيل الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين أن يردوا عن أنفسهم ذلك الأمر؛ للأمر الصريح من الله عز وجل: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106]، وكان المشركون يعذبون ويشردون ويذبحون والمسلمون صابرون، بل أمروا ألا يردوا إيذاء، ولا يحملوا سلاحاً، ولا يرفعوا ضيماً، ولا يكسروا صنماً، ولا يسبوا مشركاً، {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، قتل ياسر وقتلت سمية والرسول صلى الله عليه وسلم يمر من أمامهم وهم يقتلون فيكتفي بقوله: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)، ولم يمسك بيد أبي جهل ولم يجمع الصحابة ليقوموا بثورة أبداً. نحن نريد أن نقف هنا وقفة، هي: كيف تعلم الصحابة الصبر؟ كيف يمكن لرجل يوضع على النار ويحرق أن يتحمل كل هذه الآلام ولا ينتقم لنفسه، وهو في الأخير جسد وعظم ودم ولحم وروح مثل كل الناس؟! نحن لا ندرس السيرة من أجل أن نحكي حكايات لطيفة عن جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لا، بل نحن ندرسها حتى نفهم كيف وصلوا إلى هذا المستوى؟ ونعرف كيف نقلدهم؟ هناك طرق سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يعلم الصحابة، فدين الإسلام ليس فيه ضلالات أو أوهام، فكل شيء فيه واضح. أنا سأخبركم عن بعض الأساليب والأسباب التي جعلت الصحابة ومن بعدهم يتحملون هذه الآلام المضنية في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الدعوة:

تعظيم قدر الله في قلوب المؤمنين

تعظيم قدر الله في قلوب المؤمنين السبب الأول في زرع الصبر في قلوب المؤمنين: تعظيم قدر الله عز وجل. لو كنت معظماً قدر الله سبحانه وتعالى في قلبك لا يمكن أن يهمك كل ألم يمر بك هذه الآلام؛ لذا تجد القرآن المكي يتكلم كثيراً عن تعظيم قدر الله عز وجل، يتحدث عن صفات الله عز وجل، عن جبروت الله عز وجل، عن عظمة الله عز وجل، عن قدرة الله عز وجل، عن أن الله عز وجل بيده كل شيء ولو كان سيصيبك ضر لابد أنه سيصيبك، ولو اجتمع أهل الأرض لحمايتك فلن ينفعوك، وعلى العكس لو أراد بك الرحمة لابد أن تحدث، وإن اجتمع أهل الأرض ليمنعوك منها، يقول الله في سورة الأنعام المكية: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، لو كنت فعلاً مصدقاً بهذه الكلمات ستعرف أن نصيبك من الألم ستأخذه؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يقع بك ذلك الألم، فلابد أن يقع، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:17 - 18]، كل واحد مكتوب عليه نصيبه من الألم من ظالم أو مظلوم، كافر أو مؤمن، وإن لم يعذب في سبيل الله فسيعذب بصورة أخرى، من وجع في ضرسه، وسرطان في جسمه، وكسر في رجله، وصداع في رأسه، {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]، قد يكون نصيبه من الألم معنوياً، وهو أشد من الألم المادي، لعل له ابناً فاشلاً يشرب المخدرات أو يكون عاقاً لوالديه، أو منعدم الأدب، أو زوجته منكدة عليه حياته، أو رئيسه يهينه كل يوم يعيش في تعاسة وشقاء، حتى لو كان أمام الناس تبدو عليه السعادة وممكن له في الأرض فهو في معيشة ضنكاً. كل الناس تحس بالألم، {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، لكن المسلم يتعذب كل هذا التعذيب وهو منتظر الجنة في الآخرة، لكن الظالم مسكين يتعذب في الدنيا بالطريقة التي يريدها ربنا سبحانه وتعالى، وفي الآخرة يعذب في جهنم، عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة، فلماذا لا يصبر المؤمن؟! إذاً: المؤمن عندما يعظم قدر ربنا سبحانه وتعالى يستسهل التضحية من أجل الله عز وجل؛ لأنه يعلم أن كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى، وأن كل شيء قدره الله عز وجل لابد أن يحدث وأن يتحقق، سواء كان نعمة أو مشقة.

رفع قيمة الآخرة في قلوب المؤمنين

رفع قيمة الآخرة في قلوب المؤمنين السبب الثاني: رفع قيمة الآخرة في عيون المؤمنين. وهذا أسلوب من أروع الأساليب في تربية الصف المؤمن على التحمل والجلد والصبر، وتوسيع مدارك المسلم، وليعلم المقياس الحقيقي بين الدنيا بكل ما فيها من مصاعب ومشاق وألم وعمل، وبين الآخرة وما فيها من خلود، إذا أدرك الناس أن هناك يوماً ما سيحاسبون فيه على ما يعملون، وكان هذا العلم علماً يقينياً، وأدركوا أن الذي سيحاسبهم هو إله قادر عليم حكيم جبار قاهر سبحانه وتعالى، فإنهم ولاشك سيعملون له؛ لأجل ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أول يوم لدعوته للناس (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً). نحن أحياناً نعاني من خلل تربوي خطير، وهو أننا لا نركز على رفع قيمة الآخرة في عيون المؤمنين، راجع القرآن المكي؛ لتعرف طبيعة المرحلة، إذا كانت الدعوة مضطهدة، والظلم مستفحلاً والأعداء كثر، فلابد من التركيز على رفع قيمة الآخرة في عيون المسلمين. كما تحدث القرآن المكي عن الجنة؟ لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن المكي من التذكير بالجنة والتذكير بالنار. عش في الجنة التي كان يعيش فيها الصحابة وهم لا يزالون في الدنيا، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان:12]، أنا أريدك أن تتخيل أحد الصحابة وهو في بيت الأرقم بن أبي الأرقم يسمع هذه الآيات والتعذيب ينتظره في الخارج، كم سيكون حجم التعذيب بالنسبة للذي يسمعه عن وصف الجنة؟ لا شيء، إذا قورن أي ألم بالخلود في النعيم سقط {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:12 - 22]. تخيل مؤمناً يسمع هذه الآيات ويعيش فيها، ثم يأتي عدوه ليعذبه ويحرمه جرعة الماء، أو الظل، أو يجلده أو يصلبه أو يقتله، ما الضير في ذلك؟ أليس منتقلاً من هذه الحياة بهمومها ومتاعبها إلى تلك الجنة العظيمة الخالدة؟! إذاًَ اسمع آيات القرآن الكريم المكي بهذا المفهوم، بأذن الصحابي الذي يعذب، لم يكن للتعذيب عندهم أي قيمة، هنا ستفسر لك أشياء غريبة على أسماعنا، مثل: موقف حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه لما طعن بالرمح في ظهره فخرج من صدره فقال: فزت ورب الكعبة! أي فوز فازه هذا وقد مات، وفقد كل شيء في عرف أهل الدنيا؟ هو يعتبر نفسه فائزاً؛ لأنه سينتقل من أرض الجهاد إلى الجنة مباشرة، مات شهيداً، وقد وعد الله الشهيد بأن يدخله الجنة بغير حساب. إذاً: لماذا لا يقول: فزت ورب الكعبة؟ نفهم من هذا أن تعظيم قيمة الآخرة يصبر المؤمنين لا محالة على كل ألم وأذى ومشقة في سبيل الله عز وجل.

دراسة التاريخ

دراسة التاريخ السبب الثالث في تربية المسلمين على الصبر: هي دراسة التاريخ. التاريخ يكرر نفسه، ودراسته تعرض صوراً واقعية من الماضي لأناس عاشوا في نفس الظروف التي عشت أنت فيها؛ لأنها حرب واحدة بين الحق والباطل، علو للباطل في فترة من الفترات، تعذيب وتشريد وقتل وإبادة لأهل الحق، وصبر وجلد وتحمل وعزيمة من المؤمنين، ثم في النهاية انتصار للحق وتمكين له، وهزيمة للباطل وهلاك له. صورة متكررة في كل صفحات التاريخ، سنة من سنن الله عز وجل. راجع القرآن المكي لتجد قصصاً لا حصر لها، لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن المكي من قصة أو إشارة إلى قصة من هذا النوع، وتصور أنك تسمع مع الصحابة من ضمن الأمثلة الكثيرة التي ضربها الله عز وجل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فترة مكة، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، هذه درجة عظيمة من الألم والإيذاء، حتى هذا لم يحصل مع الصحابة، لا يوجد أحد قتل أبناء الصحابة الرضع مثل ما كان يفعل فرعون لعنه الله، ومع هذه الصورة من الألم، تأتي صورة أخرى من التسلية، يقول الله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، بعد كل هذا الألم والاضطهاد يريد الله عز وجل أن يمكن للمستضعفين، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] إلى آخر الآيات. نفس الصورة تكررت في مكة وتتكرر إلى يوم القيامة، فإذا كان الصبر سيتكرر فإن التمكين لا محالة سيتكرر؛ لأن الذي يعد هو ربنا سبحانه وتعالى وهو قادر على كل شيء. إذاً: دراسة التاريخ وتحليله وفقهه أمر في غاية الأهمية لتربية الصف المؤمن على الصبر، ووضع لأيديهم على كل مفاتيح النصر الحقيقة.

زرع الأمل والثقة في نفوس المؤمنين بوعد الله بالنصر والتمكين

زرع الأمل والثقة في نفوس المؤمنين بوعد الله بالنصر والتمكين السبب الرابع: زرع الأمل في نفوس المؤمنين: إذا أحبط الإنسان فلا أمل في صبره ولا نصره ولا تمكينه، يقول سبحانه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. لابد من صبر حتى يكون هناك تمكين، فربنا سبحانه وتعالى حتى يعلم المسلمين الصبر يريهم الأمل، وأن الأرض ستكون لهم. إذاً: هذه من أهم النقاط التربوية في تمكين المؤمنين من الصبر، وبها نفهم موقف الرسول صلى الله عليه وسلم لما أتاه خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه بعدما اشتد بهم التعذيب، أتى يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو للمسلمين أن يرفع الله عز وجل عنهم هذه الغمة. يقول خباب: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ خباب لم يعد يتحمل، فقد عذب تعذيباً أليماً، كان يكوى رأسه بالنار، ويوضع على الفحم الملتهب، فطبيعي بالنسبة لرجل مر بكل هذه التجارب الأليمة أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء والاستنصار برب العالمين، وقد كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم على غير ما نتوقع، فقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك في وجهه، يقول خباب كما جاء في البخاري: (فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، وقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض حفرة فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). من المؤكد أن غضب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف لم يكن لمجرد طلب الدعاء، بل إن المؤمنين مطالبون بالدعاء في مثل هذه المواقف، لكن الذي حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شعر أنه قد بدأ ييأس ويفقد الأمل، لذا غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرجه غضبه عن أسلوبه التربوي الراقي، وذكر له أكثر من طريق ليعلمه بها: الطريق الأول: أنه ربى بالتاريخ، وذكر له أحداثاً من التاريخ، فالمؤمنون من قبله قد مروا بما هو أشق، والناس عادة تصبر على مصائبها إذا رأت أن غيرها قد ابتلي بمصائب أشد. الطريق الثاني: أنه زرع الأمل في قلبه وبيقين كامل، (والله ليتمن هذا الأمر)، فاطمأن أنه في يوم من الأيام سيمكن الله عز وجل لدينه. الطريق الثالث: التذكير بالله عز وجل والتعظيم لقدره فلا يخاف إلا الله، كما قال: (لا يخاف إلا الله). الطريق الرابع: أن يأخذ بالأسباب، يقول: (والذئب على غنمه)، ليس معنى التوكل على الله عز وجل أنك لا تأخذ بالأسباب، لا، فما زالت السرية موجودة، وما زال الصبر موجوداً، وما زالت الدعوة إلى الله عز وجل موجودة، فلننتظر التمكين. النتيجة أن خباباً رضي الله عنه وأرضاه ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك. إذاً: الدرس الذي نأخذه من هذا الموقف: أنك لو وصلت إلى هذه الدرجة من الإيذاء فلا تستعجل، إذ لابد وأن يمكن الله عز وجل لهذا الدين.

العلم والقراءة

العلم والقراءة هناك أسباب أخرى للتربية والصبر استخرجتها من أوائل السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وفيها تعليم للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يصبروا على هذا الطريق الطويل، ففي سورة المدثر يقول الله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7]. وفي سورة المزمل: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10]. من هذه الأسباب: العلم والقراءة كما في الآيات الخمس الأولى من سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فمن يعرف أكثر سيصبر أكثر، والقراءة ليست هواية، بل لابد أن تقرأ حتى تتعلم وتصبر؛ لأنه من غير القراءة لا يمكن أن تحصل على العلم، ودروس العلم مهما كثرت لن تعطيك إلا جزءاً ضئيلاً من العلم الذي يفترض بك أن تحصله. فلابد أن نقرأ ونعلم أولادنا القراءة، ونعلم إخواننا وكل مسلم حريص أن يصبر ويقرأ ويتعلم.

قيام الليل وقراءة القرآن والذكر

قيام الليل وقراءة القرآن والذكر من الأسباب: قيام الليل، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2 - 4]، لن يصبر المرء إذا لم يتعود على قيام الليل؛ لذلك فرض قيام الليل سنة كاملة، ولما نزل التخفيف ما تركه أحد منهم؛ لأنهم تعلموا في هذه المدرسة: إذا أردت أن تصبر فعليك بقيام الليل. ومنها: قراءة القرآن: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4]، القرآن زاد لا يستطيع المسلم أن يصبر بدونه. ومنها: الذكر، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8]، أيضاً الذكر زاد لكل مسلم، وأي مسلم يريد أن يصبر لابد أن يذكر الله عز وجل ذكراً كثيراً، كما يقول سبحانه وتعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، فكلما ذكرت ربنا سبحانه وتعالى أكثر عودك على الصبر بصورة أكبر.

ترك المعاصي والذنوب

ترك المعاصي والذنوب من الأسباب: ترك المعاصي والذنوب: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، الغارق في المعاصي كيف يمكن أن يصبر.

الأخوة في الله

الأخوة في الله من الأسباب: الأخوة في الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28]، عندما تجد أناساً معك يمشون في نفس الخط فهذا سيقوي قلبك على الصبر. إذاً: هذه أمور تعين على الصبر، وهي: - تعظيم قدر الله عز وجل في القلب. - تعظيم الآخرة. - دراسة التاريخ. - زرع الأمل في نفوس المؤمنين. - العلم والقراءة. - قراءة القرآن. - قيام الليل. - الذكر. - ترك المعاصي والذنوب. - الأخوة في الله عز وجل. تلك عشرة كاملة، تحفظ؛ إذ ليس هناك صبر من غيرها.

الحكمة الإلهية من عدم القتال في العهد المكي

الحكمة الإلهية من عدم القتال في العهد المكي قد يقول قائل: لماذا أمر الله عز وجل المسلمين بالكف عن القتال في مكة؟ ولماذا تحملوا الألم دون رد أو تغيير؟ يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106]. الحكمة الكاملة من وراء ذلك المنع لا يستطيع البشر أن يتوصلوا إليها، لكننا سنبحث فيما نعتقد أنه السبب أو الحكمة، حتى نتعلم كيفية العمل في الظروف المشابهة. الحكمة الأولى من كف المسلمين عن القتال: التربية على نوع جديد من الصبر، لن يتعلمه المسلمون إلا في مثل ذلك الوضع. الصبر أنواع كثيرة، والعربي بصفة عامة صبور، يصبر على الجوع، والحر، والفقر، وطول السفر، والآلام، والحروب، إلا أنه لا يصبر على تحمل الظلم، فله طبيعة ثائرة لا ترضى بالضيم والجور، يثور ولو ضاعت حياته، لكن الآن أصبحت لدى المؤمنين أبعاداً أخرى أعمق من متطلبات الفرد، وأصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة ومجتمعاً، ولا يستقيم للفرد أن ينظر إلى مصلحته الشخصية، بل يجب أن ينظر إلى مصلحة المجموع، وربنا سبحانه وتعالى يأمرهم ألا ينظروا إلى حظ نفوسهم، ولكن لصالح الأمة والجماعة، لأنه لا يمكن لأمة أن تقوم وأفرادها يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالحها، فيتحتم عليهم الكف عن القتال، حتى يتربى المسلمون على هذا النوع الجديد من الصبر. الحكمة الثانية: التربية على الطاعة لقيادة هذه الأمة الناشئة؛ لأن الاختبار الحقيقي للطاعة هو أن تطيع دون جدل ولا ضجر ولا اعتراض، في أمر لا تهواه نفسك في غير معصية للخالق سبحانه وتعالى، هذا هو المقياس الحقيقي للطاعة، كما حصل من خباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ خباب رأى أن استعجال النصر مصلحة في ذلك الوقت، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه ذلك، فأوضح له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وبين له ضرورة الصبر. حينها سمع وأطاع وكف اليد وقبل الأمر، وتعلم شيئاً في منتهى الأهمية للجماعة وهو الطاعة لولي الأمر، لا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة، ومن غير هذا الجو من التعذيب والأمر بالصبر عليه لن يتعلم المسلمون الطاعة في مشوار حياتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده. إذاً: كانت الحكمة الثانية: تربية المسلمين على الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأي قائد ما لم يأمر بمعصية لله عز وجل. الحكمة الثالثة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الدعوة السلمية في هذه البيئة كانت تعطي نتائج أفضل. ولبيان هذا الأمر نطرح سؤالاً: هل الغرض في النهاية هو حكم مكة أم إسلام مكة؟ الغرض إسلام مكة، ولا يهم من الذي سيحكمها بعد ذلك، المهم يحكمها بكتاب ربنا سبحانه وتعالى وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن هذه البيئة المكية ألفت العنجهية والشرف والعلو والعزة، ولو فرضت عليها الرأي بالقوة لن تقبله، وسيحدث صراع مبكر بين المؤمنين والكافرين، وسيرفض الكافرون الدخول في هذا الدين عناداً، فهم يعاندون لضعف المسلمين، فكيف لو فرضوا عليهم الرأي بالقوة؟! إذاً: لابد للداعية أن يدرس نفسيات من يدعوه من الناس، فمنهم من يتأثر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم من يتأثر بذكاء عقله، أو بقوة بدنه، ومنهم من يتأثر بلطفه وأدبه، وهكذا خلق الله عز وجل الناس مختلفين، ولابد للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ويراعي ظروف المدعو، وظروف البيئة التي يعيش فيها. الحكمة الرابعة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: تجنب الفتنة الخطيرة التي ستحدث في مكة وتؤدي إلى سمعة سيئة بالإسلام، وإلى الفتنة العظيمة، ولم يكن في أرض مكة حكومة مركزية تقوم بتعذيب الناس، بل تكفل كل زعيم بأتباعه، تكفل الوالد بولده، وشيخ القبيلة بأفراد قبيلته، والسيد بعبده، فمثلاً: مصعب بن عمير عذبته أمه، وعثمان بن عفان عذبه عمه، وخباب بن الأرت عذبته سيدته وهكذا، فلو قاتل المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم، فإنهم سيقاتلون آباءهم وأعمامهم وقبائلهم، وفي هذا الموقف ما الذي سيقال عن الإسلام؟ إذا كان الكفار قد ادعوا أن الإسلام يفرق بين الولد ووالده، وبين الرجل وعشيرته، وبين المرء وزوجه من دون قتال، فكيف لو كان هناك قتال؟! إذاً: كانت هناك حاجة ملحة لتجنب الفتنة الكبيرة في داخل مكة، وللحفاظ على الصورة الجميلة للإسلام، وهي الصورة الواقعية لهذا الدين العظيم. الحكمة الخامسة في كف المؤمنين عن القتال في مكة: أن الله عز وجل يعلم أن كثيراً من أهل الكفر سينتقلون بعد ذلك من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان، فالدعوة ما زالت في مهدها، ولم تأخذ الفرصة الكافية للوصول إلى قلوب الناس، وكثير منهم سيعترض في البداية ويتشدد، ثم لا يلبث أن يتبدل الأمر في أعينهم، من هؤلاء عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل، فكل هؤلاء أصبحوا بعد ذلك قادة يأخذون الإسلام إلى كل ربوع الأرض، فلو حصل ا

هجرة الحبشة الأولى

سلسلة السيرة النبوية_هجرة الحبشة الأولى عادة ما تتطلب الدعوات وهي تعيش على المحك بين حياتها وموتها إلى قرار صعب يقلب الموازين لصالحها، ومن هذا الباب اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه قرار الهجرة إلى الحبشة، ذلك البلد البعيد الذي يحكمه ملك عادل، أمر بالهجرة أشراف أصحابه؛ لضمان سلامتهم، وحسن استقبالهم، ومن أجل إنصات الناس هناك في الحبشة لدعوتهم.

أسباب الهجرة إلى الحبشة والحكمة منها

أسباب الهجرة إلى الحبشة والحكمة منها إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية المطهرة. تحدثنا عن أساليب الكفار في صد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين عن طريق الدعوة والإسلام، وعن ثبات المؤمنين وصبرهم على التعذيب الشديد الذي حدث في أرض مكة في بيت الله الحرام، حيث تفرغ الكفار لحرب المؤمنين، وبدا واضحاً أن النية هي الاستئصال للطائفة الوحيدة التي تعبد الله حق العبادة على الأرض. مسئولية ضخمة تقع على عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتْباعه: أن يصلوا بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعاً، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لكم خاصة وللناس عامة)، وقد اشتد التعذيب بالمؤمنين في مكة، وكاد المسلمون أن يستأصلوا بالكلية، حينها يظهر حل عملي لإنقاذ الدعوة من الهلاك، وهو نوع من الأخذ بالأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخطط تخطيطاً بشرياً لإنقاذ الدعوة ولإنقاذ المؤمنين. كان من الممكن أن ينقذ الله عز وجل حبيبه ومن معه من المؤمنين بكلمة (كن) فيكون، أو ينقذهم بمعجزة خارقة للعادة، ولكن ليست هذه سنة الله عز وجل في التغيير، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نأخذ بالأسباب الواقعية التي كانت في يده كبشر، وهي في أيدينا الآن كبشر، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسيلة جديدة لمجابهة طغاة مكة، ولم يكن في مقدور المؤمنين آنذاك أن يقاتلوا المشركين، فقد نهاهم الله عز وجل عن ذلك بقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106].

الهجرة إلى الحبشة للمحافظة على الدعوة

الهجرة إلى الحبشة للمحافظة على الدعوة كانت الوسيلة الجديدة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هي الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء أو استئصال للدعوة. هذه خطوة تكتيكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبقتها إشارات جاءت في كتاب الله عز وجل، فقد أنزل الله عز وجل سورة الزمر، وكان فيها: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. إذاً: أرض الله واسعة، وأعظم قطعة في الأرض هي القطعة التي يعبد فيها الله عز وجل، لا تفضل قطعة أخرى بأنهار أو أشجار أو أموال أو أهل وعشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله عز وجل، لذلك فكر المسلمون في ترك أشرف بقعة على الأرض مكة البيت الحرام إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله عز وجل كما يريدون في مكة، فليكن غيرها، المهم أن نعبد الله عز وجل دون أن نفتن في ديننا. والهجرة وترك الديار والعشيرة ليس أمراً سهلاً، فالقرار صعب، ويحتاج إلى نفوس خاصة، ولابد أن نأخذ في الاعتبار أنهم لا يهاجرون من بلد إلى بلد لتحسين مستوى المعيشة، أو لجمع أموال ليست في بلادهم، أو لتحصيل علم ليس في مدينتهم، أو للحياة في مكان جميل، لا، بل هم يتركون بلادهم وقد استقرت أوضاعهم فيها لولا قضية الدعوة، سيتركونها إلى بلد آخر قد يكون فقيراً بعيداً حاراً أو بارداً مجهولاً، كل هذا لا لشيء إلا لعبادة الله عز وجل. تخيل بمقياس الحاضر رجلاً يعيش في استقرار في بلد محبوب إلى قلبه، وأوضاعه مستقرة، ثم هو يقرر الهجرة إلى بلد آخر؛ لكي يعبد الله عز وجل بعد أن ضيق عليه في بلده. لو كان سيهاجر إلى بلد أعظم رفاهية وأكثر أموالاً، لكن هذا أسهل، لكن أن يهاجر إلى بلد لا تهفو النفوس إليه عادة، فهو يحتاج إلى جهاد عظيم للنفس؛ ولذلك عظم الله أجر الهجرة عندما تكون في سبيله، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:58 - 59]. لم يهاجر المؤمنون سعياً وراء الرزق، ولكن في ظاهر الأمر أنهم سيفتقدون الرزق؛ لأنهم سيتركون أعمالهم ويهاجرون إلى بلد قد لا يتوافر فيه عمل مناسب، فوعدهم الله عز وجل بالرزق الحسن في الجنة، فإنه على أسوأ الفروض في حسابات البشر سيقتل المهاجرون أو يموتون، فالله عز وجل يعد -ووعده الحق- أنهم لو قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً، بالإضافة إلى أنه قد علم المؤمن أن رزقه في الدنيا لن ينقص، وسيأتيه رغماً عن أنفه في بلده أو خارج بلده، في ظروف أو في ظروف أخرى {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]. إذاً: نقف وقفة نحلل فيها، ونحاول الإجابة على سؤال هام: هل قرر المسلمون الهجرة للحفاظ على الدعوة أم الدعاة؟ قد تكون الفروق بين الإجابتين طفيفة، لكن عند التدقيق في الأمر نجد أن الفرق كبير جداً، هل يضحى بالدعوة من أجل الحفاظ على الدعاة، أم يضحى بالدعاة من أجل الحفاظ على الدعوة؟ واقع الأمر أن أهم شيء في حياة المؤمن هو الدين، والمقصد الأول من المقاصد التي جاء الشرع لحمايتها هو الدين، ومن أجله يضحى بكل شيء. إذاً: يبذل المؤمنون أرواحهم للدفاع عن الدين، لكن لا يبذل المؤمنون دينهم للحفاظ على أرواحهم، بل يحض الله عز وجل المؤمنين على بذل أرواحهم حفاظاً على دينهم {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]. إذاً: السبب الأول في الهجرة التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو حماية الدعوة، بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل للدعوة محضناً آخر غير مكة، بحيث إذا استؤصل الدعاة في مكة تبقى طائفة أخرى في مكان آخر لاستمرار الدعوة. إذاً: لم يكن السبب الأول في الهجرة هو الحفاظ على أرواح الدعاة، وإن كان هذا أمراً هاماً، ويؤيد هذا الرأي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يهاجر الصحابة رضوان الله عليهم للحفاظ على الدعوة لا على الدعاة، والذين طلب منهم أن يهاجروا كانوا من القرشيين، ولم تطلب الهجرة من الذين كانوا عبيداً، إنما هاجر القوم الذين يتمتعون بعصبية وقبلية، هاجر الأشراف أصحاب المنعة، ولم يهاجر الموالي والمستضعفون، ولو كان الهدف الأول هو حماية الأرواح لكان الأولى أن يهاجر هؤلاء الضعفاء.

سبب هجرة أشراف مكة من الصحابة إلى الحبشة

سبب هجرة أشراف مكة من الصحابة إلى الحبشة نقول: لماذا هاجر الأشراف دون البسطاء؟ أولاً: هذا أدعى لحماية المهاجرين، فأمر الهجرة أمر خطير، قد تطارد مكة فوج المهاجرين، بل بالتأكيد ستطاردهم، وفي لحظات الغضب والغيظ قد يتهور أهل مكة ويقتلون المهاجرين المطاردين، وبالذات لو كانوا من العبيد، أما إذا كانوا من الأشراف فإن عملية الهجرة ستصبح أقل خطورة، حيث إنه لو تم الإمساك بهم فسيحملونهم إلى مكة، ولن يفكروا في قتلهم لقوة قبائلهم. ثانياً: أن الأشراف أقدر على التأثير في أهل البلد الذي سيهاجرون إليه؛ لأن من طبائع البشر أنه إذا تكلم الشريف سمعوا له وأنصتوا، وإذا تكلم الضعيف لم ينتبه له، والغرض هو إيصال كلمات الدعوة إلى آذان البلد المضيف، وعرض الأمر بأفضل الصور، وسيستقبل المهاجرون في هذه الحالة على أنهم وفد سياسي محترم معارض لسياسة مكة، بدلاً من أن يستقبلوا كمجموعة من العبيد الآبقين من أسيادهم. ثالثاً: هجرة الأشراف ستؤدي إلى هزة اجتماعية خطيرة في مكة، ستفيق أهل مكة على خطورة أفعالهم، فهؤلاء المؤمنون المطاردون هم من خيرة أهل البلد، ومن أكثر الناس سعياً لإصلاحها، ومن أعرق البيوت، ومن أشرف الناس، وها هم يغادرون البلد؛ لأنهم لم يجدوا فيها أماناً، ما أبشع فعل أهل الباطل، وما أشنع جريمتهم، أهؤلاء هم الذين يطردون؟ أهؤلاء هم الذين يفتنون في دينهم؟ فهجرة الأشراف ستكون صدمة لأهل مكة قد ينتبهون على أثرها إلى خطئهم الفادح في حق المهاجرين وفي حق بلدهم، أما إذا هاجر المستضعفون فلا ضير، أليسوا عبيداً تركوا البلد؟ فلنأت بعبيد آخرين، هكذا سيفكر الطغاة، إذ ليس هناك اعتبار للآدمية أو الإنسانية. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدفع المشركين دفعاً إلى تحريك عواطفهم وقلوبهم؛ لإدراك مدى الجريمة التي يفعلونها مع المؤمنين في صدهم عن دين الله عز وجل، لهذه الأسباب هاجر الأشراف ولم يهاجر الضعفاء. إذاً: الملاحظة الأولى: هي هجرة الأشراف، والتي تشير إلى أن الهدف الأول من الهجرة لم يكن حماية الأرواح ولكن حماية الدعوة والدين.

سبب مكث المهاجرين في الحبشة إلى ما بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

سبب مكث المهاجرين في الحبشة إلى ما بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة متى عاد المهاجرون من الحبشة إلى الصف المسلم من جديد في فترة مكة أم في فترة المدينة؟ مكث المهاجرون في الحبشة مدة تزيد على (15) سنة متتالية، كانت هجرتهم الأولى إلى الحبشة في العام الخامس من البعثة في شهر رجب ثم عادوا سريعاً إلى مكة بعد ثلاثة أشهر، ثم هاجروا من جديد هجرتهم الثانية إلى الحبشة في السنة السابعة، ولكنهم مكثوا في الهجرة الثانية طويلاً، ولم يرجعوا إلا بعد غزوة خيبر. مرت أحداث في غاية الأهمية والخطورة على المسلمين في بناء الأمة الإسلامية، ومع ذلك لم يرجع المهاجرون من الحبشة، ولم يكن هذا اجتهاداً شخصياً من المهاجرين، بل كان بأمر من قيادة المسلمين المتمثلة آنذاك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، ومر تأسيس الدولة الإسلامية، وكان البناء صعباً، وكان عدد المسلمين قليلاً، والعدد في الحبشة كبيراً تجاوز الثمانين، وهم قوة لا يستهان بها، فعدد المهاجرين في غزوة بدر كان نفس عدد المهاجرين إلى الحبشة، ومع ذلك لم يطلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرت الغزوات العظام بدر ثم بنو قينقاع ثم أحد ثم بنو النضير ثم الأحزاب ثم بنو قريظة، ثم الحدث الكبير العظيم الهام وهو صلح الحديبية. وبعد صلح الحديبية أمن المسلمون على أنفسهم، وأصبحت لهم دولة لها كيان محترم تعقد به الأحلاف والمعاهدات على أعلى مستوى، يرهب جانبها ويحترم رأيها، فهنا شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أصبح من الصعب استئصال المسلمين، لقد كان ممكناً في أي لحظة قبل صلح الحديبية أن يستأصل المسلمون، وأقرب مثال على هذا غزوة الأحزاب؛ حيث أراد الكفار الإنهاء الجذري للإسلام في المدينة، لكن الله عز وجل كتب النصر للمؤمنين، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). عندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول لحظات الأمان في المدينة أرسل في طلب المهاجرين في الحبشة، أرسل إليهم عمرو بن أمية رضي الله عنه وأرضاه، فجاءوا في العام السابع من الهجرة بعد فتح خيبر. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأمور بحكمة سياسية رائعة، كان يحافظ على نواة للمسلمين هناك في مكان آخر بعيد مثل الحبشة، فإذا هلك المسلمون في المدينة حمل المهاجرون في الحبشة اللواء، وكان المسلمون في الحبشة يقومون بدور المخزون الإستراتيجي الهام للمسلمين، وكانوا على استعداد للرجوع إلى المدينة في أي لحظة إذا طلبت منهم القيادة ذلك. كانت الأدوار موزعة على المسلمين بدقة، طائفة من المسلمين يقومون بالبناء هناك في أواخر الفترة المكية، وفي فترة المدينة هذه الطائفة معرضة لخطر شديد تقابل الموت في كل لحظة، وهناك طائفة أخرى كامنة في الحبشة، في ظاهر الأمر هم غير معرضين للأذى، لكن مهمتهم في غاية الخطورة، لقد كان عليهم أن يحملوا الدعوة بمفردهم إذا هلك المسلمون في المدينة، وقد يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً وتصبح الأمانة معلقة في رقابهم وحدهم، وهنا يتضح أمران: الأول: أن هذا التوزيع للأدوار تم بمعرفة قيادة المسلمين المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هناك طاعة عظيمة جداً من الطرفين؛ الطرف الذي يعمل في المدينة، والطرف الذي يعمل في الحبشة، ولو ترك الأمر لكل فرد لدخل الهوى في الاختيار، قد يكون هوى المرء أن يظل بعيداً عن أرض القتال هناك في الأمان في الحبشة، وقد يكون هوى المرء أن يعمل للإسلام في مكان معين، كأن يعمل بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في قبيلة كذا أو كذا. فحتى لا يتدخل الهوى في الاختيار وزع القائد صلى الله عليه وسلم الأدوار على المسلمين، وأطاع المسلمون في أدب جم، إذ لا يشترط الجندي الصادق عملاً معيناً أو مكاناً معيناً؛ لأن الجندي في الإسلام يعمل لله عز وجل، وفي كل مكان يوضع فيه بنفس الحمية، كما أن الأمر يحتاج أيضاً إلى تنظيم، مَنِ الذي يقوم بهذا الدور؟ ومن الذي يقوم بالدور الآخر؟ وحتى لا تختلط الأدوار على الناس يرجع في هذا إلى قيادة المسلمين والشورى ورأي المجموعة، وكل ذلك من أساسيات العمل الجماعي السليم الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن المسلمين المهاجرين في الحبشة لم يكونوا في حالة ركون أو فتور، بل كانوا في إعداد وتدريب مستمر، لقد كان مستوى الإيمان لديهم رائعاً، وكان الاستعداد النفسي للعودة والمشاركة والوقوف في الصدارة ومواجهة الموت كاملاً، يثبت ذلك أنهم لما جاءتهم إشارة العودة عادوا دونما ضجر ولا اعتراض ولا إبطاء ولا طلب لفترة تجهيز وانتقال، ولما وصلوا إلى المدينة انخرطوا في الصف بسرعة، وحملوا المشاق مع المسلمين وكأنهم عاشوا معهم كل التجارب السابقة، حتى إنهم لما وصلوا إلى المدينة علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح خيبر، وهي على بعد مائة كيلو في شمال المدينة المنورة، فتوجهوا جميعاً إلى خيبر للمشاركة في الغزو فوجدوها قد فتحت، وسر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جداً، وقال: (

أسباب ومزايا اختيار الحبشة دون غيرها للهجرة إليها

أسباب ومزايا اختيار الحبشة دون غيرها للهجرة إليها لماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبشة بالذات ليهاجر إليها المسلمون؟ لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فكر كثيراً في المكان الذي يمكن أن يرسل إليه المسلمين، ولعل أقرب الأماكن إلى الذهن هو أن يرسلهم إلى مكان في الجزيرة العربية عند قبيلة من القبائل، فقد كانت هناك تجمعات قبلية كبيرة وكثيفة وكثيرة في جزيرة العرب، هناك ثقيف في الطائف، وهوازن في حنين، وبنو حنيفة في شرق الجزيرة، وعبس وذبيان في شمال المدينة وغيرها كثير، وهذه القبائل تتميز بكونها تعيش في ظروف مقاربة جداً لظروف المسلمين في مكة، ولن يشعر المسلمون بتغير كبير في طبيعة الحياة، كما أنهم يتكلمون العربية، بالإضافة إلى قرب المسافة، فإذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين قدموا سريعاً، هذه كلها مزايا موجودة في هذه القبائل، لكن هذه القبائل كانت كلها مشركة، وإن لم تعلن العداء السافر للمسلمين، إلا أنها كلها تكنُّ قدراً عظيماً جداً من الاحترام لقريش، ولاشك أن القرشيين لو طلبوا المسلمين ما ترددت هذه القبائل في دفعهم للكفار من أهل مكة. إذاً: اختيار القبائل المحيطة بمكة في جزيرة العرب لم يكن اختياراً سليماً، ولعله صلى الله عليه وسلم أيضاً فكر في يثرب التي أصبحت بعد ذلك المدينة المنورة، لكن يثرب في هذه الآونة لم يكن فيها مسلم واحد، كما أنها بلد متقلب بسبب الحروب بين الأوس والخزرج، كما أن اليهود يسكنون منذ زمن في هذه البلاد، وتاريخ اليهود لا يبشر بأي خير. ولعله صلى الله عليه وسلم قد فكر في العراق حيث القبائل العربية الكثيرة التي تعيش في هذه المناطق، مثل: بني شيبان، ولكن هذه القبائل بالإضافة إلى كونها جميعاً مشركة فإنها على ولاء شديد وتحالف مع الفرس، وعادة ما يكره الملوك الدعوات الإصلاحية، فلن يرحب كسرى فارس بهذا القدوم للمسلمين. ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً قد فكر في الشام أيضاً فهناك قبائل عربية تعيش فيها، مثل: قبائل الغساسنة، لكنها على الجانب الآخر موالية للروم، ولن ترحب أيضاً باستقبال هذه الدعوة الجديدة، ولعله أيضاً قد فكر في مصر، لكن مصر برغم أن بها ملكاً معتدلاً وهو المقوقس إلا أنها محتلة من الرومان، ولا تملك في ذلك الوقت من أمرها شيئاً. ولعله أيضاً صلى الله عليه وسلم قد فكر في اليمن، لكنها كانت محتلة من قبل فارس، ولن يقبل الفرس بقدوم المسلمين، لاشك أنه صلى الله عليه وسلم فكر في كل هذه الأماكن؛ لأنها قريبة ومنطقية وغالبها عربي باستثناء مصر، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يجدها مناسبة؛ لذا جال وبرز في ذهنه صلى الله عليه وسلم الاختيار الأخير، والذي يبدو عجيباً في نظر الكثيرين حتى في نظر المعاصرين له صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختيار هو الحبشة. لقد كان اختيار الحبشة عجيباً، وإن دل على شيء فإنما يدل على سعة اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى حكمته في نفس الوقت، والحبشة وإن كان بها بعض العيوب الملموسة إلا أن مزايا الاختيار تفوق عيوبها. من عيوب الحبشة: أنها بعيدة عن مكة، وهذا يصعب الاتصال والمراسلات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مجموعة المهاجرين. أيضاً: اختلاف اللغة، فهي مختلفة بالكلية عن اللغة العربية. كما أن العادات والطبائع لأهل الحبشة مختلفة كثيراً عن عادات العرب، مما قد يؤدي إلى الصعوبة النسبية في الحياة هناك، لكن لها مزايا. الميزة الأولى: كان الحاكم في الحبشة عادلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد)، لم يعلق الرسول صلى الله عليه وسلم على شيء في حياة الرجل ولا دينه، ولكن علق على عدله، ما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بين من أهل مكة، لكن ملك الحبشة النجاشي رحمه الله كان عادلاً، وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بغض النظر عن ديانتهم أو حبهم أو كراهيتهم، فالعدل أساس من أسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا والآخرة. فكان من سعة الأفق للرسول صلى الله عليه وسلم وشمول النظرة وعمق الفكر أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية لأصحابه، وهو درس للدعاة أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم، حتى زمن الاستضعاف، فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من أمثال هؤلاء وإن اختلف دينه عن دينهم. هذه كانت الميزة الرئيسية في أرض الحبشة. الميزة الثانية: يعيش في أرض الحبشة نصارى، والمسلمون كانوا يشعرون بقرب إلى النصارى، فهم أهل كتاب أيضاً، وظهر ذلك واضحاً من تعاطف المسلمين مع الروم في حربهم ضد فارس الوثنية، وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أن قلوب النصارى ستكون أقرب إلى الدعوة من غيرهم، وقد نزل القرآن بعد ذلك بسنوات عديدة ليؤكد على هذا المعنى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّ

وقفات مع الهجرة إلى الحبشة

وقفات مع الهجرة إلى الحبشة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (14) مؤمناً أن يهاجروا إلى الحبشة: (10) رجال و (4) نساء هن زوجات، كانت هذه هي الطليعة الأولى من المهاجرين، وأنا أريد أن أقف وقفتين في غاية الأهمية عند هذا الموقف. الوقفة الأولى: من أول من هاجر من المسلمين؟ أسماؤهم تحتاج إلى وقفة طويلة، فالأول: هو عثمان بن عفان الأموي رضي الله عنه وأرضاه وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا له من موقف، أعمق وسيلة من وسائل التربية هي وسيلة التربية بالقدوة، لقد أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوامره بالهجرة وترك الديار، ثم لم يعزل نفسه صلى الله عليه وسلم عن الأذى من هذه الهجرة، فها هي ابنته السيدة رقية حبيبة قلبه صلى الله عليه وسلم تهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين، بل تسبق المهاجرين، ويذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين، من المستحيل أن يتأثر الجنود بقائدهم إلا إذا شعروا أنه معهم في خندقهم، ما أسهل أن تأمر بالتقشف والهجرة، بل والموت، لكن كل ذلك لا يؤثر في أحد إلا إذا قرن بعمل التربية القدوة. رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل قائد: إذا أردت أن تملك قلوب شعبك وأتباعك فانزل إليهم وعش معهم وخالطهم، افرح بما يفرحون به، وتألم مما يتألمون منه، شاركهم في طعامهم وشرابهم وسفرهم وسعيهم وقتالهم، عندئذ اعلم أنك امتلكت قلوبهم. الاسم الثاني في هذه الهجرة كان أيضاً من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه جعفر بن أبي طالب الهاشمي القرشي رضي الله عنه وأرضاه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر هو وزوجته السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها. وكذلك بقية الأسماء معظمهم من أصحاب الشرف والمكانة والمنعة مثل: عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة. والزبير بن العوام من بني أسد. وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم. وأبو حذيفة بن عتبة من بني عبد شمس. ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وهكذا معظم المهاجرين من أشراف مكة. الوقفة الثانية: أن المسلمين أخذوا بكل الأسباب الممكنة لضمان نجاح عملية الهجرة، لم يقولوا: نتوكل على الله عز وجل وندعوه، ثم نسلم أمرنا بغير إعداد، لا، بل أخذوا بكل الأسباب التي في أيديهم. أولاً: خرج المسلمون في سرّية كاملة ولم يعلموا أحداً أبداً بهجرتهم. ثانياً: لم يخرجوا مجموعة واحدة، بل خرجوا متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم. ثالثاً: لضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً من أنفسهم، اختار لهم عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه من بني جمح. رابعاً: التنوع الملموس من قبائل مكة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج من كل قبيلة رجلاً، وبذلك لا تستطيع مكة أن تتحزب ضد قبيلة معينة، لقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قبيلة واحداً، فأصبح الموقف صعباً على أهل مكة، كما أنه من الناحية الأخرى سوف يكون لهذا الوفد تأثير واضح على ملك الحبشة، فهذا الوفد المكون من خليط من قبائل مكة كأنه سفارة رسمية تمثل شعب مكة، لا يخطر أبداً على ذهن النجاشي أن هذه حركة قبائلية بحتة، بل هي دعوة دينية أخلاقية لا تفرق بين قبيلة أو أخرى، وهذا سيكون أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند ملك الحبشة. في هذه الهجرة أخذ صلى الله عليه وسلم بكل الأسباب المادية وفي كل أموره، حتى يعلمنا كيف نسير على دربه وعلى طريقه صلى الله عليه وسلم. خرج المؤمنون من مكة خفية، واجتمعوا عند ساحل البحر، ولكن مع كل هذا استطاع أهل مكة أن يعرفوا وجهتهم وأن يلحقوا بهم؛ فحرب الحق والباطل ليس لها نهاية إلى يوم القيامة، هنا كان من الممكن أن تجهض محاولة الهجرة، ولكن المسلمون ابتهلوا إلى الله عز وجل أن ينجيهم مما لحق بهم، في هذه اللحظة وجدوا سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة فركب المسلمون في إحداهما، وانطلقوا باسم الله في وسط البحر، ولم يستطع المشركون أن يلحقوا بهم. لقد استنفد المسلمون الوسع، وأخذوا بكامل الأسباب، ولكن المشركون لحقوهم؛ ليلجأ المسلمون إلى الله عز وجل، وليعلموا أن الأخذ بالأسباب لا ينفع إلا إذا أراد الله عز وجل، وليدركوا حق الإدراك أن الكون بيد الله عز وجل يصرفه كيف يشاء. وصل المسلمون بأمان إلى الحبشة، وكما توقع رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبلهم النجاشي خير استقبال، وجلسوا عنده في أكرم حال، ولم يلقوا عنتاً ولا إيذاء ولا مشقة.

قصة إسلام حمزة وعمر وسجود المشركين لآية سورة النجم وأثر ذلك على المسلمين في مكة والحبشة

قصة إسلام حمزة وعمر وسجود المشركين لآية سورة النجم وأثر ذلك على المسلمين في مكة والحبشة بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة حدثت في مكة أمور عظام في ظاهرها بسيطة، ولكنها محطات تغيير هامة ليس في أوضاع مكة فقط، بل في خريطة العالم. مما حدث في مكة: أولاً: آمن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانياً: بعده بثلاثة أيام فقط آمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وستحمل الأيام مفاجآت عظيمة لأهل الأرض جميعاً، سيرون كيف أن هذا الرجل البسيط عمر الذي آمن في هذه البلدة الصغيرة مكة سيقود جيوش المؤمنين ليكسر شوكتي فارس والروم، وليوحد أطراف العالم في خلافة واحدة، آمن الفاروق في مكة فحدثت تغييرات جذرية في سياسة المؤمنين، منها ما يتعلق بقضية الهجرة إلى الحبشة، آمن عمر بن الخطاب فظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثير من المسلمين إسلامهم، بعد أن أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقلّ إلى حد كبير التعذيب الوحشي الذي كانت تقوم به قريش للمؤمنين، وعاش المسلمون في مكة لحظات عظيمة من السعادة التي لم تمر بهم منذ زمن طويل، سعادة بإسلام البطلين العظيمين الجليلين: حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وسعادة بإحساس الأمان النسبي الذي شعر به المسلمون للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات، وسعادة بشعور العزة والفخر بهذا الدين وباتباعه. طارت أنباء هذه السعادة إلى الحبشة، وتواصلت قلوب المؤمنين في الحبشة مع قلوب المؤمنين في مكة وشعروا بنفس السعادة، وشعروا فوقها بسعادة العودة إلى أرض الوطن وإلى أرض الأجداد والعشيرة وإلى البيت الحرام، شعر المسلمون أن وقت العودة إلى مكة سيكون قريباً إن شاء الله. تزامن مع حدث إسلام البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما حدث آخر عجيب تم في مكة في ساحة البيت الحرام في رمضان من السنة الخامسة من البعثة، كان من أسلوب الكافرين لمنع الناس من التأثر بكلام الله عز وجل أن يمنعوا أنفسهم من السماع أصلاً؛ لأنهم يعلمون أنه لو سمع أحدهم القرآن فقد يؤمن به: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، كانت هذه هي سياستهم، ولكن في رمضان من السنة الخامسة من البعثة حدث هذا الموقف الغريب: كان المشركون مجتمعين في البيت الحرام، وكان معهم المؤمنون أيضاً، وكان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف في وسط الناس وبدأ يقرأ سورة من سور القرآن الكريم تلاوة عليهم، وهي سورة النجم كاملة: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:1 - 12]. فانبهر المشركون بروعة الكلمات والآيات، وبالكلام العجيب الذي لا يقدر عليه بشر، ولم يحركوا ساكناً، نزلت الآيات كالقوارع على قلوبهم، خرست الألسنة، وتسمرت الأقدام، وتعلقت العيون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يكمل القراءة بصوته العذب، بل بدأ يقرأ آيات تسفه أصنام قريش وآلهتهم المزعومة {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:19 - 23]. ومع أن الآيات تهين آلهة قريش وتحقر من شأنها إلا أن المشركين لم ينطقوا بكلمة، بل ظلوا يستمعون القرآن وقد انبهروا انبهاراً كاملاً، وأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة بكاملها إلى أن وصل إلى آخرها، حتى قرأ آية السجدة: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ

قرار عودة المهاجرين من الحبشة إلى مكة والآثار المترتبة على ذلك

قرار عودة المهاجرين من الحبشة إلى مكة والآثار المترتبة على ذلك وصل إلى أسماع المسلمين في الحبشة أن مكة قد آمنت ودخل أهلها في الإسلام، قالوا: لقد آمن حمزة وعمر رضي الله عنهما، وظهر المسلمون، وصاروا أعزة، ثم سجد المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً بما يقول، وقد أصبحت مكة الآن مسلمة، فما الفائدة من البقاء في الحبشة بعد إيمان مكة؟ كيف حدث هذا الخطأ عند المسلمين في أرض الحبشة؟ لابد أنه وقع خطأ في نقل الأخبار من مكة إلى الحبشة أو خطأ في فهم الخبر الصحيح، ولكن في الحالتين ترتب على هذا الخطأ إرهاق شديد جداً للمسلمين في الحبشة. لقد قرر المسلمون أن يعودوا إلى مكة، وذلك بعد إشاعة غير صحيحة جاءت من مكة إلى الحبشة، كم من الأثمان يدفعها المسلمون ثمناً للشائعات، وكم من الوقت والمجهود والمال يضيع جراء الشائعات، وعلى المسلمين دائماً أن يتبينوا قبل أخذ القرار، وفي اعتقادي أنه كان يجدر بالمهاجرين أن يرسلوا رسولاً واحداً منهم إلى مكة ليستوثق من الخبر، قبل أن يجمعوا أنفسهم ونساءهم وأطفالهم ويعودوا هذا المشوار الطويل المرهق عبر البحار والصحاري، أو أن ينتظروا رسالة واضحة من قائدهم المحنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان سيرسل إليهم حتماً بالخبر لو أن مكة آمنت فعلاً، وأن المصلحة في أن يعودوا إلى مكة، لكن هذا لم يحدث، وعاد المسلمون وركبوا البحر لمسافات طويلة، وجاءوا إلى مكة وقلوبهم ترقص من الفرحة، ثم كانت الصدمة القاسية، لقد اكتشفوا أن الخبر كان مجرد إشاعة! مر المسلمون بمعاناة كبيرة بسبب هذه العودة، لكن بفضل الله كان المسلمون على حذر كافٍ عندما اقتربوا من مكة، فقد انتظروا إلى الليل، ووقفوا خارج مكة، وأرسلوا رسولاً، وجاء لهم بالخبر أن أهل مكة ما زالوا مشركين، نعم، مشكلة ضخمة، لكن اجتمع المسلمون وعقدوا مجلساً للشورى، وخرجوا من اجتماعهم بثلاث توصيات، واستقروا على أن يقسموا عليهم هذه التوصيات الثلاث. التوصية الأولى: أن يعود غالبيتهم مرة ثانية إلى الحبشة دون دخول مكة. وهذا أمر شاق على النفس، ولكنه سيكون أكثر أمناً. التوصية الثانية: أن يدخل بعض المسلمين إلى مكة سراً متخفين لقضاء بعض المصالح لهم ولبقية المهاجرين، ثم العودة بعد ذلك إلى الحبشة، ومفهوم ذلك أنهم لن يبقوا في أرض مكة إلا فترة بسيطة؛ لأن مكة مدينة صغيرة ومن المستحيل أن يختبئ فيها رجل عن عيون الناس لفترة طويلة. التوصية الثالثة: أن يدخل بعضهم إلى أرض مكة جهاراً ولكن في جوار واضح وحماية معلنة، حتى لا يعرض للقتل أو للتعذيب الشديد، وهؤلاء سوف يشرحون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال الحبشة، ويتبادلون الخبرة مع مؤمني مكة بخصوص أمر الهجرة. وتم بالفعل هذا الاتفاق وعاد الغالبية إلى الحبشة دون دخول مكة، ودخل بعضهم مكة سراً ثم عادوا بعد ذلك إلى الحبشة ودخل بعضهم مكة في وضوح، أما الذين دخلوا مكة في إعلان فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن مظعون رضي الله عنهم، فدخل عثمان بن عفان الأموي في حماية قبيلته القوية بني أمية، أما عثمان بن مظعون فقد دخل في جوار الوليد بن المغيرة المشرك وهو من قبيلة بني مخزوم، وذلك لأن قبيلة عثمان بن مظعون بنو جمح وكانت من أشد القبائل محاربة له شخصياً، وكان من أشدهم عليه أمية بن خلف الجمحي لعنه الله. فدخل عثمان بن مظعون في إجارة الوليد بن المغيرة، وكانت إجارة غير مشروطة، وقد قلنا بأن المشركين قد رفعوا أيديهم نسبياً عن المسلمين بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ولكن جدت أمور جعلت المشركين ينشطون من جديد لتعذيب المسلمين. أولاً: أن سجود المشركين في الكعبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب بلبلة في أرض مكة، ومن كان متردداً في الإيمان فلابد أن يفكر الآن بجدية، وبالذات في ظل الحماية المادية والمعنوية التي يقدمها فارسا قريش حمزة وعمر رضي الله عنهما؛ لذلك فكرت قريش في إعادة البطش والتعذيب لمنع المد الإسلامي الجارف في مكة. ثانياً: وصلت إلى مكة أنباء الاستقبال الحافل والكريم الذي قدمه النجاشي للمهاجرين المسلمين، وهذا رفع من معنويات المسلمين من ناحية وأحبط معنويات الكفار من ناحية أخرى، فمشركو مكة كانت لهم علاقات تجارية وصداقة مع النجاشي، ولاشك أن هذه الأمور قد تتأثر بالصداقة والوفاق الجديد مع المسلمين، لهذا قررت مكة أن تنشط في مواجهة الدعوة، فماذا فعلت؟ الوسيلة الأولى: قررت قريش منع المؤمنين من السفر، وقامت بتشديد الحراسة على مخارج مكة، ومطاردة كل من خرج من المؤمنين من مكة، ووضعوا على قائمة الممنوعين من السفر كل من عرف عنه الإيمان أو اشتبه في إيمانه، كل هذا لوقف الهجرة إلى الحبشة

هجرة الحبشة الثانية

سلسلة السيرة النبوية_هجرة الحبشة الثانية تمثل الهجرة إلى الحبشة للمرة الثانية في تاريخ المسلمين جولة من جولات الصراع بين الحق والباطل بكل تفاصيلها، فلجوء أهل الإيمان للهجرة إلى مكان آمن، ولحاق أهل الباطل بهم وملاحقتهم لهم من نماذج ذلك الصراع الباقي ببقاء الإسلام والكفر.

الهجرة الثانية إلى الحبشة

الهجرة الثانية إلى الحبشة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية. تحدثنا عن الهجرة إلى الحبشة، وكيف هاجر المسلمون، وكيف استقبلوا هناك، ولماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة دون غيرها، ثم عن عودة المسلمين إلى الحبشة عندما سمعوا بإشاعة مفادها أن مكة آمنت، ثم اكتشفوا بعد ذلك عدم دقة الخبر، فرجعوا مرة أخرى إلى الحبشة، واشتد التعذيب بأرض مكة للمؤمنين المستضعفين، فهنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية إلى الحبشة. وكان هذا القرار -قرار الهجرة الثانية- أصعب بكثير من القرار الأول لأمور: أولاً: أن قريشاً أخذت حذرها، وأغلقت أبواب مكة، ووضعت الحراس على كل مخارجها ومداخلها، فأصبح الخروج صعباً. ثانياً: أن العدد هذه المرة كبير، ففي أول مرة كانوا (14) رجلاً و (3) نسوة، أما الآن فهم قرابة المائة من غير الأطفال والمتاع الذي أخذوه معهم، ولا ننسى أن مكة بلد صغير، فخروج هذا العدد منها يهزها. ثالثاً: أن فيهم أسماء لامعة في الإسلام ستخرج من داخل بيوت زعماء مكة المشركين، يظهر هذا من قراءة أسماء المهاجرين إلى الحبشة في المرة الثانية، سنجد مثلاً السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب زعيم زعماء مكة في ذلك الوقت. وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة أيضاً كان زعيماً كبيراً من زعماء الكفر. أما سهيل بن عمرو أحد كبار زعماء مكة، والذي كان يقوم بدور المفاوض في صلح الحديبية فقد خرج من بيته ثلاثة من أولاده: سهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعبد الله بن سهيل بن عمرو. وهاجرت أيضاً فاطمة بنت صفوان بن أمية وصفوان بن أمية لم يؤمن إلا بعد فتح مكة. وهاجر فراس بن النضر بن الحارث، والنضر بن الحارث هو الذي ذهب إلى فارس وعاد يحكي للناس حياة رستم وإسفنديار وحاول أن يبعد الناس عن دين الله عز وجل بكل طريقة ممكنة، ها قد خرج ابنه مهاجراً مع المسلمين إلى الحبشة. وهاجر هشام بن العاص بن وائل، والعاص بن وائل من أكابر المشركين، ومن الذين نزل القرآن يلعنهم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]، وهشام بن العاص أخو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، لكن عمرو بن العاص في ذلك الوقت لم يكن قد آمن بعد. إذاً: خروج هؤلاء وأمثالهم من داخل بيوت أولئك الزعماء سيحدث زلزلة في مكة ولا شك، وسيصاب كل زعيم في كبريائه وذكائه وحكمته وتقديره للأمور والأحداث. في هذا الجو الصعب، وفي هذه الخلفية المعقدة، أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بالهجرة إلى الحبشة. كان أمير المهاجرين هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وبدأت عملية من أعقد عمليات المناورة بخطة محكمة؛ فقد درست المداخل والمخارج بعناية شديدة، وتعاون الجميع من الصغار والكبار والرجال والنساء لإنجاح هذه المهمة، وبفضل الله سبحانه وتعالى نجحت العملية، وخرج من مكة مائة أو أكثر -على اختلاف الروايات- من الرجال والنساء والأطفال معهم المتاع والزاد، خرجوا إلى البحر الأحمر وركبوا السفن، واتجهوا إلى الحبشة، ولم ينجح الكفار في الإمساك بأي منهم! {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. تصوروا موقف الكفار في اليوم الثاني وقد وجدوا مكة المكرمة نقص منها مائة شخص، تخيلوا الفراغ الهائل الذي تركه هؤلاء الصالحون والصالحات وراءهم. كان المسلمون في غزوة بدر (313)، معنى هذا أنه لا يوجد بيت في مكة إلا وخرج منه ابن أو أخ أو أخت. بفضل الله وصل المؤمنون إلى الحبشة واستقبلهم النجاشي رحمه الله خير استقبال، وكان كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ملك لا يظلم عنده أحد)، كان استقباله على نفس المستوى من استقبال الوفد الأول الذي ذهب في هجرة الحبشة الأولى. لكن هل قبلت قريش بالأمر الواقع، وفكرت في إنهاء الصراع الطويل بينها وبين المؤمنين؟

الهجرة الثانية إلى الحبشة وموقف قريش منها

الهجرة الثانية إلى الحبشة وموقف قريش منها قد يُعتقد بأن قريشاً ارتاحت لما خرج المؤمنون الخارجون على النظام في مكة، واستقرت الأوضاع بعد ذلك، لكن لا بد أن يحدث الصدام الذي هو سنة من سنن الله عز وجل، حتى لو ترك المؤمنون البلد بالكلية: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] أي: لا تزال قريش وراء المؤمنين في كل مكان في الأرض إلى أن ترجعهم عن الإسلام، فالهدف الأساسي لدى قريش هو تنازل المسلمين عن الدين.

وفد قريش إلى النجاشي

وفد قريش إلى النجاشي قررت قريش أن تتبع المسلمين في الحبشة، ولما كانت قريش لا تستطيع أن تهاجم الحبشة بجيش؛ لأنها مملكة قوية على مسافة بعيدة، بالإضافة إلى العلاقات الطيبة بين الحبشة ومكة، فبحثت قريش عن حل لا يدفع للقتال، فقررت أن ترسل وفداً يطلب من ملك الحبشة أن يرد المسلمين إليها، يعني: لجأت إلى المفاوضات السياسية بينها وبين ملك الحبشة، والمهمة صعبة؛ لأن ملك الحبشة مشتهر بين الناس أنه لا يظلم عنده أحد، مما يجعل المهمة تحتاج إلى احتيال كبير، فحاولت قريش بكل طاقتها أن تنجح هذه المهمة، فاختارت على رأس الوفد اثنين من أمكر رجال قريش: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وهذان أسلما بعد ذلك، لكن إسلامهما كان متأخراً. كان عمرو بن العاص مشهوراً بالدهاء والمكر، ويستطيع بذكائه -بحسابات قريش- أن يتصرف مع ملك الحبشة، ليس هذا فحسب، بل هو صديق شخصي له، وفوق كل هذا فأخو عمرو بن العاص وهو هشام بن العاص كان ضمن المهاجرين إلى الحبشة، فالأمر بالنسبة لـ عمرو يعتبر قضية شخصية، وأيضاً مهمة رسمية، وأيضاً أخو عبد الله بن ربيعة عباس بن أبي ربيعة رضي الله عنهما كان من المهاجرين، فاختاروا هذين الرجلين ليقوما بهذه المهمة في منتهى الجدية، وأنفقوا كثيراً على هذه السفارة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، حملَّت قريش الوفد بالهدايا الثمينة وبالذات الجلود، وهذا نوع من الرشوة للملك ولرجال الحكم في الحبشة. كان عمرو بن العاص في منتهى الذكاء، فلم يدخل على النجاشي مباشرة، إنما ذهب في البداية إلى البطارقة، وهم يمثلون كبار رجال الحكم والدين الموجودين تحت النجاشي في الحبشة، وحمَّلهم جميعاً بالهدايا العظيمة، وبهذا ضمن وقوفهم معه ضد المسلمين، وتأثيرهم على النجاشي.

لقاء عمرو بن العاص بالنجاشي وطلبه رد المسلمين إليه ورد النجاشي عليه

لقاء عمرو بن العاص بالنجاشي وطلبه رد المسلمين إليه ورد النجاشي عليه دخل عمرو على النجاشي، وكان اللقاء حاراً بين الصديقين، ليس هذا فقط، بل أتى له بالهدايا العظيمة وأعطاها له، وأصبح الجو مهيأ للكلام، فالكل أخذ الثمن، والابتسامات على الوجوه، والخطة جارية كما يريد. كان عمرو شديد الذكاء، واختار كل كلمة بدقة شديدة، وأثرت كلماته مع أنها لم تستمر كثيراً، قال: (أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء). وهذه سقطة من عمرو بن العاص وكذبة، فمعظم المهاجرين من الأشراف العقلاء، وليسوا من الغلمان السفهاء، ولكنه سهم يضرب به للتحقير من شأن المسلمين، وفي اعتقاده أن النجاشي لن يقدم كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية، كان هذا هو السهم الأول لـ عمرو. أما السهم الثاني فقال فيه: (فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك). يعني: لا هم يريدوننا ولا حتى أنت شخصياً يريدونك، هكذا هم في تصوير عمرو بن العاص: لم يراعوا حق الأهل، ولا حق المستضيف لهم. ثم قال في سهمه الثالث: (وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً). يعني: أنا مرسل إليك من قبل أشراف ورؤساء وزعماء مكة، وهذه إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف كل المعاملات الاقتصادية والهدايا والجلود. هذا أولاً. ثم ثانياً: هؤلاء الأشراف هم آباؤهم وأعمامهم، يعني: لهم حق الأبوة على هؤلاء، فـ عمرو بن العاص يحاول أن يستثير أخلاق النجاشي لرد هؤلاء الأولاد إلى آبائهم. وثالثاً: يقول له: أنت ممكن أن تنخدع بحلاوة كلامهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم فترة طويلة، كما قال عمرو بن العاص: فهم أعلى بهم عيناً. أي: انتبه ولا تنخدع بكلامهم، فالذين عاشوا معهم ثلاثين وأربعين سنة يقولون لك بأنهم يكذبون ويخدعون، ويقولون كلاماً غير موافق للحقيقة. إذاً: تكلم عمرو بن العاص بكلمة موجزة ذكية لا تخلو من أدب جم، وكان المطلوب فيها رد المسلمين إلى مكة. بعدما انتهى عمرو بن العاص من كلامه، وقبل أن يتكلم النجاشي تدخل البطارقة والوزراء وكبار القوم وقالوا: صدقا أيها الملك -أي: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة - فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم. وهؤلاء البطارقة والوزراء قد أخذوا الرشوة، وكان عمرو بن العاص يشعر بسعادة كبيرة، فكل شيء يمشي كما خطط، وكان كل مراده أن يرجع النجاشي إليه المسلمين من غير أن يسمع كلامهم ولا حجتهم؛ لأن عمراً يعرف أن كلام المسلمين جميل ومقنع، وأن معهم أسلحة لا يمكنه مواجهتها، وأهم هذه الأسلحة القرآن الكريم، لكن النجاشي ملك لا يظلم عنده أحد، وليس من العدل أن يحكم في قضية دون أن يستمع إلى الطرف الآخر. هذه أبسط قواعد العدل في الحكم. قال النجاشي رداً على عمرو ورداً على البطارقة الموالين والمحبين لـ عمرو: لا والله لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان -غلمان سفهاء خرجوا عن دين الآباء وفعلوا كذا وكذا- أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم بعث للمسلمين الذين علموا بمجيء عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة لاستعادتهم. اجتمع المسلمون في مجلس سريع للشورى، وقالوا: ما تقولون للنجاشي إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64]. كانت الرؤية واضحة تماماً عند المسلمين بلا خوف أو قلق؛ لأن الخوف إنما يكون من ربنا وحسب. هذا هو الشعور والإحساس الذي كان عند المسلمين، لا يوجد أي نوع من القلق؛ لأنهم سيقولون كلام ربنا سبحان وتعالى. ثم اختاروا متحدثاً عنهم هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لأمور: أولاً: أنه رئيس الوفد، ورئيس الوفد هو الممثل الرسمي للوفد، ومؤكد أنه التقى قبل ذلك بـ النجاشي، وألف الحوار معه. ثانياً: أنه خطيب مفوه يستطيع أن يوصل كلام المسلمين بأفضل صورة ممكنة. ثالثاً: أنه من أشرف أشراف الوفد، هاشمي قرشي، وفي هذا رد على كلمة عمرو بن العاص: إنه قد ضوى إلى بلادك غلمان سفهاء.

اجتماع جمع المسلمين ووفد قريش ببلاط النجاشي

اجتماع جمع المسلمين ووفد قريش ببلاط النجاشي ذهب المسلمون للقاء النجاشي في اجتماع مهيب، كان النجاشي وسط الاجتماع ومن حوله الأساقفة والبطارقة والوزراء، وكبار رجال الدولة، وأمامهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومن ورائهم الوفد القرشي الكافر، وجعفر بن أبي طالب ومن ورائه الوفد المسلم. بدأ الاجتماع الكبير، وافتتح النجاشي هذا الاجتماع بسؤال للمسلمين في منتهى الوضوح والغرابة، قال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟ الغريب في السؤال أن المسلمين ما قالوا للنجاشي أي شيء قبل ذلك عن دينهم، ولا هو سأل، ولم يتحمس المسلمون للقيام بواجب الدعوة في الحبشة؛ لأن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة هو الحفاظ على الدين ممثلاً في المسلمين، ولأنهم يدركون مدى قوتهم البسيطة، ولم يريدوا أن يفتحوا عليهم جبهات جديدة داخل الحبشة، وآثروا أن يتكتموا أمرهم، ويحافظوا على سريتهم، ويهتموا بالدواعي الأمنية للوفد المسلم على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة. وهذا من فقه المرحلة. فـ النجاشي رحمه الله لم يسأل، واكتفى فقط بمجرد قول المسلمين بأنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا؟ ولماذا؟ لم يسأل. لكن الوضع في هذا الوقت تغير بالنسبة للنجاشي؛ لأنه ستحدث بينه وبين مكة مشكلة سياسية، ولابد من التحقيق فيها، كما أن الوضع تغير بالنسبة للمسلمين، ولا ينبغي لهم أن يسكتوا في هذا الوقت، فهم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلاماً مغايراً للحقيقة قد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، نعم، من الممكن أن يسبب لهم التصريح بالإسلام مشكلة، لكن ليس أمامهم غير هذا، فماذا سيقول جعفر في كلمته أمام النجاشي والوزراء وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة؟ قال كلمات وكأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضعها على لسان جعفر رضي الله عنه وأرضاه، وبالترتيب الذي قاله قسم جعفر المقالة إلى عدة مقاطع، كل مقطع له غرض معين، ورتبها ترتيبًا جميلاً. المقطع الأول قال فيه: (أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعف). هذه أمور تأنف منها النفوس الكريمة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ما زالا على هذه الصورة الخبيثة، وهذه الجاهلية التي يتحدث عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إن كل المشاكل التي عرضها جعفر في حال الجاهلية تتعلق بالظلم، إما الظلم مع النفس بعبادة الأصنام: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أو مع الرحم بقطع الأرحام، أو مع الجار بالإساءة إليه، أو مع الضعيف بأكل حقه. وتخيل أن هذه الصورة تعرض على ملك عادل لا يظلم عنده أحد. ثم إن النجاشي شعر بالبشاعة التي عليها أهل مكة وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. فكان هذا أول سهم أطلقه جعفر بن أبي طالب في مقتل لقريش. المقطع الثاني: قال جعفر: (فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه)، يعني: الذي جاء بهذا الدين ليس رجلاً أفاكاً كذاباً يريد خداع الناس، إنما يشهد بصدقه وأمانته وعفافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشهوراً بذلك في مكة، ولا ننسى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، والإنجيل والتوراة فيهما الحديث عن رسل كثيرين، فالحديث عن الرسل ليس بمستغرب لديهم. فكان هذا هو السهم الثاني من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه. المقطع الثالث: تكلم فيه عن الصورة المضادة للجاهلية، قال: (فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام إلخ. تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها راوية القصة: (فعدد عليه أمور الإسلام)، يعني: ذكر له أموراً كثيرة من فضائل الإسلام. أنا أريد منك أن تتخيل موقف النجاشي وهو يسمع هاتين الصورتين المتناقضتين، صورة الإسلام، وصورة الجاهلية، مع العلم أن جعفراً لم يكذب، إنما الحقيقة أن الباطل بطبيعته قبيح مقيت، والإسلام بطبيعته جميل محبوب. فكان هذا هو السهم الثالث من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه. المقطع الرابع: قال جعفر: (فصدقنا

إسلام حمزة

إسلام حمزة وقع حدث مهم ما بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان سبباً في تغيير كبير في مسار الدعوة، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده بثلاثة أيام فقط، وذلك في أواخر السنة السادسة من النبوة {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. نبدأ بإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ لأنه كان الأسبق: كان حمزة بن عبد المطلب فارساً من فرسان قريش الأشداء، كان من أقواهم شكيمة رضي الله عنه وأرضاه، وفي يوم من الأيام -وكان ما يزال كافراً- خرج إلى الصيد، وفي هذا اليوم مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً وحيداً عند الصفا، وكانت بعيدة قليلاً عن بيوت مكة، فتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانه وسبه سباً قبيحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم ساكت لم يرد عليه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وهذا ليس أي جاهل، بل هو أبو جهل نفسه، ولم يزده حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جهلاً، فأخذ حجراً ورماه في رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فسالت الدماء من رأسه! فذهب أبو جهل فرحاً بعمله، ويظن أنه لم يره أحد، لكن الله عز وجل الذي لا يغفل ولا ينام له تدبير عجيب، فقد سخر الله عز وجل مولاة لـ عبد الله بن جدعان رأت الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل، فلما أتى حمزة بن عبد المطلب وقفت الجارية تقص عليه الحادث. الجارية كافرة ومولاها كافر، والذي تحكي له كافر، لكن: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. قالت الجارية: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد. فأثارت الحمية في قلب حمزة رضي الله عنه، خصوصاً عندما زادت كلمة (ابن أخيك). قالت: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه. انصرف محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد أحد يدافع عنه، فقد كان الوحيد في أعمامه الذي يدافع عنه أبو طالب، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ كان من أشد المحاربين له. أين العباس وحمزة؟ لا يوجد أحد مشغول برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد فيهم متذكر لـ عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم، يا ترى لو كان حياً هل سيكون الموقف مثل هذا؟ أين بنو هاشم؟ وأين بنو عبد مناف؟ أبو جهل زعيم بني مخزوم يضرب أشرف شرفاء بني هاشم على الإطلاق، بل أشرف إنسان في الأرض. عندها تجمعت المشاعر في قلب حمزة مشاعر الحب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمداً لهم، مشاعر القبلية الهاشمية القرشية الشريفة، مشاعر الغيظ من زعيم بني مخزوم، مشاعر النخوة والنصرة للمظلوم، مشاعر الإحراج أمام شباب وفرسان مكة، مشاعر كثيرة جعلت الدم يغلي في قلب حمزة. ذهب حمزة مسرعاً إلى أبي جهل، فعرف أنه في المسجد الحرام، فأقبل نحوه لا يقوى أحد على معارضته، حتى وقف أمامه، ثم رفع قوسه وضرب رأس أبي جهل ضربة شجت رأسه وتفجر منها الدم، قصاص ضربة بضربة، ودماء بدماء، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب بعيداً عن الناس فقد ضربه بين الناس في المسجد الحرام، فضيحة بكل المقاييس. هذا الرد في عرف الناس يشفي الغليل، لكن حمزة ما زال لم يشف غليله، ما زال يريد أن يغيظه أكثر، ولو قتله ستنشب حرب هائلة في مكة بين بني هاشم وبني مخزوم، ولكنه فكر في أشد ما يغيظ أبا جهل، إنه الدين الجديد الإسلام، فاندفع حمزة دون تفكير وقال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد علي ذلك إن استطعت، يريد أن يغيظه بكل طاقته، لم يفكر في عواقب هذه الكلمة الخطيرة، المهم في هذا الوقت أن أبا جهل يذل وسط الناس. كان أبو جهل غارقاً في فضيحته، ولم يعد يعرف بم يفكر، وحمزة أمامه يقول بأنه قد أسلم، فقام رجال من بني مخزوم لينتصروا لـ أبي جهل، لكن أبا جهل كان يخشى من ذلك، فقال في ذلة شديدة: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً. جلس حمزة بعد هذا مع نفسه، أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟ أبهذه السهولة يقول في لحظة واحدة الكلمة التي رفض أن يقولها في سنوات مضت، يسمع فيها عن الإسلا

إسلام عمر

سلسلة السيرة النبوية_إسلام عمر ليست الهداية أمراً يمتلكه البشر، حتى الرسل، ولكنها شيء بيد الله تعالى، وذلك ما يتجلى في إسلام رجل شديد على المؤمنين قبل إسلامه كعمر بن الخطاب، وقد كان إسلامه مع حمزة رضي الله عنهما نصراً للمسلمين، مكنهم من الجهر بدينهم، والوقوف موقف الند ممن كان يضطهدهم ويعذبهم، وذلك مما حدا بأهل مكة إلى اتخاذ قرار حصار الشعب بصحيفة ظالمة علقت في جوف الكعبة، واستمر ذلك الحصار ثلاث سنوات لم تضعف للمؤمنين فيه عزيمة، بل ازدادوا صلابة وشدة في دين الله.

عمر قبل الإسلام

عمر قبل الإسلام أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية. تكلمنا من قبل عن الهجرة الثانية إلى الحبشة، وعن استقرار المسلمين فيها، وعن الانتصار الكبير الذي حققه المسلمون على عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة أمام النجاشي رضي الله عنهم. ثم ذكرنا قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، وكيف كان إيمانه إضافة عظيمة للصف المسلم، ثم بعد ثلاثة أيام فقط من إيمان حمزة آمن رجل آخر، آمن عظيم سيغير الله عز وجل به وجه الأرض وحركة التاريخ، وسيزلزل به عروش ملوك الأرض في زمانه كسرى وقيصر وغيرهما، هذا المؤمن الجديد هو عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه. منذ أول لحظات إيمانه وحتى آخر لحظات حياته رضي الله عنه وأرضاه وهو فاروق. كانت قصة إسلامه أعجب من قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، فـ حمزة رضي الله عنه خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه كان بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة للمؤمنين لا معهم ولا عليهم، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان تاريخه مع المسلمين كله قسوة وعنفاً. كان عمر مثل حمزة رجل مغمور في التاريخ ككل رجال قريش قبل أن يسلموا، نعم كانت له سفارة قريش، كان مسموع الكلمة في قبيلته بني عدي وفي قريته مكة، لكن في النهاية ما هي قبيلة بني عدي، وما هي مكة بالنسبة للعالم قبل الإسلام؟ ما هي مكة بالنسبة لفارس والروم والحبشة ومصر والصين والهند؟ مجموعة من القبائل البدوية البسيطة تعيش وسط الصحراء على الرعي والتجارة وبيع الأصنام. هؤلاء هم أهل مكة قبل الإسلام، وكان عمر مثله مثل آلاف أو ملايين أو بلايين الرجال الذين مروا في التاريخ الذين لم يسمع بهم أحد قبل ذلك ولا بعد. وعمر فوق ذلك كله كانت فيه قسوة على المسلمين قبل إسلامه، كان يعذب جارية له أسلمت من أول النهار إلى آخره، ويقول: والله ما تركتها إلا ملالة. يعني: ضجرت من كثرة الضرب والتعذيب. شعرت زوجة عامر بن ربيعة رضي الله عنها برقة في كلام عمر، لما رآها تجهز نفسها لهجرة الحبشة الأولى، قال لها كلمة رقيقة، قال لها: صحبكما الله. وهي غير معتادة منه على هذه الرقة، فقالت لزوجها في ذلك، فقال لها: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم، قال: فلا يسلم الذي رأيت -يعني: عمر بن الخطاب - حتى يسلم حمار الخطاب، يأس كامل في إسلام عمر. يرى عامر أن فرصة إسلام حمار الخطاب أكبر من فرصة إسلام عمر، إلا أن نظرة المرأة كانت أدق من نظرة الرجل، ورأت بقلبها ما لم يره زوجها بعقله. كان عمر يعيش في صراع نفسي بين أن يكون زعيماً قائداً في مكة، وبين أن يكون تابعاً لأمر هذا الدين، فقلبه يقول له: لعل هؤلاء على الحق، فرئيسهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم تكن حوله أي شبهات، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، لكن عقله يقول له: أنت سفير قريش وقائد من قوادها، والإسلام سيضيع عليك كل هذا، قسم الإسلام مكة نصفين: نصفاً يؤمن به، والنصف الثاني يحاربه، ومنذ ستة أعوام ونحن في صراع وخلافات ومناظرات ومحاورات، وقد عشنا مئات السنين نعبد الآلهة دون اعتراض من أحد أو تخطئة، فلماذا محمد صلى الله عليه وسلم تجرأ وخطأنا؟ صراع شديد يدور في نفس عمر، فقلبه في طريق وعقله في طريق آخر، وأصدقاء السوء كثر في مكة، وكلهم يزينون له المنكر، في النهاية شعر بكراهية شديدة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي وضعه في مثل هذا الصراع النفسي الرهيب، فقد عاش عمر لا يعرف التردد، وهو الآن يريد أن يخلص نفسه ومكة من الرجل الذي كان سبباً في كل هذه المشاكل، أراد أن يحسم القضية كطبعه دائماً؛ لذا قرر أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يفعل الذي فكرت فيه قريش ولم تستطع فعله، أتى القرار في ذهنه في لحظة، ومحاولة التنفيذ كانت في اللحظة الثانية مباشرة. وكان مما زاد الأمر حماسة أن أبا جهل من يومين فُضح فضيحة غير مسبوقة في مكة، والذي فضحه حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة يدعي بأنه قد أصبح على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل خال عمر بن الخطاب. فهذه المشاكل كلها بسبب محمد صلى الله عليه وسلم، وعمر أصيب في كرامته كما أصيب أبو جهل،

لحظات إسلام الفاروق

لحظات إسلام الفاروق خرج عمر من بيته متوشحاً سيفه، خرج ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ظل يبحث في كل مكان عن الرسول وهو لا يدري أين يجلس، ودار الأرقم بن أبي الأرقم لم يكن يعرفها أحد، وفي أثناء بحثه قابله نعيم بن عبد الله رضي الله عنه، ولكن لم يكن أحد يعلم بإسلامه، وهو من نفس قبيلة عمر من بني عدي، وكان واضحاً من عمر أنه في قمة الغضب، فقال له نعيم: أين تريد؟ فقال له في منتهى الصرامة والجدية: أريد محمداً، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها فأقتله! كان نعيم رضي الله عنه يعلم أبعاد هذه الكلمات، ولا يوجد لديه وقت لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يفكر كثيراً، ووجد نفسه مضطراً إلى كشف سر إسلام أخت عمر بن الخطاب السيدة فاطمة بنت الخطاب وإسلام زوجها سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، حتى وإن كان عمر سيقتلهما، ولكنه في المقابل سيجد الوقت الكافي ليبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ حذره. فـ نعيم كان يظن أن هذا هو الحل الوحيد الذي قد يصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مراده؛ لأنه لو أخبره عن إسلام أي شخص آخر لن يهتم، ولكن إسلام أخته وزوجها شيء يطعن في كرامة عمر رضي الله عنه، قال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ يخوفه من بني عبد مناف، فربما تنفع، ثم قال له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم. يعني: اذهب إلى أهل بيتك أولاً وابدأ بهم ثم التفت إلى محمد. فصرخ عمر في فزع: أي أهل بيتي؟ فقال: ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما. فشعر عمر أن الدماء تغلي في قلبه، ونسي كل شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب مسرعاً إلى بيت أخته، وذهب نعيم مسرعاً إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه. في هذا الوقت كان خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن؛ فالرسول كان يقسم الصحابة إلى مجموعات، كل مجموعة تقوم بمدارسة القرآن مع بعضها، ثم يجتمعون كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم. وكان خباب بن الأرت هو المعلم لـ سعيد وزوجته. وصل عمر إلى بيت أخته ووضع أذنه على الباب فسمع صوتهم وهم يقرءون القرآن، فظل يضرب الباب بكل قوته، ولو كان يستطيع كسره لكسره، وهو ينادي بعنف: افتحوا الباب افتحوا الباب. وإذا كان عمر مرعباً في هدوئه فما بالك في غضبه، أما خباب فاختبأ في غرفة داخلية، وقال في نفسه: لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن أنجو أنا، وخباب من الموالي ديته بسيطة، وعمر لن يفكر كثيراً قبل أن يقتله. بعد اختباء خباب أصبح الدور على سعيد وفاطمة. قام سعيد رضي الله عنه وفتح الباب، فدخل عمر إلى البيت وهو يحترق من الغضب، قال عمر: لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، ثم بدأ يضرب سعيداً فقامت فاطمة بنت الخطاب ووقفت بينه وبين سعيد تدافع عن زوجها، فالتفت إليها عمر وترك سعيد بن زيد وبدأ يضربها حتى سالت الدماء على وجه فاطمة رضي الله عنه، لما رأى سعيد هذا الأمر لم يجد بداً من الهجوم على الأمر، وقال له في تحدٍ شديد: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! استغرب عمر من شجاعة سعيد؛ فلا يوجد في مكة من يكلمه بهذه الطريقة، وأعجب من هذا أن فاطمة المرأة الضعيفة البسيطة وقفت وأمسكت بوجه عمر، وقالت له في قوة: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر)، ذهل عمر. من هذا الذي يتحدث؟ أليست هذه أخته؟ ما الذي جرأها عليه؟! أحس عمر على بأسه وشدته وسطوته أنه صغير لا يستطيع أن يقف أمامها، وشعر أن الدنيا تغيرت وهو لا يعلم، أول مرة يتعرض لمثل هذا الموقف في حياته، ثم قال عمر كلمة تدل على رقة قلبه التي تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال: فاستحييت حين رأيت الدماء. الرجل الذي ليس فيه خير لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه،

عمر بعد الإسلام

عمر بعد الإسلام ولد عمر من جديد، كما ولد حمزة عملاقاً، فإن عمر أيضاً ولد عملاقاً. ولد عمر فقيهاً حازماً مضحياً، فأول كلمة قالها بعد الإسلام كانت: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟! وانتبه لما يقول: ألسنا على الحق؟ لا يقول: ألستم على الحق؟ فقد أصبح مسلماً، ويقترح عليهم آراء ويفكر لخدمة الدين، وينظر ما هو الأصلح، ويتحرك للدعوة، هذا هو عمر. الاختفاء كما هو معلوم كان لأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحسب كل شيء بدقة، يأخذ بكل الأسباب، أما الآن فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد حساباته مرة أخرى؛ لأن الوضع تغير من ثلاثة أيام مضوا، إن كان للاختفاء مزايا قبل ذلك فللإعلان أيضاً مزايا، فإيمان حمزة وعمر غير الوضع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافق على الإعلان؛ لأن اثنين من رجال المسلمين غيرا مسار الدعوة بكاملها. في هذه الفترة الحرجة سيبدأ إعلان الإسلام في مكة، ويظهر المسلمون الشعائر أمام الناس في مكة. غير الرسول صلى الله عليه وسلم كل المرحلة عندما دخل حمزة وعمر في الدين، أخذوا القرار وخرجوا في نفس اللحظة في صفين: عمر على أحدهما، ولم يؤمن إلا منذ دقائق، وحمزة على الآخر، وما آمن إلا منذ ثلاثة أيام فقط. سارت الكتيبة العسكرية الإسلامية من دار الأرقم إلى المسجد الحرام أكثر الأماكن ازدحاماً في مكة، حتى يراهم أكبر عدد من قريش، رأت قريش المسلمين وأمامهم حمزة وعمر فأصابتهم كآبة شديدة، يقول عمر: (فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ. نظر عمر إلى المسجد الحرام فلم يجد أبا جهل مع الناس، وهو أشدهم محاربة للإسلام، فقرر أن يذهب إليه في بيته، ويعلن له أمر إسلامه. يقول عمر: فأتيته حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحباً وأهلاً يا ابن أختي، فقال عمر: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به، قال عمر: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به، لكن عمر كان سعيداً؛ لأنه كاد لـ أبي جهل. وكان عمر يرى أنه ما زال هناك كثر لم يعلموا بعد بأمر إسلامه، ولن يذهب إلى كل واحد في بيته يخبره، فذهب لرجل اسمه جميل بن معمر الجمحي، وهو كما يقول سيدنا عمر أنقل قريش لحديث. يعني: مثل وكالات الأنباء، لا يستطيع حفظ السر، لا يسمع شيئاً إلا ونقله للناس، فذهب سيدنا عمر إليه، وقال له: يا جميل! لقد أسلمت، فنادى جميل بأعلى صوته قائلاً: إن ابن الخطاب قد صبأ، يعني: ارتد، لكن سيدنا عمر جرى وراءه، وقال له: كذبت ولكني أسلمت. المهم أن كل مكة علمت أن عمر قد دخل في دين الإسلام، وهذا هو المطلوب.

ردة فعل أهل مكة بعد إسلام عمر وحمزة ومساومتها للرسول

ردة فعل أهل مكة بعد إسلام عمر وحمزة ومساومتها للرسول اجتمع أهل مكة حول سيدنا عمر بن الخطاب وقاموا بضربه، فظل يضرب وهم يضربون حتى تعب رضي الله عنه وأرضاه وجلس على الأرض، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. يعني: اصبروا علينا حتى نصل إلى ثلاثمائة، وهذا الرقم الذي قاله هو عدد المسلمين في غزوة بدر. فـ عمر من أول يوم أسلم فيه ضرب، وكأن الله سبحانه وتعالى يعرفه طريق الدعوة وهو لا يزال في أول أيام إسلامه، كل الناس التي تحملت هم الدعوة تعبوا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة! ومع أن عمر ضُرب في أول يوم من إسلامه إلا أن هذه كان ردة فعل استثنائية نتيجة للمفاجأة، ثم إن مكة رجعت للصواب فـ عمر تخاف منه الناس، ويؤكد على ذلك كلام صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به. ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. ومع أن وضع المسلمين تحسن بهذه الصورة، وأصبح أهل الإسلام يظهرون عباداتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن الحرب على قريش، ولم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، وما زالت الأصنام منتشرة في مكة، بل ما زالت الرايات الحمر للزانيات مرفوعة في مكة، والخمور تشرب، والمشركون يعبدون آلهة غير الله عز وجل، والقتال ممنوع على المسلمين، وهذا من فقه المرحلة. ربما يتحمس الشباب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والسلاح والعنف، يظنون أنهم في زمن التمكين والسيادة، وينسون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كف عن كل هذا في فترة مكة. الجرأة لو حصلت من شباب المسلمين في فترة مكة على المشركين لا تعد شجاعة ولا جهاداً إنما تعد تهوراً وتسرعاً وجهلاً بفقه المرحلة، وميزان المسلمين ثقل بـ حمزة وبـ عمر لكن بحساب. وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، ممن يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف مكة، وأيضاً من غير حمزة وعمر، ومع ذلك يحدث تهور واندفاع، أقول لهم: كم تخسر الدعوات من حماسة في غير موضعها تماماً، كما تخسر من روية في غير موضعها. إذاً: كان وضع المسلمين التعذيب، ولا يوجد قتال، وأيضاً لا توجد مواجهة مع المشركين في مكة، مع كون قوتهم زادت؛ لأن هناك الكثير في مكة سيفكر في الإسلام، وسوف يتحفزون بإسلام حمزة وعمر؛ ولأن المسلمين أعلنوا إسلامهم وبدءوا بالصلاة وقراءة القرآن أمام الناس، ومكة بدأت تنظر إلى حلاوة الإسلام وشرائعه. وأهل الباطل كانوا في موقف صعب، وكأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فالدعوة تتسلل وتدخل إلى كل بيت حتى بيوت الزعماء منهم، فماذا صنعوا؟ عقد أهل مكة اجتماعاً على مستوى القادة والزعماء، وحضره كل زعماء مكة، وتقدم عتبة بن ربيعة -زعيم بني أمية، وأحد حكماء قريش باقتراح، قال: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا. وهي أمور مغرية، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سيختار، وهذا يمثل تنازلاً خطيراً من زعماء قريش، يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا على غير هوى المعظم، إلا أنهم وافقوا مضطرين، قالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه. ذهب عتبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً لوحده بجانب البيت الحرام، فتلطف معه وابتسم وقعد وبدأ يتكلم، وكان ذكياً، وكلامه في عرف كل الناس لا يرفض، قال عتبة: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من الثقة في العشيرة، والمكان في النسب. يعني: مكانتك عندنا كبيرة، ونحن نحبك ونحترمك، وهذه طريقة ثعبانية مشهورة عند عتبة وعند أمثال عتبة. ثم بدأ يذكر مراده، فقال: ومع مكانتك العالية إلا أنك عملت أشياء تعتبر في عرف مكة جرائم عظمى، فأنت متهم بكذا وكذا وكذا، وهذا شيء خطير وموقفك صعب! قال له: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم. يعني: أنت متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فاترك الدين لأهله من الكهان وسدنة الأصنام، وإلا فإن مستقبلك في خطر، وأنت لك مكانة، وعندك أولاد، ونحن نريد مصلحتك ونحبك، ولأننا نحبك سنعرض عليك كذا وكذا من الاقتراحات فاختر منها ما يعجبك ونحن تحت أمرك. إذاً: بهذه المقدمة الثعبانية يقدم له الاقتراحات المغرية، ويبين له أن رفضها معناه تأكيد هذه التهم الخطيرة في حقك، وأما عقابها فأنت تعلمه.

حصار الشعب

حصار الشعب بعد هذا الانهيار الكامل للمباحثات بدا وكأن حدثاً كبيراً سيقع، كان أبو طالب يراقب الموقف، ويرى أن قريشاً لن تسكت على هذا الذي حدث، وكان يخشى أن أحداً من سفهاء قريش يتهور ويذهب لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحبه أكثر من أولاده؛ لذا لم يجد إلا حلاً واحداً، قام أبو طالب بسرعة ودعا بني عبد مناف بشقيها بني هاشم وبني المطلب- المطلب هو عم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وطلب منهم أن يجتمعوا لحماية محمد صلى الله عليه وسلم، فأجاب جميع القوم مسلمهم وكافرهم حمية وقبلية وطاعة لكبيرهم أبي طالب، وبذلك انقسمت مكة إلى نصفين: بني عبد مناف في جهة، وبقية أهل مكة في جهة أخرى، وإذا كان أبو طالب يخاف من زعماء مكة، فأيضاً زعماء مكة يخافون من المسلمين، ولا قدرة لهم بهم بعد إسلام حمزة وعمر، فـ حمزة من فرسان قريش الأشداء، وعمر سفير مكة الرسمي، وبنو عبد مناف اتحدوا من أجل حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، والطرق السلمية لم تعد تنفع، وفي نفس الوقت لا طاقة لهم بقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من بني عبد مناف؛ لذا اجتمع كفار قريش من جديد وخرجوا بفكرة جديدة في حرب الدعوة وهي المقاطعة، سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، سياسة التجويع الجماعي لبني عبد مناف، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً. ومع العلم أن هذا القانون الجديد يعتبر مخالفاً لأعراف مكة وقوانينها السابقة، لكن لا توجد مشكلة في أن يتغير الدستور، فكل شيء بأيديهم، فلا يهم الشهر الحرام ولا البلد الحرام، المهم المصالح فهي ما يقدم على الأعراف والقوانين، فلا مبدأ، ولا قانون ولا حتى عهد يُحترم. كتبوا قانون المقاطعة، وفيه: على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ألا يناكحوهم. أي: لا يتزوجوا منهم ولا يزوجهم. وألا يبايعوهم. أي: لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم. وألا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة؛ حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم للقتل. هكذا بمنتهى الوضوح. وبدأ تنفيذ الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب ومعهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى يتجمعوا كلهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحموه من أهل مكة. ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة والألم، فقد قطع الطعام تماماً عن المحاصرين، فلا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي يأتي مكة من خارجها يشتريه الكفار بسعر عال؛ حتى لا تستطيع بنو عبد مناف شراءه، وأصبح الموقف صعباً، فقد أخذوا الأولاد والنساء في داخل الشعب؛ حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من الجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر، وظلوا كذلك ثلاث سنين كاملة! من محرم في السنة السابعة من البعثة إلى المحرم سنة عشر من البعثة، مأساة بشرية حقيقية. ثلاث سنوات من الظلم والحصار الجماعي، صورة جاهلية تكررت كثيراً بعد ذلك في الدنيا، نعم اخترعها أهل قريش في ذلك الوقت، لكن للأسف حصلت كثيراً ودائماً مع المسلمين، تكررت في العراق وفي ليبيا والسودان وأفغانستان والصومال وإيران ولبنان وفلسطين، كثير من المسلمين يحاصرون في بقاع الأرض. ليس الغريب في هذا الحصار أن يضحي المسلمون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وبأولادهم؛ لأنهم يقاتلون من أجل عقيدة، لكن الغريب فعلاً أن يصبر الكافر من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار وهو لا يرجو جنة ولا يخاف من نار، بل لا يؤمن بالبعث، ومع ذلك وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف، لكنهم وقفوا هذه الوقفة حمية، حمية الكرامة أن يهان رجل من نفس القبيلة، حمية الدم والقرابة، حمية العهد الذي قطعوه على أنفسهم قبل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعاونوا سوياً في حرب غيرهم، حمية واقعية ليست بالخطب والمقالات والأشعار، وضحوا بأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم من أجل كلمة.

فك حصار الشعب

فك حصار الشعب بعد ثلاث سنوات من حصار الشعب شاء الله عز وجل أن يفك الحصار، وذلك بأن أحد المشركين من بني عامر بن لؤي، لا هو من بني هاشم ولا من بني المطلب أحس بشيء في صدره، وهذا الرجل هو هشام بن عمرو، ظل يسأل نفسه: كيف نأكل ونشرب وهؤلاء لا يأكلون ولا يشربون؟ كيف ينام أطفالنا شابعين وهؤلاء ينام أطفالهم جائعين؟ فكان يحمل الطعام بنفسه سراً إلى شعب أبي طالب، وظل على ذلك فترة، وبعد ذلك أحس بأن ذلك ليس بكاف، ولابد أن يكون هناك موقف أكبر، وأن يفعل شيئاً حتى ينقض هذه الصحيفة، ويلغي هذا القانون الظالم، ولكن هو لوحده وقبيلته ليست كبيرة، كما أن زعماء مكة كلهم يقفون خلف هذا القانون. بدأ يبحث عمن يساعده، فبدأ برجل من بني مخزوم أكبر القبائل القرشية، وهي قبيلة اعتادت أن تعارض بني هاشم وتتنافس معها، فإذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار فبقية القبائل ستفك الحصار في الغالب، لكن من الذي سيرضى من بني مخزوم بالوقوف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ولا ننسى أن أبا جهل هو زعيم بني مخزوم، وهو من أشد المتحمسين للمقاطعة، فكان لابد من شخصية تعادله، وتستطيع الوقوف أمامه، فذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي؛ لأن أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلديه دوافع فطرية عصبية، فذهب إليه وكلمه، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم. يعني: هؤلاء أخوالك وأنت تتبع أبا جهل؟ هل نسيت أن بني هاشم أخوالك؟ ثم قال له كلمة خطيرة جداً، قال له: أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام -يعني: أخوال أبي جهل - ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه من المقاطعة ما أجابك إليه أبداً. يعني: أنت بذلك تخاف من أبي جهل، فقال له زهير: ويحك ما أصنع وأنا رجل واحد؟ ثم قال: أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقام هشام بن عمرو وفاجأه وقال له: وجدته لك، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: فلننظر لنا ثالثاً أيضاً. ترك هشام بن عمرو زهيراً وذهب يبحث عن ثالث من ذوي الأخلاق، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، -أتى بقبيلة ثالثة، ذهب إليه وذكره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال المطعم: ابحث لنا عن رجل ثالث؟ فقال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابحث لنا عن رجل رابع. المهمة صعبة جداً؛ لأن هؤلاء سيقفون أمام كل زعماء الكفر في مكة، ومن أجل رجل خرج عن دينهم، ويقوم بشتم الآلهة، ويأتي بقوانين جديدة لمكة، مهمة صعبة فعلاً أن تدافع عن هذا الرجل، وعن أولئك الذين ساعدوه والتزموا بدينه. لكن هشام بن عمرو الكافر لم ييأس، وذهب يبحث عن رابع، فذهب إلى أبي البختري بن هشام -البختري بفتح الباء- وقال له مثل ما قال للمطعم، فقال له: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال أبو البختري: ابحث لنا عن رجل خامس؟ فذهب هشام بن عمرو بمنتهى الحمية يبحث من جديد عن رجل خامس، ذهب إلى زمعة بن الأسود وهو من بني أسد، فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي ولم يطلب السادس، واجتمع الخمسة وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، فهم سيطرحون رأياً قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي ونصرة دين لا يقتنعون به ولا يرتبطون. لماذا هذا كله؟ ما الذي حركهم؟ حركتهم حمية النخوة، فأنت ترفض أن ترى أي إنسان مؤمناً كان أو كافراً يعذب أو يظلم أو يجوّع أو يعطِّش. هذه النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله عز وجل، لكن هذه النخوة للأسف لم نرها من مسلمين كثر رأوا وشاهدوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل في آلاف وملايين المسلمين في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وغيرها. كيف أن هشام بن عمرو الكافر والكفار الذين معه لم يأتهم نوم؛ لأن المسلمين يعذبون؟ وكيف يوجد في الأرض مسلمون ينامون ويأكلون ويشربون ولا يهمهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أكثر من مكان في العالم؟! كيف؟! أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟ أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية متحققة؟ أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كبعض أخلاق الكافرين، نحن نحتاج فعلاً إلى وقفة مع النفس. اجتمع ال

عام الحزن

سلسلة السيرة النبوية_عام الحزن يختلف نمط الدعوات الإلهية عن البشرية في أن الأولى لا تعتمد في ديمومتها على فرد أو أفراد بحياتهم تحيا وبموتهم تتلاشى، فمع ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من أذى زاد بموت عمه وزوجه، إلا أن ذلك لم يثنه عن دعوته، بل ذهب إلى الطائف يدعوهم عشرة أيام، فرفضوا دعوته وسلطوا عليه العبيد والصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموه، ثم عاد إلى مكة هائماً على وجهه ليقابل ملك الجبال في قرن الثعالب، ثم يؤمن به الجن في وادي نخلة، ويواصل دعوته للحجيج، يبحث عمن يقبل الإسلام وينصر الدين.

موت أبي طالب وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم

موت أبي طالب وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في فترة مكة. تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي عصفت بمكة عندما تجمع بنو عبد مناف لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكلمنا عن الحصار الاقتصادي البشع الذي قام به الكفار، وعن فك هذا الحصار، وخروج بني عبد مناف من الشعب في محرم من السنة العاشرة من البعثة النبوية. بدأت السنة العاشرة بمرض أبي طالب الذي بلغ الثمانين من عمره، كما أن حصار الشعب لثلاث سنوات أكل فيها من ورق الشجر والجلود، بالإضافة إلى القلق، كل هذا أضعف من قوته ولم يتحمل، ولشدة مرضه كانوا يتوقعون له الموت في أي لحظة، وكان زعماء الكفر يخافون من إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعد موت أبي طالب فتعيرهم العرب بأنهم استغلوا موته لإيذاء ابن أخيه. أي: أنه كانت توجد بقايا حياء عند أهل الجاهلية؛ لذا ذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه في صراحة أن ينظر لهم أي حل مع محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت، وجمعوا لذلك وفداً مهيباً من (25) رجلاً، كان منهم أبو جهل وأبو سفيان وعتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وغيرهم كثير، قالوا له: يا أبا طالب! إنك منا حيث قد علمت -أي أن لك مكانة كبيرة عندنا- وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك من الموت، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، وهذا تنازل جديد، وهو في الحقيقة عرض مغر من زعماء مكة، فقبل هذا كانوا يساومون الرسول صلى الله عليه وسلم ليترك فكرة الإسلام، وفي هذا الوقت يطلبون منه أن يظل هو وأصحابه مسلمين، ونحن سنظل على ديننا، وليس لأحد دخل بالآخر، فهؤلاء وهؤلاء سيعيشون متجاورين ولا يؤذي بعضهم بعضاً، لكن في المقابل ألا يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معتقدات قريش، وألا ينكر عليهم منكراً، وألا يأمرهم بمعروف، وألا ينصح أحداً بتطبيق أحكام الله عز وجل على عباد الله، أي: متى ما أرادوا الصلاة فليس هناك مانع، ومتى ما أرادوا الطواف بالكعبة ليس هناك مانع، لكن ليس لهم دخل في شئون مكة الدنيوية، بل يفصلون دينهم عن دنيا مكة. كان الرسول صلى الله عليه وسلم للتو خارجاً من الحصار الرهيب الذي امتد ثلاث سنين، والمسلمون وبنو عبد مناف منهكون، وأبو طالب سوف يموت، ونصف المسلمين مهاجر إلى الحبشة، أي: أن الوضع في مجمله ضعيف، والذي يرى هذا الوضع يعتقد أن هذه فرصة كبيرة للمسلمين. أرسل أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له في حضور المشركين: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فالرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه وقال: (يا عم! أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟ قال أبو طالب: وإلى ما تدعوهم؟ قال: أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة واحدة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم). القرشيون ما كانوا يحلمون أبداً بوحدة العرب، وفوق هذا أيضاً العجم! هذا فوق حدود التخيل، أين هم من فارس والروم؟ كل هذا بكلمة؟ أبو جهل كان يظن نفسه ملكاً، والعرب كلها ستسمع كلامه، وأيضاً كسرى وقيصر، فوجد نفسه يقول: ما هي هذه الكلمة؟ اندفع في تهور كالعادة وقال: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه)، فـ أبو جهل والذين معه أُصيبوا بالذعر، أما زلت مُصراً على ما أنت عليه؟ أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب! فهؤلاء الكفار عاشوا يقاتلون من أجل قضية خاسرة، لها يتعبون ويسهرون ويحزنون ويتألمون، وبعد هذا ما هي النتيجة؟ النتيجة لكل هذا التعب والسهر والكد والعرق، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] هذه هي العيشة التي يعيشونها، اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات، فهم في حذر وترقب ورعب وهلع، لا يستطيعوا أن يطمئنوا ولا أن يناموا ولا حتى أن يستمتعوا بحياتهم {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] ومع هذا أيضاً {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] نسأل الله العافية. أما الصحابة فقد قالوا هذه الكلمة، واستطاعوا فعلاً تجميع العرب تحت راية واحدة، وبعد أن انتهوا من العرب انتقلوا إلى غيرهم، فقد سقطت عروش كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، فُتحت بقاع مهولة بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين

موت خديجة وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم

موت خديجة وأثره على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجو من الأحزان والهموم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصيبة جديدة وهم جديد (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لكل الابتلاءات التي من الممكن أن تحصل لإنسان من فقر وجوع، وضرب وتعذيب، وسخرية، وحروب وجهاد، ومن فقد للأم وللأب وللجد والعم، وفقد للأولاد وللأصحاب، وترك للديار كل الابتلاءات، وفي هذا الوقت مع كل الهموم التي يعيشها سيدخل في ابتلاء فقد الزوجة، السند العاطفي الجميل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ماتت السيدة العظيمة الجليلة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. كانت خديجة نعمة من نعم الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير متاع الدنيا له، كانت الصدر الحنون، والرأي الحكيم، قضت عشرة طويلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دامت (25) سنة، في كل هذه السنين لم تختلف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تطلب منه شيئاً لنفسها، وعاشت تساعده بكل طاقتها، كانت كل سعادتها أن تراه سعيداً، فقد كان يتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول في حب عميق: (آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها) بعد كل هذا الارتباط الوثيق أذن الله عز وجل بالرحيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، ماتت خديجة رضي الله عنه وأرضاها. موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، فالرجل مسكين بغير زوجته، وكلما طالت العشرة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالك لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض. هذه من أشد المصائب التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون)، يعني: أنها لم تقارن بنساء قريش أو حتى بنساء زمنها، بل بنساء العالمين، فهذه واحدة من أعظم أربع نساء في الخلق، درجة عالية من السمو. هذه السيدة بهذا القدر وبهذه القيمة والمكانة فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركته بعد وفاة أبي طالب بأيام، وفي روايات قبل وفاة أبي طالب بأيام، أي: أن المصيبتين كانتا في وقت قريب، وخلفتا في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً كبيراً، وكان يحتاج إلى من يسمع منه مشاكله وهمومه ويتحدث معه، كان يقول لها: قريش عملت كذا وكذا! فتقول له: لا بأس فالله معك، وربنا سوف ينصرك، أو يجد ابتسامة تخفف من أحزانه. كل هذه الأحداث تحصل وعمره خمسون سنة، وقد وهن العظم منه، وكثرت الهموم، وتشعّبت المشاكل، فليست القضية قضية موت أبي طالب ولا السيدة خديجة، ولا الإيذاء الذي يتعرض له من قريش. إذا كان يحصل معه هكذا من قريش فأكيد أن المسلمين الآخرين سيحصل معهم هذا. كما أنه كان يحمل هم المستضعفين ويشعر بهم ويخاف عليهم، ويحمل هم مشاكل المسلمين الذين كانوا في الحبشة أكثر من مائة معهم أولادهم، ولا يعلم شيئاً عن وضعهم. هذه جميعها مشاكل وهموم جعلت ذلك العام يُطلق عليه بحق: عام الحزن.

خروج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحزن إلى الطائف

خروج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحزن إلى الطائف كان الهم الكبير الحقيقي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام، وكان أكثر شيء يزعجه هو بعد الناس عن الإسلام، وأن الموقف تجمد في مكة وأُغلقت جميع أبواب الدعوة فيها، كان هذا أشد ما أثر فيه؛ لأن الدعوة كانت في دمه، ولا يستطيع أن يتوقف عنها، وها هي مكة قد أغلقت كل أبوابها، فهل من المعقول أن يأتي وقت تقف فيه الدعوة؟ مستحيل، الدعوة بالنسبة له كالماء والهواء. إذاً: كيف سيتصرف في هذا الموقف الصعب؟ كان الله سبحانه وتعالى يشفق عليه من كثرة حزنه على الناس، فقال له: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يتحمل وقوف الدعوة؛ لذا فكّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمرة الأولى منذ البعثة أن يخرج بدعوته خارج مكة، وقبل هذا لم يكن هناك خروج من مكة أبداً؛ لأن أبواب الدعوة كانت مفتوحة فيها، ولو بمشقة، لكن في هذا الوقت بعد أن وقفت الدعوة في مكة أصبح هناك مبرر للخروج، وهذا درس مهم، فإن الداعية لا يترك مكانه ويخرج إلى مكان آخر إلا إذا كان المكان الذي يعيش فيه لا يستطيع أن ينشر فيه دعوته؛ لأن مسئوليته الأساسية هي الناس الذين يعيش معهم. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم سيخرج، ولكن إلى أين، فمدن الجزيرة كثيرة، والقبائل فيها متعددة؟ فبمن يبدأ؟

سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الطائف للدعوة

سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم الطائف للدعوة فكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالطائف، ولم يكن هذا الاختيار عشوائياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم سياسي بارع، وقائد محنك يدرس كل خطوة بدقة شديدة، كانت الطائف تتميز عن غيرها من مدن الجزيرة بأشياء مهمة جداً: أولاً: تُعتبر الطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة، فهي مركز حيوي وهام من ناحية الكثافة السكانية والتجارة، ولها مكانة كبيرة في قلوب العرب، فقد كان يقول المشركون: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] القريتان: هما مكة والطائف، فكانت مكانتها عالية، والناس الذين فيها كثر. ثانياً: في الطائف قبيلة ثقيف، وهي من أقوى القبائل العربية، وواضح أن قريشاً بعد هذا سوف تحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن قبيلة قوية تستطيع أن تقف أمام قريش، وهذا ليس من السهل، وقبيلة ثقيف كانت في منتهى القوة لدرجة أنها هي القبيلة الوحيدة التي استعصت على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، وظل يحاصرها شهراً كاملاً ولم تُفتح، وإنما أتوا بأنفسهم وأسلموا، فهي فعلاً قبيلة قوية، وضخمة. ثالثاً: كانت المنافسة الدينية بين مكة والطائف كبيرة، فإذا كانت مكة فيها البيت الحرام وهُبل، فالطائف فيها اللات أشهر أصنام العرب، وكثير من العرب كانوا يحلفون باللات، حتى ممن بداخل مكة، ولعل الطائف ترغب في سحب البساط من تحت أقدام مكة وتتبنى هذه الدعوة الجديدة؛ لكي تتفوق على مكة في ناحية الدين. رابعاً: أن الطائف قريبة نسبياً من مكة، والمسافة بينهما حوالي (100) كيلو، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يبتعد كثيراً عن مكة، ليسهل التنسيق بين مكة والطائف. خامساً: كانت الطائف مهمة بالنسبة لأهل مكة، فأغنياء قريش بصفة عامة كانت لديهم أملاك في الطائف، من بني هاشم وبني عبد شمس وبني مخزوم، ولو دخلت الطائف في الإسلام فستكون ضربة اقتصادية موجعة لقريش. ومن أجل هذا قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ بالطائف، فذهب إليها في شوال من السنة العاشرة من البعثة، في نفس الشهر الذي مات فيه أبو طالب أو بعد على حسب اختلاف الروايات، وهذا يبين إلغاء مصطلح الراحة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كانت المسافة بين الطائف وبين مكة (100) كيلو، والطريق كله صحراء، والجو حار، وكان هذا في مايو أو يونيو سنة (619م)، ومع ذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقطع هذه المسافة مشياً على الأقدام، ولم يكن من الصعب عليه أن يوفر جملاً أو حصاناً، لكنه أراد ألا يلفت النظر إليه، فلو رآه المشركون سيعلمون أنه مسافر، وتتعطل الدعوة، ولهذا السبب أيضاً أخذ معه زيد بن حارثة، ولم يأخذ معه غيره من الصحابة من فرسان المسلمين كـ حمزة أو عمر أو سعد أو الزبير ممن يحميه هناك في الطائف؛ لأن أي واحد من هؤلاء لو خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم خارج مكة سوف يلفت النظر، لكن لو أخذ معه زيد بن حارثة، وكان في ذلك الوقت متبنيه، ومعروف بـ زيد بن محمد، فلن يلفت نظر أحد، فهو رجل يمشي مع ابنه.

موقف أهل الطائف من الرسول صلى الله عليه وسلم حين أتاهم ودعاهم إلى الإسلام

موقف أهل الطائف من الرسول صلى الله عليه وسلم حين أتاهم ودعاهم إلى الإسلام وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وظل يفكر لمن أذهب؟ وأبتدئ بمن؟ لأن الأمر الآن ليس مجرد دعوة فقط، بل هي دعوة وطلب للنصرة ضد قريش، لذا ذهب لسادة الطائف، فالضعفاء لن يجيروه من قريش، وليس هذا تقليلاً من شأن الضعفاء، ولكن هذه مهمة سياسية، ولا يمكن أن يقاس هذا الموقف بموقف (عبس وتولى)، لا بد من الحديث مع من يستطيع أن يتحمل المسئولية، كما أنه في الطائف ليس له أي إجارة، وبدون دخول المدينة من بابها الرئيسي فلن يتمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعوة كبير ولا صغير، ولهذا فكّر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب لقيادة الطائف مباشرة. وفي هذا رد على من يقول: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، فهذه هي السياسة، إلا إذا كان قصدهم أن السياسة لا تنفع إلا بالكذب والنفاق والمظاهر والتجمل الزائف، فأقول له: الإسلام يدعو إلى السياسة النظيفة، والسياسة الشرعية جزء لا يتجزأ من التشريع الإسلامي، وها نحن نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل بها. اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة من أبناء عمرو بن عمير من كبار سادات الطائف، وعرفهم بنفسه ودعاهم للإسلام ودعاهم للنصرة له وللمسلمين ضد قريش، وهؤلاء الثلاثة هم: عبد ياليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير، فكان ردهم في منتهى السفاهة والتخلف وانعدام الأدب، قال عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط -يعني: سوف يقطع- ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وليس هذا استخفافاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا، وإنما بالله عز وجل، أي: سوف يقطع ثياب الكعبة اعتراضاً على إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مسعود: أما وجد الله أحداً غيرك؟ أما الثالث حبيب فحاول أنه يستظرف أو يمثل دور الذكي، إلا أنه كان في منتهى الغباء، قال: والله لا أكلمك أبداً، إن كنت رسولاً؛ لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي أن أكلمك. مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم اصطدم صدمة جديدة إلا أنه قال لهم: (إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني) أي: إن لم تؤمنوا فاجعلوا هذا الأمر بيني وبينكم، فهو لا يريد أن يصل الخبر إلى قريش، فلو وصل الخبر إليهم سوف يتهم صراحة بتهمة التخابر مع قبيلة أجنبية، ومحاولة زعزعة نظام الحكم في مكة، وإثارة الفتنة إلى آخر الأشياء التي تعرفوها، لكن للأسف كان زعماء الطائف مع أنهم أغبياء ومنعدمو الأخلاق، كانوا أيضاً فاقدي المروءة، فهم لم يكشفوا أمره فقط، بل أغروا به سفهاءهم وغلمانهم. لم ييأس الرسول صلى الله عليه وسلم مما حدث، وظل في الطائف عشرة أيام لا يدع أحداً من أشرافهم إلا وكلمه، ولكن كلهم رفضوا، وفي اليوم العاشر قالوا له: اخرج من بلادنا، وصفوا العبيد والسفهاء صفين خارج الطائف، وجعلوه يمر بين الصفين، وبدءوا يرمونه بالحجارة وهو بين الصفين، وبدأ الدم يخرج من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يستطيع التصرف، وزيد بن حارثة يحاول بكل طاقته أن يبعد الحجارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يستطيع، فالحجارة تأتيه من كل مكان، وشج رأسه رضي الله عنه وأرضاه، ومع كل هذا شتائم وسباب ولعنات، والرسول صلى الله عليه وسلم وزيد رضي الله عنه يبذلون قدر استطاعتهم للخروج من بين الصفين في اتجاه مكة، لكن العبيد لم يتركوهم، وأسرعوا خلفهم بالحجارة مسافة خمسة كيلو متر كاملة، ثم رأى الرسول صلى الله عليه وسلم حديقة فدخل فيها، لعله يجد من يدافع عنه، وعندما دخلها خاف العبيد من اللحوق به، وعادوا إلى الطائف. أبعد كل هذا العناء والكد والتعب والمشقة هناك من المسلمين ممن يفرطون بالإسلام؟! الناس لا تدري عن الكم الهائل من التضحيات التي دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعها زيد بن حارثة وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وخديجة وغيرهم، إن الدين لم يأتنا بسهولة، فكل لحظة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيها معاناة شديدة، كل هذا ليبلغنا ويوصل لنا الدين. ثم إني لا أشك في أن حزن الرسول صلى الله عليه وسلم الحقيقي في هذا الموقف كان على أهل الطائف وليس منهم، وكان لسان حاله يقول: يا ليت قومي يعلمون، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً عليهم كما أنه خائف علينا، أكثر شيء يحزنه أن يأتي من يرفض الإيمان وليس أن يؤذيه أو يضربه، فقد قال الله سبحانه وتعالى له: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل:127] وليس ولا تحزن منهم، فإنه كان خائفاً عليهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان رحمة حقيقية للأرض صلى الله عليه وسلم. دخل الرسول صلى الله عليه وسلم الحديقة واستظل تحت شجرة فيها، ووضع ظهره عليها، وكان يسيل الدم عليه، وثيابه مقطعة والتراب يغطيه، فحاول أن يتما

إيمان عداس بالنبي صلى الله عليه وسلم

إيمان عداس بالنبي صلى الله عليه وسلم لما لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديقة خرج أصحابها وهما: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة من كفار مكة، وعتبة بن ربيعة كان يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا، بل دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، وعليك بـ شيبة بن ربيعة) وكان عتبة وشيبة من أغنياء مكة الذين لهم أملاك في الطائف، لكن مع كل العداء المستحكم بين عتبة وشيبة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحالة التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم جعلتهما يعطفان عليه وبعثا له بعنقود عنب مع أحد العبيد، واسمه عداس وكان نصرانياً، وضع الطبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، فمد الرسول صلى الله عليه وسلم يده إلى الطبق وأخذ عنبة، وقال: (بسم الله) ثم أكلها، تعجب عدّاس من هذه الكلمة؛ لأنه لم يسمع بمثل هذا في الطائف، فقال: إن هذا الكلام لا يقوله أهل هذه البلاد، فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يشرح له معنى بسم الله الرحمن الرحيم، بدأ يتعرف على عداس، أول شيء في الدعوة التعارف؛ لأن التعارف له هدف واضح، فهو يتكلم معه بأمر الدين، وسأله أسئلة ذات مغزى حتى في هذه الظروف شديدة القسوة لم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة، فأشراف الطائف رفضوا دعوته وضربوه، وهو يبحث عمن يسمع دعوته حتى ولو كان غلاماً صغيراً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال الغلام: أنا نصراني من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي) هذا الغلام الصغير أدرك في لحظة ما لم يدركه حكماء ثقيف، آمن في لحظة واحدة، وأكب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يديه وعلى رجليه يقبلها، كما لو كان الله سبحانه وتعالى أراد أن يريح قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمان عبد، ولكن هذا العبد بإيمانه أثقل من أهل ثقيف جميعاً. كان عتبة وشيبة يراقبان هذا الموقف من بعيد، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فدعاه وقال له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قال له: ويحك يا عدّاس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه، وكذبوا والله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. كان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من هذا المكان، فهو غير آمن، فعنقود العنب ليس كافياً لإثبات حسن النوايا، فهذان هما عتبة وشيبة لعنهما الله.

خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ووصوله إلى قرن الثعالب ولقاؤه ملك الجبال

خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف ووصوله إلى قرن الثعالب ولقاؤه ملك الجبال بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يمشي في اتجاه مكة، وبدأ يفكّر كيف سيدخلها، فالأفكار في عقله تتصارع، وجعلته يمشي وكأنه في حلم، أو مغمى عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فانطلقت وأنا أهيم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، وهو على بعد (35) كيلو متر من الطائف، مشى الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المسافة وهو لا يدري من شدة الهم والتفكير، وفي قرن الثعالب حدث أمر عجيب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت) وانظروا إلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاءه ملك الجبال ليسمع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين) أي: لو كنت تريد أن أُسقط عليهم الجبال فعلت. فقط عليك أن تأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يفكر، بل قال في منتهى الهدوء: (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يُشرك به شيئاً). انظروا إلى رقي أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كل الألم والحزن والاضطهاد والقهر لا يزال الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف عليهم، ويأخذ قراره بدون انفعال، ومع كل المصائب التي رآها صلى الله عليه وسلم لم يتغير؛ لذا نقول: يستحيل علينا أن نوفي الرسول صلى الله عليه وسلم حقه، ألا يستحق أن يصفه الله عز وجل بأنه على خلق عظيم، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] هذا هو رسولنا! يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الفرق الضخم والمهول بين السياسي الداعية، والسياسي من أهل الدنيا، سياسي الدنيا لا ينظر إلا إلى المصلحة المادية، لكن السياسي الداعية له هدف أصيل، وهو أن يسلم الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، السياسي الداعية لا يحب أن يحصل له التمكين على جثث ملايين الكافرين، وليس هناك مانع من أن يتأخر التمكين قليلاً إلى أن يؤمن الكفار. إذاً: رسالتك في الأرض أن تعلم الناس وليس أن تجلدهم، الناس سوف تضايقك وتؤذيك، لكن هذا لا يغير طريقك؛ لأنك لا تقبض من الناس أنت تأخذ أجرك من الله سبحانه وتعالى، والله لن يضيع مجهودك! وبعد مرور السنين الطوال أخرج الله عز وجل من أصلابهم من لا يكتفي فقط بقول: لا إله إلا الله، ولكن يحمل لا إله إلا الله إلى كل بقعة في الأرض، فمن صلب الوليد بن المغيرة خرج خالد بن الوليد، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو بن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت كل جزيرة العرب، ولم يبق على الإسلام إلا مكة والطائف والمدينة المنورة، ولو دعا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لكان أهلكها الله سبحانه وتعالى، فهاتان المدينتان ثبتتا على الإسلام في زمن الردة، وحملتا الدعوة حتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا علينا أن نفهم ديننا ونفهم دورنا، فدورنا أن نعلِّم من غير أن نمل ولا نكل، ونربي من غير أن نجلد، وندعو جميع العالمين إلى الإسلام من غير أن نأخذ شيئاً منهم، هذا هو دورنا الذي علمناه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطوات حياته.

مرور النبي صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة ولقاؤه الجن وإيمانهم به أثناء رجوعه من الطائف

مرور النبي صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة ولقاؤه الجن وإيمانهم به أثناء رجوعه من الطائف بعد موقف ملك الجبال أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم طريقه إلى مكة، فلما وصل إلى وادي نخلة على بعد (43) كيلو متر من مكة، وقف يستريح قليلاً، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما يستريح لا يستريح بالنوم وإنما بالصلاة، فوقف يصلي ويقرأ القرآن، فهو يتزود ليكمل الطريق. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يظن أنه وحيد في هذا الوادي، وهذا صحيح بالنسبة للإنس، لكن لم يكن صحيحاً بالنسبة للجن، فكان هناك جن في وادي نخلة، جلسوا يستمعون القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله يصف ذلك الحدث: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29 - 32]. إن كان البشر في الطائف ومكة قد رفضوا الدعوة، فهناك مجموعة لا بأس بها من الجن آمنت، وفي الحقيقة أن هذا لا يخوّف، بل يسعد أن تأتي يوم القيامة وتجد في ميزان حسناتك ألف أو مليون جني، فمثلاً: كنت في يوم من الأيام تدعو إلى الله، أو تقرأ القرآن، أو تذكر الله سبحانه وتعالى فسمعك جني وآمن، فهذا خير عظيم.

فوائد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف

فوائد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف قد يظن ظان أن دعوة الطائف لم يكن فيها فوائد، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تعذب من غير ثمن، لكن الحمد لله فقد آمن عدّاس، وهذا أمر لا يستهان به، فهذا غلام أو رجل أُنقذ من النار وسيدخل الجنة إن شاء الله. وهناك أمة ضخمة جداً من الخلق من الجن قد آمنت بهذه الكلمات التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك التثبيت من الله عز وجل عندما بعث للرسول صلى الله عليه وسلم ملك الجبال.

كيفية دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد عودته من الطائف

كيفية دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد عودته من الطائف اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة عند رجوعه من الطائف، فاستوقفه زيد بن حارثة على مشارف مكة، وقال له: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رد عليه بيقين وقال له: (يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه)، كأنه لم تكن هناك أي مشكلة وقعت لا في الطائف ولا مكة، بل كأنه سيبتدئ الدعوة من بدايتها. وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبواب مكة، وبدأ في التفكير في كيفية الدخول إليها، فقرر أن يستفيد من قانون الإجارة في مكة، وهو قانون محترم فيها، بما أن الذي يطبقه هم المشركون، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يستفيد من هذه القوانين طالما أنها لا تتعارض مع شرع الله عز وجل، وليس هذا فحسب، فقد قرر أن يدخل في إجارة مشرك ليس من بني هاشم، وليس بمؤمن؛ لأنه لو دخل في إجارة مؤمن لكان ذلك بمثابة إعلان الحرب بمكة، وسيتميز أهل مكة إلى فريقين: مؤمن، وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، كما أنه لا يجد في بني هاشم على عظمها من يجيره، فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب أشد الأعداء لهذه الرسالة، ولن يقبل ولن يترك أحداً من بني هاشم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم. فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الأخنس بن شريك فلم تكن عنده نخوة، وتعلل بأنه حليف، وأنه ليس رجلاً أصيلاً في مكة، فالحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو وهو من عظماء مكة، وكان من المفروض أن يوافق، لكنه قال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، وسهيل بن عمرو من بني عامر، والرسول صلى الله عليه وسلم من بني كعب، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ويفهم القوانين، ويعرف أنها ليست حتمية، وأنه من الممكن أن يجير الحليف، وأن تجير بنو عامر على بني كعب، وإلا لم يكن ليبعث لهم، كانت هذه اعتذارات مؤدبة من قادة مكة. ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدي أحد زعماء مكة الكبار، وسيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وهو أحد الذين شاركوا في نقض الصحيفة بعد ثلاث سنين. وافق المطعم بن عدي على إجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لبنيه وقومه: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، وخرجت كتيبة مسلحة من بني نوفل تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاطت به الحمايات، وسارت به حتى وصلت به إلى البيت الحرام، فصلى ركعتين وقام المطعم بن عدي فخطب في الناس، فقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت محمداً، فلا يهجه أحد منكم، ثم أوصلوه إلى بيته ووقفوا على بابه يحمونه! تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الحكمة مع الأوضاع المقلوبة في مكة، وكان من المنطقي أن يدخل مكة في حماية سيوف بني هاشم، لكن نذالة أبي لهب وقفت أمام هذا الأمر، لكن هذا الموقف من بني هاشم ومن أبي لهب لم يغلق كل الأبواب، فلا تزال هناك أبواب مفتوحة، نعم هي أبواب كافرة، لكن ما المانع من استغلالها؟ ما المانع من استخدام أحد المعارف من الكافرين للحماية ما دام ليس هناك تنازل ولا تفريط؟ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة مرفوع الرأس، وحوله الأسلحة من كل مكان، لم يدخلها متسللاً أو منهزماً، ومع أن الحماية جميعها آتية من بني نوفل من المطعم بن عدي أحد المشركين، إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً كل الحرص أن يفهم جميع أهل مكة، والمطعم بن عدي أنه لن يتنازل عن الإسلام والدعوة، ولهذا كان أول شيء فعله صلى الله عليه وسلم أن ذهب إلى البيت الحرام يصلي فيه ركعتين على طريقة المسلمين، وأمام جميع الناس؛ ليعلن لأهل مكة ولبني نوفل وللمطعم بن عدي أنه ما زال على نفس الطريق، وسوف يأتي الحجاج لمكة، وسيخرج لهم أيضاً ليدعوهم للإسلام، تماماً كما كان يفعل في أيام أبي طالب. هذا فقه الواقع، المهم لا يكون هناك تنازل. عند ذلك يكون الوضع قد استقر نسبياً في مكة، فالرسول صلى الله عليه وسلم محمي بسيوف بني نوفل، وبكلام المطعم بن عدي الذي قاله وسط جميع الناس، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجل بعيد النظر، حنكته التجارب، يعرف أن هذا الموقف من المطعم موقف مؤقت، فقريش مهما كانت لن تترك المطعم يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم لمدة طويلة أبداً، ومع هذا فـ المطعم أيضاً كافر وله طاقة والموقف صعب، ومن الممكن أنه لا يستطيع أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، كل هذا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن بديل للمطعم بن عدي.

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفود الحج

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لوفود الحج بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يزور الوفود التي تأتي لتحج في مكة، وبدأ يعرض عليهم الإسلام كعادته في ذلك، لكن بدأ يطلب منهم فوق هذا النصرة، وأن يساعدوه ويدافعوا عنه، فهو يريد بديلاً للمطعم بن عدي، وفي نفس الوقت لم يقل صراحة أنه سوف يحارب قريشاً، أو أنه سيقف أمامها؛ لأن المرحلة في ذلك الوقت كانت صعبة والوضع غير مستقر، وكل هذا يتم في ذي القعدة وذي الحجة من السنة العاشرة من البعثة. أي: بعد كل الأحداث المؤلمة والمحزنة التي حدثت في الشهرين الماضيين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحرك بمنتهى النشاط مع كل الظروف العادية التي تحصل لأي إنسان عنده بيت وأولاد، ولديه مسئوليات. ومن هذا الموقف تصلنا رسالة هامة من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي لا عذر لأحد، فكلمة الظروف لم تكن موجودة في قاموس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثير من الناس تعتذر بسبب الظروف: أنت لم تعرف ظروفي، ظروفي غير مناسبة، ليس من يديه في الماء كمن هي في النار! يا أخي الحبيب! أنا أريد منك أن تنظر بأمانة لظروف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتستطيع أن تحكم فعلاً إذا كانت ظروفك صعبة أم لا، فقد كان من الممكن أن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة، ويفتح قلوب العرب لكلامه من أول يوم في الدعوة، ويوفر عليه الجهد والتعب، ويريح قلبه بدلاً من خروجه من حزن ودخوله في آخر، لكن ربنا يعلمنا طبيعة الطريق، فمن الطبيعي أن يكون عندك مشاكل في طريق الدعوة، لكن ليس من المفترض أن توقفك، من الطبيعي أن تحاربك الناس وتؤذيك وتسخر منك، لكن ليس من المفترض أن يوقفك مثل هذا، الناس مريضة بمرض البعد عن ربنا سبحانه وتعالى، وأنت طبيبهم تعالجهم ولا تضربهم، وتحبهم ولا تكرههم. هذه هي الرسالة التي أخذناها من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي أخذناها من مكة والطائف، والتي سوف نأخذها بعد هذا من المدينة المنورة، الرسالة واضحة، طريق الدعوة صعب، لكن لا بد أن نمشي فيه {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34] دعوة وبعدها تكذيب وإيذاء ثم صبر من الدعاة، وفي الأخير {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] فليس هناك طريق آخر، فهذا طريق الرسل، وطريق كل مسلم يحب دينه، ويريد أن يتحرك وسط الناس. بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يكلم الوفود التي أتت لتزور مكة، ذهب لبني كلب، ولبني كندة، ولبني حنيفة، وذهب لغيرهم، ومع ذلك ما قبل أحد منهم الإسلام، كل هذا وعمه أبو لهب يمشي خلفه في كل زيارة، الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على كل قبيلة، ويقول لهم: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتسمعوني وتصدقوا بي، حتى أُبين عن الله ما بعثني به، يريد منهم أن يسلموا ويدافعوا عنه، وأبو لهب هو أيضاً يبذل مجهوداً، فبعد أن ينتهي الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه يقف ويقول لهم: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعماقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، يدعي أن هذا ما هو إلا البدعة والضلالة، وأيضاً يقول: فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فالناس يسألون ويقولون: من هذا؟ فيقال: عمه، فيقول: من المؤكد أنه يعرفه أكثر منا، فلا يؤمنوا، فيذهب أبو لهب فرحاً بنفسه، ويرى أنه قد أدى واجبه، ولا يعرف أنه يحفر لنفسه قبراً في جهنم، فهذا اسم على مسمى أبو لهب، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3] أي: أنه باسم النار التي سوف يدخلها. أحد أصحاب القومية العربية كان يجعل هذا الاسم كنيته، وقال: لأن أبا لهب كان عربياً، وهو يعتز بالعروبة وبأي عربي. كل القبائل رفضت الدعوة، ولم يكن هناك أحد يفكر، إلا قبيلة واحدة فقط التي أخذت الموضوع بجد وفكّرت في الإسلام، ولكن كانت هناك نقطة معينة اشترطوها على الرسول صلى الله عليه وسلم ليسلموا ويدافعوا عنه. ما هي هذه القبيلة؟ وما الذي اشترطوه على رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وما هو رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذه القبيلة هي قبيلة بني عامر، وهي من أعز قبائل العرب، وهي إحدى خمس قبائل لم تعرف في تاريخها كله سبياً لنسائها، ولا دفعاً لإثارة غيرهم، والمباحثات معها في غاية الحساسية، عرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام وطلب منهم النصرة كبقية القبائل، وكان زعيمهم بيحرة بن فراس واهتم بالموضوع ووقف يقول لأصحابه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العر

بيعة العقبة الأولى

سلسلة السيرة النبوية_بيعة العقبة الأولى في دين الله عز وجل ينظر إلى الكيف لا الكم، إلى العمل لا التوقعات وترقب الأجواء المناسبة والظروف المواتية، وهكذا سارت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، عمل شاق في كل وقت وحين، ودعوة في كل الظروف ولكل الأشخاص، وتطوير للدعوة وأساليبها، وحرص على إبلاغ جميع الناس كبيرهم وصغيرهم قويهم وضعيفهم، ومع ذلك ما نصرت الدعوة بقريش وسيادتها، بل خذلته وحاربته، ثم أذن الله لفئة من أهل يثرب أن تبنى على أكتافهم قواعد بناء الدولة في المدينة المنورة، وقبلوا بشروط أنف منها أناس، واستعظمها آخرون، ولم يأبه بها البعض، لأعذار واهية، وأطماع دنيوية.

السياسة الدعوية للرسول صلى الله عليه وسلم بين وفود الحجيج للعام الحادي عشر من البعثة

السياسة الدعوية للرسول صلى الله عليه وسلم بين وفود الحجيج للعام الحادي عشر من البعثة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية المطهرة، فترة مكة. تكلمنا في الدرس السابق عن العام العاشر من البعثة، وهو العام الذي عرف في السيرة بعام الحزن، وحدثت فيه الكثير من الشدائد والمصائب والآلام والأحزان، مات فيه أبو طالب مشركاً، وماتت فيه السيدة العظيمة الفاضلة خديجة رضي الله عنها، واشتد إيذاء المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلقت أمامه أبواب الدعوة تماماً في مكة، ورفضت دعوته في الطائف، ورجم بالحجارة حتى سالت الدماء من قدميه صلى الله عليه وسلم، وشج رأس زيد بن حارثة، ولم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم دخول مكة إلا في جوار المطعم بن عدي المشرك، وفوق ذلك لم تؤمن أي قبيلة في موسم الحج من السنة العاشرة. كيف تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوضع؟ في السنة الحادية عشرة من البعثة ظل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة طوال العام، لكن أبواب الدعوة في هذا الوقت كانت مقفلة تقريباً، فكان لا بد له أن ينتظر موسم الحج القادم ليعرض الأمر على وفود القبائل التي ستأتي للحج، ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في أثناء هذه السنة، وقبل موسم الحج لم يكن يسمع أن هناك أحداً غريباً أتى إلى مكة إلا ودعاه إلى الإسلام، ومن كل الذين أتوا إلى مكة في السنة الحادية عشرة من البعثة، آمن أربعة بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مقارنة بالعام السابق يعتبر إنجازاً جيداً؛ ففي السنة الماضية لم يؤمن غير عداس في الطائف، ومجموعة الجن. أما الأربعة الذين أسلموا في السنة الحادية عشرة فمنهم من لم نسمع عن أسمائهم كثيراً، لأنهم ماتوا بعد إسلامهم، رجل اسمه سويد بن الصامت وكان شاعراً من شعراء يثرب، والثاني اسمه إياد بن معاذ وكان طفلاً صغيراً عمره (12) أو (13) سنة، وكلاهما مات بعد شهور من إسلامه. أما الاثنان الباقيان فقد كان إسلامهما مؤثراً؛ لأن كل واحد منهما أتى بعد ذلك بقبيلة كاملة للإسلام. الأول: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه من قبيلة غفار على مقربة من يثرب، وهي قبيلة مشهورة بقطع الطريق والسطو على الناس، ومع ذلك أسلم أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه ورجع إلى قبيلته يدعوهم إلى الله، وكانت دعوته ناجحة، فقد أتى بقبيلة غفار كاملة للإسلام، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ذهبوا إليه في المدينة يبايعونه على الإسلام، وحينها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها)، أي: كل ما فات مسح. الثاني: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، وقصة إسلامه جميلة، وليس هناك وقت للدخول في تفصيلاتها، لكن المهم أنه بعد إسلامه رجع يدعو قومه، وقبيلته هي دوس من قبائل اليمن، وبعد مشوار طويل وقصة لطيفة آمنت دوس، وجاء الطفيل رضي الله عنه بسبعين أو ثمانين عائلة من دوس إلى المدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، والعائلة في ذلك الوقت عدد أفرادها كبير. فإسلام أبي ذر والطفيل رضي الله عنهما أتى للمسلمين بقبيلتين كبيرتين، مع أن تلك القبيلتين لم تأت إلا بعد الهجرة، لكن هذا تدبير رباني من الله سبحانه وتعالى، يدبر بلطف وخفاء سبحانه وتعالى، ومن المؤكد أن إسلام هاتين القبيلتين كان نصراً كبيراً للدعوة في ذلك الزمن الذي يعرف بزمن الاستضعاف في فترة مكة. مرت الشهور وجاء موسم الحج من السنة الحادية عشرة من البعثة، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم كعادته في كل موسم يدعو الناس إلى الإسلام، لكن في هذا الموسم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يغير من طريقته لدعوة القبائل. ذكرنا قبل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في إجارة المطعم بن عدي من بني نوفل، وهو مشرك، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن المطعم له طاقة محدودة، وأصحابه وأقرانه هم زعماء الكفر في مكة، ولن يتركوه كثيراً يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لا بد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن بديل للمطعم بن عدي.

التغييرات على أسلوب الدعوة في العام الحادي عشر من البعثة

التغييرات على أسلوب الدعوة في العام الحادي عشر من البعثة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في خلال الأعوام العشرة السابقة إلى الإسلام فقط، (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، لكن الإسلام لوحده لم يكن كافياً، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم مع الإسلام إلى طلب النصرة، والدفاع عنه وعن المؤمنين ومواجهة قريش. وكانت هذه المطالب خطيرة في مكة، لأن قريشاً لو علمت بذلك ستقيم الدنيا ولن تقعدها، فـ أبو لهب لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يطارده في كل مكان. وكانت هناك مشكلة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف تاريخ كل قبيلة في الجزيرة، ومدى قوتها، وأسماء القادة فيها، لاحتمال أن يتفق مع أحدهم ثم لا تتحمل قبيلته المسئولية، وهذه اتفاقيات في منتهى الخطورة، ولتفادي هذا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم غير شيئين مهمين، الأول: جعل دعوته للقبائل سرية، فالرسول صلى الله عليه وسلم من السنة الرابعة من البعثة وهو يكلم الناس علناً، كان يتكلم أمام أبي لهب وأبي جهل وكل المشركين، لكن الأمر اختلف، وكان هناك مرونة في الدعوة، إذا كانت العلنية لن تؤدي المهمة فلتكن سرية، ليس هناك عنترية ولا انتحار، بل هناك تخطيط وإعداد وفكر سياسي راق، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة بالليل فقط، يخرج بالليل من غير أن يراه أحد، وفي كل يوم يختار للدعوة قبائل معينة، ويذهب إلى مخيماتهم خارج مكة في السر، لكي لا يراه أحد، وبذلك سيضرب عصفورين بحجر؛ لأنه سيوصل لهم الدعوة من غير تشويش من أبي لهب أو قريش، ولأن قريشاً لن تعرف ما هي القبيلة التي وافقت على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: كان أول تغيير في سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة أن جعل دعوته للوفود الحاجة سرية. الثاني: أنه اصطحب معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لأنه كان خبيراً بالأنساب، يستطيع أن يعرف القبيلة القوية العزيزة من القبيلة الضعيفة، ويستطيع أن يعرف زعماء القبائل وتاريخهم، لو كانت القبيلة قوية فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم الإسلام، ويطلب منهم النصرة، ولو كانت القبيلة ضعيفة أو زعيمها ليس بيده القرار عرض عليهم الإسلام، لكن لم يطلب منهم النصرة. تخطيط مهول، فبناء الأمم ليس شيئاً سهلاً، تخطيط سياسي على أعلى مستوى.

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لقبيلة بني شيبان ونتائج ذلك

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لقبيلة بني شيبان ونتائج ذلك ذهب صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة غسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نصر، وبني ثعلبة، وبني الحارث بن كعب، وبن عذرة، وبني قيس، وبني محارب، ذهب إلى كل هؤلاء وإلى غيرهم، فلم يقبل أي من هؤلاء الدعوة. وليس هناك مشكلة؛ لأن مهمتنا ليست الهداية، ولكن البلاغ، لا يهم كم آمن على يديك، لكن المهم كم عدد الذين أبلغتهم أمر الإسلام، هذا هو الذي يحاسبك عليه ربنا، عملك وليس نتائجك. المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصبه اليأس بعد أن انتهى من كل هذه القبائل، بل ذهب إلى قبيلة أخرى وهي قبيلة بني شيبان؛ وسنقف وقفة مع مباحثات الرسول صلى الله عليه وسلم مع بني شيبان. قبيلة بني شبيان قبيلة كبيرة عزيزة تسكن في الشمال الشرقي لجزيرة العرب -يعني: قريبة من العراق-، ذهب إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق، فبدأ أبو بكر أولاً يسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، بعد أن سمع أبو بكر هذا الاسم أسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! هؤلاء غرر الناس، من أعظم القبائل، وعندما سأل عن أسماء الحضور وجد فيهم أشراف بني شيبان: مفروق بن عامر، وهانئ بن قبيصة، والنعمان بن شريك، والمثنى بن حارثة. وأبو بكر يعرفهم ويعرف تاريخهم، كما أنه حاد الذكاء فبدأ يستثير الحماسة والعزة عندهم، قال الصديق: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق وهو المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة، وهذا رقم كبير، ولا ننسى أن المسلمين كانوا في بدر (313) أو (314)، وكان الكفار ألفاً. فأثاره أبو بكر أكثر وقال له: وكيف المنعة فيكم؟ أحس مفروق بالإهانة فعلاً، فرفع صوته وقال: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى -يعني: في الحرب-، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى. كلام في منتهى الحكمة والقوة، وهذا ما كان يريده الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أن يظهر العزة والكرامة التي عنده، حتى إذا ما طلب منه الوقوف أمام قريش لا يتراجع أو يتردد. وكما أن مفروقاً كان منتبهاً لأسئلة الصديق، قال له: لعلك أخو قريش؟ أي: هل أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى دين جديد، يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم. فأحب الصديق أن يكسب نقطة في الحوار، فقال له بمنتهى الذكاء: أو قد بلغكم أنه رسول الله؟! يعني: كأنهم متفقون على أنه رسول، وأمر واقع مسلّم به. لكن مفروقاً كان ذكياً وانتبه لسؤاله فرد عليه وقال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك. لكن الحقيقة أنه كان رجلاً مؤدباً، وكل وفد بني شيبان كذلك، التفت مفروق للرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: وإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يتكلم قال: (أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد). ويبدو أن مفروقاً أعجبه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يخاف من قريش، لكنه أحب أن يتعرف أكثر على الدين الجديد، قال: وإلام تدعو يا أخا قريش؟ فكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ له قرآناً، وعندما وجد الوفد أخلاقهم عالية، اختار لهم آيات قرآنية تحض على الأخلاق الحميدة، لكي يقف معهم على أرضية مشتركة، فقرأ لهم صلى الله عليه وسلم من سورة الأنعام قول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151 - 153] انبهر

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للخزرج في العام الحادي عشر من البعثة

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للخزرج في العام الحادي عشر من البعثة قام الرسول صلى الله عليه وسلم من مجلس بني شيبان، وانتقل مباشرة إلى مجلس فيه ستة من الرجال، وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يترك صغيراً ولا كبيراً إلا ودعاه للإسلام. نسي الرسول صلى الله عليه وسلم كل شيء عن بني شيبان، وبدأ يتكلم مع هؤلاء في منتهى الحماس، قال: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. الخزرج قبيلة كبيرة مشهورة في يثرب، كما أن لديهم قبيلة مشهورة أخرى هي الأوس، وهؤلاء هم الأنصار، ويثرب مدينة في شمال مكة على بعد حوالي (500) كيلو تقريباً. بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم المفاوضات بسؤال مهم، قال: (أمن موالي اليهود؟! -يعني: حلفاء اليهود؟ - قالوا: نعم). كان الرسول صلى الله عليه وسلم مطلعاً على أحوال زمانه، وكان يعرف موازين القوى في العالم، فمثلما كان يعرف وضع بني شيبان ومملكة فارس، وخطورة أن يتعامل مع بني شيبان، وعين لهم معه وعينهم الأخرى مع كسرى، أيضاً كان يعرف أن اليهود يعيشون في يثرب، وأنهم قوة سيكون لها أثر إما سلبي وإما إيجابي، ومن المؤكد أنه سيكون لها أثر أيضاً على من يعيشون بجانبهم. فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخلفية في ذهنه، ثم قال لهم: (أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى) وجلسوا، فجلس معهم الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن، كأي قبيلة من القبائل، فآمن هؤلاء الستة من ساعتهم. لقد مرت علينا في السيرة مواقف كثيرة يؤمن فيها الإنسان بمجرد سماع القرآن، لكن هذا يكون على المستوى الفردي، لكن هذا الإيمان الجماعي غريب، ولا بد أن نقف معه وقفة لكي نحلل ونستفيد. الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى كان يعد هذه المجموعة بطريقة عجيبة؛ لكي تقبل الإسلام بهذه السهولة، ثم بعد ذلك تتحرك بالإسلام بنفس السهولة، وكان هذا الإعداد بأمور: أولاً: خلفية العلاقة مع اليهود. اليهود خلق عجيب، كان إذا حدث بينهم وبين الأوس والخزرج خلاف قالوا لهم: إنه سيظهر في هذا الزمان نبي وسوف نتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم، ونتيجة هذه الأخلاق الفاسدة وقر في قلوب الأوس والخزرج بغض شديد لليهود، وفي نفس الوقت خوف كبير منهم، لكن الأهم من ذلك أن الأوس والخزرج كانوا يقتنعون بقرب ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل كانوا يصدقون فكرة ظهور الرسل على خلاف أهل مكة، وفي نفس الوقت يملؤهم الخوف من الرسول الذي سيظهر واتحاد اليهود معه، فلما سمعوا هذا الكلام قال بعضهم لبعض بمنتهى الصراحة وأمام الرسول صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا قوم! تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. لولا غلظة اليهود ما أخذ الخزرج قرارهم بهذه السرعة. ثانياً: الخلفية الاجتماعية لمدينة يثرب في ذلك الوقت، كانت هناك حرب أهلية طاحنة بين الأوس والخزرج، ففي يوم بعاث المشهور دارت حرب هائلة بين الأوس والخزرج، وهذا اليوم كان في نفس السنة، كان في السنة الحادية عشرة من البعثة، منذ شهور قليلة، ولو استمر الحال على هذا الأمر لفنيت القبيلتان. ففكر الخزرج أن هذا الرجل -صلى الله عليه وسلم- بما له من حلاوة منطق وقرآن معجز يستطيع أن يجمع القبيلتين ويحفظهم من الهلكة، وهم بأنفسهم قالوا هذا الكلام، قالوا: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. تقول السيدة عائشة: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم -يعني: بسبب هذا اليوم أتى الناس وآمنوا بسرعة- وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم -يعني: شرفاؤهم- وجرحوا، فقدمه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الإسلام. إذاً: خلفية العلاقة مع اليهود، وخلفية الصراع المهلك الذي كان في يثرب جعل هؤلاء الستة يسلمون بسرعة، وليس هكذا فقط، بل جعلهم يرجعون بسرعة إلى يثرب ليحاولوا نشر الإسلام بأسرع طريقة؛ لكي يوحدوا الأوس والخزرج، ولكي يستطيعوا أن يقفوا أمام اليهود. هذا ترتيب رباني عجيب! ينصر رسله والذين آمنوا في الوقت الذي يشاء، وبالطريقة التي يشاء، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطط لمقابلة هؤلاء الستة هذه السنة، لكنه كان يعمل في دعوته بمنتهى الحماس، قابل بني عامر وبني شيبان وبني عبس وبني حنيفة وغيرهم وغيرهم، ولكن ربنا شاء أن يؤمن هؤلاء، وفي هذا التوقيت بالذات. ونعود ونقول: ليس المهم كم شخصاً آمنوا على يديك، ولكن المهم كم شخصاً أوصلت إليه رسالة الإسلام. وهؤلاء الستة هم: أسعد بن زرارة وجابر بن عبد الله وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر. وقطبة وعقبة ليسا بإخوة ولكنه مجرد تشابه في الأسماء رضي الله عنهم أجمعين. قال هؤلاء الستة: فسنقدم على قومنا يا رسول الله، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن

لقاء الرسول بأصحابه في بيعة العقبة الأولى

لقاء الرسول بأصحابه في بيعة العقبة الأولى مرت الأيام وجاء موسم الحج من السنة الثانية عشرة من البعثة، وأصبح الستة اثنى عشر، وجاءوا يقابلون الرسول صلى الله عليه وسلم. الذي ينظر إلى عام الحزن والعام الذي بعده -العام العاشر والحادي عشر من البعثة- يرى أنه من المستحيل لأمة الإسلام أن تقوم إلا بعد قرون، لكن مجموعة صغيرة من الخزرج آمنت، وبعد سنتين فقط أصبح للمسلمين دولة! من الواضح أن النصر قد يكون قريباً مهما كانت الفجوة بينك وبين عدوك واسعة وكبيرة، لكن المهم أنك تمشي في الطريق الصحيح، والطريق الصحيح هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك ندرس السيرة. جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع الاثني عشر مسلماً الذين جاءوا من يثرب، عشرة من الخزرج واثنين من الأوس، وبدأ معهم المفاوضات، وهذه المفاوضات عرفت في التاريخ بعد ذلك باسم بيعة العقبة الأولى؛ لأن المكان الذي تمت فيه كان عند العقبة، والأولى لأن هناك بيعة أخرى ستأتي بعد ذلك بسنة. واتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المسلمين، ولكن لم يطلب منهم النصرة والمساعدة كما طلبها من بني شيبان أو من بني عامر أو من غيرهم؛ لأنه يعرف أن القرار ليس بأيديهم في يثرب، ولا يريد أن يحملهم فوق طاقتهم، وفي نفس الوقت يربيهم لكي يحملوا هذه المهمة مستقبلاً، وفوق ذلك كان يريد أن يزيد من عدد المسلمين في يثرب، حتى يصل إلى المستوى الذي يمكنهم فيه من تحمل مسئولية الدفاع عن الإسلام.

بنود بيعة العقبة الأولى

بنود بيعة العقبة الأولى يحكي لنا عبادة بن الصامت قصة البيعة، وكان من الذين شاركوا في هذه البيعة الهامة في تاريخ الإسلام، يقول عبادة: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، عرفت بذلك لأنها لم يشترط فيها جهاداً ولا حرباً. وكانت بنود البيعة كالتالي: البند الأول: على أن لا نشرك بالله. البند الثاني: ولا نسرق. البند الثالث: ولا نزني. البند الرابع: ولا نقتل أولادنا. البند الخامس: ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا. البند السادس: ولا نعصيه في معروف. هذه هي الشروط التي على الصحابة. والجزاء: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم). البيعة بسيطة في ألفاظها وفي عدد كلماتها، لكنها عميقة في معانيها، فهي تضع قواعد لبناء المجموعة التي من الممكن أن تحمل مستقبل الأمة الإسلامية على كتفيها. أول بند ذكره هو القضية الأساسية في الإسلام: أن لا نشرك بالله. العقيدة الصحيحة، لا يقدم أمر على أمر الله عز وجل، لا بد أن يعرفوا ذلك من أول يوم. أما البند الثاني والثالث والرابع والخامس في البيعة فهي بنود ذكرت لأجل هدف واحد، هو الارتفاع بأخلاق هذه الأمة إلى أعلى مستوى. لا تقوم الأمة على أكتاف المترخصين في قضية الأخلاق، إن ضاعت الأخلاق ضاع كل شيء، ضاعت السياسة، والاقتصاد، والحكم، والقضاء، والمعاملات، وكل شيء. إذاً: بعد بند العقيدة الأولى أتى بأربعة بنود من أجل قضية الأخلاق. أما البند السادس فهو مهم ويحتاج إلى وقفة. يقول جابر: ولا تعصوني في معروف. وهذا البند يوضح شيئين لا تقوم أمة الإسلام من غيرهما: الشيء الأول: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم عصيانه. الشيء الثاني: أن هذه الطاعة لا تكون إلا في المعروف. وهذا بند قد يستغربه بعض الناس؛ لأن من البدهيات أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يأمر إلا بالمعروف، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يضع قواعد لمستقبل الأمة الإسلامية حتى يوم القيامة، فالذي يقوم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم في غيابه أو بعد موته لا بد أن يطاع، ولكن لا يطاع إلا في معروف، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وهذه قاعدة أصيلة في بناء الأمة الإسلامية.

جزاء أهل بيعة العقبة

جزاء أهل بيعة العقبة أما عن الثمن في مقابل تنفيذ هذه البنود، فإنه لم يعدهم بمال ولا برئاسة ولا بوضع اجتماعي معين، ولا أمن وأمان، وإنما قال كلمة واحدة، ولا يوجد أحد يستطيع أن يحمل مهمة بناء الأمة الإسلامية إلا إذا كان غرضه في النهاية هذه الكلمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن وفيتم فلكم الجنة)، أما كل الأثمان الأخرى من مال ورئاسة وأمن وراحة فقد تأتي وقد لا تأتي، ليست هي القضية، وليست هي منتهى أحلام المؤمنين، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فقط الجنة. وهنا يتضح الفارق الهائل بين مجموعة الأنصار التي بايعت هنا، وبين قبائل بني شيبان وبني عامر وغيرهم ممن اشترطت شروطاً معينة للإيمان، لكن مع كل التكاليف التي فرضت على الأنصار لم يكن هناك أي وعد بأي شيء إلا الجنة، ولذلك بارك ربنا سبحانه وتعالى في هذه البيعة، وكان آخرها دولة وسيادة وتمكيناً. هذا هو ديننا. عاد الاثنا عشر إلى يثرب، التي أصبح اسمها: المدينة المنورة عندما هاجر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن حينها وهم معروفون باسم الأنصار، وبقي معهم هذا الاسم؛ لأنهم فعلاً الذين نصروا الدعوة، ونصروا الإسلام، ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصروا المهاجرين، وتغير حال المسلمين تماماً بعد إسلامهم.

سفارة مصعب إلى المدينة ومهامه فيها

سفارة مصعب إلى المدينة ومهامه فيها بعث الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً من المسلمين المكيين إلى يثرب، يمثل دور السفير، لكنه في الحقيقة أعلى بكثير من دور السفير العادي الذي ينقل الرسائل من وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت له أدوار إيجابية مهمة: الدور الأول: تعليم المسلمين هناك الإسلام. الدور الثاني: أن يكون صورة متحركة للإسلام، وقدوة للناس. الدور الثالث: إدخال القدر الذي يستطيعه من أهل البلد في الإسلام، لكي تكون حماية البلد بعد ذلك معتمدة على أبنائه من داخله. الدور الرابع: تمهيد البلاد نفسياً لاستقبال المسلمين بعد ذلك من مكة والحبشة، أو من أي مكان في الأرض. الدور الخامس: دراسة الوضع العسكري والأمني والاقتصادي ليثرب؛ لأنها ستكون دار الهجرة. كانت المهمة ضخمة؛ لأنها مهمة التخطيط لبناء دولة، ولا بد أن الذي سيختاره يكون أهلاً لهذه المهمة.

سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لدور السفير إلى المدينة

سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لدور السفير إلى المدينة اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه، ولا بد أن نقف وقفة مع مصعب بن عمير، ومع سبب اختياره من دون كل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. لقد اتصف مصعب بصفات كثيرة، جعلته يستطيع القيام بهذه المهمة الكبيرة، وهذا يثبت أن الاختيار كان حكيماً، ولم يكن عشوائياً أبداً. أولاً: كان مصعب بن عمير من أعلم الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، كان يحفظ كل ما نزل من القرآن، وهو من أوائل من أسلم، وخاض التجربة الإسلامية من أولها، ويعرف متى نزلت آيات القرآن ومعناها، ورأي الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير الآيات التي نزلت. إذاًَ: نقطة العلم نقطة في غاية الأهمية، وبالذات أن المسافة بين مكة ويثرب (500) كيلو، وليس هناك فرصة لسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هناك مصادر أخرى للعلم غير مصعب، فلا بد أن يكون عالماً بحق، وحفظ القرآن كان مهماً جداً؛ لأنه ليس مجرد وسيلة معجزة لإثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه أيضاً دستور ومنهاج حياة كاملة للمسلمين، فالذي يحفظ القرآن ويفهمه ويعمل به هو أصلح واحد من يقوم بهذه المهمة. ثانياً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه كان يتصف باللباقة والذكاء والهدوء والصبر، وسعة الصدر والحلم، وهذه صفات أساسية في أي داعية، كان مصعب إنساناً رقيقاً هادئاً متواضعاً، فيه ذكاء شديد، أي: أنه داعية مثالي. ثالثاً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه من أشراف أهل مكة، كان من بني عبد الدار الذين يحملون مفتاح الكعبة، ويتوارثونه كابراً عن كابر، وليس معنى هذا أن الإسلام أتى ليفرق بين أصحاب الأصل الشريف وبين غيره من الناس، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي حالة أهل يثرب، ولا يريد أن يفتنهم، يا ترى ماذا سيكون حالهم لو ذهب إليهم رجل بسيط ضعيف عبد أو حليف؟ ربما لن يسمعوا منه أصلاً، لكن مصعب بن عمير من أشرف الصحابة نسباً. رابعاً: مصعب بن عمير رضي الله سيكون خير قدوة للأغنياء الذين يريدون الدخول في هذا الدين، ويترددون بسبب ملكهم أو أموالهم؛ لأن مصعباً يقدم لهم المثال العملي لرجل استطاع أن يترك المال من أجل الدعوة، وكذلك الفقراء سيتأكدون أن الدين لا يفرق بين الغني والفقير فعلاً. خامساً: سيكون إرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب إعلاناً واضحاً لأهل يثرب ولمكة ولغيرهما أن هذا الدين ليس ثورة من الفقراء على الأغنياء، هذا هو السفير الإسلامي كان رجلاً غنياً وواسع الغنى، ثم ترك ماله ليصبح مسلماً وإن كان فقيراً، وهذا يعني أن دعوة الإسلام لم تظهر من أجل عوامل اقتصادية كما يقول كثير من الناس. سادساً: هذا السفير المنعزل في يثرب الذي يعيش على بعد (500) كيلو من الرسول صلى الله عليه وسلم قد يفتن بالدنيا هناك، وبراحة العيش، ورغد الحياة، مثل ما نرى نحن من يكون شعلة من النشاط، لكن عندما تعرض عليهم الدنيا يفتنون بها ويبتعدون عن الطريق، أما مصعب فلم يكن هكذا، فقد نجح في الاختبار الصعب الذي قامت به أمه معه، ولئن كان قادراً على رفض الدنيا من يد أمه، فهو على رفضها من أيدي الآخرين أقدر. سابعاً: الداعية المنعزل الذي يعيش لوحده بعيداً عن المسلمين، ويعلم الناس والناس تمشي وراءه، قد يفتن بفتنة الرئاسة والزعامة، وينسلخ عن الصف بمن تبعه، وهذه كارثة حقيقية، لكن مصعباً في الحقيقة أثبت قدرته على الوقوف أمام فتنة الرئاسة؛ فـ مصعب من بني عبد الدار، ومكانته في قريش معروفة، وزعامته فيها كانت وشيكة لولا ارتباطه بهذا الدين، لو كان فعلاً يريد الزعامة لظل على شركه ولم يدخل في الإسلام، لكنه اختار الإسلام ورفض الزعامة. ثامناً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه كان من المهاجرين إلى الحبشة في الهجرتين الأولى والثانية، ونحن لا نعرف متى عاد من الهجرة الثانية، ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم استدعاه لأجل هذه المهمة، ولا شك أن هجرة الحبشة قد أكسبته خبرة كبيرة في التعامل مع الأغراب، ومع عادات وتقاليد مختلفة، فإذا كان يستطيع أن يتعامل مع أهل الحبشة وهم ليسوا عرباً أصلاً، ودينهم غريب على الجزيرة العربية، فيستطيع أن يتعامل مع أهل يثرب الذين هم من العرب، وفي نفس الوقت دينهم هو الدين الذي عليه أهل مكة. تاسعاً: هجرة الحبشة أعطت مصعباً القدرة على ترك الديار ومفارقة الأهل والأحباب. نحن لا نعرف مهمة يثرب كم ستأخذ من الوقت، سنة أو سنتين أو ثلاث سنين، فالذي استطاع أن يصبر على الهجرة فترة طويلة، يستطيع أن يصبر على هذه الهجرة أيضاً. عاشراً: أن مصعب بن عمير رضي الله عنه كان عمره (35) عاماً وقت هذه السفارة، وهذا سن مناسب جداً لهذا العمل، فهو ليس شاباً صغيراً حتى يتهور أو يندفع، وليس شيخاً مسناً حتى تصعب عل

طريقة مصعب في الدعوة إلى الله في المدينة

طريقة مصعب في الدعوة إلى الله في المدينة عاد الأنصار ومعهم الصحابي الجليل القدوة مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى يثرب، وبدءوا يقومون بعمل منظم في يثرب، وفي تلك السنة كانت يثرب مختلفة تماماً عن السنوات التي قبلها، بعد أن كانت غارقة بالدم نتيجة الصراع بين الأوس والخزرج. نزل مصعب بن عمير رضي الله عنه في ضيافة أسعد بن زرارة الخزرجي رضي الله عنه، وأسعد لم يكن عمره آنذاك قد وصل ثلاثين عاماً، لكنه كان من أحكم الصحابة رضي الله عنهم، كان أسعد يعرف كل أهل المدينة، وكانت له علاقات جيدة بمعظمهم، لكن ليس عنده علم مصعب، ومصعب عنده علم غزير، لكن لا يعرف أحداً في المدينة. كان أسعد رضي الله عنه يأخذ مصعباً رضي الله عنه إلى كل بقعة في يثرب، ويدخل به كل بيت وملتقى وشارع، ويعرفه بكل من لقيه، وبعد أن يعرفه عليه يبتدئ مصعب بن عمير رضي الله عنه بالتعريف بالإسلام وقراءة القرآن، وهكذا كانا، فـ مصعب بغير أسعد لن يستطيع أن يصل إلى أهل يثرب، وأسعد بغير مصعب لا يستطيع أن يقنع الناس بحلاوة الإسلام، وأسعد بهذه الطريقة كان من خير الدعاة، نعم هو لا يخطب ولا يتكلم، لكن من غيره مصعب لن يتكلم، وهذه حلاوة الدعوة، والعمل الجماعي، كلٌ يجد له دوراً يكمل به دور الآخر، وكل هذا يفيد الدعوة بلا شك. والجميل في أسعد بن زرارة رضي الله عنه أنه لم يكن يأخذ مصعباً إلى الخزرج فقط، ولكنه كان يأخذه إلى الأوس أيضاً، نسي الصراعات القديمة والدم والثأر والقبلية، وعاش حياته كلها للإسلام فقط.

إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير

إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير من أجمل وأروع وأعظم ما حدث مع أسعد ومصعب دعوة أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وهما سيدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس، وهي قبيلة أخرى غير قبيلة أسعد. ذهب أسعد بـ مصعب إلى حديقة للأوس، وجمع له الذي استطاع أن يجمع منهم، وبدأ مصعب يقرأ عليهم القرآن، كل هذا وسادات الأوس في الحديقة، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا ما زالا مشركين، فسمع سعد بن معاذ بأمر مصعب وأسعد، فغضب غضباً شديداً، وفكر أن يذهب إليهما، لكن أسعد بن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ فرأى غير ذلك، فقال سعد بن معاذ لـ أسيد بن حضير: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا، فأخذ أسيد حربته وذهب إليهما، فلما رآه أسعد آتياً من بعيد لم يخف، ولكنه قال لـ مصعب كلمة في منتهى الأهمية، قال له: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. انظروا إلى فقه أسعد، علم أن الصدق مع الله يفتح القلوب، ويُذكر من؟! يذكر مصعباً القارئ المقرئ، يذكر الرجل الذي عنده علم، لكن: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. قال مصعب لـ أسعد: إن يجلس أكلمه، فجاء أسيد ووقف عليهما مستعداً للقتال، وقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. يعني: اذهبا من هنا لو كنتما تخافان على أنفسكما. كلام غليظ مستفز، لكن قلب مصعب واسع، فقال في منتهى الهدوء وسعة الصدر: أو تجلس فتسمع؟! فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره. فقال أسيد بن حضير: أنصفت، وجلس وهو مستند على حربته. بدأ مصعب رضي الله عنه يتكلم عن الإسلام، وبدأ يقرأ القرآن، ووقعت كلمات الرحمن في قلب أسيد بن حضير فتغير وجهه تماماً، وذهب الغضب من وجهه، وبانت عليه سكينة وهدوء، وتأثر لدرجة أن أسعد بن زرارة يقول: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله. قال أسيد بن حضير: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله، وبعد ذلك قال كلمة عجيبة جداً وهو جالس في نفس اللحظة: كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ كان الرجل يقف مستعداً للقتال، وفي لحظة ترك دينه الذي عاش عليه سنوات وسنوات بمجرد أن سمع بعض الآيات، وبعد أن جاء ليطردهما وأسعد من الخزرج ومصعب ليس من المدينة أصلاً، لكن كلمات القرآن كانت تنزل على قلب أسيد برداً وسلاماً، غيرته كلية من دينه ومن حياته، يريد أن يدخل في الإسلام مباشرة. قال له أربعة أشياء: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم الرابعة: تصلي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، وأصبح أسيد مسلماً. بهذه السهولة انتقل من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان، وما هي إلا دقائق حتى شعر أسيد رضي الله عنه بحلاوة الإسلام، وأحب أن ينقل هذه الحلاوة لمن يحبهم، ولم يصبح مسلماً فقط، بل أصبح داعية، ففكر في سعد بن معاذ، قال أسيد: إن وراءي رجلاً إن تبعكما لن يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما، ذهب أسيد ليخبر سعد بن معاذ، فلما رآه سعد من بعيد، وكان رجلاً ذكياً لماحاً، قال بنظرة واحدة: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، وصدق سعد، لقد ذهب أسيد من عنده بوجه كافر، وعاد إليه بوجه مؤمن، وشتان بينهما، فقال له سعد: ماذا عملت؟ ففكر أسيد أن يكذب لكي يدفع سعداً للذهاب إلى مصعب، لم يكن يعرف أن الكذب حرام في الإسلام، فبدأ يؤلف قصة، وقال: والله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. يعني: لإهانتك. فأخذ سعد بن معاذ حربته وتوجه إليهما، فلما وصل لم يجد بني حارثة ولم يجد أحداً معهما، بل وجدهما جالسين من غير أي مشاكل، ففهم أن أسيداً كان يدفعه لكي يأتي ويقابلهما، ولم يجد بداً من أن يجلس معهما لكي يطردهما بنفسه. لما رآه أسعد

بيعة العقبة الثانية

سلسلة السيرة النبوية_بيعة العقبة الثانية تمثل بيعة العقبة الثانية نقلة نوعية في تاريخ الدعوات، حيث ضحى المهاجرون والأنصار بكل شيء في مقابل نصرة الدين، فالأنصار علموا أنهم سيحاربون كل الناس بجميع أجناسهم وأطيافهم، ويمنعون حامل الرسالة من أن يصاب بأذى، وأما المهاجرون فقد تركوا خلفهم كل شيء؛ ليستقبلوا أمر الدعوة ويتحملوا تبعاتها مع إخوانهم الأنصار.

أحداث بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة

أحداث بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة من البعثة إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية المطهرة: فترة مكة. فيما سبق تكلمنا عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لستة من الخزرج في السنة الحادية عشرة من البعثة، وعن دعوة هؤلاء الستة للإسلام في يثرب، وكيف عادوا في العام الثاني عشر في موسم الحج وكان عددهم (12)، وعقد الرسول صلى الله عليه وسلم معهم البيعة المشهورة المسماة: ببيعة العقبة الأولى، وكانت هذه البيعة تهتم في الأساس بالعقيدة السليمة، والأخلاق الحسنة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا إلى المدينة المنورة ومعهم مصعب بن عمير رضي الله عنهم؛ لكي يعلمهم ويعلم أهل المدينة الإسلام. وتكلمنا عن نشاط مصعب بن عمير مع أسعد بن زرارة رضي الله عنهما في الدعوة في المدينة المنورة في خلال السنة الثالثة عشرة من البعثة، وذكرنا قصة إسلام أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، ورأينا كيف انتشر الإسلام في المدينة حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام، ومرت الأيام وانتهت السنة الثالثة عشرة من البعثة، ورجع مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه إلى مكة قبل موسم الحج، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع المدينة وإمكانياتها، وعدد المسلمين وإمكانياتهم وأخلاقهم وتربوياتهم، أعطاه صورة كاملة عن الوضع في المدينة.

عدد وفد الأنصار في الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة

عدد وفد الأنصار في الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة في موسم الحج في السنة (13) من البعثة حضر المسلمون من المدينة إلى مكة لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستماع منه، ومعظم هؤلاء لم يروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل الإسلام الذي تعلموه وعرفوه كان عن طريق مصعب رضي الله عنه. أتى الوفد المسلم من يثرب ضمن الوفد اليثربي الكبير المشرك، المكون من (300) تقريباً، منهم: (75) مسلماً، (73) من الرجال وامرأتان. والغريب أن المشركين الذي كانوا في هذا الوفد لم يعرفوا أكثر المسلمين، يعني: أن المسلمين من الأنصار كانوا غير معروفين في المدينة بإسلامهم، مع أن دعوة مصعب بن عمير كانت علنية، كان يجلس وسط كل الناس، لكن يبدو أن الذي يسلم كان لا يعلن إسلامه؛ مراعاة لظروف المدينة وكثرة المشركين، ووجود اليهود، وغير ذلك من العوامل، كل هذا جعل الدعوة علنية لكن التربية سرية، واستطاع مصعب بن عمير رضي الله عنه والأنصار أن يكيفوا ظروفهم بحيث تتناسب مع ظروف المدينة المنورة في ذلك الوقت.

المعالم العامة لوفد العقبة الثانية

المعالم العامة لوفد العقبة الثانية كان بين وفد الأنصار المكون من (75) وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وعد في موسم الحج سنة ثلاث عشرة من البعثة، وهم لا يعرفون بماذا سيكلفهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو ماذا يريد منهم؟ كل الذي يعرفونه هو الاتفاق الذي جرى مع أصحاب بيعة العقبة الأولى، وهذا الاتفاق لم يكن فيه شيء غير العقيدة والأخلاق وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه معظمها تكليفات فردية، ولم يطلب منهم الحرب ولا الجهاد أو أي طلب للنصرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مقدراً لوضع أصحاب بيعة العقبة الأولى، وكان يعلم بأن إمكانياتهم مهما كبرت فإنها محدودة، ولم يطلب منهم أن يستضيفوه هو ومن معه في مكة إلى المدينة المنورة، ومع ذلك ومع عدم التكليف للأنصار إلا أنهم هم من كان يبحث عن النصرة والمساعدة والاستضافة لرسول الله وللمؤمنين في مكة. هناك كلمة جميلة قالها جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو من الستة الأنصار الأوائل الذين أسلموا في السنة الحادية عشرة من البعثة، ثم بايعه بعد ذلك في بيعة العقبة الأولى، قال هذه الكلمة وهم ما زالوا في المدينة قبل أن يأتوا مكة، قال جابر: فقلنا: -أي نحن الأنصار- حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، يقول: فرحل إليه منا (73) رجلاً! فالأنصار هم الذين سعوا إلى نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يطلب منهم ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم أن يأتوا بهذا العدد الكبير في هذا الموسم، لكن هم الذين جمعوا أنفسهم في هذا العدد الكبير من أجل أن يقنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالذهاب معهم إلى المدينة، هم الذين بحثوا عن التكاليف والواجبات الشاقة والصعبة في الإسلام. فارق ضخم هائل بين الذي يبحث عن الدعوة والنصرة والجهاد، وبين الذي يبحث عنه الناس؛ ليقوم بأمر الإسلام والجهاد، فرغبة الأنصار هذه ستفسر لنا مواقفهم التي سنقولها الآن في بيعة العقبة الثانية، وستفسر لنا مواقف الأنصار بعد ذلك في كل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كان الأنصار أنصاراً للدين بمعنى الكلمة، لم يفكروا في شيء لأنفسهم فحسب، بل عاشوا للدين وللإسلام، عاشوا لغيرهم من المسلمين، ما أبلغ الوصف الذي وصفهم به ربهم سبحانه وتعالى عندما قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، هذه الآية تلخص كل قصة الأنصار، ولن تستطيع أن تستوعب المواقف العظيمة للأنصار إلا في ضوء هذا المعنى الجميل الذي أشار إليه الله عز وجل في كتابه الكريم.

إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار لموعد بيعة العقبة الثانية

إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار لموعد بيعة العقبة الثانية وصل الأنصار إلى مكة مع وفدهم، وبدءوا يرتبون للموعد الذي سيتم بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعله في غاية السرية؛ لأنه الموعد الذي يسبق قيام دولة المسلمين، وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يقابل ممثلين عن الخمسة والسبعين؛ لأنهم من بطون مختلفة وفروع مختلفة من الأوس والخزرج، صحيح أنهم يرجعون في النهاية إلى قبيلتين، لكن فيهم بطون كثيرة وفروع كثيرة، ومن الممكن ألا يوافق الكل على جميع الشروط التي سيقولها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن غير المعقول أن يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم يكتشف أن كثيراً منهم ليس على قدر المسئولية، أو أن فيهم معترضاً على وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، أو على بعض بنود الاتفاق؛ لذا كان لابد أن يقابلهم كلهم، ويتأكد أنهم كلهم موافقون على هذا الموضوع بكل أبعاده، وأن كل واحد منهم سوف يبايعه ويسلّم عليه بيده؛ من أجل أن يؤكد البيعة معه بنفسه، فيطمئن من كل واحد بعينه أنه موافق على كل بنود الاتفاق. كيف سيقابلهم وهم في زحمة الحج، ووسط مكة الصغيرة؟ كيف سيقابلهم من غير أن يشعر به أحد من أهل مكة؟ أولاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الموعد في آخر ليلة من ليالي الحج، يعني: في ليلة (13) من ذي الحجة؛ لأن الحجاج سيعودون إلى بلادهم في اليوم الثاني مباشرة، فلو أن أحداً من أهل قريش علم باللقاء، فلن يصلوا إلى الوفد إلا بعد رحيله. ثانياً: أنه جعل ساعة اللقاء في الثلث الأوسط من الليل؛ لأن الأغلب أن كل الناس في مكة سيكونون نياماً في هذا الوقت، فالذي سينام متأخراً سيتأخر نومه إلى الثلث الأول من الليل، والذي سيصحو مبكراً سيصحو في الثلث الأخير من الليل، لكن الثلث الأوسط يكون الناس فيه في الأغلب نياماً. ثالثاً: اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مكاناً بعيداً عن زحمة الحجاج، اختار الشعب الأيمن من العقبة، وهو مكان بعيد، لا يوجد أحد من الحجاج وضع فيه مخيمات. رابعاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر أحداً من المسلمين في مكة بالموعد إلا ثلاثة فقط، وسيكون لهم دور في الاجتماع، وهذا ليس بشك في المسلمين، لكنه يريد السرية التامة، فمن ليس له علاقة بالموضوع لا داعي لمعرفته، وهؤلاء الثلاثة هم: عمه العباس، وكان في ذلك الوقت ما زال مشركاً، وأبو بكر، وعلي رضي الله عنهم أجمعين، أما العباس فلأنه سيكون مشاركاً في الاجتماعات، وأما أبو بكر وعلي فلتأمين المكان ومراقبة مداخل الشعب الذي سيتم فيه اللقاء. خامساً: ليأخذ الأنصار الحيطة أيضاً، فمعهم في الوفد (225) مشركاً في نفس الخيام، ورئيس الوفد مشرك، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول الذي سيكون بعد ذلك زعيم المنافقين، فلابد أن يأخذوا الحذر الكافي. يقول كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه -أحد المشاركين في بيعة العقبة الثانية-: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل -أي: الأول-، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين -القطا: طائر صغير يشبه الحمام-، فكانوا يخرجون واحداً واحداً، أو اثنين اثنين، إلى أن اجتمعوا كلهم في المكان المتفق عليه. أتى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الموعد ومعه العباس رضي الله عنه، وبعث أبا بكر وعلياً كلاً منهما على مدخل من مداخل الشعب للمراقبة.

وقائع بيعة العقبة الثانية

وقائع بيعة العقبة الثانية بدأ الاجتماع الذي سيغير من خارطة الأرض كلها، كان وقت الاجتماع قصيراً مع أن أحداثه كانت كبيرة. وهذا الاجتماع سيغير خريطة الأرض، ولابد لكل منا أن يسأل نفسه: أين كان أعداء الله وقت أن تم هذا الاجتماع المهيب؟ أين كان أبو جهل والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهم من قادة قريش؟ أين كان أحبار اليهود: حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما؟ أين كان كسرى وقيصر؟ كل هؤلاء كانوا نياماً، كلهم كانوا غافلين، لا أحد كان يعرف بهذا الاجتماع الذي سيتم، مع أن كلهم بعد ذلك عروشهم ستتزلزل نتيجة هذا الاجتماع، هذا -والله- تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى، شيء لا يتخيله عقل، مجموعة بهذه القلة وهذا الضعف، في مثل هذا المكان الذي لا يرى على خارطة الأرض، وبعد ذلك سيكون هذا الاجتماع سبباً في تغيير كل شيء على الأرض في غضون سنوات قلائل. بدأت مراسم المباحثات شديدة الأهمية، كانت كلمة الافتتاح للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما زال مشركاً، وواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً له، وأتى به لأداء دور سياسي معين، ما هو هذا الدور؟ أولاً قد نستغرب من شيء كهذا، لماذا يحضر مشركاً في مباحثات بهذه الخطورة؟ هذا الدور هو لتوضيح مكانة بني هاشم في مكة، ولإعلام الأنصار أنهم سيأخذون الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن له قبيلة كبيرة ذات شرف، فيحرصون على أن يكونوا هم البديل الحقيقي لبني هاشم، وكون العباس مشركاً يعطي بُعداً سياسياً آخر، وهو أن بني هاشم مؤمنهم وكافرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العكس من ذلك لو جاء حمزة فقد يقع في أنفسهم أنه أتى لأنه مؤمن لا ليمثل بني هاشم، وسنرى في كلام العباس رضي الله عنه ما يثبت هذه التحليلات. قال العباس: يا معشر الخزرج! -والعرب كانت تسمي أهل المدينة كلهم خزرجاً، سواء كانوا من الأوس أو الخزرج -إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده. هنا انتهت افتتاحية العباس، وكانت سريعة وموجزة، وقد وضح من خلالها الدور الذي أتى من أجله. ثم جاء دور الأنصار في الكلام، وكانوا في منتهى الأدب، فقد كانت هناك ردود كثيرة ممكن أن تقال للعباس، ويدخلون معه في جدل عقيم، على سبيل المثال: يمكن أن يقولوا له: تقول: إنه في عز وفي منعة وهو في جوار المطعم بن عدي من بني نوفل، ولم يقف بجواره أحد من بني هاشم؟ أو أن يقولوا: أنت تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن ينحاز إلينا، وما فعل ذلك إلا لأنه أوذي وضرب وظلم ورجم بالحجارة، وسب وألقي التراب على رأسه، وألقيت عليه رحم الجزور، وأنتم تنظرون إليه كغيركم، أين كنتم وهو يطوف بالقبائل يبحث عمن ينصره وعلى مسمع منكم ومرأى، والقبائل كلها ترفضه؟! بل ليتكم ساكتين فحسب، فإن أبا لهب عمه كان يمشي وراءه ويقول: لا تصدقوه إنه صابئ كذاب، أين كنت أيها العباس الهاشمي العزيز والرسول صلى الله عليه وسلم يعاني كل هذه المعاناة أمامك وأمام كل بني هاشم؟ كل هذا كان من الممكن أن يقال أو أكثر منه، لو كانت هذه المباحثات سياسية بحتة، يريدون أن يحققوا فيها أكبر المصالح، ويستغلوا الظرف الحرج الذي وقع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الوضع في الأنصار لم يكن هكذا أبداً، لم تكن المباحثات سياسية دنيوية، بل كانت إيمانية بحتة، فالأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليكونوا أنصاره وأتباعه، وطوع إرادته، جاءوا وهم يعلمون أن المنة والفضل لله ولرسوله، وأن العمل والبذل عليهم وعلى المسلمين جميعاً، فكانوا يفهمون دورهم جيداً، من أجل ذلك قالوا في أدب رفيع: قد سمعنا ما قلت -يكلمون العباس رضي الله عنه-، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

بنود بيعة العقبة الثانية

بنود بيعة العقبة الثانية تهيأت للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الصعب الحرج، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت فرصة كبيرة ليذهب إلى بلد كريم، وفي هذا الظرف يعرض على الأنصار شروطاً في منتهى المشقة لقبول استضافته، لم يعرضها على أحد آمن من قبل. كان من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ييسر على الناس أمر الإيمان، كان يقبل أن يقوم الرجل بالفرائض فقط ولا يؤدي النوافل، وكان يقول: (أفلح إن صدق)، (إن صدق دخل الجنة) وليس هذا فحسب، بل كان يعطي الأموال من أجل أن يتألف قلوب الناس للإيمان. أما الآن وهو في هذا الموقف الحرج فإنه يشترط شروطاً قاسية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يبني أمة، وفرق كبير بين بناء فرد صالح يعيش لنفسه ولأسرته، وبين فرد صالح في ذهنه وتفكيره أنه يحمل هم الأمة الإسلامية، ولا يعرف أن ينام وهو يرى حوله المنكر والظلم والكفر، ولو رأى أخاه يُظلم لابد أن ينصره، لو رأى أحداً يمس كرامة الأمة الإسلامية يقوم ويدافع عنها كما يدافع عن ابنه أو زوجته أو أمواله أو حياته، هذا هو الفرد المسلم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يبنيه في هذه البيعة، بيعة العقبة الثانية؛ من أجل ذلك قال لهم ما سيأتي، كما أنه كان يعلم أنه يخاطب أناساً على قدر المسئولية، كان يكلم الأنصار، ذكر لهم خمسة بنود: الأول: قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل)، السمع في النشاط سهل، لكن في الكسل صعب، وكان من الممكن أن يقول: تبايعوني على السمع والطاعة، لكن الغرض هو توضيح الرؤية تماماً، سواء كنت كَسِلاً أو نَشِطاً لابد أن تسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتطيع له. البند الثاني: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، كذلك النفقة في اليسر سهلة، لكن في العسر تحتاج إلى أناس معينين. البند الثالث: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهذا هو دور الأمة الإسلامية مع غيرها من الأمم. البند الرابع: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم)، الجهاد وكلمة الحق. البند الخامس: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم)، ليس فقط تمنعوني فحسب، بل تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم؛ حبك لرسولك ولدينك ولأمتك لابد أن يكون أكثر من حبك لنفسك ولزوجتك وأولادك. واضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبني مسلماً من طراز خاص سيحمل هم الأمة كلها!

الفرق بين بيعة العقبة الأولى والثانية

الفرق بين بيعة العقبة الأولى والثانية كان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الأولى يبني فرداً مسلماً مؤمناً يتصف بعقيدة سليمة، وبأخلاق حميدة: لا يسرق لا يزني لا يقتل، لكن أن تبني أمة فأنت تحتاج لما هو أعلى، تحتاج لبذل وعطاء ودماء، تحتاج لمكابدة لصبر لقوة لتحمل لتجرد، بناء الأمم يحتاج إلى أناس من نوع خاص، مثل الذين كان يشترط عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الشروط الصعبة، أما أن يكتفي المؤمن بالاعتقاد الصحيح، وبالصلاة، والصوم واجتناب الكبائر؛ من سرقة وزنا وقتل، فهذا جزء من الإسلام، نعم هو جزء مهم، لكن في النهاية هو جزء من الإسلام. إن الناس يحتاجون لمن يقودهم إلى الخير، والإسلام يريد الذي يدافع عنه، ما أكثر من يعتدي على حرمات المسلمين، من سيدافع؟ ومن سيحمي؟ من سيجاهد ويكافح؟ من سيبلغ رسالة ربنا لكل الأرض؟ هذا هو الفرق بين البيعة الأولى والبيعة الثانية. ويكفي أن البيعة الأولى التي اهتمت ببناء الفرد المسلم من دون جهاد أنها عرفت في التاريخ باسم بيعة النساء، بينما عرفت بيعة العقبة الثانية بهذه الشروط الصعبة بأنها بيعة الحرب وبيعة الجهاد.

موقف الأنصار من بنود بيعة العقبة الثانية

موقف الأنصار من بنود بيعة العقبة الثانية عادة في المفاوضات يناقش كل بند على حدة، فهذا البند نوافق عليه، وهذا البند مرفوض، وهذا فيه تعديل، هذا الكلام يحصل عادة في أي مفاوضات سياسية، لكن نحن قلنا قبل ذلك: إن الأنصار شيء آخر، الأنصار هم أنصار، فماذا قالوا؟ قام البراء بن معرور رضي الله عنه يتكلم عن وفد الأنصار، وقد كان رئيس الوفد المسلم، مع العلم أن البراء بن معرور رضي الله عنه وأرضاه لم يسلم إلا منذ ثلاثة أيام، أسلم وهو في طريقه من المدينة المنورة إلى مكة، لكنه كعادة الأنصار ولد إيمانه عملاقاً. قال البراء بن معرور رضي الله عنه: (والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا -يعني: نساءنا- فبايعنا يا رسول الله! -وانتبه فهو الذي يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم- فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر) يعني: يشجعه على البيعة، أترون إلى مدى اشتياق الأنصار للبيعة على الجهاد؟ هذا هو الجيل الذي سينصره الله عز وجل، لكن وأثناء كلام البراء اعترض كلامه أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، أحد الصحابة الأجلاء القدماء الذين أسلموا في بيعة العقبة الأولى، قال: (يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها -أي: بيننا وبين اليهود عهوداً- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟). الحقيقة أن موقف الأنصار خطير، فهم عقدوا معاهدات مع اليهود، وسيقطعونها، لكن ما الذي سيحصل لو أن دين الرسول صلى الله عليه وسلم انتشر ووضعه استقر هل سيرجع مرة أخرى إلى مكة؟ وإذا رجع إلى مكة كيف سيكون وضعهم مع اليهود؟ قد يقول قائل: إن هذا الاعتراض فيه تطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: كيف تفترض أنه ممكن أن يتركك وأنت محتاج له؟ لكن حقيقة كلام أبي الهيثم كان بمثابة التحميس والدفع للأنصار بالمبايعة، فهو متأكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتركهم، لكنه يخاف أن أحد الأنصار المشاركين في البيعة يفكر هذا التفكير؛ فيكون خائفاً من اليهود على مستقبل المدينة، فلو أن أبا الهيثم رضي الله عنه أثار هذه النقطة في هذه اللحظات سيغلق كل أبواب الشيطان، وسيريح الأنصار، من أجل ذلك تكلم بمثل هذا. تبسم الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!) إن قدر القيادة لا ينقص لو أن أحداً من الجنود اعترض على نقطة ما يريد التوضيح، والقيادة الواثقة من نفسها لا يجب أن تغضب لهذا، بل على العكس، القيادة الواعية لا تخيف الناس أو تكتم أفواههم، بل المفروض أن تشجع كل الناس أن يقولوا كل ما في صدورهم، وحينها سيشعر الناس أن قيادتهم ليست مفروضة عليهم، مثل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا منكم وأنتم مني). ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً يعلمنا أن أي إنسان قابل للمناقشة وللحساب وللاستجواب؛ لأنه في النهاية بشر، والبشر لابد أن يخطئوا، وليس شرطاً أن يكون مخطئاً كذلك، لكن نريد معرفة وجهة نظره، نستفسر، نتعلم، نضيف، نحذف، نعدل من أجل أن نصل إلى الأفضل، هذه هي العلاقة السليمة بين القائد والجند، وكذلك إذا أحس الجند أن القائد معهم في نفس المشكلة يشكو مما يشكون منه، يتألم مما يتألمون منه سيبذلون قصارى جهدهم، لكن على النقيض من هذا؛ لو أنهم أحسوا بتكبر القائد، وبسعادته وقت حزنهم، وترفهه وقت بؤسهم، وأمنه وقت خوفهم، وراحته وقت تعبهم، لو شعروا بهذه الأشياء كلها فمن المستحيل أن يعملوا بحماسة وجدية، لأنهم فقدوا مصداقية القائد، والقدوة فيه. أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قال في منتهى الصدق والتعاطف مع أبي الهيثم والأنصار: (بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)، فتشجع الأنصار عندما سمعوا هذه الكلمات، وقاموا مسرعين إلى مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن حصلت معارضة أخرى بعد هذا الكلام، قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه يخاطب قومه قبل أن يبايعوا، وقال لهم: (هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، فقال العباس بن عبادة: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس -يعني: كل الناس-، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم -يعني: لو أسلمتموه- خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو -والله- خير الدنيا والآخرة). العباس بن عبادة أيضاً من السابقين، ويعرف جيداً علامَ يبايع، لكنه يخاف أن يكون أحد الأنصار غير مستوعب لهذه التضحيات كلها، فيحاول أنه يوضح الرؤية على قدر استطاعته للأنصار، فرد عليه الأنصار وقالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل ال

حرية اختيار الأنصار لنقبائهم في بيعة العقبة الثانية

حرية اختيار الأنصار لنقبائهم في بيعة العقبة الثانية هناك بعض الأمور الإدارية في تنظيم العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار. أولاً: سيتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع مَن مِن الأنصار؟ لابد من وجود من يمثل الأنصار. ثانياً: كيف يكون التعامل بين المهاجرين والأنصار، لو حصلت مشكلة من الأنصار لمن المرجع؟ ولو حصلت مشكلة من المهاجرين لمن المرجع؟ أمور إدارية هامة رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لابد أن يكون هناك من يمثل الأنصار، فجعل لكل خمسة من الأنصار نقيباً، فيكون كل ستة مجموعة، ولما كان الأنصار (73) خرج منهم (12) نقيباً. أيضاً كان من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينتقيهم بنفسه، أو أن يأخذ أصحاب بيعة العقبة الأولى؛ لأنهم كانوا اثني عشر، أو أن يكل ذلك إلى مصعب بن عمير، أو إلى البراء بن معرور رئيس الوفد، أو أسعد بن زرارة لأنه أحد السابقين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر قاعدة عظيمة من قواعد الحكم في الإسلام، وهي قاعدة أن على الشعب أن ينتخب ممثليه انتخاباً حقيقياً، ليس فيه تدخل من القائد الأعلى، قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار: (أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً، ليكونوا على قومكم بما فيهم). حرية كاملة للأنصار في اختيار ممثليهم، هم أدرى بحالهم، وعندما يختار الشعب حكومته بحرية حقيقية ليس فيها أي تدخل من أي جهة، يسمع لها بعد ذلك بمنتهى الحب، ويطيعها بمنتهى الأمانة، يحس فعلاً أنها حكومته وليست مفروضة عليه، هذا ما كان يريد أن يزرعه الرسول صلى الله عليه وسلم بداخل الأنصار، وداخل الأمة الإسلامية بكاملها إلى يوم القيامة. جلس الأوس والخزرج سوية لأول مرة في تاريخهم لاختيار نقبائهم، وكانوا قبل ذلك يتقاتلون ويتصارعون، ويذبح كل واحد الثاني من أجل كرسي الحكم، لكنه الإيمان، فعندما آمنوا تغير كل شيء، كل واحد يضع يده الآن على كتف الآخر. إن الذي جمع الأوس والخزرج هو نبل الغاية، وسمو الهدف، عندما كان الكرسي هو الهدف، كان الخلاف والنزاع الذي لا نهاية له، ولما أصبحت الجنة هي الهدف وهي الغاية لم يعد للكرسي قيمة، بل أصبح مسئولية وتكليفاً لم يعد تشريفاً، انقلب التنافس على الكرسي إلى التنافس على الجنة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، هذه هي عظمة الإسلام. في لحظات كان النقباء هم: أسعد بن زرارة، البراء بن معرور، عبد الله بن عمرو بن حرام، سعد بن عبادة، عبادة بن الصامت، سعد بن الربيع، عبد الله بن رواحة، رافع بن مالك، المنذر بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، كان هؤلاء تسعة هم نقباء الخزرج. أما نقباء الأوس فكانوا ثلاثة: أسيد بن حضير، وسعد بن خيثمة، وأبو الهيثم بن التيهان وقيل بدلاً منه: رفاعة بن عبد المنذر رضي الله عنهم أجمعين. ويختفي من أسماء الأوس البطل الإسلامي العظيم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه لم يحضر أصلاً من المدينة المنورة إلى مكة. بعد هذا عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعاً مع هؤلاء النقباء قال لهم فيه: (أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم) يعني: أنتم مسئولون عن كل الأنصار، (وأنا كفيل على قومي -يعني: المسلمين من أهل مكة- فقالوا: نعم). إذاً: الآن قسم المسئوليات، الاثنا عشر هؤلاء مسئولون عن الأنصار، والرسول صلى الله عليه وسلم مسئول عن المهاجرين، وبعد ذلك طلب منهم أن يختاروا واحداً منهم يكون رئيساً لهم، وبالتالي يسهل عملية الاتصال والمتابعة والإدارة وغير ذلك من الأمور، فاختاروا أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه أصغر النقباء رضي الله عنه، لما يظهر عليه من موهبة فذة. وبهذا انتهت مراسم البيعة الفريدة بنجاح في عقر دار المشركين، ووسط الأعداد الهائلة من أعداء الله عز وجل، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].

مناقب أصحاب بيعة العقبة الثانية

مناقب أصحاب بيعة العقبة الثانية قبل أن نترك الأنصار نذكر بعض الإحصائيات اللطيفة على أسماء الأنصار المشاركين في هذه البيعة، وكلها إحصائيات في الحقيقة لها معنى. عندما بحثت في أسماء الصحابة الذين حضروا هذه البيعة من الأنصار وجدت قرابة السبعين من هؤلاء -يعني: تقريباً كلهم- اشترك في غزوة بدر الكبرى، يعني: لم تكن البيعة كلام وحسب على الجهاد، لا، فكلهم نفذوا، (70) تقريباً من هؤلاء حضروا غزوة بدر الكبرى. ثم حوالي نصف هذا العدد اشترك مع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل المشاهد والغزوات؛ لأن كثيراً منهم استشهد في الغزوات الأولى. أيضاً حوالي ثلث أصحاب بيعة العقبة الثانية مات شهيداً في سبيل الله عز وجل، يعني خمسة من اثني عشر. يعني: القيادة في نظرهم كانت مسئولية لم تكن أبداً تشريفاً أو منصباً. أيضاً لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء الأنصار المبايعين في بيعة العقبة الثانية الفرار أبداً، لا في أُحد ولا في حنين ولا غيرهما، لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء طلب للدنيا ولا للإمارة ولا للمال. خلاصة القول أن الصدق الكامل في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي قلوب الأنصار المبايعين في هذه البيعة هو الذي كفل النجاح لهذه البيعة الفريدة، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]. صدقوا الله عز وجل فصدقهم الله عز وجل.

موقف قريش من بيعة العقبة الثانية بعد علمهم بها

موقف قريش من بيعة العقبة الثانية بعد علمهم بها لم تمر بيعة العقبة الثانية دون تنغيص، فقد كان أتعس مخلوق عرف هذه البيعة هو الشيطان، يقول سيدنا كعب بن مالك: (لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط. -وهم علموا أنه الشيطان بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم- قال: يا أهل الجباجب، -يعني: المنازل، ينادي أهل مكة- هل لكم في مذمم -يقصد سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم- والصباة معه؛ قد أجمعوا على حربكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزب العقبة -أي: شيطان العقبة- اسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك)، وبعد ذلك شعر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المشركين سيحضرون فقال للأنصار: (ارفعوا إلى رحالكم). كان على الأنصار أن يركضوا مسرعين إلى رحالهم؛ لأنهم عرفوا أن قريشاً قد تأتي في أي لحظة، لكن لم يحصل هذا، وإنما قام العباس بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، الذي قام قبل قليل يقول للأنصار: أنتم تبايعون على حرب الأحمر والأسود من الناس، قام وقال: (والذي بعثك بالحق! لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا). وانتبهوا: أن القتال في منى لم يكن من الأمور التي بايع عليها الأنصار، فهم كانوا قد بايعوا على أن يدافعوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وليس في منى ولا في مكة، لكن العباس بن عبادة يعطي ما هو فوق البيعة، فهو يبحث عن الجنة. فكان رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في منتهى الوضوح، قال: (لم أؤمر بذلك)، أي: لم أؤمر بالقتال بعد، نعم بايع الأنصار على الجهاد، لكن ليس الآن وقت التطبيق، وهذا من فقه الموازنات؛ لو تقاتل الأنصار الآن مع المشركين فلاشك أن الأنصار سيبادون عن آخرهم، نعم سقطوا شهداء، ولكن أين الدولة؟ أين الدعوة؟ أين التخطيط لنصر وتمكين وسيادة هذا الدين؟ أين بناء الأمة الإسلامية؟ فعلاً كان لابد للمسلمين أن يتجنبوا القتال تماماً في هذا الوقت؛ من أجل ذلك رجع الأنصار إلى خيامهم، وناموا مع الوفد المشرك الذين أتوا معه، ولم يشعر بهم أحد حتى من وفدهم. في اليوم الثاني علمت قريش بموضوع اللقاء، من الذي أعلمهم؟ الله أعلم، إما الشيطان الذي صرخ بالليل، وإما أن شخصاً رآهم، فذهبت قريش لمقابلة زعيم يثرب عبد الله بن أبي ابن سلول، وبدأت تتكلم معه في خطاب يجمع بين الترغيب والترهيب، قالوا: يا معشر الخزرج -يكلمون عبد الله بن أبي ابن سلول - إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، يعني: نحن نحبكم، لكن لو استمريتم على هذا الأمر سنحاربكم، وأنت تعرفون جيداً من هي قريش؟ فلما سمع عبد الله بن أبي ابن سلول هذه الكلمات قام يقول بمنتهى الحمية: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا على مثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني. نعم هو صادق من داخله؛ لأنه لم يعلم أي شيء عن هذا اللقاء؛ لأن المسلمين تكتموا بكل شيء عن موضوع اللقاء أو الإسلام، ولم يكن يعلم المشركون منهم من المسلمين في داخل وفدهم، هذا كان رد عبد الله بن أبي ابن سلول، أما رد المسلمين الذي بداخل الوفد، الذين قاموا بالبيعة، فنظر بعضهم إلى بعض ولم يتكلموا، وكأن شيئاً لم يكن. اقتنعت قريش بكلام الوفد اليثربي، وتركوه وعادوا مرة أخرى إلى مكة، لكن بعدما عادوا إلى مكة علموا أن ظنهم كان في محله، فرجعوا مرة أخرى بسرعة من أجل أن يمسكوا بوفد يثرب فوجدوه قد رحل؛ لأنهم تقابلوا للبيعة في آخر ليلة من ليالي الحج، تحسباً لهذه الظروف التي حصلت، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عمل حسابه لها. ارتحل الوفد، لكن من بعيد رأى زعماء مكة اثنين من المسلمين؛ رأوا سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، والمنذر بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، وهذان الاثنان هم من النقباء، أما المنذر بن عمرو فاستطاع الهروب، لكنهم أمسكوا بـ سعد بن عبادة سيد الخزرج، رجل عزيز لم يهن في حياته قط، لكن زعماء مكة أمسكوا به وضربوه وجروه على الأرض. موقف في منتهى الخطورة، نظر المسلمون في مكة إلى أخيهم المؤمن وهو يضرب، ولا يستطيعون حراكاً؛ لأنهم لو تحركوا من أجل إنقاذه سيعلم مشركو مكة أن هناك بيعة تمت، وأن هناك لقاء تم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يتحرك من أجل نصرة سعد بن عبادة وهذا أيضاً من فقه الموازنات. كان جبير بن مطعم بن عدي والحارث بن حرب بن أمية ممن رأى الموقف، وسعد بن عبادة رضي الله عنه كان يجير لهم القوافل عندما تمر بالمدينة المنورة، فأجاروه من قريش، وعاد سعد بن عبادة إلى قافلة الأنصار، ووصلوا إلى المدينة في أم

الهجرة إلى المدينة

الهجرة إلى المدينة أصبح الوضع مستقراً إلى حد كبير في المدينة المنورة، وأصبحت الصعوبة في مكة، زعماء قريش الآن يعلمون بتدبير إسلامي خفي لشيء هم لا يعلمونه، هنا صدر الأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم للمؤمنين في مكة بأن يهاجروا إلى المدينة، كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر، الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، كل المسلمين لابد أن يهاجروا إلى المدينة المنورة؛ لأن هناك مشروعاً ضخماً محتاجاً إلى كل طاقة، هناك مشروع اسمه: بناء الأمة الإسلامية. وبدأت الهجرة، والهجرة لم تكن شيئاً سهلاً، لم تكن عقد عمل أهدي لهم في بلد غني، كانت الهجرة تعني ترك الديار، والأموال، والأعمال، والذكريات. كانت الهجرة الاستعداد لحرب ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل في كل الأرض، كانت استعداداً لحرب الأحمر والأسود من الناس، هذه هي الهجرة، ولم تكن هروباً، بل استعداداً لتكاليف أشق، ولواجبات أكثر وأعظم. أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة، وانتظر هو فلم يهاجر، لم يكن همه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه ويؤمن حاله، أو يحافظ على أمواله، كان كل همه أنه يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، ليعلمنا أن القيادة ليست نوعاً من الترف أو الرفاهية، بل مسئولية وتضحية وأمانة. أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره لكل المسلمين في مكة بالهجرة، وليس في مكة فحسب، بل أي مسلم موجود على الأرض كان لابد أن يهاجر إلى المدينة المنورة، إلا من استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يمكث في مكانه، لسبب من الأسباب. كان هذا هو الوضع في هذه الهجرة إلى المدينة المنورة، وهو مختلف عن هجرة الحبشة، فليس كل المسلمين هاجروا إلى الحبشة، كما أن طبيعة المكان وظروف المكان تختلف من الحبشة إلى المدينة، كان المهاجرون إلى الحبشة يريدون فقط الحفاظ على أنفسهم؛ لئلا يستأصل الإسلام إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة، لم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة أبداً، بل كان المسلمون مجرد لاجئين عند ملك عادل، أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها. كانت المدينة صالحة لإقامة أمة إسلامية بخلاف الحبشة فإنها لا تصلح، لأن في الحبشة معوقات كثيرة جداً لبناء الأمة الإسلامية، مثل: اختلاف اللغة والتقاليد، وعدم استقرار الوضع، ولأن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد فقط وهو النجاشي رحمه الله، فهو ملك لا يظلم عنده أحد، وإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم، لكن في المدينة الوضع غير هذا، الهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين، بل على أنصار المدينة، والجو العام في المدينة أصبح محباً للإسلام، أو على الأقل كان قابلاً للفكرة، ومن ثم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية لكل المسلمين. بدأت الهجرة العظيمة، ووقعت تضحيات مهولة مع إصرار وعزيمة، لكن كانت هناك أشياء كثيرة تخفف من آلام الهجرة، وهو إحساس المسلمين أنهم قاب قوسين أو أدنى من بناء الأمة، وقبل ذلك شعورهم بالمعية مع الله عز وجل، وشعورهم أن قائدهم معهم، وسيهاجر ويضحي ويتعب مثلهم، واستقبال الأنصار لكل من هاجر بحفاوة بالغة، وكأنهم إخوانهم من قديم. هذه الأشياء كلها كان تخفف كثيراً من آلام الهجرة، ومع ذلك كانت الهجرة صعبة. قصص الهجرة كثيرة وعظيمة، وحقيقة أن المقام لا يتسع لتفصيلاتها، ويكفي أن كل واحد من المهاجرين قد ترك وراءه شيئاً عزيزاً عليه. فمثلاً: أبو سلمة رضي الله عنه وأرضاه، هاجر وترك زوجته وابنه في قصة مشهورة مؤلمة، لكن كان أبو سلمة يفهم واجبه، وكذلك كانت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها تفهم دورها، فصبرت سنة كاملة بعيدة عن زوجها، وسنة كاملة بعيدة عن ابنها الذي أخذه زوجها بعد فترة قصيرة عندما هاجر أبو سلمة، ثم بعد سنة كاملة هاجرت إلى زوجها ومعها ابنها الآخر، هاجرت مسافة (500) كيلو متر لوحدها، تضحيات مهولة. وصهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه ترك وراءه كل ثروته، ترك ما جمعه خلال السنين الطويلة، ترك كل رصيده وهاجر إلى المدينة، ترك وظيفته التي كان مستقراً فيها وهاجر وغيره وغيره وغيره، كل قصص الهجرة فيها تضحيات ضخمة. وفوق أن الصحابة تركوا كل شيء وراءهم، إلا أنه كانت هناك خطورة حقيقية على حياتهم؛ فالكفار لم يكن عندهم أي مانع من قتل أي شخص إذا أمسكوا به، وعلموا أنه مسلم يريد أن يهاجر، بل أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فما بالكم بأي شخص ضعيف أو حليف، أو أي شخص من قريش؟!

وجه هجرة عمر علنا بينما كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سرا

وجه هجرة عمر علناً بينما كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سراً كان كل الصحابة تقريباً يهاجرون في السر، من دون أن يشعر بهم أحد، حتى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت سرية، إلا هجرة واحد من الصحابة فقط كانت علناً أمام كل الناس، تلك هي هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقف عمر رضي الله عنه وأرضاه في المسجد الحرام وقال بصوت مرتفع: يا معشر قريش! من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، كان يقول هذا الكلام وهو متقلد سيفه، ويده الثانية فيها بضعة أسهم. فلم يقم له أحد، وهاجر رضي الله عنه وأرضاه أمام الناس أجمعين، كانت رهبة كبيرة لـ عمر عند عموم الناس! ممكن أن يسأل سائل: لماذا هاجر عمر رضي الله عنه علناً والرسول صلى الله عليه وسلم يهاجر سراً؟ الواقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع، وعموم المسلمين سيقلدونه، سواء في زمن مكة، أو في الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، وعموم المسلمين لا يطيقون ما فعله عمر رضي الله عنه وأرضاه، وليس مطلوباً منهم ذلك، لكن المطلوب هو الحذر والاحتياط، والأخذ بالأسباب الكاملة لتأمين عملية الهجرة، والهجرة في حد ذاتها لم تكن هدفاً، إنما كان الهدف الوصول إلى المدينة لإقامة الدولة هناك، ويجب الأخذ بكل الأسباب لتجنب كل المعوقات لإقامة هذه الدولة. لكن على الناحية الثانية أيضاً: موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان سليماً، لم تكن هناك مخالفة شرعية، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعترض على هذا الكلام، ولو وجدت مخالفة شرعية لاعترض عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدل المسار للمسلمين، لكن هذا لم يحصل، فهجرة عمر بهذه الصورة صنعت رهبة كبيرة في قلوب الكافرين، أوقفت تفكيرهم تماماً، وهذا كان فيه فوائد كثيرة: منها: أنه هاجر معه (20) شخصاً من ضعفاء الصحابة! لم يستطع أحد من المشركين أن يقترب منهم، ولو أنهم خرجوا بمفردهم كان من الممكن أن يقتلوا، لكن لما أذل الله المشركين بهذه الصورة سهلت هجرة هؤلاء الضعفاء، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه إذ يقول: إن إسلام عمر كان فتحاً، وارجعوا بذاكرتكم إلى قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه. يقول عبد الله بن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة. وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. كان في هجرة الصحابة خطورة كبيرة على معظم المهاجرين، لكنها كانت خطوة لابد منها على خطورتها لبناء الأمة الإسلامية؛ وبهذا هاجر معظم المسلمين في مكة، وكل هذا تم في شهرين اثنين فقط، محرم وصفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة، يعني: بعد حوالي شهر واحد فقط أو أقل من بيعة العقبة الثانية، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع عائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان بقاؤهما بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم. يا ترى كيف ستكون هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وما هو رد فعل المشركين؟ وما هي تفاصيل الخطة البارعة التي سيضعها الرسول صلى الله عليه وسلم وصديقه الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ سنتكلم عن كل هذا في الدرس الآتي بمشيئة الله تعالى. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الهجرة إلى المدينة

سلسلة السيرة النبوية_الهجرة إلى المدينة مع ما بذله الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق من تدبير الهجرة والتواري عن قريش، إلا أن العجز البشري يبقى له مكان في تلك الخطة، ليأتي التدبير الإلهي ليثبت نصرة الدين ورفعة حامليه، فالأخذ بالأسباب المادية مطلوب، ولكن لا بد من أن يعتمد على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى.

مخاوف قريش من هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة ومخاطر ذلك عليهم

مخاوف قريش من هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة ومخاطر ذلك عليهم إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الرابع عشر والأخير من دروس الفترة المكية من السيرة النبوية. تكلمنا في الدرس الماضي عن بيعة العقبة الثانية التي مهدت لقيام دولة الإسلام في المدينة المنورة بعد ذلك، ورأينا مدى استعداد الأنصار للبذل والعطاء والكفاح والجهاد، وكيف قبلوا بكل الشروط الصعبة لبيعة العقبة الثانية، المهم تمت البيعة العظيمة، وعاد الأنصار إلى بلادهم يثرب أو المدينة المنورة، وبدءوا بترتيب أوضاعهم من أجل استقبال أفواج المهاجرين من مكة، وقد بدأت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة بعد شهر من البيعة، وتكلمنا عن صعوبة الهجرة وتضحياتها، وعن كفاح الصحابة سواء من الرجال أو النساء، فقد كانت معاناة كبيرة وضخمة، لكنها تمت على خير، ووصل المهاجرون إلى البلد العظيم المدينة المنورة. لم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط: الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعائلته، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل واحد منهم له دور مهم في المرحلة القادمة كما سنرى إن شاء الله. كانت قريش في أزمة كبيرة، ما من يوم يصبحون فيه إلا ويجدون واحداً من المسلمين قد اختفى، أو عائلة مسلمة اختفت، وبعض الأحيان كانوا يجدون فرعاً كاملاً من قبيلة ليس موجوداً، بحيث إن الهجرة كانت تتم بصورة سرية تماماً، إلا هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. عرف المشركون أن الهجرة كانت إلى المدينة المنورة، ليس فقط من الشك الذي كان في وفد يثرب الذي جاء إلى مكة قبل ذلك في موسم الحج سنة (13) من البعثة، لكن من أخبار مؤكدة أتت إلى قريش من المدينة المنورة عن طريق أعوان وحلفاء لهم تؤكد هجرة المسلمين إلى المدينة، ويؤكد على هذا ما حصل من أبي جهل وأخيه الحارث لأخيهما من الأم عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه وأرضاه، كان مسلماً وهاجر إلى المدينة المنورة مثل بقية المهاجرين المسلمين، وعلم أبو جهل بهجرته، فلحقه أبو جهل وابتكر حيلة من أجل أن يعيد عياشاً إلى مكة، فأقنعه بأن أمه مريضة، وأنها تريد أن تراه قبل أن تموت، وفعلاً أخذت عياش الرقة لأمه، وعاد مع الحارث وأبي جهل، وبينما هو في الطريق قيداه بالحبال وأخذاه إلى مكة وهو مقيد، وقالا لأهل مكة: هكذا فافعلوا بسفهائكم، وحبس في مكة لفترة طويلة. الشاهد من القصة: أن أبا جهل كان يعرف إلى أين يهاجر المسلمون، وأنهم كانوا يذهبون إلى المدينة المنورة. سبب هذا الأمر قلقاً لقريش؛ لأنها كانت على فقه كامل بخطورة الموقف عليهم لو انتشر الإسلام، من هذه المخاطر: أولاً: أن الذين هاجروا من مكة ليسوا أغراباً عن أهل مكة، بل إن كل واحد من زعماء قريش كان له أخ مهاجر أو ابن أو ابنة، وكل واحد منهم بداخله غيظ كبير على الدين الجديد الذي عرضهم لهذه المشكلة، وكل واحد منهم بداخله كذلك حب فطري لأولاده وأقاربه، ويرى أنهم قد بعدوا عنه، فهذه كانت مشكلة كبيرة، وكان من الصعب أن يقبل بها أهل مكة. ثانياً: أن دعوة الإسلام لو انتشرت في الجزيرة العربية، فمن الممكن أن تفقد قريش الكثير من مكانتها في الجزيرة، فقد كانت تكسب كثيراً من تجارة الحج إلى مكة، ومن تجارة بيع الأصنام، نعم، دين الإسلام يشجع الحج إلى مكة، لكن تجارة الأصنام وتجارة الخمور والزنا والربا ستقف، مصالح كثيرة جداً ستقف لأهل مكة، وكلها سوف تتعطل لو انتشرت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية. ثالثاً: كان المشركون يفهمون جيداً أن المسلمين ما هاجروا إلى المدينة من أجل قضاء فترة راحة أو استجمام، بل هاجروا لإقامة دولة إسلامية، ولو أقاموا هذه الدولة فلابد أن يعودوا إلى مكة مرة أخرى في يوم من الأيام، وعندما يعودوا إليها، لن يعودوا من أجل السكن فيها، لا، بل سيعودون من أجل أن يحكموا مكة، هكذا يقول المنطق، وطبيعة الدين الإسلامي هكذا تقول، مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة (13) سنة، يفهمهم قضية أن الحكم لله، فمؤكد أن المسلمين لن يرضوا أن يبقى أهل مكة على تحكيمهم لهبل أو أنصار هبل في حياتهم، لابد أن يحكموا الإله الذي يعبدونه ألا وهو الله عز وجل، وبالتالي يحكمون مكة، وكان هذا مرعباً لزعماء قريش. رابعاً: أن هذه الهجرة لم تكن إلى أي مكان، لا، بل إلى المدينة المنورة (يثرب)، وكان لها وضع خاص، ففي اعتقادي أن هذا المكان أكثر مكان لا يحب المشركون أن تكون الهجرة إليه، وذلك لعدة نقاط: الأولى: أن سكان يثرب هم الأوس والخزرج، وهم من أعز القبائل العربية، ومن أقواها في الحرب، وأشدها ممارسة لفنون

اجتماع قريش بدار الندوة بهدف منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة

اجتماع قريش بدار الندوة بهدف منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة نتيجة للعوامل السابقة الموجودة في المدينة المنورة، والتي كانت تسبب خطراً كبيراً على زعماء مكة، إلا أن المسلمين كلهم تسربوا من بين أيديهم، ولم يبق إلا الرسول صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه هما: أبو بكر وعلي رضي الله عنهما، وإذا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه فكل المشاكل التي يخافونها ستقع، لكن من المؤكد أنه لا خطورة على مكة والرسول صلى الله عليه وسلم مازال فيها؛ لأنه من المؤكد أن المهاجرين والمؤمنين من الأوس والخزرج سوف ينتظرون قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ من أجل أن يضمنوا سلامته من ناحية، ومن ناحية أخرى ليأخذ القرار بالهجوم على مكة، فلو استطاع المشركون أن يسيطروا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن خطر يثرب سيقل، لكن كيف يسيطرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقبيلة بني هاشم قبيلة كبيرة وعزيزة، ومن الصعب أن يدخلوا معها في حرب أو صراع، فقرر زعماء مكة نتيجة لهذه الحيرة أن يعقدوا اجتماعاً طارئاً، ليجدوا حلاً. في يوم الخميس (26) صفر من السنة الرابعة عشرة من البعثة عقد الاجتماع، وكان أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية، ما عدا قبيلة بني هاشم؛ مثل أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب كلهم عن قبيلة بني عبد شمس، والنضر بن الحارث عن بني عبد الدار، وأمية بن خلف عن بني جمح وغيرهم كثير، ولم يسمح لأي قبيلة غير قريش أن تدخل دار الندوة. وبمناسبة دخول هؤلاء دار الندوة لا يوجد دليل صحيح على قصة إبليس الذي تمثل بصورة الشيخ النجدي وحضر معهم الاجتماع؛ فإن شياطين الإنس في مكة لم يكونوا بحاجة إلى شياطين الجن. بدأ الاجتماع الخطير، ووضعوا المشكلة التي اجتمعوا من أجلها، وبدءوا بالنظر في آراء الحضور، فالطائفة المعتدلة من زعماء مكة كانوا يرون أن حبس الرسول صلى الله عليه وسلم كافياً، لكن اليمين المكي المتطرف كان رأيه مخالفاً لهذا الرأي، قال أحدهم -ولعله أبو جهل -: لابد من قتل هذا الرجل، وفي الحقيقة أن هذه الفكرة كانت تعجبهم، ولكن لم يكن عند أحد الجرأة أن ينطق بها؛ لأن بني هاشم قبيلة قوية، ومن الذي سيضحي بنفسه وقبيلته ويقف أمام بني هاشم، لكنّ أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي: أن يختاروا من كل قبيلة في مكة شاباً قوياً، فيحاصرون بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، فلا تجد بنو هاشم أمامها إلا قبول الدية؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يحاربوا كل القبائل، ثم خرجوا بالموافقة على هذا، قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف هذا الحدث: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال:30]، (يثبتوك) أي: يقيدوك أو يحبسوك، {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. هذه الأفكار التي ظهرت في دار الندوة، وهذه التدبيرات كلها تقع تحت كلمة: ((وَيَمْكُرُونَ)). وفي الجزء المقابل: ((وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)).

إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة مع أبي بكر وعلي رضي الله عنهما

إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة مع أبي بكر وعلي رضي الله عنهما نزل جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر هذه الجريمة، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة، وأمره بالهجرة، والرسول عليه الصلاة والسلام سأله عمن يهاجر معه؟ فقال: أبو بكر الصديق، يعني: صحبة الصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بأمر من الله عز وجل، ويا لها من درجة عالية للصديق رضي الله عنه وأرضاه. بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يرتب للهجرة، وبالذات أنه علم أن المشركين يريدون قتله فجر يوم الجمعة (27) صفر سنة (14) من النبوة، فزعماء قريش اجتمعوا في يوم الخميس (26) صفر، فكان على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ويرتب معه موضوع الهجرة، ولابد أن يكون كل شيء في سرية تامة، ولا يلفت أنظار أي شخص من قريش؛ من أجل ألا يقدم زعماء قريش موعد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم. وهناك مشكلة أخرى كان يفكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي هل كان أبو بكر جاهزاً للسفر مباشرة في الموعد الذي أخبره جبريل أن يهاجر فيه، فـ الصديق سيترك كل شيء، ولا يدري متى سيرجع، وقد لا يرجع بالمرة، ويموت في المدينة المنورة، وسيأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من غير عائلته، فهو سيترك بناته وأولاده وأباه وأمه، وهذه تعتبر مشكلة بالنسبة للصديق. وهناك مشاكل أخرى أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: أن قريشاً سوف تكتشف هجرته لا محالة إن آجلاً أو عاجلاً، فكيف يعطل المطاردة المشركة له؟ كيف يهرب منهم والكفار كلهم يعرفون أنه مسافر إلى المدينة المنورة، ويعرفون الاتجاه الذي يمشي فيه؟ ومنها: أنه كانت عنده أمانات كثيرة وضعها أهل مكة عنده، وكأنه مثل البنك بالنسبة لهم، كان يحفظ لهم أماناتهم وأموالهم، ومع أن أهل مكة مشركون ورافضون للإسلام، إلا أنهم لم يجدوا أحداً في مستوى أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يضعون أماناتهم عنده مع حربهم المستمرة له صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعاجيب الزمان! المهم أن هذه كانت مشاكل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لابد أن يجد لها حلاً. ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصديق رضي الله عنه في وقت الظهيرة؛ لأن شوارع مكة في ذلك الوقت تكون خالية، ولن يراه أحد إذا ذهب في هذا الوقت، كما أن الصديق لم يكن معتاداً مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في هذا الوقت، فيكون هذا أدعى للتخفي. شيء آخر فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: أن يكلف سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمهمتين كبيرتين، المهمة الأولى: أن ينام في فراشه صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة، ويتغطى ببرده صلى الله عليه وسلم، حتى إذا جاء المشركون ونظروا يرون شخصاً نائماً ومغطى ببردة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيظنون أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيتأخرون في ملاحقة الرسول صلى الله عليه وسلم. المهمة الثانية: رد الأمانات إلى أصحابها، وبعد أن ينتهي من المهمتين يهاجر إلى المدينة المنورة وحده. خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهيرة إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وزيادة في التخفي غطى رأسه ببعض الثياب، ووصل إلى بيت الصديق من دون أن يراه أحد، فاستغرب الصديق من مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت، وقال: فداه أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، والصديق إلى الآن لا يعلم أنه سيهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الهجرة في هذا اليوم ليلاً، في نفس اليوم الذي جاء فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم فأذن له أبو بكر، فدخل، فوجد مع أبي بكر أهله، فقال له: (أخرج من عندك، فقال الصديق: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله -يعني: لا تخف منهم- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فإني قد أذن لي في الخروج)، يعني: الهجرة. وانظروا إلى أول رد فعل للصديق رضي الله عنه وأرضاه، أول شيء كان يشغله أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتخيل أن يبتعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو للحظات، فقال أبو بكر عندما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيهاجر: (الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، الصحبة). فرح الصديق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة، ولم يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (فلم أكن أدري أن أحداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي)، هذا مع الخطورة المعروفة في هذه الرحلة، لا شك أن الصديق رضي الله عنه كان يقدر خطورة الموقف، وأنه سيكون من الم

بنود خطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه

بنود خطة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه مكث الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه يخططان لأمر الهجرة، فقد وضعا خطة بارعة متقنة، بذلا فيها كل طاقة وفكر، وعملا حسابهما لأشياء كثيرة. أولاً: لن يبيت الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته هذه الليلة، وسيخرج من بيته في أول الليل، ويترك علياً رضي الله عنه وأرضاه نائماً في سريره، ويجلس في بيت الصديق من أجل أن يتجنب الحصار الذي قد يفرض على بيته صلى الله عليه وسلم، فهو يعلم أن موعد القتل الفجر، فيريد أن يترك البيت قبل الفجر، من أجل أن يفوت الفرصة على المشركين. ثانياً: سيبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله عنه وأرضاه جزءاً من الليل، يعني: لن يهاجرا مباشرة، وسينتظرا إلى أن تهدأ الحركة في مكة تماماً، في ذلك الوقت سوف يأخذان الراحلتين وينطلقان من بيت الصديق رضي الله عنه. ثالثاً: أنهما لن يخرجا من باب بيت الصديق بل من فتحة في خلف البيت لاحتمال وجود مراقبة على باب البيت؛ فقد يتوقعون هجرته معه، فهو الصاحب الأول للرسول صلى الله عليه وسلم. رابعاً: أن المدينة لها طريقان من مكة: الأول: معروف وسهل وقصير نسبياً، والثاني: وعر وصعب وطويل وغير مألوف، ولا يعرفه الكثير من الناس، ففكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر من الطريق الصعب؛ طريق ساحل البحر الأحمر، نعم هو طويل وصعب، لكن لا يعرفه كثير من أهل مكة، فستكون فرصة الهجرة بأمان في هذا الطريق أكبر. خامساً: لابد أن يستأجرا دليلاً يكون معهما في هذه الرحلة الصعبة؛ لأن الطريق غير معروف؛ فالسفر في الصحراء أمر خطير، والدليل لابد أن تكون عنده خبرة وأمانة، وفي نفس الوقت لا يشك المشركون في أمره؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق اتفقا على دليل اسمه عبد الله بن أريقط، وهذا الدليل من المشركين، وكان هذا الفعل منهما في منتهى الذكاء؛ فإن المشركين لن يشكوا مطلقاً في أمره، كما أنه رجل أمين يكتم السر، وهو في النهاية صاحب مصلحة سوف يؤدي المهمة ويأخذ عليها الأجر، وأكيد أنه أجر مجزٍ. سادساً: قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في أول الهجرة سيتجه نحو اليمن لا المدينة المنورة لمسافة خمسة أميال -يعني: (8) كيلو متر- للتمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم، سيبحثون عنه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن. سابعاً: أنهما سيذهبان أولاً إلى غار ثور في جنوب مكة، وهو غار في جبل عال، والطريق إليه صعب جداً، وسيمكثان فيه ثلاثة أيام، وبعد ذلك يتحركان إلى المدينة عندما يفقد أهل مكة الأمل في العثور عليهما، وكذلك سوف يتركان الراحلتين مع الدليل عبد الله بن أريقط، من أجل ألا يرى أحد الراحلتين بجانب الغار، وعبد الله بن أريقط سوف يقابلهما بعد ذلك عند الغار بعد ثلاثة أيام. ثامناً: يريد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلم الوضع في مكة، وتحركات زعماء مكة، فلابد من شخص يأتي لهم بالأخبار إلى الغار كل يوم ليعدلوا على حسبها الخطة لو حصل شيء مخالف للذي رتبوه، فاتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصديق رضي الله عنه أن الذي سيقوم بذلك هو عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، فهو سيمكث في مكة طيلة النهار، ثم يأتي إلى الغار في أول الليل، ويجلس معهما في الغار ويخبرهما أخبار مكة، ثم يرجع إلى مكة قبل الفجر، ثم في الصباح الباكر يظهر نفسه للناس ويقف أمامهم ليروه؛ ليوهمهم أنه بات في مكة ولم يكن خارجها. تاسعاً: سيقوم عامر بن فهيرة رضي الله عنه مولى الصديق رضي الله عنه وأرضاه بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، فهو سيرعى الأغنام على آثار أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم وأقدام الصديق رضي الله عنه، وبعد ذلك فوق أقدام عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، من أجل أن يضيع فرصة تتبع آثار الأقدام بقدر استطاعته، وهذا شيء في منتهى الروعة؛ مع أنهم مشوا في اتجاه الجنوب، ولكن كذلك أخذوا حذرهم في هذا. عاشراً: أن الذي سيحضر لهم الطعام والشراب فترة الثلاثة أيام في غار ثور السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكانت حاملاً وفي الشهور الأخيرة من حملها، وإن كان المشركون وضعوا مراقبة على أولاد الصديق الرجال، فمن الصعب أن يضعوها على النساء، كما أنهم لم يعتادوا من النساء أن تقوم بمثل هذه الأدوار، وتذكروا أننا نتكلم عما قبل (1400) سنة سابقة، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة تحمل الطعام والشراب وتسير به مسافة (8) كيلو متر من مكة وحتى غار ثور، ثم تصعد الجبل الصعب، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة! لكن لا تستغربوا، فإنها ابنة الصديق رضي الله عنه وعنها.

حصار المشركين لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وخروجه من بينهم سالما

حصار المشركين لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وخروجه من بينهم سالماً عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته وبدأ يجهز نفسه، ونادى علياً رضي الله عنه، وكان في ذلك الوقت عمره (23) سنة، وأخبره بدوره، وأنه سينام في سريره صلى الله عليه وسلم طوال الليل، ويتغطى ببرد الرسول صلى الله عليه وسلم الأخضر، وفي الصباح يعيد الأمانات لأصحابها. انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت حتى الليل، ثم في أول الليل فكر بالخروج والذهاب إلى الصديق، فرأى أن المشركين قد أتوا مبكرين عن الموعد الذي كان يظنه، ورآهم يحاصرون البيت، وعشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس أو المحاكمة، لقد صدر القرار بالقتل، وقد أتوا للتنفيذ مباشرة، فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يخرج؟ أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأن يخرج من وسط المشركين، وأن يخرج أمام الناس كلهم، ولن يراك أحد منهم؛ فإن الله عز وجل سيأخذ أبصارهم، ستعمى الأبصار كما عميت قبل ذلك البصائر. خرج الرسول صلى الله عليه وسلم أمام كل الناس ليلة (27) صفر سنة (14) من النبوة، خرج وهو يقرأ صدر سورة (يس) من أولها إلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، وليس هذا فحسب، بل أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءاً منها على رأس كل مشرك؛ من أجل أن يقول لهم: لا تظنوا أنني قد بت خارج البيت، لا، أنا كنت بالداخل وخرجت أمامكم وأنتم لم تروني. كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي المشركون، لكن هذا الذي حصل كان لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه بدون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وظهرت المعجزة الظاهرة الواضحة في نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وجلس عنده حتى نصف الليل حسب الخطة، وبعد ذلك خرجا من الباب الخلفي للبيت، وتسللا من مكة، واتجها جنوباً إلى غار ثور، وعندما وصلا إلى الغار دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى الغار أولاً، وعمل عملية استكشافية؛ ليطمئن أنه لا خطر فيه، وعندما اطمأن دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذا يكون هذا الجزء من الخطة مر بسلام والحمد لله. هذا ما كان في الغار، أما عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فما زال المشركون على هيئتهم وعلى رءوسهم التراب، وعلي رضي الله عنه مازال نائماً بداخل البيت، وهم على حالتهم مر عليهم رجل مشرك ووجد على رأس كل رجل حفنة تراب، فاستغرب من شكلهم، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمداً قال: خيبكم الله، قد -والله- خرج عليكم. فانزعجوا وتساءلوا، قبل قليل كان نائماً، ونحن نراه بالداخل وهو نائم وعليه برده، وبعد ذلك وجدوا التراب على رءوسهم، وليس واحداً أو اثنين، بل كلهم على رءوسهم التراب، فقام المشركون ونظروا من ثقب الباب، فرأوا رجلاً نائماً بالداخل وعليه البرد الأخضر، فتحير القوم، وقالوا: والله إنه لنائم، فهل يصدقون ذلك الرجل الذي قال لهم: إنه قد خرج عليكم، والتراب الذي رأوه على رءوسهم، أم يصدقون أعينهم؟ فأراد شخص منهم أن يريح الجميع، قال: لنكسر الباب ونرى من النائم بالداخل، لكن معظم الكفار اعترضوا؛ وقالوا: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار، لا يدخلون بيتاً بغير إذن أهله! انتظر المشركون إلى الصباح ولم يستطيعوا الدخول إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يلحقهم العيب، وبعد قليل إذا هم بـ علي رضي الله عنه وأرضاه قام من الفراش، كان المشركون حينها في منتهى الغيظ، فأمسكوا بسيدنا علي بن أبي طالب وضربوه ضرباً شديداً رضي الله عنه، وأخذوه إلى البيت الحرام ليحققوا معه، وحبسوه هناك، ومع كل هذا الضرب إلا أنه لم يجب عليهم، ومع كونه فارساً مغواراً وكان عمره في ذلك الوقت (23) سنة إلا أنه لم يقاتلهم، وذلك لأمور: أولاً: لم يؤذن بعد للمسلمين بالقتال إلى هذه اللحظة. ثانياً: الهلكة محققة لغياب كل المسلمين، ولن يدافع عنه أحد، واجتماع كل المشركين على بني هاشم يصعب الأمر أكثر. ثالثاً: أن عليه مهمة عظيمة وهي رد الأمانات إلى أهلها، فلابد أن يحافظ على نفسه حتى يؤديها؛ من أجل ذلك لم يرد عليهم حكمة وفقهاً من علي رضي الله عنه. حبس سيدنا علي ساعة من الزمن، لا شهر ولا سنة ولا سنتين؛ لأن كفار مكة رأوا أن من الظلم أن يحبس إنسان بدون جريرة أو بدون ذنب أكثر من ساعة، ففي عرفهم أن الساعة كثيرة جداً. مكث علي رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم هاجر مباشرة إلى المدينة المنورة.

جهود قريش في البحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعد خروجهما من مكة مهاجرين

جهود قريش في البحث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعد خروجهما من مكة مهاجرين اكتشف زعماء مكة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلنوا حالة الطوارئ القصوى في مكة، وأخذوا مجموعة من القرارات: القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم مختف في بيته، أو أن الصديق يعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه، أخذ معه فرقة وذهب إلى بيت الصديق، وظل يطرق الباب بعنف، ففتحت له السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها: أين أبوك يا ابنة أبي بكر، قالت في هدوء: لا أدري، فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى طار قرطها. هذا تجاوز كبير في أعراف مكة، أن رجلاً يضرب امرأة بهذه الصورة، ومع كل هذا التجاوز إلا أن أبا جهل لم يفكر أن يدخل البيت ويقلبه رأساً على عقب، لم يفكر أن يدخل يبحث على أي دليل، مع خطورة هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولماذا لم يدخل؟ تذكروا أن زعماء مكة لا يهتكون حرمات البيوت. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في بيت الصديق؛ لذا يجوز أن يكون في بيت آخر من بيوت أصحابه، من أجل ذلك أخذوا القرار الثاني. القرار الثاني: إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكة، فإذا كان ما زال داخل مكة أمسكوا به وهو خارج منها. القرار الثالث: مطلوب حياً أو ميتاً، إعلان عن جائزة كبرى لمن يأتي برسول صلى الله عليه وسلم أو صاحبه الصديق رضي الله عنه، والجائزة مائة ناقة، وهذا رقم مهول في ذلك الزمن، ميزانيات ضخمة تنفق لصد الدعوة، ولوقف الدعوة إلى الله عز وجل. القرار الرابع: المطاردة، استخدام قصاص الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام لرسول صلى الله عليه وسلم، استخدموا قصاص الأثر في كل الطرق الخارجة من مكة، وفي الحقيقة أن الكفار كانوا في منتهى الذكاء؛ درسوا كل المخارج بما فيها المخارج الجنوبية البعيدة عن طريق المدينة، ومع كل طرق التأمين التي كانت في خطة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كون الخطة بارعة، إلا أنه ليس من طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، فلابد من وجود ثغرات؛ لذا اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي بداخله غار ثور، وصعدوا الجبل ووصلوا إلى باب غار ثور، ولم يبق لهم إلا أن ينظروا إلى داخل الغار، ولو نظروا إلى داخله سيرون الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه. كان الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل الغار في سكينة تامة، لكن الصديق رضي الله عنه كان قلقاً، يقول الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، إحساس بمعية الله في كل خطوة، والصديق لم يكن خائفاً على نفسه، بل خاف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أن الصديق قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة). ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور؟ يعني: بعدما قطعوا هذا المشوار الطويل (8) كيلو من الصحراء والجبال والشمس والمشقة، وآثار الأقدام منتهية عند فتحة باب الغار، كان من العقل أن ينظروا ما في الداخل، لكنهم لم ينظروا، كم كانت ستأخذ هذه النظرة لو نظروها؟ لكن (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما). هناك قصة مشهورة أن العنكبوت نسجت خيطاً كثيفاً على باب الغار، وقال الكفار: لو دخل من ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه القصة ضعيفة من كل طرقها، وإن كان بعض العلماء رفع درجة القصة إلى الحسن لكثرة الطرق، كذلك قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار قصص ضعيفة لا تصح أصلاً، وحتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضاً، وإلا كيف تفسر أن الغار يكون مفتوحاً والآثار وصلت إليه، والكفار لا ينظرون إلى داخله. هذه معجزة ظاهرة! وليست هي المعجزة الأولى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الأخيرة، فحياته كلها معجزات صلى الله عليه وسلم. فشلت المطاردة ورجع الكفار إلى مكة مرة أخرى وقد يئسوا من العثور على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصديق رضي الله عنه، لكن مازالت المكافأة معلنة مائة ناقة لمن يعثر على أحدهما حياً أو ميتاً. مكث الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام كما كان مقرراً في الخطة، وعبد الله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين كل واحد منهم يقوم بدوره، ومرت الثلاثة الأيام، وجاء الدليل عبد الله بن أريقط بالناقت

مطاردة سراقة بن مالك للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه أثناء الهجرة

مطاردة سراقة بن مالك للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه أثناء الهجرة رأى بعض المشركين القافلة وجاءوا إلى مكة يخبرونهم الخبر، فلعل الركب هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسمعهم سراقة بن مالك، وكان سراقة بن مالك يفكر في المائة الناقة التي هي لكل واحد من الاثنين، فخدع الناس، وقال لهم: هذا فلان وفلان أعرفهما، ومباشرة جهز فرسه وسلاحه وانطلق ليفوز بالجائزة الكبرى، واستطاع أن يصل إليهم، واقترب منهم، حتى إنه كان يسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت -كما يقول سراقة كما جاء في البخاري - وأبو بكر يكثر الالتفات من خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما اقترب منهم حدثت المعجزة وبدأت الفرس تسيخ في الأرض مرة وثانية وثالثة، وعلم سراقة أن هناك شيئاً غريباً، يقول: فأدركت أن القوم ممنوعون. فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وذكر لهم أمر المكافأة التي جعلتها قريش فيهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخف عنا)، وبعد ذلك قال له شيء في منتهى الغرابة، قال: (كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى)، في هذا الموقف الصعب الذي يطارد فيه من أهل الأرض يبشر سراقة بانهيار عرش كسرى، وأنه سيأتي يوم يأخذ فيه المسلمون سواري كسرى غنيمة، وفي ذلك الوقت سراقة هو الذي سيأخذ هذين السوارين، وسراقة كان يصدق بهذا تماماً، إلى درجة أنه طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً بهذا الأمر، حتى إذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذا الشيء فسيكون معه الدليل الذي يأخذ به السوارين، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عامر بن فهيرة أن يكتب له كتاباً، فكتب له على رقة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق. كان أول اليوم جاهداً في مطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي آخر اليوم كان مدافعاً عنه، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، والغريب أيضاً أن سراقة مع إحساسه بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يسلم إلا بعد فتح مكة وحنين، ومرت الأيام وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب وفيها سواري كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلمه لـ عمر رضي الله عنه، فأعطاه عمر رضي الله عنه سواري كسرى تنفيذاً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

خروج بريدة بن الحصيب ومن معه لمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة

خروج بريدة بن الحصيب ومن معه لمطاردة الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة لم تحصل مشاكل أخرى في الطريق إلا قبل المدينة المنورة، فقد فوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم برجل اسمه بريدة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، وقد خرج له في (70) من قومه، يريد المكافأة، ومع خطورة الموقف إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفقد أعصابه مطلقاً، بل بدأ يعرض الإسلام على بريدة وعلى قومه، وسبحان مقلب القلوب! وقعت كلمات الله عز وجل في قلب بريدة وأصحابه، فآمنوا جميعاً في لحظة واحدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكث سنين في مكة من أجل أن يأتي بهذا العدد (70)، وفي لحظة واحدة يؤمنون، الله عز وجل يخبرنا أن القلوب بيديه هو سبحانه وتعالى، يستطيع أن ينصرك في الوقت الذي يريده، لكن المهم أنك تعمل كما كان يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم. هناك أحداث أخرى كثيرة وهامة وعظيمة ولطيفة في الهجرة، لكن المقام لا يتسع لها، وقد ذكرنا كثيراً من ذلك في محاضرات: الصديق الصاحب والخليل، فلا داعي للتكرار. وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة سالماً، وكان ذلك في يوم (12) من ربيع الأول سنة (14) من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة وهامة في الدعوة الإسلامية، وهي مرحلة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة المنورة.

دروس من الهجرة النبوية

دروس من الهجرة النبوية دروس الهجرة لا تحصى ولا تعد، لكننا سنختار بعضاً منها، وبالذات الدروس التي لها علاقة ببناء الأمة الإسلامية. الدرس الأول: الأخذ بالأسباب، بذل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه كل ما في الطاقة لإنجاح عملية الهجرة، وهذا هو الإعداد المطلوب من المؤمنين، أن يعدوا كل ما يستطيعون، وليس مطلوباً منهم أكثر من هذا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، لكن نلاحظ كذلك أنه مع هذا الإعداد العظيم إلا أنه حدثت بعض الثغرات في الخطة، وهذا شيء خارج عن حدود البشر؛ إذ الكمال لله وحده. منها: أن المشركين حاصروا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل خروجه، مع أن التخطيط أنه يخرج قبل الحصار، لكنهم أتوا قبل موعدهم الذي ظنه الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن أحد المشركين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما خرج، وقال لزعماء مكة: لقد خرج عليكم محمد. أيضاً: المشركون وصلوا إلى غار ثور مع كل الاحتياطات التي أخذها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسراقة لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق. فمثل هذه الثغرات لابد أن تحصل، لكن المهم أنك بذلت الوسع في الإعداد، وكذلك لو أنك بذلت الاستطاعة فإن الله سبحانه وتعالى يكمل العجز البشري، مثل ما حدث للكفار وحصل لهم عمى مؤقت أمام بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم يدخلوا الغار بعدما وصلوا إلى بابه، وخيل سراقة لا تستطيع المشي في الرمال، أشياء لم تكن في الحسبان، فالله عز وجل يعطيك هدية لو أنك بذلت وسعك. إذاً: الدرس الأول: أن تبذل الوسع والله عز وجل سيكمل لك العجز من رحمته وكرمه سبحانه وتعالى. الدرس الثاني: لم يعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسباب وترك رب الأسباب، إنما كان يعلم أن الأسباب لا تأتي بنتائجها إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك بعد أن بذل أسبابه كاملة تحلى بقين عظيم، يقين أن ما أراده الله عز وجل سيكون حتماً، ظهر ذلك في كلمته الرائعة: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وظهر أيضاً في أنه لم يكن يكثر الالتفات في طريقه، فهو مطمئن إلى أن الله عز وجل سينصر رسله والذين آمنوا، ومن غير هذا اليقين لا أعتقد أن بناء الأمة سيحصل، أو أن أي نصر ممكن أن يتحقق، لابد من يقين بنصر الله عز وجل. الدرس الثالث: لم يفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم روح الأمل في أي لحظة من لحظات حياته، حتى في هذه الرحلة الخطيرة، وهو يخرج من مكة بهذه الطريقة، وهو مطلوب لا يأمن على حياته ولا على حياة أصحابه، حتى في هذه الظروف يبشر سراقة ليس فقط بظهور الإسلام على قريش أو على العرب، بل وبسقوط عرش كسرى تحت أقدام المسلمين، وأخذ كنوز كسرى غنيمة: (كأني بك يا سراقة تلبس سواري كسرى). الدرس الرابع: حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته على الصحبة، عاش حياته في مكة بصحبة، وخرج إلى الطائف بصحبة، وقابل الوفود بصحبة، وعقد البيعة التي بنيت عليها دولة الإسلام بصحبة، وها هو يسأل جبريل عليه السلام عن صاحبه في الهجرة، كل هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل الناس تحتاج إلى صحبة، ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبحث عن الصحبة الصالحة. الدرس الخامس: وضح لنا وظهر في هذه الرحلة كيف أن القائد العظيم هو الذي يعيش معاناة شعبه، يهاجر كما يهاجرون، ويطارد كما يطاردون، ويتعب كما يتعبون، ويعيش معهم حياتهم بكل ما فيها من آلام وتضحيات، كان من الممكن أن ربنا سبحانه وتعالى ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالبراق الذي نقله قبل ذلك في لحظة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، لكن أين القدوة في ذلك؟ لابد للمسلمين من طريق عملي لبناء الأمة، طريق في مقدور عموم المسلمين، ولابد أن يسير في هذا الطريق رسول صلى الله عليه وسلم رغم كل المعاناة والتعب؛ ليعطي قدوة لكل قائد. الدرس السادس: رأينا كيف أن الدعوة في دم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت مثل النفس عند عموم البشر، لا يضيع فرصة، لا يرتبط بظرف، يدعو كل من يستطيع، رأيناه كيف دعا إلى الإسلام بريدة وأصحابه من قبيلة أسلم، لم يكن همه الهروب حتى يصل إلى المدينة، بل اعتبر أن الله عز وجل قد ساق إليه هذا الرجل وقومه هدية من الله عز وجل، فتخيلوا فكيف يضيع فرصة مثل هذه، دعا بريدة وأسلم بريدة، وتغير حال بريدة وقبيلة أسلم كلها بعد هذا الإسلام، فانظروا إلى فضل الدعوة. الدرس السابع: رأينا في هذه الرحلة استعداد الصديق رضي الله عنه وأرضاه للعمل لله عز وجل تحت أي ظرف وفي كل زمان ومكان، القضية في منتهى الوضوح عند الصديق، أهم شيء في حياة الصديق رضي الله عنه هو أن يرضي الله عز وجل، وأن يرضي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا ينبغي أن يطلبه الله عز

الملامح العامة لبناء الأمة في الفترة المكية

الملامح العامة لبناء الأمة في الفترة المكية تمت مرحلة هامة من مراحل السيرة النبوة بالهجرة إلى المدينة، تمت المرحلة المكية بكل أحداثها وآلامها ومشاكلها، مرحلة ذات طابع خاص بدأ الإسلام فيها غريباً، واستمر غريباً إلى قرب نهايتها إلى أن آمن الأنصار. كان الاهتمام الرئيسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يبني الجانب العقائدي عند الصحابة؛ لا يؤمنون إلا بالله عز وجل، لا يتوجهون بالعبادة لأحد سواه، يتوكلون عليه، ينيبون إليه، يخافون عذابه، يرجون رحمته؛ إنه إيمان عميق برب العالمين سبحانه وتعالى، واعتقاد جازم بأن هناك يوماً سيبعث فيه الخلائق أجمعون، وسيقوم فيه الناس لرب العالمين، يحاسبون على ما يعملون، لن يظلم في ذلك اليوم أحد، لن تغفل الذرة والقطمير، وإنها -والله- إما جنة أبداً أو نار أبداً. وإلى جانب العقيدة الراسخة فقد تعلم المؤمنون في هذه المرحلة أيضاً الأخلاق الحميدة؛ هذبت نفوسهم تماماً، ارتفعوا عن قيم الأرض وأخلاق الأرض وطبائع الأرض إلى قيم السماء وأخلاق السماء وطبائع السماء. وبالإضافة إلى العقيدة والأخلاق عرف المؤمنون في هذه المرحلة أن الطريق الطبيعي للجنة طريق شاق صعب مليء بالابتلاءات والاختبارات، ما تنتهي من امتحان إلا وهناك امتحان آخر، والله عز وجل يراقب العباد، يراقبهم في صبرهم ومصابرتهم وجهادهم، ولن يستثنى من هذا الاختبار أحد (يبتلى المرء على قدر دينه). ومع كون هذه المرحلة بكاملها كانت عبارة عن فقرات مختلفة من الإيذاء والتعذيب سواء على الروح أو الجسد، إلا أنها كانت لا تخلو من سعادة، لكن ليست السعادة المادية الحسية التي يجدها الناس في طعام أو شراب أو شهوة، لا، إنما هي سعادة الروح والقلب، سعادة الطاعة لله عز وجل، سعادة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سعادة الصلاة ومناجاة الله عز وجل، سعادة الأخوة والألفة بين المؤمنين، سعادة الدعوة إلى الله عز وجل، سعادة كبيرة عندما ترى شخصاً كان يسجد لصنم، حياته تافهة حقيرة لا تساوي شيئاً، وفجأة تحول إلى عملاق من عمالقة الأرض، أي عقل وأي حكمة وأي شجاعة وأي أخلاق! سعادة عظيمة فعلاً، سعادة الثبات أمام كل فتن الدنيا، سواء كانت فتناً في الجسد أو الهجرة أو الإغراءات بالمال أو بالسلطة أو بالنساء أو غيرها من الفتن. والثبات أمام الفتن لا شك أنه يزرع سعادة في قلوب المؤمنين. لقد كانت الفترة المكية بمثابة الأساس المتين للصرح الإسلامي الهائل، من المستحيل أن يجتاز المسلمون خطوات كبدر والأحزاب وخيبر وتبوك دون المرور على فترة مكة، من المستحيل أن تبني أمة صالحة، أو تنشئ دولة قوية، أو تخوض جهاداً ناجحاً، أو تثبت في ميادين القتال والنزال، أو تقف بصلابة أمام فتن الدنيا المختلفة، من المستحيل أن تفعل كل ذلك إلا بعد أن تعيش في فترة مكة بكل أبعادها. على الدعاة المخلصين أن يدرسوا هذه المرحلة بعمق، عليهم أن يقفوا أمام كل حدث، قصر وقته أو صغر حجمه، لابد أن يقفوا أمامه وقوفاً طويلاً طويلاً، هنا البداية التي لابد أن نبدأ منها، بغير مكة لن تكون هناك المدينة، وبغير المهاجرين لن يكون هناك أنصار، وبغير الإيمان والأخلاق والصبر على البلاء لن تكون هناك أمة ودولة وسيادة وتمكين. كانت هذه هي فترة مكة الجميلة؛ لأنها تحكي قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومازالت لنا جولات مع فترة جميلة أيضاً من فترات حياة رسول صلى الله عليه وسلم، تلك هي فترة المدينة المنورة. نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجمعنا مع حبيبه وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قيام الدولة الإسلامية

سلسلة السيرة النبوية_قيام الدولة الإسلامية بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية على أسس قوية ترتكز عليها، لمواجهة التحديات القائمة تجاهها، ففي الفترة المكية نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الأفراد على العقيدة الصحيحة، واتضح ذلك جلياً على الواقع في الفترة المدنية بعد هجرته صلى الله عليه وسلم، إذ فيها كان بناء الدولة الإسلامية الشاملة.

مميزات العهد المدني وقيام الدولة الإسلامية

مميزات العهد المدني وقيام الدولة الإسلامية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. اليوم نبدأ الحديث عن العهد المدني في السيرة النبوية، قبل هذا تكلمنا عن العهد المكي، والكثير الكثير من الأحداث الهامة جداً في العهد المكي للأسف أغفلت؛ لكثرة الأحداث وصعوبة الإلمام بكل ما تم في حياته صلى الله عليه وسلم من دروس وعبر وعظات وأحكام وتشريعات، إذا كنا نقول ذلك الكلام عن فترة مكة فالحديث عن فترة المدينة أصعب بشكل لافت للنظر؛ لأن أحداث المدينة المنورة كثيرة جداً ومتشعّبة: غزوات، وسرايا، ومعاهدات، ولقاءات ومعاملات، وحياة زوجية للرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة مع الصحابة، وحياة مع المنافقين، وحياة مع أعداء الأمة من اليهود ومن المشركين ومن غيرهم، في الحقيقة هناك تنوعات هائلة في السيرة النبوية، ويكاد يكون من المستحيل أن تجمع كل السيرة النبوية في فترة المدينة المنورة في مجموعة واحدة أو مجموعتين أو ثلاث أو أكثر، سنظل نتكلم سنين كثيرة في السيرة النبوية، ومهما تكلم المتكلمون قبل ذلك ستجد جديداً في السيرة النبوية؛ لأن السيرة النبوية كنز لا ينتهي عجائبه، كما تقرأ القرآن الكريم فأنت في كل فترة تأتي بجديد وبإضافة في فقه آية أو في فهم معنى، ويبدع المفسّرون في تفسير بعض الآيات كل سنة، مع أن لنا تقريباً (1400) سنة ونحن نفسر القرآن الكريم، كذلك في السيرة النبوية كلما تقرأ حدثاً قد تطلع منه على جديد، وكتب السيرة التي تُطبع في هذا الوقت بعد (1400) سنة من التدقيق والتحليل والدراسة للسيرة النبوية ما زالت تخرج لنا جديداً. إذاً: السيرة النبوية إعجاز وترتيب دقيق جداً من رب العالمين سبحانه وتعالى، وضع الله عز وجل فيها كل المتغيرات والأحداث، التي من الممكن أن تحدث في الأرض وإلى يوم القيامة؛ لكي يقيم حجته على البشر في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] ففي كل مواقف الحياة تستطيع أن تجد سنة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا في مجموعة المدينة هذه لن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نتناول جميع الأمور بالترتيب، سنُغفل بعضها، ونحيل هذه الأمور إلى مجموعات أخرى من المحاضرات والدروس. على سبيل المثال سنجعل مجموعة نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وحل مشكلات العالم. نتناول فيها كيف حل الرسول عليه الصلاة والسلام مشكلة البطالة، ومشكلة الأمية، ومشكلة الزواج المتأخر، ومشكلة الفقر، ومشكلة اللاجئين مشاكل كثيرة جداً مرت بالأمة الإسلامية، حلها الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة علمية عملية واضحة، نستطيع أن نقلدها بمنتهى السهولة لو درسنا السيرة النبوية. وسوف نجعل أيضاً مجموعة من المحاضرات إن شاء الله نسميها: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين. وسنجمع فيها أخطاء المؤمنين التي وقعوا فيها في فترة المدينة أو في فترة مكة، وهذه الأخطاء في الحقيقة تحتاج منا إلى دراسة متأنية وتحليل لكل خطأ كيف حدث؟ وكيف خرج منه المسلمون؟ وفي الحقيقة تأخذ مساحات كبيرة جداً من الوقت في التحليل والدراسة؛ ولهذا سنحاول أن نخرج هذه الأخطاء قدر المستطاع دون الإخلال بترتيب الأحداث وبفقه المعاني في داخل الفترة النبوية في المدينة المنورة، ونجمع كل هذه الأخطاء في مجموعة: الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين. ومن المجموعات مجموعة: بناء الدولة الشاملة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام البناء الاقتصادي، البناء السياسي، البناء العسكري، البناء القضائي، البناء الرياضي، فالرسول عليه الصلاة والسلام كوَّن دولة شاملة بترتيبات دقيقة جداً وقانون محكم، كل هذا يحتاج إلى تفصيلات لا نستطيع أن نتحدث عنها كلها في هذه المجموعة. إجمالاً فترة المدينة المنورة بصفة عامة لها سمات تميزها عن فترة مكة المكرمة، ففترة مكة تستطيع أن تقول: إنها فترة بناء الفرد المسلم الصالح المؤمن بربه، والمؤمن برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، المعتقد بالبعث والحساب يوم القيامة، ودخول الجنة أو النار، كانت بناءً للأواصر القوية بين الجماعة المسلمة الصغيرة جداً، كانت فترة تجنب للاستئصال قدر المستطاع، فمرة عن طريق التخفي، ومرة أخرى عن طريق تجنب الصراع بكل وسيلة ممكنة، ومرة عن طريق الهجرة، فالهجرة إلى الحبشة كانت مرتين، والثالثة كانت للمدينة المنورة. أما فترة المدينة المنورة فكانت فترة بناء للأمة الإسلامية بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا كنا في فترة مكة نبني أفراداً، ففي فت

الأسس التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية

الأسس التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية تربية مكة كانت الأساس للصرح الضخم الذي بُني بعد ذلك في المدينة المنورة، والأساس الذي يبني فوقه عشرات الأدوار لا أحد يراه، إلا العالمين ببواطن الأمور، فلو أتيت أحد المهندسين فإنه يستطيع أن يخبرك بعمق الأساس ومساحته وقوته، وأيضاً كم يستطيع أن يبني فوق العمارة التي بُنيت، فلو كان الأساس ضعيفاً فإن البناء ينهار عند أول هزة، قد تجده يقف أمامك فترة من الزمن، لكن أول زلزال ولو كان يسيراً قد يجعل البناء ينهار بالكلية، وما أكثر ما رأينا دولاً وأحياناً تكون دولاً إسلامية تنهار؛ لأن الأساس كان ضعيفاً، والتربية كانت ضعيفة، وما أحداث طالبان منا ببعيد، ما نشك في نياتهم وفي أخلاقهم وفي عبادتهم، لكن البناء كان ضعيفاً، والتربية كانت ضعيفة؛ فحدث هذا الانهيار المروع وفي فترة قصيرة؛ لأنه لم تُدرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام دراسة متأنية منهم، أو ممن وقع من أمثالهم في حلقات التاريخ المختلفة. إلى كل العاملين على الساحة الإسلامية أقول: دراسة السيرة ليست ترفاً فكرياً، إنما هي فريضة على كل من أراد أن يعز هذه الأمة وأن يشارك في بنائها. ما هو الأساس الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم لبناء الأمة الإسلامية، وحرص على تقويته في فترة مكة المكرمة؟ ما الذي نأخذه من فترة مكة لندخل فترة المدينة؟

شهادة أن لا إله إلا الله والعمل بمقتضاها

شهادة أن لا إله إلا الله والعمل بمقتضاها جعل الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم ثلاثة أسس رئيسية للأمة الإسلامية: الأول: الإيمان به وتعظيمه واليقين الكامل في قدرته وحكمته وأحقيته بالطاعة والخضوع، لا إله إلا الله، هذه كلمة عاش لها صلى الله عليه وسلم فترة طويلة من الزمان، من أول البعثة إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وهو يزرع في الناس هذه الكلمة الموجزة جداً، التي توضح معنى عبادة الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، كان يمشي وسط المشركين في مكة المكرمة ويقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، فنجاة البشر بصفة عامة في الدنيا بقول لا إله إلا الله، ونجاة البشر يوم القيامة بقول لا إله إلا الله. لكن ليس المقصود أن تقولها باللسان، فجميعنا يقول: لا إله إلا الله، من منا في حياته يطبق قول لا إله إلا الله؟ هل كان ينكر العرب أن الله عز وجل هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي خلق البشر؟ أبداً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] هذا اعتراف من الجميع، لكن المشكلة الرئيسة أنهم حكموا غير الله عز وجل في حياتهم، عبدوا الله عز وجل ظاهراً وطبقوا شرع غيره في كل جزئية من جزئيات حياتهم؛ لذلك كانوا من الكافرين، وخسروا الخسران المبين؛ من أجل عدم تطبيق كلمة لا إله إلا الله في حياتهم، والذين قالوها هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ملكوا العرب والعجم كما وعدهم صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم). يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] الناس جميعاً تعترف أن الخلق لله، ما ادعى بشر قبل ذلك وإلى الآن وإلى يوم القيامة أنه يخلق، فالجميع يعترف أن الخلق قوة خارجة عن إرادة البشر وقدرتهم، وهذا يحيلنا جميعاً إلى الله عز وجل أنه هو الذي خلق، لكن من الذي يأمر؟ {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. لا إله إلا الله تقتضي أن تطيع الله عز وجل، إن هذا الكلام ليس بالسهل، بل كثيراً ما يتعارض مع مصلحتك في الظاهر، والشرع كله مصلحة؛ واتباع شرع ربنا سبحانه وتعالى يحقق لك المصالح في الدنيا والآخرة، لكن عين الإنسان القاصرة أحياناً لا ترى الخير، ولا ترى الحق والصواب في أمر من الأمور، وتظن أن اختيارها أفضل مما اختاره رب العالمين سبحانه وتعالى لها، وهذا ضعف إيمان، فلابد أن تؤمن إيماناً يقينياً بقدرة رب العالمين سبحانه وتعالى على أنه يختار الاختيار الأفضل لك ولأمتك، سواء في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم أو في زماننا، أو إلى يوم القيامة في كل مكان في الأرض؛ لأن هذه حقائق ثابتة، والإنسان إذا كان عنده تردد في هذا المعنى فهذا ضعف إيمان؛ ولهذا مكث الرسول صلى الله عليه وسلم (13) سنة كاملة من مجموع (23) سنة من البعثة كلها يزرع هذا المعنى فقط، ويركز تركيزاً كاملاً على معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله. فرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يعمل من أجل لا إله إلا الله فترة طويلة جداً من الزمان، وحرص في فترة المدينة المنورة على تأكيد هذا المعنى حتى مات صلى الله عليه وسلم. إذاً: فالأصل الأول الذي لا تُبنى أمة الإسلام إلا به: لا إله إلا الله.

شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بمقتضاها

شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بمقتضاها الثاني: الإيمان الكامل والجازم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول بعثه رب العالمين سبحانه وتعالى برسالة منه إلى البشر عامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ما حرمت مثل الذي حرم الله) تماماً بتمام؛ لأن السنة وحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، والقرآن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى. فلو كان الناس لا يفهمون معنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وظنوا أنه مجرد رجل حكيم أو عبقري أو سياسي قدير أو كذا من الأمور، لأخذوا من كلامه وردوا حسب ما أرادوا، لكن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يزرعه في فترة مكة المكرمة أن ما يقوله هو وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، سواء كان كلام رب العالمين القرآن، أو كان وحياً وعبّر عنه صلى الله عليه وسلم بالمعنى، سواء الحديث القدسي أو الحديث النبوي كما نعلم جميعاً.

الإيمان الجازم باليوم الآخر

الإيمان الجازم باليوم الآخر الثالث: الإيمان الجازم بأن هناك بعثاً يوم القيامة، وأن هناك حساباً من إله قدير عليم حكيم، يثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار. هذا ما قاله صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا يدعو المشركين جميعاً إلى الإيمان برب العالمين سبحانه وتعالى. قال: (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعلمون، وإنها لجنة أبداً أو نار أبداً).

الآثار المترتبة على الإيمان بالشهادتين واليوم الآخر

الآثار المترتبة على الإيمان بالشهادتين واليوم الآخر هناك أمور أخرى كثيرة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم منها: تقوية الأواصر بين المسلمين، زرع الأخلاق الحميدة، وتنمية روح التسامي والتضحية عند المسلمين، والبذل والعطاء، لكن لن تتحقق هذه الأمور كلها إلا إذا آمنت أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة إيماناً يقينياً جازماً. قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. هل نستطيع أن نفهم تطبيق شرع الله في حياتنا من غير أن نفهم هذه الأصول أو الأسس الثلاثة؟ في فترة المدينة المنورة جاءت تشريعات وقوانين كثيرة جداً، ولن يطبق هذه القوانين إلا من رُبِّي تربية صادقة صحيحة في فترة مكة المكرمة، أو تربى في المدينة المنورة على هذه الأصول الثلاثة المهمة. فإن كان الإيمان ضعيفاً كان الانسياق للقانون الذي أتى من عند رب العالمين عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أيضاً، ومن ثم كان بناء الأمة الإسلامية ضعيفاً، والدستور الإسلامي هو أحكم قانون عرفته الأرض؛ لأنه من عند رب العالمين سبحانه وتعالى الذي يعلم ما يصلح العباد وما ينفعهم؛ لهذا كان اختياره لنا دائماً أفضل من اختيارنا لأنفسنا، والمسألة مسألة إيمان ويقين كما ذكرنا، إلا أن فلسفة الحكم في الإسلام لا تعتمد فقط على دقة القوانين وإحكامها، ولا تعتمد على مهارة الحاكم وحسن إدارته، بل تعتمد أيضاً على الشعور الدائم من المسلم بأنه مراقب من رب العالمين سبحانه وتعالى، وليست فقط رقابة ظاهرية، بل رقابة للباطن أيضاً: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29]. ويصف ربنا سبحانه وتعالى نفسه بقوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]. ونتيجة هذه المراقبة سيكون الحساب يوم القيامة ثم الجنة أو النار، ومن ثم الأمة التي تؤمن بالله لا تخالف الدستور أو القانون الإلهي حتى في غياب عين الحاكم، أو حتى في غياب المدير أو الشرطي، وما ذلك إلا لأنها تعلم أن الله عز وجل يراقبها. هذه هي فلسفة الحكم في الإسلام، لو أحسن المسلمون فقه هذه الفلسفة لكانت أمة الإسلام هي أكثر الأمم انضباطاً في تنفيذ قوانينها. ولو أضفت إلى هذا حقيقة أن القانون الإسلامي هو أفضل قانون في الأرض بلا منازع؛ فإن هذا يفرز أفضل أمة بكل المقاييس؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فأنتم خير أمة وقانونكم هو خير القوانين، واتباعكم للقانون خير الاتباع، هذا إذا كان الناس يفهمون حقيقة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأن هناك بعثاً يوم القيامة. فإذا رأيت في فترة من الفترات أو في مكان من الأمكنة أن أمة الإسلام ليست خير الأمم في الأرض، فاعلم أن هذا نتج من مخالفة المسلمين، إما بترك أجزاء من القانون، وإما بسوء التربية الذي يفرّغ القانون من روحه ومعناه، فيتحايل عليه المسلم ناسياً أن الله يراقبه؛ وما ذلك إلا لضعف إيمان، لو حصل هذا ستجد الفساد في أمة الإسلام، وستجد الرشوة والتزوير لإرادة الشعوب، وستجد التدليس على الناس، والكذب والبهتان والفواحش والمنكر، ستجد انهياراً كاملاً لكل فضيلة وخلق ومعروف؛ وذلك لأن القانون تفرّغ من روحه، فالناس لا يعرفون أن هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأن الله عز وجل يراقبهم في كل صغيرة وكبيرة. خلاصة لما سبق لن تكون للمسلمين أمة ودولة بغير تربية مكة، تربية الإيمان بالله عز وجل، والإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والإيمان باليوم الآخر، تربية الصبر والثبات والتضحية والتجرد والإخلاص الكامل لله رب العالمين سبحانه وتعالى.

بداية العهد المدني بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه

بداية العهد المدني بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحن وقفنا في محاضرات مكة المكرمة على أمر الهجرة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام هاجر هو وكل المسلمين الذين يستطيعون الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. وعند دخولنا المدينة المنورة لفت الأنظار مباشرة رد فعل الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم لدخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، كان فرحاً شاملاً في كل المدينة المنورة، فقد استقبلوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالأناشيد والأهازيج كما تعلمون جميعاً: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع إلى آخر الكلمات التي كان يقولها الأنصار بحب حقيقي وفرح فطري في داخلهم، وهذا الفرح بتحمل المسئولية أمر غريب يحتاج منا إلى وقفة، فشتان بين من يبحث عن الدعوة ومن تبحث الدعوة عنه، وشتان بين من يبحث عن الجهاد ومن يبحث الجهاد عنه، وشتان بين من يبحث عن التضحية ومن تبحث التضحية عنه، فالأنصار كانوا يبحثون عن الدعوة وخدمة الإسلام. ها هو الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المدينة المنورة، ودخوله هذا معناه خطير جداً، معناه: حرب الأحمر والأسود من الناس. معناه: مفارقة العرب قاطبة. معناه: العداء المستمر مع اليهود الذين يسكنون في داخل المدينة المنورة، ولهم علاقات قديمة جداً مع الأنصار. معناه: تضحية وبذل وإنفاق وموت في سبيل الله عز وجل. كان الأنصار يعرفون جيدًا هذه المعاني قبل أن يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة؛ لأنهم عاهدوا الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية على النفقة في العسر واليسر، وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وعلى أن ينصروه إذا قدم إليهم، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، كل هذا في مقابل الجنة. ومستحيل أن يدفع أحد هذه الأشياء جميعها من غير أن يكون عنده إيمان يقيني جازم أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، وأن الجنة حق، وأنه سيدخلها بهذه الأعمال التي قدمها من أجل الله عز وجل. إذاً: ففرح الأنصار هذا يعبر عن طبيعة الأنصار التي سوف نراها بعد هذا في كل مراحل المدينة المنورة، في كل الفترات سواء في داخل المدينة أو في خارج المدينة، فكل الأحداث عطاء مستمر متواصل يعجب له الإنسان، ولا يفقهه إلا من يعلم أن الأنصار مؤمنون إيماناً يقينياً بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في حق الأنصار كلمات جميلة تُكتب بماء الذهب وبما هو أغلى من الذهب، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار). فإذا كنت تحب الأنصار فأنت مؤمن، وإن كنت تبغضهم فأنت منافق، فانظر كيف أصبح إيمان العبد بقدر وشرف الأنصار علامة من علامات صدق إيمانه، والذي لا يحب الأنصار يجب عليه أن يراجع نفسه، فهؤلاء الأنصار خرجوا فرحين جداً بتلقي كم هائل من المشاكل التي سوف تحدث في المدينة المنورة بعد دخول الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فرحين لأن هذا هو طريق الدعوة الذي سيوصلهم إلى الجنة، وأنتم تعرفون هذا من قبل، الطريق صعب لكن نهايته الجنة، وفرحهم هذا كان فرحاً إيجابياًّ وليس مجرد فرح قلبي. من أول يوم خرجوا إليه بالسلاح، والخروج بالسلاح فيه معنى التشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي زماننا هذا الوقت عندما نستقبل رئيساً أو شخصية كبيرة نستقبلها بالسلاح أو بما يسمى تشريفة السلاح هذا. فهذا فيه تشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن مع هذا فهو تطمين لقلبه صلى الله عليه وسلم أنهم ما زالوا على عهد البيعة التي عقدوها معه قبل ذلك في مكة المكرمة بيعة العقبة الثانية، وهناك أعداء كثر في داخل المدينة المنورة وفي خارجها يتمنون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثير من المشركين موجودون في داخل المدينة المنورة، معظم أهل المدينة كانوا لا يزالون غير مؤمنين، وعندك أيضاً مشركو مكة الذين استمروا في تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، ولم يفلت منهم صلى الله عليه وسلم إلا عند دخوله إلى قباء أول مواضع المدينة المنورة، وقلنا قبل هذا إن قبيلة أسلم اعترضت الرسول عليه الصلاة والسلام قبل دخوله إلى المدينة المنورة بقليل؛ بغية القبض عليه لتسليمه إلى قريش؛ لنيل الجائزة الكبرى التي أعطتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مائة من النوق، وهو رقم ضخم في ذلك الزمان. الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه مخاطر كثيرة داخل المدينة وخارجها، فالأنصار من أول لحظة يقولون: نحن معك بالسلاح، ونحن مستعدون أن نفديك بكل ما نمتلك من أموال وأرواح وكل شيء. إذاً: كان هذا وضع الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، واستقبالهم الحافل برسول الله صلى الله عليه وسلم استقبال مشرف حقيقة، ينبئ ويخبر عن طيب وحسن طبيعة الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقفة مع لحظة التمكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم

وقفة مع لحظة التمكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن نعرف ما الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، أريد أن أقف وقفة وأقول: إن لحظة التمكين قد تكون قريبة جداً، راجع معي الفترة التي سبقت الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنوات. قبل ثلاث سنوات من الهجرة كان عام الحزن الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة رضي الله عنه وأرضاها، وأظلمت مكة تماماً، وأُغلق فيها باب الدعوة، حتى اضطر الرسول عليه الصلاة والسلام لأول مرة في تاريخه أن يخرج من مكة المكرمة سعياً وراء إيصال الدعوة إلى غيرها؛ لأنه لم يجد أحداً في مكة المكرمة سيؤمن في تلك اللحظة، وخرج صلى الله عليه وسلم في مشوار طويل شاق جداً إلى الطائف، وتعلمون جميعاً ما حدث في الطائف، وخرج منها صلى الله عليه وسلم وقد رُمي بالحجارة وأُلقي التراب فوق رأسه وسُب بأقبح الألفاظ، ودخل مكة بعد ذلك في جوار مشرك وهو مطعم بن عدي، والمحلل للوضع يجد أنه من المستحيل حقاً في عرف أهل الدنيا وفي حسابات المادة أن تقوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين المضطهدين المشردين المعذبين في داخل مكة المكرمة دولة، ولو بعد عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة. وراجع مرة أخرى الفترة المكية لتعرف صعوبة هذه الفترة، لا يوجد فيها أي أنصار من أي نوع، رفضت مكة الإيمان، ورفضت الطائف الإيمان، ورفضت كل القبائل التي أتت في العام العاشر والعام الحادي عشر من البعثة جميعاً الإيمان بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل من كل الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم الإيمان إلا ستة من الخزرج في آخر العام الحادي عشر من البعثة، كانت هذه الأحداث قبل الهجرة بسنتين، وفي غضون سنتين أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم قائداً لدولة، ومع أن الدولة بُقعة صغيرة لا تُرى على خريطة العالم في ذلك الوقت في المدينة المنورة، لكن أصبحت له دولة وأصبح ممكناً وزعيماً، وأصبح الجميع يسمع له ويطيع. سبحان الله! حصل هذا بدون أي نوع من الشواهد، لم نكن نرى أي شاهد، لكن إذا قارنت هذا الوضع بما نحن عليه الآن في عصرنا هذا فإنك ستجد أن الشواهد لإقامة الأمة الإسلامية كثيرة جداً، راجع ثلاثين سنة أو أربعين سنة مضت كيف كان وضع المسلمين ووضعهم حالياً بفضل الله؟ كم من الناس يصلون الآن في المساجد؟ ففي الستينات لم يصل من الناس في المساجد إلا عدد قليل نادر، وتجد المصلي كبيراً جداً في السن، وانظر الآن إلى المساجد بحمد الله، فإنك ستجد عدد المصلين هائلاً وبالذات من الشباب. كم من المحجبات والملتزمات بالزي الشرعي؟ كم من الدعاة أصحاب الفهم الصحيح الشامل للإسلام انتشروا في بقاع الأرض بكاملها؟ كم من الهيئات تتبنى الآن شئون الإسلام؟ بل انظر إلى كم من المتسلقين الراغبين في السيطرة على أفكار الناس يلوحون بالإسلام وينافقون المسلمين؟ فمن ثلاثين إلى أربعين سنة لم يكن هناك شيء اسمه نفاق للإسلام؛ لأن الإسلام كان ضعيفاً، أما في هذا الوقت فإن الجميع ينافق المسلمين، وإذا رأيت الرجل ينافق الإسلام أو ينافق المسلمين فاعلم أن الإسلام قوي وقاهر، وأن له حضوراً وهيبة وعظمة في قلب هذا الذي ينافق؛ ولذلك ينافقه، وبفضل الله الآن لو راجعنا قلوب ومشاعر العالم الإسلامي بصفة عامة تجد فيها انسياقاً طبيعياً فطرياً للإسلام. أيضاً عند الانتخاب مثلاً تجد الناس يختارون من رفع لواء الإسلام وشعاره، وإن كانوا لا يعرفون اسمه؛ وذلك لأنه يتبنى الفكر الإسلامي الذي يحبه الناس، فهذه كلها علامات وشواهد على قرب قيام الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بإذن الله. أما أيام الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يكن هذا موجوداً في فترة عام الحزن ولا في العام الذي تلاه، ومع ذلك قامت الأمة الإسلامية، وأقيمت دولة إسلامية تقيم شرع الله عز وجل في غضون ثلاث سنوات فقط.

الأعمال النبوية التي قام بها صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة المنورة

الأعمال النبوية التي قام بها صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة المنورة لابد أن تركز على الترتيبات النبوية بعد وصوله مشارف المدينة، أول شيء فعله كذا ثم كذا ثم كذا، فهذا الترتيب مقصود، وكل الإشارات في حياته صلى الله عليه وسلم لها معنى، بل كل حركة وسكنة في حياته كانت بتوجيه ومراقبة من رب العالمين سبحانه وتعالى، حتى اختياراته البشرية صلى الله عليه وسلم التي كانت لا تتوافق مع ما يريده رب العالمين سبحانه وتعالى؛ كان ينزل جبريل عليه السلام مباشرة ليعدل المسار للرسول صلى الله عليه وسلم، وليوضح لهم مراد رب العالمين سبحانه وتعالى من هذه النقطة، فأصبحت السيرة النبوية من أولها إلى آخرها بوحي وتأييد من رب العالمين سبحانه وتعالى. ولا وصول إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا باتباع خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالترتيب الذي فعل صلى الله عليه وسلم.

بناء مسجد قباء وبعده المسجد النبوي وأهمية ذلك

بناء مسجد قباء وبعده المسجد النبوي وأهمية ذلك أول الخطوات إنشاء مسجد قباء، فقد ظل صلى الله عليه وسلم في قباء أسبوعين تقريباً، وانتقل بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وسنرجع إلى النقطة هذه بعد قليل. في المدينة المنورة استُقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار استقبالاً كبيراً جداً ومشرفاً مرة أخرى، بعد أسبوعين من انتقاله من قباء، وتسابق الأنصار جميعاً بشتى قبائلهم على استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل واحد من الأنصار يريد أن تأتي ناقته صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فكل فرد من الأنصار يريد أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عنده، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كلمة أصبحت منهجاً لحياة الصحابة بعد ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة). أي: دعوا الناقة فإنها مأمورة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأنا أيضاً مأمور، والمؤمنون جميعاً مأمورون: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يختار إذا كان الله هو الذي يختار له أمراً من الأمور، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد أجلس في بيت فلان أو بيت فلان، أو بيت أقربائي من بني النجار، أو بيت صحابي كبير، أو أحد ممن أحبهم، لكن إذا أمر الله عز وجل فلا مجال للهوى ولا مجال للاختيار، فالذي يأمر الناقة هو رب العالمين سبحانه وتعالى، وعلينا جميعاً أن نسمع ونطيع؛ هكذا علمهم بوضوح، وكان من الممكن أن ينزل الوحي ليقول للرسول عليه الصلاة والسلام: انزل في بيت فلان، أو ضع المسجد في هذا المكان الفلاني، لكن هذا المشهد العلني أمام الجميع، والجميع يتسابق لاستقباله صلى الله عليه وسلم، وهو يخرج نفسه تماماً من الاختيار ويجعل الاختيار الكامل لرب العالمين، هذا المشهد زرع معنى مهماً جداً، سيظل معنا طول فترة المدينة المنورة، وما أكثر التشريعات والأحكام التي نزلت في المدينة المنورة، وقد لا يفقهها عامة الناس، وقد لا يدركون الحكمة من وراء الأمر، ومع ذلك عليهم أن يسمعوا ويطيعوا لله رب العالمين، وبركت الناقة في مكان معين في المدينة المنورة، وفي هذا المكان قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي. فأول شيء فعله صلى الله عليه وسلم في قباء هو بناء المسجد، وأول شيء فعله في المدينة المنورة بناء المسجد النبوي، وفعله هذا ليس مصادفة أو إشارة عابرة، بل هو منهج أصيل. فلا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل لدور المسجد؛ فالمساجد في هذا الوقت كثيرة، لكن كثيراً منها غير مُفعّل كمسجد، مخطئ من ظن أن المسجد لم ينشأ إلا لأداء الصلوات الخمس فقط، بل في بعض الدول الإسلامية يُقفل المسجد مباشرة بعد الصلاة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط. إن دور المسجد في بناء الأمة الإسلامية أعمق من ذلك بكثير، وليست أهمية المسجد في حجمه أو شكله أو زخرفته أو قص الشريط لفتحه، هذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، وكان يقول: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، ولفظ ابن خزيمة: (يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، تجد المساجد ضخمة وكبيرة جداً وتجد فيها صفاً أو صفين! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أُمرت بتشييد المساجد) والتشييد: رفع البناء زيادة عن الحاجة، وقال في رواية أبي داود: (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)، نهتم بالشكليات كالرخام والزخارف وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية داخل المسجد. والمسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية، من ذلك: الحفاظ على إيمان المسلمين، فالأساس الرئيس الذي اجتهد صلى الله عليه وسلم في زرعه في صحابته هو الإيمان بالله عز وجل، والمسجد كما يظهر من اسمه هو مكان للسجود لرب العالمين سبحانه وتعالى، للرضوخ الكامل له، والطاعة المطلقة لكل أوامره. فمن الصعب جداً أن يجلس المسلمون في بيت الله عز وجل؛ ليأخذوا قراراً أو يعتمدوا رأياً، ثم هم يخالفون ما أراده الله عز وجل منهم. والمسجد مكان يحفظ على المسلمين دينهم؛ ولهذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، فالصلاة في المسجد لا ينبغي التخلف عنها إلا في ظروف ضيّقة ومحدودة؛ لأن المسجد مكان لالتقاء المسلمين وتقوية للأواصر بينهم، فعدم الحضور لصلاة الجماعة في المسجد عمل لا يقوي الأواصر بين المسلمين، فأنت إذا كنت تحافظ على الصلاة خم

كيفية بنائه صلى الله عليه وسلم للمسجد النبوي

كيفية بنائه صلى الله عليه وسلم للمسجد النبوي وقف صلى الله عليه وسلم مع صحابته جميعاً يبنون المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وفي بناء هذا المسجد دروس لا تُحصى: أولاً: البساطة في البناء، والاهتمام الكامل بالجوهر لا بالشكل. كان المسجد مبنياً من اللبن والجريد، ومع ذلك أخرج عمالقة حكموا العالم بعد ذلك. وكان الجميع يتمنى أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم ويفديه بنفسه وروحه، وأن يفديه من كل تعب أو نصب، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل بنفسه مع الصحابة ليبني المسجد ويأخذ معهم التراب، وينقل معهم الحجارة، ويقيم الأعمدة، ويخطط للمسجد، وهذه من أبلغ الوسائل لتربية الشعوب. ثانياً: المشاركة الحقيقية والمعاناة الكاملة مع الشعب، وسنجد هذه النقطة معنا في سيرته صلى الله عليه وسلم كاملة، ففي بدر تجده يقاتل بنفسه صلى الله عليه وسلم، وفي أحد كذلك، وفي حفر الخندق يحفر معهم، وفي السفر والحضر معهم في مشاكلهم وأفراحهم وخلافاتهم، معهم في كل أزمة وفي كل لحظة، معهم حتى إلى القبور، فأي واحد منهم يموت يحرص صلى الله عليه وسلم على الذهاب معه إلى قبره، فمن أول ما بدأ أخذ يربي إلى أن مات صلى الله عليه وسلم، وهكذا مع عموم شعبه صلى الله عليه وسلم، فمهما كان الإنسان بسيطاً أو فقيراً أو من قبيلة أخرى أو من لون آخر أو من جنس آخر، فكل المسلمين عنده سواء، وهو صلى الله عليه وسلم واحد منهم، وهكذا كان زعماء الأمة في زمان قوة المسلمين. فهذه أسس رئيسة لبناء الأمة الإسلامية، وما نتحدث عنه الآن في إيجاز يحتاج إلى تفصيلات كثيرة جداً، وتأصيل في داخل الأمة الإسلامية لترفع رأسها من جديد.

كيفية بناء بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة

كيفية بناء بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هناك موقف لطيف حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قرار بناء المسجد في هذا المكان، أنتم تعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الناقة: (دعوها فإنها مأمورة)، وبذلك حُدد مكان المسجد النبوي، وفي هذا الوقت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد سكن المدينة المنورة، ولم يبن له بيتاً، فأين يسكن صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أي بيوت أهلنا أقرب؟) لم يبحث صلى الله عليه وسلم عن أفخم بيوت المدينة أو أقربها إلى قلبه، لكن قال: (أي بيوت أهلنا أقرب؟) أياً كانت هذه الدار، فكل ديار المسلمين داره صلى الله عليه وسلم، بغض النظر عن أصولهم أو عرقياتهم أو عن قبائلهم، فقد يكون المسلم الباكستاني أو السوري أو الإندونيسي أو الأمريكي أقرب إلى المسلم من أخيه الذي يربطه النسب به ولا يشترك معه في العقيدة، وما أبلغ ما قاله رب العالمين سبحانه وتعالى لنوح عليه السلام: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] سبحان الله! ابنه ليس من أهله؛ لأنهما مختلفان في العقيدة، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن أقرب بيوت أهله، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام من قريش، وهؤلاء من الأوس والخزرج، وأقرب بيت كان هو بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وفيه مكث الرسول عليه الصلاة والسلام، وحدثت فيه أحداث لطيفة لا يسمح المجال بتفصيلها. استقر الرسول عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيوب الأنصاري، وظل فيه فترة من الزمن إلى أن بُني له بيت، وعندما نقول: بيت، فهذا مجاز، فالرسول صلى الله عليه وسلم بُني له حجرة بسيطة جداً وصغيرة تفتح على المسجد، وكان كل زوجة من زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام لها حجرة واحدة، وفي هذه اللحظة التي أتى فيها إلى المدينة المنورة لم يكن متزوجاً إلا بالسيدة سوده بنت زمعة رضي الله عنها وأرضاها، فكانت له حجرة واحدة، وكان قد عقد على السيدة عائشة رضي الله عنها، لكن لم يبن بها بعد. ويبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في بناء دولة لا تحكم المدينة فقط، بل تحكم دولة مؤهلة لقيادة الأرض بكاملها، ولهز عروش ضخمة وممالك عظمى من هذا البناء البسيط الصغير. إن المسجد النبوي البسيط الذي بُني في ذلك الوقت لا شك أنه مجهود هائل، ولا شك أنه في ظن كثير من الناس حلم بعيد المدى ومستحيل، لكن سبحان الله! هذا الحلم تحقق وبخطوات معروفة وثابتة. إذاً: لابد لنا في هذه المجموعات من المحاضرات أن نتعرف على خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم: الخطوة الأولى سبق وأن قلناه: إنها خطوة الإيمان الحقيقي اليقيني بالله عز وجل، وهذه بنيت في مكة وأول قدومه إلى المدينة صلى الله عليه وسلم، فقد حرص صلى الله عليه وسلم على التأكيد عليها، وعلى زرع معناها من جديد في المسجد النبوي ومسجد قباء.

الطوائف الموجودة في المدينة المنورة وخارجها وكيفية تعامله صلى الله عليه وسلم معها

الطوائف الموجودة في المدينة المنورة وخارجها وكيفية تعامله صلى الله عليه وسلم معها أول شيء فعله الرسول عليه الصلاة والسلام بعد بناء المسجد دراسة واقع المدينة المنورة بعد الهجرة إليها. من الذي يعيش في المدينة المنورة؟ من حول المدينة المنورة؟ من أصحاب المدينة المنورة؟ من يعادي المدينة المنورة؟ من يحايد المدينة المنورة؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام يبني دولة على أرض فيها الكثير من المتغيرات الهائلة، والمشاكل الضخمة، والأزمات الطاحنة. وهكذا تعددت الطوائف التي يجب أن يتعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم هاجر فيه، وكل طائفة لها مشاكل خاصة وحسابات مختلفة وأزمات متشعّبة، ولها أولويات تختلف كثيراً عن أولويات الطوائف الأخرى. من هي الطوائف المختلفة، حتى نعرف كيف كانت حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام في التعامل مع هذه الطوائف المختلفة؟ هذه الطوائف تستطيع أن تقسمها إلى ثلاث مجموعات، وسوف تظهر بعدها مجموعة رابعة خطيرة جداً في المدينة المنورة، لكن بعد سنتين من الهجرة إلى المدينة المنورة.

طائفة المسلمين

طائفة المسلمين المجموعة الأولى من هذه الطوائف: مجموعة المسلمين، والمسلمون هؤلاء أكثر من نوع وطائفة: الطائفة الأولى: أهل المدينة الأصليون من المسلمين، الذين عُرفوا بعد هذا بالأنصار، هؤلاء كانوا طائفتين كبيرتين: الأوس والخزرج، وكانت هناك مشاكل كبيرة بين الطائفتين، وسننظر كيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه المشاكل. الطائفة الثانية: طائفة المهاجرين الذين فروا بدينهم من مكة إلى المدينة بغير زاد ولا مال ولا بيوت ولا أي شيء، وكان موقفهم حرجاً جداً. الطائفة الثالثة: طائفة المهاجرين إلى الحبشة، وعددهم كبير، وكان عددهم أكثر من (80) رجلاً وامرأة مع أولادهم وممتلكاتهم، وهم موجودون في الحبشة ولهم فيها سنوات. الطائفة الرابعة: المسلمون في القبائل غير المكية الذين يعيشون في شبه استقرار، ولكن بعيداً عن المدينة المنورة كبعض المسلمين في اليمن، وبعض المسلمين في قبيلة غفار، وفي قبيلة أسلم، وفي غيرها من القبائل، فهم بعيدون عن المدينة المنورة، وليس لهم سند واضح في داخل المدينة المنورة، ومع ذلك هم في قبائلهم أعزة. الطائفة الخامسة: طائفة المستضعفين في مكة، الذين لم يهاجروا إلى المدينة المنورة؛ لضعفها وقلة حيلتها، كـ أم الفضل رضي الله عنها زوجة العباس بن عبد المطلب، والعباس لم يسلم بعد، وهي امرأة ضعيفة فكيف تهاجر بمفردها، ومعها ابنها عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وكان يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين في مكة، فلم يستطع أن يهاجر. فهذه خمس طوائف من المسلمين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع حلاً وطريقة ومنهجاً لكل طائفة، وهي طوائف متباينة كما ترون، كل طائفة تعيش في ظروف لها خلفيات وتربية وأصول. إذاً: الوضع معقد جداً، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحل كل هذه المشاكل، ويقيم دولة متجانسة من هذه الطوائف المختلفة من الناس. هذه أول مجموعة من الذين تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

طائفة المشركين

طائفة المشركين المجموعة الثانية: طائفة المشركين، وهذه المجموعة مختلفة تماماً، فقد فُرض عليه صلى الله عليه وسلم أن يتعامل معها، ولم يعتقد أحد أن المدينة المنورة بعد أن هاجر إليها الرسول عليه الصلاة والسلام سوف تمتلئ بالمسلمين، بل إن استقبال الأوس والخزرج للنبي صلى الله عليه وسلم كان من قبل المسلمين، فهناك الكثيرون من الأوس والخزرج إلى هذه اللحظة لم يسلموا، ظلوا على شركهم، وظلوا يعبدون أصنامهم في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: أولاً: المشركون من الأوس والخزرج. ثانياً: المشركون من الأعراب حول المدينة، وهي قبائل عاشت على السلب والنهب وقطع الطريق في معظمها، فهي قبائل خطيرة جداً لا تريد إلا المصالح والسرقة والنهب، فكيف سيتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معها؟ ثالثاً: المشركون من القبائل الكبرى حول المدينة، فبعض القبائل الكبيرة الضخمة حول المدينة ما زالت مشركة، كيف سيتعامل معها الرسول عليه الصلاة والسلام؟ كقبيلة جهينة وقبيلة مزينة. رابعاً: المشركون من قريش، ولا يظن أحد أن قريشاً ستنسى قصة الرسول عليه الصلاة والسلام بمجرد الهجرة، نعم، المسافة طويلة ما بين مكة والمدينة المنورة، والظروف قاسية، طريق صحراوي وعر في ذلك الوقت، ومع ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فهذا أمر واضح أن قريشاً لن تنسى القصة، وبالفعل لم تنس قريش.

طائفة اليهود

طائفة اليهود المجموعة الثالثة: مجموعة اليهود، واليهود معروف عنهم أنهم أهل غدر وخيانة، وهم في ذلك الوقت أهل قوة وسلاح وعتاد، فكيف سيتعامل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم، خاصة أنهم لم يكونوا حول المدينة المنورة، بل كانوا داخل المدينة المنورة، وهم ثلاث قبائل قوية قبيلة بني قينقاع، وقبيلة بني النضير، وقبيلة بني قريظة؟ وليس هذا فحسب، فهناك في شمال المدينة المنورة قبائل تعيش في منطقة خيبر ووادي القرى، وكلها قبائل اليهود. فكيف سيتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء اليهود؟ أتراه يعاهدهم أم يحاربهم؟ هناك طرق مختلفة جداً للتعامل كانت في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكل طريقة منها ظرف، فإن لم أكن أعرف الظروف التي من أجلها اختار صلى الله عليه وسلم منهجاً معيناً في التعامل مع هذه الطوائف المختلفة المتباينة فإني لن أفهم السيرة جيداً؛ لذلك يجب الوقوف عند كل حدث من هذه الأحداث وتحليله بدقة، لكي نعرف ما هي الأبعاد التي من وراء هذا الحدث؛ ومن أجلها أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قراراً دون قرار. فهذه المجموعات الثلاث مهمة جداً، تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: مجموعة المسلمين، ومجموعة المشركين، ومجموعة اليهود. وسوف تظهر لنا بعد سنتين مجموعة المنافقين، لكن سنؤجل الكلام عليها عندما نصل إليها. يا ترى! ما الذي فعله الرسول عليه الصلاة والسلام مع كل مجموعة من هذه المجموعات؟ ويا ترى! كيف كان تعامله مع هذه الطوائف المتباينة؟ ويا ترى! ما هو حكم الشارع الإسلامي في التعامل مع هذه النوعيات المختلفة من البشر؟ بما أن الكلام هذا يحتاج إلى تفصيل كثير، والوقت هنا لا يتسع، نؤجل -إن شاء الله- الحديث عن هذه الأسئلة المهمة إلى اللقاء القادم. قبل أن ننتهي نلخص الدروس المهمة جداً التي خرجنا بها من هذه المحاضرة، وهي كيف يمكن أن تُبنى أمة الإسلام؟ أولاً: الأصول الثلاثة: لا إله إلا الله. أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. أن هناك بعثاً يوم القيامة، يحاسب فيه رب العالمين سبحانه وتعالى المحسن على إحسانه بالجنة، والمسيء على إساءته بالنار. ثانياً: تسابق المسلم إلى البذل وإلى العطاء، كما تسابق الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم إلى استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، مع خطورة استقباله في داخل المدينة المنورة. ثالثاً: المسجد ودوره في بناء الأمة الإسلامية واتساع الأفق عند المسلم؛ لكي يعرف أن دور المسجد ليست في الصلاة فقط، وإنما له دور في كل نقطة من نقاط حياة المسلم. رابعاً: المشاركة بين القائد والشعب، مشاركة الرسول عليه الصلاة والسلام للمسلمين في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم. خامساً: رباط العقدية الذي وضحه صلى الله عليه وسلم عندما قال: (أي بيوت أهلنا أقرب؟)، فالرابط الذي يربط المسلمين هو رباط العقيدة، وليس رباط القبيلة ولا اللون ولا الجنس ولا اللغة ولا غير ذلك من الأمور. سادساً وأخيراً: فقه الواقع، لكي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية التعامل في داخل المدينة المنورة صنف الناس كلهم إلى الطوائف التي تنتمي إليها، ومن ثم كان تعامله صلى الله عليه وسلم مع كل طائفة مختلفاً. وهذا الذي سوف نعرفه إن شاء الله في الدرس القادم. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مجتمع المدينة

سلسلة السيرة النبوية_مجتمع المدينة لما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أخذ يقف موقف السياسي الحكيم في جمع المسلمين على كلمة واحدة، وظهر ذلك جلياً في مؤاخاته بين الأوس والخزرج، تمهيداً للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم عقد المعاهدات والتحالفات مع المشركين الذين كانوا حول المدينة، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكوِّن دولة قوية بأبدع سياسة وأحكم تصرف في التاريخ.

ملخص الخطوات التي سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس الدولة الإسلامية

ملخص الخطوات التي سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس الدولة الإسلامية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثاني من دروس العهد المدني في السيرة النبوية. تحدثنا في الدرس السابق عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وكيف أسس فيها أمة من لا شيء فدولة المدينة المنورة كانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمثل إلا قبيلتين صغيرتين في الجزيرة العربية، ولا مقارنة مطلقاً بينها وبين الدول الكبرى الموجودة في العالم، ومع ذلك أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة قوية وقفت على قدم المساواة مع القوى العالمية الموجودة في ذلك الزمن، بل وتفوقت عليها كما سيتبين ذلك إن شاء الله في الدروس والحلقات القادمة. هذه الخطوات التي سار عليها صلى الله عليه وسلم وأسس بها الدولة الإسلامية، لابد أن تبرز بعناية كما ذكرنا في الدرس السابق. فقد ذكرنا من هذه الخطوات في الدرس السابق الإيمان الجازم برب العالمين سبحانه وتعالى، وبقدرته وبحكمته وعلمه سبحانه وتعالى، وإحاطته بكل شيء، ونصرته للمسلمين، وتأييده لإقامة هذه الأمة إن ارتبط المسلمون به، هذا أمر في منتهى الأهمية، وأساس رئيس من الأسس التي تبنى عليها الأمة الإسلامية. الأساس الثاني في غاية الأهمية: وهو الإيمان الجازم بأن ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى به لكونه رسولاً من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فكل ما قاله وشرعه صلى الله عليه وسلم يقع منا موقع القرآن الكريم، فيصبح المصدر التشريعي للإسلام عندنا القرآن الكريم والسنة المطهرة. الأساس الثالث في غاية الأهمية: هو الإيمان الجازم بالبعث يوم القيامة وبالحساب، وبأن الله عز وجل مطلع على أعمالنا، ومطلع على قلوبنا، وسيجزينا بالجنة إن عملنا صالحاً، وسيجازينا بالنار إن عملنا غير ذلك. وتحدثنا أيضاً عن دور المسجد في بناء المجتمع المسلم، وتنوع هذا الدور من ناحية الحفاظ على إيمان الأمة، والترابط والتراحم بين المسلمين، وإذابة الفوارق بين الحكام والمحكومين، وبين الأغنياء والفقراء وغير ذلك من الأمور المهمة جداً في دور المسجد. وأيضاً ذكرنا مشاركة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد المسلمين لشعبه في كل أمور الحياة، بما فيها بناء المسجد وغير ذلك من الأمور التي فصلنا فيها في الدرس السابق.

كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في المدينة

كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في المدينة وصلنا في الدرس السابق إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة المنورة في ذلك الوقت، وفي خارج المدينة المنورة، وترتبط علاقتها بشكل مباشر مع المسلمين، وذكرنا أن هذه الطوائف نستطيع أن نجمعها في ثلاث مجموعات كبرى: مجموعة المسلمين بشتى أنواعهم، ومجموعة المشركين، ومجموعة اليهود. وسنرى اليوم كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع كل طائفة من هذه الطوائف؟ أولاً: مجموعة المسلمين، وهذه أهم مجموعة عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي عصب الدولة الإسلامية، فالمسلمون يقوم على أكتافهم الصرح الضخم الهائل: أمة الإسلام.

المؤاخاة بين الأوس والخزرج

المؤاخاة بين الأوس والخزرج أول طائفة من المسلمين: طائفة الأوس والخزرج (الأنصار)، وهؤلاء هم أهل المدينة الأصليون الذين استضافوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمهاجرين رضي الله عنهم وأرضاهم في المدينة المنورة، وقدموا تضحيات كبيرة جداً لإيواء المسلمين، مع كل المخاطر والمشاكل التي قابلت الأنصار نتيجة هذا العمل العظيم، فالأنصار في المدينة المنورة من الأوس والخزرج هما من أكبر القبائل العربية في ذلك الوقت. كانت قبيلة الخزرج ثلاثة أضعاف قبيلة الأوس تقريباً، لكن المشكلة الكبرى التي واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العلاقة بين القبيلتين قبل الإسلام كانت في منتهى الشراسة والعنف، فآثار الدماء لم تجف بعد من سيوف هؤلاء وهؤلاء، وقد قامت بين الأوس والخزرج حرب مشهورة في التاريخ، يقال لها: يوم بعاث، وكانت هذه الحرب قبل بيعة العقبة الأولى بسنتين فقط. فالمطلوب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يوحد الأوس والخزرج في كيان واحد؛ يدافع عن المدينة المنورة ويحل مشاكلها، ويقف مع الرسول عليه الصلاة والسلام في خندق واحد، يقف الأوسي بجانب الخزرجي، ولا يتذكر مطلقاً أي ثأر كان بينه وبين إخوانه من القبيلة الأخرى، وهذا شيء صعب جداً خاصة في هذه البيئة القبلية العربية القديمة. اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتماداً كبيراً على صدق إيمان الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم في التأليف بين قلوبهم، فجمع الأوس والخزرج وذكرهم بالله عز وجل، ووضح لهم أن الرابط الأساسي بين المسلمين في هذا الدين الجديد الذي بعث به صلى الله عليه وسلم هو رباط العقيدة، فكل رباط غير هذا الرباط لا ينظر إليه مطلقاً، وكما ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أي ديار أهلنا أقرب؟)، يسأل عن ديار أهله من الأوس والخزرج، وكان فرع الرسول عليه الصلاة والسلام بعيداً جداً عن فرع الأوس والخزرج، فقريش عدنانيون، والأوس والخزرج قحطانيون، وهما فرعان كبيران جداً، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو من قريش يعتبر أن الأوس والخزرج أهله، فما بالك بالأوس والخزرج الذين هم من فرع واحد، يقال له: بنو قيلة من القحطانيين؟ وهكذا ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الوتر الحساس؛ ولصدق إيمان الأوس والخزرج تقاربت القلوب، سبحان الله! الإسلام يغير تماماً من تكوين الإنسان، ويغير من كل الدوافع التي كانت تحركه قبل ذلك، فيترك قوانين الأرض الوضعية المادية؛ لينتقل بعد ذلك إلى قانون السماء الرفيع، وهكذا نسي الأوس والخزرج تماماً كل الثارات القديمة، وتوحدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خندق واحد. فهذه أول خطوة عملها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي قبل خطوة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومعلوم أن الناس يعرفون قصة المؤاخاة، لكنهم لا يعلمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام جلس جلسة مهمة مع الأوس والخزرج؛ ليضع الأساس المتين لبناء الأمة الإسلامية قبل أن يؤاخي بينهم وبين المهاجرين. إذاً: أول طائفة تعامل معها صلى الله عليه وسلم هي طائفة الأوس والخزرج، وآخى بينها على أساس الدين.

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الطائفة الثانية: طائفة المهاجرين من مكة إلى المدينة، وكان وضعهم الاقتصادي في منتهى الخطورة، فقد تركوا أموالهم، وتركوا الديار والأهل والعشيرة، تركوا كل شيء، وانتقلوا إلى بلد جديد تماماً، وكثير من الذين هاجروا لم يزوروا المدينة المنورة قبل ذلك مطلقاً، وهذه أول مرة يخرجون فيها من مكة إلى المدينة. تخيل كيف أن شخصاً ترك كل حياته وأعماله وتجارته، وانتقل إلى حياة جديدة وليس معه شيء، وإلى أرض جديدة ليست مألوفة بالنسبة له، وإلى فرع من القبائل لا يمت إليه بصلة قريبة، أضف إلى كل ذلك أن المدينة المنورة كانت تعاني من الفقر، فالأنصار كانوا فقراء، ونحن نظن أن الأنصار أغنياء، وما ذلك إلا لكثرة عطائهم؛ فالإيثار الذي كان يتميز به الأنصار كان يعطيهم صبغة الأغنياء، لكن عموم الأنصار كانوا فقراء، والقلة منهم كانوا أغنياء، فكيف يؤتى بمجموعة من فقراء المهاجرين الذين تركوا كل شيء وراء ظهورهم، فتحمل المدينة المنورة عبئاً ضخماً بإيواء مجموعة أخرى من البشر، وهم لا يكادون يعيشون وينفقون على أنفسهم، فكيف ينفقون على غيرهم؟ فكيف يحل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المشكلة الضخمة؟ فهذه مشكلة اقتصادية كبرى ستواجه المدينة المنورة عند نزول المهاجرين إليها؟ الحالة النفسية أيضاً للمهاجرين كانت صعبة جداً، فالمهاجر قد ترك كل شيء وانتقل إلى المدينة المنورة، فهو يحتاج إلى تطييب الخاطر. احتوى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأزمة بمنتهى الحكمة، وكل هذا كان بمنهج رباني إلهي، فالله عز وجل قد أنزل قرآناً في هذه الأمور، وأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفعال وأعمال عملها وحدت المسلمين في كيان قوي وجميل جداً. ومعلوم أن الإنسان الذي يهاجر من بلده إلى بلد آخر يشعر بشيء من الذلة والضعف، ويحتاج إلى من يقول له: لا، أنت لست ذليلاً ولا ضعيفاً، بل أنت قوي عندما تركت بلدك وتركت كل شيء، وكان من الممكن أن يكون كل شيء معك ولا تؤمن بهذا الدين الجديد، فأنت رجل معظم ومكرم ومقدم على غيرك، هكذا فعل الله عز وجل في كتابه الكريم، فقد أنزل آيات رفعت من قدر المهاجرين؛ فالمهاجر أصبح يفتخر بأنه مهاجر، والأنصاري أصبح يفتخر بأنه آوى مهاجراً، وانظر إلى كلام رب العالمين سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195]، ويقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58]، ويقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20] إلى آخر الآيات. هذه الآيات وغيرها رفعت من معنويات المهاجرين، فهذا الشيء يدعو إلى الفخر فعلاً، بل نتج عنها تهيئة نفسية جميلة جداً للأنصار، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أي: فقر {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. إذاً: تسابق المهاجرون للهجرة، وتسابق الأنصار للنصرة رضي الله عنهم أجمعين. وهذا الأمر ليس موجوداً إلا في المنهج الإسلامي، وانظروا إلى حال اللاجئين في بقاع العالم المختلفة، فأي مجموعة من اللاجئين لأي ظرف من الظروف، سواء كانت ظروفاً عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك يمثلون عبئاً ثقيلاً على أهل البلد التي هاجروا إليها، بل اللاجئون أنفسهم يشعرون بذلة وضعف وهوان؛ لكونهم تركوا ديارهم وأرضهم وعشيرتهم وما يمتلكون، والدولة التي آوتهم تشعر بعبء اقتصادي ثقيل وسياسي، ينتج عن ذلك ضغوط عليها من هنا وهناك؛ وما ذلك إلا لأنهم ليسوا مرتبطين برب العالمين سبحانه وتعالى، والأمر في النهاية يعود إلى الإيمان، فالإيمان من أهم أصول بناء الأمة الإسلامية، بل هو أهمها على الإطلاق. قال سبحانه في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:74]، هؤلاء المهاجرون ثم يقول: {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:74] هؤلاء الأنصار {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74]. إذاً: لا أستطيع أن أبني أي تشريع إسلامي أو قانون

التهيئة النفسية للمهاجرين والأنصار

التهيئة النفسية للمهاجرين والأنصار أول شيء عمله الرسول عليه الصلاة والسلام بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى: أنه هيأ الأنصار والمهاجرين لقبول فكرة ترك الديار في مكة، والانتقال إلى المدينة المنورة، وهذا شيء صعب، لكن بفضل الله كانت قوة إيمان المهاجرين والأنصار كفيلة بأن تطبق هذا المعنى كما أراده رب العالمين سبحانه وتعالى. فهذا كان أول محور احتوى به الرسول عليه الصلاة والسلام أزمة انتقال المهاجرين من مكة إلى المدينة. المحور الثاني في غاية الأهمية: الكفالة السريعة للمهاجرين، فلابد لهذه الأعداد الضخمة التي دخلت المدينة المنورة أن تؤوى بصورة مناسبة، وأول شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيواء المهاجرين كان أمراً عجيباً غير متكرر في التاريخ، فهو عليه الصلاة والسلام أول من بدأ هذا الأمر، ولا نسمع عنه إلا في أمة الإسلام، هذا الأمر هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والفكرة كانت عجيبة، جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار في بيت أحد الأنصار، وبدأ يؤاخي بين كل مهاجري وأنصاري، وجعل الأخوة في كل شيء حتى وصل الأمر إلى الميراث، يعني: لو مات مهاجري يرثه الأنصاري والعكس كذلك، لكن هذا الحكم نسخ بعد ذلك، وأصبحت الأخوة في كل شيء إلا الميراث.

الكفالة السريعة للمهاجرين عن طريق المؤاخاة

الكفالة السريعة للمهاجرين عن طريق المؤاخاة كانت هذه المؤاخاة مؤاخاة حقيقية، وكان لهذا الأمر تطبيقات عملية كثيرة في حياتهم، ومن أشهر القصص في ذلك ما حدث بين سعد بن الربيع أحد كبار الأنصار رضي الله عنه، ومن شهداء أحد كما سنبين إن شاء الله في الدروس القادمة، وبين المهاجري عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، والذي كان تاجراً في مكة، لكنه ترك كل شيء، وأتى المدينة المنورة بلا شيء. روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: أن سعد بن الربيع رضي الله عنه قال لـ عبد الرحمن بن عوف: إني أكثر الأنصار مالاً فسأقسم مالي نصفين. كان سعد بن الربيع رجلاً غنياً عنده أموال كثيرة، ولو أعطى عبد الرحمن بن عوف (5%) أو (10%) من ماله فهذا كثير، ومع ذلك من تجرده وحبه لأخيه وشعوره الكامل بأن هذه أخوة في الله، قال: سأقسم مالي نصفين. ولكي تتأكد من صعوبة هذا الأمر تخيل نفسك أنك تفعل هذا الأمر، تخيل أحد إخوانك في أزمة، فأتيت برصيدك الذي في البنك إذ كنت غنياً، وقمت بتقسيم هذا المال بينك وبينه، هذا أمر شاق وصعب، لكن الأمر الثاني أصعب وأصعب، فقد قال سعد بن الربيع: ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها. سبحان الله! هذا أمر عجيب وغريب، لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه كان نبيل النفس، قال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ يريد أن يعمل، ويخرج رزقه من تعبه وكده، خاصة أنه أحد التجار المشهورين في الإسلام، فدلوه على سوق بني قينقاع، وتاجر حتى كثر ماله. الشاهد في القصة أن المؤاخاة كانت حقيقية، ولم تكن هذه المؤاخاة فقط للإيواء المالي والاقتصادي والسكني للمهاجرين رضي الله عنهم وأرضاهم، ولكن كانت مؤاخاة في كل شيء، وكان الأخ يطمئن على أخيه في أمور الآخرة، كما كان يطمئن عليه في أمور الدنيا، وقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه مشهورة، وذلك عندما آخى الرسول عليه الصلاة والسلام بينه وبين أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه وأبو الدرداء من الأنصار؛ وسلمان الفارسي ليس من العرب أصلاً، بل هو من الفرس رضي الله عنه وأرضاه، فانظر إلى عمق العلاقة التي كانت بين الاثنين، مع أن كل واحد منهما من أصل بعيد تماماً عن الثاني. ثبت في صحيح البخاري: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه زار أبا الدرداء في بيته، فرأى أم الدرداء متبذلة: وفي رواية: رثة الهيئة، فقال لها سلمان وكان ذلك قبل فرض الحجاب على المسلمات-: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، وفي رواية: ليس له حاجة في نساء الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له سلمان: كل، فقال أبو الدرداء: إني صائم، قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل. إذاً: وجد سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه مشكلة عند أخيه أبي الدرداء، وجده منصرفاً تماماً إلى العبادة والصيام والقيام وترك أهل بيته، وهذه مشكلة عائلية حقيقية في داخل بيته، ففرغ سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه وقته لإصلاح مشكلة أخيه، وبدأ يضبط عنده بعض المفاهيم التي كانت ستربك له حياته وأسرته، فجلس معه وأقسم عليه أن يفطر ويقطع هذا الصيام، فقد كان الصيام نفلاً، فقطع أبو الدرداء الصيام، وأكل مع سلمان الفارسي، فلما كان الليل -أي: أول الليل- أراد أبو الدرداء أن يقوم الليل كله، فقال له سلمان: نم، فنام، ثم ذهب ليقوم فقال -أي: سلمان - نم، فلما كان آخر الليل قام سلمان وقال له: قم الآن، فصليا من آخر الليل، وأراد سلمان أن يعطي له خلاصة درس تربوي فرغ نفسه لهذا الدرس أربعاً وعشرين ساعة، قال: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، وفي رواية الترمذي: ولضيفك عليك حقاً. فأعط كل ذي حق حقه. لم يقتنع أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه تمام الاقتناع، فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يشكو سلمان إليه أنه جعله يفطر وجعله يقوم من آخر الليل فقط، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان، يعني: ما قاله سلمان هو التوازن الذي يجب أن يكون عليه المسلم في حياته، وهو الحق والعدل. الشاهد في ذلك أن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه وهو فارسي كان أخاً لـ أبي الدرداء وهو عربي أنصاري، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه يدخل بيت أ

رفع قيمة الأخوة

رفع قيمة الأخوة أعطى صلى الله عليه وسلم كماً هائلاً من الأحاديث التي تشجع على الأخوة وترفع من أجرها، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لأنفسه) فقد ربط موضوع الأخوة بالإيمان بالله عز وجل، وهذا الحديث في البخاري، بل إنه قال في رواية مسلم عن أبي هريرة: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وعلى هذا النسق جاءت أحاديث كثيرة ترفع من درجة الأخوة في الله؛ ولذلك كانت الطائفتان تفعلان ذلك الأمر وهما يرجوان من الله عز وجل أجراً وثواباً عن الأخوة في الله، فرفعوا من قيمة الأخوة في قلوبهم، وبالتالي كان لها أثر فعال حقيقي واقعي في حياتهم.

الميثاق الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار لتنظيم العلاقة بينهم

الميثاق الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار لتنظيم العلاقة بينهم ما فعله صلى الله عليه وسلم من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ورفع قيمة الأخوة، وتقريب الأمور للمسلمين بأن هناك أجراً وثواباً وجنة نتيجة هذه الأعمال العظيمة التي يقومون بها؛ بعد ذلك كله رأى صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس كافياً لتثبيت دعائم الأخوة في الدولة الإسلامية، فنحن سنكون دولة إسلامية حقيقية، دولة ستواجه تحديات خطيرة، ولا يستقيم أبداً أن يترك هذا الأمر فيها للنفس: أنا أريد أو لا أريد، أنا أحب أو لا أحب، بل لابد من وضع قوانين ودساتير مكتوبة، فوضع صلى الله عليه وسلم ما يعرف بالميثاق، وهو ميثاق مشهور وموجود في أكثر من رواية من روايات السيرة الموثقة، وفيه توضيح كامل للعلاقة بين المهاجرين والأنصار، وأصبح هذا القانون أو الدستور الذي يطبق في أي بلد من بلاد العالم ملزماً لجميع الأطراف. هناك بنود كثيرة نمر على بعضها بإيجاز لضيق الوقت. الأول: أنهم أمة واحدة من دون الناس، أذاب كل الفوارق بين عموم المسلمين فالمهاجرون والأنصار أمة واحدة. الثاني: يقول صلى الله عليه وسلم: (المهاجرون من قريش يتعاقلون بينهم) أي: يدفعون الدية، فلو قتل أحد من المهاجرين أحداً من الناس، وكانت له الدية؛ يجتمع المهاجرون ليدفعوا دية القتيل. قال: (وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين) يعني: لو أن أحداً من المهاجرين وقع في الأسر؛ يجتمع المهاجرون سوياً، ليدفعوا فدية هذا الأسير فيفكوا أسره. قال: (وكل قبيلة من الأنصار يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين). يعني: قسم الرسول عليه الصلاة والسلام المجتمع المسلم إلى عدة طوائف على أساس القبيلة، فالمهاجرون كلهم من قريش، وهذه المجموعة تجتمع سوياً لتفدي عانيها وتدفع الدية عن القاتل منها، وكذلك كل قبيلة من الأنصار، الأوس لوحدهم والخزرج لوحدهم، وقد يقسم الأوس إلى أكثر من فرع، والخزرج إلى أكثر من فرع. قال: (على معاقلهم الأولى) أي: كما كانوا يتعاقلون قبل دخول الإسلام إلى المدينة المنورة. وما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلا لأن المؤاخاة وحدها لا تستطيع دفع الديات وفك العاني، وليس هناك بيت مال للمسلمين، إذ إن الدولة كانت فقيرة جداً لا ثروات فيها، فلابد للمسلمين أن يخلصوا أمورهم بأنفسهم، إذا كان الأنصاري أخاً لواحد من المهاجرين، وحصلت عليه دية مقدارها مائة ناقة لن يقدر أن يدفعها له، فلابد أن يجتمع قوم على دفعها، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة لهذا الأمر على أساس القبيلة، مع أن الإسلام يكره القبلية في أمور، ولكنه لا ينبذها بالكلية، بل لابد من أن يطور هذه الرابطة؛ لتخدم الإسلام والمسلمين في إطار الشرع، فجعلها في أمور المؤاخاة وفي أمور المواساة والتعاون على البر والتقوى بين المسلمين: فك الأسير، ودفع دية القاتل لأهل القتيل، والمساعدة في أمور المجتمع المختلفة بروابط الرحم التي بين القبيلة. فكل واحد منهم يحرص على أن يحل مشكلة إخوانه عن طريق هذا القانون، وهذا القانون لا يستقيم تطبيقه أبداً إلا إذا رسخت معاني الأخوة التي تحدثنا عنها قبل ذلك؛ لذلك فإن التشريع الإسلامي كله لا نقدر أن نأخذ منه جزءاً ونترك جزءاً، قال تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، فكل جزئية تكمل موضوعاً معيناً، وفي النهاية هذا الشرع المتكامل يصلح لإدارة الدنيا والدين. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أقر مبدأ القبلية، ولكن في هذه الجزئية، ومبدأ القبلية مقبول في الفقه الإسلامي، ولكن في إطار الشرع كما ذكرنا، مثال ذلك: إذا اعتدي على حرمات دولة من دول الإسلام والمسلمين، فإن الشرع يفرض على أهل الدولة في داخل الخلافة الإسلامية الكبرى أن يقاتلوا في سبيل الله للدفاع عن أنفسهم، فإن لم يستطع أهل القطر الواحد أن يدفعوا عن أنفسهم لزم الأقرب فالأقرب أن يساعدهم، لكن لا يتعين القتال على أهل المغرب إذا احتلت بلدة من بلاد المشرق، إن كان أهل المشرق يستطيعون رد المعتدي. فهذا الوضع يقبله الإسلام، ويقبله في أمور أخرى، كالزكاة، فلا تخرج الزكاة من قطر إلى آخر حتى تكفي أهل القطر، وهكذا بالضبط مع كل أمور الإسلام، فالإسلام واحد يكفي الأرض إلى يوم القيامة. ولو افترضنا أن قبيلة من القبائل كانت فقيرة إلى الدرجة التي لا تستطيع فيها أن تدفع الفدية أو الدية، تأتي نقطة أخرى في الميثاق؛ لتحل هذه المشكلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (وأن المؤمنين لا يتركون مفرحاً)، يعني: شخصاً كثير الأطفال، وعليه أزمات متلاحقة. قال: (لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه في فداء أو عقل). فلو افترضنا أن هناك قبيلة لم تستطع أن تدفع عن أحد المسلمين دية كانت عليه أو فدية، فلابد أن يجتمع المسلمون جميعاً، فهم مجتمع متماسك. الثالث: (وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بي

الكفالة طويلة المدى للمهاجرين

الكفالة طويلة المدى للمهاجرين جاء الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: (يا رسول الله! اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل، فقال صلى الله عليه وسلم: لا). فالرسول صلى الله عليه وسلم واقعي، فهو لا يريد من الأنصار أن يدفعوا مبالغ كبيرة وقد يندمون بعد ذلك، فأراد الأنصار أن يعطوا المهاجرين فرصة للنمو داخل المجتمع المسلم الجديد، فقال الأنصار للمهاجرين: إذن تكفونا المئونة ونشرككم في الثمر، فقال المهاجرون: اللهم. فبدأ المهاجرون يعملون في أرض الأنصار، ويقسمون الناتج بينهما، وبذلك تفاعل المهاجرون داخل الدولة الإسلامية، ليسوا مجرد معسكرات لاجئين في خيام، فيكونون عبئاً على الدولة التي استضافتهم، ولكن أصبحوا عنصراً فعالاً داخل المجتمع.

إعطاء الحريات للمهاجرين داخل المدينة المنورة

إعطاء الحريات للمهاجرين داخل المدينة المنورة المحور الأخير في تثبيت أركان الدولة الإسلامية مع شتى فرقها أو طوائفها: هو إعطاء كل الحريات للمهاجرين أن يفعلوا مثل الأنصار في المدينة، كحرية التملك، وحرية الزواج؛ وحرية الدخول في مجالس الشورى، وحرية قيادة الجيوش، بل قيادة الدولة نفسها، والمعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين، وخلفاءه من بعده من المهاجرين، إلى أزمنة طويلة، ولا نعلم أنصارياً تولى خلافة المسلمين أبداً. فقد رسخ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وأعطيت لهم كل صلاحيات أهل البلد، فذابوا ذوباناً طبيعياً في البلد، وأصبحوا عنصراً رئيساً من عناصر المدينة المنورة، وبعد عدة سنوات لم يعد هناك فارق بين المهاجرين والأنصار، بل كلهم ينتمون إلى المدينة المنورة الدولة الإسلامية الأولى، وهذا في منتهى الرقي، فقد أعطى هذا الترسيخ ثباتاً وقوة للدولة الإسلامية، فكل شخص يدافع عن المدينة؛ لأنها بلده وموطنه الأصلي الذي عاش فيه، فقد نسي تماماً قصة البلد الذي جاء منه، بل كثير من المهاجرين بقي في المدينة المنورة حتى بعد فتح مكة وعودة الديار التي كانت مسلوبة منهم إليهم، فقد ظلوا يعيشون في المدينة بعد أن أصبحت المدينة هي دولتهم. إن هذا العمل له تطبيق في واقعنا، فأمريكا فعلت نفس هذا الفعل، وكأنها تقرأ التاريخ الإسلامي، فالذي يراجع تاريخ أمريكا يجد شيئاً عجيباً، فقد كان تعداد سكان أمريكا في أوائل القرن الثامن عشر خمسة ملايين، أما الآن وبعد مائتي سنة صار تعدادهم أكثر من ثلاثمائة مليون، وأصبح لها قوة كبيرة وقاهرة، ولها أساطيل وجيوش ومخابرات ومصانع، ولها دولة كبيرة وعملاقة، والسبب في ذلك أنها فعلت ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام قبل (1400) سنة، فقد حققت أمريكا الوحدة بين أفرادها، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام وحد الأوس مع الخزرج، ثم وحد الأنصار مع المهاجرين وجعلهم كلهم كياناً واحداً، كذلك حدت أمريكا نفسها حتى صارت (52) ولاية في بعض قارة كاملة، وتمثل دولة واحدة ورئيساً واحداً، فلابد أن يعطيها هذا قوة. الأمر الثاني الذي فعلته أمريكا هو نفس الأمر الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مئات السنين، فقد قامت أمريكا بإعطاء فيز للناس الذين يأتون من خارج أمريكا ليعيشوا فيها، ويأخذون حقوق المواطن الأمريكي، ومع مرور الوقت يذوبون في المجتمع الأمريكي، ويصبحون أمريكيين يدافعون عن أمريكا كأنها بلدهم، فعندما تراجع التاريخ تجد أن أصول الأمريكان من ألمانيا وإنجلترا وإيرلندا والشرق الأوسط، ومن المسلمين والنصارى واليهود، طوائف شتى مرت عليهم السنوات تلو السنوات، وأصبحوا في الأخير أمريكيين يساعدون الأمريكيين، وأعطوهم حرية التملك والزواج والدخول في مجالس الشورى، فجدك الأكبر ولد في أمريكا، وكلنا رأينا الانتخابات السابقة التي قبل فيها أحد اللبنانيين أن يترشح في رئاسة الجمهورية لأمريكا. فهذا العمل عمله الرسول عليه الصلاة والسلام قبل مئات السنين، ولكن عمله صلى الله عليه وسلم كان راقياً عظيماً، فهو لم يجعل الدافع لهذا التمازج والاختلاط الرائع بين الطوائف المختلفة في الدولة الإسلامية أمراً من أمور الدنيا فقط، بل جعله كما علمه ربه سبحانه وتعالى مجتمعاً أخوياً متماسكاً، مرتبطاً بالآخرة، بالإضافة إلى سعادة الدنيا، فليس هناك ظلم في إقامة الدولة الإسلامية ولا إبادة ولا فساد؛ لأن التشريع قائم على شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى وضع لنا هذا التشريع، وأراد به سعادة الدنيا والآخرة، بينما التشريعات الأخرى قد تحقق نوعاً من السعادة في الدنيا، ولكنها سعادة منقوصة لا شك في ذلك، فهناك أنواع كثيرة جداً من التعدي والظلم والفساد كما ذكرنا، وليس فيها همة إلى الآخرة. هذا هو المثال الراقي للإسلام، فالإسلام يستطيع أن ينعمك في الدنيا وينعمك أيضاً في الآخرة، فكفالة المهاجرين كانت كفالة طبيعية حتى ذابوا داخل المجتمع المدني لأزمنة لا يعلم عددها إلا رب العالمين سبحانه وتعالى. هكذا حلت أزمة المهاجرين داخل المدينة المنورة، وبالعكس انقلبوا من كونهم أزمة إلى قوة للدولة الإسلامية.

المهاجرون إلى الحبشة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

المهاجرون إلى الحبشة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الحبشة أكثر من (80) شخصاً، وهم عند ملك لا يظلم عنده أحد، لكن الحبشة غير مؤهلة لإقامة دولة إسلامية، وذكرنا تفصيلات ذلك عند الحديث عن دروس الفترة المكية من السيرة النبوية، ولما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشعر بشيء من الاستقرار، أرسل يستدعي بعض المهاجرين في الحبشة؛ ليساعدوه في إقامة الصرح الضخم الهائل الذي سيقيمه في المدينة المنورة؛ وذلك لأن الدولة الإسلامية تحتاج إلى طاقات كثيرة، وفي نفس الوقت لم يندفع النبي صلى الله عليه وسلم اندفاعاً عاطفياً وأتى بكل المهاجرين الذين كانوا في الحبشة لمساعدة المسلمين، فإنه لو فعل ذلك قد يضيع على المسلمين فرصة بقاء بعض المسلمين؛ لأنه قد يحصل استئصال للقاعدة الإسلامية الموجودة في المدينة، وهذا وارد؛ لأن قريشاً لن تسكت، واليهود لن يسكتوا، والمشركين من الأوس والخزرج لن يسكتوا، والقبائل حول المدينة لن تسكت، وفارس والروم لن يسكتوا، فكل هذه مخاطر ضخمة حول الأمة الإسلامية. فأبقى صلى الله عليه وسلم عدداً لا بأس به من المهاجرين في الحبشة إلى أن تستقر الأوضاع تماماً، ويطمئن إلى أن دولة الإسلام لا تستأصل، وما جاءت هذه المجموعة إلا بعد صلح الحديبية بعد ست سنوات كاملة، وذلك بعد أن اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن المدينة المنورة أصبحت دولة لا تستأصل، وقتها جاء كل المهاجرين الذين كانوا موجودين في الحبشة.

مسلمو القبائل البعيدة وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

مسلمو القبائل البعيدة وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم المسلمون في القبائل البعيدة عن المدينة المنورة، منهم في اليمن وفي غفار وفي أسلم، ومنهم الذين كانوا في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، أبقاهم صلى الله عليه وسلم في أماكنهم ولم يأمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة؛ لأن كل واحد من هؤلاء كان نقطة مضيئة في مكانه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشتغل بالدعوة في داخل المدينة وما حولها، لكن النقاط البعيدة جداً لم يصل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، كان موجوداً في قبيلة دوس في اليمن، والمسافة بين اليمن والمدينة أكثر من (1000) كيلو متر، فكيف يصل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فبعث طفيل بن عمرو الدوسي ليقوم بالدعوة في هذا المكان. وضماد الأزدي يقوم بالدعوة في الأزد. وأبو ذر الغفاري يقوم بالدعوة في غفار وعمرو بن عبسة يقوم بالدعوة في أسلم، وهكذا كل واحد في مكانه، ومع مرور الوقت كثر المسلمون في هذه القبائل المختلفة، وجاء الوقت المناسب، واستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القبائل، فأتى منها المسلمون، وزادت قوة المسلمين في المدينة المنورة. فقدوم هؤلاء في أول الأمر قد يلفت الأنظار إلى قوة المدينة المنورة، وقد يحفز الناس على استئصال المسلمين في المدينة المنورة بسرعة، وفي نفس الوقت يقلل من فرصة الدعوة في قبائلهم، فآثر صلى الله عليه وسلم أن يبقى الوضع كما هو عليه بالنسبة لهم، إلى أن تستقر الأوضاع، وبالفعل استدعاهم بعد صلح الحديبية.

مسلمو مكة وكيفية التعامل مع وضعهم

مسلمو مكة وكيفية التعامل مع وضعهم آخر طائفة: هي طائفة المسلمين المستضعفين في مكة، الذين لم يستطيعوا أن يهاجروا وليس لهم حيلة، فهؤلاء أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالكتمان قدر المستطاع، فلا يخرجوا سرهم ولا يعلنوا إسلامهم؛ حتى لا يستأصلوا، إلى أن يأتي الله عز وجل بأمره، ولم تحل مشكلة هؤلاء إلا بعد فتح مكة، وظلوا في مرحلة السرية طيلة ثمان سنوات من عمر العهد المدني. إذاً: هذا كان تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الطوائف المختلفة من المجتمع المسلم، وهاأنتم ترون التصرف النبوي في منتهى الحكمة، ويتغير باختلاف الظرف الذي يعيش فيه المسلم.

المشركون وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

المشركون وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم هذه مجموعة ثانية خطيرة تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في فترة بناء الدولة الإسلامية في أولها؛ واستمر التعامل مع هذه الطائفة إلى قبيل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه هي مجموعة المشركين، ومثل ما قلنا من قبل: إن المشركين كانوا من طوائف شتى.

المشركون من أهل المدينة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم

المشركون من أهل المدينة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معهم الأولى: المشركون من أهل المدينة من الأوس والخزرج، فهؤلاء كانوا في غاية الأهمية بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإستراتيجية العمل مع المشركين في داخل الدولة في الحالة السلمية هي إيصال الدعوة، والجوار بالتي هي أحسن، وتجنب الصدام قدر المستطاع، بل التعاون في القضايا المشتركة. تعالوا لنرى موقف المشركين في المدينة من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي طبيعته؟ وكيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كل واحد منهم؟ بعض المشركين لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة قرروا الخروج منها، منهم أبو عامر الفاسق الذي كان معروفاً بـ أبي عامر الراهب. هذا الرجل عندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة قرر أن يخرج منها، ودار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام حوار أوضح فيه ما في داخله، وقرر الخروج من المدينة، هذا الرجل كان اسمه: أبو عامر عبد عمرو بن صيفي الأوسي، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي استشهد في أحد. هذا الرجل كان يدعي أنه راهب، وأنه على دين الحنيفية، ولبس المسوح وادعى العلم أيام الجاهلية، فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، جاء إليه أبو عامر الراهب، وبدأ يحاوره، قال أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال صلى الله عليه وسلم: (جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال الراهب: فأنا عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك لست عليها) أي: هناك تحريف كبير في الديانة التي أنت عليها الآن. قال أبو عامر الراهب: بلى عليها، إنك أدخلت يا محمد! في الحنيفية ما ليس منها، فقال صلى الله عليه وسلم: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر الراهب: الكاذب أماته الله طريداً غريباً وحيداً)، يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبتهمه بالكذب، وأن الله عز وجل سيميته طريداً غريباً وحيداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (أجل. فمن كذب فعل الله تعالى به ذلك). فكان أبو عامر الراهب كذلك؛ فإنه لما دار هذا الحوار بينهما وجد التفاعل من الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعامل معه كزعيم للمدينة المنورة، فبعد أن رأى ذلك لم يستطع أن يجلس في المدينة المنورة، وخرج منها وعاش في مكة المكرمة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بـ أبي عامر الفاسق بدلاً من أبي عامر الراهب. عاش أبو عامر الفاسق في مكة المكرمة ثمان سنوات كاملة، إلى أن جاء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة في سنة ثمان من الهجرة، فهرب من مكة واتجه إلى الطائف، ثم بعدها بقليل أسلم أهل الطائف سنة تسع من الهجرة، فهرب من الطائف وعاش في الشام، وهناك مات طريداً غريباً وحيداً، فهو وأمثاله من الناس الذين خرجوا من المدينة المنورة وعددهم بضعة عشر رجلاً، تركوا المدينة المنورة وهجروها إلى غيرها من البلدان، واستراح منهم العباد، لكن المجموعة الكبرى من مشركي الأوس والخزرج بقيت على شركها تعيش في داخل المدينة المنورة، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أصبح بعد ذلك زعيم المنافقين، هذا الرجل كان زعيم الخزرج، وكانت له مكانة كبيرة في المدينة المنورة عند أوسها وخزرجها سواء، وهو الوحيد الذي اجتمع عليه الأوس والخزرج لكي ينصبوه ملكاً على المدينة، وذلك قبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينسجون له الخرز ليتوجوه كملك على المدينة المنورة، وهو أول اجتماع للمدينة المنورة على رجل واحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفجأة تغيرت الأحداث، وظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وآمن به ستة من الخزرج من قبيلته، ثم اثنا عشر رجلاً في بيعة العقبة الأولى، ثم ثلاثة وسبعون رجلاً في بيعة العقبة الثانية، كل هذا لم يعلم به عبد الله بن أبي ابن سلول. مع أنه كان رئيس وفد المدينة للحج في العام الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة الثانية عام (13) من البعثة النبوية، وكان وقتها مشركاً؛ وكان وفد المدينة يضم داخله (300) شخص من يثرب، منهم (75) مسلماً و (225) مشركاً، ولأنه كان زعيم الوفد كان يظن أنه يعرف كل شيء عن الوفد، ولما شك أهل قريش في إسلام بعض رجال الوفد ولقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم نفى ذلك بشدة، وقال: لو حدث هذا لاستشارني قومي. وفي ربيع أول من العام (14) من البعثة، أي: بعد ثلاثة شهور أو يزيد قليلاً، هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وصار رئيساً وزعيماً على المدينة المنورة، وهكذا استلم الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان سيستلمه عبد الله بن أبي ابن سلول، فتحرك الحقد في قلبه على الرسول عليه الصلاة والسلام على أشد ما يكون. تخيل موقف عبد الله بن أبي ابن سلول، فقد كان سيتوج ملكاً على المدينة لأول مرة في تاريخ المدينة

كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي الأعراب والقبائل الكبرى المحيطة بالمدينة

كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي الأعراب والقبائل الكبرى المحيطة بالمدينة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبعث للمشركين الأعراب بعض من يدعوهم إلى الإسلام، وكان يتخير أفراد قبيلتهم، فمن أخطر القبائل التي كانت حول المدينة المنورة قبيلة غفار، أرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، فأتى بنصف أهلها، ودعا لها صلى الله عليه وسلم بقوله: (غفار غفر الله لها)، واستمرت فيهم الدعوة دون أن ينتقلوا إلى داخل المدينة المنورة، كانوا في ديارهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم من يعلمهم ويدعوهم إلى الله عز وجل. وفي نفس الوقت أبرز النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب قوة المسلمين؛ حتى لا يغتر هؤلاء بأن المهاجرين هاجروا في حالة ضعف أو قلة إلى المدينة المنورة، فيغيرون على المدينة المنورة طمعاً فيها، فأظهر لهم قوة كما سيظهر لنا بعد ذلك، عندما كان يرسل صلى الله عليه وسلم السرايا حول المدينة المنورة. أما المشركون في القبائل الكبرى التي كانت حول المدينة المنورة، فقد حاول صلى الله عليه وسلم أن يعقد معهم بعض المعاهدات، كما عقد معاهدة مع قبيلة جهينة، وهي قبيلة كبيرة في غرب المدينة المنورة، وكان هذا العقد في منتهى الأهمية؛ لأن غرب المدينة المنورة هو طريق القوافل القرشية المارة من مكة إلى الشام، فإذا أمن صلى الله عليه وسلم قبيلة جهينة استطاعت الجيوش الإسلامية بعد ذلك التحرك في أمان في غرب المدينة، وقطع الطريق على قوافل قريش، كما سيتبين بعد ذلك. إذاً: كانت سياسته مع القبائل الكبرى المحيطة بالمدينة المنورة محاولة عقد المعاهدات والأحلاف قدر المستطاع، تبقى مشكلة كبيرة جداً، ألا وهي مشكلة مشركي قريش، فبعض الناس يظنون أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا انتقل مسافة (500) كيلو متر عن مكة المكرمة فإن مكة هدأ بالها، ولم يعد عندها مشكلة مع المسلمين، وأنه ستهدأ الأوضاع، ولن يُطْلَبَ المسلمون في هذه البقاع البعيدة عن مكة المكرمة. ولكن هذا ليس صحيحاً، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، فلابد أن المشركين في مكة سيسعون قدر المستطاع لغزو المدينة المنورة، وإخراج المسلمين منها، وللتعاون والتحالف مع أعداء المسلمين هنا وهناك لاستئصال شأفتهم تماماً، وهذا ما حدث بالفعل وبطرق مختلفة كما سنرى، وهذا الكلام كله يثبت لنا حقيقة مهمة جداً، وهي أنه لا خيار في المعركة، حتى وإن تجنب المسلمون المعركة، بل لابد أن تحدث سنة التدافع التي شرعها رب العالمين سبحانه وتعالى في خلقه وأرضه وإلى يوم القيامة، تدافع أهل الحق وأهل الباطل، حتى وإن كان أهل الحق لا يريدون أهل الباطل بسوء، لابد أن يبحث أهل الباطل عنهم ليتم اللقاء كما أراد رب العالمين سبحانه وتعالى للحرب بين الحق والباطل. فيا ترى ماذا عمل المشركون؟ كيف خططوا؟ وكيف دبروا؟ وكيف تعاونوا؟ وكيف أثروا على مشركي يثرب هناك؟ وكيف عقدوا بعض الأحلاف مع القبائل حول المدينة المنورة؟ وكيف حاصروا المدينة المنورة؟ هذا حديث يطول، وأسأل الله عز وجل أن يجمع بيننا على الخير دائماً حتى نتناول هذا الأمر وغيره من الأمور إن شاء الله في اللقاءات القادمة. ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المشركون والدولة الإسلامية

سلسلة السيرة النبوية_المشركون والدولة الإسلامية إن الصورة الإجرامية التي يقوم بها أعداء الله على المسلمين لا تزول بتغير الزمان والمكان، فإن أعداء الله عز وجل إذا سمعوا بأمة ترفع راية الإسلام أعلنوا ضدها العداء، وألبوا كل قوى الشر ضدها، وتظهر هذه الصورة جلية في حرب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة المنورة، فقد شنوا على المسلمين حرباً نفسية واقتصادية وسياسية وعسكرية.

ملخص الخطوات المهمة لبناء الأمة الإسلامية

ملخص الخطوات المهمة لبناء الأمة الإسلامية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. تكلمنا في الدرسين الماضيين عن قواعد في غاية الأهمية لبناء الأمة الإسلامية، استخلصناها من مضمون العمل في خلال ثلاث عشرة سنة في مكة، واستخلصناها كذلك من الخطوات الأولى التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، هذه الخطوات في مجموعها تمثل حجر الأساس لصرح الأمة الإسلامية العظيم. وسنقوم بتلخيص هذه الخطوات، بحيث تكون مجموعة في نقاط محددة معروفة، ثم نبدأ بعد ذلك إن شاء الله استكمال خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. أهم هذه الخطوات التي ذكرناها: الأولى: الإيمان الكامل بالله عز وجل وبأحقيته الكاملة في التشريع للمسلمين، والإيمان الجازم بأنه سبحانه وتعالى له الخلق والأمر. الثانية: الإيمان اليقيني بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن رب العزة سبحانه وتعالى، ومن ثم فالتشريعات التي شرعها صلى الله عليه وسلم ليست من نتاج فكره أو اجتهاده، إنما هي وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وجبت علينا فيها الطاعة، كما وجب علينا الطاعة للقرآن الكريم تماماً بتمام. وسنخرج من هاتين الخطوتين بشيء مهم جداً، وهو أن القرآن والسنة هما المصدران الرئيسان للتشريع في الأمة الإسلامية، وأن هذا ليس لنا فيه خيار، هو فرض من ربنا علينا سبحانه وتعالى، وبدون هذا المعنى لن تقوم أبداً أمة إسلامية ناجحة. ولما نقول: القرآن والسنة المصدران الرئيسان للتشريع، فإننا نعني بذلك أن هناك مصادر أخرى للتشريع، مثل الاجتهاد، والقياس، والعرف، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة وغيرهما، لكن بشرط ألا يتعارض كل هذا مع المصدرين الرئيسين للتشريع: القرآن، والسنة. وهذا الكلام سيعطينا بعدًا ثانيًا للسيرة، سيجعلنا ندرس المصدر الرئيس الثاني للتشريع، وهو حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيفية بنائه صلى الله عليه وسلم للأمة، وكلامنا عن خطواته ومعاملاته وغزواته ومعاهداته ما هو إلا كلام عن صلب الدين، ومن ثم لابد من التحليل الدقيق والدراسة المتأنية لكل موقف من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من تفريغ الأوقات، بل والأعمار لهذه الدراسة؛ لأنها سبب نجاتنا في الدنيا والآخرة. إذًا: هاتان قاعدتان في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية، تربية الشعب على الإيمان الكامل بالله رب العالمين، وتربية الشعب على الإيمان الكامل برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ومن قواعد بناء الأمة كذلك: التربية المتأنية للأمة على معنى مراقبة رب العالمين لكل أعمالنا، وأن هناك يوماً حتماً سيأتي، سيحاسب الله عز وجل فيه البشر أجمعين: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]. ومن قواعد بناء الأمة كذلك: تفعيل دور المسجد في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا. ومن قواعد بناء الأمة كذلك: الوحدة بين المسلمين، ورأينا ذلك في توحيد الأوس والخزرج، ورأيناه كذلك في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإزالة الفوارق القبلية بين المسلمين؛ ليصبح رباط العقيدة هو الرباط الرئيس الذي يربط بين المسلمين وليس الرباط الوحيد؛ لأن الإسلام لا ينكر العلاقات الإنسانية الطبيعية بين الإنسان ورحمه، والإنسان وعشيرته، ولكن يحددها في أطر شرعية محددة تفيد في بناء الأمة الإسلامية. ومن قواعد بناء الأمة كذلك والتي فصلنا فيها أكثر من مرة: فقه ودراسة المتغيرات الموجودة في الواقع، وتحديد طرق التعامل مع كل أزمة بحسب حجمها، وحسب الظروف التي تصاحب كل أزمة، ومن ثم يضع المسلم الحل المناسب في ضوء الأطر الشرعية. ونحن رأينا تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان مختلفاً مع كل أزمة بحسب طبيعتها، فنجد أنه انتهج نهجاً حكيماً جداً في التعامل مع النوعيات المختلفة من الأفراد والقبائل التي استلزمت المرحلة أن يتعامل معها، فمع الأوس والخزرج قام بالصلح بينهما على أساس العقيدة والدين، ومع المهاجرين قام بخطوات مرتبة منظمة لاستيعابهم في المجتمع المدني، بل وتفعيلهم في بناء الأمة، فتحول المهاجرون من عبء اقتصادي وسياسي واجتماعي على المدينة المنورة إلى قوة فاعلة تضيف إلى خير المدينة وقوتها. كذلك تعامله مع المسلمين في الحبشة حيث استقدم صلى الله عليه وسلم بعضهم وأبقى بعضهم لحين استقرار الأوضاع. وتعامله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في القبائل البعيدة عن المدينة وليسوا من أهل مكة؛ أبقاهم في قبائلهم لينشروا الإسلام فيها، ولكي يوسعوا نطاق الحركة الدعوية في الجزيرة العربية، ومع المستضعفين من

مشركو أهل مكة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم

مشركو أهل مكة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم قريش أكبر قبيلة وأعز قبيلة عربية، لها تاريخ مجيد، وليس من المعتاد في الجزيرة العربية أن تقف قبيلة في مواجهتها، بل كل القبائل تحرص على إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع قريش؛ لأن قريشاً ترعى البيت الحرام، وتهتم بأمور الحجاج في مكة، ولها مكانة في قلوب العرب. فإذا وضعت هذه الخلفية في تحليلك فلا شك أن قريشاً لن تسكت أبداً عن الطعن الخطير الذي وجهه الأوس والخزرج لكبريائها، عندما استضافوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين. فالمسألة أصبحت مسألة كرامة وعناد وكبرياء عند قريش؛ حاول أكابر قريش وزعماؤها بشتى الطرق أن يقتلوا هذه الدعوة في مهدها، لكنهم لم يستطيعوا، وليس من السهل لهؤلاء الأسياد أن يسلِّموا بالهزيمة. وقريش لها علاقة قوية بالأوس والخزرج، فقد كان بينهم تعاون وتحالف وتجارة وإجارة، بل كان بينهم مصاهرة وزواج، فأخوال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كانوا من بني النجار من الخزرج، ولا شك أن هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ستؤثر سلباً على علاقة قريش بالأوس والخزرج، وقد يتلو ذلك آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية، وستكون هناك آثار كبيرة ووخيمة على أهل مكة، فقريش تعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى المدينة المنورة حيث يسكن اليهود، ولو أسلم اليهود فإن هذا سيضيف قوة كبيرة جداً إلى قوة المسلمين. فاليهود لديهم سلاح وحصون وعتاد وأفراد وأموال، وقد توقع القرشيون أن يسلم اليهود؛ وذلك لأنهم أهل كتاب، يتحدثون عن الإله الواحد، ويتحدثون عن الرسل والكتب السماوية، بل إنهم يتحدثون عن ظهور نبي في هذه الفترة من الزمان، فلا يستبعد أبداً إسلامهم كما في تحليل قريش. وبالإضافة إلى كل هذه العوامل فإن المدينة المنورة تقع على طريق التجارة من مكة المكرمة إلى الشام، وأن وفود المسلمين في هذه المنطقة كقوة ودولة سيهدد مصالح قريش التجارية بقوة، وسيضرب اقتصاد مكة بضربات موجعة، فمن المستحيل أن تترك قريش دولة الإسلام هكذا دون مقاومة. من أجل ذلك كله كان من المتوقع أن قريشاً لن تنسى قصة الرسول عليه الصلاة والسلام وهجرته للمدينة، مع أنه صار بعيداً عنها حوالي (500) كيلو متر، وهكذا تبقى السنة الإلهية الواضحة في كتاب الله العزيز سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].

الطرق التي استخدمتها قريش في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة

الطرق التي استخدمتها قريش في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة

المراسلات والمفاوضات مع مشركي المدينة وكيفية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم

المراسلات والمفاوضات مع مشركي المدينة وكيفية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم اختارت قريش طريق العلاقات الدبلوماسية والمراسلات والمفاوضات مع أهل المدينة، لكنها كانت مفاوضات تحمل تهديداً خطيراً للمدينة المنورة، لم تكن في صورة عهود ومواثيق؛ بل كانت في صورة تهديد مباشر من القوة الأولى في الجزيرة العربية لقوة الأوس والخزرج. راسلت قريش زعيم المشركين في المدينة عبد الله بن أبي ابن سلول، واستغلت رغبة عبد الله بن أبي ابن سلول في الملك والسيادة، وكراهيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغلت طبيعته الخائنة التي لا تقدر على المواجهة، فأرسلت إليه وإلى مشركي المدينة بصفة عامة رسالة، ذكرها أبو داود في سننه، تقول قريش لـ عبد الله وأصحابه في هذه الرسالة: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللات والعزى لتقتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح ذراريكم. تهديد مباشر لمشركي الأوس والخزرج بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم أو بقتله، وجاء التهديد موافقاً لهوى عبد الله بن أبي ابن سلول؛ ولذلك فقد أخذ قراراً في منتهى الخطورة، إذ جمع المشركين من الأوس والخزرج وقرر أن يقاتل المسلمين من الأوس والخزرج، وهكذا تناسى عبد الله بن أبي ابن سلول تماماً عداءه القديم مع الأوس، تناسى الثارات العميقة والدماء التي سالت بين القبيلتين قبل ذلك، لم يعد يذكر إلا الحرب العقائدية الآن، سيقاتل المسلمين من أبناء الخزرج، وسيضع يده في يد المشركين من أبناء الأوس، فقد يظن البعض أن هذا غريب، لكنها حقيقة متكررة وسنة ثابتة، دائماً يجتمع أهل الباطل على اختلاف تصوراتهم وعقائدهم وطرقهم في التفكير لحرب المسلمين. ستجدون ذلك متكرراً في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الفتوح الإسلامية فتوح فارس والروم والأندلس، وفي الحروب الصليبية وحروب التتار، وفي احتلال أوروبا للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر والعشرين، وستجدونه الآن في أكثر من بقعة من بقاع العالم، وفي أكثر من نقطة من نقاط الصراع بين المسلمين وغيرهم، اتفاق اليهود مع النصارى، واتفاق اليهود مع الهندوس، واتفاق أمريكا مع روسيا، واتفاق إنجلترا مع فرنسا، واتفاق الشيوعيين مع الرأسماليين، ومع الاختلاف البين لهذه المدارس، إلا أنهم يتفقون ويتجمعون إذا كان عدوهم الإسلام، فالحرب عقائدية في المقام الأول، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]. فجمع عبد الله بن أبي ابن سلول المشركين من الأوس والخزرج لحرب المؤمنين من الأوس والخزرج، وتجمع كذلك المسلمون لحرب المشركين، بوادر حرب أهلية خطيرة، وفتنة طائفية داخلية ستنشب بين المسلمين وطائفة أخرى على غير دينهم، تعيش معهم في داخل البلد الواحد. حينها جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وحاول قدر المستطاع أن يوقف الصراع قبل أن يبدأ، وصل إليهم بالفعل قبل القتال، لكنه لا يستطيع هنا أن يذكر بالجنة والنار والعقيدة والمبادئ الإسلامية؛ لأن هناك مشركين، فلا يستطيع أن يقول لهم: قال الله وقال الرسول، فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب على وترين في منتهى الأهمية، وهما وتران يمثلان عاملاً مشتركاً بين الفريقين. الوتر الأول: وتر التحدي وإثارة النخوة والعزة والإباء، وكل هذه معانٍ يفتخر بها العرب كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مشركين، قال لهم: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت قريش تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم). وهكذا حرك فيهم عنصر التحدي لقريش، وأخذ يلفت الأنظار إلى مكيدة قريش، ويقول لهم: لستم أنتم الذين تخدعكم قريش بمكيدة مكشوفة كهذه. الوتر الثاني كان في منتهى الأهمية أيضاً: وتر الرحم والقبيلة. قال لهم: (تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟) هل سيقتل الأوسي أوسياً؟ هل سيقتل الخزرجي خزرجياً؟ هل سيقتل اليثربي يثربياً من نفس الوطن، ويعيش نفس الظروف ويتعرض لنفس المخاطر؟ وهكذا ذكرهم جميعاً بالمواطنة ليثرب. فلما سمع القوم هذا الكلام تفرقوا جميعاً مسلمهم ومشركهم، فهذه حكمة نبوية بالغة أنهت الفتنة الطائفية في داخل البلد الواحد تماماً، وأشد الناس فرحاً بهذه الفتنة الطائفية هم أعداء الأمة، فطرف ينهي طرفاً آخر، وطرف يقضي على طرف آخر، وهكذا كسرت شوكة الدولة دون عناء من الأعداء، وهذا الذي كانت تريده قريش، فالقائد الحكيم صلى الله عليه وسلم منع ذلك باقتدار، وعلى كل المخلصين لهذا الدين أن يستوعبوا هذا الدرس تماماً، فما أكثر ما تثار الفتن الطائفية في البلاد الإسلامية، ولا تجر على البلد إلا الويلات والدمار، بل ما أكثر ما تثار الفتن بين المسلمين والمسلمين، جماعة تحارب جماعة، أو سلطة تحارب جماعة، والجميع في مرتبة واحدة، وقد رأينا ذلك في فلسطين والعراق والأردن ومصر وليبيا والجزائر وفي غيرها وغيرها. فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتجنب الصراع الداخلي بكل وسيلة،

استخدام قريش للحرب النفسية على المسلمين

استخدام قريش للحرب النفسية على المسلمين قامت قريش بالحرب النفسية على المسلمين بعد فشلها في إثارة الفتنة في المدينة بين المسلمين والمشركين أرسلت قريش رسالة إلى المسلمين، قالت: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم. هذا أسلوب قديم وحديث، وما زلت قريش تستخدم التهديد والوعيد. وهذا وإن كان يحتمل أنه من قبيل الحرب النفسية الوهمية على المسلمين، إلا أن المسلمين أخذوه مأخذ الجد والاعتبار، فالعقل لا يمنع أن تغزو قريش المدينة المنورة، أو أن تخطط لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حاولوا أن يقتلوه أكثر من مرة، وآخرها كانت المحاولة التي تمت قبل الهجرة بقليل، وأرادوا أن يضربوا عنقه صلى الله عليه وسلم بأربعين سيفاً في وقت واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل كما كانوا يقولون، ورصدوا لمن يقتله أو يأسره مائة من الإبل وهو مبلغ ضخم جداً، فلا يستبعد أبداً أن ترصد قريش مائة من الإبل لمن يتسلل إلى داخل المدينة؛ ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يبيت ساهراً حذراً من غدر قريش، وفي يوم من الأيام تعب صلى الله عليه وسلم من كثرة السهر، روى البخاري ومسلم: أن السيدة عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير ثم نام). هذا كان حال المسلمين في المدينة المنورة، الموقف فعلاً كان متأزمًا، وهذا الأمر لم يكن عارضاً، بل كان أمراً مستمراً، لم تقف حراسة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن عصمه الله عز وجل من الناس، وذلك لما نزل قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. لما نزلت هذه الآية أخرج صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال: (يا أيها الناس! انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل) وأوقف صلى الله عليه وسلم الحراسة بذلك، وهذه خاصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد لعموم القيادات الإسلامية أن تحمي نفسها من أعدائها. كما أن هذا التهديد لم يكن خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل كان لكل المؤمنين في المدينة المنورة، وخاصة القيادات الإسلامية، ونحن لا ننسى أن قريشاً رصدت مائة من الإبل لمن يأتي بـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حياً أو ميتاً. يقول أبي بن كعب رضي الله عنه: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه) فاغتيال الزعامات الإسلامية هدف لأعداء الأمة، لكن هذا التهديد لم يجد مع المسلمين.

قطع قريش للعلاقات الدبلوماسية مع المدينة المنورة

قطع قريش للعلاقات الدبلوماسية مع المدينة المنورة لم ينجح تهديد قريش ولا وعيدها، فقامت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة المنورة، وهددت بمنع أهل المدينة من زيارة البيت الحرام، مع أن البيت الحرام ليس ملكاً لقريش، وأعراف الجزيرة العربية وقوانينها بل وقوانين قريش نفسها تقضي بأن الذي يريد البيت الحرام لا بد أن يعطى الأمان، بل ويكرم ويخدم ويرعى، وكانت قريش تفتخر على غيرها من القبائل بأنها تسقي الحجيج وتعمر المسجد الحرام، ومع كل هذا تنكرت لكل ذلك، وقررت أن تنسى قوانينها أو تتناساها، وتتعربد في الأرض كما يحلو لها. روى البخاري رحمه الله قصة ذكر فيها: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف -كان صاحبه في الجاهلية- فقال لـ أمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت، فخرج به أمية بن خلف وذهب سعد ليطوف، فلما طاف سعد بن معاذ بالبيت الحرام قابله أبو جهل، فقال أبو جهل يخاطب أمية بن خلف ويتجاهل تماماً سعد بن معاذ مع أنه يعرفه: يا أبا صفوان! من هذا معك؟ فقال: هذا سعد. وكان أبو جهل يعرف سعداً؛ لأن أمية بن خلف يقول: هذا سعد. دون تعريف كامل، فلم يقل له: هذا سعد بن معاذ سيد الأوس. فقال أبو جهل مخاطباً سعداً: ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم؟ أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً. فهذا تهديد خطير، وكأن أبا جهل قد فقد صوابه وحنكته، وفقد كل حكمته في التعامل مع قبيلة قوية كقبيلة الأوس أو الخزرج، فقال سعد بن معاذ رافعاً صوته كما في رواية البخاري، يرد عليه بقوة: أما والله لئن منعتني هذا -أي: لئن منعتني من الطواف بالبيت الحرام- لأمنعك مما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة. فهذا موقف جليل من الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يحتاج منا إلى وقفة، فالتذلل والخضوع والخنوع لزعماء الكفر وقادة الضلال وجبابرة الأرض لا يزيدهم إلا كبراً وغطرسة وظلماً وجوراً، أما الوقوف هذه الوقفة الجادة الحاسمة فلا شك أنه يزلزل كيانهم ويهز أعصابهم، ونحن نلاحظ أن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه كان واقعياً جداً في تهديده، يعني: لم يهدده بقتل أو بغزو مكة أو بالقدوم إلى مكة للعمرة رغماً عن أنفه، ولكن هدده بما يملك. هنا سعد بن معاذ لم يفقد مصداقية كلامه، بل كان كلامه في غاية التأثير، فهو رضي الله عنه وأرضاه يعرف مواطن القوة عنده وما بيده ويعرف ما يضعف عدوه ويعرف مصالح مكة، فهذا موقف رجولي يليق بمؤمن. قد يقول قائل: لماذا رد سعد بن معاذ رضي الله عنه بغلظة هكذا على أبي جهل؟ بينما رد الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بلطف ولين على عبد الله بن أبي ابن سلول المشرك الخزرجي، مع أنه أيضاً أساء له القول قبل ذلك؟ A لاختلاف الظرف واختلاف المكان واختلاف الشخص المشرك الذي تم الحوار معه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحاور مع عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المشركين في يثرب وقبيلته الخزرج، والخزرج لم تقف سداً منيعاً أمام الإسلام كما فعلت قريش، بل على العكس، فإن عدداً كبيراً جداً من الأنصار هم من قبيلة الخزرج، كما أن المشركين من قبيلة الخزرج بما فيهم عبد الله بن أبي بن سلول لم يسمعوا عن الإسلام إلا منذ فترة وجيزة، ولم يختلطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين اختلاطاً كافياً؛ فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمل كثيراً في إسلامهم، ويعتقد أنهم بطبيعتهم الرقيقة المشهورة عن أهل المدينة سيميلون إلى الإسلام عاجلاً أو آجلاً؛ لذلك هو لا يريد تصعيد الموقف مع قبيلة الخزرج، بل يريد امتلاك القلوب وإقناع العقول، وهذا كله يتطلب رفقاً في التعامل وليناً في الكلام. أما موقف سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه مختلف تماماً، فهو موقف مع واحد من أكابر مجرمي قريش، بل مع أعتى عتاتها وأفجر فجارها، موقف مع فرعون هذه الأمة، وبث الرعب في قلبه أمر مطلوب، وإشعاره بالقلق والاضطراب واجب شرعي، وإثارة خوفه على ماله وسلطانه عمل إستراتيجي للمسلمين. وتاريخ أبي جهل يشير إلى أنه لن يؤمن، خاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليه قبل ذلك وقال: (اللهم عليك بـ أبي جهل)؛ لذلك فإن سعد بن معاذ لا يؤمل في إسلام أبي جهل لا من قريب ولا من بعيد، فكان قراره حاسماً في ذلك، وهو الوقوف

التضييق الاقتصادي من قريش على المدينة المنورة وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك

التضييق الاقتصادي من قريش على المدينة المنورة وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك رأينا التعامل مع بعض الرموز المشركة في داخل المدينة المنورة، ورأينا الحرب النفسية على المسلمين والتهديد والوعيد، ورأينا قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة، وذلك لما قطع أبو جهل علاقاته مع سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، رأينا تغيير القوانين والتنكر للأعراف ونكث العهود، ومنع المسلمين من الوصول إلى مكة ظلماً وقهراً، هل اكتفت قريش بهذا كله؟ لا، لم تكتف بذلك، بل بدأت في تنفيذ خطوة أخرى، وهي عملية التضييق الاقتصادي على المدينة المنورة، وذلك بالتأثير على القبائل التي حول المدينة والمنورة، وبالاتصال أيضاً باليهود الذين يعيشون في داخل المدينة المنورة؛ لمنعهم من التعامل مع المسلمين. استغلت قريش ما لها من نفوذ وعلاقات بالقبائل المختلفة؛ لتحاصر المسلمين وتضيق عليهم، لكن هذه الوسيلة مع خطورتها لم يكن لها التأثير الكافي على الدولة الإسلامية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة قد عمل في حسابه أنه سيقابل مثل هذه المعضلة، وهي معضلة الحصار الاقتصادي من قريش للمدينة المنورة؛ لذلك خطط النبي صلى الله عليه وسلم تخطيطاً في غاية الإبهار للخروج من الأزمة الاقتصادية، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلامية أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبنى إلا على أكتاف أبنائها، والاقتصاد المسلم إذا كان معتمداً على الآخرين فإنه سيصبح اقتصاداً هشاً ضعيفاً لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على يهود؟ والموقف عند هجرة المسلمين للمدينة المنورة كان صعباً جداً، والمدينة لم تكن فقيرة فقط، بل إن اقتصادها إلى درجة كبيرة جداً كان في يد اليهود، فسوق المدينة الرئيس هو سوق بني قينقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، والتجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، حتى إن كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق، والأخطر من التجارة والسوق والمال هو الماء، والماء كان أيضاً في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الأبيار التي يمتلكها اليهود، وأشهر هذه الأبيار بئر رومة المشهور. فماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟ وماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين ومنعوا ماءهم عن المسلمين؟ لا شك أن هذا موقف لا يحسد عليه أحد؛ لذلك خطط الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمنتهى المهارة والدقة، سطر لنا أصولاً أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلامي. والتفصيل لهذه الوسائل يحتاج إلى وقت طويل إن شاء الله في محاضرتين خاصتين: الأولى: الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج من الأزمة الاقتصادية، والثانية: الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاج مشكلة الفقر. لكن الآن سنوجز بعض العناوين المهمة في الخروج من الأزمة الاقتصادية. أولاً: حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على توفير الماء المملوك للدولة الإسلامية، فالماء سلعة إستراتيجية، ولن تقوم دولة بلا ماء؛ لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، كان بئر رومة ملكاً ليهود، فابتاعها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! ابتعتها بكذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك، فقال: اللهم نعم). إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه اقتصادي إسلامي كبير، وجه جهده كله لشراء ما ينفع الأمة ويفيدها بدلاً من التجارة في شيء من الرفاهيات أو الكماليات، وهذا كان بتوجيه من الرسول عليه الصلاة والسلام، يوجهه لشراء السلع الإستراتيجية، ومن هذه السلع الإستراتيجية الماء، وقد تكون هذه السلعة شيئاً آخر، قد تكون بترولاً أو قمحاً أو قطناً أو طاقةً نووية حسب الظروف. هناك أمر في غاية الأهمية وهو أهمية التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلامية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً دنيوياً يعوض به عثمان بن عفان عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع أن يشتري المسلمون منه ذلك الماء لأنهم فقراء؛ لذلك فإنه حفزه بما في الآخرة، قال له: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، وفي رواية: (وله الجنة) ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يقينياً في الله عز وجل وفي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وفي الجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون عائد دنيوي، ولم يكن لهذه المشكلة أبداً أن تحل دون تطوع من اقتصادي مسلم غني يرغب في ثواب الآخرة؛ لأن بيت مال المسلمين لم يكن فيه مال. لذلك كخطوة أولى قبل بناء الدولة لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود، الذين ستبنى على أكتافهم هذه الدولة، وبهذه الخطوة الجب

استخدام قريش الغارات على المدينة المنورة

استخدام قريش الغارات على المدينة المنورة كل هذه المحاولات الفاشلة من قريش لاستئصال خضراء المسلمين لم تمنع قريشاً من استمرار المحاولة والكيد والتدبير. لما لاقت قريش هذه الصلابة في المقاومة؛ وهذه العبقرية في الأداء الإسلامي، وهذه الاحتراسية الدقيقة في بناء الأمم، لم تجد أمامها إلا أن تستخدم سلاح البطش والقوة التي اعتادت عليه قبل ذلك، والذي اعتاد عليه عموم الجبابرة والمجرمين والمتكبرين في الأرض، قررت القيام بغارة ليلية مباغتة على المدينة المنورة، ضربةً خاطفةً لعلهم يقتلون رجلاً أو ينهبون مالاً، أو يروعون امرأة أو طفلاً أو شيخاً. هذه الغارة كانت بعد حوالي سنة تقريباً من هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت بقيادة أحد المشركين، كان اسمه كرز بن جابر الفهري، والذي أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه وصار من الصحابة، أغار على المدينة ليلاً، وسرق بعضاً من ماشيتها إبل وغنم وبقر، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في إثره حتى يرجع الماشية، لكن أفلت كرز بما نهب، وهنا تبين لنا محاولات قريش. كانت هذه هي محاولات قريش للصد عن سبيل الله، وكانت هذه محاولات قبيلة كبرى لاستئصال جذور حركة إسلامية ما زالت ناشئة في طور البناء، ولأن قريشاً القبيلة الكبرى تعلم أن هذه الحركة الإسلامية البسيطة تمتلك مقومات بناء دولة عظمى، فإنها سارعت لهدم البناء في أول مراحله، حتى لا تغامر بترك هذا البناء ينمو ثم يبتلعها بعد ذلك. فعلت ذلك قريش، وكذلك تفعل الدول الكبرى الآن، وما زال المسلمون يتعجبون: لماذا دولة عملاقة ضخمة تهتم بأمر مجموعة من المسلمين البسطاء الفقراء الذين يعيشون على بقعة قد لا ترى على خريطة العالم؟ والسر أنهم يقرءون التاريخ، أعداؤنا يقرءون التاريخ ونحن نغفل عن قراءته كثيراً، قرأ أعداؤنا كثيراً في التاريخ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، وعلموا أن المجموعة القليلة من المسلمين إذا عاشت بشرع الله عز وجل، وطبقت قوانين الإسلام في كل صغيرة وكبيرة من حياتها، فإنها ما تلبث أن تنمو وتقوى، ثم تمكن في الأرض، ويصبح تمكينها في الأرض خارجاً عن حدود الاستئصال، بل وتصبح قوتها غير قابلة للهزيمة ما دامت مستمسكة بقانونها دون تحريف أو تبديل أو تكاسل أو إهمال. وهذا الأمر تكرر في التاريخ، ولا زال يتكرر إلى الآن. أذكر لكم مشكلة تؤرقني كثيراً، هذه المشكلة مشكلة السودان، فالسودان أعلنت أنها ستطبق شرع الله عز وجل على بعض الولايات السودانية، ليس تطبيقاً كاملاً في كل السودان، ومع أن هذا التطبيق تطبيق جزئي وليس كلياً، إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد، لقد ظهرت كلمة الإسلام في السودان، وهذا في عرف الكافرين أمر خطير، وتحركت قوى عظمى ودول كبرى لمنع هذا البلد من تطبيق شرع ربه سبحانه وتعالى. يتعجب المراقبون لماذا دولة عملاقة مثل: أمريكا، أو دول متقدمة مثل: دول أوروبا الغربية أو الإسكندنافية أو دولة قوية كإسرائيل تهتم بشأن هذا البلد الفقير البسيط الذي يصارع بضراوة من أجل الحياة؟! فالمجاعات في السودان تقتل الآلاف المؤلفة، فلماذا هذا الزخم الإعلامي الكبير، وهذا التفخيم والتضخيم لأمر قضية السودان؟ ظهرت كلمة الإسلام في السودان، ولو قدر لهذا البلد أن ينمو فقد يغير من خريطة العالم، لا يغير فقط الإمكانات الاقتصادية المتوقعة ولا البترول ولا المزارع، لكن يرفع من شأن البشر الذين يحملون الإسلام في قلوبهم؛ لذلك فإن عموم أعداء الأمة أدركوا هذا الأمر جيداً وللأسف لم يدركه الكثير من المسلمين. أولاً: ماذا فعلوا مع السودان الفقير؟ فعلوا نفس السيناريو الذي فعلته قريش القبيلة العظمى مع دولة المدينة المنورة الناشئة، فقد قاموا بمراسلات لبعض الانفصاليين خاصة من أصحاب الديانات الأخرى؛ للقضاء على الحركة الإسلامية في مهدها، ويا حبذا لو أثيرت فتن طائفية في أرجاء البلاد، وهذا كفعل قريش في مراسلتها مع عبد الله بن أبي ابن سلول، وكلكم ترون هذا الأمر على الشاشات الفضائية. ثانياً: قاموا بالحرب النفسية على المسلمين في السودان، عن طريق التهديد والوعيد المستمر في وسائل الإعلام وعبر السفارات والأعوان والوسطاء. ثالثاً: قطع الدول الكبرى لعلاقاتها الدبلوماسية مع السودان، وبذلك انفصلت السودان عن الواقع الذي تعيش فيه، وهذا شيء خطير. رابعاً: تغيير القوانين والتنكر للأعراف الدولية، وتكوين الأحلاف التي ينكرها القانون الدولي، هذه الأحلاف تقوم بالتأثير على الدول الضعيفة؛ لأجل أخذ قرار يضر بمصلحة دولة أخرى، وهذا يكون عن طريق مال أو عن طريق ضغط عسكري أو عن طريق ضغط سياسي، وأمريكا فعلت ذلك فعلاً ضد السودان، فقد ضغطت على دول كثيرة جداً حتى تمنع السودان من الحصول على مقعد إفريقيا في مجلس الأمن، وأعطوا هذا المقعد لدولة أخرى، مع أن التصويت على المستوى الإفريقي كان لصالح السودان. خامساً: الحصار الاقتصادي والضغط على الشعب إلى الموت، وما أحداث دارفور منا ببعيد. سادساً: الغارات المفاجئة الغادرة لا على جيش ولا ع

اليهود والدولة الإسلامية

سلسلة السيرة النبوية_اليهود والدولة الإسلامية لليهود طبيعة ممقوتة ذكرها الله سبحانه في كتابه، فقد وصفهم الله سبحانه بالغدر والخيانة ونكث العهود، ومع ذلك حاول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التعامل معهم بالحسنى والصبر والحكمة، فقد كانت قوة المسلمين لا تسمح لهم بالمواجهة معهم، فظل المؤمنون يترقبون مرحلة جديدة يعلون فيها دين الله عز وجل وينصرون نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيلون فيها قوة اليهود ويدكون معاقلهم.

كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود داخل المدينة وخارجها

كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود داخل المدينة وخارجها أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. هذا هو الدرس الرابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا مسلمين من أوس وخزرج ومهاجرين وغيرهم، أو كانوا مشركين. وفي الدرس السابق تحدثنا عن مشركي قريش كفار مكة، وكيف كادوا لأمة الإسلام، وكيف خرج صلى الله عليه وسلم من الأزمة بنجاح، وبتدبير متقن معروف وبخطوات ثابتة، وترك لنا تشريعاً يستطيع المسلمون أن يخرجوا به من كل أزمة مشابهة. اليوم حديثنا مع أمر في غاية الأهمية والخطورة، وهو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا في داخل المدينة، تعلمون أنه في داخل المدينة تعيش ثلاث قبائل كبرى لليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وفي شمال المدينة المنورة ووادي القرى تعيش مجموعة ضخمة أخرى من اليهود متجمعة أساساً في منطقة خيبر، كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه الطوائف والقبائل المختلفة من اليهود؟

طبيعة اليهود وكيفية تعاملهم مع المسلمين

طبيعة اليهود وكيفية تعاملهم مع المسلمين حتى نعرف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لابد أن نأخذ خلفية عن طبيعة اليهود، وخلفية عن إستراتيجية اليهود في التعامل مع المسلمين، ملخص تعامل اليهود مع المسلمين مذكور في قول الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، رأينا في الدرس الماضي المكائد والمؤامرات من قريش الكافرة في حربها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حرب اليهود أشد، وعداوة اليهود أشد، ومكر اليهود أشد؛ ولذلك بدأ بهم رب العالمين سبحانه وتعالى في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82]. لنر طريقة تعامل المنهج الإسلامي مع اليهود، وطريقة تناول التشريع الإسلامي لقضية اليهود. قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان هناك إعداد نفسي ومعنوي للصحابة؛ من أجل أن يعرفوا إلى أين سيذهبون بعد ذلك، مع أنه مدة فترة مكة لم يعلم المسلمون أنهم سيرحلون ويهاجرون إلى المدينة المنورة، حيث تجمعات اليهود الكبيرة، لكن هذا إعجاز ظاهر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فكثير من الآيات القرآنية ذكرت اليهود في فترة مكة، والآيات المكية التي تحدثت عن اليهود وعن بني إسرائيل أكثر من أن تحصى، إن هذا المنهج جميل نريد أن نقف عنده وقفة، فنقول: إن ربنا سبحانه وتعالى كان يوسع الأفق عند المسلمين، فقبل أن تعرف أنك ستلتقي مع اليهود، وقبل أن تعرف أنه سيكون لك دولة في مكان ما، فإن الله سبحانه وتعالى يوسع لك الأفق، ويعرفك بما هو موجود في الأرض الآن، تجد آيات يستغربها المحلل لها، إلا أن يفقه المنهج الإسلامي الرفيع الذي أوحى به رب العالمين سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. تجد مثلاً آيات في القرآن المكي عن الروم، وآيات في القرآن المكي عن اليهود، تجد الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر الصحابة عن ملوك العجم، يخبرهم عن قيصر وكسرى والمقوقس، يعرف زعماء العالم في زمانه، مع أن المسلمين في فترة مكة كانوا مضطهدين ومشردين وليست لهم دولة ولا شوكة، وكانوا مأمورين رضي الله عنهم أجمعين في فترة مكة المكرمة بالكف عن المشركين، يعني: احتمالية قيام دولة كانت بعيدةً جداً في الحسابات المادية، ومع ذلك فإن رب العالمين سبحانه وتعالى كان يعلمهم كيف يدور العالم حولهم، وهذا منهج حياة لابد أن نأخذ به، لا نقول: إننا دولة إسلامية بسيطة أو مجموعة من الملتزمين البسطاء القلة، لا داعي إلى معرفة أحوال العالم، وحقيقة أنك تحزن جداً عندما تجد شباباً كثيرين لا يعرفون عن أحوال الدنيا شيئاً، لا يعرفون ما الذي يحصل في فلسطين، وما الذي يحصل في الشيشان، وما الذي يحصل في كشمير، والعراق، والسودان، وما الذي يحصل بين الهند وباكستان، وما الذي يحصل بين أمريكا وروسيا، وما الذي يحصل بين أمريكا والصين، فالعلاقات الدولية الكثيرة المعقدة المتشابكة التي حول المسلمين لابد أن يفقهها المسلمون؛ لأنه سيأتي يوم من الأيام يستفيدون من هذه الأمور، فتظهر قوى وتندثر أخرى، وقد يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على المسلمين. تحدث القرآن المكي كثيراً عن بني إسرائيل، قبل أن يعرف المسلمون أنهم سيذهبون إلى المدينة المنورة، وقد ترك القرآن المكي انطباعات إيجابية كثيرة عن اليهود، وهذا الغرض معروف، وسنتكلم عنه بعد قليل. كان يتحدث القرآن المكي عن بني إسرائيل دائماً بلفظ بني إسرائيل، لم يذكر كلمة اليهود أبداً؛ لأن كلمة اليهود استحدثت بعد ذلك في بني إسرائيل، جاءت هذه الكلمة بعد أن خالفوا كثيراً، لكن في الفترة التي كانت قبل المخالفة، وكانوا فيها أتباعاً لموسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء، كان يطلق عليهم في القرآن الكريم: بنو إسرائيل. وإسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام، فنسبة هؤلاء إلى نبي تعطي لهم تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فترفع قيمة بني إسرائيل في قلوب المسلمين. أيضاً تكررت كلمة (أهل الكتاب) ثلاثين مرة في القرآن كاملاً، منها آية واحدة فقط في القرآن المكي، وجاءت في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فلفظة: (أهل الكتاب) تضم اليهود والنصارى، وجاء فيها الأمر بالمخاطبة بالتي هي أحسن. وتحدث رب العالمين سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عن موسى عليه السلام، وتكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن (136) مرة، منها (122) مرة في القرآن المكي، تركيز وتكثيف كبير جداً على قصة موسى عليه السلام، ومعظم قصة موسى مع فرعون، وليس عن مخالفات بني إسرائيل الكثيرة، وإن كان هذا موجوداً. إجمالاً: ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى أنه أعطى بني إسرائيل كثيراً وكثيراً، حتى قال سبحانه وتعالى في القرآن المكي: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وهناك آيات كثيرة تشبه هذا المعنى. و

ذكر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لتأليف قلوبهم

ذكر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لتأليف قلوبهم عندما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة حاول أن يرقق قلوب اليهود، وأراد إشعارهم بأنهم فريق واحد من المؤمنين، فعمل شيئين بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى. الأمر الأول: هو اتجاه القبلة ناحية بيت المقدس، ثبت في البخاري ومسلم أن الرسول عليه السلام توجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً من بداية دخوله المدينة حتى قبيل بدر بقليل كما سنرى إن شاء الله في الأحداث. وهذه القبلة الواحدة تعطيهم انطباعاً واضحاً أنهم فريق واحد يتجهون إلى قبلة واحدة، فنحن وهم نعبد إلهاً واحداً، ونؤمن بالأنبياء السابقين جميعاً. بقيت جزئية واحدة فقط، وهي أن اليهود يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو مذكور عندهم في الكتب المقدسة لاسيما التوراة والإنجيل، وعندهم علامات وبشارات كثيرة تؤكد أنه هو النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: صيام يوم عاشوراً. لما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه). فالمسلمون واليهود يصومون يوماً واحداً في السنة، وهذا اليوم فيه تعظيم لموسى عليه السلام، بل وتقليد له، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم وأتباعه المؤمنون يقلدون موسى عليه السلام في صيامه لهذا اليوم الذي نجاه الله عز وجل فيه، فكل هذا تقريب للقلوب، ومحاولة لاكتساب قلوب اليهود، فنحن لسنا أعداء لليهود، فكلنا نعبد إلهاً واحداً.

قصة إسلام عبد الله بن سلام وموقف يهود بني قينقاع من إسلامه

قصة إسلام عبد الله بن سلام وموقف يهود بني قينقاع من إسلامه بدأ صلى الله عليه وسلم في دعوته لليهود، وجمع اليهود مرة ومرتين وثلاثاً، كان يجمع القبائل بعضها مع بعض أحياناً، وأحياناً يخاطب الأفراد صلى الله عليه وسلم. وجاء إليه أناس من بني قينقاع ومن بني النضير ومن بني قريظة، وأول من جاء إليه عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، كان اسمه الحصين بن سلام رضي الله عنه قبل أن يسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو من بني قينقاع، لما سمع بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أراد أن يختبره ليعرف أهو الرسول المذكور في التوراة أو غيره؟ فذهب إليه وقال له: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك) يعني: يكذبونني، يقولون: أنت تقول كلاماً ليس موجوداً في التوراة، (فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت -يعني: اختبأ داخل البيت- فقال صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم ذلك مراراً، فقالوا مثل ذلك. قال: فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال اليهود: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه). وفي رواية: (أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه قال لهم: يا معشر اليهود! اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله جاء بحق، قالوا: كذبت، فأخرجهم صلى الله عليه وسلم). وهنا وضحت الرؤية تماماً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فاليهود كلهم يعرفون تمام المعرفة أنه رسول، ومع ذلك ينكرون. أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وأسلم بعد ذلك مجموعة قليلة جداً من اليهود، أما عموم اليهود فقد ظلوا على كفرهم. هذا كان موقف بني قينقاع.

موقف بني النضير وبني قريظة من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

موقف بني النضير وبني قريظة من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كان من بني النضير حيي بن أخطب وهو مشهور، وأخوه أبو ياسر بن أخطب، وبنو النضير قبيلة قوية جداً، فيها الكثير من أشراف اليهود، منهم: سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم، وكعب بن الأشرف. تحكي أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها وأرضاها قصة قدوم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: إن حيي بن أخطب وعمها أبا ياسر بن أخطب ذهبا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح. تقول: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين -كسلانين- يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ أي: يا ترى أهو الرسول الذي جاء في التوراة؟ قال: نعم. والله هو، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه، قال: عداوته -والله- ما بقيت. سبحان الله! وفوق ذلك يحلف ويقول: عداوته -والله- ما بقيت. بذلك وضح حيي بن أخطب منهج اليهود في التعامل مع الدين الإسلامي الجديد، وهو المنهج الذي ظل سارياً عند اليهود إلى يومنا هذا إلا من رحم الله تعالى. وهكذا فإن بني النضير بكاملهم لم يسلم منهم واحد. كذلك بنو قريظة لم يسلم منهم أحد، وهذا موقف عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل ودراسة لطبيعة هؤلاء البشر الذين يتعاملون مع رسول يعلمون أنه رسول بهذه الصورة، لكنك عندما تراجع قصتهم مع سيدنا موسى عليه السلام، فإنك تستطيع أن تفهم لماذا عملوا هكذا مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

المعاهدة النبوية مع اليهود وأسبابها

المعاهدة النبوية مع اليهود وأسبابها رفض اليهود جميعاً الإسلام تقريباً؛ لذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بمعاهدة بين المسلمين واليهود. ومن المهم جداً أن ندرس ظروف هذه المعاهدة وبنودها؛ لكي نستطيع أن نقارن بين واقعنا الذي نعيشه الآن، وبين ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. عقد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاهدة وحافظ عليها، وفي نفس الوقت هو الذي أجلى بني قينقاع، ثم بني النضير، وهو الذي قتل بعد ذلك رجال بني قريظة، ولنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل خطوات حياته. فلابد أن نعرف متى عاهد؟ ومتى حارب؟ ومتى قبل من اليهود بعض البنود في المعاهدة؟ ومتى لم يقبل منهم أن يمكثوا في المدينة المنورة يوماً واحداً؟ هذه أمور تحتاج منا إلى بحث دقيق. قد يكون في قرارة نفس واحد منا غيظ وحقد كبيرين على اليهود؛ لأنهم علموا أنه الرسول الحق، ومع ذلك لم يتبعوه، والدين الإسلامي والشرع الإسلامي لا يظلم الناس شيئاً، فليس معنى قيام دولة إسلامية أن تهضم حقوق أهل الكتاب، والعلاقة بين المسلمين وبين أهل الكتاب واضحة جداً في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، لخصها الله عز وجل في سورة الممتحنة، قال سبحانه وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. فالإسلام قفزة حضارية هائلة، فالعالم اليوم بالكاد يتحدث عن قبول الآخر وعن الاعتراف به وسماعه، لكن الإسلام يتجاوز هذه المسألة إلى ما هو أعظم منها، العالم الآن قد أصبح في طفولة حضارية، والإسلام منذ (1400) سنة نزل بما هو أعظم وأعلى وأسمى من ذلك، نزل بالإحسان إلى الأخ والبر به والعدل معه والرحمة به وهكذا. فليس معناه أن الرسول عليه الصلاة والسلام يكره أهل الكتاب على الدخول في الإسلام، مع أنه كان يتفطر حزناً صلى الله عليه وسلم على يهودي أو نصراني يموت على غير الإسلام، ومع ذلك لا يستطيع أن يكرهه؛ لأن هذا ليس من شرعنا، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]. فالرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن يعقد معاهدة مع اليهود، واعلم أن فرصة الدعوة ما زالت موجودة، فلم يكن هناك تاريخ عدائي يذكر بين المسلمين واليهود وقتئذ، نعم، هم كذّبوا الآن، ولكن قد يفتح الله عز وجل قلوبهم إن شاء الله في المستقبل، والرسول عليه الصلاة والسلام ما كان ييئس مطلقاً من دعوة إنسان، فقرر أن يعمل معهم معاهدة.

بنود المعاهدة النبوية مع اليهود

بنود المعاهدة النبوية مع اليهود إن بنود المعاهدة مع اليهود تستخلص منها قواعد المعاهدات في الإسلام، وأصوله، وهذه المعاهدة بهذا الوصف توضح مدى التجني على السيرة النبوية، الذي قام به من شبّه المعاهدات الحديثة في زماننا مع اليهود بالمعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في زمانه، وشتان بين المعاهدتين. تعالوا بنا لنرى بنود معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وهذا البند يوضح لنا حقيقة كبرى، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فللمسلمين دين ولليهود دين، وفي هذه المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، يعني: يهود بني النجار، يهود بني حارثة، يهود بني ساعدة، يهود بني عوف وهكذا. ثانياً: أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. أي: الذمة المالية لهم محفوظة تماماً من قبل زعيم الدولة في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم، فليس معنى أننا عاهدناهم، وأن الزعامة في الدولة والرئاسة في الدولة للمسلمين أن يؤخذ حقهم، أو أن تؤخذ ممتلكات لهم، بل لهم حرية التملك ما داموا في عهدهم مع المسلمين في داخل الدولة الإسلامية. وفي نفس الوقت فيها نوع من تميز المسلمين عنهم، فلا تعني هذه المعاهدة أن الأمور ستتميع، ويصبح الاقتصاد الإسلامي ممزوجاً بالاقتصاد اليهودي، لا، ليس للمسلمين دخل بحياتهم، بل لهم حياتهم المستقلة التي يعتزون بها. ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في المعاهدة هذا البند؛ لأن الاقتصاد في تلك اللحظة كان معظمه في أيدي اليهود. ثالثاً: أنه في وقت الحرب يتغير هذا الأمر، فإذا حدث حرب أو حصار على المدينة المنورة، فالجميع بحق المواطنة يدافع عن المدينة المنورة، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب. أي: ما دام المسلمون واليهود يعيشون في بلدة واحدة، لزم الجميع الدفاع عن البلد إذا حصل غزو خارجي. رابعاً: أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين أي: إذا حصل حرب تجتمع النفقة من الطرفين للدفاع عن البلد. وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. كلها أمور تحفظ لليهود شأنهم في داخل الدولة التي يتزعمها محمد صلى الله عليه وسلم. خامساً: هناك بند خطير جداً وفي منتهى القوة: يقول صلى الله عليه وسلم: (وأنه لا تجار قريش ولا من ناصرها) وهذا بند خطير. فهذه المعاهدة مكتوبة، وقع عليها الرسول عليه الصلاة والسلام ووقع عليها اليهود، وهو أنه إذا دهم يثرب أي عدو فعلى الجميع أن يتعاون في صده، حتى ولو كان هذا العدو قريشاً، ولم يكن بين قريش واليهود خلافات قبل ذلك، بل كانت العلاقات الدبلوماسية بينهم جيدة. فاليهود بهذه المعاهدة قرروا أن يقاطعوا قريشاً؛ لأنهم يتوقعون أن قريشاً تهجم على المدينة المنورة، لكن لمعرفة الرسول عليه الصلاة والسلام أن اليهود أهل خداع ومكر وغدر وخيانة، صرح في المعاهدة باسم قريش؛ لئلا تقول اليهود في يوم من الأيام: إن قريشاً مستثناة من هذه المعاهدة، واعلم أن أي معاهدة مع اليهود لابد أن تكون كل كلمة فيها مكتوبة بمنتهى الوضوح، فقوله: (وأنه لا تجار قريش ومن ناصرها)، يعني: إذا هجمت قريش على المدينة فعلى اليهود أن يساعدوا المسلمين في حربهم لا قريشاً في حربها ضد المسلمين، وسنرى مخالفة اليهود لهذا البند في بني قريظة، ونفهم من خلفيات غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني قريظة، عندما عاونت قريشاً على المسلمين في يوم الأحزاب، فنحن نلاحظ أن هناك قوة وصلابة في المعاهدة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يملي الشروط على اليهود. سادساً: قال صلى الله عليه وسلم: (وألا يخرج من اليهود أحد إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم)، وهذا مثل نظام الجوازات في الوقت الحاضر، لا أحد يغادر الدولة إلا بإذن من السلطة نفسها، فليس لقبائل اليهود في داخل المدينة المنورة أن يخرجوا لحرب أو سفر أو لأمر من الأمور إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قد يشعلون نار الفتن خارج المدينة؛ فتجر هذه الفتن الويلات على المدينة المنورة بما فيها من اليهود والمسلمين. إذاً: تأشيرة الخروج والسماح بالسفر كانت في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى الفرق الرهيب بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات التي عقدت في فلسطين مع اليهود. سابعاً: أهم بنود هذه المعاهدة: قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم). لو حصل خلاف بين المسلم وأخيه، أو حصل خلاف بين المسلمين واليهود، فالحكم لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فانظر يا أخي المسلم إلى مدى القوة، ومدى النصر والبأس الذي حققه صلى الله عليه وسلم بهذه المعاهدة، أبعد هذا كله يشبهون المعاهدات الحديثة بهذه المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود؟!

الفوائد التي نتعلمها من المعاهدة النبوية مع اليهود

الفوائد التي نتعلمها من المعاهدة النبوية مع اليهود نتعلم من هذه المعاهدة أن الإسلام دين ينظم كل أمور الحياة، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي علم المسلمين الصلاة والصيام والقيام والقرآن وبناء المساجد يقف بكل صلابة ورجولة وقوة وحكمة وسياسية بارعة، ويعقد مع اليهود معاهدة كانت يد الله عز وجل فيها هي العليا، وقد حصل المسلمون من هذه المعاهدة اتقاء شر اليهود، والتعاون على البر وليس على الإثم، والاعتراف من قبل اليهود بدولة المسلمين الناشئة، وهي مع ذلك لها احترام وعزة ورأي. كما أن هذه المعاهدة فيها تخذيل قوة اليهود عن معاونة قريش، وهذا نجاح كبير جداً، فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام فصل بين الحزبين: حزب قريش وحزب اليهود، وأي مخالفة بعد ذلك سيدفع اليهود ثمنها، والحكم والمرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قبل اليهود ولهم من العمر مئات السنين في داخل يثرب بزعامة الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة، فأي فضل وخير وعظمة ونصر وتمكين في هذه المعاهدة التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود؟!

الفرق بين المعاهدة النبوية مع اليهود والمعاهدات الحديثة معهم

الفرق بين المعاهدة النبوية مع اليهود والمعاهدات الحديثة معهم البون شاسع بين المعاهدة النبوية مع اليهود والمعاهدات الحديثة التي يروق لبعض المسلمين أن يشبهوها بمعاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، ففي معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لم يخالف شرع الله عز وجل، ولم يقدم تنازلاً واحداً مخلاً بالدين، وقد بيّنا أن أهم شرط في العهود مع أهل الكتاب: ألا ينقض أمر من أمور الدين، وعندما أقر العدو على امتلاكه لأرض من أراضي المسلمين فإن هذا إخلال واضح بالدين، وهذا الإخلال قد حصل في كثير من المعاهدات مع اليهود في زماننا هذا، وهو إخلال واضح في الشرع لا يقبل أبداً في معاهدة إسلامية. ومن مخالفة الشرع أن يعقد الصلح في وقت تعين الجهاد، إذ لا تجوز المعاهدة في وقت تعين الجهاد؛ لأن من الأسباب التي تجعل الجهاد فرض عين نزول العدو في الأرض الإسلامية، كنزول اليهود في أرض فلسطين الآن. من مخالفة الشرع أيضاً: الإقرار بالظلم، ومعاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: أن النصر للمظلوم، فلا يجوز عقد معاهدة يكون من جرائها أن يزج في السجون آلاف من المجاهدين، أو يكون من جرائها إقصاء عدد هائل من المجاهدين عن الأرض الإسلامية، أو يكون من جرائها مصادرة الديار والأموال والأراضي وما إلى ذلك. في معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، واليهود في هذا الوقت ظلموا كل الجيران الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين. إذاً: فهذه كلها مخالفات شرعية لا تجوز في معاهداتنا مع اليهود وغيرهم. في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهده كان الخروج من المدينة لا يتم إلا بإذنه، لكن الآن لا يخرج أحد من الفلسطينيين من فلسطين إلا بإذن من اليهود. أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد على اليهود ألا يجيروا قريشًا القوة الأولى في الجزيرة في ذلك الوقت، لكن هل أمن المسلمون شر أعدائهم بهذه المعاهدات الحديثة؟ هل اشترط المسلمون على اليهود ألا يعاونوا عدواً يضرب بلداً من بلدان المسلمين؟ هل اشترطوا عليهم ألا يعاونوا أمريكا مثلاً في ضرب العراق أو سوريا أو إيران أو السودان أو غيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ كل هذا لم يحدث، لكن أهم ما في الأمر أنه عند الاختلاف من يحكم بيننا؟ في معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم كان الحكم هو الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا مصرح به في المعاهدة، ووقع عليه اليهود، أما الآن فالمرد إلى الأمم المتحدة، أو قل: إلى أمريكا، ثم بعد ذلك من أعطى فلسطين لليهود؟ إنها الأمم المتحدة، هي التي أنشأت قرار التقسيم وأعطت جزءًا كبيراً جداً من فلسطين لليهود، وبعد ذلك أعطتها لهم كلها. فالواقع يا إخواني! أن المعاهدات في العصر الحديث مختلفة اختلافاً بيناً حقيقيًا عن المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا وجه للمقارنة أبداً.

أسباب موافقة اليهود على المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم

أسباب موافقة اليهود على المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نقف وقفة مع موافقة اليهود على هذه البنود التي في المعاهدة، مع أنهم قوة لا يستهان بها، فاليهود أعداد كبيرة، ولديهم سلاح وقلاع واستقرار وتاريخ ومال، وأشياء كثيرة جداً وقوية، والدولة الإسلامية ما زالت في طور الإنشاء ولم يعترف بها أحد بعد، فلماذا قبل اليهود بهذه الدنية في هذه المعاهدة؟ ولماذا سلموا رقابهم هكذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مع قوتهم؟ أولاً: من طبيعة اليهود الجبن الشديد، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في أكثر من موضع في كتابه الكريم: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]. وقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96]. فالجبن الشديد شيء داخلي فطري في اليهود، وهذا لابد من معرفته جيداً في تعاملنا مع اليهود. ثانياً: لو أن هذا الجبن الشديد قوبل بجبن أكبر، فإن الكفة ستكون في صالح اليهود، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقف في صلابة وقوة وبأس واضح، والمؤمنون معه على قلب رجل واحد، وما ذلك إلا لوحدتهم. فالقوة التي وقف بها الرسول عليه الصلاة والسلام هو الثبات على المبدأ، وتسابق الصحابة بشتى طوائفهم أوس وخزرج ومهاجرين من مكة المكرمة وغيرهم، وكل هؤلاء يسمعون ويطيعون لقائد واحد بمنهج واحد، وكل هذا كان له أثر كبير في إيقاع الرهبة في قلوب اليهود. ثالثاً: الفرقة الشديدة بين فرق اليهود، فنحن نتكلم على اليهود وكأنهم فريق واحد، لكن بني قينقاع غير بني النضير وغير بني قريظة وكل فرقة لها مع الفرقة الأخرى عداوات، قال الله في كتابه: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر:14]، وفي ظاهر الأمر تظن أن دولة اليهود موحدة، لكن الله يقول: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]. فبنو قريظة كانت تحالف الأوس، وبنو قينقاع وبنو النضير كانا يحالفان الخزرج، وعندما تقوم حرب بين الأوس والخزرج تقوم حرب بين بني قريظة وبين بني قينقاع وبني النضير وهكذا. إذاً: بينهم شقاق وخلاف كبير جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ذلك الأمر، وقال هذه الكلمات في معاهدته بقوة، وهو يعلم أن اليهود لن يجتمعوا أبداً على قلب رجل واحد بنص كلام رب العالمين سبحانه وتعالى. رابعاً: المصالح، فاليهود قبلوا بهذه التنازلات حفاظاً على مصالحهم، هم لا يريدون الدخول في مواجهة مع الأوس والخزرج؛ وذلك لأن الأوس والخزرج هم الذين يشترون منهم ما يبيعونه، فلو حصل حرب مع الأوس والخزرج ضاعت التجارة اليهودية، والتجارة والمال هما عصب حياة اليهود، فهم يحرفون الكتاب ويخونون العهود ويغيرون المواثيق من أجل حفنة من المال، والله عز وجل يقول عنهم في كتابه: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161]. خامساً: الرهبة والجلال الذي يقع في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، وهذا شيء ليس له أدلة في يدك، بل هو شيء رباني وجندي من جنود الرحمن، قال الله عز وجل: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]، بدون أي مبررات مادية يقع الرعب في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، بشرط أن يتحقق الإيمان في قلوب المؤمنين، فالله عز وجل وعد أن ينصر من نصره: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]. وقال صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، قبل أن يلتقي الرسول عليه الصلاة والسلام مع عدوه بشهر يكون العدو مرعوباً، مع أن الفارق في القوة كبير جداً، وهو لصالح العدو، هناك فارق في القوى المادية والأعداد والعتاد والحصون والقلاع والتاريخ والسلاح، أمور كثيرة في صالح العدو، ومع ذلك يقع الرعب في قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يضعه في قلوبهم: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26]. إذاً: لهذه الأسباب جلس اليهود على طاولة المفاوضات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ودب الرعب في قلوبهم، وقبلوا بهذه البنود. في أزمان أخرى إذا رأيت بأس اليهود وقوتهم على المسلمين فاعلم أن المسلمين خالفوا شرع ربهم سبحانه وتعالى؛ ولذلك هانوا على الله عز وجل، فهانوا بعد ذلك على اليهود وعلى غيرهم من الناس، تجد خمسة ملايين يهودي يملون قراراتهم على مليار وأكثر من المسلمين، وهذا ميزان مقلوب, وليس هذا لقوة اليهود، وإنما هو لضعف المسلمين، فلابد أن يعود المسلمون إلى دينهم؛ ليحكموا حكماً صحيحاً في ضوء الشرع الحكيم.

موقف اليهود بعد عقد النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدة معهم

موقف اليهود بعد عقد النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدة معهم هناك شيء مهم في موضوع المعاهدات: وهو أنه لابد للحق من قوة تحميه، فإذا كنت معاهداً لليهود فلابد أن تكون لك قوة تحميك، ليس من الحكمة مطلقاً أن تعاهد اليهود دون أن يكون لك قوة مخوفة لليهود، حتى ولو كانت كل البنود شرعية؛ لأن من طبيعتهم التمرد والمخالفة ونقض العهود، فإذا لم يكن معك قوة فما أيسر المخالفة عندهم، وانظر إلى قول الله عز وجل: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100]. فلو افترضنا أن اليهود خالفوا مخالفة صريحة للمعاهدة ماذا ستعمل؟ هل ستكتفي بالشجب والإدانة والصراخ والولولة ولطم الخدود؟ لا؛ لأن هذا كله لا ينفع مع موازين القوى العالمية. إذاً: المعاهدات مع اليهود تحتاج إلى رجولة، وتحتاج إلى قوة وشجاعة، فلابد أن ترجع إلى معاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ماذا فعل؟ ولابد أن تعرف إذا خالف اليهود ماذا تفعل؟ وكيف تتصرف؟ فماذا فعل اليهود بعد هذه المعاهدة؟ مع وفاء المسلمين بالعهد إلا أن اليهود بدءوا يتحرشون بالمسلمين، وكعادة اليهود يتحرشون دائماً بالمسلمين بصورة غير مباشرة، أي: يدفعون غيرهم للعمل دون أن يكون لهم ظهور واضح في الأمر.

تأثير اليهود فكريا على المسلمين والمشركين في المدينة

تأثير اليهود فكرياً على المسلمين والمشركين في المدينة أولاً: التأثير الفكري على المسلمين وعلى مشركي المدينة، فهناك أناس يفكرون في الإسلام ويريدون أن يدخلوا فيه، فبدأ اليهود في إثارة الشبهات، كما هو معروف الآن بالإعلام اليهودي، فالإعلام اليهودي في هذا الوقت الحاضر أداة من أكبر أدوات الحرب لديهم. كذلك نفس هذا النظام كان يعمل أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال: يعلنون أمام الأنصار أن هذا ليس هو الرسول الذي في كتبهم، ولسان حالهم: نحن أدرى بكتبنا، كان معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه في حوار مع اليهود. قال لهم: يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم. يعني: كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله عز وجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم كفروا به كما رأينا، فـ معاذ بن جبل يقول لهم متعجباً: كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فما الذي غيركم؟ فقال رجل من أشراف بني النضير اسمه سلام بن مشكم: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. الشيء الآخر في التأثير الفكري: أنهم فكروا في خطة في منتهى الخبث، فكروا أن يؤمنوا قليلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتركوه ويقولوا: لما دخلنا معه وجدنا أنه على باطل؛ فيهتز المسلم الجديد ويتردد الذي يفكر في الإسلام. وقال الله عز وجل في ذلك: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]. ثم إنهم بدءوا يكذبون القرآن الكريم، على سبيل المثال: القرآن الكريم ذكر أن الجنة للمؤمنين، وأن النار لمن كذب وكفر، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]. فاليهود يقولون: نحن سندخل النار فترة محدودة جداً من الزمن قيل في بعض الروايات: سبعة أيام، وفي بعض الروايات: أربعين يوماً وبعد ذلك نخرج من النار، ويدخل الله عز وجل المسلمين النار أبد الآبدين، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تمني الموت، فيموت أكذب الفريقين، فرفضوا ذلك. قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا. وقال الله عز وجل في ذلك: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:94 - 95]. فهم يعلمون أنهم إذا تمنوا الموت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعرف من هو أكذب الفريقين فإنهم هم الذين سيموتون؛ لأنهم يعلمون أنهم هم الأكذب؛ ولذلك لم يفعلوا. وقس على هذا الأمر أحداثاً كثيرة؛ حتى إنهم في النهاية أنكروا نبوة سليمان عليه السلام، وذلك لأن الله عز وجل ذكر في كتابه أنه نبي، فأنكروا نبوته واتهموه بالسحر، وطعنوا في أنبيائهم للطعن في القرآن الكريم، والآيات التي نزلت في ذلك كثيرة، وليس المجال للتفصيل فيها. إذاً: من أهم وسائل حرب اليهود للمسلمين هو التأثير الفكري عن طريق الحرب الإعلامية التي فعلوها، وإثارة الشبهات عند المسلمين، أو عند من يفكر في الإسلام.

تأثير اليهود الاقتصادي على أهل المدينة

تأثير اليهود الاقتصادي على أهل المدينة ثانياً: التأثير الاقتصادي، فقد ذهبوا إلى الأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمروهم ألا ينفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل في ذلك: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] أي: يكتمون التوراة، فهم يبخلون بالمال، ويأمرون الأنصار بالبخل بمالهم، وبذلك يؤثرون سلباً على اقتصاد المسلمين.

محاولة اليهود التفرقة بين المسلمين من الأنصار في المدينة

محاولة اليهود التفرقة بين المسلمين من الأنصار في المدينة ثالثاً: محاولة التفرقة بين الصف المسلم، وفك الرباط القوي الذي صنعه صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج، وقام بهذه المحاولة رجل يهودي كبير في السن اسمه شاس بن قيس. قال كلمة هي في الحقيقة حكمة، قال: يا معشر يهود! تعلمون والله أنه لا مقام لكم في يثرب إذا اجتمع أبناء قيلة. وأبناء قيلة: هم الأوس والخزرج؛ وذلك لأنه لو حصل هذا الاجتماع فإنه ستتوطد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام داخل المدينة المنورة، وفي هذا إيذاء لليهود، فهم يكرهون الرسول عليه الصلاة والسلام. كذلك اليهود تجار سلاح، وكانوا يربحون أموالاً طائلة من الحرب بين الأوس والخزرج. فالرسول صلى الله عليه وسلم وحد الأوس والخزرج الآن، فلا يوجد هناك حرب، وستضيع قوة كبيرة جداً من القوى الاقتصادية عند اليهود، وهي قوة تجارة السلاح، فبعث شاس بن قيس شاباً وقال له: اجلس في مجلس فيه الأوس والخزرج واذكر يوم بعاث، وذكرهم بأشعار يوم بعاث، فتتحرك فيهم النخوة والحمية والقبلية والجاهلية فيصطرع القومان، وبالفعل ذهب ذلك الشاب وعمل هذا العمل، وجلس يقول تلك الأشعار بجانب هذا وهذا، ودخل الشيطان بين الأوس والخزرج، مع أنهم من عمالقة الإيمان حقيقة، لكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، وقام واحد من الأوس وواحد من الخزرج فتصارعا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة، أي: نرجع مرة أخرى إلى يوم بعاث ونجعلها حرباً جديدة، فغضب الفريقان جميعاً الأوس والخزرج، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة -مكان يدعى الحرة الآن- السلاح السلاح، فخرجوا إلى الحرة في لحظة من لحظات الضعف التي دخل فيها الشيطان فيها إلى قلوب الأوس والخزرج، وكادت أن تقوم مهلكة عظيمة بين الفريقين. كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً وسط مجموعة من المهاجرين، فلما وصله النبأ الخطير قام مسرعاً يجر ثوبه حتى وصل إلى الأنصار وقال كلمات تختلف تماماً عن الكلمات التي قالها الرسول عليه الصلاة والسلام في حل المشكلة القديمة التي دارت قبل ذلك بين مشركي الأوس والخزرج ومؤمني الأوس والخزرج، والتي هيج هذه المشكلة عبد الله بن أبي ابن سلول. ففي الحدث السابق ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبلية، وذكرهم بالتحدي لقريش، لكن في هذا الحدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المسلمين! الله الله) ذكرهم برابطة الإسلام وذكرهم بالله عز وجل: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟)، علمهم أن دعوى الفرقة بين المسلمين دعوى الجاهلية، هكذا عرفها صلى الله عليه وسلم، فدعوى القومية: أنا أوسي وأنت خزرجي من دعوى الجاهلية، ثم قال: (بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم الجاهلية واستنقذكم بها من الكفر، وألف بين قلوبكم؟) فالحوار مختلف تماماً، يذكرهم برب العالمين سبحانه وتعالى، ويذكرهم بالإسلام، يذكرهم بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن نوعية المخاطب مختلفة، وشتان بين الخطاب لمجموعة مختلطة من المشركين مع المؤمنين، والخطاب لمجموعة خالصة من المؤمنين. وعرف القوم أنها نزغة من نزغات الشيطان، وكيد من أعدائهم، فبكوا في لحظتهم وتأثروا جميعاً في لحظة واحدة، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، كأنه لم يحصل شيء. مرت المشكلة بسلام، ولم يحدث أذى في داخل الصف المسلم، لكن ظهرت خطورة اليهود على المسلمين، وأنزل الله عز وجل في شاس بن قيس قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98 - 99]. وأنزل سبحانه وتعالى أيضاً قولاً في الأوس والخزرج. قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100 - 101]. وتتوالى الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ

اتهام فنحاص ربنا عز وجل بالفقر ورد ابي بكر الصديق عليه

اتهام فنحاص ربنا عز وجل بالفقر ورد ابي بكر الصديق عليه إن الصبر والحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته شجع اليهود على تجاوزات أكبر، من ذلك ما حدث عندما دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه بيت المدراس، وهو بيت كبير يعلم فيه اليهود التوراة، ويقوم فيه بالتعليم حبر من أحبار اليهود اسمه فنحاص، ومعه آخر يساعده اسمه أشيع، فدخل أبو بكر على اليهود وهم يعلمون التوراة بطريقتهم، بتحريفها وتزويرها وتبديلها، وبإنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دخل الصديق وسمع هذا الكلام قال لـ فنحاص ومن معه: يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص لـ أبي بكر: والله يا أبا بكر! ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! -أعوذ بالله يعني: لسنا محتاجين إليه وإنما هو الذي يحتاج إلينا- وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا! وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا. تخيل معنى الكلمات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فهو يقول: إن هذا نوع من الربا، ألست تعطي الله أموالاً وهو يضاعفها لك، فهذا ربا، فكيف ينهى عن الربا ويأخذه؟ فانظروا إلى مدى اعوجاج هذا الخبيث، هذا هو فنحاص، كلام يعبر عن نفسية ممزقة تماماً، هي نفسية فنحاص ومن كانوا على دينه. لم يجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كلاماً يرد به عليه، فرد بيديه وضرب فنحاص ضرباً شديداً في وجهه حتى اختفت معالم وجهه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي له الموقف، وكان تصرف أبي بكر على غير ما اتفق عليه المسلمون، إذ كان المسلمون مأمورين بالعفو والصفح وعدم الإيذاء. فجاء فنحاص يشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله أبو بكر به، وقال له: انظر ما صنع بي صاحبك، فقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق: (ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن عدو الله هذا قال قولاً عظيماً، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فأنكر فنحاص وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]). وهكذا أنزل الله آيات تصدق قول الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكشفت ما قاله فنحاص عليه لعنة الله، وأنزل الله عز وجل في حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] مع أن الغضب هنا كان لله عز وجل وليس للناس، ومع أن العقاب الذي فعله الصديق يعتبر مناسباً للحدث؛ لأنه اعتبر أن الدفاع الذي فعله كان مناسباً للجريمة التي فعلها فنحاص؛ لأن فنحاص سب الله عز وجل سباً وقحاً وجرح دين المسلمين، وهذا مخالف للعهد، وكان الصديق يستطيع قتل فنحاص، فقد قال لـ فنحاص كما في إحدى الروايات: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك يا عدو الله! فاكتفى الصديق بهذا الأمر. إذاً: مع كل هذا إلا أن الله عز وجل أمر المسلمين بالتعقل والصبر، حتى وإن كانت الجريمة قد تمت؛ لأن الدخول في حرب في هذا التوقيت لعله يفتح على المسلمين أبواباً كبيرة من الفتن، ولعله يؤدي إلى تداعيات لا يتحملها موقف المسلمين في هذه اللحظة. فيا ترى! هل سيستمر رد فعل المسلمين على كل هذا الإيذاء والتعدي على حرمات رب العالمين سبحانه وتعالى، بمجرد الصبر وتحمل الأذى، وعدم الدخول في صدامات أو صراعات؟ لا شك أن هذه مرحلة، وأن المسلمين بتغير الظروف سيغيرون هذه المرحلة، وستتغير التكليفات التي عليهم. وسنرى إن شاء الله في اللقاءات القادمة كيف تغيرت الظروف، وأدت إلى تغيرات إستراتيجية كبرى في رد فعل المسلمين لأي إيذاء يقع على الأمة الإسلامية. إ

الطريق إلى بدر

سلسلة السيرة النبوية_الطريق إلى بدر شرع الله سبحانه القتال لاسترداد الحقوق وحفظ حوزة الإسلام ونشر الدين، ولكنه كان على مراحل تتلاءم مع نمو قوة المسلمين، ومن حكم مشروعيته تمييز الخبيث من الطيب، وتربية النفوس المؤمنة على استرداد حقها والمحافظة على كرامتها.

مرحلة الإذن للمسلمين بالقتال

مرحلة الإذن للمسلمين بالقتال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين أو من اليهود. ورأينا أن العلاقة كانت متأزمة إلى حد كبير جداً مع مشركي المدينة ومع اليهود، وكذلك موقف قريش كان شديد العداوة. نريد أن نقف وقفة ونحلل موقف الرسول عليه السلام في هذا الوقت. وقد مر علينا تقريباً ستة أشهر من ساعة بدء المرحلة المدنية من السيرة النبوية. الوضع داخل المدينة كان فيه شيء من الاستقرار، لكنه استقرار على بركان قابل للانفجار في أية لحظة. فالمسلمون في هذا الوقت يحكمون المدينة المنورة، لكن هناك قوى خطيرة جداً ما زالت تنتشر في المدينة، وهذه القوى كانت قوى موزعة ما بين مشرك لا يؤمن بالله عز وجل، مثل عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين، أو يهودي منحرف علم الحق واتبع غيره. والوضع خارج المدينة أيضاً كان فيه بعض الاستقرار، لكن هناك اضطرابات كثيرة أيضاً، وهناك معاهدات مع بعض القبائل المحيطة بالمدينة، لكن تهديد قريش للمدينة كان مستمراً. فعلاقات قريش بالأعراب حول المدينة كانت قوية، ولا يستبعد أبداً أن يحدث هجوم قرشي شامل على المدينة المنورة بتعاون مع الأعراب أو مع المشركين داخل المدينة أو مع اليهود أو مع غيرهم. فماذا يحدث إن بوغت المسلمون بهذا الهجوم؟ القتال حتى هذه اللحظة كان منهياً عنه، ولو حدث أن هجم المشركون فإن القاعدة التي كانت سارية في مكة: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]. لكن الوضع في هذا الوقت تغير، والمسلمون الآن أصبح لهم شوكة، وأصبح لهم كيان ودولة، ولا يستقيم لمن أراد أن يقيم دولة إلا أن يكون قادراً على الدفاع عنها، لكن كيف يكون الدفاع، ولم ينزل الأمر بالقتال بعد؟ نزل حكم الله عز وجل بالإذن بالقتال للمسلمين، وتغير الوضع كله وتغيرت المرحلة، نزل قول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]. فالتشريع في غاية الإحكام ليس عشوائياً أبداً، بل هناك فقه المرحلة. فالمرحلة السابقة في مكة كانت تستلزم الكف والإعراض، أما هذه المرحلة فتستلزم الإذن بالقتال فقط وليس الفرض، فالإذن حسب الاستطاعة للقتال وحسب التقدير للقوة، لكن حينما يكون فرضاً فليس للمسلمين إلا أن يقاتلوا. وسنلاحظ التدرج الجميل في التربية، فإنه لا يحمل الناس مرة واحدة على شيء يركونه. فالناس بصفة عامة تكره القتال، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. فبما أن عامة الناس تكره القتال كان هناك نوع من التدرج، المرحلة الأولى إعراض، وهذه المرحلة إذن، وبعد ذلك فرض، وبعد ذلك قتال عامة الناس الذين يصدون عن سبيل الله.

الاستراتيجية التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم لضرب مقدرات قريش ومهاجمة قوافلها

الاستراتيجية التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم لضرب مقدرات قريش ومهاجمة قوافلها هذا الإذن بالقتال كان بداية تغير استراتيجي محوري مهم في خط سير المدينة المنورة، فقد أذن للمسلمين الآن أن يرفعوا عن أنفسهم الظلم الذي وقع عليهم، إن رأوا أن قدرتهم تسمح لهم بهذا. فمن هو الذي ظلم المسلمين؟ إن الذي أوقع عليهم الظلم في الأساس هم أهل مكة الكافرين، ولم يكن الظلم من شخص واحد، بل كان ظلماً متعدداً مركباً. ظلم في الجسد، بالتعذيب والحرق والإغراق والقتل أحياناً. ظلم في المال بمصادرته بدون وجه حق، واغتصابه بالقوة. ظلم في الديار في الطرد منها وأخذها، بل وبيعها وأكل ثمنها. ظلم في النفس بالسب والقذف وتشويه السمعة. ظلم في الحرية بالحبس والعزل عن المجتمع، ظلمات بعضها فوق بعض. فماذا يعمل المسلمون حتى يرفعوا هذا الظلم عن أنفسهم؟ لو هجموا على مكة، قد لا يكون هذا أمراً حكيماً في ذلك التوقيت، إذ قوة المسلمين ما زالت ناشئة، وأعداد المسلمين ما زالت قليلة، والمدينة مضطربة بالمشركين واليهود، وليس من الممكن أن نترك المدينة لقتال أهل مكة، وفيها عدد هائل من المشركين واليهود الذين لم يؤمنوا بعد. إذاً: الحل كان في مهاجمة قوافل قريش التي تتجه إلى الشام. فهذه القوافل لا تحميها إلا قوة عسكرية بسيطة، وتقدر القوة الإسلامية أن تهاجمها، كما أن هذه القوافل تمر قريباً من المدينة، فلن يكون هناك جهد كبير على المسلمين، وفي نفس الوقت سيرجعون إلى المدينة بسرعة قبل أن تحصل مشاكل من اليهود أو المشركين. ثم أنهم سيستعيدون جزءاً من أملاكهم المسلوبة، ويوقعون الرهبة في قلوب أعدائهم، فكانت هذه فكرة فيها أكثر من فائدة، وبذلك يرفع المسلمون الظلم عن كاهلهم بمهاجمة قوافل قريش. وطبعاً هم في حالة حرب حقيقية، وليس هناك أي مجال لما يطعن به المستشرقون والعلمانيون بأن المسلمين يغيرون على الآمن من قريش، هذه حرب معلنة بين دولة المدينة المسلمة وبين دولة مكة الكافرة، وكل طرف من الطرفين يستحل دم الآخر وماله، وكل طرف من الطرفين يضرب مصالح الآخر، وهذا عرف في حالة الحرب متعارف عليه في كل الأزمان والأماكن، والإسلام دين واقعي يرد القوة بالقوة، ويشهر السيف في وجه من أشهر السيف عليه: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:41 - 42]. ثم بعد ذلك يلومون المسلمين أنهم يهاجمون قافلة من قوافل قريش التي سلبت كل أموال المسلمين، ولا يلومون من سلب أموال شعب بكامله، وهذا يحصل كثيراً ونراه في التاريخ. كذلك يستاءون لو أن المسلمين قتلوا من قتلهم قبل ذلك وعذبهم وشردهم، ولا يستاءون ممن أباد الشعوب بالبارود والنابالم واليورانيوم والقنابل العنقودية وغير ذلك. موازين مختلفة ومكاييل متباينة؛ لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله عز وجل.

تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الفهم الصحيح للهدف من وراء القتال

تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الفهم الصحيح للهدف من وراء القتال إذاً: أخذ المسلمون قراراً بمهاجمة قوافل قريش المتجهة إلى الشام، لكن قبل التخطيط العسكري لمهاجمة قوة قريش لا بد من تربية خاصة لنفوس المسلمين. الآن هناك تشريع جديد، قانون يسمح بالقتال، فلابد أن نعرف لماذا سنقاتل؟ وماذا لو قتلت في المعركة؟ وماذا لو انتصرت؟ إن هذه الأمور لم يعرفها المسلمون قبل ذلك؛ لأن التشريع جديد والظروف جديدة، لكننا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ يعلم المسلمين ليس فقط كيف يقاتلون، ولكن في سبيل من يقاتلون. فالقتال في الإسلام ليس إلا في سبيل الله عز وجل، ليس في سبيل النفس، ولا القائد ولا في سبيل الدنيا بأسرها، إنما هو في سبيل الله؛ لذلك فإنك تجد دائماً كلمة الجهاد في القرآن أو في السنة تأتي دائماً مقرونة بكلمة: (في سبيل الله) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111]. إلى آخر الآيات. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول عليه السلام قال: (والذي نفسي بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل). وتجد هذا متكرراً في القرآن والسنة، وهو مخالف تماماً لأغراض الحرب عند غير المسلمين, أو عند الجيوش العلمانية من المسلمين، منهم من يقاتل رغبة في سبيل المال أو السلطة أو التملك، ومنهم من يقاتل رهباً وخوفاً من القائد أو العقاب، فليست هناك قضية حقيقية يقاتل من أجلها، ومن ثم يقاتل بلا حماسة ولا روح ولا هدف؛ لذلك فليس عنده أي مانع من أن يهرب من الجيش إن أمكن الهروب، أو يهرب من أرض القتال نفسها؛ لأنه ضاعت النوايا والأهداف، أما القتال في الإسلام فمختلف، هو قتال في سبيل الله، والله عز وجل حي لا يموت؛ لذلك فإن روح الجهاد عالية بصورة مستمرة وتلقائية في كل فرد. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قام بالإعداد التربوي والنفسي على أعلى مستوى، وأصبح الصف الإسلامي فعلاً جاهز للصدام المروع مع قريش، لكن مع ذلك لم يخرج الرسول عليه السلام إلى القتال خروجاً عشوائياً دون تخطيط، بل جهز مسرح العمليات بقدر ما يستطيع، كما قلنا قبل ذلك أنه عقد بعض المعاهدات مع القبائل التي تقع في غرب المدينة المنورة، وهذه القبائل تسيطر على المنطقة التي تمر منها قوافل قريش، فالرسول عليه السلام عقد معاهدات جوار ودفاع مشترك، وبهذه المعاهدات سيحيد على الأقل جانب هذه القبائل، وسيطمئن إلى أنه لن يضرب من ظهره في أثناء الحرب مع قريش، وسيقوم كما سنرى بعقد معاهدات أخرى كلما استطاع مع بعض القبائل الأخرى في المنطقة وحولها.

أسباب تكوين الدوريات الإسلامية من المهاجرين فقط

أسباب تكوين الدوريات الإسلامية من المهاجرين فقط بدأت الدوريات العسكرية الإسلامية بالفعل تجوب المنطقة حول المدينة المنورة بحثاً عن قوافل قريش المتجهة إلى الشام. ونلاحظ شيئاً مهماً في هذه الدوريات، فهي مكونة فقط من المهاجرين وليس فيها أنصاري واحد، وذلك لعدة أسباب: أولاً: المهاجرون هم الذين وقع عليهم الظلم من قريش، فحربهم مع قريش ستبقى حرباً مفهومة عند كل أهل الجزيرة العربية، فيعذر أهل الجزيرة العربية المسلمين تماماً في هذه الحرب، وبذلك لا تفهم صورة الإسلام بطريقة خاطئة وبالذات في أيام الإسلام الأولى التي لم يسمع الناس فيها عن الإسلام. ثانياً: المهاجرون سيكونون أكثر حمية وأشد قوة في حربهم مع قريش؛ لكونهم يستردون حقاً شخصياً لهم سلبته قريش؛ لذا ستكون فرصة النصر في جيش المهاجرين أكبر من فرصة النصر في الجيش المختلط من المهاجرين والأنصار. ثالثاً: المهاجرون يعرفون أهل قريش، ويعرفون طرق حربهم وطرق قتالهم، فقد عاشوا بين أظهرهم فترة طويلة من الزمان، فهم يعرفون القادة، ويعرفون إمكانياتهم العسكرية بكل التفاصيل، وهذا الأمر سيعطي فرصة أكبر للنصر. رابعاً: رفع الروح المعنوية للمهاجرين، فالمهاجرون تركوا الديار والأموال، وهذه فرصة لرفع الروح المعنوية، وتعويض ما خسروه مادياً ومعنوياً. وقد يكون هناك أسباب أخرى لاختيار المهاجرين قد لا نعلمها، لكن السبب الرئيس في هذا الأمر: هو أن الرسول عليه السلام لم يرد أن يحرج الأنصار بالخروج للقتال ضد قريش خارج المدينة؛ لأن الأنصار لما بايعوا بيعة العقبة الثانية بايعوا على أن ينصروا الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل المدينة المنورة إن أتى إليهم، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة. والرسول صلى الله عليه وسلم لو أمر الأنصار لأطاعوه، لكنه لا يريد أن يسبب لهم الإحراج، وكان صلى الله عليه وسلم وفياً في كل عهوده، لا يأخذ الناس أبداً بسيف الحياء.

سرايا وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم

سرايا وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم كما أننا وقفنا وقفة مع نوعية المقاتلين لا بد أن نقف وقفة أخرى مع أولئك الذين استخلفهم صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة عندما خرج بنفسه للقتال. هناك ثمان غزوات وسرايا تمت قبل غزوة بدر، من رمضان في السنة الأولى هجرية إلى رمضان في السنة الثانية هجرية، سنة كاملة تمت فيها ثمان غزوات وسرايا. الغزوة: هي التي كان يخرج فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحينها كان يستخلف أحد أصحابه على المدينة المنورة. أما السرية فهي التي يرسل فيها بعض الجنود بقائد من الصحابة، ولا يخرج فيها صلى الله عليه وسلم. إذاً: لرسول صلى الله عليه وسلم أربع سرايا وأربع غزوات، فالأربع الغزوات التي خرج فيها استخلف على المدينة أناساً من أصحابه، استخلف مرة سعد بن عبادة، ومرة سعد بن معاذ، ومرة زيد بن حارثة، ومرة أبا سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين. أما تنوع الرجال فأمر مفهوم، فقد كان يربي قيادات تستطيع تحمل المسئولية، ويدربهم على القيادة تدريباً حقيقياً واقعياً. كما أن قيادة سعد بن عبادة وسعد بن معاذ للمدينة المنورة في غياب الرسول عليه السلام أمر مفهوم أيضاً؛ وذلك لأن سعد بن عبادة سيد الخزرج، وسعد بن معاذ سيد الأوس، لكن اللافت للنظر حقاً هو ولاية زيد بن حارثة رضي الله عنه في سرية، وأبي سلمة بن عبد الأسد في سرية أخرى، وهذان الاثنان من المهاجرين وليسا من الأنصار، وولايتهم على المدينة المنورة مستغربة جداً، وإن كانت تدل على شيء فإنها تدل على أمور في غاية الرقي، منها: طاعة الأنصار الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. منها: أن المدينة أصبحت كياناً واحدًا، لا فرق فيها بين مهاجر وأنصاري. منها: زهد الأنصار في الدنيا، وعدم رغبتهم أبداً في الرئاسة أو الملك. فإذا أضفت إلى كل ذلك أن زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه كان مولى يباع ويشترى علمت مدى الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب كافة، حتى قبل أشراف الأنصار وأشراف المهاجرين بولاية زيد بن حارثة عليهم، ما دام يحكمهم بالإسلام وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. والجميل في ذلك أن هذا التغير الهائل في طبيعة العرب لم يتطلب أعواماً ولا قروناً، بل عدة شهور فقط! زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه تولى قيادة المدينة لما خرج الرسول عليه والسلام في غزوة سفوان، وكان غزوة سفوان في ربيع الأول من السنة الثانية هجرية، أي: بعد حوالي اثني عشر شهراً من قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة. فانظر إلى تربية الإسلام كم هي جميلة، وانظر إلى التغير الهائل الذي يحدثه الإسلام في قلوب الناس، وهذا لا يكون إلا لمنهج رب العالمين سبحانه وتعالى. أما بالنسبة للسرايا والغزوات التي حصلت فكانت بالترتيب الآتي: كانت ثمان غزوات وسرايا مثل ما قلنا. فالسرية الأولى سرية سيف البحر، سيف البحر، يعني: ساحل البحر بكسر السين وليس بفتحه، كانت في رمضان سنة واحد هجرية. السرية الثانية: سرية رابغ في شوال سنة واحد هجرية، بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب رضي الله عنه. السرية الثالثة: سرية الخرار في ذي القعدة سنة واحد هجرية، بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. ثم بعد ذلك غزوة الأبواء وتسمى ودان في صفر من السنة الثانية هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تحدث في ذي الحجة ومحرم غزوات وسرايا؛ لأنها أشهر حرم ليس فيها قتال. بعد ذلك: غزوة بواط، في ربيع أول سنة اثنين هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم. بعد ذلك: غزوة سفوان في ربيع أول أيضاً سنة اثنين هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم. السابعة: غزوة ذي العشيرة في جمادى الأولى سنة اثنين هجرية، بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم. الثامنة: سرية نخلة في رجب سنة اثنين هجرية بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه.

الفوائد المستنبطة من السرايا والغزوات

الفوائد المستنبطة من السرايا والغزوات بنظرة عامة على هذه السرايا والغزوات نجد أنه لم يحدث قتال في المعارك السبعة الأولى تقريباً، ومع ذلك لم تخل هذه المعارك من فوائد كثيرة جداً. أولاً: هذه المعارك كسرت الحاجز النفسي الكبير الذي كان عند المسلمين. فالمسلمون كان عندهم حاجز نفسي، فقد مكثوا أربع عشرة سنة بالتمام والكمال لا يقاتلون. والمسلمون أمروا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة هذه المدة، وترك الدفاع عن النفس كل هذه الفترة قد يورث ضعفاً في النفس أو شعوراً بقلة الحيلة، وقد يؤدي إلى ما يسمى بإلف الذل أو الهوان، فجاءت هذه السرايا أو الغزوات البسيطة نسبياً كوسيلة متدرجة للصعود بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة إلى حالة الاستنفار والنهوض، ومن حالة الصبر على عدم الدفاع إلى حالة الصبر على تبعات الهجوم، فقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة مشردة، إلى كونهم دولة ممكنة، لها جيش ينفذ مخططات ويحافظ على الأمن ويرهب الأعداء ويحفظ الكرامة وهكذا، فكانت فعلاً نقلة نفسية في منتهى الروعة. ثانياً: هذه الغزوات والسرايا دربت الصحابة على فنون القتال، ودربتهم على ركوب الخيل والحرب على الإبل والمناورة والخطة والتحرك والترقب، ففرسان العرب بصفة عامة كانوا يركبون الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، لكن ليس من الممكن أن ندخل حرباً ضخمة بدون تدريب، خاصة أن المسألة ليست مجرد مسابقة أو استعراض، بل مسألة حياة أو موت، مسألة بقاء أمة أو فناء أمة. ثالثاً: هذه الدوريات العسكرية عرّفت المسلمين الدروب والطرق حول المدينة المنورة، فالمهاجرون ليسوا من أهل المدينة المنورة، ولا يعرفون الطرق والمسالك حول المدينة المنورة. رابعاً: هذه الدوريات أشعرت القبائل المحيطة بقوة المسلمين، وكشفت جرأة المسلمين في مواجهة قريش، مع أن قريشاً هي أكبر القبائل العربية وأقواها، فلا شك أن هذه الدوريات أدخلت الرهبة في قلوب هذه القبائل وبالذات الأعراب، وبدءوا يحسبون للمسلمين ألف حساب. خامساً: نتيحة هذه القوة التي ظهرت للمسلمين استطاع المسلمون أن يقوموا بعقد بعض المعاهدات مع بعض قبائل المنطقة غير قبيلة جهينة، كقبيلة بني ضمرة وغيرها من القبائل، من أجل ذلك رسخ المسلمون أقدامهم في المنطقة. سادساً: أن هذه الدوريات العسكرية أرسلت رسالة واضحة إلى قريش، هذا إعلان رسمي للحرب من قبل الدولة الإسلامية، مع أن قريشاً أعلنت الحرب من قبل، لكن هذا أول إعلان رسمي من الدولة الإسلامية للحرب على قريش. فالعلاقة لن تستمر بين المسلمين وقريش كما كانت من قبل، لن تستمر كعلاقة ظالم بمظلوم، أو كعلاقة مستبد بمقهور لا، ستصبح من الآن علاقة دولة بدولة أخرى تكافئها وتناظرها. ومن المؤكد أن هذا سيؤثر سلباً على نفسية أهل مكة، فإنهم يرون قوة المسلمين تتنامى والأعداد تتزايد، وجرأة المسلمين تصل إلى حد مهاجمة قريش لا مجرد الدفاع عن النفس. فهذه الفائدة كانت من أعظم فوائد هذه الدوريات الإسلامية.

وقفات مع سرية نخلة

وقفات مع سرية نخلة إذا كان هذا التحليل ينطبق على السبع المعارك الأولى، فالمعركة الأخيرة التي كانت سرية نخلة، تحتاج إلى وقفة خاصة. هذه السرية خرجت من المدينة المنورة في شهر رجب سنة اثنين هجرية؛ لاعتراض قافلة لقريش ستمر بمنطقة نخلة، ونخلة منطقة تقع بين مكة والطائف، ولهذه السرية مشكلتان كبيرتان، المشكلة الأولى في المكان والمشكلة الثانية في الزمان. أما مشكلة المكان: فهي أن منطقة نخلة تقع على بعد حوالي أربعمائة وثمانين كيلو متراً من المدينة المنورة، فهي مسافة طويلة جداً خاصة أن السرية عدد الخارجين فيها اثنا عشر مقاتلاً فقط، أمرها خطير جداً جداً، وفي نفس الوقت نخلة قريبة جداً من مكة، فلو علم المشركون بأمر هذه السرية، فإن قتال هذه السرية سيكون أمراً ميسوراً على جيش مكة. من أجل هذا كان من المتوقع أن المسلمين يترددون في أمر الخروج في هذه السرية؛ لذلك اختار الرسول عليه السلام طريقة فريدة جداً لإخراج هذه السرية، لم يكرر هذه الطريقة مع سرايا أخرى. هذه الطريقة: أنه كتب تكليف هذه السرية في كتاب مغلق، وأعطاه لقائد السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وأمره أن يسير بهذا الكتاب المغلق مدة يومين، وبعد يومين يفتح الكتاب ويقرؤه، وبعد أن فتح عبد الله بن جحش الكتاب وجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم) وأمره صلى الله عليه وسلم ألا يكره من معه على الخروج إلى هناك، أي: كل واحد يخرج بإرادته الكاملة، وهنا قام عبد الله بن جحش رضي الله عنه وقال لأصحابه: من أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا جميعاً معه واتجهوا إلى منطقة نخلة. والذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل هذا التوجيه الفريد لهذه السرية هو صعوبة المهمة وبعد المسافة، فلو أنه أمر الصحابة أمراً مباشراً في المدينة بالخروج إلى هذه المسافة البعيدة قد يتردد البعض في التكليف، لكن إذا أتاهم التكليف بعد قطع مسيرة يومين -خمس الطريق تقريباً- فإنهم سيكونون على الاتجاه ولن يترددوا إن شاء الله، ومع ذلك لم يرد صلى الله عليه وسلم أن يفرض عليهم هذا الأمر الشاق فرضاً، بل ترك لهم حرية الاختيار، وهو يعرف درجة إيمانهم، وثيق ثقة كاملة في أنهم سيكملون المهمة ويصلون إلى نخلة، وهذا الذي حصل بالفعل. هذه كانت مشكلة المكان. أما مشكلة الزمان فكانت أصعب، فهذا الخروج كان في شهر رجب، ورجب كما تعرفون من الأشهر الحرم، والعرب بكاملهم سواء كانوا من المسلمين أو من الكافرين يحرمون القتال في الأشهر الحرم. وكثير من الفقهاء يقولون: إن هذا الحكم نسخ، لكن في ذلك الوقت هذا الحكم لم يكن منسوخاً، فالقتال في الشهر الحرام حرام على المسلمين وعلى الكافرين، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بالقتال لا تصريحاً ولا تلميحاً. قال لهم: (فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم) فقط. وصل الصحابة بالفعل إلى منطقة نخلة، ووجدوا القافلة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، لكنهم وصلوا في آخر ليلة من ليالي الشهر الحرام رجب، والقافلة متجهة إلى مكة، وبعد ليلة واحدة ستكون داخل مكة، فلو تركوا القافلة حتى تنتهي ليالي شهر رجب ستدخل القافلة حرم مكة، والقتال في مكة حرام كذلك، وستفلت القافلة، وهذه القافلة كانت فرصة كبيرة للمسلمين. أولا: ستكون أول ضربة لقريش؛ لأن كل الغزوات والسرايا لم تسفر حقيقة عن أي غنائم أو انتصارات. ثانياً: هذه الضربة في عمق الجزيرة العربية بعيداً جداً عن عقر دار المسلمين، وقريباً جداً من عقر دار الكافرين، فهي تحمل جرأة لا تخفى على أحد، ومن المؤكد أنه يكون لها أثر سلبي ضخم على المشركين. ثالثاً: لم يكن في القافلة إلا أربعة رجال فقط، فالحراسة ضعيفة، والمسلمون كانوا عشرة، كان عددهم قبل ذلك اثني عشر رجلاً، لكن اثنين منهم سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما ضل لهما بعير قبل وصولهم إلى نخلة، فذهبا للبحث عنه فوجد الصحابة القافلة تمر، والصحابة في هذا الوقت عشرة، والقافلة فيها أربعة، إذاً: فرصة القتال ممكنة. ثالثاً: المسلمون في هذه السرية من المهاجرين، وقد أوذوا إيذاءً مباشراً من قريش، فقائد هذه السرية عبد الله بن جحش كان أبو سفيان بن حرب قد استولى على داره وباعها وأكل ثمنها، فالمهاجرون يشعرون من داخلهم بأذى شديد تلقوه من قريش، فهذه فرصة أن القافلة أمامهم. لكن في نفس الوقت كانت هذه السرية في آخر ليلة في الشهر الحرام رجب، والقتال فيه ممنوع فهل يتقيد الصحابة بالقوانين التي انتهكها عدوهم آلاف المرات، ويضيعون فرصة السيطرة على القافلة، أم يرمون بالقانون عرض الحائط ويهجمون على القافلة؟ هل يرفع الصحابة الظلم الذي وقع عليهم منذ سنين، وقد جاءت فرصة قد لا تتكرر بسهولة، أم يتركون هذه الفرصة الثمينة؟ هل يراعي المسلمون الآن ا

موقف قريش من انتصار المسلمين في سرية نخلة

موقف قريش من انتصار المسلمين في سرية نخلة أغلقت هذه الصفحة مؤقتاً لصالح المسلمين، لكن هذا الموقف كشف عن بعض الأحداث الخطيرة التي من الممكن أن تشهدها الجزيرة العربية مستقبلاً. كشفت عن مناطق خطرة جداً سيحصل فيها أحداث قريبة بين مكة والمدينة. مكة فيها كفار قريش، والمدينة فيها اليهود، ماذا حصل بعد هذه السرية؟ ما هو الذي غير الأوضاع بعد هذه السرية العظيمة؟ فبعد هذا الاختراق المرعب لصفوف قريش، وبعد هذا التحدي السافر من القوة الإسلامية الجديدة، لا شك أن قريشاً ستعيد الحسابات تماماً، وسترتب الأوراق من جديد. فالمسلمون وصلوا إلى مكان لا يتوقع المشركون أبداً أن يصلوا إليه، سيطروا في جرأة عجيبة على قافلة من قوافل قريش على بعد أربعمائة وثمانين كيلو متراً من المدينة المنورة وقريبة جداً من مكة. ولا يستبعد منهم أبداً تكرار هذا الأمر في أي مكان في الجزيرة، بل قد يتم غزو مكة ذاتها، فلا شك أن هذا سيدفع أهل مكة إلى أخذ تدابير وقائية وقد يفكرون في غزو المدينة المنورة، وهم فعلاً غزوا المدينة قبل ذلك في محاولة كرز بن جابر الفهري، ولعل المحاولة القادمة تكون أكبر، فقد يفكر المشركون في اصطياد القوافل الإسلامية، وقد يفكرون في الهجوم على القبائل الإسلامية حول المدينة، فهذه احتمالات أصبحت واردة بعد سرية نخلة. قد يحدث صدام قريب مروع بين قوة المشركين المتمثلة في قريش وحلفائها، وقوة المسلمين الناشئة في المدينة المنورة. هذا الخطر يتوقع قدومه من مكة. أما الخطر الأقرب فكان متوقعاً من اليهود، فاليهود إلى الآن لم يظهروا أي تعاطف مع الدين الجديد، اللهم بعض الأفراد المعدودين على أصابع اليد الواحدة. حاول اليهود الدس والكيد لهذا الدين أكثر من مرة، وازداد كيدهم بعد سرية نخلة، وبدءوا يجاهرون بموالاتهم لقريش الكافرة، مع أن المعاهدة التي بينهم وبين الرسول عليه والسلام كانت تقول: (لا تجار قريش)، لكنهم بدءوا يظهرون الولاء لقريش، بل أظهروا الرغبة الجامحة في أن تأتي قريش وتغزو المدينة المنورة وأبرزوا حتى التفاؤل بالأسماء، واليهود يحبون الرموز، على سبيل المثال: قتل عمرو بن الحضرمي، عمرو عمرت الحرب، الحضرمي حضرت الحرب، والذي قتل عمرو بن الحضرمي من المسلمين كان اسمه واقد بن عبد الله، قالوا: واقد أوقدت الحرب. هذه طبيعة اليهود. إذاً: بعد هذه السرية تبين أن هناك صداماً متوقعاً قريباً مع قريش، وأيضاً هناك صدام قريب متوقع مع اليهود، هذا كله في شهر شهر شعبان سنة اثنين هجرية.

مرحلة فرض القتال على المسلمين إذا قوتلوا

مرحلة فرض القتال على المسلمين إذا قوتلوا إلى هذه اللحظة كان القتال مأذوناً به وليس مفروضاً على المسلمين بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أذن للمسلمين أن يقاتلوا إن وجدوا في أنفسهم قدرة على القتال، أو أن يختاروا عدم القتال إن رأوا أن ذلك أفضل. والآية التي أقرت هذا التشريع: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]. لكن الوضع في هذا الوقت تغير، فالإذن جاء في زمان القتال فيه محتمل، أما الآن فالقتال ليس محتملاً فقط، بل متوقعاً وقريباً جداً يكاد يكون حتمياً. فلو حدث قتال بالصورة التي نتخيلها من جانب قريش المهزومة في كرامتها، المجروحة في كبريائها، وبمساعدة اليهود الغادرين في داخل المدينة المنورة، كيف سيكون الموقف؟ سيكون الموقف في غاية التأزم، فلا ينفع هنا مجرد الإذن بالقتال، بل يجب أن يفرض القتال على المسلمين لدفع شر هؤلاء الأعداء؛ لأن الإذن سيسمح للبعض بعدم المشاركة، وسيفتح للشيطان أبواباً كثيرة يدخل منها إلى قلوب الضعفاء فيصور لهم صعوبة القتال، وستقاتل قريش مجتمعة مع اليهود، وستقاتل مجتمعة مع قبائل العرب، وهذا أمر صعب، فلا يمكن للمسلم في مثل هذه الظروف أن يؤاثر الدعة ويتجنب القتال. لكن إن فرض القتال على المسلمين فرضاً فإنهم سيعتبرونه كالصلاة والزكاة، ويعتبرونه واجباً ينفذ، وبذلك تغلق أبواب الشيطان، وستقل حتماً نسبة التخلف عن الجهاد في سبيل الله، ولن يكون التخلف إلا من الضعفاء أو المنافقين، وهؤلاء لا نريدهم في المعركة. نتيجة لهذه الظروف ينزل الله التشريع المحكم بالقانون الجديد المناسب للمرحلة الحالية.

المعاني المستنبطة من آيات القتال

المعاني المستنبطة من آيات القتال فرض سبحانه القتال على المسلمين إذا قوتلوا، وليس للمسلمين اختيار في قضية دفع المشركين إذا هجموا عليهم، بل لا بد من الدفاع حتى الموت، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ} [البقرة:216]. فلم يعد القتال مأذوناً به فقط، بل صار مكتوباً -أي: مفروضاً- على المسلمين، ونزل أيضاً قول الله عز وجل الذي يوضح سبب القتال في هذه المرحلة، وبعض الأحكام الخاصة بالقتال. قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:190 - 193] سبحانه الله. نريد أن نقف وقفات طويلة مع هذه الآيات، ونريد أن نتصور حال المسلمين وحال غير المسلمين عند نزول هذه الآيات.

كراهية الناس عامة للقتال

كراهية الناس عامة للقتال حملت هذه الآيات تشريعاً جديداً يحتاج إلى نفوس إسلامية خاصة للعمل بهذه الآيات، ويحمل في نفس الوقت رسالات في منتهى الوضوح إلى المشركين في مكة، وإلى المشركين في خارج مكة، وإلى اليهود كذلك. تعالوا نعيش مع أهل هذه المرحلة، ونراقب رد فعلهم لهذه الآيات: أولاً: الناس بصفة عامة تكره الحروب والقتال، ولا يختلف اثنان في أن الحروب تأتي بالدمار والخراب وإزهاق الأرواح، ونحو ذلك من أشياء تورث الحزن والكراهية؛ من أجل هذا ربنا يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. لكن ليس معنى هذا: أن القتال إذا تعين على المسلمين لهم أن يتركوه لأنه مكروه، بل بعض المسلمين يصلون إلى درجة من الرقي في الإيمان في حبهم للموت مع أنه مكروه، يتمنون هذا المكروه من أجل إرضاء الله سبحانه وتعالى. ولقد مر بنا قول الرسول عليه السلام: (لوددت أن أغزو في سبيل الله) وفي رواية: (لوددت أن أقتل في سبيل الله). وسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة. الموت مع أنه مكروه بصفة عامة، إلا أنه أصبح محبوباً إلى خالد رضي الله عنه وإلى جيشه، وما ذلك إلا لأنه في سبيل الله، فليس معنى القتال مكروه: أننا نقعد عنه، بل على العكس، كلما ارتقى المسلم في سلم الإيمان أحب هذا المكروه ما دام في سبيل الله.

القتال مكروه في ظاهره وخير في باطنه

القتال مكروه في ظاهره وخير في باطنه المعنى الثاني: معنى دقيق جداً ومهم، وهو أن الذي تراه بعينك مكروهاً يجعل الله عز وجل في باطنه الخير: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. وأحياناً ترى شيئاً محبوباً وتظن أنه خير، ويكون في باطنه الشر: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216]. هذا الكلام قد يكون غريباً عند عموم الناس ويحتاج إلى يقين كبير وإيمان كامل باختيار رب العالمين سبحانه وتعالى، ومع ذلك لو تدبرت في الأحداث فإنك ستقترب غالباً من رؤية الخير في باطن ما يراه الناس شراً. على سبيل المثال: القتال مكروه، فيه إيذاء وقتل وتدمير وخراب، لكن انظر إلى الأمة التي تقاتل، والأمة التي لا تقاتل. الأمة التي تجاهد وتقاتل ترفع رأسها وتعز نفسها، وينظر لها الآخرون نظرة احترام وتوقير. والأمة التي تزهد في القتال وتعرض عن الجهاد يسلط الله عز وجل عليها الذل، حتى لا تجد لها مكاناً بين الأمم المرموقة في العالم. الأمة التي تجاهد تحافظ على حقوقها، وتسترد المسلوب منها، والأمة التي تعرض عن القتال والجهاد تنتهك حرماتها وتضيع حقوقها، ولا يخفى ما وراء ذلك من أمور مكروه معروفة. إذاً: تدبروا الأمر يا إخواني! فإن القتال وإن كان في ظاهره كره، إلا أن في باطنه عزة كبيرة للأمة المسلمة ما دام هذا القتال في سبيل الله.

ظهور الطائفة التي رأت الكره في القتال ولم تر الخير في باطنه

ظهور الطائفة التي رأت الكره في القتال ولم تر الخير في باطنه النقطة الثالثة: عموم المؤمنين قبلوا الأمر دون جدال، وقبلوا القتال في سبيل الله سواء كان مأذوناً به أو مفروضاً عليهم، لكن هناك طائفة من المؤمنين عندما نزل هذا الفرض للقتال رأت الكره ولم تر الخير في باطنه، وأتاها التكليف في لحظة من لحظات ضعف الإيمان، ولم يكن إيمانها بالقوة التي تدفع إلى العمل وإن كان مع الكراهية، وهذه الطائفة ليست منافقة بل مؤمنة، لكنها فترة ضعف وفترة فتور فماذا حصل؟ انطلق هؤلاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: لو تأذن لنا في تأجيل القتال، قالوا ذلك لأنهم خائفون من المشركين واليهود، خائفون من اتحاد هذه القوى على المسلمين، والمسلمون قلة. ونحن قد نسمع هذا الكلام ونستغرب: كيف يكون هذا الكلام في الصحابة وهم خير الناس وأفضل القرون؟ لكن الحمد لله أن هذا حدث في العهد النبوي؛ لنعرف كيف يتم التعامل مع مثل هذه المواقف؟! ما هي وسائل علاج حالات الضعف الإيماني التي تطرأ على نفس المؤمنين أحياناً؟ الغريب جداً أن هذه الطائفة التي ترددت في أمر القتال لخوفها عندما فرض عليها القتال، كانت هي نفس الطائفة التي كانت تطلب القتال في وقت منعه في أيام مكة. كان القتال في مكة ممنوعاً؛ لأن قوة المسلمين لم تكن تسمح لهم بذلك، وفصلنا في هذا الأمر في دروس العهد المكي، هذه الطائفة كانت تريد الإسراع برفع الظلم عن الكاهل ولو بالقتال الصعب، أي: لم تكن خائفة! لكنها كانت تعاني من قلة الصبر، والمرحلة كانت تتطلب صبراً من نوع خاص، ألا وهو الصبر على عدم القتال. أما المرحلة الجديدة، فإنها تحتاج إلى صبر من نوع ثان، وهو الصبر على القتال، سبحان الله! فهؤلاء يعانون من عدم الصبر في مرحلة مكة على عدم القتال، وعدم الصبر في مرحلة المدينة على القتال، لكن هذه الطائفة لم تكن منافقة أبداً، إنما كانت مؤمنة، لكن الإنسان قد يعتريه أحياناً بعض الضعف والقصور في فترة من فترات الحياة، أو ظرف من ظروف الحياة. وليس هنالك خطر في أن يكون هناك بعض المسلمين على هذه الصورة ما دمنا نقر لهم بالإيمان، لكن الخطر الحقيقي أن تكون الطائفة هذه هي الطائفة الأعم والأشمل في الأمة الإسلامية، أو أن نفشل في علاج هذه الطائفة، فهذا الذي لا نريد أن نقع فيه. في هذه الطائفة نزل قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] في فترة مكة {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء:77] هذه فترة المدينة {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77]. فهذه الخشية التي تسللت إلى قلوبهم ليست لضعف يقينهم في أن الله عز وجل قادر على نصرتهم، لكن لأن الدنيا تسللت إلى قلوبهم، ومن ثم حرصوا على الحفاظ عليها، وخافوا من فقدانها. وفي هذه اللحظة من لحظات ضعف الإيمان وغياب الرؤية الصحيحة، نسوا أنهم لن يؤخروا أبداً عن لحظة موتهم، سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، نسوا أن نعيم الآخرة لا يقارن أبداً بنعيم الدنيا القليل، ومن ثم لا يجوز أبداً للمؤمن الفاهم الواعي أن يضحي بالآخرة في سبيل تحصيل الدنيا، ولو حاز الدنيا بكاملها. من أجل هذا تعالوا نر العلاج الرباني وهو يركز على معنى أن الموت محدد في ميعاد لن يقدم ولن يؤخر، معنى أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وأن الآخرة هي كل شيء، قال الله عز وجل تعقيباً على هذه الآيات: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77]، يعلم الرسول عليه السلام كيف يعالج هؤلاء، ويعلمنا بقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:77 - 78]. ففي داخل المدينة أو في خارج المدينة سواء كنا في قتال أو في غير قتال سيأتي الموت في اللحظة المحددة. فلما ذكرت هذه الطائفة عادت إلى الله عز وجل ولم يتخلف منها أحد، وهذا دليل على أن الطائفة كانت مؤمنة، لكن حصل هذا الأمر لنعرف كيف يكون علاجه. هذه كانت النقطة الثالثة.

تحديد قتال الطائفة التي تبدأ المسلمين بقتال

تحديد قتال الطائفة التي تبدأ المسلمين بقتال النقطة الرابعة: قال الله عز وجل في هذه الآيات: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190]. هنا يحدد ربنا سبحانه وتعالى الطائفة التي يجب أن نقاتلها، وهي الطائفة التي تبدأ المسلمين بقتال، ففي هذه المرحلة لم يكن هناك ما هو معروف في الإسلام بجهاد الطلب، والجهاد لنشر كلمة رب العالمين في الأرض، كما هي في الفتوح الإسلامية التي تأتي بعد ذلك، إنما المرحلة مرحلة دفاع عن النفس وعن الإسلام. ولا بد أن يدرك المؤمنون مدى قوتهم، فلا يطمعون فيما هو أكبر من حجمهم الحقيقي، وهذا الذي نسميه فقه المواقع.

قتال المسلمين للأعداء مقيد بعدم الاعتداء

قتال المسلمين للأعداء مقيد بعدم الاعتداء النقطة الخامسة: إن شهوة الانتقام عند المظلوم قد تتفاقم وتخرج عن الإطار المسموح به في الشرع، ونحن لا يجوز لنا أبداً أن نرفع ظلماً وقع علينا بإيقاع ظلم على آخرين. لذلك يأتي الضابط المهم جداً للقتال في الإسلام، وهو ضابط ثابت مستمر غير منسوخ، معمول به في كل حروب المسلمين إلى يوم القيامة: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]. فالله عز وجل لا يحب المعتدي حتى ولو كان من المسلمين، والعدل قانون لا ينصلح حال الأرض إلا به، والعدل لابد أن يكون مع الجميع حتى مع الأعداء المكروهين إلى النفس، يقول تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2] أي: حتى مع الصد عن المسجد الحرام لا تعتدوا، وصور الاعتداء كثيرة، منها الغدر والخيانة وتعذيب الأسرى، ومنها التمثيل بالجثث، والقتال لحظ النفس وليس لله عز وجل، ومنها قتال من لا يجب أن يقاتل، ومنها التجاوز في التدمير والتخريب، ومنها إيقاع الظلم ضد أي إنسان كان، بل إن منها إيقاع الظلم بالحيوان أو بالنبات. فانظروا إلى التعاليم النبوية التي تضع ضوابط القتال في الإسلام حتى نعرف قبل أن نحمل السيف ونحارب أعداءنا كيف نحارب بأخلاق الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). فهذه نصائح تقال لجيش خرج يحارب، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه: (اعزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا - لا تغلوا من الغنيمة - ولا تغدروا، ولا تمثلوا - أي لا تمثلوا بجثة قتيل من الأعداء- ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع المعتكفون للعبادة). هذه هي أخلاق الحروب في الإسلام، ليس فيها قتل لمدنيين أو غير محاربين، وليس فيها إبادة جماعية، ولا تدمير عشوائي، ليس في تاريخنا ما يشبه ما حدث في هيروشيما أو ناجازاكي أو فيتنام أو كوريا أو ألمانيا أو غيرها من البلدان، ليس في تاريخنا ما يشبه ذلك من قريب أو من بعيد. إن الجميل جداً في قصة القتال في الإسلام أن هذه الضوابط كلها والتشريعات الأخلاقية العظيمة لم تأت نتيجة تطور معين في الحضارة الإسلامية على مدار السنين والقرون، إنما نزلت في أول تشريع للقتال، نزلت بهذا التكامل والسمو والعظمة، بما لا يدع أي مجال للشك أن هذا المنهج رباني وأن هذه التشريعات إلهية، وأنه لا مقارنة مطلقاً بين قوانين السماء المتكاملة والتامة وبين قوانين الأرض الوضعية التي يعتريها الكثير من النقص في كل بند من بنودها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. هناك تشريعات أخرى كثيرة الوقت لا يتسع، لكن الذي أريد أن أقوله وأختم به: إن هذه الآيات لما نزلت كان وقعها شديداً جداً على قريش واليهود وعلى كل الجزيرة العربية، وقد ترقب الجميع أن تدور حرب هائلة بين المسلمين وبين الكافرين. ترى ما هي مقدمات هذه الحرب؟ وكيف ستكون؟ وما هو رد فعل المسلمين والكافرين لهذه المعركة الهائلة؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في الدروس القادمة. وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهل بدر

سلسلة السيرة النبوية_أهل بدر فرض الله سبحانه الصيام والزكاة والقتال على المؤمنين في شهر واحد، كما أنه أمرهم أن يتجهوا إلى بيت الله الحرام في صلاتهم في هذا الشهر نفسه، وهو شهر شعبان، وكل هذه اختبارات لتمحيص المؤمنين وظهور صدقهم في طاعتهم له سبحانه، وكان فرض القتال استعداداً لمواجهة ستكون بين الحق والباطل في شهر رمضان في غزوة بدر التي حوت أسباب النصر التي كانت تحملها الفئة المؤمنة، وأسباب الهزيمة التي كان يحملها أهل الكفر والضلال.

ملخص مراحل فرض القتال على المسلمين

ملخص مراحل فرض القتال على المسلمين أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. مع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. في الدرس السابق تحدثنا عن بعض السرايا والغزوات التي سبقت غزوة بدر، وفصلنا في سرية نخلة، والآثار العظيمة التي عمت الجزيرة العربية بكاملها بعد هذه السرية الكبرى. هذه السرية كان من جرائها أن غنم المسلمون قافلة كاملة لقريش، وأسر رجلان من قريش وقتل واحد وفر الرابع، وأصبح للمسلمين شوكة واضحة في الجزيرة العربية، وتهديد ظاهر لمصالح قريش ليس حول المدينة المنورة فقط، ولكن في عمق الجزيرة العربية بالقرب من مكة المكرمة. ذكرنا أن المسافة بين نخلة والمدينة المنورة كانت أكثر من 480 كيلو متراً، وهي مسافة ضخمة جداً جداً وبالذات في الصحراء، أنزل الله عز وجل بعد سرية نخلة بعض الآيات التي برأت ساحة أولئك الذين اشتركوا في هذه السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه ومن معه من الصحابة، ثم أنزل بعد ذلك بعض الآيات التي تفرض القتال على المسلمين، وذكرنا أن القتال كان مأذوناً به قبل هذه السرية، ثم الآن فرض القتال على المسلمين، يعني: لا يجوز للمسلم إن قوتل إلا أن يقاتل. قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:191 - 193]. وذكرنا أن هذه الآيات كان لها وقع شديد على المشركين واليهود، بل وعلى بعض المسلمين، فهذه أول آيات تفرض القتال على المسلمين، وقتال المشركين أمر متوقع جداً بعد سرية نخلة. وربنا سبحانه وتعالى قال في هذه الآيات: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]، ففيها إعلان صريح يدل على قوة المسلمين وواقعيتهم، إعلان مجابهة القوة الكافرة المعتدية عليهم وهي قريش في كل مكان، هذا الإعلان يدل على أن كل المحاربين من قريش مستهدفون الآن، وأن قريشاً كانت تستهدف المسلمين قبل ذلك في كل مكان، وقد حان وقت المعاملة بالمثل، سيُستهدف المشركون من قريش في كل مكان سواء في المدينة أو في مكة أو في أي قافلة هنا أو هناك، كل هذا فهمناه من الجزئية القصيرة من القرآن المعجز: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]. إذاً: إعلان صريح للحرب على قريش، وفي نفس الوقت هذه الآية حملت الإصرار على موقف المسلمين في سرية نخلة، نحن لا نعتذر بأي حجج واهية عما حدث في هذه السرية، بل نحن نقول: سيتكرر هذا كثيراً إلى أن تفيق قريش من غيها وتتوب من ظلمها. في نفس المجموعة من الآيات قال الله عز وجل: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] وهذا تصعيد خطير جداً وصريح، فالمشركون أخرجوا المسلمين المهاجرين من مكة، والآية تدعو المسلمين أن يخرجوا الكفار من مكة أيضاً، {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191]، جملة في منتهى الخطورة، فعلى كفار قريش أن يتوقعوا مباغتة المؤمنين لهم في مكة في أي لحظة، فعليهم أن يعيشوا في رعب الانتظار الآن، وعليهم أن يدركوا أن الأوضاع الجديدة شديدة الاختلاف عن الأوضاع السابقة، عليهم أن يدركوا أن هؤلاء الذين عذبوا لسنوات وسنوات في البلد الحرام مكة، قويت شوكتهم الآن واشتد عودهم، وبلغ تهديدهم للدرجة التي يصرحون فيها بغزو عقر دار المشركين مكة. في الناحية الأخرى على المسلمين أيضاً أن يكونوا على قدر المسئولية الجديدة، عليهم أن يعلموا أبعاد الخطة الجديدة، عليهم أن يعلموا متطلبات المرحلة الجديدة، فلم يعد هدف المسلمين فقط هو الحفاظ على دينهم وحياتهم، بل ارتفع الهدف إلى الرغبة الصادقة في رفع الظلم تماماً عن كواهلهم، إلى الرغبة الصادقة في نشر هذا الدين في كل مكان، ولو كان هذا المكان هو مكة معقل قريش. فتحت هذه الآية آفاق جديدة تماماً للمسلمين، سمت بأحلامه

الاختبارات التي مر بها مؤمنو المدينة قبل اصطدامهم بأهل الباطل

الاختبارات التي مر بها مؤمنو المدينة قبل اصطدامهم بأهل الباطل من سنة الله سبحانه وتعالى أنه قبل الصدامات الكبرى التي تقع بين الحق والباطل لابد أن تمر أمة المسلمين ببعض الشدائد والمصاعب والاختبارات التي تمثل امتحاناً صعباً لكل المسلمين. فمن السهل أن تقول: أنا مؤمن، لكن الصادقين قليل. قال الله عز وجل يصف إيمان الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، فلا بد أن يكون هناك اختبار صعب يحدد فعلاً من الصادق ومن الكاذب ومن المؤمن ومن المنافق؟ من هذه الاختبارات التي تمت في شهر شعبان اختبار فرض القتال، فالذي يقبل بمشقة فرض القتال ويستمر في الطريق هو صادق الإيمان، وأما الذي سيجزع ويتثاقل إلى الأرض فصف المؤمنين في غنى عنه ولا يحتاجون إليه، بل من الأفضل أن يترك الصف من الآن قبل أن تشتد الأزمة. إذاً: فرض القتال كان أحد الاختبارات قبل الصدام المتوقع، ولكن لم يكن هذا هو الاختبار الوحيد، كان هناك اختبارات ثانية حصلت قبل هذا الاختبار وفي نفس شهر شعبان، إعداد واضح من رب العالمين سبحانه وتعالى لمجموعة من المسلمين، سوف تغير بعد ذلك من خارطة العالم بكامله. فمن الاختبارات المهمة التي حصلت قبل فرض القتال وفي شهر شعبان اختباران في غاية الأهمية: اختبار فرض الزكاة واختبار فرض صيام رمضان. كانت الزكاة مفروضة على المسلمين في فترة مكة، لكن لم تكن بالنصاب المعروف وبالقدر الذي نعرفه، بل كانت متروكة لكل مسلم بقدر ما يستطيع دفعه، أما الآن فقد فرض على المسلمين أن يدفعوا قدراً معيناً مقداره 2. 5% إذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول. وقيمة الزكاة وإن كانت قليلة إلا أن الإنسان بطبعه مجبول على حب المال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، والإنسان بطبعه لا يحب القيود خاصة القيود المادية، وهكذا لن يقبل بفرض الزكاة إلا المؤمن حقاً. كذلك اختبار الصيام، فإن الصوم المفروض على المسلمين حتى هذه اللحظة لم يكن إلا يوماً واحداً في السنة هو يوم عاشوراء، أما الآن فقد فرض عليهم صيام شهر كامل في السنة، وهو شهر رمضان، وهذا الفرض نزل في شهر شعبان، وعلى ذلك فإن المسلمين سيصومون شهر رمضان دون تهيئة نفسية مسبقة، وهذا شاق عليهم خاصة في هذه البيئة الصحراوية، فلن يثبت في هذا الاختبار إلا صادق الإيمان. إذاً: الاختبار الأول: الزكاة، الاختبار الثاني: الصيام، الاختبار الثالث: فرض القتال. بقي هناك اختبار رابع صعب جداً حصل في نصف شهر شعبان، وهو اختبار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في مكة. وكل هذه الاختبارات كانت متتالية، حصلت في خلال أسبوعين من شهر شعبان، والمسلمون قبل هذا الحدث كانوا يصلون في اتجاه بيت المقدس (16) أو (17) شهراً، من أول الهجرة إلى منتصف شعبان من السنة الثانية من الهجرة. وفي هذا إعلان لعموم الناس أن الرسالة الإسلامية ما هي إلا استكمال لرسالات الأنبياء السابقين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء جاءوا بمنهج واحد ويعبدون إلهاً واحداً، وفي ذلك تقريب لقلوب اليهود من سكان المدينة من الدين الجديد، فهم يشتركون مع المسلمين في قبلة واحدة، ويعظمون إلهاً واحداً، ويصومون يوماً واحداً. ثم مرت الأيام والشهور، وظهر للجميع أن اليهود قوم فاسقون، أدركوا الحق واتبعوا غيره؛ لأجل ذلك نزل الوحي من السماء بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، وفرض صيام رمضان بدلاً من صيام عاشوراء، وكانت هذه التغييرات تحمل معاني سامية جداً من التميز للأمة الإسلامية، ومن التوجه إلى أشرف بقاع الأرض، ومن مخالفة اليهود الفاسقين، ومن غير ذلك من الأمور العظيمة، وفوق هذا كله كان فيها إشارة لطيفة إلى أن الله عز وجل سيفتح مكة للمسلمين في يوم ما؛ لأنه ليس من المعقول أن توجد قبلة قوم في بلد أعدائهم. وبعد مشروعية استقبال الكعبة حصلت مشكلة صعبة، فاليهود كعادتهم حاولوا إثارة الفتنة وإشاعة الشبهات، واجتهدوا في ذلك تمام الاجتهاد، إذ صاروا يتهكمون من هذا التحويل للقبلة، ويقولون: إن المسلمين مترددون بين قبلتين، وقالوا: إذا اتجهتم إلى القبلة الجديدة فما شأن القبلة القديمة التي كنتم تصلون إليها؟ والذين كانوا يصلون باتجاه القبلة القديمة ثم ماتوا ماذا يفعل الله عز وجل بصلاتهم، فقد كانوا مخطئين في الاتجاه، كـ أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه، والبراء بن معرور؟ وهكذا يحاول اليهود أن يثيروا الشبهات والفتن دائماً، فأنزل الله عز وجل يرد عليهم ويصفهم بالسفهاء، ويبين المفهوم الدقيق الذي يجب أن يدركه كل مؤمن، وهو أن الأمر كله لله عز وجل، يحكم بما يشاء وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، هو المتصرف في خلقه وملكوته، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا

وقفات مع غزوة بدر الكبرى

وقفات مع غزوة بدر الكبرى في يوم الفرقان كانت غزوة بدر الكبرى في (17) من رمضان سنة اثنين هجرية، هذه الغزوة قلبت الموازين كلها، بل تستطيع أن تقول: هي المعركة التي عدلت موازين العالم المقلوب وليس من الضروري أن تحدث نقاط التغيير المحورية في العالم نتيجة صراع بين قوة عالمية أولى وأخرى، لكن قد يبدأ التغيير بحدث لا يعطي أحداً من أهل الأرض أهمية، بل قد لا يشعرون به أصلاً، فمن كان يسمع عن غزوة بدر من أهل فارس أو أهل الروم أو أهل الصين أو أهل الهند؟ إن غزوة بدر في حسابات العسكريين معركة بسيطة جداً، 300 جندي يحارب ألف جندي في نقطة لا ترى على خارطة الأرض، وفي صحراء العرب الجرداء، وأي محلل عسكري سيحلل هذه المعركة بأنها مجرد صراع عابر، أو تستطيع أن تقول: مشكلة بين قبيلتين لا تحمل أي نوع من الخطورة على القوى العالمية الموجودة آنذاك، فجيوش الرومان كانت تقدر بالملايين في ذلك الوقت، وجيوش فارس كانت تزيد على مليوني جندي، هذه أعداد الجيوش فقط لا الشعوب، أما الشعوب فكانت تقطن في مساحات واسعة جداً، وهي الآن عشرات الدول؛ لذلك فإن غزوة بدر في التحليل السطحي غزوة عابرة، لا يرجى أن يكون لها أي أثر إلا في بعض النقاط غير المرئية في الصحراء، ومع ذلك فإن التحليل العميق يثبت غير ذلك تماماً، فبعد غزوة بدر ولدت أمة ثابتة راسخة، لها رسالة وهدف وطموح، تغير وجه التاريخ حقاً بعد هذا الميلاد. قامت الدولة التي ستحمل على أكتافها قضية هداية الناس أجمعين إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، ونشأت الأمة التي ستصبح خير أمة أخرجت للناس، وخرج الجيش الذي سيزلزل بعد ذلك عروش قيصر وكسرى، فغزوة بدر غزوة فرقت بين مرحلة كانت فيها دولة الإسلام ناشئة ضعيفة مهددة، ومرحلة أخرى أصبحت فيها دولة الإسلام معتبرة ومستقرة وقوية لها شأن في المنطقة، وكل الناس في العالم يسمعون عن دولة الإسلام؛ لذلك فإنه ليس من المستغرب أن الله سبحانه وتعالى سماها يوم الفرقان، فإن مقاييس رب العالمين سبحانه وتعالى ليست كمقاييس البشر، فإن الصدام المروع بين فارس والروم مرات عديدة لم يغير من وجه التاريخ. قال تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، فازت أو خسرت ليس هناك تأثير في الأرض، فما هي إلا لحظات عابرة مهما طالت في عمر البشرية، لكن بدراً وضعها مختلف، فالصدام البسيط الذي تم بين المدينة المنورة ومكة غير كل شيء في الأرض، وما زال يغير إلى يوم القيامة، فغزوة بدر لحظة فارقة حقاً، وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن نقف طويلاً مع غزوة بدر. إن غزوة بدر لم تكن غزوة عظيمة بأرضها أو بجغرافيتها أو بخطتها أو بنوعية السلاح الذي استخدم فيها، إنما كانت عظيمة بأهل الحق فيها ولو كانوا قلة بسطاء حقراء، أو بالتعبير القرآني كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، فكانت بدر عظيمة بالطائفة المؤمنة النبيلة التي شاركت فيها، فمن أجل هذه الطائفة حدثت تغييرات كونية هائلة، ومن أجل هذه الطائفة نزلت الملائكة، ومن أجل هذه الطائفة خضع الشيطان بل نكص على عقبيه مذموماً مدحوراً، فلا بد أن نقف وقفة وندرس هذه الطائفة النبيلة العظيمة الطائفة هذه يا إخواني أنا أرى أنها معيار للجيش المنتصر، جيش بدر مقياس لكل جيوش المسلمين الجيش الذي سيعرف يتصف بصفات جيش بدر سيعرف يحقق نصر مثل نصر بدر.

الأسباب التي دعت إلى غزوة بدر الكبرى

الأسباب التي دعت إلى غزوة بدر الكبرى عادت قافلة مكية من الشام إلى مكة بقيادة أبي سفيان، ومعظم القوافل التي خرج لها المسلمون قبل ذلك لم يحدث فيها قتال كما تعلمون، حتى القتال الذي حصل في سرية نخلة كان قتالاً بسيطاً، 10 من المسلمين يحاربون 4 من الكفار، لكن هذه القافلة كانت تختلف عن بقية القوافل في بعض الأمور المهمة: أولاً: هذه القافلة من أكثر القوافل المكية مالاً، فضرب هذه القافلة يمثل ضربةً اقتصاديةً هائلةً لمكة، فيها ألف بعير موقرة بالأموال، وفيها ما لا يقل عن خمسين ألف دينار ذهبي. ثانياً: هذه القافلة ليست بقيادة قائد مغمور من قواد مكة أو تاجر عادي من تجار قريش، بل هي بقيادة أبي سفيان بن حرب من سادة قريش، ومع هذه القافلة حراسة مكونة من 30 إلى 40 مشركاً، أما قافلة نخلة فكان معها أربعة رجال فقط. ثالثاً: هذه القافلة تمر بجوار المدينة في شهر رمضان، يعني: بعد شهر ونصف شهر فقط من أحداث سرية نخلة، وموقف المؤمنين مع هذه القافلة يؤكد صلابة موقفهم واستمرارية حربهم ضد المشركين، ويثبت أنهم ليسوا خائفين أبداً من آثار سرية نخلة، بل على العكس يعتبر هذا الخروج تأكيداً واضحاً لقوة المسلمين وتصميمهم على الحرب ضد قريش إلى النهاية، ولا شك أن هذا سيهز كفار مكة. لذلك خرج الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بأكبر عدد من المسلمين، وإلى هذه اللحظة كل السرايا والغزوات السابقة لم يتجاوز عدد المسلمين فيها مائتين، لكنهم في غزوة بدر أصبح عددهم 313 أو 314 أو 317 على اختلاف الروايات، وقد خرج الأنصار لأول مرة مع المهاجرين، والغزوات والسرايا التي حدثت قبل بدر كلها كانت معتمدة على المهاجرين، كذلك كان خروج الأنصار في غزوة بدر برغبتهم أنفسهم، وبشورى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار الناس في الخروج للقافلة، فأعلن أبو بكر الموافقة، وأعلن عمر الموافقة، وكثير من المهاجرين أعلنوا كذلك الموافقة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب المزيد من الرأي، حتى قال سعد بن عبادة زعيم الخزرج: (إيانا تريد يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: أجل. فقال: والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر -أي: الخيل- لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا) وبرك الغماد: مكان بعيد عن المدينة المنورة في اتجاه اليمن. كانت هذه استشارة حصلت داخل المدينة المنورة، وعرض الأنصار أن يخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذه القافلة، وقبل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا العرض، وفعلاً خرج الأنصار، بل معظم الجيش كان من الأنصار، فعدد الأنصار في بدر كان 231 أنصارياً، 61 من الأوس، و 170 من الخزرج، والمهاجرون كانوا 83 فقط، يعني: ثلثي الجيش تقريباً من الأنصار، وتزود الرسول صلى الله عليه وسلم بسلاح المسافر، وأخذ معه فرسين وسبعين من الإبل، وقسم جيشه إلى مهاجرين وأنصار، وأعطى راية المهاجرين لـ علي بن أبي طالب، وراية الأنصار لـ سعد بن معاذ، وأعطى الراية العامة للجيش لـ مصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين، وجعل على الساقة في مؤخرة الجيش قيس بن أبي صعصعة رضي الله عنه. كان هذا الإعداد في منتهى القوة، هذا الجيش خرج لقافلة يحرسها 30 أو 40 رجلاً، أي: أن الجيش الإسلامي عشرة أضعاف حراس قافلة مكة تقريباً، والمخابرات الإسلامية حددت أن القافلة ستمر قريباً جداً من بدر، وهي على بعد حوالي 70 كيلو متر جنوب المدينة المنورة، وهكذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة إلى بدر حتى يقطع الطريق على القافلة. كانت القافلة المكية على رأسها أبو سفيان بن حرب، وهو من أذكى وأدهى العرب، وكان له مخابرات استطاع من خلالها أن يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة المنورة قاصداً القافلة، لكنه لم يعلم بعد إلى أين وصل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يضيع وقتاً، بل أرسل رسالة سريعة إلى مكة يستنفر جيش مكة للخروج لإنقاذ القافلة، أرسل الرسالة مع واحد اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري، فلما وصل ضمضم إلى مكة وقف على بعيره وشق قميصه، وبدأ يصرخ في أهل مكة: يا معشر قريش! يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث! ونفر الناس كلهم، فما تزال مصيبة سرية نخلة قريبة، وكلهم أخذ الموضوع بمنتهى الجدية. وبدءوا في جمع المقاتلين من كل مكان، وأعدوا جيشاً كبيراً على أعلى مستوى، كان تعداده 1300 مقاتل من قريش وما حولها من قبائل العرب هذا الإعداد الأول، وخرجوا بمائة فرس و (600) درع، وجمال كثيرة جداً لا يعرف عددها، لكنهم كانوا ينحرون 9 أو 10 من الإبل للطعام فقط يومياً، وخرج مع قيادة الجيش كل زعماء الكفر تقريباً: أبو جهل

ملامح الجيش المنتصر وصفاته

ملامح الجيش المنتصر وصفاته

تحقيق مبدأ الشورى بين أفراد الجيش المؤمن

تحقيق مبدأ الشورى بين أفراد الجيش المؤمن نقلت الاستخبارات الإسلامية خبرين في منتهى الأهمية: الخبر الأول: هروب القافلة، الخبر الثاني: جيش مكة على مقربة من بدر، فالوضع خطير جداً، وإعداد المسلمين كان قوياً جداً بالنسبة لقافلة تجارية، لكن لاشك أنه ضعيف جداً بالنسبة لجيش نظامي خرج مستعداً للقتال، فلا يوجد سوى اختيار من اثنين: إما الرجوع إلى المدينة وتجنب القتال، وإما التقدم إلى بدر والصدام المروع، ومن هنا نركز على هذه القضية؛ لأن كل موقف سيحمل ملمحاً من ملامح النصر، وسيكون فيه إشارة إلى عامل من عوامله. إن كل صفات الجيش المنتصر تجمعت في جيش بدر، وأي جيل مسلم يريد أن ينتصر لا بد أن يعرف صفات جيل بدر جيداً، ولا بد أن يستوعب سورة الأنفال جيداً، فهي سورة تحدثت عن غزوة بدر، والرسول صلى الله عليه وسلم أمامه خياران: الرجوع أو القتال. كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد القتال؛ لأن الرجوع له آثار سلبية كبيرة، فهو سيهز جداً كيان المسلمين، وسيضيع مكاسب سرية نخلة، وسيشجع الكفار على التمادي في الحرب على المسلمين، فكلما رجع المسلم خطوة احتلها عدوه، ولا يستبعد مطلقاً إذا رجع الجيش المسلم أن يستمر الجيش المكي في المسير ويغزو المدينة، وعندئذ سيكون الخطر أكبر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس قائداً ديكتاتورياً كـ أبي جهل. فالقائد الديكتاتوري يبرز فهمه دائماً لمن يقودهم، والذين من حوله يحاولون أن يفهموه أن رأيه فقط هو الرأي الصحيح، وأنه يفهم في كل شيء؛ لذلك فعليه ألا يضيع وقته ووقت شعبه في الاستشارات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن كذلك، فمع أنه أحكم البشر كان يستشير أمته في كل القضايا التي لم ينزل فيها وحي، فإذا كان هناك أمر من الله في قضية من القضايا فإنه لا يجوز للمسلمين أبداً أن يتشاوروا في تطبيق الأمر من عدمه، وإذا لم يكن هناك أمر من الله فلابد من الشورى، وكل تحركاته صلى الله عليه وسلم كانت بالشورى، لما خرج من المدينة للقافلة خرج بالشورى، ولما قرر أن يحارب لم يحارب إلا بشورى، وسنرى للشورى مواضع كثيرة بعد ذلك في بدر وفي غير بدر. إذاً: نستطيع أن نقول ببساطة: إن من أهم ملامح الجيش المنتصر أن يكون جيشاً يعظم الشورى الحقيقية وليست الشورى التمثيلية الهزلية على الشعب، بل شورى حقيقية تهدف إلى قرار يصلح الأمة، وهكذا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً كبيراً تبادل فيه الرأي ليس فقط مع قادة الجيش ولكن مع عامة الجيش، فقام المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وأيد الحرب ضد الكافرين، وكذلك قام المستشار الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال نفس الكلام، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه وقال كلاماً رائعاً علق عليه عبد الله بن مسعود. قال: شهدت من المقداد بن عمرو مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، قال: (يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إن ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك حتى نبلغه). سر الرسول سروراً عظيماً بكلام المقداد، ولكن ما زال يطلب الاستشارة ويقول: (أشيروا علي أيها الناس! أشيروا علي أيها الناس!)، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة يكتفي باستشارة أبي بكر وعمر، ويقول: لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما، لكن هنا ما زال ينتظر استشارة الأنصار، فإنه لم يسمع رأي الأنصار بعد، فالأنصار قبل ذلك في المدينة أعلنوا موافقتهم على الخروج معه للقافلة، لكن الآن ليس هناك قافلة، وإنما قتال مع جيش كبير، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لو أمر الأنصار لأطاعوه فوراً، فهم في أعلى درجات الإيمان رضي الله عنهم أجمعين. لكن الرسول يذكر بيعة العقبة الثانية، وفيها بايع الأنصار على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قدم إليهم في المدينة، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة، والأمر ليس فيه تكليف إلهي الآن فيسمع الجميع ويطيع، ولكن فيه الشورى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يكره الأنصار على القتال، فشتان بين من يقاتل وهو مكره، ومن يقاتل وهو راغب في الجهاد، ولا ننسى أن الأنصار ثلثا جيش المسلمين، فهذا الطلب المتكرر للاستشارة: (أشيروا علي أيها الناس! أشيروا علي أيها الناس!)، لفت نظر سيد الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وكان حامل لواء الأنصار حينها، فقام وقال: (لكأنك تريدنا يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، قال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله! لما

صفة الإيمان بالله ورسوله

صفة الإيمان بالله ورسوله من موقف المؤمنين الباسل سنجد أكثر من صفة من صفات الجيش المنتصر. أولاً: ذكرنا قصة الشورى وأهمية الشورى في بناء الأمة الإسلامية. ثانياً: لنا صفة هي من أهم صفات الجيش المنصور، بل هي أهم الصفات مطلقاً، ظل الرسول صلى الله عليه وسلم (13) سنة في مكة وبعد ذلك في المدينة يزرعها في المسلمين، وهي صفة الإيمان الكامل بالله عز وجل وتوجيه النية كاملة إليه، والإيمان الكامل برسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه اتباعاً لا تردد فيه، فإن جيش مكة خرج ليتحدث الناس عنه، خرج لإرضاء شهوات النفس ولغرض الصد عن سبيل الله بطراً ورئاء الناس، بينما صدق التوجه كان واضحاً في كل كلمة من كلمات الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم يعلمون أنهم في مهمة سامية وغرض نبيل، لا يرجون من ورائها إلا الثواب من الله عز وجل، فالله غايتهم بمعنى الكلمة، ومن غير صفة الإيمان هذه لا يوجد نصر، فالجيش العلماني لن ينصر أبداً، والجيش العاصي لن ينصر، والجيش الفاسق لن ينصر، والجيش الذي يقاتل من أجل القائد لن ينصر، والجيش الذي يقاتل من أجل قبلية أو عصبية لن ينصر، والجيش الذي لا يعرف أصلاً لماذا يقاتل لا يمكن أن ينصر أبداً، وهناك جيوش كثيرة جداً وأحياناً مسلمة لا تعرف لماذا تقاتل؟ القائد أمر، لكن لماذا أمر وكيف أمر؟ ويا ترى! هل هذه الحرب ترضي الله أم تغضبه؟ ولا أحد يعرف لأنه لا يسأل، فهذا لا يمكن أن ينتصر، فالنصر في المفهوم الإسلامي من عند الله عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ونصر الله عز وجل يكون بطاعته وتطبيق شرعه، والجيش الإسلامي أصبح له 15 سنة كاملة يتربى على هذا المعنى، وهذه أهم صفة من صفات الجيش المنتصر.

صفة الأمل والتفاؤل واليقين بنصر الله عز وجل

صفة الأمل والتفاؤل واليقين بنصر الله عز وجل الصفة الثالثة: صفة الأمل: (سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، ووالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)، والجيش المحبط من المستحيل أن ينتصر، والإحباط لا يأتي إلا من تفاهة المهمة التي يقاتل من أجلها الجيش، والدنيا بكاملها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فالذي يقاتل من أجل الدنيا لا شك أنه سيحبط، ومن أحبط لاشك أنه سيهزم.

صفة الحزم وعدم التردد

صفة الحزم وعدم التردد الصفة الرابعة: صفة الحسم وعدم التردد. إن مرحلة الشورى هي مرحلة تداول الرأي، فإن استقر المسلمون على رأي فلابد من الحسم في تنفيذه؛ لأن التردد والتسويف يضعف الهمة ويزيد من جرأة العدو ويفتح أبواباً للشيطان، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، فمع خطورة الموقف وقلة إعداد المسلمين وقوة الجيش الكافر إلا أن المسلمين أقدموا دون أي تردد. رأينا في الجيش الكافر تردد أمية بن خلف في الخروج، ورأينا انسحاب الأخنس بن شريق، ورأينا رفض الجميع للقتال ودفع أبي جهل لهم، ورأينا خوفهم من الخروج في البداية، وتمثل الشيطان لهم في شكل سراقة بن مالك بن جعشم، رأينا كل ذلك. ولا زلنا سنرى تردداً آخر، فأهل الباطل في تخبط دائم، فقد كان عتبة بن ربيعة رافضاً للقتال تماماً، وهو من قادات مكة، وقف يقول للقوم: يا قوم! أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه. يعني: سندخل في معركة، ويقتل بعضكم بعض المسلمين، وهم إخوانكم وآباؤكم وأبناؤكم، فالمشرك سيقول للمشرك الآخر: نعم. أنت من قتلت أبي في موقعة بدر. ثم أبدى النصيحة وقال: فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا. هذه نصيحة واحد من قادة مكة في أرض المعركة، غضب أبو جهل غضباً شديداً وقال: انتفخ والله سحره. السحر: هو الرئة، وهذه علامة على الجبن، ثم قال أبو جهل: إنما محمد وأصحابه أكلة جزور لو قد التقينا. يعني: العرب كانوا يقدرون أكلة الجزور بمائة رجل، ورد عتبة على أبي جهل، لكن لنتذكر أولاً رد سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فأمرنا تبع لأمرك). سبحان الله! تجرد كامل لله عز وجل، ليس له أي مصلحة في الموقعة من مصالح الدنيا، لكن انظر إلى المشاكل التي كانت موجودة بين المشركين في أرض المعركة، فهذا عتبة أحد القادة مع أبي جهل في صراع أمام كل الجيش، وهذا يؤثر سلباً على نفسية الجيش. قال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، وهكذا بدءوا يدخلون في الملاسنات والمعركة لم تبدأ بعد، ثم قال عتبة بن ربيعة قولاً يعبر عن رعبه الداخلي: أما والله إني لأرى قوماً يضربونكم ضرباً. سبحان الله! المسلمون 300 مقاتل والكفار 1000 مقاتل ومع ذلك يقول: أما والله إني لأرى قوماً -يعني: المسلمين- يضربونكم ضرباً، أما ترون رءوسهم كالأفاعي وكأن وجوههم السيوف! هذه هي نفسية من يحاربون الإسلام، جاء حكيم بن حزام حينها وكان مشركاً وأسلم بعد ذلك رضي الله عنه، جاء إلى عتبة بن ربيعة يقول له: يا أبا الوليد! هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت، قال: ماذا أفعل؟ قال: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي -يقصد الذي قتل في سرية نخلة- وهو حليفك فتحمل ديته وترجع بالناس، يعني: إذا كانت المشكلة في دية ابن الحضرمي فادفعها أنت لعائلته وارجع بالناس، فقال عتبة بن ربيعة: أنت وذاك، واذهب إلى ابن الحنظلية -يعني: أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك، يقرب له نسب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، أي: قريبك في الرحم، لعله يرجع، فانظر إلى حجم التشجيع، فذهب حكيم إلى أبي جهل وقال له ذلك، فرد أبو جهل: أما وجد رسولاً غيرك. هذا أبو جهل يكلم أحد أشراف مكة حكيم بن حزام، لكن كان جوابه بمنتهى الغرور. قال له: أما وجد رسولاً غيرك، قال: لا، لم يجد غيري، ولم أكن لأكون رسولاً لغيري. أي: أنا رسول لواحد من أشراف مكة أيضاً عتبة بن ربيعة، ومع ذلك رفض أبو جهل وأصر على القتال, وتصرفه يعبر عن ديكتاتورية مطلقة. ذهب عمير بن وهب الجمحي وذلك قبل أن يسلم ليقدر أعداد المسلمين، فعاد إلى قريش وقدر العدد بثلاثمائة أو نحو ذلك، ومع أن جيش المسلمين ثلث جيش الكفار إلا أن عمير بن وهب قال: ولكني قد رأيت يا معشر قريش! البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، ووالله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم. فانظر إلى حجم التردد الذي يعيشه أهل الباطل، فكيف سيقاتلون مثل هؤلاء؟! لكن كل من يحارب الإسلام تكون هذه حالته.

يوم بدر

سلسلة السيرة النبوية_يوم بدر لأهل الحق مميزات يتميزون بها عن أهل الباطل، فأهل الإيمان بالله يعيشون حياةً هدفهم فيها إرضاء الله عز وجل، فهم يحبون الموت في سبيل الله؛ لأنهم يعلمون أن وراء ذلك جنة عرضها السماوات والأرض، وهم متوكلون على الله يأخذون بالأسباب؛ لذلك أيدهم الله عز وجل في كل زمان ومكان، ونصر الله للمؤمنين يوم بدر خير دليل على ذلك.

مقدمات بين يدي غزوة بدر الكبرى

مقدمات بين يدي غزوة بدر الكبرى أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. تحدثنا في الدرس السابق عن مقدمات الغزوة العظيمة غزوة بدر، وذكرنا فروقاً هائلة بين صفات الجيش الذي ينصره رب العالمين سبحانه وتعالى، والجيش الذي يفتقر إلى أي تأييد، الجيش المنصور جيش مؤمن بالله، ويعمل لله عز وجل بكل ذرة في كيانه، والجيش المهزوم جيش كافر أو فاسق أو منافق أو عاص لا يعمل إلا لمصالحه الذاتية ولأهوائه الشخصية، لا يهمه إلا صورته أمام الناس. الجيش المنصور جيش متفائل يوقن بنصر الله عز وجل له، والجيش المهزوم جيش محبط فاقد للأمل. الجيش المنصور جيش حاسم غير متردد، والجيش المهزوم جيش متردد جبان لا يقوى على أخذ قرار. الجيش المنصور يطبق الشورى فيما لا نص فيه، والجيش المهزوم جيش يطبق الديكتاتورية ليس فيه إلا رأي الزعيم فقط، ولا ينظر مطلقاً إلى آراء الشعب. كانت صفات الجيش المنصور موجودة بكاملها في جيش المدينة المؤمن، وكانت صفات الجيش المهزوم موجودة بكاملها في جيش مكة الكافر، ولم تكن هذه فقط صفات الجيوش المنتصرة والمهزومة، فلا تزال هناك صفات أخرى كثيرة، سنتعرف عليها اليوم من خلال الحديث عن يوم الفرقان يوم بدر.

عملية الاستكشاف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش المشركين في بدر قبل القتال

عملية الاستكشاف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش المشركين في بدر قبل القتال وصلنا في الدرس الفائت إلى أن الجيش المكي عسكر في منطقة العدوة القصوى يعني: جنوب وادي بدر، والجيش المسلم اقترب من بدر في المنطقة الشمالية منه، وتعرف بالعدوة الدنيا. قام صلى الله عليه وسلم بعملية استكشافية بنفسه هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستطاعا أن يعرفا مكان جيش مكة، لكن لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرف أعداد القوم ولا قادتهم، فأرسل فرقة استكشافية ثانية كان فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، وأمسكت الفرقة غلامين من جيش العدو، وأحضروهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في استجوابهما. قال: (أخبراني عن قريش. قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى قال: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف)، فاستطاع أن يحدد بالضبط العدد الحقيقي لجيش مكة؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الجمل يكفي مائة تقريباً للأكل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد). إذاً: كل قادة مكة موجودون في جيش مكة الذي خرج إلى بدر، فأقبل الرسول عليه الصلاة والسلام على المؤمنين وقال لهم: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها).

اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم مكان موقعة بدر وسماعه لمشورة الصحابة

اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم مكان موقعة بدر وسماعه لمشورة الصحابة علم الرسول صلى الله عليه وسلم معلومات مهمة جداً عن الجيش المكي، فقام بترجمتها إلى أعمال، وبسرعة أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه، واتجه إلى أرض بدر؛ ليختار الأرض التي ستتم عليها الموقعة قبل عدوه، حتى يضع جيشه في مواقع إستراتيجية داخل أرض الموقعة، واختار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه مكاناً للنزول في أرض بدر، واستقر فيه في تلك الليلة، فجاء إليه الصحابي الجليل الحباب بن المنذر رضي الله عنه من الأنصار، وهو من الخبراء العسكريين المعروفين بدقة الرأي وعمق النظرة، وسأل النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلك الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟)، يعني: إن كان هذا هو اختيار رب العالمين سبحانه وتعالى فليس لنا أن نختار، وإن كان اختياراً بشرياً مبنياً على الفكر العسكري والتدبير الحربي فمن الممكن أن ندلي فيه بآرائنا، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله! فإن هذا ليس بمنزل)، أي: هذا ليس مناسباً، قالها بوضوح دون خجل ولا مواربة؛ لأن الموضوع خطير وهذه مسئولية، فما الرأي إذاً؟ (قال الحباب: فانهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم -أي: أقرب ماء من قريش- فننزله وتغور -يعني: تخرب- ما وراءه من القلب -جمع قليب الآبار الموجودة في منطقة بدر- ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون)، هذا هو منتهى الحكمة، فالماء في الصحراء في غاية الأهمية، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام دون أدنى تردد: (لقد أشرت بالرأي)، وبالفعل غير مكانه الأول ونزل في المكان الذي أشار إليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه. ولنا وقفة مهمة مع إيجابية الحباب رضي الله عنه، قد يتخيل الواحد منا أن أي واحد من الصحابة إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عمل شيئاً لا يقول رأيه؛ لاحتمال أن يكون وحياً، حتى ولو لم يكن وحياً لا يقول، والرسول صلى الله عليه وسلم أحكم البشر وأفضل العالمين، ومن المؤكد أن رأيه البشري أحسن من رأي الآخرين، لكن هذا التصور لم يكن عند الصحابة، بل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كان عندهم إيجابية رائعة، فلو رأى الصحابي شيئاً ويعتقد أن هناك ما هو أولى منه يذهب ويدلي برأيه، حتى لو لم يطلب منه ذلك؛ لأنه يدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، ويجري عليه في الأمور التي ليس فيها وحي ما يجري على عامة البشر من اختيار صحيح مرةً وخطأ مرةً أخرى، أو على الأقل يختار خلاف الأولى في أمر من الأمور. وهكذا أدرك الحباب أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وهكذا يفتح الرسول عليه الصلاة والسلام المجال الواسع لكل فكر وإبداع وإضافة، وبهذا تشارك كل عقول المسلمين لخدمة الأمة الإسلامية، فلو كان رأي الحباب خطأً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سيعرفه الرأي الصحيح، ويكون قد تعلم شيئاً، أو على الأقل قاتل وهو مقتنع بوجهة النظر الأخرى. وهذا يرجعنا إلى مبدأ الشورى من جديد، ويرينا كيف نستفيد من طاقات المجتمع؟ وكيف يمكن أن نستغل المواهب الهائلة التي وزعها الله على خلقه بحكمة عجيبة؟ فلو كان هناك كبت لآراء الجنود لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام المكان المناسب في بدر، وهذا سيكون له ضرر على الأمة كلها لا على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط. فالشورى أمر حتمي لأمة تريد النهوض، فإنه بعد النزول في المكان الذي حدده الحباب رضي الله عنه قام الصحابة بالإشارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر اختلف فيه الرواة، وهو بناء العريش أو مقر القيادة؛ لكن سواء تم بناء هذا العريش أو لم يتم، فإن الثابت حقيقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينعزل عن جيشه أبداً في موقعة بدر، فمع أنه القائد الأعلى للجيش قاتل معهم بنفسه، بل كان أقربهم إلى العدو. روى الإمام أحمد بن حنبل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس صلى الله عليه وسلم، ثم يقول علي بن أبي طالب: ما كان أحد أقرب إلى المشركين منه). فهذا كلام في منتهى الأهمية؛ لأنه يثبت لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مشاركاً لجيشه ولشعبه، ويعيش معهم في كل قضاياهم.

نزول السكينة والمطر والنعاس على جيش المسلمين

نزول السكينة والمطر والنعاس على جيش المسلمين حصل في ليلة بدر أمران في غاية الأهمية غير النزول في مكان بدر: أولاً: النعاس الذي غلب المسلمين في ليلة بدر بعدما وصلوا وعسكروا في المكان. ثانياً: المطر الذي نزل في نفس الليلة، فالنعاس كان أمره عجيباً، كان المسلمون على بعد خطوات من الجيش المكي الكبير، ومع ذلك يصلون إلى حالة من السكينة وهدوء الأعصاب، فينامون بأمان تام في أرض بدر، ومعلوم أن الشخص لما يكون منشغلاً بشيء مهم لا يستطيع أن ينام بمنتهى الأمان وهو في وسط بيته، فما بالك بشخص نائم في أرض المعركة وهو منشغل بها، فمن الممكن أن تكون نهايته فيها؟ لكنه هدوء أعصاب عجيب، لا يفكر في عدد الأعداء، ولا يفكر في طريقة القتال، ولا يفكر في سيناريو المعركة، ولا يفكر في أولاده وزوجته، ولا يفكر في تجارته ولا حتى في نفسه، بل نائم في منتهى الراحة، ففي هذه الليلة نام الجميع إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ظل طوال الليلة يصلي ويدعو الله عز وجل أن ينصر هذا الجيش المؤمن. على الناحية الثانية كان جيش مكة حيران لا يعرف النوم، فغداً موقعة مرعبة بالنسبة لهم، بالإضافة إلى أنه ليس مقتنعاً بالحرب أصلاً، وعلى ماذا يحارب، من أجل هبل واللات والعزى، أم من أجل القائد الزعيم أبي جهل، أم من أجل القافلة؟ فالقافلة قد تجاوزت الخطر، وأبو سفيان عبر بها إلى بر الأمان فعلام القتال؟ فقد يموت المشرك غداً، أو يصبح أسيراً أو جريحاً أو هارباً ومطارداً، فيا لها من نفسية مضطربة مريضة! {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. كذلك المطر في ليلة بدر كان عجيباً جداً، فمنطقة بدر كلها عبارة عن واد صغير، فسحابة واحدة صغيرة قد تغطي الوادي كله، فنزول المطر في ليلة بدر على أرض بدر فقط غريب جداً، فقد نزل هيناً لطيفاً خفيفاً على المسلمين ونزل وابلاً شديداً معوقاً على الكافرين، شرب المسلمون واغتسلوا وتماسك الرمل في معسكرهم تحت الأقدام، فثبتت الأقدام، وذهبت عنهم وساوس الشيطان، وقد جاء الشيطان إلى بعضهم بسبب الجنابة وقلة الماء وقال لهم: كيف ستصلون؟ كذلك آية التيمم لم تكن قد نزلت بعد، فقال الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]. أما الكفار فقد أحدث المطر مخاضة كبيرة عندهم، منعت التقدم وأعاقت الحركة، وليس لأحد طاقة بحرب الله عز وجل.

مقارنة بين دعاء المؤمنين لربهم ودعاء الكافرين يوم بدر

مقارنة بين دعاء المؤمنين لربهم ودعاء الكافرين يوم بدر في صباح يوم بدر كانت أول كلمات الرسول عليه الصلاة والسلام دعاء لرب العالمين سبحانه وتعالى، دعا أمام الناس جميعاً ليذكرهم بالله عز وجل الذي بيده النصر والتمكين، رفع يده وقال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة)، فالنبي صلى الله عليه وسلم من وقت خروجه من المدينة يدعو الله سبحانه وتعالى أن يأتي بالنصر، فعندما خرج من المدينة المنورة إلى بدر كان يقول: (اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم)، وقبل القتال كان يقول: (اللهم فنصرك الذي وعدتني)، وأثناء القتال كان صلى الله عليه وسلم شديد الابتهال إلى ربه، كان يرفع يده إلى السماء ويستقبل القبلة ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا رافعاً يديه إلى السماء حتى سقط رداءه من على كتفيه، فأتاه الصديق رضي الله عنه وأرضاه فرفع الرداء من على الأرض، ووضعه على كتف الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال له برقة وهو يمسك بكتفي الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك)، فانظر إلى طول الدعاء وطريقته حتى جعل أبو بكر الصديق يشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام من كثرة الدعاء، ولم يكن هذا الدعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام فقط، بل كان من الجيش كله، فكل الجيش مرتبط بالله سبحانه وتعالى؛ لذلك قال الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} [الأنفال:9] أي: جميعاً تستغيثون بالله، وكل هذا يؤكد على أهم صفة من صفات الجيش المنصور، ألا وهي صفة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والاعتقاد الذي لا ريب فيه أنه هو الذي ينصر ويمكن ويعز ويرفع سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، هذا كان دعاء الفريق المؤمن. لكن الغريب أن الكفار أيضاً كانوا يدعون الله، وعلى رأس الذين كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء أبو جهل، كان يقول: اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة. ويستخدم نفس الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم. إن دعاء أبي جهل هذا يدعو إلى العجب والحيرة، فكتب السيرة تنقل لنا كثيراً مواقف في فترة مكة تثبت بما لا يدع أي مجال لشك أن أبا جهل كان يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق، ويعرف أنه نبي، ويعرف أن القرآن معجز ويعرف أن الملائكة تحرس النبي صلى الله عليه وسلم، عرف ذلك بوضوح في أكثر من موقف، ومع ذلك فهو الآن يدعو وبصوت يسمعه الجميع أن ينصر الله عز وجل الأحب إليه! فتفسير دعاء أبي جهل يحتمل أمرين في رأيي، الأمر الأول: أنه يصنع نوعاً من التحفيز المعنوي لجنوده، فكثير من جنود الباطل يحسون بالضعف؛ لتفاهة قضيتهم، ولشعورهم المستمر أن المسلمين معهم قوة كبيرة أكبر من قوة البشر، فيقوم القائد الكافر بإيهام جنوده أنهم على حق، وأن مهمتهم سامية، وأنهم يعملون للخير، ليس خيراً لهم فقط، بل يعملون لخير المجتمع والوطن، بل والعالم، فقد يقنعهم كما كان يفعل أبو جهل بأن ما يقومون به من قتال هو جزء من الدين، وأنهم متدينون ومخلصون ومتبعون للآلهة، وهذه محاولة دنيئة لإضلال القوم، كما قال الله في حق فرعون: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]، وقال فرعون نفسه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فيحاول أن يقنعهم أن كل الإجرام الذي يقوم به هو وأمثاله من الطواغيت ما هو إلا خير وهدى ورشاد وإصلاح، وهذا الأمر نراه كثيراً سواء في الطواغيت القدماء أو في الطواغيت المعاصرين، فكلهم يقولون: إنهم مصلحون. الأمر الثاني: أن الطاغية حينما يستمر في إقناع الناس أياماً عديدة أنه مصلح ومتدين وأخلاقه عالية، يصدق نفسه أنه على خير، وقد كان من قبل يخدعهم بالباطل وهو يعرف أنه على باطل، كذلك البطانة التي من حوله تقنعه أنه على حق، وأنه عبقري ومصلح ومؤدب وخيِّر وطيب ورحيم؛ فيصدق الطاغية نفسه ويصدق أعوانه الذين من حوله، فيصبح مقتنعاً أنه على صواب، وهذه مرحلة في منتهى الخطورة تدل على عمى البصيرة، فلا يرى الحق من الباطل، ولا يستطيع أن يميز الصواب من الخطأ، ففي المرحلة الأولى كان يميز الصواب من الخطأ، لكنه كان يعمل الخطأ لهوى في نفسه أو لمصلحة أو هدف، أما الآن فإنه لم يعد يستطيع أن يرى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:1

بعض صفات وملامح الجيش المنتصر

بعض صفات وملامح الجيش المنتصر

التكتيك لأمر القتال والأخذ بالأسباب المادية

التكتيك لأمر القتال والأخذ بالأسباب المادية بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يصف الصفوف، وكانت هذه أول مرة يحارب فيها العرب في صف الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لذا كان حريصاً على جعل الصف متساوياً ومتراصاً في منتهى النظام، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يلقي على جيشه بعض الأوامر العسكرية لتنظيم العملية الحربية، قال: (إذا أكثبوكم -أي: اقتربوا منكم- فارموهم بالنبل)، فأمرهم بالرمي عليهم عند الاقتراب، حتى لا يطلقوا السهام والكفار لا يزالون بعيداً فلا تصل السهام إليهم. وأحياناً يكون المقاتل في حالة عصبية شديدة، ويطلق السهام في كل مكان بدون تركيز، وهذا يضيع الذخيرة على المسلمين، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لا تطلقوا هذه السهام إلا عندما يقتربون ويصبحون في مرمى السهام بعد ذلك ابدءوا في ضربهم، في رواية البخاري يقول: (واستبقوا نبلكم) أي: حافظوا على الذخيرة، ولا تقوموا بإهدار هذه السهام، ثم يقول: (ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم) لا ترفعوا السيوف من أغمادها إلا بعد أن يقترب الجيش تماماً. إن هذا التكتيك النبوي يحتاج منا إلى وقفة؛ حتى نعرف صفة مهمة من صفات الجيش المنصور، فمن صفات الجيش المنصور: الإعداد الجيد والأخذ بكل أسباب النصر المادية، والعمل بكل ما هو متاح في اليد لتحقيق النصر، وقد رأينا كيف حصلت المخابرات الإسلامية على أخبار جيش مكة، ورأينا الموقع العسكري المتميز الذي نزلوا فيه، ورأينا التوجيهات العسكرية الحكيمة، ورأينا الصفوف والترتيب، وسنرى أيضاً مهارة القتال وقوة الضربات والشجاعة والإقدام والاحترافية في الحرب، فهو إعداد في منتهى الروعة، إذ الجيش كله يتكون من فرسين وسبعين جملاً، وعدة المسافر ليست عدة المحارب، لكن هذه هي الإمكانيات التي في استطاعتهم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعد كل ما في استطاعته؛ لذلك ليس غريباً أن تجد في سورة الأنفال قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].

تواضع القائد مع جنده وانصهاره فيهم

تواضع القائد مع جنده وانصهاره فيهم هناك موقف مهم وعجيب حصل أثناء تسوية صفوف المقاتلين المسلمين، هذا الموقف يعرفنا أيضاً على صفة مهمة من صفات الجيش المنصور أثناء تسوية الصف، فالرسول صلى الله عليه وسلم وجد صحابياً متقدماً عن غيره من الصحابة في الصف، وغير مستو في مكانه، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وكان يمسك بيده قدحاً -سهماً بلا نصل- يسوي بها الصف، وكان اسمه سواد بن غزية رضي الله عنه، فضربه بالقدح ضربة خفيفة في بطنه، وقال له: (استوِ يا سواد!)، لكن العجيب في الموقف هو رد فعل سواد رضي الله عنه الذي فاجأ الجميع بقوله: (يا رسول الله! أوجعتني فأقدني)، يعني: الضربة أوجعتني وأنا أريد القصاص، يريد أن يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد الجيش، بل قائد الدولة الإسلامية، لكن الأعجب من كل هذا رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استجاب دون أي جدل لطلب سواد، ولم يقل له: الضربة خفيفة وأنا قائد الجيش، وليس فقط ذلك، بل إن سواداً كانت بطنه عارية، فلما ضربه الرسول عليه الصلاة والسلام جاءت الضربة على بطنه مباشرة، فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليضربه سواد ضربة مماثلة تماماً على البطن مباشرة ودون ثياب. فهل هذا الموقف يحصل في الجيش الآن بين جندي وعقيد أو حتى رائد أو نقيب؟ لن أقول لك: لواء أو مشير. هل هذا من الممكن أن يحصل؟ لكن هذا الحدث حصل في التاريخ مع الرسول عليه الصلاة والسلام، حصل مع قائد الدولة بكاملها، كشف عن بطنه وقال: (استقد)، خذ حقك. اضرب، لكن سواداً اعتنقه وقبل بطن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: حضر أمر القتال والحرب- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك) فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير. ولم يمت سواد في بدر، لكنه لفت أنظارنا إلى صفة أصيلة من صفات الجيش المنصور، هذه الصفة هي تلاحم القائد مع شعبه وانصهاره فيه، فالجيش المنصور لا فرق فيه بين قائد وجندي، والأمة المنصورة لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار في بيعة العقبة الثانية: (أنا منكم وأنتم مني)، وقد رأينا هذا الأمر قبل ذلك في مكة، وفي قصة بناء المسجد النبوي، ورأيناه الآن في كل خطوات بدر، وسنراه كثيراً من أول لحظات الخروج من المدينة إلى بدر، فقد كان الصحابة يتناوبون على الإبل لقلة عددها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائد الجيش يتناوب في الركوب مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه، وفي رواية: مع أبي لبابة رضي الله عنه. وأثناء السفر قال الصحابيان للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن نمشي عنك، فانظر إلى رد الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يريد أجر المشي في سبيل الله، وهذا التصرف يزيد من حماسة الجند، وذلك عندما يجد القائد معه في كل خطوة من مشاكله وتعبه وسعادته وحزنه، ليس هناك ترفع ولا كبر ولا ظلم ولا كراهية، أما الآن في بعض الدول الإسلامية يكون هناك ألف حاجز بينك وبين الزعيم لابد أن تجتازها، حتى تستطيع أن تصل إليه، بل من المستحيل غالباً أن تتجاوز التسعمائة حاجز الأخيرة. فهذه مشكلة لو حصلت في أمة ليس من الممكن أن تنتصر أبداً، ولتراجعوا معي سيرة زعماء الأمة الذين حصل في زمنهم نصر وتمكين وعزة، فإنك ستجد اختلاطاً كاملاً من القائد مع الشعب، كـ صلاح الدين الأيوبي، وقطز، وعبد الرحمن الناصر، وموسى بن نصير، ويوسف بن تاشفين وغيرهم كثير. فلتراجعوا تاريخ الأمة، فإنكم ستجدون هذه الأشياء واضحة مثل الشمس، وعلى النقيض تماماً كل لحظات الانهيار والتردي في حالة الأمة تكون مصحوبة بعزلة الحاكم عن الشعب. روى الترمذي وأبو داود عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره).

تفوق عناصر الجيش في المواجهات الفردية يرفع من معنويات الجيش

تفوق عناصر الجيش في المواجهات الفردية يرفع من معنويات الجيش صار الجيشان الآن أمام بعضهما، وبدأت ساعة الصفر، وقام رجل من المشركين اسمه الأسود بن عبد الأسد المخزومي وأقسم أن يشرب من حوض المسلمين أو ليموتن دونه، فانظر إلى هذا الضلال! كفاح وتضحية واستعداد للموت من أجل قضية فاسدة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، وقام الرجل ليبر بقسمه، لكن قابله الأسد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وضربه ضربة قطعت ساقه، ومع ذلك كان الرجل مصراً على الوفاء بقسمه، فظل يزحف على الأرض لكي يصل إلى ماء بدر، لكن حمزة أدركه وقتله قبل أن يصل إلى مراده. فكانت هذه نقطة بداية مهمة للمعركة، وكانت نقطة لصالح المسلمين، حدث هذا في أول دقيقة من دقائق المعركة، فكان توفيقاً كبيراً من رب العالمين، فقد رفع معنويات المسلمين وأحبط معنويات الكافرين، وحرك الغيظ في قلوب زعماء مكة، ونهض ثلاثة منهم يطلبون المبارزة من المسلمين، فقد كان من عادة الناس في الحروب القديمة أن يتبارز أفراد قلائل في بداية المعركة كنوع من الاستعراض، ثم يبدأ بعد ذلك الهجوم الشامل في الجيش كله؛ لذلك قام عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وهم من أشداء فرسان مكة. والعجيب الذي يلفت النظر هو قيام عتبة بن ربيعة، فقد كان عتبة بن ربيعة من الحكماء المعدودين في قريش، ومن أصحاب الرأي السديد في أمور كثيرة، وكان يدعو قريشاً أن تخلي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب ولا يقاتلوه، وكان يقول: إن هذا الرجل ليس بشاعر ولا بكاهن ولا بساحر ولا بكاذب، وكان يرفض فكرة القتال في بدر بعد إفلات القافلة، وكان إلى آخر لحظة يجادل المشركين في قضية القتال، حتى نظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من بعيد قبل بدء المعركة، وهو يركب جملاً أحمر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا)، لكن القوم لم يطيعوه وأصروا على القتال، وللأسف الشديد دخل عتبة معهم المعركة ولم يرجع كـ الأخنس بن شريق، والأعجب من ذلك أنه خرج مع من خرج للمبارزة، فقد كان عتبة مصاباً بمرض خطير مرض الإمعية، فهو حكيم في الرأي، لكن يسير مع الناس حيث ساروا، إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، كان ضعيف الشخصية مهزوزاً متردداً، وهذا الذي أرداه فأصبح من الخاسرين، وأمثال هؤلاء نراهم كثيراً في الواقع، فمن الناس من يكون ذا رأي حكيم وسديد، ويكون عندنا آمال عريضة في أنه يغير من حوله، لكنه يمشي مع التيار، وتكون الكارثة. خرج الفرسان الثلاثة يطلبون القتال، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار، لكن الفرسان المشركون قالوا: لا حاجة لنا بكم إنما نريد أبناء عمنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم- ثم قال: قم يا حمزة! وهو عم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال: قم يا علي بن أبي طالب وهو ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، فكلهم من الأقربين، مع أن القتال خطير، لكن القائد وعائلته يعيشون حياة الناس تماماً، ويتعرضون لكل مشاكل الأمة، فيكونون في أوائل المضحين والمجاهدين، وبدأت المبارزة، واختلفت الروايات فيمن بارز من؟ لكن رواية أحمد وأبي داود تقول: إن علي بن أبي طالب بارز شيبة، وإن حمزة بارز عتبة، وإن عبيدة بن الحارث بارز الوليد بن عتبة. والتقت السيوف واحتدم الصراع، وبدأت الدماء تسيل، ثم بدأت الجثث تتساقط في دقائق معدودة، وانتهت الجولة الأولى من الصراع لصالح المسلمين مرة أخرى، علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب قتلا شيبة وعتبة، سبحان الله! سقط عتبة في أرض بدر ولم تنفعه حكمته، وأصيب عبيدة والوليد بإصابات بالغة، فأسرع علي وحمزة إلى الوليد بن عتبة وقتلاه، وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين، فكان سقوط أربعة قتلى للمشركين في أول المعركة. اشتعلت أرض بدر بالقتال، هجوم شامل كاسح في كل المواقع، صيحات المسلمين ترتفع بشعارهم في ذلك اليوم: أحد أحد، أحد أحد، صليل السيوف في كل مكان، الغبار غطى كل شيء، هذا الصدام المروع حدث لأول مرة بين المسلمين والكافرين، معركة بين الحق والباطل.

وضوح الهدف وسمو الغاية عند المسلمين من عوامل النصر الرئيسية

وضوح الهدف وسمو الغاية عند المسلمين من عوامل النصر الرئيسية مع كل الحماس الذي كان المسلمون فيه، إلا أنهم لا يزالون محتاجين إلى تشجيع وتحميس أكثر؛ لأن الموقف صعب، فجاء دور التحميس والتشجيع، ولن يكسل المؤمن حين يسمع ذلك، جاء وقت التذكير بالجنة، فقد رفع الرسول عليه الصلاة والسلام صوته ليسمع الجميع قال: (والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة). إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عجيب جداً لا يمكن أبداً أن يفهمه علماني ولا كافر أو فاسق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحفز الناس كالمعتاد في كل الحروب على الدفاع عن حياتهم، بل يحفزهم على فقد حياتهم، يقول: (لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً) إلى آخر الحديث، والذي يرى نفسه أنه يعيش للدنيا لو قتل يكون قد فقد كل شيء، لكن الذي يفهم ما معنى الجنة سيكون للقتل عنده معنى آخر، فالجنة حلم كبير عند المسلمين، وهي ليست في الدنيا، إنما تأتي الجنة بعد الموت، فالموت هو الحاجز الوحيد بين الشهيد الذي يقتل في أرض الجهاد وبين الجنة، كما أن الشهيد يدخل الجنة بغير حساب. إذاً: لو جاء الموت لأصبحنا من أهل الجنة، فليت الموت يأتينا، وهكذا يصبح الموت المكروه عند عامة البشر أمنية، بل أسمى الأماني لمن فقه حقيقة الجنة. (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) والحديث في البخاري. وأيضاً في البخاري: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولملأت ما بينهما ريحاً -أي: ما بين السماء والأرض، أو ما بين المشرق والمغرب- ولنصيفها -أي: الخمار الذي على رأسها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها)، سبحان الله! فمن كان عنده يقين في ذلك يشتاق إليه؛ لذلك فإن الجيش المنصور جيش يحب الموت، يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة. وقد تحدث الرسول عليه الصلاة والسلام يتكلم عن الأمة المهزومة التي ليس لها وزن في العالم، فأخبر أن أهم صفة فيها صفة الوهن: (قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، أي: كراهية الموت في سبيل الله. فلو حصل في الأمة كراهية الموت، فإنها ستقع، وعلى العكس لو أحبت الأمة الموت في سبيل الله وهبت النصر ووهبت الجنة. يذكر أن إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الهالك قال في تعليق على اتهام اليهود له بعدم القدرة على السيطرة على حماس والجهاد، قال: أتحدى أي جهاز مخابرات في العالم أن يقاوم أناساً يريدون أن يموتوا! فالمؤمن القوي يحب أن يموت، ويخاف ألا يموت، ويخاف أن ينكشف أمره فلا يموت، فكيف يمكن أن تحاربه؟! فيا ترى! هل أحد منكم يريد أن يموت أو يبحث عن الموت، أو يكون مستعداً للموت؟! هل أحد منكم كتب وصيته؛ لأنه يحلم بيوم يموت فيه في سبيل الله؟ إن لم تكن هذه القضية في بالك ولا تبحث عنها فأنت لا تعرف الجنة. إن طلب الموت في سبيل الله ليس فيه كآبة ولا حزن، إنما الكآبة أن تقف يوم القيامة تنتظر الحساب سنوات وأنت ترى حولك الشهداء يدخلون الجنة من غير حساب، فلا عذر لك يا أخي المسلم أن تقول: أين الجهاد؟ وأين القتال؟ فالمسألة مسألة صدق في النية تريد أو لا تريد، فإن كنت تريد فستأخذ أجر الشهادة وتدخل الجنة وإن مت في بيتك وسط أهلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وإن كنت لا تريد فلن تأخذ أجر الشهادة حتى لو فتح لك ألف باب للجهاد، فالمسألة مسألة صدق، وانظر إلى الجنة كيف أثرت في الصحابة يوم بدر، فهذا عمير بن الحمام رضي الله عنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض). فماذا أعددنا لهذه الجنة؟! {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]. لما سمع عمير بن الحمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك قال متعجباً: عرضها السماوات والأرض؟! فإن الواحد منا يكافح سنين حتى يكون عنده بيت أو سيارة أو بعض الأموال أو بعض السلطات، وكل هذا لا يمثل أي وزن في الأرض، فما بالك بالجنة التي عرضها السماوات والأرض؟ فإنه لا يستبعد أن يكون ملك أحدنا في الجنة قدر مجموعة شمسية أو أكثر؛ فـ عمير يتعجب من جنة عرضها السماوات والأرض، فقال صلى الله عليه وسلم في منتهى الإيجاز: (نعم)، وتلقى عمير بن الحمام رضي الله عنه الكلام بمنتهى بيقين لا جدال فيه ولا محاورة، فقال عمير: (بخ بخ -كلمة تقال للتعجب- فقال صلى الله عليه وسلم: ما يحملك

النفوس العظيمة لا يعوقها عن هدفها عائق

النفوس العظيمة لا يعوقها عن هدفها عائق كان عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه شاباً لا يتجاوز عمره (16) عاماً، فهو في تعريف منظمة الصحة العالمية طفل؛ لأن الأطفال في تعريفهم تحت (18) سنة، وفي تعريف القيم والأخلاق والمبادئ والعقائد يعد من سادة الرجال رضي الله عنهم، تقدم رضي الله عنه ليجاهد مع المجاهدين في بدر، لكن خاف أن يرده الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يزال صغيراً، فأخذ يتوارى بين القوم حتى لا يراه الرسول عليه الصلاة والسلام فيرده، فرآه أخوه المجاهد العظيم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. قال له: ما يحملك على هذا؟ قال: أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة. سبحان الله! كانت لديه أمنية حلوة أن يموت وعمره لا يتجاوز (16) سنة، رآه الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يختبئ منه، فأشفق عليه من القتال ورده فبكى عمير؛ لأنه ستضيع عليه فرصة الموت في سبيل الله، فرق له صلى الله عليه وسلم لما رآه يبكي وسمح له بالجهاد، فجاهد واشتاق بصدق للشهادة، فاستشهد ودخل الجنة. هكذا فهم عمير بن أبي وقاص الجنة وهو لم يكلف إلا منذ سنتين أو ثلاث سنوات، فهم ما يعجز عن فهمه الأشياخ والحكماء والعباقرة، فيا له من منهج تربوي إصلاحي واقعي لا يرقى إليه أي منهج من المناهج! وهذا عوف بن الحارث رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً) يعني: من غير درع، وهذا فيه دلالة على قوة البأس وعدم الخوف من الموت، ومعلوم أن هذا التصرف يلقي الرهبة في قلوب العدو، هنا ألقى عوف درعه وقاتل حاسراً حتى استشهد رضي الله عنه ودخل الجنة. إن موضوع الجنة لم يكن غائباً أبداً عن أذهان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لذلك انتصروا. إن الجيش الإسلامي قبل أن يأتي إلى بدر كان يبحث عن الجنة، وفي أرض بدر كذلك كان يبحث عن الجنة، وبعد بدر كذلك يسأل عن الجنة. فقبل الخروج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة رضي الله عنهما الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، لكن كان تحت رعايتهما بنات كثيرات، فلابد أن يخرج واحد منهما، ويقعد الآخر لرعاية البنات، لكن الاثنين يريدان أن يخرجا للقتال، يطلب الاثنان الجنة بصدق، فلم يتنازل أحد منهما، فقررا أن يعملا قرعة، فخرج سهم سعد بن خيثمة، فتحسر أبوه حسرة حقيقية، فقال لابنه في توسل: يا بني! آثرني اليوم -أي: اتركني أخرج- فضلني على نفسك، لكن سعداً رضي الله عنه وأرضاه رد بجواب يفسر سبباً من أسباب الجيش المنصور، قال في أدب: يا أبي! لو كان غير الجنة لفعلت، لا أستطيع. وخرج سعد بن خيثمة بهذه الروح الصادقة وقاتل رضي الله عنه حتى استشهد، ودخل الجنة التي يريد. واللطيف في الأمر أن أباه خيثمة خرج في أحد بعد بدر بسنة، واستشهد أيضاً! وهذه أم حارثة بن سراقة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن ابنها حارثة بن سراقة استشهد في بدر وهو شاب صغير، مات مقتولاً، وفي مثل هذا الموقف تطيش عقول وتضطرب أفئدة ويتزلزل رجال ونساء، لكن أم حارثة أتت تسأل عن شيء محدد، قالت: (يا رسول الله! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع؟ فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أم حارثة! إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)، الله أكبر! حارثة بن سراقة رضي الله عنه وأرضاه في الفردوس الأعلى؛ لأنه مات شهيداً في سبيل الله، والشهيد كما ذكر صلى الله عليه وسلم من يموت مقبلاً غير مدبر محتسباً صابراً، هذه صفات الشهداء الذين في الجنة، وهذه كلها كانت موجودة في حارثة، لذلك بلغ الفردوس الأعلى، واستراحت أم حارثة وتقبلت أمر موت ابنها الشاب بسهولة شديدة، وصبر واحتساب، بل وبسعادة رضي الله عنها؛ لأنه من يحب أحداً يحب له الخير أيضاً، وليس هناك خير أفضل من الجنة.

بعض صفات أهل بدر وشدة حرصهم على الجنة

بعض صفات أهل بدر وشدة حرصهم على الجنة إن صفات أهل بدر الجميلة كثيرة، من أهم صفاتهم: أنهم جيش مؤمن بالله، ومؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومؤمن بالجنة، ومن غير الإيمان لا يمكن أن يكون هناك نصر، وهذا القول لا نقوله كنوع من الترف الفكري، أو القصص التاريخي الذي ليس له واقع في حياة الناس، إنما نقوله ليكون منهجاً في حياتنا، ومنهجاً في تربية الأطفال والرجال والنساء، ومن غير هذا المنهج لا يوجد فرصة للإصلاح، دعوكم من مناهج الشرق والغرب، ومناهج الإصلاح الوهمية والمبنية على طلب الدنيا وبأي وسيلة، إن هذه المناهج لا تورث إلا كآبة وتعاسة في الدنيا، وشقاء وذلاً في الآخرة. وإياكم أن تظنوا أن الغرب والشرق من أصحاب المال والسلطة والجاه والملك يعيشون في سعادة، أبداً، من يفقد منهم ماله ينتحر، ومن يموت له ابن أو حبيب يكتئب وينعزل عن المجتمع، ومن يتعرض لمصيبة تكون هذه نهاية الدنيا عنده، ومن وجد نفسه فقيراً أو من عائلة صغيرة، أو يعيش في وضع اجتماعي صغير يعيش معقداً حاقداً على المجتمع، حاسداً لكل الأغنياء، وقد يكون سارقاً وقاتلاً ومرتشياً وفاسداً، ويعيش حياة الإجرام، ولا يوجد عنده بديل. روى الحاكم -وقال: صحيح على شرط مسلم - عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً أسود أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أسود - أي: رجل فاقد لكل مقومات الوجاهة في الدنيا ومتاعها - منتن الريح قبيح الوجه لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: في الجنة، فقاتل الرجل حتى قتل، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما استشهد، ووقف بجانبه، يعلم الصحابة ويعلمنا - ويقول: قد بيض الله وجهك - ألم يكن يقول: إني رجل أسود؟! - وطيب ريحك وأكثر مالك)، ومعلوم أن أقل أهل الجنة ملكاً له عشرة أمثال الدنيا، فالجنة فيها سلوى وتعويض لكل مؤمن فقد أي شيء، وفيها الجزاء لكل من تعب أو سهر أو بذل أي مجهود للإصلاح. الجنة صبّرت أم حارثة، وشجعت عمير بن الحمام، وعمير بن أبي وقاص وسعد بن خيثمة، وحارثة بن سراقة وغيرهم وغيرهم. الجنة جعلت الحباب بن المنذر يقول رأيه؛ لكي يفيد المسلمين ويدخل الجنة بعد ذلك. الجنة جعلت المكروه محبوباً وجعلت الموت مطلوباً، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا مشمر للجنة؟ ألا مشمر للجنة؟ -أي: هل هناك من يريد الجنة- فإن الجنة لا خطر لها -يعني: لا مثيل لها- هي -ورب الكعبة- نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبداً، في حبرة ونضرة، في دور عالية سليمة بهية، فلما سمع الصحابة ذلك قالوا: يا رسول الله! نحن المشمرون لها؟ قال: قولوا: إن شاء الله). وهكذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد وحض عليه، وأعطاهم شيئاً عملياً يدخلون به الجنة. والحديث في صحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه. فعندما تملأ الجنة حياتنا بهذه الصورة، وتصبح هدفاً واضحاً في تفكيرنا، وحين نأخذ قراراً أو نعمل عملاً أو نقول كلمة أو نضحك ضحكة أو نسافر أو نقعد أو نحب أو نكره، عندما تصبح الجنة محركاً لكل حياتنا، فإننا سنرى نصراً مثل نصر بدر، وتمكيناً وعزة وسيادة مثل الذي حصل في بدر تماماً بتمام. ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نصر بدر

سلسلة السيرة النبوية_نصر بدر من أسباب نصر الله لعباده المؤمنين أن يكونوا متحابين متآلفين متماسكين، مهما اختلفت أجناسهم، إذ إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، فتحقيق هذا الأمر مع غيره من المطلوبات الشرعية يحقق الصدق مع الله الذي نصر به المسلمون في غزوة بدر وغيرها من الغزوات، وخذل به أعداؤهم، وأنزل الله لتأييدهم جنوداً من عنده سبحانه.

تابع صفات الجيش المنصور وملامحه

تابع صفات الجيش المنصور وملامحه أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. في الدرسين الماضيين تكلمنا على أحداث كثيرة من أحداث غزوة بدر، وخرجنا من الدرسين بعدة صفات للجيش المنصور، أهمها: أنه جيش مؤمن بالله عز وجل، مؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، مؤمن باليوم الآخر، يعمل بصدق للوصول إلى الجنة، يتعاون فيه القائد مع الجنود لخدمة الأمة الإسلامية، لا ينعزل فيه القائد عن جيشه ولا الحاكم عن المحكومين، تترسخ فيه الشورى كمبدأ أصيل من مبادئ الحكم والوصول إلى قرار، يعد العدة المادية من سلاح وخطة وتدريب بقدر ما يستطيع، جيش حاسم غير متردد، نشيط لا فتور فيه، متفائل لا إحباط فيه، جريء شجاع لا يهاب الموت بل يطلبه؛ هذه بعض صفات الجيش المنصور.

الوحدة والتماسك بين المؤمنين على أساس الدين لا النسب

الوحدة والتماسك بين المؤمنين على أساس الدين لا النسب ما زالت هناك صفات مهمة، وكلها واضحة في أهل بدر: الوحدة والألفة والتماسك والترابط بين أفراد الجيش الواحد، وبين أفراد الأمة الواحدة، فإنه لا يوجد نصر من غير وحدة. هذه قاعدة، لكن الوحدة في الجيش المنصور لا بد أن تكون وحدة عقائدية، بمعنى: أن الرابط الرئيسي بين المسلمين هو الإسلام، لا قبلية ولا لون ولا عنصر ولا وضع اجتماعي ولا أي شيء من متعلقات الدنيا، فالوحدة في الله والأخوة في الله هما اللتان تنفعان فعلاً. انظر إلى أهل بدر! جيش قوي متماسك، مع أن تركيبته عجيبة خاصة في هذا التوقيت، قبل الإسلام كان الرباط الأساسي في الجزيرة -ولعله الوحيد- هو رباط القبلية، حتى قالوا كلمتهم الفاسدة: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، ليس من المهم في أيام الجاهلية أين الحق أو العدل، لكن المهم أن هذا من قبيلتي سواء كان ظالماً أو مظلوماً لا فرق، فجاء الإسلام ليغير المقاييس الباطلة التي كانت الجاهلية تحكم بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال الكلمة نفسها لكن بتعديل كبير جداً في المفهوم والتصور. قال لأصحابه: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماًَ)، وهذا الحديث في البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، فتعجب الصحابة، وقالوا: (يا رسول الله! ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه وسلم: تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره). وهكذا فإن أخي هو المشترك معي في العقيدة، ليس مهماً ما هي قبيلته أو بلده، أنصره بالعدل والحق فقط، ولو ظَلَم أشترك مع غيري كي أرده عن ظلمه، وأكبر ظلم في الدنيا هو الإشراك بالله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؛ لذلك رأينا التلاحم والتناصر والوحدة بين الطوائف المختلفة من أهل بدر، هذه الطوائف لم يجمعها إلا شيء واحد فقط هو الإسلام، فقد حاولوا أن يردوا الظلم الذي ارتكبه غيرهم، حتى لو كان الظالمون الآباء والأبناء والأقارب والعشيرة. إن جيش المسلمين في بدر كان فيه المهاجر الذي من قريش، والأنصاري الذي من الأوس والخزرج، وفرع قريش بعيد جداً عن فرع الأوس والخزرج، فقريش من العدنانيين، والأوس والخزرج من القحطانيين، فرعان مختلفان تماماً، ومع ذلك لأول مرة في تاريخ العرب يكونون جيشاً واحداً، والذي جمعهم هو الإسلام؛ هذه نقطة من أهم نقاط بناء الأمة الإسلامية. إن هذا الجيش لم يكن من كل القبائل فقط، بل كان فيه العربي وغير العربي، فـ بلال كان في هذا الجيش مع أنه حبشي، ولم يشعر مطلقاً بالغربة في هذا الجيش الذي يغلب عليه العرب، ولم يشعر العرب في داخل الجيش بأن هناك عنصراً غريباً في داخل الجيش من الحبشة، بل التعاون والتلاحم بينهم كان على أكبر مستوى. تعالوا لنرى قصة قتل أمية بن خلف. كان أمية بن خلف خائفاً من أن يشترك في غزوة بدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن المسلمين سيقتلونه، وكان أمية بن خلف صديقاً لـ عبد الرحمن بن عوف أيام الجاهلية، كان عبد الرحمن بن عوف يمشي في أرض بدر قبل انتهاء المعركة بقليل، وقد وضح أن النصر حليف المسلمين، حاملاً في يديه مجموعة أدراع استلبها من القتلى المشركين الذين قتلهم، والسلب: هو ما يكون على القتيل المشرك، وهو من حق المسلم الذي قتله، فرأى أمية وابنه واقفين في منتهى الرعب، فلما رأى عبد الرحمن صرخ: هل لك فيَّ تأخذني أنا؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيتك اليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ فرمى عبد الرحمن بن عوف بالأدراع وأخذ أمية بن خلف وابنه، واسم ولده علي بن أمية. أخذ عبد الرحمن يمشي بهما في أرض بدر، فمر عليهم بلال بن رباح رضي الله عنه فلما رأى بلال أمية بن خلف تذكر الذكريات المؤلمة فإن أمية هو الذي كان يعذب بلالاً في مكة، فصرخ بلال: رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا. لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ الموضوع ببساطة، وقال لـ بلال: أي بلال! أسيري، فكان بلال لا يقول إلا كلمة واحدة: لا نجوت إن نجا، فرأى عبد الرحمن بن عوف أن بلالاً يأخذ الموضوع بجد ولا يسمعه، فقال له: أتسمع يا بلال؟! هذا أسيري، فقال بلال: لا نجوت إن نجا، وكان عبد الرحمن يمنع بلالاً من الوصول إلى أمية، فنادى بلال إخوانه من الأوس والخزرج صارخاً: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف.

كفاءة الجيش المؤمن وأمانته

كفاءة الجيش المؤمن وأمانته وأيضاً من صفات هذا الجيش: أنه كان كفؤاً وبقدر المسئولية فعلاً، فقد تكون القضية سليمة، لكن المحامي فاشل؛ ولذلك نخسر القضية، وربما تكون الغاية نبيلة والمدافع عنها ضعيفاً، فلا نصل إلى الغاية، فالمسألة مسألة أمانة، جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسأله عن الساعة فقال له: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وهذه مشكلة ضخمة تواجهها الأمة الإسلامية الآن، فالأمر في هذا العصر لا يوسد إلى أهله، بل يوسد إلى من عنده واسطة أو قريب أو صاحب أو ابن فلان أو فلان، فالأمر يجب أن يوسد إلى من يستطيع فعلاً أن يؤديه على أفضل وجه، وهذا لا بد أن يجمع بين الصفتين، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، والقوي: الكفء في مجال العمل فإن كان الفرد في الجيش لابد أن يكون عسكرياً جيداً، وإن كان في الزراعة فلا بد أن يكون فاهماً في أمور الزراعة، كذلك في التجارة وفي الصناعة وفي التعليم وفي الإدارة، وفي أي مجال يكون محترفاً في مجاله فعلاً، بل يكون مبتكراً ومخترعاً ومتحمساً للإبداع. والأمين: هو الذي يعلم أن الله عز وجل يراقبه؛ فيرعى الأمانة، ولا يغش ولا يدلس ولا يضيع وقتاً ولا يبخل برأي ولا يدخر معونة، يكون أميناً كما وصفه الله عز وجل. وفي موقعة بدر وسد الأمر إلى أهله، والكفاءة رأيناها في كل المقاتلين، احترافية في الأداء، مهارة في المناورة، قوة في النزال، دقة رأي وبعد نظرة، عسكريون على أعلى مستوى وفي منتهى الأمانة، يعرفون أن الله ينظر إليهم في كل لحظة؛ لأن إيمانهم عالٍ جداً، وأخلاقهم لا تسمح بأي تفريط؛ لهذا السبب رفض الرسول عليه الصلاة والسلام في بدر أن يستعين بمشرك. ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج إلى بدر، ويذكر أن هذا الرجل له جرأة ونجدة، ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، سبحان الله! مع قوة الرجل وبأسه ونجدته، ومع احتياج المسلمين إليه، إلا أنه قد يفتقر إلى الأمانة، فهو لا يؤمن بأن الله عز وجل يراقبه فقد يخدع المسلمين، فرفض صلى الله عليه وسلم الاستعانة بأي مشرك في غزوة بدر؛ فهذه قاعدة: ألا يستعين المسلمون بالمشركين، لها بعض الاستثناءات، وهي موجودة في كتب الفقه، لكن الأصل ألا يستعين المسلمون بمشرك ولو كان كفؤاً. وأكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق إلى بدر، وجاء إليه نفس الرجل بعد قليل، وقال له كما قال أول مرة؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، ثم جاء له مرة ثالثة فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، فقال له الرجل: (نعم. أؤمن بالله ورسوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: فانطلق)، فهذا معنى في غاية الأهمية: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم الأكفاء الأمناء، وقد يكون الرجل أميناً وتقياً وورعاً، لكنه ليس كفئاً؛ هذا أيضاً لا ينفع. رد الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر بعض المسلمين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن قدرتهم القتالية ضعيفة، مع علمه التام بأمانتهم، ورغبتهم الصادقة في القتال، ورد مجموعة من صغار السن؛ لضعف بنيتهم، وضآلة أجسامهم، كـ عبد الله بن عمر والبراء بن عازب رضي الله عنهم، وغيرهما من الصغار، وفي نفس الوقت قبل بعض صغار السن الآخرين؛ لكفاءتهم العسكرية والجسدية، كـ عمير بن أبي وقاص، ومعاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، كانوا صغاراً في السن، لكن عندهم قدرة قتالية، فقبلهم صلى الله عليه وسلم. فلابد من كفاءة وأمانة، ومن دون هاتين الاثنتين لا يوجد نصر.

الاعتماد على الشباب والاهتمام بهم

الاعتماد على الشباب والاهتمام بهم موضوع صغار السن هذا سيأخذنا إلى صفة أخرى من صفات الجيش المنصور. من الممكن أن الصغير والكبير ينصران الإسلام، لكن التاريخ يقول: إن معظم محطات التغيير الرئيسية كانت معتمدة اعتماداً شبه كلي على الشباب، وراجعوا محاضرات الفترة المكية. عملت بحثاً في أعمار المشاركين في غزوة بدر، وهناك كثير لا نعرف أعمارهم، لكن الذي أحصيته من هؤلاء يكفي أن يكون عينة صادقة تعبر عن حال الجيش، فإن متوسط العمر في الجيش كان اثنين وثلاثين سنة، وهناك أناس أكبر وأناس أصغر، فالمواقع القيادية في بدر كلها كانت للشباب، كان حامل راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وعمره خمسة وعشرون سنة، وحامل راية الأنصار سعد بن معاذ، وعمره اثنان وثلاثون سنة، وحامل الراية العامة للجيش كله مصعب بن عمير، وعمره سبعة وثلاثون أو ثمان وثلاثون سنة، كما أن شهداء بدر متوسط عمرهم تحت الثلاثين سنة، فالشباب يا إخواني! طاقة هائلة، والتركيز عليهم في موقع الذب وفي غيرها من المواقع الفاصلة كان في منتهى الوضوح، والنصر جاء على أيديهم في بدر وفي غيرها، وليس معنى هذا أننا لسنا محتاجين لحكمة الشيوخ، لا، بل نحن محتاجون لكل الطاقات، الصغير والكبير، الرجل والمرأة من المؤسف جداً أن يكون شباب الأمة الذين يجيء معظم النصر على أيديهم يكون مشغولاً ببعض الأمور التافهة التي لا تصلح لطفل فضلاً عن شاب. وراجعوا محاضرة: كلمة إلى شباب الأمة.

ملخص صفات الجيش المنصور

ملخص صفات الجيش المنصور إذاً: نحن في درس هذا اليوم وفي الدرسين الذين مضيا ذكرنا عدة صفات للجيش المنصور، تعالوا نجمعها وتعرف عليها، فإنها إذا تجمعت في أي جيش لانتصر؛ لأن هذه سنن، وسنن الله سبحانه وتعالى لا تبديل لها. الصفة الأولى: الإيمان بالله عز وجل، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ هذه أهم صفة، وأي منهج لا يقوم على الكتاب والسنة؛ لن يكون من ورائه إلا كل خزي وذل وهزيمة. الصفة الثانية: الإيمان باليوم الآخر، وطلب الجنة، وحب الموت في سبيل الله، والزهد في الدنيا. الصفة الثالثة: الوحدة بين المسلمين، والصف المتآلف المتحاب، ولا بد أن يكون هذا الحب لا يقوم على روابط قبلية أو عرقية، ولكن في الأساس يقوم على رباط العقيدة والدين. الصفة الرابعة: الإعداد الجيد من خطة ومال وسلاح وجهد وتخصص وعلم. الصفة الخامسة: الشورى، والشورى لا تكون إلا فيما لا نص فيه، ولا يجوز للمسلمين أن يجتمعوا على مخالفة الشرع، بل يتشاورون فيما لا نص فيه، وبدون شورى فإن النصر بعيد، بل مستحيل. الصفة السادسة: الحسم وعدم التردد: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، والتسويف وتأجيل الأعمال علامة على التردد والضعف، وطبعاً هذا يؤخر النصر، بل أحياناً يمنعه. الصفة السابعة: الاعتماد على الشباب، والاهتمام بهم، والارتقاء بأفكارهم، والثقة في قدراتهم وإمكانياتهم. الصفة الثامنة: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم الأكفاء الأمناء. الصفة التاسعة: مشاركة القائد لشعبه وعدم الترفع عليهم، والاختلاط بهم، والتضحية معهم. أما الصفة العاشرة والأخيرة: فهي روح الأمل والتفاؤل واليقين في نصر الله عز وجل لهذه الأمة؛ هذه كانت الصفة العاشرة من صفات الجيش المنصور، فتلك عشر كاملة. وهذه الصفات العشر تحتاج لدروس ومحاضرات ودورات ومناهج، وتحتاج لوقت وجهد كي تزرع وتكون منهج حياتنا، وإن صفة واحدة من هذه الصفات إذا فقدت؛ قد يفقد معها النصر تماماً، حتى لو تحققت التسع الصفات الباقية، فمن غير إيمان لا يوجد نصر، ومن غير وحدة لا يوجد نصر، ومن غير أمانة لا يوجد نصر وهكذا، وسيتضح هذا جلياً في أحد.

الثبات يتحقق بتحقيق صفات الجيش المنصور كاملة

الثبات يتحقق بتحقيق صفات الجيش المنصور كاملة إذا حقق المسلمون هذه الصفات العشر؛ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة جداً، وهي نعمة الثبات. فلا أحد يستطيع أن يضمن أنه سيثبت، ولكي تكون أهلاً للثبات لابد أن تستوفي الصفات العشر للجيش المنصور مثلما ذكرنا، فإنه لا نصر من غير ثبات؛ ولهذا تجد أن الله يذكر في سورة الأنفال الثبات كثيراً، سواء بنفس اللفظ أو بمعناه، تجد مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]، كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]، وعند الحديث عن المطر قال: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، وعند الحديث عن الملائكة قال: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، فالثبات هبة من الله عز وجل، لا يلقاها إلا من قدم الصفات العشر مكتملة، فإذا ثبت المسلمون في أرض المعركة؛ أنزل الله عليهم سبحانه وتعالى النصر من عنده.

الجنود التي أيد الله بها المؤمنين يوم بدر لنصرهم

الجنود التي أيد الله بها المؤمنين يوم بدر لنصرهم نزول النصر يحتاج منا إلى وقفة مهمة وطويلة، فالنصر يأتي من حيث لا يتوقع المسلمون، بل أحياناً يأتي من حيث يكره المسلمون، أي: يأتي النصر بطريقة يعترف الجميع أنها ليست من طرق البشر، ولا يستطيعونها؛ وما ذلك إلا لكي ينسب المسلمون النصر إلى الله عز وجل، ولا ينسبوه إلى أنفسهم أبداً. فبعض المسلمين كرهوا هذا اللقاء مع الجيش المكي في بدر: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، وكانوا يتوقعون في هذه الموقعة موتاً محققاً للمسلمين: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، لكن سبحان الله! أتى النصر من حيث لا يتوقع المسلمون، بل ومن حيث يكرهون. وإذا أتى النصر أتى بطريقة لا يقدر عليها البشر عموماً؛ حتى لا يدعي أحد أنه بفضل قوته وعدده وخطته انتصر، كما ذكرنا قبل ذلك. وفلسفة النصر في الإسلام تؤكد أن النصر من عند الله عز وجل، لكنه لا ينزل عشوائياً، بل ينزل على الذين ثبتوا في أرض القتال. تعالوا نرى كيف نزل النصر في يوم بدر! الكيفية التي تم بها النصر يا إخواني! تتلخص في قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، فهذا أسلوب قصر نفى تماماً أن يأتي النصر إلا من طريق واحد: من عند رب العالمين سبحانه وتعالى. تعالوا نرى جنود الرحمن في يوم الفرقان تعالوا نرى الجنود التي حققت النصر العظيم.

الملائكة

الملائكة سنعد عشرة من جنود الرحمن سبحانه وتعالى في يوم الفرقان، أول جنوده سبحانه الملائكة. مَن مِن قادة الأرض يستطيع أن يحسب في حساباته عدد الملائكة المقاتلين في الجيش؟ لا المسلمون ولا الكفار يستطيعون أن يحسبوا هذه الحسبة، وهذا شيء معترف به من الجميع، فهو بيد الله عز وجل وحده، فإن جيوش الملائكة قاتلت في بدر، ونزلت كذلك في الأحزاب، والله سبحانه وتعالى قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]، ونزلت كذلك في حنين قال: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26]، ولا يستبعد أن تنزل في معركة قديمة أو حديثة أو مستقبلية، فهم جنود من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. والملائكة خلق عجيب، وقوة خارقة غير متخيلة، فقد رفع جبريل عليه السلام قرية لوط عليه السلام إلى السماء على طرف جناحه، حتى سمع أهل السماء أصوات الناس ونباح الكلاب، ثم قلبها، فـ {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82]، سبحان الله! ملك واحد يرفع قرية كاملة إلى السماء، وملك يريد أن يطبق على الأخشبين -جبلين حوالي مكة-. هؤلاء الملائكة شاركوا في غزوة بدر، ليس ملكاً ولا اثنين، بل جيشاً من الملائكة، يقول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، مردفين: أي يتبع بعضهم بعضاً، ومعنى ردف لكم: أي ردء لكم ومعين لكم، فهذه ألف من الملائكة في المرحلة الأولى من مراحل القتال، وبعد ذلك تطور الأمر، انظروا إلى قوله تعالى في موقعة بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:123 - 125]، مسومين: أي معلمين بعلامات. قال الربيع بن أنس رحمه الله -من التابعين- مفسراً هذه الآيات: أمد الله عز وجل المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. وقد يقول قائل: كان يكفي ملك واحد، فلماذا هذه الأعداد المتزايدة؟ A الله سبحانه وتعالى عرفنا الحكمة من وراء هذه الأعداد، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، تخيل أن الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر المسلمين بأعداد من الملائكة، بل تخيل المسلمين عند سماعهم لهذه الآيات، فكلمة واحد غير كلمة عشرة، وغير كلمة ألف، وغير كلمة خمسة آلاف، والجميع يعرفون أن ملكاً واحداً يكفي، فنزول خمسة آلاف من الملائكة بشرى كبيرة للمؤمنين، أضف إلى ذلك أن هذا العدد الكبير من الملائكة الذي اشترك في بدر هم مجموعة منتقاة من أفضل الملائكة، فالملائكة هم درجات. روى البخاري عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه -من أهل بدر- قال: (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين -أو قال كلمة نحوها، يعني: من أحسن المسلمين، أو من أعظم المسلمين- قال جبريل: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة). أضف إلى ذلك أن جبريل وهو أفضل الملائكة على الإطلاق شارك في بدر بنفسه، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) وفي رواية ابن إسحاق: (أبشر أبا بكر! أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع)، والنقع التراب. إني أريد منك أن تعيش معي في أرض بدر، تخيل أن جبريل جاء من بعيد راكباً على فرس يجري، وهو ممسك بلجام الفرس، والتراب يتصاعد من حول الفرس، وخلفه ألف من الملائكة الفرسان ترفع سيوفها وعليها أدوات الحرب، كتيبة ملائكية حقيقية، وبعدها كتيبة والثانية والثالثة والرابعة والخامسة. يا ترى! كيف كان شعور المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم يشرح لهم أن الملائكة دخلت أرض الموقعة لتقاتل معهم؟ يا ترى! هل سيخاف المسلمون في موقف كهذا؟ هل من الممكن أن يهتزوا أو يجبنوا وهم يعرفون أن هناك جيشاً ملائكياً كاملاً يحارب معهم؟! هذا هو قول الله سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]. ولم يعرف المؤمنون في بدر عن أمر الملائ

قذف الرعب في قلوب الأعداء

قذف الرعب في قلوب الأعداء الجندي الثاني من جنود الرحمن في بدر هو جندي عجيب يقال له: الرعب، يلقيه الله عز وجل في قلوب الكافرين، روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وفي رواية أحمد يقول: (ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر)، يعني: قبل أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العدو بمسيرة شهر يكون العدو قد أصيب بالرعب، ومعلوم أن الرعب يدخل في قلوب كل الناس، هذا شيء معروف، لكن العجيب أن يدخل الرعب في قلوب القوي من الضعيف، وأن يدخل الرعب في قلب الكثير من القليل، وأن يدخل الرعب في قلب من هو مدجج بالسلاح من الأعزل الذي لا يملك سلاحاً، هذا هو العجيب، وهذا الذي نراه دائماً مع جيوش المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى في غزوة بدر: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]، تخيل! سيلقي الله عز وجل بنفسه الرعب في قلوب الذين كفروا، وقد رأينا جيش مكة كيف كان مرعوباً من أوله إلى آخره، مع أنه ألف بعدة المحارب، والمسلمين ثلاثمائة بعدة المسافر، لكن ماذا تفعل لمن ألقى الله عز وجل الرعب في قلبه؟ وهذا واقع نراه إلى الآن، كم رأينا طفلاً صغيراً يمسك بحجر ويقف أمام دبابة غير خائف، والجندي داخل الدبابة لا يستطيع الخروج. كم رأينا من طائرات وصواريخ تقصف كي تقتل رجلاً أعزل ولعله قعيد على كرسي! كم رأينا من فرق مسلحة بأقوى الأسلحة والأقنعة والأعداد والسيارات تذهب لتقبض على واحد لا يملك مسدساً أو خنجراً أو أي سلاح! وكثيراً ما نستغرب لماذا يحصل هذا؟ لكن لا نستغرب ونذكر أن الرعب جندي من جنود الرحمن سبحانه وتعالى.

إنزال الطمأنينة والسكينة وتغشية المؤمنين بالنعاس يوم بدر

إنزال الطمأنينة والسكينة وتغشية المؤمنين بالنعاس يوم بدر الجندي الثالث: عكس الرعب، وهو الطمأنينة والسكينة والأمان الذي يصل إلى حد النعاس، يلقيه الله عز وجل في قلوب الذين آمنوا، والقلوب بين أصابع الرحمن، فكما ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين، ألقى السكينة في قلوب المؤمنين حتى اطمأنوا وثبتوا، وستجد حديثاً عن السكينة في كل المواقع التي حصل فيها النصر، في بدر والأحزاب وصلح الحديبية وحنين وهكذا. يقول الله تعالى عن غزوة بدر: {إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11].

نزول المطر لإعاقة الكافرين وتطهير المؤمنين

نزول المطر لإعاقة الكافرين وتطهير المؤمنين الجندي الرابع من جنود الرحمن: المطر، فالله القادر أن ينزل المطر هنا أو هناك، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]، والله هو الذي يقدر أن ينزل المطر هيناً لطيفاً على منطقة، وينزله وابلاً شديداً على منطقة مجاورة تماماً، ويكفينا أن نتذكر قول الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].

تقليل عدد كل فريق من الجيشين في عين الآخر

تقليل عدد كل فريق من الجيشين في عين الآخر الجندي الخامس من جنود الرحمن: التقليل والتكثير في الأعداد، معنى هذا: أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الشخص يرى الأعداد التي أمامه مختلفة عن الواقع، يراها أكثر أو يراها أقل بحسب ما يريد هو سبحانه وتعالى، وهذا الكلام له أثر عجيب في القتال. تعالوا نرى قصة الأرقام في بدر: جيش المسلمين في هذه الموقعة ثلاثمائة وأربعة عشر تقريباً، وجيش الكفار ألف، والله سبحانه وتعالى يريد للموقعة أن تتم، ولا يريد لأي فريق أن يقرر الهروب، أو عدم الدخول في صدام؛ لأن الله سبحانه وتعالى يدبر المكيدة للكافرين: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]؛ ولكي يصمم كل فريق على القتال لابد أن يشعر أن الفريق الثاني ضعيف وقليل، ومن ثم يتجرأ عليهم ويقرر القتال، هذا كان قبل القتال. ومع أن المخابرات المكية حصرت الجيش المسلم، وعرفت أن العدد الواقعي هو ثلاثمائة تقريباً، كما قال عمير بن وهب، إلا أن الله عز وجل قلل أعداد المسلمين جداً في نظر أبي جهل؛ حتى دفعه دفعاً للقتال، فقال أبو جهل: إنما هم أكلة جزور، يعني: مائة فقط أو أقل؛ مما جعله يتحمس جداً لقتال المسلمين، ودفعه دفعاً للحرب. إذاً: الكفار رأوا المسلمين قليلين. والمسلمون أيضاً رأوا الكفار قلة، مع أن المخابرات الإسلامية حصرت الجيش الكافر، وعرفت أن عدده ما بين التسعمائة والألف كما قال صلى الله عليه وسلم، وذلك في أول القتال، ولكي يشجع رب العالمين سبحانه وتعالى المسلمين على القتال دون تردد؛ أراهم أن المشركين قلة، وهم في الأصل ألف، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ ألف واحد نزلوا في التقدير إلى سبعين!! تخيل! عندما يرى المسلم الكفار سبعين بدلاً من ألف، سبعين، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فقال لي -يعني: صاحبه- لا، بل مائة. فسبحان الله! فالمسلمون يشاهدون الكفار مائة، والمسلمون يعرفون أنفسهم أنهم ثلاثمائة، وهذا شجعهم جداً على القتال. إذاً: كل فريق يرى الفريق الآخر قليلاً، وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال، قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال:44]، حتى يتم القتال، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:44]. هذا كان قبل القتال. ثم بدأت المعركة، وتم ما يريده سبحانه وتعالى من حدوث القتال، فحصل تغيير آخر مهم في عملية الإحصاء والعدد. أما المسلمون فما زالوا يرون الكافرين قلة، وبالتالي فالمسلمون متحمسون تماماً للقتال؛ لأنهم يرون أنهم أكثر من الكفار بثلاثة أضعاف، وأما الكفار فقد حدث لهم تغير عجيب بعد بدء القتال، فقد دخل في روعهم أن المسلمين ضعف المشركين يعني: ألفين، ودخل في قلوبهم الرعب من المسلمين، وبالتالي انهزموا نفسياً ثم واقعياً، وهذا الحديث تجده في القرآن في سورة (آل عمران) تعليقاًَ على غزوة بدر، قال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران:13]، يرونهم مثليهم: ضعف عدد المشركين، (رأي العين): يرون هذا الأمر بأعينهم ليس وهماً، {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13]، ذكر الله هذه الآيات في كتابه ليس لمجرد التاريخ لغزوة بدر، بل ذكر ذلك عبرة لأولي الأبصار. فهذه الآيات تفهمنا أشياء كثيرة، منها كيف أن أعداء الأمة مرعوبون من المسلمين المتمسكين بشرع الله عز وجل؛ لأنهم في الغالب يرونهم أكثر من عددهم الحقيقي بكثير، وهذا الذي يجعلهم يتخذون قرارات نحن نرى أنه مبالغ فيها، لكنهم معذورون فيها؛ لأنهم يرون المسلم اثنين، ويرونه ثلاثة، ويرونه عشرة وقد يرونه أكثر. فهذا جندي حقيقي من جنود الرحمن، التقليل والتكثير من الأعداد.

الفرقة بين الكافرين

الفرقة بين الكافرين الجندي السادس من جنود الرحمن في بدر: هو الفرقة بين الكافرين بدون أي تدخل من المسلمين. لا شك يا إخواني! أن فرقة الكافرين تضعف صفهم، وأحياناً يسعى المسلمون إلى إحداث هذه الفرقة بين الكافرين؛ لأجل توهين قوتهم، مثلما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الأحزاب لما قال لـ نعيم بن مسعود رضي الله عنه: (خذل عنا)، لكن هناك أوقات تحصل فيها الفرقة بين الكافرين من غير أن يفعل المسلمون شيئاً، هذه الفرقة جندي من جنود الرحمن، يرسله رب العالمين سبحانه وتعالى لإضعاف الصف الكافر، فقد رأينا انسلاخ الأخنس بن شريق بثلاثمائة من الكفار قبل موقعة بدر، أي: قبل أن يرى المسلمين أصلاً، ورأينا الصراع بين قادة المشركين وانقسام الصف، والتراشق بالألفاظ والاتهامات، ورأينا كل واحد يبحث عن مصلحة خاصة، وكل هذا في أرض القتال، في مكان لابد أن يكون فيه وحدة، وهذا الشيء يحصل دائماً في صف الكافرين إن وجد المسلمون الذين يستحقون النصر، لكن إن لم يكن المسلمون على هذه الصورة فإننا نجد أن الكفار يتوحدون، وتتفق آراؤهم، وتزداد قوتهم، والأمر في النهاية يعود إلينا نحن، فإن كنا على خير فرق الله عز وجل بين عدونا، وإن كنا غير ذلك جمع الله عز وجل عدونا، فتكون لهم الغلبة علينا؛ حتى نعود إلى ديننا وإلى ربنا سبحانه وتعالى. إذاً: هذا هو الجندي السادس من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: الفرقة بين الكافرين.

جندي البركة

جندي البركة الجندي السابع من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: جندي غريب جداً، اسمه جندي البركة، وهو تضخيم النتيجة للفعل البسيط، يعني: تعمل شيئاً لا يؤدي في الأصل إلى نتيجة كبيرة، فإذا بالله عز وجل يبارك في هذا العمل ويضخم أثره؛ حتى تصبح النتيجة هائلة. مثال ذلك: أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر حفنة من حصباء من التراب، فاستقبل بها قريشاً ورماها في وجوههم وقال: (شاهت الوجوه)، فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، والحديث في صحيح مسلم، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، نعم. الرسول صلى الله عليه وسلم رمى: (إِذْ رَمَيْتَ)، ولكن لو رمى بالتراب وجوههم ألف مرة فلن يصيب عيون الكافرين جميعاً إلا إذا أراد الله عز وجل للتراب أن يصيبهم، وفعل الرمي هذا لا يؤدي في المعتاد إلى النتيجة الضخمة التي حدثت؛ لذلك ينفي ربنا سبحانه وتعالى الرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه هو الذي أخذ التراب ورماه، لكن الذي أخذه إلى مرماه الحقيقي هو الله عز وجل. أيضاً في قصة قتل أبي جهل فرعون هذه الأمة وقائد المشركين، وهو واحد من أبرز فرسان المشركين، وأكثر المشركين جرأة على المسلمين وأمنعهم، كان محاطاً بفرقة عسكرية قوية لحمايته، ومع ذلك قتل بطريقة عجيبة، فلو قتله فارس محترف من فرسان المسلمين، مثل الزبير بن العوام، أو علي بن أبي طالب، أو طلحة بن عبيد الله لكان هذا أمراً مفهوماً عندنا، لكن قتله تم بطريقة عظيمة، وليس لها إلا تفسير واحد: هو جندي البركة، وذلك أن الله عز وجل بارك في فعل ضعيف؛ ليحقق نتيجة هائلة قوية ألا تحدث هذه النتيجة، تعالوا نسمع القصة التي يحكيها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه في قتل أبي جهل، والقصة في البخاري. يقول: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن عن يمينه وشماله طفلان: معاذ بن عمرو بن الجموح وعمره ثلاث عشرة سنة، ومعوذ بن عفراء عمره أربع عشرة سنة، يقول عبد الرحمن بن عوف: فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: أي عم! أرني أبا جهل فقلت: يا ابن أخي! فما تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده! لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده -لن يفارق ظلي ظله- حتى يموت الأعجل منا. يا الله! هذا الكلام يخرج من طفل عمره ثلاث عشر سنة أو أربع عشرة سنة، ولا يريد قتل أي واحد حصين في الجيش الكافر، بل يريد قتل زعيم الجيش الكافر المحمي بكتيبة عسكرية، فهذا الكلام عجيب وغير منطقي، حتى قال عبد الرحمن بن عوف: فتعجبت لذلك، ثم قال: وغمزني الآخر فقال لي مثل هذا، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. تعالوا نترك عبد الرحمن بن عوف ونسمع من الطفل معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وعن أبيه وهو يحكي هذا الموقف. الموقف في رواية ابن إسحاق وفي رواية ابن سعد في الطبقات يقول: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة -أي الغابة كثيفة الأشجار- وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه؛ لأنها أهم شخصية في الجيش المكي، يقول معاذ: فلما سمعته جعلته من شأني فصمت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطمت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطير من تحت مرضخة النواة حين يضرب بها. الله أكبر! ضربة من سيف معاذ أطارت ساق أبي جهل! ليس من الطبيعي أبداً أن معاذاً يفكر في قتل أبي جهل، وليس من الطبيعي أن معاذاً يقدر على الوصول إلى أبي جهل وهو داخل كتيبة عسكرية قوية تحميه، وليس من الطبيعي أن أبا جهل لا يستطيع أن يرد ضربة معاذ، وليس من الطبيعي أن ضربة معاذ تطير ساق أبي جهل هكذا بلحمها وعظمها، بل من الصعب بتر ساق بضربة واحدة، هذا يحتاج إلى فارس محترف متمكن مفتول العضلات، فصعب جداً أن نفهم أن هذا الأمر يأتي من طفل عمره ثلاث عشرة أو أربع عشر سنة، لكن هذا حصل وليس هذا فقط، بل بعد أن ضرب معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وعن أبيه أبا جهل، جاء معوذ بن عفراء الطفل الثاني الذي كان ينافسه على قتل أبي جهل وضرب أبا جهل ضربة أثبتته. انتهى، ولم يبق فيه إلا رمق بسيط جداً من الحياة، ثم جاء عبد الله بن مسع

الرؤى والأحلام

الرؤى والأحلام الجندي الثامن: وهو الرؤى والأحلام، يراها أهل الحق فتبشرهم، ويراها أهل الباطل فتحبطهم وتفشلهم، وهذا الكلام ليس دجلاً ولا شعوذة، بل له شواهد كثيرة في التاريخ، سواء في السيرة أو في الفتوح الإسلامية أو في كل المعارك التي مرت بأمتنا. تعالوا بنا نتكلم في غزوة بدر في البداية عن رؤيا لبعض الكافرين، والرؤيا قد تصيب الإنسان بالكآبة والحزن والإحساس بالفشل، وتوقع الهزيمة في نفسه، فيكون لها رد فعل سيئ جداً على نفسية المحارب. هذا جهيم بن الصلت بن المطلب من عائلة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن كان مشركاً، رأى أن رجلاً أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، وفلان وفلان وفلان، فعد رجالاً ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، وانتشرت الرؤيا في مكة، وكان ذلك قبل الخروج إلى بدر، ولما سمع أبو جهل هذه الرؤيا جن جنونه، وقال: هذا أيضاً نبي من بني عبد المطلب، سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا. لكن لا شك يا إخواني! أن هذه الرؤيا كان لها أثر سيئ على المشركين، وإلا لما انتشر خبرها بهذه الصورة حتى يصل إلى أبي جهل. الرؤيا الثانية كانت من عاتكة بنت عبد المطلب عمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت مشركة في ذلك الوقت، واختلف بعد ذلك في إسلامها، لكن الراجح أنها لم تسلم، رأت عاتكة قبل أحداث بدر رؤيا خوفتها، فأرسلت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب عم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لتحكي له الرؤيا، وكان العباس مشركاً في ذلك الوقت، فقالت له: يا أخي! والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة. تكتم علي ما أحدثك؟ قال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، يعني يدعو آل قريش للخروج إلى المصارع في ثلاثة أيام. قالت: ثم كرر هذا النداء في مناطق مختلفة حول الكعبة، ومن على جبل أبي قبيس، ثم أرسل صخرة فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارتضت -أي: تفتتت- فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخلته منها فلقة، قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، فلا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، وكان صاحبه، فذكر العباس له الرؤيا وقال له: لا تذكرها لأحد، فأخبر الوليد بن عتبة أباه عتبة بن ربيعة بالرؤيا وقال له: لا تقل لأحد، وهكذا انتشر الأمر في قريش، حتى وصل إلى أبي جهل وكان العباس في ذلك اليوم ذاهباً ليطوف بالبيت الحرام، فلقيه أبو جهل مع المشركين، فقال له أبو جهل: يا بني عبد المطلب! متى حدثت فيكم هذه النبية؟ فأراد العباس أن ينكر فقال له: وما ذاك؟ قال أبو جهل: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة! قال العباس: وما رأت؟ قال أبو جهل: يا بني عبد المطلب! أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا إلى مصارعكم في ثلاث، فسنتربص بكم يا بني عبد المطلب! هذه الثلاث، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتاباً أنكم أكذب أهل بيت في العرب، وكانت هذه فرصة لـ أبي جهل ليشمت في بني عبد المطلب؛ فإن الصراع طويل جداً بين بني مخزوم -قبيلة أبي جهل - وبين بني هاشم قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! مر يومان، وفي اليوم الثالث وأبو جهل يستعد للشماتة في بني عبد المطلب جاء ضمضم بن عمرو الغفاري الذي بعثه أبو سفيان وهو يصرخ: يا معشر قريش! اللطيمة! اللطيمة! أموالكم قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، فنفر كل أهل قريش، وتحققت رؤيا عاتكة. أريد منكم أن تتخيلوا نفسية الجيش وهو خارج للقتال وهو على الأقل يشك -إن لم يكن متيقناً تماماً- أنه يخرج إلى مصارعه. وراجعوا التاريخ فإنكم ستجدون كسرى رأى رؤيا قبل القادسية، كذلك رستم قائد الفرس، كان لها أكبر الأثر على الفرس، كذلك رأى هرقل، ورأى قائد الجيش الروماني في اليرموك، والكلام كثير جداً في هذا الموضوع ومتكرر. وعلى الجانب الآخر جيش المؤمنين في ليلة بدر، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا في منامه، أن الكفار أقل من العدد الذي أحصوه قبل ذلك، وذكر ذلك للصحابة فاستبشروا كثيراً، وثبتتهم هذه الرؤيا، قال سبحانه وتعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَ

أبو جهل

أبو جهل الجندي التاسع من جنود الرحمن وهو من أعجب الجنود، هذا الجندي هو أبو جهل، فـ أبو جهل هو الذي دفع المشركين دفعاً إلى حتفهم، دفعهم للخروج من مكة، ودفعهم للقتال حتى مع إفلات القافلة، ودفعهم للقتال حتى مع اعتراض الجميع في أرض بدر، وقهر أمية بن خلف للخروج ليموت، وقهر عتبة بن ربيعة للقتال ليموت، ولم ير ما رآه جميع أهل قريش، بل طمس على بصيرته وأعان على هلاكهم. وكما دفع فرعون جنده للدخول في البحر ليهلكوا فعل ذلك أبو جهل، ولو تعقل لما قتل هذا العدد الهائل من قادة الكفر وأئمة الضلال، ولو تعقل لما كان يوم الفرقان، ولو تعقل لما حدثت الآثار المجيدة التي سنتكلم عنها إن شاء الله في الدرس القادم لغزوة بدر. وما كان لـ أبي جهل أن يتعقل، فما هو إلا جندي من جنود الرحمن سبحانه وتعالى شاء أم أبى، فالله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حتى لو كان أبو جهل يساعد المسلمين على تحقيق مراد الله سبحانه وتعالى.

إبليس

إبليس الجندي العاشر والأخير جندي أغرب من أبي جهل وأعجب، هذا الجندي هو إبليس نفسه، فالشيطان اجتهد كل الاجتهاد ليدفع المشركين دفعاً إلى القتال، ولم يكتف بالوسوسة، بل تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك سيد بني كنانة؛ ليجيرهم من بني بكر، وخرج معهم كذلك بصورة سراقة بن مالك، ودخل معهم أرض بدر، وثبت للقتال معهم حتى رأى الملائكة فعرفهم، فقد كان يعبد الله معهم قبل أن يكفر، فلما عرف أن الموضوع خرج من يديه قرر الهروب، ورآه أحد المشركين الحارث بن هشام، وهو يهرب، وكان يظن أنه سراقة بن مالك فأمسكه وقال له: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا لا تفارقنا؟ فقال له إبليس: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]، وفرّ بنفسه حتى ألقى نفسه في البحر، وأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال:48]، في صورة سراقة بن مالك، {فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48]، وطبعاً هذا شيء متوقع، فالشيطان يعد الناس ويمنيهم، ثم يتركهم عند الأزمات، واللوم لا يقع على الشيطان فقط، بل يقع أيضاً وبصورة أكبر على من اتبعوه، وهذا كلام الشيطان نفسه، واسمع كلام ربنا سبحانه وتعالى في سورة إبراهيم، قال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22]، أي: لن أنفعكم ولن تنفعوني، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]. نعم، هذا الكلام والحوار سيكون يوم القيامة، لكنه بالتأكيد يحصل في الدنيا كثيراً، فكم دفع الشيطان أناساً إلى نهاياتهم، ثم تبرأ منهم وتركهم. قد يكون الشيطان سبباً من أسباب نصر المسلمين، ومن المؤكد أن الشيطان لو عرف أن النصر سيكون حليف المسلمين في بدر؛ لما دفع قريش للحرب، لكن لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى. هذا كان الجندي العاشر من جنود الرحمن سبحانه وتعالى، فتلك عشرة كاملة، وجنود الله أكثر من هذا بكثير: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4]، ففي الغزوات الآتية سنتعرف على جنود أكثر وأكثر. نقول: إن كل كلامنا الذي مضى يصب في معنى واحد مهم، وهو المعنى الذي ظهر لنا في كل كلمة من كلمات درس هذا اليوم، هذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، وبهذا نفهم الآية التي جاءت في سورة الأنفال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال:17]. فالمسلمون يحملون السيوف ويقاتلون، لكن جنود الرحمن العجيبة هي التي حققت النصر، مع اعتراف الجميع بأن الناصر هو الله عز وجل، وهو الذي أكمل لهم هذا النصر العظيم.

فهم الصحابة رضي الله عنهم أن النصر من عند الله

فهم الصحابة رضي الله عنهم أن النصر من عند الله وسأختم كلامي هذا اليوم ببيان فهم الصحابة لنصر بدر، وسأختار كلمتين لاثنين من الصحابة الكرام. الكلمة الأولى: لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد رحمه الله، قال فيها تعليقاً على قتل المشركين الثلاثة الذين قتلوا في أول مبارزة في بدر. قال: فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، مع أن علي بن أبي طالب كان من الذين اشتركوا في قتل هؤلاء الثلاثة، إلا أنه لا ينسب ذلك لنفسه أبداً، بل ينسبه لله تعالى، قال: فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة. الكلمة الثانية: لـ عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، وهي في مسند الإمام أحمد بن حنبل وفي الصحيحين، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس، فهزم الله العدو. فهذا الفهم هو الذي حقق لهم النصر. وحين نعرف أن النصر لا يكون إلا من عند الله، فإننا سنجده قريباً إن شاء الله. ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ما بعد بدر

سلسلة السيرة النبوية_ما بعد بدر أعز الله المؤمنين في غزوة بدر وخذل المشركين، وأصبح للإسلام دولة حقيقية في الجزيرة العربية، الأمر الذي جعل قريش تشتعل حقداً على الإسلام، وحزناً على فقدان أبطالها الشجعان، فكان لغزوة بدر تأثيرات إيجابية على المسلمين، وتأثيرات سلبية على أهل الكفر والضلال، لذلك فكرت قريش في استرداد هيبتها في الجزيرة بأحداث تلت وقعة بدر.

الآثار المترتبة على غزوة بدر

الآثار المترتبة على غزوة بدر أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني، وكنا قد تحدثنا في الدروس السابقة عن غزوة بدر وعن الملابسات التي أدت إلى قيام الغزوة وعن صفات الجيش المنتصر، وعن جنود الرحمن سبحانه وتعالى في هذه الغزوة، ووصلنا إلى أن هذه الغزوة فعلاً من أعظم الغزوات في تاريخ المسلمين، وقد سماها رب العالمين سبحانه وتعالى بيوم الفرقان؛ وما ذلك إلا لأنها فرقت بين مرحلتين مهمتين من مراحل الدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية، والذي يتذكر الوضع قبل غزوة بدر ويدرس الوضع بعد غزوة بدر يلاحظ الفرق الهائل بين حال المسلمين قبل الغزوة وبعدها. إنَّ غزوة بدر كان لها آثار ضخمة هائلة على الجزيرة العربية بكاملها بل وعلى العالم بصفة عامة، وما زال لغزوة بدر إلى يومنا هذا آثار، وسيكون لها آثار إلى يوم القيامة، فهي فعلاً يوم الفرقان.

أثر غزوة بدر في الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم

أثر غزوة بدر في الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم أول آثار غزوة بدر وأعظمها هو الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجيش الإسلامي الذي ولد في هذه الغزوة هو الذي على أكتافه أنشئت الدولة العظيمة دولة الإسلام، وقد تعرفنا في غزوة بدر على صفات الجيش المنتصر، وعرف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هذه الصفات، ودرسوها بإتقان، وبعد هذا طبقوها في كل المعارك التي انتصر فيها المسلمون، وإذا خالف المسلمون نقطة أو بعض النقاط من هذه الصفات أتت الهزيمة والمصائب؛ لذلك فإن غزوة بدر تعتبر معياراً أو مقياساً يجب أن يقيس المسلمون عليه أحوالهم، فإن كانوا يطيقون هذه الصفات فلله الحمد والمنة والفضل، وإن كانوا غير ذلك فلا بد أن يعدلوا مسارهم؛ ليعودوا إلى الطريقة التي سار عليها أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين. ولدت أمة الإسلام بعد غزوة بدر، وأصبح لها هيبة في الجزيرة العربية بكاملها، وبدأ الناس في كل الجزيرة يتساءلون عن الإسلام والمسلمين، فقد كانوا يتخيلون من قبل أن الأمر مجرد خلاف داخلي داخل مكة، هذا الخلاف هو رجل من مكة خرج بشيء اعترض عليه قومه، وظهر له أتباع، فهي مجرد حرب أهلية في داخل مكة المكرمة، ثم بعد ذلك لفتت أنظار العرب الهجرة إلى المدينة المنورة، لكن اللفت الحقيقي للأنظار كان بعد بدر، فالانتصار الضخم كان له أثر مهول على الجزيرة بكاملها، فبدأ الناس يتساءلون: من هم المسلمون؟ ما هو الإسلام؟ ولا شك أن هذا فتح للإسلام قلوباً كثيرة. وهكذا بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ينظر دولته كدولة مستقرة، لها كيان مستقل ولها احترام ولها سمعة عظيمة في داخل الجزيرة العربية.

آثار غزوة بدر على أهل المدينة

آثار غزوة بدر على أهل المدينة كذلك أثرت غزوة بدر على المسلمين في داخل المدينة المنورة الذين لم يشاركوا فيها، فإنه لما وصل خبر نصر الإسلام في غزوة بدر إلى المدينة المنورة اختلطت مشاعر الفرح والسرور بهذا النصر العظيم بمشاعر الندم لعدم المشاركة في هذا النصر العظيم. التف المسلمون حول البشير وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه يطمئنون على أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرجع مباشرة من بدر، بل مكث في أرض بدر ثلاثة أيام كعادة الجيوش المنتصرة، وبعد ذلك عاد إلى المدينة المنورة، لكن الخبر كان قد سبق واستقبلت وفود التهنئة الرسول صلى الله عليه وسلم بمنتهى الترحاب والفرح والسرور، وفي نفس الوقت جاء كثير من الأنصار رضي الله عنه وأرضاهم يعتذرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم مشاركتهم في بدر مع رغبتهم الأكيدة في الجهاد في سبيل الله؛ لأنهم لم يعرفوا أن هناك قتال. على سبيل المثال: جاء له أسيد بن حضير رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله! ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدواً، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال له صلى الله عليه وسلم: صدقت). إن مشاعر الندم التي جاءت في قلوب الأنصار والمهاجرين الذين لم يشاركوا في غزوة بدر ستؤدي بعد ذلك إلى بعض النتائج كما سنرى، وسيكون لها أثر واضح إيجابي في مقدمة غزوة أحد كما سيتبين لنا. إذاً: كان هناك أثر إيجابي كبير على الجيش المسلم، وعلى الذين لم يشاركوا في غزوة بدر، وقامت الدولة الإسلامية على أكتاف هؤلاء وهؤلاء.

آثار غزوة بدر على مشركي مكة

آثار غزوة بدر على مشركي مكة في نفس الوقت كان في غزوة بدر أثر سلبي ضخم جداً على مشركي مكة الذين خرجوا وفجعوا بهذه الفجيعة الضخمة في بدر، فهي ضربة قاصمة هائلة لقريش، وهزة عنيفة لكبرياء قريش وكرامتها وعزتها، فقد كانت قريش أمنع قبيلة في العرب وأعزها وأكبرها، لها تاريخ وكل قبائل العرب تحترمها، لكن الوضع بعد بدر اهتز بشكل مريع، فسبعون واحداً من المشركين الذين شاركوا في بدر قتلوا، وسبعون كذلك أسروا، وقارن بين هذه الغزوة وسرية نخلة، فسرية نخلة انتفضت فيها قريش وقلبت الجزيرة العربية وقامت بحرب إعلامية، وكان المقتول فيها واحداً والمأسور فيها اثنين، من خلال ذلك ستعرف مدى المأساة التي وقعت على أهل قريش بعد هذه الغزوة العظيمة غزوة بدر، كذلك هؤلاء السبعون الذين قتلوا هم عمالقة الكفر وقادته وأئمة الضلال في الأرض، منهم فرعون هذه الأمة أبو جهل، ومنهم الوليد بن المغيرة، ومنهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وغيرهم كثر. هؤلاء السبعون قتلوا في يوم واحد وفنوا في لحظة واحدة، فياله من شيء يشيب له الولدان، فيا ترى! كيف كان تأثر قريش لما وصل الخبر؟ قام الحيسمان بن عبد الله الخزاعي بإيصال الخبر، فما زالت قريش لا تعرف عن أخبار بدر شيئاً، فلما رأوا الحيسمان بن عبد الله الخزاعي قادماً قالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم، فاندهش صفوان بن أمية حتى قال: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني، لو سألتموه عني سيقول لكم: قتل كذلك، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذا جالس في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا! كان هذا طبعاً الخبر كالصاعقة على أهل قريش؛ لذلك لم يصدقوا، فانتظروا رسولاً ثانياً، فجاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه أبو لهب -وقد تخلف عن غزوة بدر- قال: هلم إلي فعندك لعمري الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال أبو سفيان كلمات في منتهى الخطورة، قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، فتعجبوا من قوله فقال: لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما تليق شيئاً -لا تترك أمامها شيئاً ولا تبقي- ولا يقوم لها شيء. وهكذا صرح أبو سفيان بهذه الكلمات أمام المشركين، والمشركون يسمعون ولا يصدقون، ومع كل هذا الأمر إلا أنهم لا يؤمنون. وكان أبو رافع رضي الله عنه وأرضاه موجوداً بينهم، وهو غلام للعباس رضي الله عنه، وكان يخفي إسلامه، فلما سمع ذلك قال: تلك والله الملائكة تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده وضربه في وجهه ضربة شديدة، وحصل بينهما نزاع، فاعتلى أبو لهب فوقه وبدأ يضربه، فجاءت أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنهما وكانت تخفي إسلامها أيضاً، فأمسكت عموداً وضربت أبا لهب على رأسه حتى شجته شجة منكرة، وقالت له: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام أبو لهب مولياً ذليلاً، ولم يعش بعد هذه الضربة إلا سبع ليال، فقد رماه الله سبحانه وتعالى بمرض يسمى العدسة، وهي قرحة تصيب الإنسان وتقتله في أيام، وكانت العرب تتشاءم من هذه القرحة، فلم يستطيعوا الاقتراب من أبي لهب حين أصيب بها إلى أن مات، ولم يجرؤ أحد من أولاده على الاقتراب منه، وظلَّ مرمياً على الأرض ثلاثة أيام إلى أن انتشرت رائحته في المكان، فخاف أولاده من تعيير العرب لهم بأبيهم، فحفروا حفرة جواره، وأمسكوا عموداً وبدءوا يدفعون به إلى داخل الحفرة، وأخذوا يلقون الحجارة عليه من بعيد حتى سدوا عليه الحفرة. هذه هي النهاية أبي لهب، وكانت نهايته بعد سبع ليال فقط من غزوة بدر. وهكذا فقد المشركون في غزوة بدر كل هذا العدد الضخم من القادة، وبعدها بسبعة أيام فقدوا قائداً كبيراً وهو أبو لهب، وكانت نهاية أبي لهب في منتهى الخزي والعار والذلة والمهانة، مع أنه كان كبير عائلة بني هاشم بعد وفاة أبي طالب، ومن المفروض أن جنازته تكون جنازة رسمية في داخل مكة، وتأتي الوفود لتعزية أقاربه فيه، لكن لم يحصل ذلك؛ لأن العرب كانت تتشاءم من المرض الذي مات به أبو لهب. إذاً: حدث في بدر أزمات كثيرة جداً، أول هذه الأزمات: أزمة سياسية فقد فقدت قريش مكانتها في وسط العرب، واهتزت هزة كبيرة. ثانيها: أزمة اجتماعية، فكل و

أثر غنائم بدر على المؤمنين

أثر غنائم بدر على المؤمنين الأثر الرابع لغزوة بدر: كان سلبياً لكن على المؤمنين، ونحن نستغرب كيف يكون هناك أثر سلبي على المؤمنين بعد هذا الانتصار الكبير في بدر. كان هذا الأثر نتيجة الغنائم التي حصلها المسلمون من غزوة بدر، فهناك أخطاء للمؤمنين بصفة عامة، ومنها هذا الخطأ الذي حدث في غزوة بدر، وهو خطأ بين؛ لأن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه وصف هذا الأمر فقال: (فلما جاء أمر الأنفال وساءت فيه أخلاقنا)، فهو يتحدث عن الجيش المنتصر الذي فيه صفات عظيمة كما ذكرنا، إلا أنه في هذه القضية ساءت فيه أخلاقه كما قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه. ببساطة شديدة بعد أن انتهت الجولة الأولى من بدر، وبدأ ظهور الانتصار الباهر للمسلمين بدأ المشركون في الفرار، وبدءوا يلقون الغنائم وراءهم، فقسم المسلمون أنفسهم ثلاثة أقسام: قسم منهم حول الرسول عليه الصلاة والسلام لحمايته. وقسم ثان بدأ يجري وراء الفارين من أرض المعركة، ومعظم هذا القسم من الشباب. وقسم ثالث بدأ يجمع الغنائم التي كانت موجودة في أرض المعركة. وبعد انتهاء المعركة اختلف المسلمون على توزيع هذه الغنائم، ولم يكن قد نزل حكم الله سبحانه وتعالى في توزيع الغنائم، وقد كان حكم توزيع أربعة أخماس الغنائم على الجيش لم يشرع بعد. فقال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها -أي: نحن الذين أخذناها- وليس لأحد فيها نصيب، إذاً: يريدون أن يأخذوا كل الغنائم لهم، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم أحق بها منا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحاطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به وبدأ نوع من الخلاف والشقاق بين المسلمين. معلوم أن الجيش المنصور فيه صفات النصر الكاملة، لكن ليس معنى ذلك: أنه بلا أخطاء، فكلهم بشر: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). وهكذا حصل الخلاف، وبدأ كل طرف يريد أن يأخذ من الغنيمة، والغنيمة فتنة من فتن الدنيا، وكان المسلمون في المعركة يطلبون الآخرة فتم لهم النصر، فظهرت لهم الدنيا وهم لم يأخذوا درساً من قبل في فتنة الدنيا، فقد عاشوا (13) سنة في مكة تحت القهر والتعذيب والبطش والفقر وحالات الأذى المستمر، هذه فترة مكة، وفي أول هجرتهم إلى المدينة المنورة عاشوا سنتين عسيرتين جداً، ولأول مرة يريون هذه الغنائم، وقد كانوا حينما خرجوا من المدينة المنورة إلى بدر في حالة من الفقر الشديد، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرفع يده ويقول: (اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم)، أما الآن فهناك غنائم ضخمة موجودة على أرض الموقعة في بدر، والناس في فقر شديد، لكن هذا كله ليس مبرراً للخطأ، وإنما هي خلفيات الخطأ. وهكذا حصل الخلاف والشقاق، ونزل قول الله عز وجل يشرح للمسلمين كيفية تقسيم الغنائم، وقبل أن يشرح كيفية تقسيم الغنائم أعطاهم درساً في منتهى الأهمية، نزلت سورة الأنفال وفي أول السورة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، يستنكر رب العالمين سبحانه وتعالى على المسلمين الذين حققوا هذا الانتصار في غزوة بدر أن يهتموا بأمر الدنيا اهتماماً ينشأ بسببه خلاف بينهم، قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]، ثم بدأ يعرف لهم الإيمان، ويعرض عن الجهاد في سبيل الله والبذل والقتال فيه، وعن الأحداث الضخمة التي حدثت في غزوة بدر، أعرض عن ذلك كله، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]. ثم بدأ يشرح لهم قصة بدر قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:5 - 6] إلى آخر الآيات، والآيات فيها نوع من الشدة واللوم على المسلمين، وكأن الله يقول لهم: كيف تفكرون في أمر الدنيا وقد تحقق لكم هذا الانتصار العظيم بسبب تفكيركم في الآخرة؟ فلا تضيعوا النصر إذاً. وهكذا نزلت هذه الآيات على المؤمنين برداً وسلاماً، فيجرد سماعهم للآيات عادوا إلى رشدهم جميعاً، واجتمعت القلوب من جديد، وقبلوا أمر الله عز وجل، وهذا فيه فرق كبير بين موقعة بدر وم

الآثار المترتبة على وجود أسرى بدر في أيدي المسلمين

الآثار المترتبة على وجود أسرى بدر في أيدي المسلمين الأثر الخامس لغزوة بدر: أثر الأسرى الذين أسرهم المسلمون في غزوة بدر، تعلمون أن المسلمين أسروا سبعين من المشركين في غزوة بدر، فيا ترى! كيف يتم التصرف فيهم؟ فإن لم يكن بعد تشريعاً وأمراً مباشراً بالوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التصرف في الأسرى، فكان من اللازم أن يتصرف بطريقة من طرق التشاور كما اعتاد صلى الله عليه وسلم في حياته مع الصحابة، فجمع الصحابة، وكوَّن مجلساً استشارياً، وبدأ يسألهم: ماذا نعمل في الأسرى؟ فقال أبو بكر المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً). إذاً: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقدم رأياً يغلب عليه جانب الرحمة يقول: هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، نأخذ فدية، والفدية هي أموال، يأخذونها لحاجتهم الماسة إليها، خاصة وأنهم يؤسسون دولة، وفي نفس الوقت لو عاشوا قد يهديهم الله سبحانه، ولو قتلناهم فإنهم سيموتون على الكفر. وكان أبو بكر الصديق له اختيارات شديدة الشبه باختيارات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت طبيعته قريبة جداً من طبيعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان دائماً يغلب عليه جانب الرحمة، وكان صلى الله عليه وسلم يصفه ويقول: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه)، هذا كان رأي الصديق رضي الله عنه. فقال صلى الله عليه وسلم للمستشار الثاني: (ما ترى يا ابن الخطاب؟! قال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب أخيه فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم). إذاً: كان رأي عمر بن الخطاب حاسماً شديداً، فقد رأى أن يقتل السبعين وليس ذلك فقط؛ بل كل واحد يقتل قريبه، حتى يظهر كل مسلم لله عز وجل أنه ليس في قلبه حب لأي مشرك حتى ولو كان من أقرب أقاربه، هكذا كان رأي عمر، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في عمر: (أشد أمتي في أمر الله عمر) رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: هذان اختياران، والاثنان مبنيان على حب كامل لله عز وجل، وحب كامل لأمر الدعوة وأمر الدولة الإسلامية، لكن كل واحد له طريقة، والثنان مختلفان تمام الاختلاف، واحد يقول: نأخذ الفدية، والآخر يقول: نقتل الأسرى. قال عمر رضي الله عنه: (فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر الصديق) هذه رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: (فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله! أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما، فقال صلى الله عليه وسلم للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، وأشار إلى شجرة قريبة) يعني: كاد العذاب يصيب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لأنهم اختاروا أمر الفداء؛ فالأولى في هذا الموقف ما أوحى الله عز وجل به إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بأن يثخن في الأرض، أي: بأن يقتل الأسرى؛ لأن هؤلاء كما قال عمر صناديد الكفر وأئمته وقادته في الأرض. وأنزل الله عز وجل قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال:67] أي: أنتم تريدون الفداء والأموال، {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:67]. ثم قال: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، هذا العذاب العظيم كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رآه عمر يبكي هو وصاحبه. فإن قيل: ما هو الكتاب الذي سبق؟ A الكتاب الذي سبق هو الآيات التي نزلت قبل ذلك في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل في حق الأسرى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4]، يعني: أمر الفداء أمر مشروع، وكان الأولى أن يثخن في الأرض كما قال الله عز وجل، لكن أخذ الفداء كان أمراً شرعياً كما ذكر الله عز وجل. وكان على نفس رأي عمر بن الخطاب رأي سعد بن معاذ رضي الله عنهما، وقد أدل

موقف النبي والصحابة من فداء العباس بن عبد المطلب

موقف النبي والصحابة من فداء العباس بن عبد المطلب من أروع الأمثلة التي تذكر في أمر الفداء ما دار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد كان أسيراً في يوم بدر. أنتم تعرفون أن العباس بن عبد المطلب خرج مستكرهاً إلى غزوة بدر، وقاتل مع المشركين فيها وأسر مع من أسر، وكان العباس غنياً، وليس من المستبعد أن يدفع فدية ليفتدي نفسه، فدار هذا الحوار اللطيف بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الحوار ينقل درجة من أعظم درجات الرقي في قيادة الدولة، ليس فيه أي نوع من الوساطة، ولا نوع من المحاباة للأقارب أو الأهل أو العشيرة. قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قد كنت مسلماً)، يعني: أنا كنت مسلماً ومخفياً إسلامي، فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علي فافتد نفسك) سبحان الله! يقول له: أنت في الظاهر أنك في أرض الموقعة تحاربنا، وأما باطنك فالله أعلم، وهو الذي يحاسبك عليه، فالذي أنت عليه هذا الوقت أن تدفع الفدية كمشرك، وليس ذلك فقط، بل قال: (فافتد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو) يعني: تدفع فديتك وكذلك فدية ثلاثة معك؛ لأن هؤلاء الثلاثة فقراء وهو غني. فقال العباس: (ما ذاك عندي يا رسول الله!) أي: ليس لدي هذا الكم من الأموال التي أستطيع بها أن أدفع فدية للأربعة، (فقال صلى الله عليه وسلم: فأين المال الذي دفنته وأم الفضل، فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني: الفضل وعبد الله وقثم)، قال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك وهو لم يره، لكنه علم ذلك بالوحي، فقد قام العباس قبل أن يخرج إلى بدر بدفن مال كثير في مكة له ولـ أم الفضل، وحكى الرسول صلى الله عليه وسلم له الموقف، فقال العباس: (والله يا رسول الله! إني لأعلم أنك رسول الله! إن هذا الشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل) يعني: اقتنع العباس في هذا الوقت أنه رسول الله وأقسم بذلك، وأخبر رسول الله أنه سيدفع الفدية، لكن قال: (فاحسب لي يا رسول الله! ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي)، أي: كان معي في أرض بدر (20) أوقية من المال، أخذها المسلمون غنائم فاحسبها من الفدية، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك، لا، لن نحسبها من المال)، أي: لن نحسبها من الفدية، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70]. نزلت هذه الآيات في العباس رضي الله عنه، إن كنت فعلاً كما تقول أنك مسلم فإن الله سيعوضك عما دفعته، وإن كان غير هذا فإنه سبحانه وتعالى سيحاسبك، فقال العباس تعليقاً على هذه الآية بعد ذلك: (فأعطاني الله عز وجل مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل)؛ لأن الله قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70]. وهكذا يرينا الرسول عليه الصلاة والسلام كيفية تطبيق القانون على كل الناس، يطبق هذا القانون حتى وإن كان على العباس بن عبد المطلب، وقد تعجب الصحابة رضوا نالله عليهم من هذا الموقف، وكان الأنصار رضي الله عنه وأرضاهم في قلوبهم رقة عجيبة، لما رأوا هذا الأمر أشفقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأخذ الفداء من عمه وعمه يحبه، خاصة أن العباس رضي الله عنه وأرضاه كان واقفاً مع الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية، فمعنى هذا: أنه قريب جداً من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وليس هو كـ أبي لهب. وجاء الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحاولوا أن يعفوا العباس من الفدية بطريقة لطيفة ومؤدبة جداً، فقد كان الأنصار قمة في الأخلاق والإيمان. قالوا: (يا رسول الله! ائذن لنا فلنترك لابن اختنا العباس فداءه)، كانت جدة العباس من بني النجار من الخزرج فقال الأنصار: يا رسول الله! اعف عن العباس لأجلنا، ولم يقولوا له: اعف عن العباس؛ لأنه عمك، ومعلوم أن العمومة أقرب بألف مرة من أن تكون

موقف النبي من سهيل بن عمرو حين أسر في بدر وأثر ذلك في ثباته في أحداث الردة

موقف النبي من سهيل بن عمرو حين أسر في بدر وأثر ذلك في ثباته في أحداث الردة كذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم موقف جميل مع سهيل بن عمرو، فقد كان سهيل بن عمرو من قادة قريش، وكان قد أسر في غزوة بدر، وكان معروفاً بحسن الخطابة وحسن البيان يحمس المشركين على القتال ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أخذه المسلمون أسيراً رأى عمر بن الخطاب أن ينزع ثنية سهيل بن عمرو حتى يمنعه من الخطابة: (يا رسول الله! دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً) لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض أن يمثل بالرجل أولاً، ثم قال: (إنه عسى) وهذه نبوءة ومعجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه) يعني: قد تجده يقف فيخطب خطبة لا تذمه فيها ولا تلومه، بل تمدحه، وحصل ذلك فعلاً، فإنه لما ارتدت العرب وقف سهيل بن عمرو وخطب في الناس وثبتهم على الإسلام في مكة المكرمة، وقال: يا معشر قريش! لا تكونوا آخر الناس إسلاماً وأولهم ردة، من رابنا ضربنا عنقه. وهكذا ثبت الناس في مكة على الإسلام.

كيفية فداء الفقراء من أسرى بدر

كيفية فداء الفقراء من أسرى بدر كانت هذه صورة من صور الفداء وهي الفداء بالمال، لكن هناك أناس كانوا فقراء، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض هؤلاء الأسرى يعرفون القراءة والكتابة، والأمة الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن قد تعلمت بعد، وليس عندها قدرة على القراءة والكتابة إلا القليل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بفك أسر مثل هؤلاء من المشركين على أن يعلم كل واحد منهم عشرة من غلمان المدينة المنورة، وهذا يرينا بعد نظر، الرسول عليه الصلاة والسلام ودقة فهمه، فالأمة في حاجة إلى القراءة والكتابة، فاستغل صلى الله عليه وسلم هذا الظرف العظيم، وهو ظرف وجود سبعين من المشركين، منهم من لا يقدر أن يدفع الفدية، فاستغل هذا الأمر في تعليم المسلمين القراءة والكتابة. هناك بعض الأسرى منَّ الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم بغير فداء وأطلقهم، من هؤلاء أبو عزة الجمحي، كان فقيراً جداً وقال: (يا رسول الله! لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علي، فمن عليه صلى الله عليه وسلم)، لكن أخذ عليه عهداً ألا يظاهر عليه أحد، وحينها قال أبو عزة بعض الأشعار في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام. لكن سبحان الله! ما خشي منه سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب حصل، فقد كان أبو عزة بعد إطلاقه شراً على المسلمين وحرباً عليهم، وألب عليهم المشركين في غزوة أحد. وقتل صلى الله عليه وسلم بعض الأسرى، قتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث؛ لأن هؤلاء كانوا من أكابر مجرمي قريش، نسميهم في هذا الزمن بمجرمي الحرب، صلى الله عليه وسلم لهما محاكمة، وقتل الاثنين وهو في الطريق إلى المدينة المنورة.

التشريع الإسلامي في شأن الأسرى وحقوقهم

التشريع الإسلامي في شأن الأسرى وحقوقهم وبعد حل مشكلة الأسرى جاء التشريع الإسلامي بأحكام حول قضية الأسرى، هذه الأحكام بإيجاز أن إمام المسلمين له الحق في الاختيار بين أربعة أمور: إما المن بغير فداء، وإما الفداء، وهذا الفداء قد يكون بمال أو قد يكون بتعليم أو قد يكون بأسير مثله، أي: تبادل أسرى، وإما قتل لمجرمي الحرب أو المعاملة بالمثل إن كان الكفار يقتلون المسلمين الأسارى. الأمر الرابع: الاسترقاق: أن يحتفظ بالأسير رقيقاً عنده إلى أجل يحدده الإمام، حسب ما يرى من احتياج المسلمين. هذه أربعة أمور يختار الإمام منها ما يريد، ويجوز للحاكم أن يتعاهد مع دولة ما أو مجموعة من الدول على طريقة معينة للتعامل مع الأسرى، آتية كأن يتعاهد مع دولة ما أو مع مجموعة من الدول أنه ليس هناك استرقاق، أو أنه ليس هناك قتل للأسرى، أو أنه ليس هناك كذا أو كذا على طريقة معينة ما دام الشرع يسمح بطرق مختلفة للتعامل مع الأسرى. لكن هناك شيء مهم جداً، وهو أنه إذا احتفظت بالأسير فلا بد من إكرامه ورعايته رعاية أخلاقية سامية تليق بدين الإسلام، قال الله عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]. وقد زرع الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأخلاق في الصحابة من أول يوم كان لهم فيه أسرى، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام في قضية الأسرى: (استوصوا بالأسارى خيراً)، فلما سمع الصحابة ذلك بذلوا كل ما يملكون في سبيل بذل الخير للأسارى، تخيل! هؤلاء الأسرى كانوا منذ أيام قليلة يحاولون قتل المسلمين، ومع ذلك نسي المسلمون ذلك تماماً وتذكروا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأسارى خيراً). يقول أبو عزيز بن عمير -وكان من أسارى بدر-: (كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان عندهم خبز بر، وكانوا يقدمون هذا الخبز على طعام التمر؛ لأنه أفضل عندهم، فكانوا يعطونه الطعام الأفضل ويأخذون الأقل في الفضل تنفيذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم. فكان هذا تصرف الأنصار هذا له أثر كبير جداً على نفسية أبي عزيز بن عمير، فما هي إلا أيام بعد أن أطلق حتى أسلم رضي الله عنه وأرضاه. كذلك أبو العاص بن الربيع كان من أسارى بدر، وهو زوج زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان أسيراً من الأسرى، فقال: (كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إلي)، كل ذلك تنفيذاً لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة -أخو خالد بن الوليد رضي الله عنه- من أسارى بدر، وكان يقول مثل ذلك ويزيد، كان يقول: (وكانوا يحملوننا ويمشون)، يعني: لو رأوا واحداً منا متعباً أو مريضاً أو جريحاً حملوه ومشوا، فانظر إلى أي حد بلغ الرفق بالأسير، هذا هو المنهج الذي جعل الإسلام يدخل في قلوب الناس، فأسلم أبو العاص بن الربيع، وأسلم أبو عزيز بن عمير، وأسلم السائب بن عبيد، وأسلم الوليد بن الوليد وهكذا. إذاً: كان هذا الأثر الخامس من آثار غزوة بدر، وعرفنا فيه التشريع الإسلامي في قضية الأسارى.

أثر غزوة بدر في محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وغزو المدينة

أثر غزوة بدر في محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وغزو المدينة الأثر السادس: هو أن الأزمة الضخمة التي مرت بها قريش من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية دفعتها إلى التفكير في غزو المدينة المنورة، بل دفعتها إلى محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وظهرت أكثر من محاولة منها: واحدة كانت لـ عمير بن وهب الجمحي، أسر ابنه في غزوة بدر، فأراد أن يرجع ابنه، وفي نفس الوقت كان يكن في قلبه حقداً كبيراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذات يوم جلس مع صفوان بن أمية في الحجر يتذاكران سوياً أمر بدر، وكان صفوان بن أمية قد قتل أبوه وأخوه في بدر، فقال صفوان: (والله إن في العيش بعدهم خير، فقال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي قبلهم علة ابني أسير في أيديهم). إن عمير بن وهب سيدخل المدينة المنورة بسهولة؛ لأن لديه أسيراً هناك يريد أن يفتديه، فإذا دخل قتل الرسول عليه الصلاة والسلام، فاغتنم صفوان الفرصة وقال: (علي دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا) وهكذا دفعه دفعة شيطانية إلى الذهاب لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فقال عمير: فاكتم عني شأني وشأنك. قال: أفعل). فقام عمير وأخذ سيفه وأحده جيداً وسمه، وبالفعل أخذ نفسه وانطلق إلى المدينة المنورة، ومر على مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم يتحدثون في أمر بدر، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد اشتهر عن عمر بفراسته الشديدة فقال: (هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء إلا لشر) ودخل بسرعة على الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا نبي الله! هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه، وقال صلى الله عليه وسلم: فأدخله علي، قال: فلببه بحمالة سيفه) يعني: أمسك بالسيف ووضعه على رقبته وأدخله على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يكتف عمر بن الخطاب بذلك، بل قال لرجال من الأنصار: (ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون، ثم دخل به). رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب ممسكاً بـ عمير بن وهب، فقال له: (أرسله يا عمر! ادن يا عمير! فدنا وقال: أنعموا صباحاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير! ثم قال: ما جاء بك يا عمير؟! قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: فما بالك السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل صفوان دينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك، فلم يجد عمير إلا شيئاً واحداً، قال: أشهد أنك رسول الله! قد كنا يا رسول الله والله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المكان) سبحان الله! أتى من أجل أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام فكانت النتيجة أن دخل في الإسلام، وأصبح من أعظم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. (ثم تشهد عمير بن وهب شهادة الحق -شهد أنه لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله- فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: فقهوا أخاكم في دينه، وأقرءوه القرآن، وأطلقوا له أسيره). وظل صفوان في مكة المكرمة ينتظر خبر قتل الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يقول لأهل مكة: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر، وكان يسأل كل من قدم إلى مكة عن عمير بن وهب حتى أخبره آتٍ من المدينة أنه أسلم، فحلف صفوان ألا يكلمه أبداً. واستمر فعلاً مخاصماً إلى فتح مكة، لكن سنذكر أمراً إيجابياً لـ عمير بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، فمع قلة ما تعلمه بعد إسلامه إلا أنه قال: (يا رسول الله! إني كنت جاهزاً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة، فأدعوهم إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام؛ لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم

أثر غزوة بدر في الأعراب حول المدينة

أثر غزوة بدر في الأعراب حول المدينة الأثر السابع من آثار غزوة بدر أثر الغزوة على الأعراب حول المدينة. كانت حياة الأعراب تقوم في الأساس على السلب والنهب، فهم قطاع طريق ولصوص، وقيام دعوة أخلاقية في داخل دولة قوية مثل دولة الإسلام قد يحجم من السرقات وقطع الطريق الذي يقوم به الأعراب. ولما انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر بدأ الأعراب يفكرون في محاولة جمع أنفسهم للقيام بغزو المدينة المنورة؛ لمنع هذه القوة من التنامي، فإن هذه القوة لو كبرت فإنها ستوقف نشاط الأعراب حول المدينة، فجمعت بنو سليم نفسها وبدأت تقرر غزو المدينة المنورة. عرف الرسول عليه الصلاة والسلام أن بني سليم تجمع الأعداد لغزو المدينة، فأخذ نفسه والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وانطلقوا بسرعة إلى بني سليم، فلما رأى بنو سليم النبي صلى الله عليه وسلم قادماً فروا إلى الجبال وتركوا كل شيء، وعاد صلى الله عليه وسلم من بني سليم بكمية كبيرة من الغنائم، مقدارها (500) بعير وزعها على جيش المدينة المنورة، وكان هذا في شوال سنة 2هـ، أي: بعد الرجوع من بدر بحوالي سبعة أيام فقط، وكان فيها نصر كبير للمسلمين، وازدادت الرهبة والهيبة للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية، وعلى غرار غزوة بني سليم كان هناك أكثر من غزوة في هذه السنة التي تلت غزوة بدر، إذاً: هذا كان من أهم الآثار لغزوة بدر.

أثر غزوة بدر في تغير التركيبة السكانية داخل المدينة المنورة

أثر غزوة بدر في تغير التركيبة السكانية داخل المدينة المنورة هناك أثر ضخم جداً وهائل لغزوة بدر، وهو تغير التركيبة السكانية داخل المدينة المنورة. قبل موقعة بدر كنا نقسم الناس في المدينة المنورة إلى مسلمين ومشركين ويهود، فالمشركون تغيروا، يعني: إما صاروا مسلمين؛ لأنهم بالإسلام ودخلوا فيه على اقتناع، وإما تحول المشركون إلى منافقين. إذاً: ظهرت طائفة جديدة ما كانت موجودة قبل هذا في كل مراحل الدعوة النبوية، لا في فترة مكة ولا في أوائل فترة المدينة، وهي طائفة المنافقين. والمنافقون لا يظهرون إلا إذا قويت شوكة الإسلام والمسلمين، فلو رأيت المنافقين يكثرون فهذه علامة صحية، علامة على أن دولة الإسلام أصبحت قوية، وقبل هذا كانت ضعيفة، فلا يفكر أحد من المشركين أن ينافقهم، لكن الآن أصبحت دولة المسلمين قوية، وبدأت تظهر طائفة المنافقين القذرة، وعلى رأس هذه الطائفة كان الرجل الذي كان يكره الرسول صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة عبد الله بن أبي ابن سلول، فبدلاً من أن يكون زعيم المشركين في المدينة أصبح زعيم المنافقين في المدينة المنورة. بعد بدر مباشرة أعلن هؤلاء القوم إسلامهم وأبطنوا الكفر في داخلهم، وطبعاً سيكون لهم أثر سيء جداً على المدينة المنورة وعلى المسلمين.

أثر غزوة بدر في سيطرة المسلمين العسكرية على الجزيرة العربية

أثر غزوة بدر في سيطرة المسلمين العسكرية على الجزيرة العربية الأثر التاسع: السيطرة العسكرية الكبيرة للمسلمين على الجزيرة العربية، فقد استطاعوا أن يصلوا إلى مناطق واسعة من الجزيرة العربية، ويتضح هذا جيداً في سرية زيد بن حارثة، هذه السرية لها قصة في منتهى الروعة ونحب أن نقف معها. لما حصلت السيطرة الكاملة للمدينة المنورة على منطقة شمال مكة المكرمة منطقة الطريق إلى الشام، بدأت قريش تفكر في حل لطريق التجارة إلى الشام؛ لأن التجارة إلى الشام وقفت، وهي عصب حياة أهل مكة. فاجتمعوا اجتماعاً كبيراً، وكان صفوان بن أمية في هذه السنة هو قائد الحملة التي ستذهب إلى الشام، فقال صفوان بن أمية: إن محمداً وصحبه عوروا علينا متجرنا، ولا ندري كيف نصنع بأصحابي وهم لا يبرحون الساحل؟ وأهل الساحل قد وادعوهم، ودخل عامتهم معهم، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء، وإن حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء. فقام الأسود بن عبد المطلب وقال لـ صفوان ولمن معه من المشركين: اترك طريق الساحل وخذ طريق العراق. ومعلوم أن طريق العراق طريق طويل جداً يخترق نجداً إلى الشام، ويمر بشرق المدينة، لكن على بعد كبير جداً منها، وقريش نفسها لا تعرف هذه الطريق، فهي تحتاج إلى دليل ماهر حتى يعبر بها هذا الطريق الوعر ليصلوا إلى الشام. ووافقت قريش على هذا الرأي، واختارت لها دليلاً اسمه فرات بن حيان من بني بكر بن وائل، ليوصلهم للشام عن طريق نجد. وخرجت عير قريش بقيادة صفوان بن أمية، وأخذت الطريق الجديد، ونقلت المخابرات الإسلامية الأخبار إلى المدينة المنورة، وبسرعة جهز الرسول عليه الصلاة والسلام سرية على رأسها زيد بن حارثة رضي الله عنه، قوام هذه السرية مائة راكب، وانطلقوا بسرعة لقطع الطريق على القافلة، فهرب صفوان بن أمية ومن معه من حراس القافلة، وتركوا دليل القافلة فرات بن حيان فأخذه المسلمون أسيراً وأخذوا القافلة بكاملها، فكانت غنيمة كبيرة جداً، كانت تحمل الأواني والفضة للتجارة في الشام، وقدرت قيمة هذه القافلة بمائة ألف دينار، وقسمت على أفراد السرية بعد أن أخذ منها الرسول عليه الصلاة والسلام الخمس. وبعد ذلك أسلم فرات بن حيان، فكانت ضربة في منتهى القوة لقريش، وكانت مأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشاً بعد بدر، كان هذا في جماد الآخرة سنة 3هـ، أي: بعد حوالي عشرة شهور من غزوة بدر، معنى هذا: أن سيطرة المسلمين على الجزيرة العربية لم تكن عابرة، بل كانت مستمرة. إن هذا الموقف جعل قريشاً تتحرك لهجوم كاسح شامل على المدينة المنورة، وهذه ستكون مقدمات غزوة أحد، بقي لنا أثر عاشر مهم جداً من آثار غزوة بدر، لكن الوقت لا يتسع للحديث عنه، وهو أثر غزوة بدر على اليهود في داخل المدينة المنورة، خاصة يهود بني قينقاع الذين كانوا يعيشون وسط المدينة المنورة، فماذا عملوا كرد فعل لهذا الأمر؟ ويا ترى! ماذا عمل يهود بني النضير؟ وبنو قريظة ماذا عملوا؟ فعلى ضوء رد فعلهم سيكون تصرف النبي صلى الله عليه وسلم. هذا أمر يحتاج إلى تفصيل، وسوف نفرد له إن شاء الله حديثاً في الدرس القادم، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا على الخير دائماً، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الطريق إلى أحد

سلسلة السيرة النبوية_الطريق إلى أحد بعد أن أعز الله المسلمين في غزوة بدر، ظهرت عداوة اليهود جلية داخل المدينة المنورة، فقاموا بتحريض القبائل العربية ضد المسلمين وإثارة الفتن، فكان أن مهدت هذه الأحداث لغزوة أحد.

الأسباب الداعية إلى حصار النبي ليهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة

الأسباب الداعية إلى حصار النبي ليهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. في الدروس السابقة تحدثنا عن غزوة بدر وآثارها العظيمة في الجزيرة العربية، وذكرنا موقف قريش وموقف المدينة المنورة وموقف الأعراب، ووقفنا عند ردة فعل اليهود على هذا الانتصار المبهر في غزوة بدر الكبرى. فأنتم تعلمون أن داخل المدينة المنورة ثلاث قبائل يهودية: قبيلة بني قينقاع، وقبيلة بني النضير، وقبيلة بني قريظة. وفي شمال المدينة المنورة تجمع ضخم لليهود يقال لهم: يهود خيبر، وقد عمل الرسول عليه الصلاة والسلام معاهدة مع اليهود، وحاول اليهود مراراً وتكراراً حاولوا أن يخالفوا هذه المعاهدة وأن ينقضوا الميثاق، وتحدثوا كثيراً بالسوء عن الصحابة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وعن رب العالمين سبحانه وتعالى، وتطاولوا كثيراً في هذه الكلمات، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يضبط النفس ويحاول التحكم قدر المستطاع في أعصاب الصحابة، لكي يمنعهم من الصدام مع اليهود؛ لأن الوضع ما زال مضطرباً داخل المدينة المنورة. وبعد انتصار الرسول عليه الصلاة والسلام على قريش في بدر عاد إلى المدينة المنورة وهو يرفع رأسه بعزة وقوة وبأس، وأرهب ذلك معظم الجزيرة العربية، لكن كان رد فعل اليهود غريباً، فقد جمع الرسول عليه الصلاة والسلام بداية دخوله المدينة المنورة جمع اليهود -يهود بني قينقاع، وحذرهم من مغبة الطغيان والمخالفة المستمرة التي كانوا عليها، وقال لهم: (يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم مثلما أصاب قريشاً)، وبالطبع هو لا يكرههم على الإسلام أو على الإيمان، ولكن يقول لهم: إن قريشاً لما ظهرت على أمر الله عز وجل أذلها الله عز وجل، وهذا له بوادر وظواهر عند اليهود، فهم يخالفون بصورة مستمرة ويسيئون الأدب مع الأنبياء ومع رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن رد فعل بني قينقاع كان عنيفاً جداً، قالوا: يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لن تلقى مثلنا. إذاً: فهذا إعلان صريح من اليهود وتهديد واضح من اليهود بالحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، وقد عرفنا المعاهدة التي بها كف الحرب بين الطائفتين، بل وتجعل واجباً على اليهود أن يناصروا المسلمين في حربهم ضد من يغزو المدينة المنورة سواء من قريش أو من غيرها، لكن الآن بدأ انشقاق كبير داخل المدينة المنورة، وأعلنوا استعدادهم لحرب الرسول عليه الصلاة والسلام وهددوه وتوعدوه؛ ضعوا كل هذا بجانب؛ الذكريات القديمة لليهود في خلال السنتين الماضيتين من التكذيب المستمر والادعاء بالباطل على المسلمين وعلى آيات الله عز وجل وعلى الحبيب صلى الله عليه وسلم. عندما قابل كان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام، أنزل الله عز وجل آيات بينات توضح العلاقة بين اليهود والمسلمين في مرحلة قادمة، وهي آيات أنزلت في يهود بني قينقاع، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12]، ويخبر الله بني قينقاع أن يتعظوا بما حدث في لقريش: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13]، لكن كانت بصائر اليهود مطموسة تماماً، فلم يفقهوا هذه الآيات ولم يهتموا بها. إذاً: هذا هو الموقف الذي كان بين اليهود وبين المسلمين، ولم يقف الموقف إلى هنا، بل إنه تصاعد أكثره، فقد حدث أن امرأة من المسلمين قدمت إلى سوق بني قينقاع، وجلست إلى أحد الصاغة اليهود تبيع وتشتري منه، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، أي: يحاولون أن يقنعوها بأن تكشف وجهها، فرفضت المرأة ذلك، فأتى أحد اليهود من ورائها وربط طرف ثوبها في رأسها دون أن تنتبه، فعندما وقفت انكشفت سوءتها فصرخت، فجاء مسلم وقتل اليهودي الذي فعل ذلك، فاجتمع يهود بني قينقاع على المسلم وقتلوه، فكانت بوادر أزمة ضخمة جداً في داخل المدينة المنورة؛ حيث إن قبيلة بني قينقاع اجتمعت على قتل المسلم بعد أن قامت بجريمة كشف عورة المرأة المسلمة، ووصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبمجرد أن وصل إليه الأمر جمع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وجهز الجيش وانطلق مباشرة إلى حصون بني قينقاع، وحاصر يهود بني قينقاع فيها، وأصر صلى الله عليه وسلم على استك

بعض ملامح غزوة بني قينقاع

بعض ملامح غزوة بني قينقاع

أخذ القرار بإجلاء اليهود بعد الاطمئنان إلى قوة الدولة الإسلامية

أخذ القرار بإجلاء اليهود بعد الاطمئنان إلى قوة الدولة الإسلامية ظهر لنا في قصة بني قينقاع بعض الملامح. أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقف هذه الوقفة الجادة القوية مع اليهود إلا بعد أن اطمأن على قوة الجيش والاقتصاد والدولة الإسلامية، بحيث إن السوق الإسلامي أصبح قوياً وموجوداً وله حضور في المدينة المنورة، وتعلمون أن كل التجارة كانت في سوق بني قينقاع، فإذا كانت التجارة معتمدة اعتماداً كاملاً على بني قينقاع، وبعد ذلك خرجوا إلى الشام، فكيف سيكون الحال داخل المدينة المنورة؟ لذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أمن نفسه من هذا الأمر من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة، وعمل السوق الإسلامي، وصار الماء ملكاً للمسلمين بعد أن كان ملكاً لليهود، وقد تكلمنا على بئر رومة قبل ذلك في الدروس الماضية من العهد المدني. إن الجيش المسلم جيش معتمد على أفراده تماماً لا يعتمد على معونات خارجة عن المدينة المنورة، بل يعتمد على المهاجرين والأنصار، ليس مثل عبد الله بن أبي الذي يعتمد على اليهود في حمايته، وهذا الوضع شجع الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يأخذ قرار الحرب بسهولة.

الرد السريع على بني قينقاع وعدم التساهل فيما فعلوه مع المرأة المسلمة

الرد السريع على بني قينقاع وعدم التساهل فيما فعلوه مع المرأة المسلمة الملمح الثاني مهم لنقف عليه في غزوة بني قينقاع: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ير التساهل مطلقاً مع اليهود بعد هذا الموقف الذي فعلوه مع المرأة المسلمة ومع الرجل المسلم الذي قتل؛ لأن فعلهم كان مخالفة صريحة للمعاهدة التي بينه وبينهم، ولو سكت صلى الله عليه وسلم على مخالفة اليهود للمعاهدة مرة ثانية وثالثة وأكثر من ذلك -لزاد اليهود من تطاولهم، وبالتالي يبدءون الدخول في مرحلة ثانية من الاستهزاء بالدولة الإسلامية وبكرامتها، وعندما يكون هناك تساهل بالأمر الجديد سيعملون أشياء أخرى أكثر وأكثر، وحدود اليهود ليست لها نهاية. ورأينا هذا الفعل من اليهود سواء في السابق أو في اللاحق، وسنظل نراه من اليهود إلى يوم القيامة؛ لأن هذه طبيعة من طبائع اليهود. ففي العصر الحديث خالف اليهود القوانين الإسلامية، وبدءوا بالهجرة إلى فلسطين وكانت الهجرة إلى فلسطين ممنوعة عليهم، وسكت المسلمون، وبعد ذلك تملك اليهود الاقتصاد الفلسطيني في داخل فلسطين بكاملها، كذلك المسلمون لم يحركوا ساكناً، واستقدم اليهود السلاح الخفيف في داخل فلسطين، كذلك سكت المسلمون عن ذلك، واستقدم اليهود السلاح الثقيل في داخل فلسطين، وكذلك سكت المسلمون عن ذلك، ثم جاء قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والمسلمين، وكذلك السكوت هو السائد، فقامت إسرائيل سنة (1948) ثم قامت حرب سنة (1956)، ثم قامت الحرب سنة (1967)، ثم أشعلت حرب سنة (1982) ضد لبنان وهكذا كلما نسكت يأخذ اليهود منطقة أكبر، كنا نطالب بالعودة إلى حدود التقسيم، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود (1967)، وبعد ذلك نطالب بالعودة إلى حدود الانتفاضة، والآن اليهود يعملون الجدار، وسنطالب بالعودة إلى حدود الجدار، وهكذا تساهل وراء تساهل وراء تساهل، حتى أدي للذي نراه الآن. لذلك تجنب الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المأساة، وأخذ قراراً حاسماً وسريعاً بحصار بني قينقاع، وعقابهم بالطريقة التي شرعت في المعاهدة التي بينه وبينهم قبل ذلك بسنتين. إذاً: هذا هو الوضع الحاسم الذي علمنا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوة العلاقة بين اليهود والمنافقين

قوة العلاقة بين اليهود والمنافقين الملمح الثالث من ملامح غزوة بني قينقاع: قوة العلاقة بين اليهود وبين المنافقين من المسلمين، المنافقون أسماؤهم إسلامية وصفاتهم إسلامية وشكلهم إسلامي، لكن يتعاملون مع اليهود بمنتهى الحمية والقوة؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، واستغل اليهود هذه العلاقة في أيام الرسول صلى عليه الصلاة والسلام، واستغلوها بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى زماننا الآن وإلى يوم القيامة، فالعلاقة وطيدة وأكيدة بين اليهود والمنافقين، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في كتابه بتعبير غريب وواضح جداً، قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} [الحشر:11] إلى آخر الآيات، فجعل الله عز وجل المنافقين إخواناً للذين كفروا من أهل الكتاب، فهذا الأمر واضح جداً في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، وواضح من خطوات السيرة النبوية كما ترون. إذاً: هذا هو موقف الرسول عليه الصلاة والسلام من بني قينقاع.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف شبيه بهذا الموقف في هذه الفترة أيضاً ما فعله صلى الله عليه وسلم مع رجل من يهود بني النضير، كان هذا الرجل يقود حرباً ضروساً ضد المسلمين، ليس كل القبيلة يقودون هذه الحرب، وإنما هو واحد منها كان اسمه كعب بن الأشرف، وهو من قادة بني النضير وزعمائها، هذا الرجل كان يصرح بسب الله عز وجل وبسب رسوله الكريم وكان شاعراً مجيداً ينشد الأشعار في هجاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولم يكتف بذلك الأمر، ولكنه ذهب ليؤلب القبائل على الدولة الإسلامية، ولم يكتف بهذا الأمر، بل ذهب إلى مكة المكرمة، وألب قريشاً على المسلمين، وبدأ يتذاكر معهم قتلى المشركين في بدر، بل إنه فعل ما هو أشد من ذلك وأنكى، وتعلمون أنه من اليهود وهو يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول من عند رب العالمين؛ سأله القرشيون وهم يعبدون الأصنام، قالوا: أديننا أحب إليك، أم دين محمد وأصحابه، وأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ فقال الكافر: أنتم أهدى منهم سبيلاً، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]. طبعاً هذا الكلام شجع قريشاً على الحرب، ولم يكتف كعب بذلك، بل زاد على ذلك أموراً تخرج عن فطرة العرب وأدبهم بصفة عامة، سواء كانوا في الإسلام أو في الجاهلية، بدأ يتحدث بالفاحشة في أشعاره عن نساء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. إذاً: كعب بن الأشرف ارتكب عدة جرائم ضخمة، سب الله عز وجل، وسب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهجى الصحابة، وهجى الصحابيات بأفحش الكلام، وحرض قريشاً على الانتقام لقتلاها في بدر، وكل هذا مخالفة صريحة للمعاهدة بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في المعاهدة: ألا تجار قريش ولا تنصر على المسلمين، فكل هذه الأشياء جعلت الرسول يأخذ قراراً في منتهى الحسم بقتل كعب بن الأشرف، فقال صلى الله عليه وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه آذى الله ورسوله)، فقام محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة والحارث بن أوس ومجموعة من الأوس رضي الله عنهم أجمعين، وقرروا القيام بهذا الأمر، وبالفعل خرجت هذه السرية وذهبت إلى كعب بن الأشرف وبطريقة فيها تفصيل لا يسمح المجال بذكره هنا، استطاعوا أن يستخرجوا كعب بن الأشرف بحيلة من داخل حصنه، وقاموا بقتله كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلك تخلصت الدولة الإسلامية من أحد ألد أعدائها كعب بن الأشرف.

تعليقات على موقف النبي صلى الله عليه وسلم من يهود بني قينقاع وقتل كعب بن الأشرف وحده دون قبيلته

تعليقات على موقف النبي صلى الله عليه وسلم من يهود بني قينقاع وقتل كعب بن الأشرف وحده دون قبيلته هناك تعليقان على هذا الموقف: التعليق الأول: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قتل كعب بن الأشرف وحده دون قبيلته، بينما أخرج قبيلة بني قينقاع بكاملها عندما خالفت، فالفرق بين الموقفين: أن قبيلة بني قينقاع أولاً كانت تجاهر بالعداء كقبيلة، والموقف بعد بدر كان واضحاً، وصراعها مع الرسول صلى الله عليه وسلم كان معلناً، بينما قبيلة بني النضير لم تجاهر بهذا العداء إلى هذه اللحظة، بل بعد قتل كعب بن الأشرف جاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام تقر العهد وتطيل المدة. إذاً: الفرق بين القبيلتين: أن قبيلة بني قينقاع كانت معادية كقبيلة كاملة، والأخرى أحد أفراد القبيلة هو الذي كان يعادي، والسيئة عند الرسول صلى الله عليه وسلم لا تعم. هذا هو التعليق الأول. التعليق الثاني على موقف بني قينقاع وموقف كعب بن الأشرف: هو وضوح مدى الانحراف الجنسي عند اليهود، ومدى إثارة الغرائز واستخدام ذلك للإفساد في الأرض، ففي قصة المرأة المسلمة حاولوا أولاً كشف وجهها، ثم بعد ذلك كشفوا عورتها، وفي قصة كعب بن الأشرف أخذ يتحدث عن نساء الصحابة رضي الله عنهن أجمعين بالفاحشة، وبكلام لا يستقيم أبداً لإنسان صاحب فطرة سليمة. إذاً: هذه كانت طريقة من طرق اليهود، كانوا يستخدموها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل عهده وبعد موته، فقد فشا فيهم الزنا حتى قال صلى الله عليه وسلم: (أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) وهذا ينشأ عامة في تاريخهم، وإلى الآن معظم وسائل الإعلام والسينما والمواقع الإباحية والبرامج والأفلام الجنسية تمت بصلة كبيرة إلى اليهود، فأكثر من 50% من وسائل الإعلام يملكها اليهود، وأكثر من 80 أو 90% من الإعلانات التي تقدم خلال هذه الوسائل من برامج وأفلام وغيرها تقوم في الأساس على إثارة الغرائز الجنسية وعلى النساء، ولابد أن ينتبه المسلمون لهذه النقطة. إذاً: بعد موقف النبي صلى الله عليه وسلم من بني قينقاع ومن كعب بن الأشرف استقر الوضع داخل المدينة المنورة نسبياً، وأصبح الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قوةً كبيرة جداً داخل المدينة المنورة، وأعلن معظم الناس الإسلام في المدينة، نعم. منهم منافقون، لكن الذي يحكم المدينة المنورة حكماً تاماً كاملاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك خاف اليهود من المسلمين بعد الموقف الحاسم الذي حصل مع بني قينقاع، وبدأ بنو النضير وبنو قريظة يتربصون بالمسلمين.

المقدمات الإعدادية لفريق الحق وفريق الباطل في غزوة أحد

المقدمات الإعدادية لفريق الحق وفريق الباطل في غزوة أحد إن موقف قريش كان موقفاً سيئاً جداً، فهي تعاني من أزمة اقتصادية ضخمة، وذلك بقطع طرق التجارة عن الشام، كذلك تعاني من أزمة سياسية ضخمة، وذلك بإهانة كرامتها وضياع هيبتها في الجزيرة العربية بعد الهزيمة المرة على يد المسلمين، خاصة أن الكفار كانوا أضعاف الجيش الإسلامي، كذلك تعاني من أزمة اجتماعية، وذلك بقتل سبعين من أشرافها، وكل واحد من عائلات هؤلاء الأشراف يريد أن يأخذ الثأر لأبيه أو لعمه أو لخاله أو كذا من أقاربه، كذلك تعاني من أزمة دينية؛ لأن الله عز وجل أخبر أن الحرب مستمرة بين الكفار والمسلمين، ما دام المسلمون على دينهم. قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، إذاً: هذا هدف واضح عندهم، والرسول عليه الصلاة والسلام ينشر الإسلام في المدينة وما حولها، وبالتالي يرفع من درجة الفوران والغيلان في داخل مكة المكرمة، فيا ترى ماذا سيعملون؟ لنرى الآن ماذا سيفعل القرشيون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المؤمنين في المدينة المنورة.

المقدمات الإعدادية لفريق الباطل

المقدمات الإعدادية لفريق الباطل قلنا قبل ذلك: إن الكفار أوقفوا التصرف في قافلة أبي سفيان التي نجت من بدر؛ وذلك لتجهيز جيش ليحارب المسلمين، هذه القافلة كانت تقدر قيمتها بخمسين ألف دينار ذهبي، فهي كمية هائلة من الأموال، ومع ذلك كل هذه الأموال أنفقت للصد عن سبيل الله، وبدأت قريش تجهز الجيش من داخل مكة، بل بدأت تستنفر القبائل المحيطة المساعدة والمعاونة لها، وكونت بالفعل جيشاً كبيراً قوامه (3000) مقاتل، وأخرجت كل زعماء مكة على رأس الجيش المكي، وعلى رأس كل هؤلاء أبو سفيان، وأكبر المساعدين له في هذه الموقعة هو صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد، هذه هي القوة البشرية التي جهزوها. أما قوة السلاح فجهزوا (3000) بعير و (200) فرس، و (700) درع، وخرج مع الجيش (15) امرأة من نساء قريش، تتقدمهم سيدة مكة الأولى في ذلك الوقت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، وكذلك زوجات القادة العظام الكبار في جيش مكة، زوجة صفوان بن أمية، وزوجة عكرمة بن أبي جهل، وزوجة الحارث بن هشام. وفوق كل هذا حرب إعلامية ضخمة في الجزيرة العربية بكاملها تحفز الناس على حرب المسلمين، وقاد هذه الحملة أبو عزة الجمحي، الأسير الذي أسره صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وأطلقه مناً بغير فداء، وأخذ عليه عهداً ألا يشارك ولا يحفز المشركين على حرب المسلمين، فهاهو الآن يخالف العهد ويحفز العرب بكاملهم على حرب المسلمين، وهذا سيكون له مردود في غزوة أحد كما سنرى إن شاء الله. القيادة العامة للجيش لـ أبي سفيان، وقائدا سلاح الفرسان خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، وكان اللواء مع بني عبد الدار. إذاً: هذا هو إعداد جيش مكة، ومع أن هذا الإعداد إعداد كبير جداً، إلا أن هذه الموقعة أسهل على المسلمين من موقعة بدر للأسباب التالية: أولاً: فقدت قريش معظم قادتها، فهذا الجيش يخلو من أسماء ضخمة في تاريخ مكة، فليس هناك الوليد بن المغيرة ولا أبو جهل ولا عقبة بن أبي معيط ولا النضر بن الحارث ولا أمية بن خلف، وقتلى بدر من المشركين كثير جداً. ثانياً: المسلمون يعلمون بأمر الحرب ويستعدون لها، حيث إن الخبر وصل من مكة إلى المدينة المنورة مباشرة، وعند الرسول عليه الصلاة والسلام وقت للإعداد، فسيخرج بعدة المقاتل لا بعدة المسافر. ثالثاً: الحرب ستكون في المدينة أو بجانب المدينة المنورة، فعلى على المشركين أن يسيروا مسافة خمسمائة كيلو متر إلى المدينة المنورة حتى يدخلوا في المعركة، فهو مشوار طويل جداً في الصحراء، والجيش قوامه (3000) مقاتل، فقد تكون هناك مشقة على الجيش، بينما سيخرج المسلمون من المدينة المنورة إلى أحد أو إلى ما حولها حسب اختيار المكان، والمسافة التي سيقطعونها (5) كيلو أو (10) كيلو أو (20) كيلو من المدينة المنورة، فالوضع بالنسبة للمسلمين أقل مشقة. رابعاً: الحالة المعنوية؛ فمعنويات المسلمين مرتفعة، بينما معنويات الكفار في الحضيض، فقد كانوا مغلوبين في بدر، ومروا بأكثر من أزمة خلال السنة الماضية، وآخر الأزمات كانت أزمة سرية زيد بن حارثة، ففي هذه السرية أخذت القافلة من صفوان بن أمية، وكان فيها بضاعة تقدر بمائة ألف دينار، فكانت ضربة قاسية جداً لقريش، خاصة أن القافلة كانت تسير على مسافة بعيدة جداً من المدينة المنورة، مما يثبت لنا الكفاءة العسكرية والمخابراتية للقوة الإسلامية في المدينة المنورة، فكل هذا يضعف جداً من نفسية الجيش المكي، وكل هذا يبين أن جيش المسلمين له علو وقوة وبأس، مع أن عدد الجيش الإسلامي أقل من عدد الجيش المكي، لكن عوامل نصره كانت كثيرة.

المقدمات الإعدادية لفريق الحق

المقدمات الإعدادية لفريق الحق علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن جيش مكة يستعد للخروج، فاجمع الصحابة للشورى، ولو راجعنا صفات الجيش المنتصر لوجدنا أن كل الصفات العشر تتكرر ثانياً في الجيش الذي خرج من المدينة إلى أحد، لكن سيحصل اختلاف في نقطة أو نقطتين، لكن إلى الآن الجيش الإسلامي يسير تماماً كما كان جيش بدر يسير. فمن العوامل التي تحققت في الجيش المسلم: أولاً: الشورى. جمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليتشاوروا جميعاً، فأول شيء قرروه قبل التفكير في أي طريقة للقتال أن يؤمنوا المدينة المنورة، فقاموا بتشكيل فرقة لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مستهدف، وقد يحصل أي جريمة لاغتياله صلى الله عليه وسلم، وهذا سيؤثر على المدينة المنورة، وكان على رأس هذه الفرقة كبار الأوس والخزرج: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير، وهي من أقوى الفرق الإسلامية، وبدأت تحوط بيت الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد النبوي، وتسير معه في كل مكان. ثانياً: وضعوا فرقاً لحماية مداخل المدينة المنورة، حتى لا يباغت المسلمون ليلاً أو نهاراً. ثالثاًً: وضعوا دوريات مراقبة حول المدينة المنورة لاستطلاع مكان الجيش المشرك وخطواته وتحركاته. رابعاً: جميع المسلمين في المدينة المنورة من الأوس والخزرج والمهاجرين كانوا لا يتحركون إلا بالسلاح حتى في أثناء الصلاة، فقد كان السلاح ملازماً لهم باستمرار، وهذا يوضح لنا صفة مهمة جداً من صفات الجيش المنتصر، وهي صفة الإعداد الجيد: مخابرات قوية أتت بالأخبار، حصار، حماية قوية للرسول عليه الصلاة والسلام، وحماية قوية للمدينة، واستعداد كامل للقتال. ثم فكروا في الموقف الذي يقومون به: هل يخرجون خارج المدينة أو يمكثون بداخلها؟ أين يحاربون؟ يختارون أرض القتال هم أم يختارها العدو؟ وقبل أن يختاروا القرار قص عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام رؤيا. قال لهم: (إني قد رأيت والله خيراً، ثم قال: رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً -خدشاً أو كسراً- ثم قال: ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة). إذاً: رأى الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة أشياء. أولاً: رأى أن بقراً تذبح، وأول ذلك صلى الله عليه وسلم بأن نفراً من أصحابه يقتلون، وأول الخدش أو الكسر الذي في سيفه بأن رجلاً من أهل بيته يقتل، وأول إدخال يده في درع حصينة بالمدينة المنورة، أي: أنه يقاتل في المدينة المنورة، لكنه ذكر هذه الرؤيا ليس على أنها قرار يملى على المسلمين، ولكن في صورة رأي يستأنس به؛ لأنه لو كان وحياً ما جاز له أن يستشير الصحابة في هذا الأمر، لكنه يرى أن الأمر متروك للشورى ورأي المسلمين، فكان رأيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في المدينة، بل صرح بعد ذلك بهذا الرأي وقال: (يقاتل المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيت)، يعني: لو بقي صلى الله عليه وسلم وجيشه في المدينة المنورة فإن جيش مكة سيضطر إلى دخول المدينة المنورة، وستكون الحرب حرب شوارع، والحرب التي تكون من هذا النوع تكون صعبة جداً على الجيش المهاجم للبلد، لكن معظم المسلمين كان لهم رأي آخر، خاصة الذين لم يشتركوا في موقعة بدر، كانوا يودون الخروج إلى قتال المشركين خارج المدينة المنورة، حتى قال قائلهم: (يا رسول الله! كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم)، وكان من أشد المتحمسين للخروج حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، حتى إنه قال كلمة عجيبة للرسول عليه الصلاة والسلام، قال: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، فانظروا إلى هذه العزيمة، وانظروا إلى القناعة برأي الخروج. كان معظم الصحابة على هذا الرأي، ولم يكن على رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القليل، وكان من هؤلاء: عبد الله بن أبي ابن سلول، وكما تعملون أن عبد الله هو زعيم المنافقون، ولم يكن موافقاً على رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ومقتنعاً به، وإنما ليسهل عليه الفرار إلى داخل المدينة المنورة، فكل منهم سيقاتل على رأس شارع أو من داخل بيت، وسيكون هناك سهولة للفرار من الموقعة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام نزل على رأي الشورى حتى وإن كان مخالفاً لرأيه، حتى وإن كان يتأول في رؤياه أن نفراً من أصحابه سيقتل، وأن واحداً من أهل بيته سيصاب، وأنه من الأفضل أن يقاتل في داخل المدينة، لكنه عندما رأى أن ذلك ليس وحياً من رب العالمين سبحانه وتعالى نزل عن رأيه لصالح رأي الأغلبية، وقرر الخروج من المدينة المنورة لقتال المشركين. صلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالصحابة يوم الجمعة، ووعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وبشرهم بالنصر إن هم صبروا وإن هم ساروا على نهج الله عز وجل وعلى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وبالفعل فرح الناس بالخروج وتجهزوا بنشاط

خروج النبي بجيشه إلى أحد ودور ابن سلول في التثبيط والحط من عزائم المسلمين

خروج النبي بجيشه إلى أحد ودور ابن سلول في التثبيط والحط من عزائم المسلمين خرج الجيش الإسلامي وأخذ الطريق في اتجاه أحد؛ لأنه علم أن الجيش المشرك عسكر عنده، وحاول الرسول صلى الله عليه وسلم بقدر المستطاع أثناء السير أن يسير من وسط المزارع التي حول المدينة المنورة؛ حتى لا يكتشف من قبل الجيش المشرك، ووصل بالفعل إلى منطقة أحد، ومن بعد رأى الجيش المشرك، وعندما أصبحوا على مسافة قريبة من أرض المعركة حدث تمرد هائل في الجيش المسلم، فقد خرج عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وقال: إنني لا أوافق على القتال في أرض أحد، إنني أرى أنه لن يحصل قتال، فسأعود إلى المدينة المنورة وليس بمفردي، وسآخذ معي كل من أتيت بهم، وكان تعداد الذين أتى بهم (300) مائة شخص، أي: 30% من الجيش! ومعلوم أن جيش الكفار (3000) يعني: جيش المسلمين أقل من جيش الكفار بكثير، ومع هذا كله ينسحب (300) شخص من أرض المعركة. وقف عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه أمام المنافقين وهم ينسحبون من أرض المعركة يقول لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، فقالوا: لا نعلم أن هناك قتالاً، فحاول معهم مرة أخرى وأخرى، لكنهم رفضوا، فقال لهم: أبعدكم الله أعداء الله! فسيغني الله عنكم نبيه، ونزل قول الله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167]. قد يظن الإنسان أن هذه خسارة كبيرة جداً للجيش الإسلامي، لكن بالعكس. قال الله عز وجل يصف حال المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]، فوجود المنافقين في داخل الصف المسلم خطر كبير جداً، فإنه من الممكن جداً أن يكونوا عيناً على المسلمين، أو قد يدلون بآراء فاسدة في الجيش المسلم، بل قد يثيرون بعض الشبهات في داخل الجيش المسلم تجعل بعض المؤمنين الصادقين يترددون في أمر القتال، وهذا عين ما حدث في غزوة أحد، فإن الكلمات التي قالها عبد الله بن أبي قبيل الدخول في أرض المعركة بقليل أثرت في طائفتين من المسلمين الصادقين المؤمنين: بني حارثة من الأوس، وبني سلمة من الخزرج، قالوا: الأولى أن نعود ونقاتل في المدينة، فإن جيشنا قليل وجيشهم كثير، وفكروا جدياً في الرجوع، لولا أن الله عز وجل ثبتهم بصدق إيمانهم، فقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة، وأقنعوهم بالبقاء في أرض المعركة في أحد؛ حتى يكملوا اللقاء، وفي حقهم نزل قول الله عز وجل: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:122]؛ لأنهم ثبتوا فعلاً في أرض القتال ولم يفروا.

وصول النبي وجيشه إلى أحد وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم لأفراد الجيش

وصول النبي وجيشه إلى أحد وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم لأفراد الجيش ودخل الرسول عليه الصلاة والسلام أرض أحد، وبدأ ينظر إلى الأرض بنظرة عسكرية ثاقبة، وبدأ يحط معسكره في المكان المناسب، واختار مكاناً في منتهى العبقرية؛ اختار مكاناً يكون عن ظهره وعن يمينه جبل أحد، فتكون له حماية طبيعية من جبل أحد، وفي نفس الوقت كان جيش مكة في مكان منخفض نسبياً وهو في مكان مرتفع، وهذا يعطيه قدرة أكبر على القتال، واكتشف صلى الله عليه وسلم في أرض القتال أن بجانبه جبل صغير عرف بعد ذلك في التاريخ بجبل الرماة، وهذا الجبل كان على شمال الجيش الإسلامي، ويعتبر ثغرة ضد مصلحة الجيش المسلم؛ لأنه لو استطاع الجيش الكافر أن يلف حول هذا الجبل لدخل على المسلمين من ورائهم، وسيكون الجيش الإسلامي محصوراً بين المشركين من الأمام ومن الخلف؛ ولكي يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام هذه النقطة الحساسة في أرض التقال، انتخب من أصحابه خمسين رامياً ماهراً وضعهم على جبل الرماة، وأمرهم أن يصدوا عنهم هجمات الفرسان المشركين، هؤلاء الخمسون كان على رأسهم الصحابي الجليل عبد الله بن جبير الأوسي البدري رضي الله عنه وأرضاه، كان من أعظم الصحابة وأمهر الرماة فيهم، وذكر الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الأوامر والنصائح له وللفرقة التي معه، نريد أن نقف وقفة طويلة جداً مع أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام للفرقة التي كلفت بحماية هذا الجبل. قال الرسول عليه الصلاة والسلام لهم الأمر بطريقة فريدة، طريقة تجعل فهم هذا الأمر بصورة خاطئة يعتبر أمراً مستحيلاً، فتعالوا واسمعوا الكلام الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. التوجيه الأول: خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم القائد عبد الله بن جبير أمام الرماة جميعاً. قال له: (انضح عنا الخيل بالنبل)، هذه الجملة لوحدها تكفي المهمة في منتهى الوضوح، أي: مهمتك ومهمة الرماة أن تمنعوا خيول المشركين من الالتفاف حول الجيش الإسلامي، وليس المنع عن طريق القتال، ولكن عن طريق الرمي من أعلى الجبل، والنضح يعني: الرمي؛ لأن خيل المشركين لن تقابل بخيل من المسلمين، فالمسلمون ليس لهم خيول في موقعة أحد، ولن يستطيع الرماة بسيوفهم أن يقاتلوا هؤلاء المشركين الفرسان، فلابد أن يكون الصد عن طريق الرماية. إذاً: هذا أمر في منتهى الوضوح وكان كافياً، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف به. التوجيه الثاني: (لا يأتون من خلفنا) الواضح من الأمر الأول أن الغرض عدم الالتفاف حول الجيش الإسلامي، لكن كذلك يريد أن يوضح لهم الأمر على أتم وجه، فقال: (لا يأتون من خلفنا). التوجيه الثالث: (إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك)، وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام يرى تماماً كل الذي سيحصل بعد ذلك في أحد، وينبه الصحابة مرة ومرتين وثلاثاً وما زال في التنبيه: (إن كانت لنا -لو كسبنا- أو علينا -لو خسرنا- لا تتركوا الجبل). الأمر الرابع: (لا نؤتين من قبلك)، يحرك فيه المشاعر، لا يخسر كل هؤلاء المسلمين الحرب بسبب مجموعة الخمسين هذه، وكل هذا الكلام للقائد عبد الله بن جبير وكل الرماة يسمعون هذا الكلام. ليس هذا فحسب، فالرسول عليه الصلاة والسلام ترك عبد الله بن جبير وانتقل إلى مجموعة الرماة، وبدأ يخاطبهم بنفسه، وقال لهم كلاماً في منتهى العجب، فالتوجيهات الأربعة الأولى كانت موجهة لـ عبد الله بن جبير. أما التوجيه الخامس: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم) يعني: حتى في حال الهزيمة المرة القاتلة التي سيقتل فيها جيش المسلمين بكامله وتنزل الطيور تنهش أجساد المسلمين لا تتحركوا مع كل ذلك، فانظر إلى عظم هذا الأمر سبحان الله! الأمر السادس: (وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)، يعني: في حالة النصر الساحق وفرار المشركين، واحتلال المسلمين لمعسكر الكافرين أيضاً لا تبرحوا مكانكم، أظن بعد ذلك إذا حصلت مخالفة فستكون مخالفة متعمدة، ولو حصلت مخالفة متعمدة لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام لا تتوقع نصراً أبداً، وهذا الذي سوف نراه في موقعة أحد. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام وجه هذه التوجيهات المباشرة الواضحة الجلية هذه إلى فرقة الرماة الخمسين، ونزل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى إلى جيشه، وبدأ يحفز الناس على الجهاد في سبيل الله، ويذكرهم بالجنة، ثم يحفزهم على التنافس في أعمال الخير وأعمال الجهاد وأعمال القتال، فجعل بينهم نوعاً من التنافس على شيء مهم جداً، أخذ صلى الله عليه وسلم سيفاً بتاراً قوياً ورفعه بين الصحابة، وقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، قال هذا الكلام في وسط مجموعة من المقاتلين الأشداء من المهاجرين والأنصار، فقام إليه أكثر من واحد، منهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعمر بن الخطاب وغيرهم وغيرهم، حتى قام إليه

المحاولات المبذولة لإثارة حماس الجيش الكافر وتفكيك الصف المسلم في أحد

المحاولات المبذولة لإثارة حماس الجيش الكافر وتفكيك الصف المسلم في أحد على الجانب الآخر كذلك كان هناك تحميس وتحفيز في الجيش الكافر، فقد بدأ أبو سفيان ترتيب جيشه، فوضع خالد بن الوليد على الميمنة، ووضع عكرمة على الميسرة، ووضع صفوان على المشاة، وهؤلاء يعتبرون من عمالقة الفرسان في الجيش المشرك، ووضع عبد الله بن ربيعة على رماة النبل، وأعطى اللواء لبني عبد الدار. ويذكر التاريخ أن بني عبد الدار كانوا دائماً يحملون اللواء قبل الإسلام وكذلك بعد الإسلام ففي بدر كانوا يحملون اللواء، وفي أحد كذلك كانوا يحملون اللواء، ففي غزوة أحد أراد أبو سفيان أن يستثير حماسة بني عبد الدار، فقال لهم كلاماً في منتهى القسوة حتى يخرج كل ما في نفوسهم. قال لهم: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، يعني: أنتم كنتم مشاركين في الهزيمة، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، يعني: إن لم تكونوا بقدر حمل هذا اللواء سلموه لي وأنا سوف أتصرف، وهكذا أثار حمية وغضب بني عبد الدار، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع، وسبحان الله! صدقوا في كلماتهم؛ فقد أبيدوا عن بكرة أبيهم حول اللواء في موقعة أحد كما سنبين إن شاء الله. إذاً: هذه كانت محاولة من أبي سفيان لاستثارة الهمة عند الجيش المشرك لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل إن النساء بدأن يحمسن جيش المشركين للحرب ضد المسلمين، وقفت هند بنت عتبة ومن معها من النساء يشجعن الجيش المشرك على القتال وينشدن الأشعار في ذلك، وهي أشعار كثيرة جداً ليس المجال أن نفصل فيها، لكن الشاهد أن كل هذه الأشعار كانت عبارة عن علاقات دنيوية أرضية مادية ليس إلا، بينما كان التحفيز على الجانب الآخر في جيش المسلمين بالجنة. وشتان! وحاول أبو سفيان تفكيك الصف المسلم، راسل الأنصار قال لهم: خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، لا حاجة لنا إلى قتالكم، وكأنه يقول: نحن نريد محاربة القرشيين فقط، علاقتنا بكم أيها الأوس والخزرج! جيدة منذ القدم، لا نريد أن نقاتلكم، لكن هيهات! كيف لهذه الكلمات أن تقع في قلوب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وهم من أعظم الناس إيماناً، وقد رد الأنصار عليه رداً في منتهى العنف وأسمعوه ما يكره فعلاً. واقتربت ساعة الصفر ودنا الجيشان من بعضهما البعض، قامت قريش بمحاولة أخرى لتفكيك الصف المسلم؛ خرج أبو عامر الفاسق الذي كفر برسول صلى الله عليه وسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق، وقد هرب إلى مكة، والآن خرج مع جيش مكة لمحاربة المسلمين في موقعة أحد، فـ أبو عامر الراهب قرر أن يحاول تفتيت الصف المسلم، فخرج ونادى على قومه الأوس، قال: يا معشر الأوس! أنا أبو عامر -يريد تذكيرهم بنفسه، وكان ابنه حنظلة بن أبي عامر في صف المسلمين، لكن شتان بين الاثنين- فقال الأوس: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق! سبحان الله! قالوا ذلك مباشرة؛ لأنهم يعرفون قصته ويعرفون تاريخه، فقالوا له كلمات بمنتهى القوة والبأس، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شراً، يقصد أنهم تغيروا، وسنرى بعد ذلك عندما يبدأ القتال أن أبا عامر الفاسق سيقاتل قتالاً شديداً في صف الكفار ضد المسلمين، وسيرمي الحجارة الكثيرة على الجيش المسلم. إذاً: هذه كانت المحاولة الثانية من قريش لتفكيك الصف المسلم، ولكن فشلت أيضاً، والتقى الجيشان، وستبدأ بعد قليل موقعة من أشرف المواقع في تاريخ المسلمين، وهذه الموقعة في أولها كانت شديدة الشبه بموقعة بدر الكبرى التي مرت بنا في الدروس الماضية، لكن بعض التغييرات البسيطة في الصف المسلم أدت إلى نتائج عكسية هائلة كما تعلمون. هذه التفصيلات وهذه المناورات التي دارت في أرض أحد لها موضوع خضم جداً يحتاج منا إلى تفصيل. ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا ذلك في الدروس القادمة. ونسأل الله أن يجمعنا على الخير دائماً، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يوم أحد

سلسلة السيرة النبوية_يوم أحد لا يهزم جيش مؤمن متصف بصفات الجيش المنتصر، لكن إذا فقد هذا الجيش صفة من صفاته تغير الحال وانقلبت الموازين من نصر إلى هزيمة، وغزوة أحد هي مصيبة على المسلمين وليست هزيمة، وقد صرح الله سبحانه بذلك في كتابه، ومع ذلك كله لم تكن غزوة أحد شراً محضاً على المسلمين، بل إنها تحمل في طياتها الخير الكثير للمسلمين، وبقدر الذنب تكون المصيبة، فهي بمثابة الدرس، وبمثابة البلسم الشافي للمؤمنين من مرض المخالفة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

معركة أحد وما رافقها من أحداث

معركة أحد وما رافقها من أحداث أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. وقد تحدثنا في الدرس السابق عن مقدمات غزوة أحد، تحدثنا عن الإعداد الجيد لجيش الكفار، والذي بلغ تعداده ثلاثة آلاف مقاتل بعدة جيدة للحرب. وكذلك تحدثنا عن الإعداد الجيد للجيش المسلم، وكما ذكرنا في الدرس السابق أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج بألف من رجال المسلمين، ولكن انسحب منهم قبل أن يدخل أرض المعركة (300) من المنافقين؛ فأصبح الجيش حوالي (700) من المسلمين. وذكرنا أيضاً أنه إلى جانب الإعداد الجيد توافرت صفات الجيش المنصور في الجيش المسلم الخارج إلى أحد، من إيمان بالله عز وجل، وإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن إيمان باليوم الآخر، وطلب الجنة والرغبة في الموت في سبيل الله، ومن أخوة وشورى، ومشاركة القائد لجنده وغير ذلك من صفات الجيش المنصور التي تحدثنا عنها بالتفصيل عند حديثنا عن غزوة بدر. دخل الرسول عليه الصلاة والسلام أرض أحد، واحتل مواقع متميزة فيها، ووضع فرقة من الرماة على الثغرة الوحيدة الموجودة في أرض المعركة، وأكد عليهم مرة وثانية وثالثة عدم التخلي عن مواقعهم مهما كانت الظروف، قال صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن جبير قائد المجموعة: (انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك، ثم قال للرماة: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم) فكانت الأوامر في منتهى الوضوح، لا تفتح أي باب للاجتهاد عند الرماة، بل كلها تحمل معنى واحداً وهو الثبات فوق جبل الرماة.

التحام الجيشين

التحام الجيشين بدأ القتال يوم السبت السابع من شوال سنة ثلاث للهجرة بعد حوالي سنة من غزوة بدر، بدأ اللقاء في منتهى الشراسة، وأول لقاء دار كان حول راية الكفار، وكان يحملها فارس من بني عبد الدار اسمه طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أكبر وأعظم وأشرس فرسان قريش، كانوا يلقبونه بكبش الكتيبة، فكان طلحة بن أبي طلحة أول من طلب القتال من قريش. وخرج بهيئته المرعبة وكان راكباً جملاً، فأحجم المسلمون عن مبارزته؛ لأن شكله كان مرعباً، فتقدم الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه وانطلق إليه، وقفز فوق جمل طلحة بن أبي طلحة وجذبه من فوق الجمل إلى الأرض، وبرك فوقه وقتله رضي الله عنه وأرضاه. فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام الزبير بن العوام رضي الله عنه يقتل كبش الكتيبة طلحة بن أبي طلحة قال: (إن لكل نبي حواري وحواريي الزبير) رضي الله عنه وأرضاه، واحتدم اللقاء بسرعة، واشتعلت أرض المعركة. وتقدم عثمان بن أبي طلحة أخو طلحة بن أبي طلحة وحمل الراية وطلب القتال، فخرج له حمزة رضي الله عنه وأرضاه وقتله. ثم خرج أخوهم الثالث أبو سعد وقتله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وهكذا خرج مسافع بن طلحة. ثم خرج كلاب بن طلحة. ثم الجلاس بن طلحة، مجموعة كبيرة من بني عبد الدار، هؤلاء الستة من بيت واحد من بيت أبي طلحة. كانت مأساة بالنسبة لبني عبد الدار، ومع ذلك خرج منهم واحد اسمه أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب. ثم خرج شريح بن خالد فقتله غلام أنصاري اسمه قزمان. ثم خرج واحد اسمه عمرو بن عبد مناف فقتله قزمان أيضاً. ثم خرج ولد لـ شرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضاً، فقد قاتل قزمان قتالاً شديداً في يوم أحد. فهؤلاء عشرة قد قتلوا كلهم من بني عبد الدار، وكان كل واحد منهم يسلم الراية للآخر؛ لأنهم كانوا قد عاهدوا أبا سفيان ألا يتخلوا أبداً عن الراية، وصدقوا في ذلك. ثم خرج مولى لبني عبد الدار كان اسمه صواب من الحبشة قاتل قتالاً أشد من السابقين جميعاً حتى قطعت يده الأولى ثم الثانية، ثم قطع رأسه وهو يحمل الراية حتى سقط، وبسقوط هذا الغلام الحادي عشر سقطت الراية المشركة، ولم يتسلمها أحد بعد ذلك. كان اللقاء بأعلى مستوى، فالأرض كلها هجوم كاسح شامل، وكان شعار المسلمين في هذا اليوم: أمت أمت، وكانت البداية في صالح المسلمين، فقد قتلوا أحد عشر قتيلاً من غير أن يقتل واحد من المسلمين، فقد كان انتصاراً ضخماً ضعفت به معنويات الكفار، وارتفعت معنويات المسلمين إلى أعلى درجة، وبدأ المسلمون يقتلون في الكفار ويسيطرون على الموقف تماماً، وقاتل جميع المسلمين بمنتهى الضراوة والقوة.

بلاء وقتال أبي دجانة وحمزة وغيرهما

بلاء وقتال أبي دجانة وحمزة وغيرهما كان من أبرز المقاتلين المسلمين في هذه اللحظات أبو دجانة وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما، فهذان قد فعلا الأفاعيل بجيش قريش. أخذ أبو دجانة السيف الذي أعطاه صلى الله عليه وسلم، وربط على رأسه عصابة حمراء، وقال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فجال في الأرض وقتل الكثير من المشركين. وهناك موقف للزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان في نفسه غاضباً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطى السيف لـ أبي دجانة ولم يعطه هو، فقال الزبير في نفسه: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله، فأعطاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع -أي: سأرى أبا دجانة ماذا سيفعل في هذه الموقعة حتى يعطى هذا السيف- فاتبعته فرأيته وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدهر في الكيول. والكيول: مؤخرة الصفوف، يعني: أقاتل في مقدمة الصفوف. أضرب بسيف الله والرسول قال الزبير بن العوام: فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله، وكان في المشركين رجل شديد جداً يقتل كل جريح مسلم فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة فاجتمعا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته -بدرعه- فعضت بسيفه فضربه أبو دجانة فقتله. وأخذ أبو دجانة يخترق صفوف الكفار حتى وصل إلى آخره، وكان في آخر الجيش النساء، فرفع سيفه ليضرب إنساناً. يقول أبو دجانة: رأيت إنساناً يخمش الناس خمشاً شديداً فصمدت له، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا هو امرأة -وهي هند بنت عتبة - فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة. هذا هو أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه. وقاتل حمزة بن عبد المطلب أيضاً كقتال أبي دجانة رضي الله عنهما، قاتل قتالاً شديداً في كل الميادين، ولم يقف أبداً في وجهه أحد من المشركين، لكن وقف في ظهره أحدهم، وهو وحشي بن حرب أحد الغلمان في جيش المشركين، وله قصة، يقول وحشي بن حرب: كنت غلاماً لـ جبير بن مطعم، وكان عمه طعيمة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق، المسألة مسألة ثأر تماماً، قال: فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلما أخطئ بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهد الناس هداً ما يقوم له شيء، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته -يعني: في أحشائه- حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغلب -يعني: بعد أن ضرب حمزة بالحربة ذهب ليقتل وحشياً - وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيها ولم يكن لي بعده حاجة وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت. لقد كان قتل حمزة رضي الله عنه وأرضاه أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم خسارة فادحة خسرها المسلمون، ومع قتل هذا الأسد العظيم رضي الله عنه إلا أن المسلمين ظلوا مسيطرين تماماً على الموقف في أرض أحد، فقد قاتل عامة المسلمين يومئذ قتالاً شرساً شديداً عظيماً، قاتل أبو بكر وقاتل عمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ كل المسلمين أبلوا بلاءً حسناً في ذلك اليوم. وكان لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه -وكان يومئذ مشركاً- نظرة عسكرية ثاقبة، رأى الثغرة التي من الممكن أن يلتف على المسلمين عن طريقها، فجاء خالد بن الوليد بفرقة من الفرسان والتف حول جبل الرماة، لكن فوجئ بسيل من السهام من كتيبة الرماة من فوق الجبل، فردت خالد بن الوليد ولم يستطع مع كل ذكائه وعبقريته وحنكته العسكرية أن يتجاوز هذه الكتيبة ويأتي الجيش المسلم من الخلف، وقرر خالد المحاولة مرة ثانية وثالثة، وفي كل مرة يفشل في تجاوز كتيبة الرماة التي قامت حتى هذه اللحظة بمهمتها على أكمل واجب.

انتصار المسلمين في غزوة أحد في أول الأمر

انتصار المسلمين في غزوة أحد في أول الأمر بدأت الهزيمة تدب في الجيش المشرك ثلاثة آلاف مشرك، كأنهم يقابلون ثلاثين ألف مسلم، مع أن المسلمين كلهم سبعمائة، وبدأ المشركون يفكرون في الهروب، وبدءوا فعلاً في الهروب، وعادوا يتراجعون إلى الوراء شيئاً فشيئاً، ثم بدءوا يولون وجوههم قبل مكة، حتى إنهم تركوا النساء وراءهم. يقول الزبير بن العوام: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير. يعني: انتهت الموقعة ومن الممكن أخذ النساء سبياً. فكان نصراً عظيماً للجيش المسلم، لا يقل هذا النصر روعة عن نصر بدر، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152] تحسونهم أي: تستأصلونهم، فالله سبحانه وتعالى وعد المسلمين إن كانوا صابرين ومتبعين لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم النصر في أحد وفي غيرها، وقد بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قبل الخروج إلى أحد، والمسلمون إلى هذه اللحظة ملتزمون تماماً بما قال لهم صلى الله عليه وسلم، وبما كانوا عليه يوم بدر؛ لذلك تحقق النصر حتى هذه اللحظة. إذا وقفنا وحللنا فإننا سنجد أن هذا الجيش إلى الآن مؤمن بالله عز وجل، ومؤمن باليوم الآخر يطلب الجنة، والشورى طبقها، والإعداد الجيد طبقه، والقائد في هذا الجيش يعيش مع شعبه ويشترك معهم في كل صغيرة وكبيرة، وأخوة في الله واضحة في أثناء القتال، والأمل في قلوبهم، واليقين في نصر الله عز وجل يملأ نفوسهم، والأمر موسد إلى أهله، والصفات العشر التي تكلمنا عنها في غزوة بدر كلها متحققة إلى هذا الوقت في جيش أحد، فكان النصر للمسلمين.

انقلاب الموازين في آخر معركة أحد لصالح المشركين

انقلاب الموازين في آخر معركة أحد لصالح المشركين بعد هذا الانتصار العظيم للمسلمين، وبعد هذا الهروب الكبير لجيش المشركين، تخلى بعض المسلمين عن صفة واحدة من هذه الصفات العشر، فتغير الموقف تماماً، ففي أثناء هروب المشركين من أرض المعركة متجهين إلى مكة ألقوا كل ما معهم من الأمتعة والممتلكات والأثقال والأحمال، ألقى المشركون الدنيا خلفهم؛ ليتخففوا، وليستطيعوا الهرب، ورأى الرماة المسلمون من فوق الجبل الدنيا التي ألقاها المشركون خلفهم، فأخذ الرماة قراراً عجيباً، أخذوا القرار بالنزول لجمع دنيا المشركين. تخيل! المخالفة الواضحة الصريحة لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، النزول من أجل جمع دنيا المشركين، قالوا: الغنيمة الغنيمة! الغنيمة الغنيمة! فهذه الغنيمة وهذه الدنيا وهذه الأموال أعمت أبصارهم تماماً عن تذكر ما قاله الحبيب صلى الله عليه وسلم، لكن القائد عبد الله بن جبير وقف لهم وذكرهم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: الغنيمة الغنيمة! فكانت مخالفة متعمدة لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكلام القائد المباشر عبد الله بن جبير. وهكذا نزل ثمانون في المائة من الرماة، حيث نزل أربعون من الرماة من أصل خمسين؛ ليجمعوا الغنيمة مع المسلمين، ورأى خالد بن الوليد الثغرة، وكان قائداً عسكرياً محنكاً، وأتى بفرقته بسرعة والتف من حول جبل الرماة، وحاول عبد الله بن جبير رضي الله عنه ومن تبقى معه من الرماة أن يمنعوا خالد بن الوليد من الدخول على الجيش الإسلامي من الخلف، لكنهم فشلوا، فحاول عبد الله بن جبير قتالهم إلا أن مجموعة من فرسان المشركين قتلوه ثم أبادوا بقية الرماة. والتف خالد بن الوليد من وراء الجيش الإسلامي وصاح صيحة عالية جداً سمعها المشركون الذين يفرون، أدركوا منها أن خالداً التف حول الجيش الإسلامي فعادوا للقتال من جديد، وحصر المسلمون بين خالد بن الوليد من الخلف والمشركين من الأمام، وهكذا وضع المسلمون بين فكي كماشة، وأسرعت امرأة من المشركين كان اسمها عمرة بنت علقمة، ورفعت اللواء الساقط على الأرض، واهتاج المشركون، وتحمسوا حماساً كبيراً في الهجوم على المسلمين، وقوتهم ذكريات بدر وذكريات الهزيمة الأولى في أحد، وبدءوا يضغطون على المسلمين من الناحيتين.

التفاف المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيل الصحابة أروع البطولات في الدفاع عنه

التفاف المشركين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيل الصحابة أروع البطولات في الدفاع عنه كان الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر الجيش المسلم ينظم الصفوف، ولما التف خالد بن الوليد حول الجيش الإسلامي، كان أول فرقة من المسلمين قابلها هي الفرقة التي فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم ير خالد بن الوليد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن ما هي إلا دقائق وسيظهر؛ لأنه آخر الصفوف، فلابد أن يختار صلى الله عليه وسلم أحد اختيارين: إما أنه يهرب بالتسعة إلى أي مكان في أرض المعركة حتى يستطيع أن يقاوم من جديد، وإما أن ينادي الجيش حتى يجتمع من جديد، ويبدأ في محاولة لاستعادة الموقف على أرض أحد. لكن لو نادى صلى الله عليه وسلم الناس فمن المحتمل أن المشركين الذين باغتوا المسلمين من الخلف يسمعون صوته، ولو سمعوا صوته لأحاطوا به عليه الصلاة والسلام وقتلوه، ومع ذلك في شجاعة نادرة اختار الرسول عليه الصلاة والسلام الحال الثاني، ونادى بأعلى صوته لاستعادة الموقف من جديد قال: (إلي عباد الله! إلي عباد الله! أنا رسول الله) وهكذا بدأ يعلي صوته؛ ليسمع المسلمون. صار المسلمون في حالة اضطراب شديدة جداً، فذاك ينظر قدامه، وذاك ينظر وراءه، والمشركون في حالة نشاط عجيب، وصار الموقف مأساوياً، سمع خالد بن الوليد الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي، فانطلق إلى المنطقة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرها، وبدأت الفرقة التي حول الرسول عليه الصلاة والسلام تقاتل قتالاً شديداً، تسعة ضد فرقة كاملة من الفرسان، والرسول صلى الله عليه وسلم يشجعهم ويقول: (من يردهم عنا وله الجنة -أو يقول-: من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة). فتقدم أنصاري وقاتل قتالاً شديداً حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه، ثم تقدم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس، ثم تقدم سابعهم عمارة بن يزيد بن السكن رضي الله عنه وأرضاه، وكل هؤلاء السبعة من الأنصار، فقاتل عمارة قتالاً شديداً حتى أصيب رضي الله عنه وأرضاه، فسقط على الأرض، واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع رأسه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشهد وخده ملتصق بقدم الحبيب صلى الله عليه وسلم. وتأثر الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف، قال: (ما أنصفنا أصحابنا)، تقدم الأنصار الواحد تلو الآخر، ولم يتقدم طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، فأثار هذا الموقف حمية طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فقاما يقاتلان قتالاً شديداً، لكن ماذا يعمل اثنان وسط هذه المجموعة الضخمة من المشركين؟ وتقدم من الكفار عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص. تخيل! سعد بن أبي وقاص يدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأخوه عتبة يقذف بالحجارة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفجرت الدماء من رأسه صلى الله عليه وسلم، وجاء عبد الله بن شهاب الزهري أحد المشركين فشجه شجة منكرة في رأسه صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إليه رجل اسمه عبد الله بن قمئة وضربه بالسيف ضربة شديدة على كتفه صلى الله عليه وسلم، وظل صلى الله عليه وسلم يشتكي منها شهراً كاملاً بعد ذلك، ثم ضرب وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، فدخلت حلقتان من حلقات المغفر الذي كان فوق رأس الحبيب صلى الله عليه وسلم في وجنته، وابن قمئة يقول: (خذها وأنا ابن قمئة، فقال صلى الله عليه وسلم: أقمأك الله) أي: أهلكك الله، واستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فبعد غزوة أحد بقليل وقع من فوق جبل في بلده وقتل. وهكذا تفجرت الدماء من رأسه ومن جسده صلى الله عليه وسلم، وهو يمسح الدم من على وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]). وفي هذا الموقف قام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وطلحة بن عبيد الله بعمل لا يستطيع أن يقوم به إلا جيش كامل، فقد كان سعد بن أبي وقاص يرمي بسهامه المشركين، مجموعة ضخمة من المشركين حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يرد سعد بن أبي وقاص بسهامه هذه المجموعة الضخمة، وأعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بأداء سعد بن أبي وقاص حتى قال له: (ارم سعد فداك أبي وأمي)، وهكذا جمع له صلى الله عليه وسلم أبويه يفديه بهما، فكان ذلك فخراً له رضي الله عنه وأرضاه. وحارب طلحة بن عبيد الله حرباً ضروساً في ذلك اليوم، وقاتل من كل مكان حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت الجروح التي أصابت جسده

أثر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين

أثر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين كان الجميع يقاتل حول المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجاء مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو يحمل راية المهاجرين، وقاتل قتالاً شديداً حول المصطفى صلى الله عليه وسلم فقطعت يمينه، فحمل الراية بشماله فقطعت شماله، فبرك على الراية رضي الله عنه وأرضاه وهو قابض عليها بعضديه، وجاء المشركون من خلفه وقتلوه، فسقط على الأرض وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]. وكان مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه شديد الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن المشركون أنهم قتلوا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقال ابن قمئة وكان هو الذي قتل مصعب بن عمير: قتلت محمداً، قتلت محمداً، وانتشر الخبر في أرض المعركة بكاملها، فكان هذا الخبر مأساة على المسلمين. وهكذا أشيع أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد قتل، فالأمر لا يمكن أن يتخيلوه أبداً، فإنهم لا يستطيعون أن يعيشوا بدون الرسول صلى الله عليه وسلم، كيف ينقطع الوحي؟ كيف لا تتم الرسالة؟ كيف؟ كيف؟ ظهرت أسئلة كثيرة في أذهان الناس، وأحبط كثير من المسلمين في أرض القتال. ووصل الإحباط بالبعض إلى أن جلس على أرض المعركة دون قتال، القتال دائر من حوله وهو لا يرفع سيفه ليدافع حتى عن نفسه، هذا فهم خاطئ، فالقتال ليس من أجل المسلمين وليس من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما القتال في سبيل الله عز وجل، والله حي لا يموت، فلماذا القعود والإحباط؟! إن قضية القتال في سبيل الله لا يجب أن تغيب أبداً عن ذهن المؤمن، بل عليه أن يكون كالصحابي الجليل ثابت بن الدحداح رضي الله عنه وأرضاه من المشاركين في غزوة أحد، لما رأى الناس قعدوا على الأرض ذهب إليهم وقال في إيمان عميق وفهم دقيق: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فإن الله حي لا يموت، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه حتى استشهد. قال ذلك أيضاً أنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه، مر على بعض المسلمين وهم جلوس على أرض القتال، قد فقدوا روح القتال والمقاومة، فقال لهم: ماذا تنتظرون؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في منتهى الشجاعة والقوة: قوموا فموتوا على ما مات عليه صلى الله عليه وسلم، إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت. ثم قال وهو ينظر إلى المسلمين الذين أحبطوا وقعدوا على أرض القتال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المسلمين-، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين-، ثم تقدم رضي الله عنه وأرضاه ليلقى المشركين، فلقيه سعد بن معاذ فقال له سعد: أين يا أبا عمر! رآه يدخل في وسط المشركين، فقال أنس: واهاً لريح الجنة يا سعد! إني أجده دون أحد -أي: أشم رائحة الجنة عند أحد- ثم مضى رضي الله عنه وأرضاه وقاتل المشركين قتالاً شديداً ضارياً حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه، وطعن أكثر من ثمانين طعنة في جسمه، ولم يعرفه أحد إلا أخته ببنانه. واستمرت إشاعة موت الرسول عليه الصلاة والسلام في الجيش إلى أن اكتشف كعب بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ممن شارك في غزوة أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي لم يقتل، فنادى في المسلمين: أبشروا أبشروا! رسول الله صلى الله عليه وسلم حي، فأشار له صلى الله عليه وسلم أن يصمت؛ لئلا يلفت أنظار المشركين، ومع ذلك سمع ثلاثون شخصاً من المسلمين كلمة كعب بن مالك؛ ففاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدءوا يحوطونه، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يقود هذه المجموعة للانسحاب المنظم في اتجاه الجبل. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام ينادي مجموعة أخرى من المسلمين من بعيد (إلي عباد الله! إلي عباد الله!) لكن هناك مجموعة لم تكتف بالإحباط والقعود في أرض القتال، بل فعلت ما هو أشد وأنكى، لقد قررت هذه المجموعة الفرار من أرض القتال، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر، فمنهم من فر وهو يصعد إلى الجبل، ومنهم من فر في طريقه إلى المدينة حتى وصل إلى المدينة المنورة فاراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يناديهم وهم يسمعون ولا يلبون، وذكر الله ذلك في كتابه: {إِذْ تُصْعِدُونَ} [آل عمران:153] أي: إلى الجبل {وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران:153] أي: في آخر الجيش ينادي المسلمين، وهم يسمعون هذا النداء ولا يلبون. ومع هذه الكارثة استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينسحب إلى الجبل بالثلاثين الذين معه من المسلمين، وبينما هو يصعد إلى الجبل إذ رآه عدو الله أبي بن خلف أحد كبار المشركين، فجاء يجري من بعيد ويقول: لا نجوت إن نجا لا نجوت إن نجا، وأراد الدخول على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال القوم للرسول عليه الصلاة والسلام:

تمثيل المشركين بجثث قتلى المسلمين آخر المعركة

تمثيل المشركين بجثث قتلى المسلمين آخر المعركة قام المشركون بعد صعود النبي صلى الله عليه وسلم بعمل شنيع، التفتوا إلى جثث المسلمين الملقاة على أرض الموقعة -سبعون شهيداً في أرض أحد- وبدءوا يمثلون بالجثث، فقامت النساء بتقطيع آذان الرجال المسلمين وأنوفهم، ويصنعن منها خلاخيل وقلائد ويلبسنها، فكن في منتهى الإجرام، وذهبت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وكانت من أشد الكفار ضراوة على المسلمين إلى حمزة رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وشقت بطنه وأخرجت قطعة من كبده رضي الله عنه وأرضاه وحاولت أن تأكلها، ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها، يعني: أخرجتها من فمها. وهذا يعبر عن مدى الغل والحقد الذي كان في قلوب المشركين، فإن هند بنت عتبة كانت موتورة؛ فقد قتل أبوها عتبة بن ربيعة في غزوة بدر، وعمها شيبة بن ربيعة أيضاً في غزوة بدر، وأخوها الوليد بن عتبة في غزوة بدر، وابنها حنظلة بن أبي سفيان في غزوة بدر، فهؤلاء أربعة قتلوا في غزوة بدر من أقاربها، وهذا بالنسبة لها كانت كارثة، وكان حمزة رضي الله عنه ممن اشترك في قتل أقاربها، فقد شارك في قتل الوليد بن عتبة وقتل شيبة بن ربيعة. كان هذا الموقف في أرض القتال بعد صعوده صلى الله عليه وسلم إلى الجبل، صعد الرسول صلى الله عليه وسلم الجبل وما زالت الدماء تنزل من رأسه، وحاول الصحابة من حوله أن يوقفوا الدماء، فكانوا يصبون الماء فوق رأس الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن الماء كان يزيد الجرح نزيفاً، وكانت فاطمة رضي الله عنها مع الجيش الإسلامي في ذلك الوقت، فلما رأت هذا الموقف أتت بحصير وأحرقته، وبدأت تدفع الحصير في داخل الجرح في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توقف النزيف. كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف يقاتل من أول الصباح إلى الظهيرة، فجاء وقت صلاة الظهر وجمع المسلمين لأدائها، لكنه لم يستطع أن يقف صلى الله عليه وسلم من شدة الإصابات التي أصابته، فصلى قاعداً وصلى المسلمون قعوداً بقعوده صلى الله عليه وسلم.

موقف المشركين من إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم وتمثيلهم بالشهداء

موقف المشركين من إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم وتمثيلهم بالشهداء ما زال المشركون يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعض المسلمين مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض المسلمين شهداء في أرض الموقعة، وبعض المسلمين فر إلى أماكن مختلفة من الجبل، وبعض المسلمين فر إلى المدينة المنورة. فالوضع كما ترون كان مأساوياً حقيقياً. وجاء أبو سفيان ليشمت بالمسلمين، فعرف أن هناك مجموعة من المسلمين قد فرت إلى الجبل، فجاء هو ومن معه من المشركين؛ ليخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان حياً، أو ليتأكد على أنه قتل، فنادى أبو سفيان: أفيكم محمد؟ فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: لا تجيبوه. أشار إشارة فهم منها الصحابة ألا يجيبوا أبا سفيان؛ حتى لا يكشفوا المكان الذي هم فيه، فلم يجب الصحابة، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجيبوه فلم يجبه أحد، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ وأخذ يرتب في سؤاله عن الأشخاص، فمن أهم شخصية إلى الوزير الأول ثم الوزير الثاني فلم يجيبوه. ففرح أبو سفيان وقال: أما هؤلاء الثلاثة فقد كفيتموهم، أي: قد قتلوا، فلم يتمالك عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه. قال: أي عدو الله! إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله ما يسوءك، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال له: لا تتكلم، لكنه لم يستطع أن يمسك نفسه، فأحب أبو سفيان أن يرد الغيظ إلى المسلمين مرة أخرى، فقال كلمة شنيعة، قال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. فانظر إلى الشر الذي كان في داخلهم في تلك الساعة، فإن من طبيعة العرب ألا يمثلوا بالجثث، لكن خرجوا عن منهجهم تماماً في هذه الموقعة، وأراد بذلك أن يغيظ عمر بن الخطاب ومن معه من المسلمين، ثم قال: أعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال الصحابة: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجاب عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) وفي رواية: أن الذي قال هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. عند ذلك قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر! فقد كان أبو سفيان يسمع صوت سيدنا عمر رضي الله عنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ائته فانظر ما شأنه -أي: انظر ماذا يريد- فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر! أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن، فقال أبو سفيان -وانظر إلى احترام المشركين للمسلمين- أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر). إن احترام المسلمين موجود عند كل المشركين، وعند كل أعداء الأمة، فهم يحاربونك ويقاتلونك ويضيقون عليك الخناق، وفي داخلهم يكنون الاحترام الكامل لشخصيتك ولدفاعك عن مبادئك، ولتضحيتك في سبيل دينك وفكرتك، هذا هو الواقع؛ لذلك صدّق أبو سفيان عمر وهو عدو له، ولم يصدق ابن قمئة أحد جنود الجيش المشرك معه. وانسحب أبو سفيان، ولم يفكر أن يصعد الجبل مرة ثانية واكتفى بما فعل، وعاد مع المشركين في اتجاه مكة، وانتهت موقعة أحد بذلك.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شهداء أحد

موقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شهداء أحد نزل الرسول عليه الصلاة والسلام من فوق الجبل ليتفقد الشهداء، وكان موقفاً مريعاً، سبعون من أفاضل المسلمين كلهم ملقى على أرض أحد، كان منهم: حمزة بن عبد المطلب وعمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وحنظلة، وخيثمة، كثير من شهداء المسلمين سقطوا في يوم أحد، فوقف صلى الله عليه وسلم ونظر إلى الشهداء وقال: (اللهم إني شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك). وكان هناك أناس من الصحابة أخذوا بعض الشهداء ليدفنوهم في المدينة، فأمر صلى الله عليه وسلم أن يردوا جميعاً إلى أرض أحد ويدفنوا فيها، وألا يغسلوا ولا يكفنوا، بل يدفنوا في ثيابهم بعد أن تنزع الدروع والجلود من فوقهم. وكان صلى الله عليه وسلم يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين أحياناً في ثوب واحد، ويقول: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) فمن كان يحفظ القرآن أكثر وضعه الأول في اللحد. وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) مرة ثانية، وكررها كثيراً في ذلك اليوم، وكان إذا علم أن بين اثنين من الصحابة محبة كبيرة دفنهما معاً، فدفن عبد الله بن عمرو بن حرام مع عمرو بن الجموح رضي الله عنهم أجمعين. ولما رأى صلى الله عليه وسلم ما حدث بـ حمزة رضي الله عنه اشتد حزنه وتقطع كبده صلى الله عليه وسلم وبكى بكاءً شديداً، وانتحب حتى نشغ -كما يقول الراوي- من البكاء، يعني: صار له شهيق عال من البكاء. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب) بل وضعه صلى الله عليه وسلم في القبلة وصلى عليه مع كل شهيد رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم. كذلك مصعب بن عمير رضي الله عنه ممن قتل شهيداً في يوم أحد، وكفن في ثياب بالية رثة، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه. وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (غطوا بها رأسه بهذه البردة، واجعلوا على رجله الإذخر) والإذخر نبات. إن وضع الشهداء كان مؤلماً جداً للمسلمين، ومع كل هذه الأحداث جمع الرسول صلى الله عليه وسلم كل الموجودين في أرض القتال، وقال لهم: (استووا حتى أثني على ربي عز وجل) يا الله! موقف عجيب في كل مواقفه صلى الله عليه وسلم، فصاروا خلفه صفوفاً، فوقف صلى الله عليه وسلم يدعو والجميع يؤمن على دعائه، استمعوا إلى دعائه صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق). هذا دعاء جميل، دعاء فيه الشكر الدائم لرب العالمين سبحانه وتعالى في كل الظروف، حتى لو كان ذلك بعد مصيبة أحد، دعاء فيه إعلان أن كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى قادر على منع الهزيمة، لكنه أوقع المصيبة بالمسلمين لِحكَمٍ كثيرة يعلمها، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166]. إذاً: هذا دعاء فيه تعظيم الآخرة في عيون الصحابة، خاصة في هذا الموقف، لما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول) حتى لو ضاقت الدنيا كلها وأعطيتنا الآخرة فنحن الرابحون، دعاء فيه وضوح الرؤية في حرب كل من صد عن سبيل الله، سواء كانوا من المشركين أو من الكفرة من أهل الكتاب الذين قاتلوا المسلمين، دعاء جامع شامل يعبر عن فهم دقيق للحبيب صلى الله عليه وسلم. رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، واستقبل في حزن شديد، فكل بيت تقريباً فيه شهيد، وقابلته في الطريق حمنة بنت جحش رضي الله عنها ونعى إليها صلى الله عل

حقيقة غزوة أحد وأسباب مصيبة المسلمين فيها

حقيقة غزوة أحد وأسباب مصيبة المسلمين فيها لابد أن نقف وقفة ونقول: يا ترى ماذا نسمي أحداً؟ هل نسميها هزيمة أو نسميها نكسة؟ أو ماذا نسميها؟ عندما تراجع أحداث غزوة أحد سواء أثناء الغزوة أو بعد الغزوة، فإنك تجد أن كلمة هزيمة لا تنطبق على وصف غزوة أحد، فالجيش المكي لم يحتل موقع الجيش المسلم، والجزء الأساسي من الجيش المسلم لم يفر مع شدة الارتباك، نعم، هناك من فر، لكن مجموعة كبيرة من المسلمين بقيت في أرض المعركة، منهم من قاتل حول الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنهم من قاتل حتى استشهد. والجيش المكي لم يفكر في مطاردة المسلمين، ومع أن أبا سفيان خاطب عمر بن الخطاب وأدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي وأنه في الجبل لم يفكر أن يصعد إلى الجبل مرة أخرى، ومع أن كل الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعة قليلة من المسلمين، كذلك لم يقع أسير واحد من المسلمين في أيدي الكفار مع هذا الأمر الشديد الذي تحدثنا عنه، لكن في غزوة بدر أسر المسلمون سبعين من المشركين. كما أنه لم تكن هناك غنائم مسلمة في أيدي الكفار، ولم يقف الجيش المكي في أرض المعركة يوماً ولا يومين ولا ثلاثة، بل عادوا إلى مكة في ذلك الوقت، وقد قعد الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام، وقعد في غيرها من الغزوات ثلاثة أيام، بل إنه كان يقعد شهراً كاملاً في أرض القتال، لكن الكفار غادروا أحداً، ولم يفكروا في غزو المدينة المنورة مع أن المدينة خلا منها الجيش، فكل ذلك يدل على أن الموقعة ليست هزيمة للمسلمين، لابد لها من وصف آخر، سنسميها كما سماها الله سبحانه وتعالى، فالله سماها في الكتاب الكريم: مصيبة: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]. وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166].

محبة بعض الصحابة للدنيا ومخالفتهم للأمر النبوي بسببها

محبة بعض الصحابة للدنيا ومخالفتهم للأمر النبوي بسببها فغزوة أحد مصيبة ولا شك في ذلك، وليست المصيبة في استشهاد سبعين من الصحابة؛ لأن هؤلاء من أكرم الخلق على الله عز وجل، وقد نالوا درجات عالية جداً، واصطفاهم الله سبحانه وتعالى، يقول الله في الكتاب تعليقاً على غزوة أحد: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] فهؤلاء اختارهم الله؛ ليكونوا من أفضل الناس، إنما المصيبة في شيء آخر، المصيبة تكمن في اضطراب بعض المفاهيم عند المسلمين، وإن كان اضطراباً حصل في لحظة من لحظات القتال وغير كل شيء، وهذه المصيبة هي تغلب الدنيا في قلوب بعض الصحابة، فالصحابة منذ بدء القتال وهم يقاتلون في سبيل الله عز وجل، يقاتلون من أجل الجنة، وفي لحظة انقلبت الموازين، وأصبح فريق منهم يقاتل من أجل الدنيا، وقد وصل تغلغل حب الدنيا في قلوبهم إلى أن يخالفوا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة متعمدة، وراجع الكلام الذي قاله صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن جبير ولفرقة الرماة، فهو كلام في منتهى الوضوح، توجيه أول وثان وثالث ورابع وخامس وسادس، فالتوجيه الأول: (انضح عنا الخيل بالنبل) إلى آخر كلامه صلى الله عليه وسلم. وأثناء القتال يلتف خالد بن الوليد حول الجيش ثلاث مرات، ويستطيعون أن يصدوه، وبذلك عرفوا أن هذا المكان خطر وصعب ومهم بالنسبة للمشركين، وعرفوا أن لهم دوراً كبيراً جداً في صد المشركين. إذاً: ستة توجيهات من الرسول عليه الصلاة والسلام، وثلاثة توجيهات من خالد بن الوليد بلفته أنظار المسلمين إلى أهمية المكان الذي يقفون عليه. هذه تسعة توجيهات. والتوجيه العاشر جاء من عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأرضاه، عندما أرادوا النزول قائلين: الغنيمة الغنيمة، وقف لهم وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك لم يستمعوا. فكل هذا يثبت أن المخالفة كانت متعمدة وصريحة من أجل الدنيا، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (والله لا أخشى عليكم الفقر، ولكن أخشى عليكم الدنيا). والله سبحانه وتعالى وصف ذلك في كتابه تعليقاً على أحد. قال: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152]. وبسبب الدنيا صار المسلمون فريقين: الفريق الأول: أنس بن النضر وثابت بن الدحداح وأبي طلحة وغيرهم من الذين قاتلوا حتى النهاية، فمنهم من قاتل وثبت حتى شهادته، ومنهم من قاتل حول الرسول عليه الصلاة والسلام لحمايته، ما نكصوا على أعقابهم وما فروا. والفريق الثاني: هم الذين تغلغلت الدنيا في قلوبهم، وغير مقبول للجيش المسلم أن يصل حب الدنيا إلى قلوب بعضه، فيدفعه هذا الحب إلى المخالفة. كذلك في موقعة بدر حصلت أيضاً مخالفة من أجل الدنيا، قال الله عز وجل في صدر سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1] يتكلم عن مشكلة الغنائم التي دخلت في قلوب الصحابة، فوجههم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى اتباع كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وانصاع الجميع لكلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وسلموا أنفسهم له، ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالطريقة التي شرعها رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن في غزوة أحد حذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ست مرات، ومع ذلك خالفوا، فكانت مخالفة متعمدة فلابد لها من مصيبة، وإن كان الجيش الذي خالف هو جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما كنت أحسب أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى نزل فينا ما نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152]. فالمصيبة التي عمت الجيش كله بسبب مجموعة من المسلمين أصابتهم الدنيا؛ لأن هذا المرض قد ظهر فيهم من قبل، فقد كان متغلغلاً قبل غزوة أحد، فكان لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتفتيش عن إيمان الآخرين، وطاعتهم لله عز وجل وعبادتهم له والتزامهم بمنهجه سبحانه وتعالى، لكن عندما تسأل الإنسان عن دنياه ولا تسأله عن آخرته توثر فيه تدريجياً، حتى تصير مصيبة كبيرة تعم المسلمين جميعاً. فالوضع الذي كان في أحد هو مصيبة تمكن الدنيا من القلب حتى تدفع المسلم إلى المخالفة الصريحة المتعمدة لكلام الحبيب صلى الله عليه وسلم.

مصيبة قتل سبعين من المسلمين بسبب مخالفة الرماة

مصيبة قتل سبعين من المسلمين بسبب مخالفة الرماة المصيبة الثانية التي حدثت في أحد: قتل سبعين من المسلمين بسبب خطأ من الأخطاء. وقد قلنا قبل ذلك: إن استشهاد سبعين ليست خسارة، بل هي ميزة عظيمة من الله سبحانه وتعالى لهم، فقد انتقاهم شهداء، لكن أن يقتلوا بسبب خطأ من المسلمين هذا غير مقبول. إن قتلوا وهم يؤدون كل ما عليهم ويحاربون كما في بدر حرباً متكاملة شاملة، ويأخذون فيها بكل أسباب النصر، ويتصفون بكل صفات الجيش المنصور، فليس هناك مشكلة، بل بالعكس هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، لكن أن يقتلوا بسبب خطأ، فهذا يحتاج إلى وقفة.

مصيبة قعود بعض المسلمين عن القتال للإحباط النفسي

مصيبة قعود بعض المسلمين عن القتال للإحباط النفسي المصيبة الثالثة: هو قعود بعض المسلمين عن القتال إحباطاً، فالإحباط غير مقبول أبداً في عرف المسلمين، بل هو من شيم الكافرين، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]. وقال: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]. فالإحباط ليس من صفات المؤمنين أبداً، فعندما يقعد المسلم ويفتر عن القتال، والقتال ما زال ناشباً في كل مكان فهذا غير مقبول، حتى وإن أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل.

مصيبة الفرار من الزحف من قبل بعض المسلمين

مصيبة الفرار من الزحف من قبل بعض المسلمين المصيبة الرابعة الخطيرة: أن بعض المسلمين سمعوا نداء الرسول عليه الصلاة والسلام في آخر الموقعة: (إلي عباد الله! إلي عباد الله!) ومع ذلك أصروا على الفرار، فيا لها من كارثة، بل هي كبيرة من الكبائر، لكن كل ذلك تجمعه كلمة واحدة يقال لها: مصيبة، فغزوة أحد كانت مصيبة، لكن من ورائها خير كثير، وهذه المصيبة في الأساس جاءت من ذنب واحد، جاءت من غياب عنصر واحد من عناصر قيام الأمة المسلمة، جاءت من غياب صفة واحدة من صفات الجيش المنتصر، وهي عدم حب الدنيا وتقديمها على الآخرة، فلما حصل الحب للدنيا وقدمت على الآخرة ألقى الله عز وجل في قلوب المسلمين الوهن والضعف. وتذكرون حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لما سألوه عن الوهن الذي يصيب المسلمين؟ فقال: (حب الدنيا وكراهية الموت) فالمسلمون أحبوا الدنيا في موقعة أحد فحدثت المصيبة، ودخل الوهن في قلوبهم، فهم لما كانوا أقوياء قتلوا أحد عشر فارساً من بني عبد الدار حاملاً للواء، وسقط اللواء مع وجود كل هؤلاء الفرسان من المشركين، لكن لما دخلت الدنيا في قلوب بعض المؤمنين رفع اللواء المشرك، وكانت الحاملة له امرأة من المشركين، فهذه الموازنات لابد أن نفكر فيها جيداً، فالنصر والتمكين من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا ينزل سبحانه وتعالى هذا النصر والتمكين إلا على من أخذ بأسباب النصر الكاملة واتصف بصفات الجيش المنصور كاملاً دون نقص. ومع ذلك هل كانت هذه المصيبة شراً محضاً أم كان في باطنها خير؟ A كان في داخلها خير كثير، فمع كل هذه الكوارث التي حدثت في ذلك اليوم، ومع فقد سبعين من أعظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع كون هذه المصيبة تغلغلت في قلوب المسلمين، وشعروا بالخزي والعار والذل والهوان لفرارهم من أرض القتال إلا أنه كان في داخلها خير كثير. ما هو هذا الخير الذي كان في باطن غزوة أحد؟ وما هي الطريقة التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخراج المسلمين من هزيمتهم النفسية؟ وما هو المنهج الرباني الحكيم الذي نزل ليعالج كل صغيرة من صغائر الذنوب، أو كبيرة من كبائر الذنوب في قلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؟ وكيف عاد المسلمون من جديد إلى مطاردة الكافرين؟ وكيف عادت الهيبة من جديد للدولة الإسلامية بعد هذه المصيبة الكبيرة؟ هذا حديث قد يطول. وأسأل الله عز وجل أن ييسر لنا الحديث عن ذلك في الدرس القادم، وأسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الخروج من مصيبة أحد

سلسلة السيرة النبوية_الخروج من مصيبة أحد إن المصائب التي تنزل على المؤمنين ما هي إلا تمحيص من الله لعباده وتربية لهم على طاعة الله ورسوله، فمع أن غزوة أحد كانت مصيبة عليهم إلا أنه كان في باطنها الخير الكثير، وتعلم الصحابة فيها درساً في وجوب الطاعة ولزوم الأمر، وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكسر الهزيمة النفسية التي في قلوبهم، وأن يرفع معنوياتهم بخروجهم إلى حمراء الأسد لملاحقة المشركين مع كل الآلام والجراح.

ملخص مصائب يوم أحد على المسلمين

ملخص مصائب يوم أحد على المسلمين أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. في الدرس السابق تحدثنا عن مصيبة أحد، والمصيبة كما ذكرت في الدرس السابق هي وصف رباني لما حدث يوم أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165]، وكما ذكرنا أيضاً في الدرس السابق أن المصيبة لم تكن في مجرد استشهاد سبعين من الصحابة، بل على العكس هؤلاء من أعظم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، لكن المصيبة كانت تكمن في أمور أخرى خطيرة حدثت في يوم أحد، منها: معصية الصحابة رضي الله عنهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وضوح الأمر، وكما ذكرنا أن الأمر لم يكن اجتهاداً من الصحابة، ولكن كان بسبب حب الدنيا، والله عز وجل ذكر ذلك تصريحاً في كتابه، قال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152]. المصيبة الثانية: هي استشهاد سبعين من الصحابة؛ بسبب خطأ من الرماة في هذه الموقعة، فاستشهاد هؤلاء السبعين ليست مشكلة، بل هي فضل من الله عليهم، لكن أن يستشهدوا بسبب خطأ فهذا أمر غير مقبول. المصيبة الثالثة في ذلك اليوم: الإحباط الذي أصاب المسلمين والقعود في أرض القتال واليأس من عدم النصر، وعدم الحركة في سبيل الله عز وجل. المصيبة الرابعة: الفرار من الزحف. وذكرنا أن هذا الفرار تم بعد سماع نداء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: (هلموا إلي يا عباد الله! هلموا إلي يا عباد الله! أنا رسول الله) ومع ذلك واصلوا الفرار، فمنهم من صعد إلى الجبل، ومنهم من فر إلى المدينة المنورة، ولم يكن هذا كله تحيزاً إلى فئة أو تحرفاً إلى قتال، ولكن كانت مخالفة شرعية واضحة. إذاً: بسبب هذه المصائب الأربع التي تمت في يوم أحد سمى الله عز وجل هذه الغزوة بالمصيبة.

الحكم والآثار الإيجابية من غزوة أحد

الحكم والآثار الإيجابية من غزوة أحد ذكرنا في الدرس السابق أيضاً أن أحُداً لم تكن شراً محضاً، بل كان في داخل هذه المصيبة خير كثير.

التنقية والتصفية والابتلاء

التنقية والتصفية والابتلاء أول حكمة نراها في هذه المصيبة هي: الحكمة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى تعليقاً على غزوة أحد في آيات سورة آل عمران، ونحن بحاجة ماسة إلى أن ندرس هذه الآيات بدقة وتفصيل، خاصة عندما تمر أزمات أو مصائب كبرى على الأمة الإسلامية: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] لماذا؟ {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166 - 167]، أي: التنقية والتصفية والابتلاء. فلو كانت حياة المؤمنين انتصارات بلا هزائم لدخل في الدين الإسلامي الصادق والكاذب، ولاختلط الحابل بالنابل، لكن عندما تحصل المصائب ينكشف الذي في قلبه مرض، ويبدأ بالمجاهرة بالعداء للإسلام؛ لأن الإسلام نسبياً أصبح ضعيفاً، والدولة الإسلامية بعد أحد أصيبت إصابة كبيرة، فمن كان يخفي في قلبه الكفر ويظهر الإسلام أظهر ما كان يخفي، وفعلاً بعد أحد جاهر كثير من المنافقين بنفاقهم، وقد رأينا أن (300) انسحبوا قبل بدء معركة أحد، فما بالك بعد المصيبة التي حصلت؟ يقول الرواة: نجم النفاق في المدينة المنورة بعد أحد، فالمسلمون عرفوا أناساً كثيرين بنفاقهم، كانوا في الظاهر يصلون ويصومون ويتكلمون بالخير، لكن الشر يكمن في داخلهم، هذا الشر خرج وظهر للناس بعد أحد. من الممكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف هؤلاء بالوحي، فقد أسر بأسمائهم إلى حذيفة بن اليمان، فمن الممكن أن نكشف أمرهم بالوحي ويكفي، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم أن الوحي سينقطع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يعرف المسلمون المنافقين إلى يوم القيامة، فما هي الطريقة لمعرفتهم؟ الطريقة: هي حدوث المصائب على الأمة الإسلامية سواء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الأزمان اللاحقة إلى يوم القيامة، فكلما تحصل مصيبة وتضعف الدولة الإسلامية وتمر بأزمة يظهر النفاق. فهذه طريقة تعرفنا وتفصل لنا نوعية المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، وعندها تستطيع أن تختار الناس الذين تعتمد عليهم في إقامة صرح الأمة الإسلامية، فلن تختار منافقاً ولن تسر بأمر خطير إلى أحد المنافقين، وهذا إن شاء الله سنتكلم عنه بالتفصيل عند الحديث عن الأحزاب وتبوك، فهي غزوات يتضح فيها أمر المنافقين وضوحاً بيناً، لكن أذكركم بالآية الكريمة التي نزلت تعليقاً على غزوة تبوك، وسنفسرها إن شاء الله عندما نتكلم عن غزوة تبوك، قال الله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]. إن عبد الله بن أبي انسحب من جيش النبي صلى الله عليه وسلم بـ (300) مقاتل، وقد يتخيل أن في انسحابهم أزمة، وهذا فهم خاطئ، فإن وجود هؤلاء الثلاثمائة داخل المعركة قد يزيد من خذلان المسلمين الذين ثبتوا، فيغيروا رأيهم، والله عز وجل يقول: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] أي: فيكم أيها المؤمنون الصادقون من يستمع إلى كلام المنافقين. إذاً: في باطن المصيبة رحمة وخير، فالمسلمون سيعرفون الأشخاص الذين يتكلمون بالسوء على الإسلام معرفة واضحة.

معرفة المسلمين شؤم معصية أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم

معرفة المسلمين شؤم معصية أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم من الآثار والحكم: أن يعلم المسلمون شؤم معصية أمر الله عز وجل، وشؤم معصية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] هذه الآية نزلت في ظرف معين وفي حدث معين، لكن الأوضاع عامة تشمل كل الأحداث، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، وإذا لم نحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور حياتنا في كل صغيرة وكبيرة؛ فإننا سنصاب بمثل مصاب أحد، فمشكلة أحد الرئيسة بدأت من أن مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم به. وهذا أمر خطير؛ لأنه إذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لنا، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وإذا لم نأتمر بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فيحصل مثل أُحد وأعظم منها. وأُحد تتكرر كثيراً في حياتنا، كم قد أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور وخالفنا هذه الأمور، ويخيل لنا أننا نعمل ما هو أفضل وأصلح لنا ولأمتنا، أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم التعامل بالربا ونتعامل أحياناً بالربا، ونقول: إن هذا فيه خير للأمة، أمرنا بعدم الإباحية والمجون والفواحش، ومع ذلك يرتكبها كثير من المسلمين ويصرحون بها ويجاهرون بها، سواء كان للسياحة أو لحرية المرأة، أو للترفيه، أو لأخذ قسط من الراحة، مبررات كثيرة جداً كلها مخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تفعلها وأنت تعلم أنك مخالف، فهذا يؤدي إلى مصائب كثيرة. فالمصيبة التي حدثت في أُحد هي إحدى نتائج المعصية، وكان هذا أمراً لافتاً للنظر، فلو كان الأمر مرّ بسلام لما عرفنا أن مخالفة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام قد تؤدي إلى مصيبة، حتى في وجود ذلك الجيل العظيم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

وضوح خطورة الدنيا وضرورة الحذر منها

وضوح خطورة الدنيا وضرورة الحذر منها من الآثار والحكم: لفت أنظار المسلمين جميعاً سواء الذين شاركوا في أحد أو الذين يأتون من بعدهم إلى خطورة الدنيا، حتى جيش الصحابة وهو أعظم الأجيال لو أصيب بمرض الدنيا فإنه سيصاب بمثل مصاب أحد؛ لذلك ستجد أحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تتحدث عن الزهد في الدنيا وتأمر المسلمين بالحذر التام من خطورة أمر الدنيا، وهناك أبواب كثيرة في ذم الدنيا موجودة في كتب الصحاح والسنن، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجد فرصة إلا وينبه المسلمين فيها إلى خطورة الدنيا، من ذلك أنه قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء). وعلى هذا النسق من التحذير والتنبيه جاءت أحاديث كثيرة جداً، كذلك القرآن الكريم قلّما تجد صفحة أو صفحتين من القرآن الكريم ليس فيها تنبيه أو تحذير من أمر الدنيا، وقد رأينا مصيبة الدنيا في أحد حين قال الصحابة: الغنيمة الغنيمة. حتى بعد النصر وبعد استيفاء معظم صفات الجيش المنصور، وحتى بعد طلب الآخرة في أول المعركة، إن دخل طلب الدنيا فإن هذا يؤثر على الجيش بكامله. إذاً: هذه المصيبة الكبيرة لفتت الأنظار بوضوح إلى خطورة الدنيا، ولو مر الأمر دون مصيبة أو كارثة لما عرف أحد أن الدنيا خطيرة لهذه الدرجة.

إعلام المسلمين أن خطأ بعضهم يعمهم جميعا

إعلام المسلمين أن خطأ بعضهم يعمهم جميعاً من الآثار والحكم: إعلام المسلمين أن خطأ البعض يعم على كل المسلمين، فالذين خالفوا هم أربعون صحابياً فقط، نزلوا من فوق جبل الرماة، فحدثت كل التداعيات الخطيرة داخل موقعة أحد نتيجة مخالفة هؤلاء الأربعين، وهذا يدل على قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الصف المسلم، فنحن كجيل يريد أن يرفع رأسه وسط العالمين ويقود الأرض إلى الخير، لابد أن يبحث عن الأمراض التي تصيب الأمة، انظر إلى جارك وأخيك وصاحبك وأولادك وأبيك وأمك ورحمك، كل الدوائر التي حولك إن رأيت فيها معصية أو أخطاء أو منكراً أو بعداً عن رب العالمين سبحانه وتعالى فاعلم أن ضرر ذلك لن يصيب هؤلاء فقط، بل سيقع الضرر عليه وعليك وعلى الأمة بكاملها، وتذكروا حديث السفينة الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، قالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا). هم يريدون خيراً بهذا الأمر، لكن لا يدركون ما وراءه، فما بالك لو كانوا يريدون شراً؟ هم يريدون أن يتجنبوا إيذاء غيرهم؛ لذلك يريدون أن يخرقوا خرقاً في الجزء الأسفل من السفينة، وهذا سيؤدي إلى غرق السفينة، يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً) أي: أن السفينة ستغرق، فالذي عصى والذي لم يعص كلهم سيغرقون، ثم قال: (وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً). هذه فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجدير بالأمر أن مرض الدنيا الذي ظهر يوم أُحد كان له جذور سابقة ليوم أحد، فلابد للمسلمين أن يحذروا من هذه الأمراض التي تفشت في جيش أُحد.

حكمة إبقاء زعماء الكفر في غزوة أحد أحياء بعد الغزوة

حكمة إبقاء زعماء الكفر في غزوة أحد أحياءً بعد الغزوة من الآثار والحكم اللطيفة في يوم أُحد: أن المسلمين لم يقتلوا عدداً كبيراً من الكافرين مع رغبتهم في قتلهم، والله عز وجل أراد أن يحفظ دماء هؤلاء الكافرين؛ لأنهم بعد سنوات سيسلمون ويصبحون نصراً للإسلام والمسلمين، انظر إلى القائد الأعلى لجيش مكة أبي سفيان والقواد الثلاثة الذين كانوا يساعدونه صفوان بن أمية، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، هؤلاء القواد الأربعة سواء كان القائد العام أو الثلاثة الذين تحته أسلموا، وكلهم كان لهم دور كبير في المعارك الإسلامية، وليس هؤلاء فقط، بل ومن النساء هند بنت عتبة التي كانت تحمس الجيش للقتال، والتي بقرت بطن حمزة رضي الله عنه وأرضاه ولاكت كبده، أسلمت بعد ذلك وحسن إسلامها، فهؤلاء القادة الأربعة وهند بنت عتبة شاركوا في موقعة اليرموك، وكان لهم دور كبير في نصر المسلمين في اليرموك، فأحياناً يكون في داخلنا رغبة قوية في هلكة الظالمين، ورغبة قوية في أن يخلصنا الله سبحانه وتعالى من فلان وفلان وفلان؛ لأنهم كادوا للإسلام ومكروا به، ومع ذلك يخبئ الله عز وجل لنا خيراً كثيراً في إبقائهم، فبعد قليل سيصيرون مسلمين، ويكونون هم أنصار الإسلام.

اصطفاء الله كثيرا من المجاهدين للشهادة

اصطفاء الله كثيراً من المجاهدين للشهادة من الآثار والحكم التي نريد أن نقف معها وقفة: أن في هذه المصائب التي تنزل على الأمة الإسلامية ينتقي الله عز وجل بعضاً من المسلمين ليتخذهم شهداء، ومن الممكن أن يكونوا شهيدين أو ثلاثة في المعركة، عندها لن تأخذ في بالك قيمة الشهداء وعظمتهم، لكن حين يستشهد سبعون من المسلمين، فهذا أمر لافت للنظر جداً، وخاصة بهذه الطريقة المؤثرة التي حدثت يوم أُحد. إن قصص الشهداء تفتت الأكباد خاصة عندما تقرأ قصة الشهيد الأول والثاني والثالث والعاشر إلى السبعين، هذا لابد أنه سيلفت النظر بوضوح إلى قيمة الشهداء في الميزان الإسلامي، فالقرآن مركز على قضية الجهاد، ويلفت النظر إلى أن الجهاد يكون بالنفس والمال، فالجهاد في غاية الأهمية، لا تقوم أمة إلا بالجهاد في سبيل الله، وإن تركت الأمة الجهاد في سبيل الله ذلت: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى تعودوا إلى دينكم). هذا هو كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الواقع الذي نراه في كل صفحة من صفحات القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]، ليس المال فقط، بل {أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة:44]، فأنت عندما تجاهد بنفسك فهذا لاشك أنه شيء عظيم، وعندما تفقد نفسك وأنت ثابت في سبيل الله سبحانه وتعالى فهذا شيء أعظم، وعندما تهوى الموت في سبيل الله ويصبح أعظم أمنية عندك فلا شك أن هذا أعظم وأعظم وأعظم، وكل هذا رأيناه في أُحد، وليست المسألة أنك تكون شهيداً بمجرد رغبة عابرة تأتي على الذهن في لحظة من لحظات علو الإيمان أو القرب من الله عز وجل، ليست هذه السنة، السنة أن طريق المسلم طويل وصعب حتى يصل إلى الشهادة، نعم، هناك استثناءات وهناك بعض الظروف لا تكون على هذه الصورة، لكن الأصل أن الطريق طويل. وكنت مستغرباً لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي ذكر فيه أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام ذكر أموراً كثيرة لا علاقة لها بالجهاد قبل أن يتكلم عن الجهاد؟ يا ترى! ما هو الرابط بين هذه الأمور وبين الجهاد؟ ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه لما سأله؟ سأل معاذ بن جبل الرسول صلى الله عليه وسلم سؤالاً جميلاً، ولكنه صعب، قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال له صلى الله عليه وسلم: لقد سألتني عن عظيم -أي: أمر كبير- وإنه ليسير على من يسره الله عليه -وما هو الطريق؟ - قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) الأمر الأول: توجيه النية الكاملة لله عز وجل عند المسلم، حتى يصل في يوم من الأيام إلى أن يكون مجاهداً، ويصل بعد ذلك إلى الشهادة. قال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، وليس من المعقول أبداً أن يكون مجاهداً دون أن يعمل هذه الفرائض، ثم قال: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم تلا قول الله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] حتى بلغ قوله: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]). فالرسول عليه الصلاة والسلام تكلم عن بعض أعمال الخير من الفرائض والنوافل من صيام وصدقة وقيام كلها مهمة جداً في الطريق للجهاد في سبيل الله، ثم قال: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ لسانه وقال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم أو قال: على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم). إذاً: طريق الجهاد طريق طويل، لا يستطيع أن يصل إليه المسلم دون أن يؤدي الفرائض التي عليه، ولن يصل إلى طريق الجهاد في سبيل الله عز وجل من واظب على المعاصي والمخالفة، وواظب على عدم اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرائض. ثم بعد الفرائض النوافل أيضاً، لن يصل إلى الجهاد إلا من قام الليل وتص

نماذج بطولية من شهداء أحد

نماذج بطولية من شهداء أحد كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يستمعون إلى الأحاديث في فضل الشهيد وما أعد الله له في الجنة فتاقت نفوسهم بصدق إلى الشهادة، فهذه بعض نماذج من الشهداء في غزوة أُحد، وبعض الأمثلة الفاضلة لسبعين شهيداً.

حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه

حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أول شهيد يلفت نظرك: هو حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه؛ فسيد الشهداء هو حمزة رضي الله عنه، أسلم في العام السادس تقريباً من البعثة النبوية، أي: قبل عشر سنوات من غزوة أحد، وسلك طريقاً طويلاً جداً من الكفاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سواء في فترة مكة أو في فترة المدينة، سواء في داخل الشعب أو في أثناء الهجرة أو بعد إقامة الدولة أو في بدر، فقد رأينا له مواقف مميزة في بدر، وكان المشركون يقولون: من هذا الذي كان معلماً بريشة في صدره؟ قالوا: إنه حمزة فقالوا: هذا الذي فعل بنا الأفاعيل، كان له طريق طويل في الجهاد حتى أكرمه الله سبحانه وتعالى بالشهادة في يوم أحد. وكان حمزة قبل الإسلام مجرد رجل يحب الصيد والمتعة واللهو، ويسجد لصنم، عاش حياة ليس لها قيمة ولا وزن في حياة الأرض، وبعدما أسلم انتقل من كونه سيداً في قبيلته الصغيرة إلى كونه سيداً لشهداء الأرض أجمعين يوم القيامة، واستشهد في يوم أُحد رضي الله عنه.

مصعب بن عمير رضي الله عنه

مصعب بن عمير رضي الله عنه كان طريق مصعب بن عمير رضي الله عنه طويلاً جداً، حتى يكون شهيداً، أسلم مبكراً، وخاض جهاداً في سبيل الله في مكة والحبشة والمدينة وبدر وأحد، في محطات كثيرة أبلى بلاءً حسناً، وتعب كثيراً وبذل كثيراً وضحى كثيراً، ثم في النهاية أنعم الله عز وجل عليه أن مات شهيداً في سبيله، وكأنها هدية، وقبل أن يستشهد قطعت يمينه وقطعت شماله ومع ذلك لم تسقط الراية من يده؛ لأنه كان مشتاقاً إلى الشهادة. وطالباً للموت بصدق، وإن تصدق الله يصدقك: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه). فاستشهد مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه بعد رحلة كفاح طويلة، مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فائتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه)، هذا الحديث في مستدرك الحاكم وهو صحيح. إن شهداء أحد يردون السلام على من سلم عليهم وإلى يوم القيامة، وزيارة شهداء أُحد أصبحت سنة شرعها لنا صلى الله عليه وسلم، وكان دائم الزيارة لشهداء أُحد إلى مماته، وقبل الممات بقليل خرج صلى الله عليه وسلم ليزور شهداء أُحد ويستغفر لهم، فهذه قيمة كبيرة في ميزان شهداء أُحد رضي الله عنهم أجمعين.

سعد بن الربيع رضي الله عنه

سعد بن الربيع رضي الله عنه ذكرنا قصة المؤاخاة بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وكيف كان يريد أن يدفع نصف ماله ويطلق إحدى زوجاته لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، فكان سعد في تضحية وبذل حقيقي، وخاض طريقاً طويلاً حتى دخل موقعة أُحد، وفي يوم أُحد قاتل قتالاً عظيماً، وبعدما انتهت الموقعة وذهب المشركون، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئن على أصحابه فلم يجد سعد بن الربيع، فأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يبحث عن سعد بن ربيع وقال له: (إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ -أي: كيف حالك؟ - قال زيد بن ثابت: فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو في آخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك: أخبرني كيف تجده؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار)، انتبه! إلى اللحظة الأخيرة من حياته ما زال إيجابياً يحمس الناس على الجهاد في سبيل الله، فمن الممكن أن يقول: لقد خسرت كل شيء وراح عمري، وراحت حياتي وراحت أموالي وتجارتي، لكنه لم يفكر في كل هذا، كل الذي كان يفكر فيه وهو يعالج سكرات الموت أن يوصي الأنصار بقوله: (لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف). سبحان الله! فأهم قضية عنده الحفاظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وهو في آخر لحظة من لحظات حياته؛ لذلك فإن سعد بن الربيع له قيمة كبيرة في ميزان الإسلام.

عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه

عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه يقول عبد الله بن عمرو بن حرام قبل موقعة أُحد: رأيت في النوم مبشر بن عبد المنذر رضي الله عنه من شهداء بدر، يقول: أنت قادم علينا بعد أيام، فقلت: وأين أنت؟ قال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء، قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ قال: بلى، ثم أحييت، فذهب عبد الله بن عمرو بن حرام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره برؤياه، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله هذه الشهادة). واشتاق عبد الله بن عمرو بن حرام اشتياقاً حقيقياً للشهادة، وخرج في غزوة أحد وهو بهذه النية والعزيمة على أن يموت في سبيل الله، ولما رأى عبد الله بن أبي ينسحب بجيشه ذهب إليه ونصحه بالعودة، لكن عبد الله بن أبي أصر على الهروب من أرض المعركة، فلعنه عبد الله بن عمرو بن حرام وقال: تباً لك أبعدك الله! سيغني الله عز وجل عنك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وأكمل المعركة بهذه الحمية، وقاتل قتالاً شديداً حتى قيل: إنه أول من قتل يوم أحد رضي الله عنه وأرضاه، وكان عنده بنات كثيرات وديون. وبعد استشهاده جاء ابنه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما وأرضاهما أجمعين حزيناً لفقد والده مهموماً، فأخذ يكشف الغطاء عن وجه أبيه ثم يغطي، وكرر ذلك عدة مرات، وكان الصحابة رضي الله عنهم ينهونه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينهاه؛ لأنه كان يقدر الموقف الذي هو فيه، فلما رأى جابراً منكسراً هذا الانكسار الكبير، يقول جابر: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر! ألا أخبرك بما لقي الله عز وجل به أباك؟ قلت: بلى، قال: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً، فقال: يا عبد الله تمنَّ علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية)، يتمنى نفس أمنية الرسول عليه الصلاة والسلام (لوددت أن أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا)، قال: (يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب! فأبلغ من ورائي)، سبحان الله! حتى بعد موته حريص على الناس، وحريص على أهله والأنصار، وحريص على المهاجرين وعلى كل المسلمين، قال: (فأبلغ من روائي -أي: بيّن للمسلمين قيمة الشهادة وكرامة الشهيد- فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]). روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم، وهو صحيح. انظر إلى قيمة الشهيد، صار في حوار وخطاب مع رب العالمين سبحانه وتعالى بمجرد الشهادة.

خيثمة أبو سعد رضي الله عنه

خيثمة أبو سعد رضي الله عنه كان سعد بن خيثمة في بدر قد استهم مع أبيه للخروج إلى بدر، وخرج سهم سعد واستشهد في بدر، وقبل وقعة أُحد حدث حوار لـ خيثمة مع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه: (لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت -والله- عليها حريصاً حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، وقد -والله- يا رسول الله! أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبر سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله! أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له صلى الله عليه وسلم بذلك، فاستشهد يوم أحد)، فقد كان يريد أن يستشهد في سبيل الله، واشتاق اشتياقاً حقيقياً إلى الموت في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله.

عمرو بن الجموح رضي الله عنه

عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه أعرج شديد العرج، وكان كبيراً في السن عمره أكثر من الستين سنة، وعنده أربعة أولاد كلهم يقاتلون في سبيل الله، وقد خرجوا يوم أحد، وأصر عمرو على الخروج إلى أحد؛ لأنه سمع قضية الشهادة، وتاقت نفسه إلى أن يموت شهيداً، لكنه معذور لعرجته وكبر سنه، وأولاده يكفونه ذلك، ولكنه أصر على الخروج، فأبى أولاده، وأخبروه بأن الله قد جعل له رخصة، وأنهم يكفونه ذلك، فذهب عمرو بن الجموح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو أولاده ويقول: (يا رسول الله! إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، والله إني لأرى أن أستشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة -يعني: هذه الإعاقة لن تعوقني عن دخول الجنة شهيداً- فقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمرو بن الجموح أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، ثم قال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة). فخرج عمرو بن الجموح بهذا الصدق مع الحبيب صلى الله عليه وسلم في أحد، واستشهد مع الشهداء رضي الله عنه.

حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه

حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه خرج حنظلة بن أبي عامر وهو في ليلة عرسه للجهاد في سبيل الله، ومن استعجاله خرج وهو جنب، وقاتل في أحد حتى استشهد، وبعد موته نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى نعشه، فوجد أن الماء يقطر منه رضي الله عنه وأرضاه، فتعجب صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى زوجته وقال: (ما باله؟ فذكرت قصته فقال: سبحان الله! إن الملائكة تغسل حنظلة)، وأصبح بعد ذلك يحمل اسم: غسيل الملائكة رضي الله عنه وأرضاه.

عبد الله بن جحش رضي الله عنه

عبد الله بن جحش رضي الله عنه سار عبد الله بن جحش رضي الله عنه في طريق طويل وكفاح مرير، من أيام مكة المكرمة وهجرته إلى الحبشة مرتين، وهجرته بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وخروجه في بدر ثم خروجه في أحد، فتعالوا لنرى اشتياق عبد الله بن جحش رضي الله عنه للشهادة، تعالوا نرى الحوار اللطيف الذي دار بينه وبين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قبل بدء المعركة، قال عبد الله بن جحش لـ سعد: ألا ندعو الله؟ فخلوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا رب! إذا لقيت العدو فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّن عبد الله بن جحش. كان دعاء سعد بن أبي وقاص دعاءً طبيعياً، يدعو أنه يقاتل أحد الكفار فينتصر عليه ويأخذ سلبه، لكن انظر إلى دعاء عبد الله بن جحش واشتياقه الحقيقي إلى الشهادة في سبيل الله، قال: اللهم ارزقني رجلاً شديداً حرده شديداً بأسه أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً قلت: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت. يتمنى أن يقابل أحداً من الكفار، فيتقاتلا فيقتله الكافر، ثم يمثل بجثته، فيقطع أنفه وأذنه؛ ليسأله رب العالمين سبحانه وتعالى: من فعل فيك هذا؟ ومن فعل فيك هذا؟ فيقول: فيك يا رب! وفي رسولك صلى الله عليه وسلم، فيقول الله عز وجل: صدقت. وانظر إلى تعليق سعد بن أبي وقاص على هذه الدعوة، يقول سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني! كانت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط. استجاب الله دعاءه كما تمنى، وصدق في ذلك.

الأصيرم عمرو بن ثابت بن قيس بن وقش

الأصيرم عمرو بن ثابت بن قيس بن وقش إن طريق الوصول إلى الشهادة طريق طويل، وهذه قاعدة، لكن للقاعدة استثناء، فمن الممكن أن يستشهد شخص عمره في الإسلام قصير جداً، لكن تكون عنده رغبة حقيقية في الشهادة في سبيل الله فيموت شهيداً، عندنا في القرآن قصة سحرة فرعون الذين انتقلوا من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان في لحظة، ثم أصبحوا شهداء في سبيل الله، أيضاً في موقعة أحد مثال كمثال هؤلاء، رجل انتقل من الكفر إلى الإسلام في لحظة ثم أصبح شهيداً. هذا الرجل هو الأصيرم من الأوس من بني عبد الأشهل من قبيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، لما أسلم سعد بن معاذ أسلمت كل قبيلته إلا الأصيرم، تأخر إسلامه إلى يوم أحد، ففي يوم أحد وجد أن الإسلام قريب إلى قلبه، فانتقل إلى المسلمين فوجدهم قد خرجوا إلى أحد، فلحق بهم فوجدهم يقاتلون، فدخل يقاتل معهم، ثم أصيب ووقع على الأرض، واقترب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم منه فقالوا: هذا الأصيرم ما جاء به؟ قد كان كافراً! لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه: ما الذي جاء بك أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون. ومات من لحظته، آخر كلمة قالها: إنه قاتل في سبيل الله، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل الجنة)، في لحظة واحدة فقط، في لحظة إيمان وصدق انتقل من معسكر الكفر إلى الإيمان، ثم أصبح شهيداً، ثم أصبح في الجنة، كل تاريخه في الإسلام نصف يوم تقريباً لم يكمل يوماً كاملاً، يقول أبو هريرة: ولم يصل الأصيرم لله صلاة قط. فاعلم يا أخي المسلم! أن من أهل الدنيا من يعمل بعمل أهل النار ثم يسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.

مخيريق رضي الله عنه

مخيريق رضي الله عنه في غزوة أُحد شارك واحد من اليهود كان اسمه: مخيريق، لما خرج عليه الصلاة والسلام لقتال المشركين في أحد جمع مخيريق اليهود وقال لهم: يا معشر يهود! والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم حق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء، ثم ذهب مع المسلمين وقاتل حتى استشهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (مخيريق خير يهود).

قصة قزمان وقتاله في غزوة أحد

قصة قزمان وقتاله في غزوة أحد على العكس من قصة الأصيرم كانت قصة قزمان، كان قزمان في غزوة أحد قد قتل ثلاثة من حملة راية المشركين الواحد تلو الآخر، ثم قاتل بعد ذلك قتالاً شديداً حتى إن بعض الروايات تقول: إنه قتل سبعة أو ثمانية من المشركين، وفي آخر الموقعة وجدوه قد أثبتته الجراحات، فأخذه المسلمون وبشروه، قالوا: هنيئاً لك الجنة، فقال: والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي -أي: لا علاقة لي بالإسلام، لم أقاتل إلا قومية فقط- قال: إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، ثم اشتدت به الجراح فنحر نفسه. وكان إذا ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من أهل النار)، فهذا الرجل قاتل في سبيل الوطنية والقومية وليس في سبيل الله، فضاع منه كل شيء مع أنه أبلى بلاءً حسناً في الموقعة، وأدى أفضل من كثير في الموقعة؛ لكنه قاتل من أجل الدنيا فما له في الآخرة من نصيب. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: الرجل يقاتل للمغنم -يريد الغنيمة- والرجل يقاتل للذكر -لكي يقول عنه الناس: شجاع وجريء وقوي- والرجل يقاتل ليرى مكانه -أي: مكانه في قبيلته- فمن في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). وروى الترمذي وأبو داود، وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، فالناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب). إذاً: هذه حكم كثيرة موجودة في مصيبة أُحد، في داخل المصيبة جعل الله عز وجل خيراً، وقد تكلمنا على أكثر من حكمة لحدوث المصائب على الأمة الإسلامية، وليس معنى ذلك أننا نبحث عن المصائب، لكن لنعلم أن المصيبة ليست شراً محضاً، بل في باطنها خير كثير قد نرى هذا الخير وقد لا نراه، فالخير موجود، والله سبحانه وتعالى قد لا يأذن بها إلا لأن فيها خيراً للمؤمنين، قال سبحانه وتعالى في كتابه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166].

طرق علاج الهزيمة النفسية التي لحقت المسلمين في غزوة أحد

طرق علاج الهزيمة النفسية التي لحقت المسلمين في غزوة أحد ما قصة الناس الذين لم يموتوا في غزوة أحد، وما قصة الناس الذين انكسروا انكساراً شديداً؟ وما قصة الناس الذين فروا من الزحف؟ وما قصة الناس الذين ما استطاعوا أن يدافعوا عن الإسلام والمسلمين؟ وما مقدار الهزيمة النفسية التي كانوا فيها؟ وما مقدار الانكسار الذي وصلوا إليه؟ وكيف كانت الحالة النفسية المتردية التي وصل إليها أولئك الفارون عندما وصلوا إلى المدينة المنورة، ورجع إليهم صلى الله عليه وسلم بجراحه وآلامه ومصابه وسبعين من الشهداء؟ إن هذا الأمر صعب جداً على النفس. إن هذه الكارثة النفسية كادت تودي بهؤلاء جميعاً وتذهب بهم، لولا أن نزل المنهج الرباني لعلاج هذه الهزيمة النفسية، ولإخراج المسلمين من الانكسار النفسي الذي يعقب المصائب والأزمات الشديدة، تعالوا لنعرف كيف يخرجنا الله من أزماتنا النفسية/ ويأخذ بأيدينا ويدخلنا الجنة بعد أن عصينا وأذنبنا وأخطأنا، بل وبعد أن ارتكبنا الكبائر، فالفرار من الزحف كبيرة من الكبائر؟ نحن في حاجة إلى أن نراجع سورة آل عمران؛ حتى نفهم قصة أحد، وسأمر بإيجاز على النقاط.

رفع الروح المعنوية للمسلم بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية فيه

رفع الروح المعنوية للمسلم بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية فيه النقطة الأولى: رفع الروح المعنوية للمسلم بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية فيه. فكل واحد منا فيه جوانب إيجابية وجوانب سلبية، وفي وقت الهزيمة والنكسة وحدوث المصيبة تغلب على الإنسان بعض جوانبه السلبية من فشل وضعف، إن بعض جوانب الضعف موجودة في كل الناس، ففي هذه الأزمة لابد أن تقول له: أنت وعندك جوانب ضعف عندك جوانب قوة، قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] سبحان الله! بعد كل الكوارث التي حدثت في أحد، وبعد كل المخالفات الشرعية التي تمت على أيدي بعض الصحابة، يقول لهم رب العزة سبحانه وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. فالقرآن يلفت النظر إلى جوانب القوة في الإنسان، يأخذ بيده لكي لا يقع، ولكي يقوم بعد هذه المصيبة في لحظات علو الكافر على المؤمن، ففي مرحلة من مراحل الزمن لابد من لفت نظر المؤمن إلى أنه كما أن فيه ضعفاً أدى إلى علو الكافر، فإنه يملك جوانب إيجابية تسمح له بالقيام من جديد: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فعندما ترى دولة غير مسلمة تعلو دول المسلمين فلا يهولنك ولا يحبطنك ذلك، بل انظر إلى ما في يديك من إمكانيات، فإمكانيات الأمة ضخمة، إمكانيات إستراتيجية، وإمكانيات اقتصادية، وإمكانيات مالية، وإمكانيات بشرية وإمكانيات كثيرة، بل عندك أشياء كثيرة أكثر من التي فقدتها، وأهم شيء تملكه ولم تفقده هو الإيمان بالله عز وجل، والإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر. هذه القيمة العليا هي التي ترفع المسلم فوق أي إنسان في الأرض: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فهذه هي التي تجعلنا أعلم من غيرنا حتى في حال ضعفنا ومصائبنا وأزماتنا، ليس معنى هذا ألا يعمل المسلمون ويجتهدوا، ولكن معناه أن يعلموا أن أعظم مقومات قيامهم على الإطلاق: الإيمان، ولو ملكوه على حقيقته فإنهم الأعلى حقاً، وستكون لهم الدولة حتماً كما ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى. إذاً: هذه النقطة الأولى في المنهج الإيجابي لعلاج المنهزم نفسياً.

رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في الحدث نفسه

رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في الحدث نفسه النقطة الثانية: رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في الحدث نفسه. وهذا الذي تكلمنا عنه في درس اليوم: تمييز الصف وإظهار المنافقين من المؤمنين. وكذلك لفت نظر المسلمين إلى شؤم المعصية، وإلى خطورة الدنيا. وكذلك انتقاء بعض المسلمين ليكونوا شهداء، هذه كلها جوانب إيجابية في الحدث، وعندما ينظر المسلم إلى هذه الجوانب الإيجابية تطمئن النفس وتهدأ الروح.

معرفة كون المصائب مقدرة من الله

معرفة كون المصائب مقدرة من الله النقطة الثالثة: توضيح أن المصائب مقدرة حتماً، وستقع ما دام الله عز وجل قد قدر لها أن تقع، صحيح أن هناك أسباباً، وأن علينا أن نسعى قدر الإمكان لمنع الكوارث والمصائب؛ لأن الله عز وجل أمرنا بالسعي وبأخذ الأسباب، ونعلم أننا نؤجر على العمل ما دام العمل موافقاً للشرع، ونعلم أيضاً أن الله عز وجل قادر على تعطيل الأسباب، ونعلم أنه قادر على إنفاذ الأسباب، فكل شيء بيده سبحانه وتعالى، فإن قدر للمصيبة أن تقع فليس هناك أي معنى لكلمة: (لو)؛ لأنها تفتح عمل الشيطان، فمهما قلنا: لو كنا عملنا كذا أو كذا، فإن المصيبة ستقع (100%)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قدر لها أن تقع، فالمفروض أن تتصرف بشكل إيجابي مع المصيبة، ولا تأخذ الأمور بمنتهى الفتور والكسل والإحباط.

الوعد بالقيام من جديد والأمل بأن النصر قادم

الوعد بالقيام من جديد والأمل بأن النصر قادم النقطة الرابعة: الوعد بالقيام من جديد، والأمل في أن النصر قادم: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] قاعدة محكمة، والله عز وجل لا ينصر إلا من نصره، ونصر الله عز وجل يكون بتطبيق شرعه، وإن قضى الله عز وجل بالنصر للمؤمنين فلا غالب لهم حتماً؛ لأن هذه سنة ثابتة إلى يوم القيامة، فيها تجدد الأمل دائماً في نصر قادم.

التربية بالتاريخ والتأكيد على أن القيام بعد السقوط أمر متكرر

التربية بالتاريخ والتأكيد على أن القيام بعد السقوط أمر متكرر النقطة الخامسة: التربية بالتاريخ، والتأكيد على أن القيام بعد السقوط أمر متكرر في السابق، وسيتكرر حتماً في الواقع وفي المستقبل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} [آل عمران:146]، ونفس هذه القصة حصلت قبل هذا بكثير، قال: {وَكَأَيِّنْ} [آل عمران:146] كلمة توضح الكثرة، فالأمر متكرر جداً، والحكايات التاريخية التي تتناول نفس المعنى أكثر من أن تحصى، فأي: قصة واقعية حصلت في الماضي قبل كذا، يعلم الناس جميعاً أن هذه القصة ستتكرر، وأن القيام بعد السقوط ليس أمراً نادراً بعيد الحدوث، بل هو القاعدة التي يجب أن يبني عليها المؤمن حساباته.

استشعار أن ما أصابك أصاب عدوك أيضا

استشعار أن ما أصابك أصاب عدوك أيضاً النقطة السادسة: استشعار أن ما أصابك أصاب عدوك أيضاً، فيحصل عندك نوع من التهوين للمصيبة، ولا تظن أن جهدك الذي بذلته مع عدوك ذهب سدى، بل جهدك الذي بذلته أثر بعمق في عدوك، وراجع معي الآيات، يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140]. ويقول في آية أخرى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، مرة قال: (مثله)، ومرة قال: (كما)، فلا تحسب أن عدوك قد انتصر نصراً بلا ألم، أو حقق ربحاً بلا خسارة، فمن المؤكد أنه خسر. فالمشركون في غزوة أحد فقدوا في بعض الروايات: (22) شخصاً، وفي أصح الروايات: (37) من القتلى، وهو رقم ضخم، والمسلمون استشهد منهم (70) مقاتلاً، لكن موتى بدر من المشركين (70) مقاتلاً والأسرى من المشركين (70)، والله عز وجل ذكر ذلك في كتابه. قال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] أي: استشهد منكم (70) الآن، لكن في بدر انتصرتم وأخذتم (70) أسيراً وقتلتم (70) قتيلاً من المشركين، فلابد أن تذكر هذه الإصابات في طرف عدوك حتى تهدأ النفس ويطمئن القلب.

تداول السلطة بين الأمم والأفراد سنة من سنن الله

تداول السلطة بين الأمم والأفراد سنة من سنن الله النقطة السابعة: من سنن رب العالمين سبحانه وتعالى أن تتداول السلطة بين الأفراد، بل بين الأمم، وأمة الإسلام ليست خارجة عن هذا القانون، فهي تتسلم قيادة الأرض في أحيان، ويتسلمها غيرها في أحيان أخرى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فعندما تدرك ذلك يصير هذا أمراً متوقعاً وليس مستغرباً أن تفقد الأمة القيادة للأرض، وعندما تحمل المصيبة سيكون هذا أحسن، أما إذا كنت تظن أنك دائماً منصور، فلا شك أنك ستهزم نفسياً عند إصابتك، وهذا ليس واقعياً.

ابتداء المسلم حياته الجديدة بمغفرة الله عز وجل له

ابتداء المسلم حياته الجديدة بمغفرة الله عز وجل له النقطة الثامنة: أن المسلم يستطيع أن يبدأ بداية جديدة دون أخطاء، ويبدأ بصفحة بيضاء دون خطايا أو ذنوب مهما فعل قبل ذلك، فالمسلمون في أُحد أخطئوا خطأً فادحاً كما ذكرنا، عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وارتكبوا كبيرة من الكبائر هي الفرار من الزحف، ومع ذلك تنزل الآيات بالمغفرة للمسلمين عدة مرات، قال الله عز وجل وهو يصدر الحديث عن قصة أحد: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. ثم ذكر من صفات هؤلاء المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]، وبعد قليل في الآيات قال: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران:152] ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155]، فسبب الفرار من الزحف أن الشيطان استزلهم ببعض ما كسبوا، ثم ذكر العفو مباشرة فقال: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155]، فالصفحة البيضاء للمذنب تفتح أمامه طريق العمل الجديد.

محاسبة الإنسان يوم القيامة على الأعمال لا على النتائج

محاسبة الإنسان يوم القيامة على الأعمال لا على النتائج النقطة التاسعة وهي من أهم القضايا التي ترفع الهمة وتقوي العزيمة: أن الإنسان لا يحاسب يوم القيامة على النتائج، وإنما يحاسب على الأعمال، قال تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148]، فالثواب الحسن حقاً هو ثواب الآخرة، والذين انتصروا من الكفار في موقعة أو موقعتين قال الله عز وجل عنهم: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197].

القعود واليأس يوجبان العقاب من الله

القعود واليأس يوجبان العقاب من الله النقطة العاشرة لإخراج المسلمين من الهزيمة النفسية: أن طول القعود وطول اليأس يوجب العقاب من رب العالمين سبحانه وتعالى، فلابد من توازن الكفة، تبشير وإنذار أيضاً، حتى يتعادل الخوف من عقاب الله، مع الرجاء في رحمته، فالعمر أيامه معدودة، وليس هناك وقت طويل للتفكير وإعادة الحسابات، بل يجب أن يعود المسلم إلى ربه سريعاً، وإذا كان الإنسان بطبيعته يخطئ فليس هناك أي مبرر أن يصر على الخطأ، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] ثم حذر بقوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. هكذا تتوازن الكفة عند المسلم فيعمل واضعاً نصب عينيه سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت يخاف من عقابه سبحانه. إذاً: بهذه الوسائل العشر أخرج الله سبحانه وتعالى المسلمين من أزمتهم النفسية، وقربهم منه وغفر لهم، وغسل ذنوبهم، وأتاح لهم العمل من جديد بصفحة بيضاء، فيا له من أسلوب راقٍ، وأسلوب تربوي متميز.

خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى حمراء الأسد وأثر ذلك على المسلمين والمشركين

خروج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه إلى حمراء الأسد وأثر ذلك على المسلمين والمشركين أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج، وطبقه مباشرة على المسلمين، بل عمل عملاً في منتهى الرقي، فقد خرج بالمسلمين للجهاد في سبيل الله في اليوم الثاني مباشرة من غزوة أحد بما فيهم من جراح وآلام، سواء كانت آلاماً جسدية أو نفسية. خرج بهم للجهاد في سبيل الله، ولمتابعة قريش ومطاردتها، منتهى التحميس والتحفيز للعمل لله إلى آخر لحظة، وقال بعض المسلمين ممن لم يشارك في أحد: (يا رسول الله! نخرج معك، قال: لا، لا يخرج معنا إلا من شهد القتال)، فالناس الذين قاتلوا في أُحد هم الذين يخرجون، وكأنه يقول لهم: أنا واثق فيكم، وأعلم أن هذه غلطة عابرة ولن تتكرر، بل هي هفوة من عظماء ولا يمكن لها أبداً أن تتكرر، فيا لها من ثقة كاملة في الجيش المسلم مع ما به من جراح! وخرج من بقي من المسلمين، خرج من ثبت وخرج من فر وعلم أن الله قد غفر له، خرجوا جميعاً إلى منطقة تسمى: حمراء الأسد، وهي تبعد حوالي (8) أميال من المدينة المنورة، وعسكروا هناك في انتظار الجيش الكافر، وبدءوا يستطلعون الأخبار، فعلموا أن الجيش الكافر موجود على بعد (36) ميلاً من المدينة المنورة عند منطقة اسمها: الروحاء، وقد كان الجيش الكافر وقف وقفة هناك، وقال: نحن لم ننتصر إلا انتصاراً جزئياً، فالرسول عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر كلهم على قيد الحياة، وجيشه في المدينة المنورة ما زال موجوداً، فمن الممكن أن نرجع ونحاربهم مرة أخرى، نغزو المدينة المنورة، ونستأصل شأفة المسلمين وهم في حالة ضعفهم. كان الكفار يفكرون في ذلك، والرسول عليه الصلاة والسلام يفكر أيضاً في مطاردتهم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واقعياً، فقد أخذ المسلمين معه، لكنهم في حالة من الضعف والتعب والجراح والآلام، فهو يعلم أن الموقعة ستكون صعبة، ويريد أن يرفع من معنوياتهم، لكن لا يريد أن يضيعهم، ولا يريد أن يهلكهم في موقعة قد تكون خاسرة؛ لذلك حاول صلى الله عليه وسلم أن يخذل صف المشركين ويرهبه، فلقي شخصاً اسمه: معبد بن أبي معبد الخزاعي وبعثه برسالة إلى أبي سفيان، فقد كان أبو سفيان يريد أن يرجع إلى المدينة المنورة ليغزوها، وكان صفوان بن أمية وبعض المشركين معارضين له، وبينما هم في هذا الحوار إذ دخل عليهم معبد بن أبي معبد. فقال لهم: محمد قد خرج لكم في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحركون عليكم تحركاً، وقد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط. فخاف أبو سفيان وقال: ويحك ما تقول؟ قال معبد: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال معبد: لا تفعل إني ناصح، وهكذا أُحبط أبو سفيان وانهارت معنويات الجيش المكي كله، وهذا يؤكد أنهم يألمون كما يألم المسلمون: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، فلم يكن انتصاراً مبهراً حققوه في أحد، بل وقفوا خائفين مع أنهم (3000) شخص، وكان المسلمون كلهم (700) شخص استشهد منهم (70)، بالإضافة إلى أنهم ضعفاء وجرحى، ومع ذلك لم يستطع أبو سفيان أن يتحرك، بل إنه بعث شخصاً لكي يخذل الجيش الإسلامي، أرسل رسالة مع ركب من عبد القيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول أن يخذله قدر المستطاع. قال لهم: أبلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه. فوصلت الرسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصر الصحابة جميعاً على القتال، مع أن المسلمين (630) على أقصى تقدير، والمشركين (3000)، وهكذا خرج المسلمون من أزمتهم النفسية تماماً، وقهروا الانكسار الذي كانوا فيه، وتحولوا إلى شجعان وأبطال مجاهدين في سبيل الله يطلبون الموت من جديد، لا يخالفون أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما عرف المشركون ذلك رجعوا بسرعة إلى مكة، وأنزل الله عز وجل في ذلك قرآناً، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172]، أي: استجابوا لدعوة الرسول للخروج إلى حمراء الأسد {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ

الطريق إلى الأحزاب

سلسلة السيرة النبوية_الطريق إلى الأحزاب خلفت مصيبة أحد على المسلمين أزمات، فقد اهتزت هيبة المسلمين، وتعرضوا لأزمات كثيرة منها تجمع القبائل للهجوم على المدينة، وشاء الله أن يخرج المسلمون منها بسلام، ثم جاءت أزمة ماء الرجيع وأزمة بئر معونة، وكان وقع هاتين الأزمتين كبيراً على المسلمين، وبعد غزوة بني النضير استرد المسلمون هيبتهم في الجزيرة العربية، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببعث الجيوش والسرايا لتأديب الأعراب حول المدينة، واستطاع صلى الله عليه وسلم أن يفرقهم، وأرعب قريشاً بخروجه في غزوة بدر الصغرى.

ملخص مصائب أحد وعلاج ما فيها من نتائج سلبية

ملخص مصائب أحد وعلاج ما فيها من نتائج سلبية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني. في الدروس السابقة تحدثنا عن غزوة أحد والمصيبة الكبيرة التي وقع فيها المسلمون، سواء كانت المصيبة نتيجة مخالفة الرماة لأجل الدنيا، أو كانت نتيجة الهروب من أرض المعركة أو الإحباط، أو غير ذلك من الأمور. وذكرنا الآثار الوخيمة التي أتت على الجيش المسلم نتيجة هذه المصائب المتتالية، وذكرنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن دفن الشهداء المسلمين وعاد إلى المدينة المنورة، استطاع بفضل الله عز وجل وبالمنهج الرباني الحكيم أن يخرج بالمسلمين من هزيمتهم النفسية، وأن يصلح انكسارهم الكبير، وينتقل بهم ليس فقط إلى مجرد تضميد الجراح، بل إلى مرحلة الهجوم من جديد على جيش الكفار، وإعادة الكرة عليهم، ورفع الرأس من جديد، وإعادة الهيبة إلى الأمة الإسلامية، وخرج بعد أقل من أربع وعشرين ساعة إلى غزوة حمراء الأسد يطارد المشركين، وعسكر بالقرب من المدينة المنورة على بعد ثمانية أميال، ولما علم بذلك جيش المشركين فر إلى مكة، ولم يقو على اللقاء الجديد مع المسلمين، هذا ملخص ما قد ذكرناه في الدروس الثلاثة السابقة. إن قريشاً قبل أن تغادر أرض أحد كانت قد أعلنت للمسلمين أنها على استعداد للتلاقي مرة ثانية، واختارت بنفسها المكان الذي سيتم فيه اللقاء الثالث بينها وبين المسلمين، واختارت موقع بدر، لترد بذلك هزيمة بدر؛ ولترفع من جديد من قيمة قريش وهيبتها في وسط الجزيرة العربية، وقبل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، وقال: (موعدكم في قابل) أي: في العام القادم في نفس المكان. إذاً: كان اللقاء الأول بين المسلمين وبين الكفار في بدر في رمضان سنة (2هـ)، واللقاء الثاني كان في شوال سنة (3هـ)، واللقاء الثالث منتظر ومفترض أن يكون في شوال سنة (4هـ)، ووافق الطرفان على ذلك، وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام من موقعة حمراء الأسد إلى المدينة؛ ليعيد حساباته من جديد. وعلى الرغم من أن غزوة حمراء الأسد أعادت شيئاً من الهيبة إلى الأمة الإسلامية، إلا أنه لا شك أن موقعة أحد هزت سمعة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية بكاملها. وقد رأينا بعد غزوة بدر انتشاراً إسلامياً كبيراً في الجزيرة العربية، بل سيطرة عسكرية على مناطق بعيدة جداً عن المدينة المنورة، ورأينا رضوخ كثير من القبائل العربية -على الرغم أنها ما زالت على إشراكها- لسيطرة المسلمين العسكريين؛ لأن وقع بدر على قلوب الناس كان كبيراً فعلاً، فقريش من أعظم القبائل العربية التي هزمت على يد هذه المجموعة الناشئة، ولا شك أن في ذلك مقومات قوة وظهور لا يتخيلها عموم القبائل العربية في ذلك الوقت؛ ولذلك كانت السنة التي تلت بدراً لها وضع ممتاز جداً بالنسبة للمسلمين. وعاش المسلمون فيها فترة سعيدة من فترات إنشاء الدولة الإسلامية، وعلى النقيض تماماً الفترة التي تلت غزوة أحد كانت فترة صعبة جداً من أشد فترات السيرة النبوية صعوبة. وقد مررنا بفترات كثيرة وصعبة في السيرة النبوية، وكل فترة لها طابع خاص، لكن الفترة التي أعقبت غزوة أحد بدأت كل القبائل العربية المحيطة بالمدينة المنورة وغيرها من أعداء الأمة تتربص الدوائر بالأمة الإسلامية؛ لأنها مصابة إصابة فادحة، فسبعون من الشهداء، وفرار الجيش الإسلامي من أرض موقعة أحد كان له واقع سيئ على نفوس المسلمين وسمعتهم، فمع أنهم قاموا من جديد في حمراء الأسد، لكن هذا الأمر لم يرد الكثير من السوء الذي أصاب السمعة الإسلامية. تعالوا لنحلل الموقف بعد غزوة أحد. إن أعداء الأمة الإسلامية الآن حوالي أربع طوائف: الطائفة الأولى الكبيرة: هي قريش، وقد هدأت بانتصارها في أحد، وقبلت ذلك الانتصار تعويضاً عن بدر، ولا يزال أمامها سنة قادمة للحرب مع المسلمين، بالإضافة إلى أنها ما زالت تتربص الدوائر بالمسلمين؛ لأن المسلمين ما زالوا يسيطرون على الطرق التي تمر منها القوافل التجارية القرشية من مكة إلى الشام، فلا بد لقريش أن تنهي أمر المسلمين، كذلك لم تكن مقتنعة تمام الاقتناع أنها أدت ما يجب أن تؤديه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ما زال حياً وأبو بكر ما زال حياً وعمر ما زال حياً، وهؤلاء هم الذين سأل عنهم أبو سفيان، وهم يعلمون أن الدين الإسلامي نفسه عنده الإمكانية لتغيير الأفراد تغييراً جذرياً، ورأوا مجموعة كبيرة من الصحابة كانوا أناساً عاديين قبل الإسلام، وبعد الإسلام أصبحوا من القادة والمفكرين والمفاوضين وغير ذلك من الرموز الإسلامية المبهرة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهم يخافون من كون هؤلاء القادة ما زال

الأزمات التي مر بها المسلمون بعد غزوة أحد

الأزمات التي مر بها المسلمون بعد غزوة أحد في الشهور الستة الأولى بعد غزوة أحد مر المسلمون بخمس أزمات خطيرة جداً، كلما خرجوا من أزمة دخلوا في أخرى، وهذا تصديق لكلام رب العالمين سبحانه وتعالى في قوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فالدولة كانت للمسلمين بعد بدر، وأصبحت لغير المسلمين بعد أحد.

دعوة بني أسد لحرب المسلمين

دعوة بني أسد لحرب المسلمين الأزمة الأولى: دعوة بني أسد لحرب المسلمين، كان فيهم طليحة بن خويلد الأسدي، جمع الجيوش وبدأ يفكر في غزو المدينة المنورة، وعلم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، فبعث بسرعة سرية أبي سلمة لمحاولة تفتيت هذه القوى قبل أن تتجمع وتهاجم المدينة المنورة. خرجت سرية أبي سلمة في (1) محرم سنة (4هـ) يعني: بعد حوالي شهرين ونصف شهر تقريباً من غزوة أحد، واستطاعت هذه السرية أن تشتت شمل بني أسد، وبالفعل تفرقوا في الجبال ولم يتم الغزو، لكن ظهرت نوايا المؤامرة من قبل القبائل المحيطة بالمدينة المنورة.

تجمع قبائل هذيل لحرب المسلمين

تجمع قبائل هذيل لحرب المسلمين الثانية: في نفس الوقت الذي جاء فيه خبر تجمع بني أسد للهجوم على المدينة المنورة، تجمعت بعض القبائل الأخرى بقيادة رجل اسمه خالد بن سفيان الهذلي لغزو المدينة المنورة أيضاً، وهو من أعظم وأكبر وأشرس المقاتلين العرب، كان رجلاً ضخماً، وله قدرات قيادية هائلة، جمع قبائل هذيل كلها، وهي بطون كثيرة جداً. وعندما وصل الخبر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام اهتم جداً بالأمر، وأرسل إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، وذكر له قصة خالد بن سفيان الهذلي، وطلب منه أن يذهب إليه ويقتله؛ لأنه هو الرأس المدبر، ولو قتل فإنه من الصعب أن تتجمع هذه القبائل، وبالتالي يتجنب الرسول عليه الصلاة والسلام مأساة كبرى قد تتعرض لها المدينة المنورة، وظهرت هناك مشكلة، وهي أن عبد الله بن أنيس لم ير من قبل خالد بن سفيان الهذلي ولا يعرفه، فقال: (يا رسول الله! انعته حتى أعرفه)، فأعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام علامة غريبة، قال: (إذا رأيته وجدت له قشعريرة) يعني: حين تراه ستصاب بالرعب، فقال عبد الله بن أنيس: (يا رسول الله! ما فرقت من شيء قط) أي: ما خفت من شيء أبداً، فقال له صلى الله عليه وسلم: (بلى، آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته). ذهب عبد الله بن أنيس ودخل المنطقة التي فيها قبائل هذيل، ومن بعيد رأى خالد بن سفيان الهذلي يقول عبد الله بن أنيس: (فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله). أخذ عبد الله بن أنيس يفكر كيف يمكن أن يغتال هذا الرجل الضخم، فقرر أن يذهب إليه ليحتال عليه بحيلة، وكان ذلك بعد وقت دخول صلاة الظهر، وخشي أن يفوته وقت صلاة الظهر، ولكنه إذا صلى الظهر قد يراه فيكتشف أمره؛ لذلك اجتهد عبد الله بن أنيس اجتهاداً غريباً، وبعد ذلك أقر الشرع هذا الاجتهاد، وهو أن يصلي وهو يسير إليه، قال: (فصليت وأنا أمشي نحوه أومئ برأسي الركوع والسجود) يعني: يشير برأسه للركوع والسجود وهو يمشي، سبحان الله! وأصبحت هذه الصلاة معروفة في الفقه بصلاة الطالب وصلاة المطلوب، أي: الذي يَطلُب رجلاً للقتل والذي يُطْلَب للقتل. قال: (فلما انتهيت إليه، قال: من الرجل؟ - أي: خالد يسأل عبد الله بن أنيس - قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لهذا، قال: أجل. أنا في ذلك، قال عبد الله: فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركته، وعدت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما رآني قال قبل أن أتكلم: أفلح الوجه. قلت: قتلته يا رسول الله! قال: صدقت، ثم قام معي صلى الله عليه وسلم، فدخل بيته فأعطاني عصاه، فقال: أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس! قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك؟ فقال: فرجعت إليه صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة) يعني: ستكون هذه العصا حجة له عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كافأني يوماً على عمل عظيم قمت به لصالح الأمة الإسلامية. ولما مات عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه أمر أن تدفن معه هذه العصا، وبالفعل وضعت معه في كفنه رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: حصل للمسلمين أزمتان: أزمة بني أسد، وأزمة هذيل، وخرج المسلمون بفضل الله من هاتين الأزمتين بسلام.

أزمة بعث الرجيع

أزمة بعث الرجيع الأزمة الثالثة: كانت أزمة تعرف في التاريخ ببعث ماء الرجيع، كانت في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة يعني: بعد أحد بأربعة شهور، جاءت قبيلة عضل وقبيلة قارة، وهما قبيلتان من القبائل العربية، وذكرا أن فيهما إسلاماً، يعني: هناك بوادر إسلام، لكنهما لا يعرفان شيئاً عنه، فطلبا بعثاً من الصحابة يذهب إليهما ليعلمهما الإسلام والقرآن. واختار الرسول عليه الصلاة والسلام عشرة من الصحابة، وأمر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، وذهبت هذه المجموعة لتعليم هؤلاء الإسلام، وفي الطريق غدرت بهم قبيلتا عضل وقارة، واستصرخا عليهم حياً من هذيل، فهذيل ما زالت متوترة لقتل قائدهم خالد بن سفيان الهذلي، فلما حصل هذا الاستنفار تجمعوا حول هؤلاء العشرة، وطلبوا منهم النزول على العهد والميثاق، وقالوا: إذا نزلتم على العهد والميثاق لا نقتل منكم أحداً، فرفض عاصم بن ثابت رضي الله عنه، وقال: لا أنزل على عهد مشرك، وقاتل في أصحابه هذا القتال أسفر عن قتل سبعة من المسلمين، وبقي ثلاثة منهم فنزلوا على العهد، هؤلاء الثلاثة: هم خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة وواحد ثالث لم يعرف الرواة اسمه، فلما أمسكوا بالثلاثة أخذوا يكتفونهم، فقال الثالث: هذا أول الغدر. فبدأ يقاوم فقتلوه، وبقي الاثنان، ولما وصلوا بهما إلى بلادهم باعوهما لأهل مكة، فاشترى صفوان بن أمية زيد بن الدثنة وقتله بأبيه أمية بن خلف الذي قتل في بدر، وأما خبيب بن عدي فقد اشترته مكة وأخذوا جميعاً يتجمعون لقتله، وخرجوا به إلى التنعيم حتى لا يقتلوه في البلد الحرام، وأجمعوا على صلبه ليقتل، فقال رضي الله عنه وأرضاه: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين خفيفتين، ولما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزدت في الركعتين، ثم رفع يده وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم بدأ ينشد مجموعة من الأبيات قال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي أي: في أي مكان، وبأي طريقة، مادام في سبيل الله فهذه أمنيتي، ثم قال له أبو سفيان قبل أن يقتل: أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: لا والله ما يسرني أني في أهلي، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه تؤذيه، سبحان الله! كان الصحابة جميعاً يفتدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، وكان هذا الكلام يخرج من قلبه رضي الله عنه وأرضاه، ثم قدم للقتل فقتل صابراً محتسباً مقبلاً رضي الله عنه وأرضاه ولم يقر بكلمة واحدة من الذي يريدون. أما قائد هذه المجموعة عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كانت هناك امرأة من بني عبد الدار اسمها سلافة بنت سعد أقسمت أنها إن أمسكت بـ عاصم بن ثابت لتشربن الخمر في قحف رأسه؛ لأنه اشترك في قتل بعض من بنيها، هذا المرأة مات زوجها وأربعة من أولادها في موقعة أحد، وهم من بني عبد الدار، وسمع مجموعة من بني لحيان بمقتل عاصم بن ثابت، فذهبوا بسرعة ليأخذوه ويذهبوا به إلى سلافة بنت سعد فلما ذهبوا إليه وجدوا مجموعة كبيرة من الدبر - ذكور النحل- تغطي عاصم بن ثابت رضي الله عنه، فما استطاعوا أن يقتربوا منه، فابتعدوا عنه وبالليل جاءوا ليأخذوه، فوجدوا أن سيلاً من السيول -يقول الراوي: وليس في السماء سحابة واحدة- قد احتمل عاصم بن ثابت إلى حيث لا يعلمون واختفت الجثة؛ وذلك لأن عاصماً رضي الله عنه كان في حياته بعد أن أسلم يقسم أنه لا يمس مشركاً، وفي قتاله يوم الرجيع قال: اللهم إني قد حميت دينك أول النهار، فاحم لحمي في آخره. فحمى الله لحمه وهو ميت. ولما كانت هذه القصة تحكى أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يحفظ الله عز وجل العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته. إذاً هذه قصة ماء الرجيع، وكانت مأساة حقيقية للمسلمين، عشرة من خيار الصحابة ماتوا في وقت واحد. في نفس الوقت الذي خرج فيه هؤلاء العشرة إلى ماء الرجيع حصلت قصة ثانية في وقت متزامن، يعني: قبل أن يصل خبر قتل هؤلاء العشرة حصلت قصة ثانية خطيرة جداً.

أزمة بعث بئر معونة

أزمة بعث بئر معونة جاء عامر بن مالك أحد زعماء بني عامر؛ ليقدم هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعل ذلك نوعاً من التقارب بين القبائل وليس طمعاً في الإسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أسلمت؟ قال: لا. قال: فإني لا أقبل هدية من مشرك، قال: فإن القوم يرغبون في الإسلام فابعث معنا من يعلمهم الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال عامر: فإني جار لهم) أي: إني أجيرهم من بني عامر، وبنو عامر هم معظم أهل نجد، فوافق الرسول عليه الصلاة والسلام، ولأن قبيلة بني عامر كانت قبيلة كبيرة وأهل نجد هم مجموعات هائلة من القبائل، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة كبيرة من الصحابة يعرفون بالقراء، كلهم كانوا يقرءون القرآن ويتدارسونه ليل نهار، كانوا من خيار الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم أجمعين، وكان تعدادهم سبعين صحابياً، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الخزرجي رضي الله عنه. وكان هؤلاء السبعون معظمهم من الأنصار، وأخرجهم صلى الله عليه وسلم ليقوموا بدعوة هذه القبائل الكبيرة للإسلام، وخرجوا في جوار عامر بن مالك زعيم بني عامر. وفي الطريق وبعد أن وصلوا إلى منطقة تعرف باسم بئر معونة عسكروا فيها، وهي بئر بين بني عامر وبين بني سليم، فنزلوا هناك وبعثوا أحد الصحابة وهو حرام بن ملحان برسالة إلى عامر بن الطفيل ابن أخي عامر بن مالك وكان عامر بن الطفيل رجلاً شريراً آثماً غادراً، وبينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم قصة قديمة. كان قد جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرض عليه أمراً قال: (أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك، أو أن أغزوك بأهل غطفان) يعني: يهدده، فرفض الرسول عليه الصلاة والسلام كل هذه المطالب جميعاً وردها. فلما بعث الصحابة حرام بن ملحان برسالة يدعونه فيها إلى الإسلام، أشار الغادر عامر بن الطفيل إلى أحد رجاله -مع أن الرسل لا تقتل- أن يطعنه من ظهره، فجاء الرجل بحربة كبيرة وطعنه من خلفه فأنفذها حتى خرجت من صدره رضي الله عنه، ولما اخترق الرمح ظهر حرام بن ملحان وخرج من صدره وأدرك أنه ميت -أخذ الدم الذي يتفجر من جسده بيديه، وبدأ يمسح به وجهه ورأسه ويقول: فزت ورب الكعبة فزت ورب الكعبة. سبحان الله! تخيل في هذا الموقف شاباً مثل حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه يُطعن هذا الطعن، وكل الذي يفكر فيه هذا الوقت أنه مات في سبيل الله عز وجل شهيداً، فقال: فزت ورب الكعبة. إنه لمنظر بديع، منظر يعبر عن صدق النوايا في القلب، يعبر عن الثبات إلى آخر اللحظات حتى في أشد المواقف صعوبة، كثير من الناس تهتز عند لحظات الموت، لكن {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. وأدهش الموقف كل الحضور، حتى إن جبار بن سلمى الذي طعن حرام بن ملحان في ظهره حين سمع ذلك، قال: فقلت في نفسي: ما فاز؟ ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ فقال له الناس حوله: يقول المسلمون: إن هذه شهادة، فسأل جبار بن سلمى عن ذلك حتى عرف أمر الشهادة في الإسلام، وذهب إلى المدينة المنورة يسأل عن ذلك، وكان ذلك سبباً في إسلامه رضي الله عنه وأرضاه. هذا الموقف خطير، ويجعلنا نسأل سؤالاً: هل الشهيد يتألم مثل ما نحن نتألم؟ يا ترى! بعد الطعنة التي دخلت في ظهره وخرجت من صدره يستطيع أن يفكر ويزن الأمور، ويقول كلاماً في منتهى الحكمة مثل هذا الذي قاله؟ يرد علينا الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول في الحديث: (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)، لما تقرصك حشرة أو ناموسة أو غيرها من الحشرات هذه القرصة التي تشعر بها أنت يشعر بها الشهيد، حتى ولو كان مطعوناً أو مضروباً بسيبف أو أطلق عليه صاروخاً، لا يشعر الشهيد إلا بمثل ألم القرصة، ونحن نوقن بذلك تماماً كما صور الحديث صلى الله عليه وسلم. إذاًَ: كان هذا أول الغدر، قتل حرام بن ملحان رضي الله عنه، ثم قام عدو الله عامر بن الطفيل باستنفار بني عامر لقتال المسلمين في بئر معونة، فرفض بنو عامر وقالوا: لا نخفر ذمة عامر بن مالك، فإن عامر بن مالك كان قد أجار المسلمين من بني عامر، فقام عامر بن الطفيل باستنفار بني سليم، فأجابته بعض البطون من بني سليم: عصية ورعل وذكوان، وجاءت هذه القبائل وأحاطت بالمسلمين الذين في بئر معونة، وقاتل المسلمون جميعاً حتى قتلوا إلا واحداً منهم أصيب إصابات بالغة، وظنوا أنه قتيل، هو كعب بن زيد

أزمة بني النضير

أزمة بني النضير الخامسة: أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام مجموعة من الصحابة، وذهب إلى بني النضير، ليجمع الدية لقتيلي عمرو بن أمية، وأخذ معه أبا بكر وعمر وطائفة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ولما ذهب إليهم اجتمع اليهود بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقيها على رأس محمد فيشدخه بها؟ وهكذا حاولوا اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يرون أن المسلمين في أزمة، كانت مصيبة أحد قبل أربعة شهور سبعين شهيداً، وشهداء ماء الرجيع عشرة، وشهداء بئر معونة سبعين، فالمسلمون في أزمة، واليهود أهل غدر وخيانة، فرأوا الفرصة سانحة في أن يقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتخلصوا من دولة الإسلام تماماً، فسألوا: من الذي يقوم بإسقاط رحى على رأسه؟ فقال رجل اسمه عمرو بن جحاش: أنا، فقال لهم سلام بن مشكم أحد زعماء اليهود: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، فانظر إلى أي حد كان اقتناعهم بأنه رسول الله! قال: ليخبرن بما هممتم به، وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه. لكن حيي بن أخطب زعيم بني النضير وأبو السيدة صفية رضي الله عنها وأرضاها أصر على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم. وبالفعل اجتمع الملأ على ذلك، وقام عمرو بن جحاش بحمل حجر كبير، وصعد فوق البيت ليلقيه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأثناء وهم يتفقون جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما يدبرون، فترك الرسول عليه الصلاة والسلام المكان، وانتقل مباشرة إلى المدينة المنورة، مضى ولم يقل لأصحابه شيئاً؛ حتى لا يلفت الأنظار، واتبعه أصحابه رضي الله عنهم. ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخبر الصحابة بأن اليهود كانت تدبر مكيدة لقتله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نقض صريح ومباشر للعهد الذي بينهم وبين المسلمين، ومن ثم قرر صلى الله عليه وسلم إجلاء بني النضير من المدينة المنورة. أرسل صلى الله عليه وسلم لهم رسالة يقول فيها: (اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها، وقد أجلتكم عشراً -أي: عشرة أيام- فمن وجدته بعد ذلك ضربت عنقه). ومع قوة اليهود وبأسهم وسلاحهم وعتادهم وحصونهم وقع الرعب في قلوبهم عندما قرأوا الرسالة، وقرروا الخروج فعلاً، وبدءوا يجهزون العدة؛ ليخرجوا من المدينة المنورة دون قتال. وعندما نووا الرحيل جاء إليهم رئيس المنافقين عبد الله بن أبي فقال لهم: لا تخرجوا من دياركم فإن معي ألفين، يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم، وقد كان اليهود على عزم أكيد للخروج، ثم ثبتهم في البقاء مجموعة من المنافقين، فالمنافقون خطرهم شديد جداً؛ لذلك يقول رب العالمين سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، المنافق في الظاهر أنه مسلم؛ لكن سوء أعمالهم لا يفكر فيها اليهود أنفسهم، ذهبوا إلى اليهود وثبتوهم وقالوا: إنهم سيحاربون معهم ضد المسلمين إن حدثت حرب، وأنزل الله عز وجل قرآناً يفضح فيه أفعال اليهود والمنافقين. قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11 - 12]. هذا كلام الله سبحانه وتعالى، المنافقون قلوبهم ضعيفة واهنة؛ لأنها بعيدة عن الحق، قلوبهم في الظاهر مسلمة وفي الباطن تكره الإسلام وتتعاون مع اليهود، لكن إن جاء خطر عليهم تنكروا لعهودهم كما يتنكر اليهود، وكما يتنكر أعداء الأمة بصفة عامة لأخلاقهم ولعهودهم. فهذا الذي حصل تماماً، ثبت المنافقون اليهود، وثبت اليهود بكلام المنافقين ولم يخرجوا، وأرسلوا رسالة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون فيها: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. وكان الموقف في غاية الحرج، فالرسول عليه الصلاة والسلام مصاب في (150) صحابياً في خلال الشهور الأربعة التي مضت، وسيدخل الآن في حرب كبيرة مع بني النضير، لكن إن سكت سيكون هناك هزة كبيرة لسمعة الأمة الإسلامية، فكان لا بد من أخذ قرار حازم مع مثل هؤلاء، سواء كانوا بني النضير أو غيرهم، لا بد أن يحفظ كرامة الأمة الإسلامية. وبالفعل جهز صلى الله عليه وسلم جيشاً في ربيع الأول سنة (4هـ)، وانطلق لحصار بني النضير، وضرب الحصار عليها من كل مكان حوالي ست ليال، وفي بعض الروايات خمس عشرة ليلة، لكن الراجح: ست ليال فقط، ثم هزم ال

إرسال الجيوش والسرايا لتثبيت دعائم الأمن واسترداد هيبة الإسلام من جديد

إرسال الجيوش والسرايا لتثبيت دعائم الأمن واسترداد هيبة الإسلام من جديد

غزوة نجد

غزوة نجد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغل هذا الظرف، وبدأ يرسل السرايا والجيوش لتثبيت دعائم الأمن في الجزيرة العربية، ولاسترداد الهيبة من جديد، وأول جيش خرج كان على رأسه الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في غزوة تسمى غزوة نجد، وذهب لتأديب قبائل نجد التي تجمعت لقتل المسلمين في بئر معونة وماء الرجيع، ولما خرج فروا منه جميعاً، ولم يلق قتالاً صلى الله عليه وسلم، لكنه استعاد الهيبة بشكل كبير.

غزوة بدر الصغرى

غزوة بدر الصغرى أخذ صلى الله عليه وسلم يعد العدة ويجهز الجيش للقاء القادم مع المشركين، فقد كان هناك تواعد بين المسلمين والمشركين على اللقاء للمرة الثالثة: الأولى: بدر، والثانية: أحد، وكان من المفروض أن يكون اللقاء الثالث في هذه الأيام في السنة الرابعة من الهجرة. وبالفعل جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشه، وفي شعبان (4هـ) أرسل رسالة إلى قريش يتواعد معها على اللقاء في بدر، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيش قوامه (1500) مقاتل، وذهب إلى بدر، وخرج كذلك أبو سفيان من مكة بـ (2000) من المقاتلين، ووصل المشركون إلى منطقة تسمى مر الظهران قريبة جداً من مكة، وعسكر الجيش هناك، ولا يزال أمامه طريق طويل حتى يصل لبدر، لكن الجيش الذي خرج كان متثاقلاً تماماً، وعنده نوع من التردد الكبير في قتال المسلمين، وفي داخله الهلع والهيبة للمسلمين مع أن الموقعة الأخيرة كانت لصالح المشركين، ووقف أبو سفيان في مر الظهران يخاطب الجيش ويقول لأصحابه: يا معشر قريش! إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا. هكذا كان أبو سفيان، يتحجج بحجج واهية، فلو كانوا حريصين على القتال لخرجوا. فاجتمع القوم على الرجوع، ولم يعارض أحد أبا سفيان في قضية العودة إلى مكة المكرمة، وبذلك تخلفوا عن اللقاء الذي وعدوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يبق الرسول عليه الصلاة والسلام في بدر ثلاثة أيام فقط، بل بقي ثمانية أيام متصلة؛ حتى يثبت للجميع أنه لا يهاب قريشاً ولا يخاف جيوشها ولا عدتها ولا عتادها، وكان في هذا أثر إيجابي كبير للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية.

تأديب قبائل منطقة دومة الجندل شمال المدينة

تأديب قبائل منطقة دومة الجندل شمال المدينة سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن بعض القبائل في شمال الجزيرة العربية في منطقة دومة الجندل بدءوا يتجمعون ويهاجمون القوافل المارة، ويقتلون المسلمين هناك، وهي قبائل كبيرة وضخمة في هذه المنطقة، فجمع الرسول عليه الصلاة والسلام جيشاً ليذهب إلى دومة الجندل، وهي تبعد عن المدينة مسافة أكثر من (450) كيلو، ذهب صلى الله عليه وسلم بنفسه، وهناك بدأ يفرق السرايا والجيوش في الأماكن المختلفة، وفروا منه جميعاً ولم يلق صلى الله عليه وسلم قتالاً، ولكنه ثبت من جديد دعائم الدولة الإسلامية في هذه المنطقة، بل وسمع الناس جميعاً في الجزيرة العربية بأخبار الجيوش الإسلامية التي تتجه هنا وهناك، وكان هذا في ربيع أول سنة (5هـ).

نتائج خروج المسلمين من الأزمات بعد أحد

نتائج خروج المسلمين من الأزمات بعد أحد كانت غزوة أحد في شوال سنة (3هـ)، وفي الشهور الستة التي بعدها كانت هناك أزمات كبيرة مرت بها الأمة الإسلامية، أزمة بني أسد، وأزمة خالد بن سفيان، وأزمة ماء الرجيع، وأزمة بئر معونة، ثم في النهاية أزمة بني النضير. خرج المسلمون من هذه الأزمات في يوم خروج بني النضير، واستطاع المسلمون من جديد أن يستعيدوا الهيبة، واستغل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف في نشر الهيبة والسمعة الجيدة للمسلمين في الجزيرة العربية، فقام بعدة سرايا وغزوات من أشهرها: غزوة نجد، واللقاء الذي كان منتظراً بينه وبين المشركين في بدر، عرفت في التاريخ بغزوة بدر الصغرى تمييزاً لها عن غزوة بدر الكبرى التي كانت في سنة (2هـ)، ثم قام بغزوة دومة الجندل. وكان لكل هذا نتائج كبيرة في الجزيرة العربية على كل المحاور، سواء كانت نتائج في داخل المدينة المنورة أو في خارجها.

استكانة المنافقين داخل المدينة المنورة

استكانة المنافقين داخل المدينة المنورة أولاً: استكان المنافقون في داخل المدينة المنورة، بعد مصيبة أحد نجم النفاق في المدينة المنورة، وجاهر المنافقون المسلمين بالعداء، بل وتعاونوا مع بني النضير ووعدوهم بالمساعدة ضد المسلمين إن حارب اليهود والمسلمين، لكن بعد هذه السرايا والغزوات استكان المنافقون تماماً، ورضخوا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتموا في قلوبهم الكفر، وأصبحوا في داخل صف المسلمين، وهذا فيه خطر كبير، لذلك نتوقع أن تحدث أزمة تكشف المنافقين قريباً.

تحرك مخاوف اليهود

تحرك مخاوف اليهود ثانياً: تحركت مخاوف اليهود؛ فلم يبق من اليهود في المدينة المنورة إلا بنو قريظة، وبقي يهود بني قريظة على العهد، لكن في قلوبهم قلق ورعب شديد من المسلمين، فهذه بنو قينقاع قد خرجت، وخرج وراءها بنو النضير، ولم يبق غير بني قريظة. كذلك يهود خيبر رأت أن اليهود يخرجون من داخل المدينة المنورة، وبعد أن ينتهي الرسول عليه الصلاة والسلام من قصة اليهود في المدينة المنورة، لا يستبعد أن يتجه إلى يهود الشمال إلى خيبر، أضف إلى ذلك أن بني النضير هاجرت إلى خيبر، ونقلوا ليهود خيبر كل الكراهية التي حملوها معهم من المدينة المنورة، كذلك زعماء بني النضير انتقلوا إلى خيبر، وفيهم من الشر ما فيهم، منهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وغيرهما من زعماء اليهود، فمن المتوقع أن تكون هناك مشاكل كثيرة تجيء من ناحية خيبر.

شعور قريش بالقلق والخوف من المسلمين

شعور قريش بالقلق والخوف من المسلمين ثالثاً: بدأت قريش تشعر بالقلق، ومع أنها كانت رافعة رأسها بعد أحد، لكنها اهتزت هزة كبيرة برجوعها عن بدر الصغرى، وعدم القدرة على مواجهة المسلمين، مع أن عدد الكفار في غزوة بدر الصغرى (2000)، وعدد المسلمين فيها (1500)، أضف إلى ذلك انقطاع التجارة إلى الشام تماماً بعد قيام الدولة الإسلامية، فهذا أمر لا بد أن تفكر فيه قريش. إذاً: قريش بدأت تشعر بالقلق الشديد تجاه المسلمين، لكن لا تدري كيف تتصرف؟

شعور القبائل المحيطة بالمدينة المنورة بالقلق والخوف من المسلمين

شعور القبائل المحيطة بالمدينة المنورة بالقلق والخوف من المسلمين رابعاً: القبائل التي تحيط بالمدينة المنورة هي قبائل الأعراب التي تعيش في البادية بدأت تشعر بالقلق الشديد، وأهم هذه القبائل قبائل غطفان التي منها قبائل بني سليم وقبائل بني هذيل وبني لحيان، وهي القبائل التي غدرت بالمسلمين سواء في بئر معونة أو في ماء الرجيع.

مقدمات تجمع الأحزاب لغزو المدينة

مقدمات تجمع الأحزاب لغزو المدينة لما رجع الرسول عليه الصلاة والسلام من غزوة دومة الجندل عاهد عيينة بن حصن أحد زعماء بني فزارة، وبنو فزارة فرع من فروع بني سليم، وهذا الفرع لم يكن ممن غدر بالمسلمين في بئر معونة؛ لذلك عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم عيينة لفترة من الزمان. إن هذه المتغيرات التي حدثت في الجزيرة العربية وفي المدينة المنورة في خلال السنة السابقة كانت سبباً لحدوث شيء كبير ضد المسلمين في الفترة القادمة، فهناك منافقون داخل المدينة ويهود، وهناك قريش، وهناك قبائل عربية غير مسلمة حول المدينة المنورة.

دور اليهود في تجمع الأحزاب لحرب المسلمين

دور اليهود في تجمع الأحزاب لحرب المسلمين كل الطوائف من اليهود والمشركين كانت حاقدة على الإسلام، وكان المسلمون في كل المعارك السابقة يواجهون كل قبيلة على حدة، فإذا تجمعت هذه القبائل فإنها ستحدث أزمة كبيرة على المسلمين، لكن كيف تتجمع هذه القبائل وهي متفرقة في شدة التفرق؟ فإن العرب لم يتجمعوا في يوم من الأيام، إنما هم عبارة عن قبائل منفردة؛ كل قبيلة لها قانونها ولها زعيمها ورأيها، فكيف تتجمع هذه القبائل على قلب رجل واحد لحرب المسلمين؟ هذا شيء مستغرب، لكن لليهود فيه دور كبير. لقد كان لليهود دور كبير في تجمع القبائل لحرب المسلمين، فقد جمعوا القبائل من هنا وهناك ولم يشتركوا هم في المعركة، وهذا هو دور اليهود المعروف عنهم منذ سنين طويلة، وما زالوا يعملون ذلك باحتراف إلى هذا الوقت، وسيستمرون على ذلك، فهم دائماً يؤلبون غيرهم على حرب الإسلام وحرب دعوة الحق، ويخرجون هم تماماً من الصورة والأحداث. وهذا ما فعله اليهود أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، خرجت من خيبر مجموعة من يهود خيبر وبني النضير، فيهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وأخذوا يؤلبون القبائل على المسلمين، ويجمعون القبائل المتفرقة لحرب دولة الإسلام في المدينة المنورة. ذهبوا أولاً إلى قريش وقالوا لهم: الفرصة سانحة في أن نجمع لكم القبائل من غطفان وبني سليم وغيرها لحرب المسلمين، ولم تصدق قريش أنها وجدت مثل هذه الفرصة؛ وذلك لأن قريشاً طعنت في كبريائها يوم أن عادت من بدر الصغرى دون قتال في شعبان سنة (4 هـ)، وبدأ القرشيون يجمعون من القبائل المحيطة بمكة المكرمة ما يستطيعون جمعه من الجنود، حتى جمعوا (4000) مقاتل، وانتقل اليهود بسرعة من قريش إلى غطفان في شرق الجزيرة العربية، والتقوا بزعماء غطفان هنا وهناك، وكانت هذه القبائل الغطفانية تنتظر الفرصة كذلك، فقال لهم اليهود: قريش معكم، فقد جمعت (4000) مقاتل، لكن غطفان لم تتشجع كثيراً على القتال لخوفها من المسلمين، مع أن قبائل غطفان كثيرة ومعها قريش، لكن اليهود ما يئسوا، قالوا لهم: إن لم تكونوا متحمسين على القتال فنحن نحمسكم بالمال، فمع بخل اليهود الشديد إلا أنهم ينفقون المال الكثير إذا كان هذا الإنفاق للصد عن سبيل الله، فهم ينفقون ببذخ وكرم كبير لا يتخيله أحد، هذه هي طبيعتهم، فوعدوا زعيم بني فزارة عيينة بن حصن وبقية زعماء غطفان أن يعطوهم ثمار خيبر كاملة لمدة سنة، وكانت خيبر غنية بالثمار، فكل ما ينتج فيها من ثمار يدفع لغطفان ولـ عيينة بن حصن على أن يجمعوا جيشاً قوامه (6000) مقاتل. إذاً: ستة آلاف من غطفان وبني سليم، وأربعة آلاف من قريش، وهكذا اجتمع (10. 000) مقاتل، وطارت الأنباء المرعبة إلى المدينة المنورة، فقد كان هذا أخطر الأنباء من أول إنشاء الدولة الإسلامية، فإن العرب كانوا إذا وصل عددهم (1000) يفتخرون، يقول أحدهم: إنا لنزيد على الـ (1000)، ولن يغلب (1000) من قلة، إذاً: تخيل (10. 000) مقاتل قادمين باتجاه المدينة المنورة ليحاصروها من كل مكان، وفيهم من الحقد ما فيهم. ووصل الخبر على المسلمين وكان ثقيلاً، وميز الله بهذا الخبر الخبيث من الطيب، قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، فإنه لما سمع المؤمنون الصادقون بهذا الخبر قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، فالجيوش والأمم والأعادي كلهم سيتجمعون عليهم باختلاف إستراتجياتهم وأفكارهم، لكن وعدهم الله بالنصر عليهم إن هم تمسكوا بمنهجه سبحانه وتعالى، فها هو الجزء الأول يتحقق: وهو تجمع الأحزاب حول المسلمين، أما الجزء الثاني فلا بد أن يتحقق: وهو النصر عليهم ما داموا متمسكين بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم بفضل الله متمسكون: فالنصر آتٍ إن شاء الله، مع أن الظاهر مختلف تماماً، فالأحزاب (10. 000) مقاتل يحاصرون المدينة، فكيف الخروج من هذه الأزمة؟ فما زالوا لا يعرفون، لكنهم متيقنون تماماً في وعد رب العالمين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. أما على الناحية الثانية فارتعب المنافقون، كيف يحاربون عشرة آلاف مقاتل؟ والمنافقون لا يحسبون الأمر إلا بحسابات الورقة والقلم والحسابات المادية فقط، ولا يقتنعون بقدرة رب العالمين سبحانه وتعالى وبحكمته وبإرادته وبهيمنته على الكون بكامله، فلم يستطيعوا أن يعوا هذا الأمر، وأخذوا يحسبون كل شيء بالورقة والقلم، كيف يحارب المسلمون (10. 000)، والمسلمون داخل المدينة بكاملها سواء كانوا من الرجال أو من النساء أو من الأطفال أو من الشيوخ أو من الصادقين أو من المنافقين لا يصل عددهم إلى (10. 000)؟ فكيف سيحاربون جيشاً مؤهلاً لحرب المسلمين قوامه (10. 000) مقاتل؟ وحينما سمع

الأحزاب

سلسلة السيرة النبوية_الأحزاب تجمعت أحزاب الباطل من أجل استئصال شأفة المسلمين في المدينة، وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً، خاصة بعد أن نقض بنو قريظة العهد، ثم كان بعد هذا الزلزال نصر كما وعد الله سبحانه، فقد أرسل الله جنوداً لم يرها المؤمنون وجنوداً رأوها، وحاق المكر السيئ ببني قريظة، ورجعت الأحزاب خائبة ذليلة لم تحقق شيئاً، وأصبح المسلمون هم الذين يغزون ولا يغزوهم أحد.

مقدمات بين يدي غزوة الأحزاب

مقدمات بين يدي غزوة الأحزاب أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية للعهد المدني. في الدرس السابق تحدثنا عن الأحداث التي كانت بعد غزوة أحد، فإن الفترة التي أعقبت غزوة أحد كانت فترة عصيبة جداً على الدولة الإسلامية، اهتزت هيبة الدولة الإسلامية بصورة جعلت الكثير من الأعداء يطمعون فيها سواء من داخل المدينة أو من خارجها، وتحدثنا عن الأزمات الخمس التي مرت بالأمة الإسلامية في الشهور الستة الأولى بعد أحد، وانتهت الأزمة الخامسة منها بمواجهة مع يهود بني النضير، وبفضل الله انتصر المسلمون بالرعب الذي ألقاه الله عز وجل في قلوب اليهود، ونزلوا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من المدينة إلى خيبر، وبخروج اليهود في ربيع أول سنة 4 هـ دخل المسلمون في مرحلة أخرى، استعادوا فيها كثيراً من هيبتهم، وكانت السنة التي تلت خروج يهود بني النضير سنة طيبة جداً من سنوات الدعوة، سكن فيها المنافقون، وانتشرت فيها سرايا المسلمين في مناطق مختلفة من الجزيرة العربية، بل وأخلفت قريش موعدها مع المسلمين في شعبان سنة (4 هـ) فيما عُرف في التاريخ بغزوة بدر الصغرى، وهدأ يهود بني قريظة وأقروا بالعهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكرنا أيضاً في الدرس السابق أنه نتيجة استقرار أوضاع المسلمين، وتحرك القلق في قلوب جميع أعداء الأمة من يهود ومشركين ومنافقين، وبدءوا يفكرون في شيء يمنعون فيه الدولة الإسلامية من إكمال المسيرة، وتولى كبر التدبير لهذا الأمر فرقة من يهود خيبر ويهود بني النضير، وكونوا وفداً من حوالي (21) رجلاً، وتحرك هذا الوفد إلى الجزيرة العربية هنا وهناك؛ ليجمع الجموع لحرب المسلمين، واستطاعوا أن يحمسوا قريشاً على أن تخرج في (4000) مقاتل، واشتروا غطفان وبني سليم بالمال على أن يخرجوا في (6000) مقاتل، وتحركت هذه الجموع الضخمة (10000) مقاتل صوب المدينة المنورة، وكان الهدف استئصال المسلمين تماماً، ليس الغرض الانتصار في موقعة عابرة، ولكن الهدف هو إنهاء الوجود الإسلامي في الأرض بالمرة، ووصل النبأ المرعب إلى المدينة المنورة. أما المنافقون فقد ظهر نفاق معظمهم، وقالوا: لا طاقة لنا أبداً بحربهم، وظهرت عليهم علامات الرعب والهلع، وهؤلاء المنافقون لم يكتفوا بالهلع والقعود، بل حاولوا أن يمنعوا الآخرين من الحرب بحجة أنها حرب لا طائل من ورائها، قال الله عز وجل: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:18 - 19] هذا كان رد فعل المنافقين. أما المؤمنون الصادقون فإنهم ومع عظم الخبر إلا أنهم وجدوا فيه بشرى، والبشرى هي أن الله عز وجل وعد المسلمين بالنصر على أعدائهم إن هم تجمعوا لهم، ووعدهم بالنصر إن وصلت الأزمة إلى الذروة، أين هذا الوعد؟ يقول ابن عباس رضي الله عنهما: هذا الوعد في قوله تعالى في سورة البقرة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] المسلمون الآن يقتربون من مرحلة الزلزال، إذاً: النصر أيضاً يقترب.

الصورة المنهجية الصحيحة التي انتهجها المسلمون في مواجهة الأحزاب

الصورة المنهجية الصحيحة التي انتهجها المسلمون في مواجهة الأحزاب بدأ المسلمون يفكرون في الأزمة القادمة بإيجابية، ما الذي سوف نعمل؟ أول شيء فعلوه: إقامة مجلس شورى، وهذه هي البداية الصحيحة، وعند مراجعة صفات الجيش المنصور الذي قلناه قبل هذا في بدر ستجدونها جميعها موجودة بالتفصيل في جيش الأحزاب، فهذه سنن وليست مصادفات، وهكذا أقيم مجلس الشورى المكون من المهاجرين والأنصار وغيرهما من القبائل المختلفة، بل إن فيهم من ليس عربياً أصلاً مثل بلال الحبشي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم أجمعين، وهذه هي عظمة الدين الإسلامي، وانظر ما هي الخبرات التي تتراكم في الأمة الواحدة نتيجة جمع البشر من كل العناصر والقبائل والأجناس والبلاد تحت راية واحدة، فهذه أزمة الأحزاب، والله سبحانه وتعالى يجعل حلها على يد رجل ليس من العرب أصلاً، ولكنه من المسلمين، وهو سلمان الفارسي. هذا الجيش الإسلامي يستفيد من خبرة الجيش الفارسي، ومن تجارب شعب كامل مثل شعب فارس، كما أن سلمان الفارسي لم يدخل في الجماعة المسلمة إلا منذ أيام أو شهور قليلة، ولعل هذه هي المشاركة الأولى مع الصف المسلم، ومع ذلك تجده قد انصهر تماماً في الصف المسلم، وأصبح عضواً فاعلاً في الأمة، وأصبح له رأي معتبر لا يشعر بأنه غريب، فهذه هي دولته وأمته وهذا هو دينه، وسلمان أسلم من بداية الهجرة، لكنه كان عبداً عند أحد اليهود، ولم يُعتق إلا قبل الأحزاب بقليل. قال سلمان: (يا رسول الله! إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا) فعندما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة هذه الفكرة أعجبتهم، وسرعان ما ظهرت فيهم صفة الحماس وعدم التردد، وأخذوا القرار مباشرة، وهو لا بد أن نبدأ في الحفر حالاً.

واقعية المنهج النبوي في حفر الخندق

واقعية المنهج النبوي في حفر الخندق نقف على واقعية المنهج النبوي، ما معنى واقعية المنهج النبوي؟ قد يقول قائل: كيف يجبن المسلمون عن اللقاء فيحفرون الخندق ولا يحاربون؟ A أن الإسلام دين واقعي، مع القناعة التامة بأن الله سبحانه وتعالى معنا إذا كنا معه، وسينصرنا إن نصرناه، إلا أننا نأخذ بكل الأسباب، فـ (10000) مقاتل مشرك ضد (3000) مقاتل مسلم، وهم جميع أهل المدينة من الرجال، هو لقاء غير متكافئ، خاصة أن هؤلاء العشرة آلاف يمكن أن يزيدوا، ويمكن أن يضموا إليهم يهود خيبر، ويمكن أن تأتي قبائل مشركة أخرى غير قريش وغطفان وبني سليم. فاحتمال هذه الأحداث جعل الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة أن يختاروا محاولة تجنب اللقاء قدر المستطاع، فكانت فكرة الخندق فكرة ممتازة. لم نهرب من أرض الموقعة ولم نتنازل عن شيء، وسيكون العدو في مأزق؛ لأنه لن يستطيع أن يعيش طويلاً بعيداً عن بلاده وطعامه وشرابه وتجارته، فسيصبح عامل الزمن في صالح المسلمين، وفعلاً كانت فكرة ممتازة، وأسرع النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ مجموعة من الصحابة وتفقد أطراف المدينة؛ لكي يرى المكان المناسب لحفر الخندق، فهو يأخذ بكل الأسباب، ووجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن شرق المدينة وغرب المدينة لها حماية طبيعية من المرتفعات الشرقية والغربية، وأيضاً جنوب المدينة محمي بغابات طبيعية وأحراش، بقيت منطقة الشمال ومنطقة الجنوب الشرقي، ومنطقة الجنوب الشرقي فيها ديار بني قريظة، وهم إلى الآن على العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعهد لا يقضي فقط بعدم معاونة قريش ولا إجارتها، ولكن يقضي أيضاً بالدفاع المشترك عن المدينة المنورة إذا داهمها عدو، وأياً كان هذا العدو، ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ليؤكد العهد معهم، فأكدوا العهد، وتأكيدهم هذا مهم جداً؛ لأن جيوش المشركين لو دخلت من عندهم فهذا معناه إنهاء الوجود الإسلامي تماماً، واستئصال شعب المسلمين بكامله. إذاً: منطقة الشمال مفتوحة؛ ولذلك أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بحفر الخندق في شمال المدينة المنورة؛ ليغلق المنطقة ما بين الحرة الشرقية والغربية، وإذا كان القرار سهلاً وسريعاً فالتنفيذ قد يكون مستحيلاً ليس صعباً فقط، فمشروع حفر الخندق مشروع لا يتخيله عقل بأي حال من الأحوال، مشروع جبار بمعنى الكلمة، الخندق عمقه خمسة أمتار، وعرضه خمسة أمتار في أقل التقديرات، وبعض التقديرات تصل إلى عشرة أو اثني عشر متراً، وطوله اثنا عشر كيلو متر، وهذه المعلومات أخذت من الموقع الرسمي للمدينة المنورة على الإنترنت (موقع مساحة المدينة المنورة)، هذه الأبعاد معناها: أن الأرض التي يراد حفرها لا بد أن يكون حجمها ثلاثمائة ألف متر مكعب، وهذا رقم مهول جداً، ولقد جلست مع أكثر من مهندس لنتصور الجهد الذي بُذل في هذا، ففي هذا الوقت قدرة العامل على الحفر في اليوم الواحد لا يتجاوز خمسة أمتار مكعبة ويكون الحفر في أرض رملية سهلة وبعمق متر واحد فقط، وكلما كان العمق أكثر قلّت قدرة العامل على الحفر؛ لأن عليه أن يحفر في أرض أصعب، ويخرج التراب وينقله بعيداً، ثم يرجع فينزل مرة أخرى، أو تكون هناك فرق كثيرة لحمل ونقل الأتربة الهائلة التي تخرج من الحجم الضخم الذي سنحفره. كان تعداد الصحابة جميعهم في المدينة (3000) ولم يقم كلهم بالحفر، فهناك من هم مشغولون بالحراسة، وهناك من يخدم في أمور الطعام والشراب، ومنهم من يكون مريضاً أو كبيراً في السن، ومع ذلك لو أن كلهم شاركوا في الحفر فإنه من المستحيل أن تنتهي عملية الحفر للخندق في هذا الزمن القياسي، كان حفر الخندق في أسبوعين فقط، فلو أن كل صحابي سوف يشتغل (16) ساعة يومياً فإنه سوف يضاعف الشغل أيضاً، وهذا صعب جداً، وكل هذا مع افتراض أن الأرض رملية سهلة، فلو تخيلت أن الأرض صخرية فإنها تحتاج في زمننا هذا إلى معدات خاصة وأجهزة حفر متطورة، عندئذ ستعرف كيف كان هذا العمل جباراً، لو أضفت إلى هذا أننا نحفر لعمق خمسة أمتار وليس متراً واحداً، ولو أضفت إلى هذا أن نقل كميات التراب إلى أماكن بعيدة عن الحفر هي أيضاً مسئولية هؤلاء (3000) صحابي الذين يقومون بالحفر، ولو أضفت أن الخندق متسع في بعض الأماكن إلى أكثر من خمسة أمتار، ولو أضفت نقص خبرة المسلمين في هذا العمل، فهم أول مرة في حياتهم يحفرون خندقاً، ولو أضفت كثرة الأعداد العاملة وتوزيعها على (12) كيلو متر، كيف يمكن أن تدير فرقاً بهذه الضخامة؟ وإذا أضفت إلى كل ذلك أن هؤلاء يعملون في ظروف شديدة الصعوبة من جوع وبرد، وخوف من قدوم الأعداء في أي لحظة. لو أضفت كل هذا فإنك ستعرف أن هذا عمل جبار، وهذا العمل في زماننا يحتاج لكي يتم في أسبوعين إلى أكثر من مائتي لودر، وشواكيش إلكترونية، وعشرات السيارات للنقل كي تأخذ الأتربة، وكذلك إدارة هندسية كاملة، ويحتاج إلى مجموعة من الاستشاريين المتخصصين في الحفر. وإذا أردت أن تعرف صعوبة هذا المشروع قارنه مثلاً بمشروع الأنفاق، وانظر كيف كان صعباً، وقد أخذنا فيه عشر سنين، وتعطلت الدنيا في

ضوابط العمل الجماعي في حفر الخندق

ضوابط العمل الجماعي في حفر الخندق نجح مشروع حفر الخندق تماماً وكان عملاً جماعياً ضخماً، وهناك ضوابط جعلته ينجح، ما الذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكي يعطي المشروع هذا أكبر فرص النجاح؟ أدار الرسول عليه الصلاة والسلام المشروع بكفاءة غير متخيلة، وضع لنا قواعد ناجحة للأعمال الجماعية، وأي عمل جماعي في أي مشروع كبير، حتى ولو كانوا مجموعة من المشركين إذا أخذوا بهذه القواعد فإنه سوف يتم النجاح، فما بالكم لو كانوا مؤمنين، والله سبحانه وتعالى يؤيدهم؟! ما هي ضوابط العمل الجماعي الذي علمنا إياها الرسول عليه الصلاة والسلام؟ الضوابط كثيرة جداً، لكن لنأخذ منها أربعة ضوابط فقط.

مشاركة القائد لجنوده

مشاركة القائد لجنوده أولاً: مشاركة القائد لجنوده، مشاركة الحاكم لأتباعه، مشاركة صاحب العمل لعماله، فلو شارك القائد جنوده فإنهم لا شك يخرجون أقصى طاقاتهم، وليس نتيجة خوفهم من القائد لا، وإنما نتيجة شعورهم بقضية مشتركة مهمة، نتيجة إحساسهم أن الموضوع هذا موضوعهم جميعاً. فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي المطاع والحاكم لدولة المدينة والقائد الأعلى لجيش المسلمين ينزل بنفسه ليحفر مع المسلمين، لا يشرف على الحفر فقط! وإنما يقوم بالحفر بنفسه، فيضرب بالمعول بنفسه، ويأخذ التراب بنفسه، وكشف عن بطنه حتى لا تعوقه الملابس عن الحركة، والصحابة لا يرون بطنه من التراب الذي غطاه. وهذه هي ضوابط نجاح العمل الجماعي، مع أن الجيش جميعه في جوع ولا يوجد أكل، يقول أنس رضي الله عنه أيام الأحزاب: كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير -وأنس في ذلك الوقت كان صغيراً فتخيل حجم كفه- قال: فيُصنع لهم بإهالة سنخة -والإهالة: هي الدهن، سنخة يعني: تغير لونها وطعمها من القدم- توضع بين يدي القوم والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن. هو هذا أكلهم. فإن قيل: ما الذي يأكله قائدهم؟! قال أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع صلى الله عليه وسلم عن حجرين). إذاً: هنا القائد أكثر جوعاً من الشعب. فهذا شعب يمكن أن ينجح في أعماله الجماعية، وكثيراً ما نفشل في أعمالنا الجماعية؛ لأننا نسمع خطباً رنانة تدعو إلى الكفاح وإلى العمل والجهد وشد الحزام والانتماء، ثم لا نجد ممن يلقي الخطب الرنانة مساعدة في حفر الخندق، في الليل وحده شعب كادح وقواده مستريحون، شعب بائس وقواده مترفون، شعب جائع وقواده مشبعون، فكيف يمكن أن ينجح العمل في وضع مثل هذا؟ كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنده طعام قليل من اللحم والخبز، ولا يكفي إلا رجلين أو ثلاثة. يقول جابر رضي الله عنه: رأيت في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً -جوعاً شديداً- وأراد أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه إلى ضيافته، وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك أكلاً، ولم يذهب معه ليأكل سراً، مع أن هذه أكلة اعتزم عليها، وليس من الحرام أن يأكل منها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على الخندق، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الخندق! أخوكم جابر أعد لكم وليمة، وارتبك جابر، فذهب إلى امرأته يقول لها: الفضيحة الفضيحة، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق، وكان تعدادهم ألفاً، فكيف سيكون موقف جابر وموقف امرأته؟ هناك موقف لطيف لامرأته، قالت لزوجها جابر: هل أعلمته أن الطعام لا يكفي إلا رجلاً أو رجلين؟ فقال: نعم. قالت: الله ورسوله أعلم. قالت ذلك بيقين. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ألف رجل، وبمعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم أخرج لهم الطعام من البرمة والخبز من الفرن، وأخذ يطعمهم عشرة عشرة، حتى انتهى منهم جميعاً، ثم أكل منه هو صلى الله عليه وسلم، أكل صلى الله عليه وسلم آخر الناس؛ لأنه لا يرى نفسه وإنما يرى شعبه فقط. إذاً: فهذا من أهم ضوابط العمل الجماعي وعلى أي مستوى، سواء كان العمل الجماعي يتكون من ثلاثة أو من عشرة أو من ألف أو من أمة كاملة؛ لا بد من مشاركة القائد لجنوده أولاً.

توزيع الأعمال على جميع الأفراد

توزيع الأعمال على جميع الأفراد ثانياً: توزيع الأعمال على الجميع، كثير من أعمالنا تفشل؛ لأن ثلاثة أو أربعة يأخذون العمل كله، وباقي الصف مستريح لا يشتغل، ونحن نظن أن الدنيا فيها إنجاز! مع أن هذا العمل أقل من (10%) من الذي ممكن أن نعمله لو اشتغلنا جميعاً. وزع الرسول صلى الله عليه وسلم الأعمال على الجميع، فالجميع يعملون، وليس هناك أحد أفضل من الآخر، ولا يوجد بينهم كسلان أو متهاون، وكان صلى الله عليه وسلم يعطي كل عشرة من الصحابة مسافة أربعين ذراعاً، وعندما ينتهون منها يأخذون غيرها وغيرها وهكذا.

الجمع في الإدارة بين الرفق والحزم

الجمع في الإدارة بين الرفق والحزم ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق، ليس هناك من يمشي من غير إذن، والإذن ليس تمثيلاً وليس شيئاً روتينياً لا معنى له، بل إن القائد للعمل الجماعي إن لم يقبل الإذن عندها لا يوجد إذن، ولو أن هذه الطاعة ليست واضحة في ذهن العامل، عندها لا يوجد معنى للعمل الجماعي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي قوله تبارك وتعالى يوجه التعليمات لنا ولنبينا عليه الصلاة والسلام: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] فمن ترى أن العمل لن يتأثر بغيابه أو ترى أن الظرف الذي يواجهه قهري فائذن له؛ لأن الإذن ليس مجرد إعلام لقائد العمل، هذا طلب يحتمل الرفض ويحتمل القبول، ومع ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يتعسف في استخدام هذا الأمر، بل كان فعلاً يأذن لبعض الصحابة إن رأى أن لهم ظرفاً قهرياً طارئاً. وكان الجميع ينظر بصدق إلى أهمية إنجاح العمل الجماعي الذي يقومون به، وفي نفس الوقت لم يكن هذا الحزم معناه الغلظة والجفاء والقسوة، وإنما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام كيف يمكن أن نجمع بين الحزم والهيبة والاحترام مع اللطف في المعاملة والرقة في الحديث، بل وبالدعابة والمرح والترفيه! عند لحظة حفرهم للخندق، واشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في نقل التراب، كان ينشد معهم شعر ابن رواحة رضي الله عنه: يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا وكان ينشده بنوع من الغناء، يمد صوته صلى الله عليه وسلم في آخره، ويراهم النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون في البرد والجوع ويقول: (اللهم إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة). وفي رواية: (فاغفر للمهاجرين والأنصار)؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أن يقول الشعر، فيرد عليه الصحابة ويقولون: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا نعم. هناك حزم ونظام وترتيب وخطة، لكن في جو جميل من الألفة والمحبة والسعادة الحقيقية. كيف لهذا العمل أن يفشل في هذا الجو؟ لا يمكن. إذاً: قلنا ثلاث ضوابط مهمة للعمل الجماعي: أولاً: مشاركة القائد لجنوده. ثانياً: توزيع العمل على الجميع. ثالثاً: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق.

رفع الهمة ببث الأمل في النفوس

رفع الهمة ببث الأمل في النفوس هناك ضابط رابع مهم يجعلك تشعر بأن هذا العمل يمكن أن يكون فرصة النجاح فيه كبيرة، هذا الضابط: رفع الهمة ببث الأمل في النفوس. لا أنسى أستاذاً كان يختبرني في الكلية امتحاناً شفوياً، ما إن دخلت عليه حتى قال لي: أسألك سؤالاً وأنا متأكد أنك لا تستطيع أن تجيب عنه! لماذا هذا الإحباط؟ لماذا تقتل في الذي أمامك كل أمل في النجاح؟ إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً في كل المواقف الصعبة، وهذا هو منهج حياته صلى الله عليه وسلم، والذي عمله أيام حفر الخندق كان فوق التخيل، ولم يقل لهم: هناك أمل في حفر الخندق، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على الأحزاب الآتية، ولم يقل لهم: هناك أمل أن ننتصر على العرب، لا، وإنما كان يرفع همتهم لما هو أعلى من كل أحلامهم، فهو يزرع بداخلهم أملاً في سيادة العالم، وليس في سيادة المدينة أو الجزيرة العربية فقط. قال صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صخرة صعبة اعترضت الصحابة: (باسم الله، الله أكبر، أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة) يبشر بفتح الشام في لحظة حفر الخندق، ثم ضرب الثانية فقطع جزءاً آخر من الصخرة، فقال: (الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر قصر المدائن الأبيض الآن) يقول لهم: أنا أرى قصر الحكم الفارسي ملكاً للمسلمين، ثم ضرب الثالثة فشق بقية الحجر وقال: (الله أكبر؛ أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني). عظّم من أحلامك، كبّر أهدافك، ليست قضيتنا هي الحصار، ولا قضيتنا هي الدولة الصغيرة التي نحن نعيش فيها، لا، قضيتنا هداية العالمين، قضيتنا حمل هذه الرسالة إلى كل بقاع الأرض، ويبشرهم أن الكلام هذا ليس بأوهام، وإنما سوف يحصل بإذن الله، وسيصل الإسلام إلى فارس والروم واليمن، وسيصل إلى كل بقعة في العالم، قديماً وحديثاً؛ لأن هذا وعد ربنا سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد؛ ولهذا نجح الصحابة في حفر الخندق العملاق، ولو كان عندهم يأس وإحباط ما كانوا ليستطيعوا أن يحفروا (20) أو (30) متراً مكعباً فقط، فما بالك في ثلاثمائة ألف متر مكعب. وحُفر الخندق ونجح المشروع، ومع ذلك لم ينته الامتحان بعد، لا زلنا سندخل في مرحلة الزلزال لنتخلص من كل المنافقين.

يوم الأحزاب وما فيه من أحداث

يوم الأحزاب وما فيه من أحداث جاءت الأحزاب في شوال سنة (5هـ) بعدد قوامه (10000) مقاتل من مشركي قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم، ولم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بحفر الخندق، بل جمع الصحابة الثلاثة آلاف الذين اشتركوا في الحفر، ونظّم نقط حراسة للخندق وفرق قتال وكتائب مقاومة؛ ليمنع المشركين من تخطي الخندق تحت أي ظرف، وتفاجأت الأحزاب بالخندق أمامهم، فقد وضعوا في حسبانهم كل شيء إلا هذا الخندق، قالوا: هذه مكيدة ما عرفتها العرب، وصدقوا، ولكنهم نسوا أن المسلمين ليسوا عرباً فقط، وبدأ المسلمون في رمي المشركين بالنبال؛ ليمنعوهم من عبور الخندق أو ردمه، وحاول المشركون بكل ضراوة أن يقتحموا الخندق، ونجحوا فعلاً في العبور من مكان ضيق في الخندق بفرقة على رأسها أحد أبطالهم، وكان اسمه عمرو بن عبد ود، ومعه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم من فرسان قريش، لكن تصدى لهم المسلمون، وحدثت مبارزة رهيبة بين عمرو بن عبد ود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنّ الله عز وجل على البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب بقتل الفارس القرشي الكبير عمرو بن عبد ود، وهرب بقية القوم الذين كانوا معه، وتكررت محاولات المشركين مرات، وتصدى أسيد بن حضير بكتيبة من مائتي مسلم لفرقة فرسان بقيادة خالد بن الوليد، واستطاع أن يردهم منهزمين، وأحياناً كان يدور الصراع حول الخندق لفترات طويلة، حتى إنه في أحد الأيام ظل المسلمون يدافعون عن الخندق قبل صلاة العصر حتى بعد صلاة المغرب، وضاعت عليهم صلاة العصر، والحدث هذا فريد في السيرة، ونادر جداً أن يضيع فرض على المسلمين، وهز هذا الأمر المسلمين، كيف يمكن أن تضيع منهم صلاة؟ حتى قال صلى الله عليه وسلم كما جاء في البخاري: (ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)، بل إن في مسند أحمد بن حنبل والشافعي رحمهما الله: أن الكفار أضاعوا على المسلمين في أحد الأيام صلاة الظهر والعصر والمغرب، فصلوها جميعاً مع العشاء. إذاً: المقاومة فعلاً كانت شرسة، وأُصيب فيها الكثير من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وطال الحصار شهراً كاملاً، والموضوع كما هو صعب على المسلمين كذلك كان صعباً على الكفار: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، وقد سبق الكلام على ذلك في غزوة أحد، ولم يستطع الكفار أن يتصرفوا، حتى جاء الحل من قبل اليهود، فاليهود هم الذين جمعوا هذه الأعداد بكاملها، وما زالوا يريدون استئصال المسلمين، فما هو الحل؟

نقض بني قريظة للعهد

نقض بني قريظة للعهد خرج مع المشركين أحد زعماء اليهود واسمه حيي بن أخطب، وكان من أشدهم كفراً وحقداً وغلاً وحسداً، قال لهم: هناك حل واحد وهو بنو قريظة. وبنو قريظة على الجنوب الشرقي للمدينة المنورة، لو فتحوا الأبواب للمشركين لدخول المدينة لانتهت المدينة، فما بالكم لو حاربوا مع المشركين؟ فعندما سمع المشركون الفكرة من حيي بن أخطب أعجبتهم، وبقي عليهم فقط أن يقنعوا بني قريظة بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسماح للمشركين بدخول المدينة لاستئصال الشعب المسلم بكامله، وذهب حيي بن أخطب؛ لكي يؤدي المهمة القذرة، والتقى بزعيم بني قريظة كعب بن أسد، فقال له حيي: إني قد جئتك يا كعب! بعز الدهر، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، وبغطفان على سادتها وقادتها قد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، ويحك يا حيي! فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً، لكن حيياً استمر في الكلام مع كعب وزين له الأمر، ثم وعده إن تخلفت قريش وغطفان عنه أن يدخل معه في حصنه، ويتحمل معه ما يحدث بعد ذلك، وتحت تأثير شيطان بني النضير وافق شيطان بني قريظة، وقرر التحالف مع المشركين لتنفيذ ما ذكره حيي، وهو ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه، وكان التحالف ليس فقط في أن يفتحوا المدينة، وإنما أيضاً ليقوموا بتجهيز فرق عسكرية للحرب ضد المسلمين. وصارت المدينة على أبواب هلكة قريبة، ماذا يحدث لو انساح عشرة آلاف مسلح بالإضافة إلى يهود بني قريظة إلى داخل المدينة؟ لا أحسب أن أحداً يبقى حياً في المدينة المنورة، لا بد أن تضع هذا في بالك؛ لتفهم رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على الخيانة التي حصلت من بني قريظة، ونقلت المخابرات الإسلامية هذا الخبر، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم خائفاً من خيانة اليهود، وجعل عليهم مراقبة. فهل من قبيل المصادفة أن يخون اليهود في تعاملهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل من قبيل المصادفة أن يظهر الانحراف في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة؟ لا شك أن هذا ليس مصادفة أبداً، ولا شك أن هذا واقع لا بد أن نُدركه جميعاً، فقد ذكره ربنا سبحانه وتعالى في كتابه حين قال: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] وانظر المعاني التي تأتي في ذهنك عندما تسمع اللفظ القرآني {أَوَكُلَّمَا} [البقرة:100] كل مرة هكذا؟ هل توجد مرة فيها وفاء لليهود؟ هل توجد مرة فيها أمانة؟ {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100] فالكلام هذا ليس مصادفة أبداً، بل هو قاعدة، ولا بد أن نعرفها جيداً. وصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم أي رد فعل أراد أن يستوثق من الخبر، فأرسل مجموعة من الصحابة للتأكد، فيهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وغيرهم، وقال لهم: (انطلقوا حتى تنظروا: أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم، أم لا؟ فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس) أي: إن كانوا حقاً قد غدروا فلا تذكروا ذلك أمام الناس؛ لكي لا يحصل إحباط (وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس). أما المسلمون اليوم فينشرون أخباراً وخططاً وتسليحاتٍ وأعداداً وإمكانياتٍ للعدو على صفحات الجرائد وعلى شاشات التلفاز، فيشعر المسلم المشاهد لهذه الأخبار أنه لا يوجد أمل ولا توجد فائدة أبداً. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه ليس كل ما يُعرف يقال، وذهبت المجموعة الإسلامية إلى بني قريظة، وتكلموا معهم مباشرة: أما زلتم على العهد؟ فجهر يهود بني قريظة بالسوء، وسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، ثم رجع الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: عضل والقارة، أي: غدروا كغدر عضل والقارة، وهي القبائل التي غدرت بالمسلمين عند ماء الرجيع، فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً لهذا الخبر، حتى إنه تقنع بثوبه -أي: غطى رأسه بالثوب- ومكث طويلاً صلى الله عليه وسلم يفكر ما الذي سيحصل؟ وبعد ذلك رفع رأسه فجأة، وقال للمسلمين بصوت عال: (الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين! بفتح الله ونصره) وهو يحاول قدر المستطاع أن يرفع من همة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. وعلى الرغم من محاولات الرسول عليه الصلاة والسلام لتجنب انتشار الخبر إلا أنه شاء الله سبحانه وتعالى للخبر أن ينتشر، وهذا أيضاً له حكمة واضحة، وهو الابتلاء والتنقية والتمييز بين صفوف المسلمين وصفوف ال

وصف الله سبحانه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمنافقين بعد نقض بني قريظة العهد

وصف الله سبحانه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمنافقين بعد نقض بني قريظة العهد وصف الله سبحانه وتعالى هذا الأمر في سورة الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10] من الشمال ومن الجنوب، {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11]. مرحلة الزلزال مرحلة خطيرة، ولا بد منها قبل أن يأتي النصر، ولكن إذا أتت فالحمد لله، معنى ذلك: أن النصر قريب إن شاء الله: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]. أما المنافقون فقد كان وضعهم مختلفاً، كان المشركون حول المدينة من الشمال، واليهود من الجنوب، ولا أمل مطلقاً في نظرهم في النجاة: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12] وبعضهم قال: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط. وبدأ المنافقون في التسرب من الصف: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13] والحمد لله بدأت تنقية الشوائب وبدأت تنقية المنافقين من الصف، وبدأ يقترب النصر.

ذكر ما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال بعد نقض بني قريظة العهد

ذكر ما قام به صلى الله عليه وسلم من أعمال بعد نقض بني قريظة العهد الرسول صلى الله عليه وسلم قائد عملي، لا بد أن يأخذ ردود أفعال واقعية، ما الذي سوف نعمله؟ الجيش الإسلامي في حراسة الخندق في شمال المدينة، أي: هم في منطقة خارج المدينة المنورة، والنساء والأطفال في داخل المدينة، واليهود إلى جوارهم، وأول شيء فكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إرسال جند لحماية النساء والأطفال. وما يروى من قصة دفاع السيدة صفية عن الحصن ضد اليهودي، ورفض حسان بن ثابت رضي الله عنه أن يهاجم اليهودي، فهذه رواية لا صحة لها؛ لأن السند منقطع، وفيها طعن لا يصح أبداً في صحابي جليل كـ حسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، ولا تنسوا أن حسان بن ثابت كان من الشعراء، ولو حدث هذا لما تركه أحد من شعراء قريش دون هجاء. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم بعث فرقة لحماية الجبهة الداخلية في المدينة المنورة، ولا بد أن نفكر في الموقف من جديد، الآن الحصار من قريش وغطفان واليهود، فلا بد أن نعمل محاولة لفك هذا التحالف الرهيب، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعرض مادي يحاول بهذا العرض أن يفك التحالف، فيا ترى يعرضه على من؟ على قريش، أم على اليهود، أو على غطفان؟ قريش لا يمكن، فتاريخ العداء طويل، وهؤلاء لم يأتوا من أجل المال، وإنما هناك دوافع عقائدية كبرى، أيضاً اليهود لا يمكن؛ لأن حقدهم على الرسول عليه الصلاة والسلام كبير جداً، وقد قالوا كلاماً في حق المسلمين ولا يستطيعون أن يتراجعوا عنه، وفي نفس الوقت التعاهد معهم غير مضمون؛ لأنهم متعودون على الخيانة، تبقى غطفان، فغطفان لم تأت إلى الحرب وهي متحرقة شوقاً لقتال الرسول عليه الصلاة والسلام، بل جاءت من أجل مال خيبر، فلو أعطوا من مال المدينة قد يرجعون، ولو رجعوا فإن صف المشركين سوف يتفكك، فستكون المحاولة في هذا الاتجاه! هذا كان تفكير الرسول صلى الله عليه وسلم، وفعلاً عقد الرسول صلى الله عليه وسلم اجتماعاً مع زعماء غطفان عيينة بن حصن والحارث بن عوف. فإن قيل: كيف تقابلوا وكيف وصلوا له؟ نحن لا نعرف، المصادر لم توضح ذلك، لكن يبدو أنها كانت فرصة سريعة حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجد وقتاً لإشراك الصحابة في اللقاء، أو أن اللقاء كان على مستوى عالٍ جداً من السرية فلم يشترك فيه من الطرفين إلا الزعماء، فالرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية المسلمين، وعيينة بن حصن والحارث بن عوف من ناحية غطفان، المهم أن اللقاء تم بعد مشاورات ومداولات طويلة، واستقر الطرفان على إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة لسنة كاملة، على أن تعود غطفان وتترك حصار المسلمين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام علّق هذه المفاوضات على قبول مجلسه الاستشاري لفكرة المفاوضات، خاصة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فهما سيدا الأوس والخزرج للسببين التاليين: أولاً: لأن الأوس والخزرج قريبون في مساكنهم في المدينة المنورة من غطفان؛ ولهذا فهم أدرى الناس بغطفان وبما يصلح معهم. ثانياً: أن ثمار المدينة هذه والتي ستكون ثمناً لفك الحصار ليست ملكاً شخصياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هو زعيم المدينة المنورة وزعيم الدولة كلها، وإن كان هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه يحترم الملكية الشخصية للأفراد، فالثمار هذه ملكية شخصية للأوس والخزرج. ولهذا بعد اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم مع زعماء غطفان عقد اجتماعاً آخر مباشرة مع السعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، وعرض عليهما الاتفاق الذي وصل إليه مع زعماء غطفان، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يظن أن هذا عرض مغر جداً ينقذ المدينة من الحصار الصعب، وكان هذا التشاور بعد شهر من الحصار تقريباً، فيا ترى كيف كان رد فعل زعيمي الأوس والخزرج؟ يا ترى فرحا بهذا العرض أم رفضاه؟ وانظر إلى ردهما والحكمة فيه، أول شيء قاله سعد بن معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! هل هذا أمر تحبه فنصنعه، أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيء تصنعه لنا؟). وانظر إلى مدى الفهم والحكمة، لو كان أمراً من الله، أو شيئاً يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم عندها لا بد أن نطيع وننفذ، وإن كان رأياً بشرياً ترى أن فيه المصلحة للمدينة نعرض فيه رأينا، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها - أي: من المدينة المنورة - ثمرة واحدة إلا قرىً أو بيعاً -أي: ضيافة أو بيعاً-، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا به وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من ح

إصابة سعد بن معاذ رضي الله عنه

إصابة سعد بن معاذ رضي الله عنه خرج المسلمون للجهاد من جديد، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يختبر الصدق في كلام سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحدث أمر شق على المسلمين كثيراً، لكنه كان حلماً لـ سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقد أُصيب البطل الإسلامي الشاب سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه بسهم في ذراعه أو كتفه، وكانت الإصابة شديدة الخطورة، وكانت أزمة فوق كل الأزمات التي مضت، فهو زعيم الأوس وحكيم من حكماء المسلمين وفارس من فرسانهم، وهو المطاع في قومه، والحبيب ليس فقط لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لله رب العالمين. فيا ترى! ما هو رد سعد بن معاذ وهو شاب يُصاب إصابة قاتلة وعمره (37) سنة؟ قال سعد وهو يدعو الله عز وجل: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أُجاهده فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أُجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها -أي: افجر إصابتي واجعلها تزيد- واجعل موتتي فيها. وهو شاب عمره (37) سنة يرجو من الله سبحانه وتعالى ألا يلتئم الجرح لكي يموت! وعندما يصبح الموت أمنية فهي موتة شهيد، وهو لا يضمن إن عاش بعد ذلك أنه سوف يموت شهيداً، فهذه فرصة، فيدعو الله ألا تضيع هذه الفرصة، ثم قال في آخر دعائه: ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. حتى في لحظاته الأخيرة لا ينسى غدر بني قريظة، ولا ينسى هموم الأمة الإسلامية، والموقف قد تأزم جداً، وهو أشد مراحل الزلزال، ولا يوجد في الصف أي منافق، فكلهم خرجوا ولم يبق إلا المسلمون الصادقون، والمسلمون قد عملوا ما بوسعهم، حفروا الخندق في وقت قياسي، وتحملوا الجوع والبرد، وحموا الخندق بأرواحهم، وقاتلوا بضراوة، وسهروا وتعبوا وكافحوا، وعملوا المفاوضات وعملوا مجالس الشورى، وعملوا كل شيء من الممكن أن يُعمل في مثل هذه الظروف، وقبل هذا وأثناء هذا وبعد هذا اجتهدوا في الدعاء، فهم يعرفون أن النصر ليس من عندهم أبداً، بل هو من عند الله سبحانه وتعالى، فالمسلمون كانوا يدعون الله تعالى أيام الأحزاب، ويقولون: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعو والمسلمون يؤمنون يقول: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).

دور جنود الرحمن في تحقيق نصره سبحانه للمسلمين يوم الأحزاب

دور جنود الرحمن في تحقيق نصره سبحانه للمسلمين يوم الأحزاب عندها انتهى الامتحان لم يبق إلا أن يأتي نصر الله سبحانه وتعالى، لكن كيف يأتي؟ يأتي كما تعودنا بطريقة لا يتوقعها المسلمون، وبطريقة لا يستطيعون أن يضعوها أبداً في حساباتهم؛ ليعلم الجميع أن الناصر هو الله عز وجل. كيف حصل النصر؟ من هم جنود الرحمن في الأحزاب؟ كل الذي سبق وأن قلناه في بدر يمكن أن نقوله في الأحزاب، لكن سأختار لكم ثلاثة جنود فقط من جنود الرحمن.

نعيم بن مسعود رضي الله عنه

نعيم بن مسعود رضي الله عنه الجندي الأول: نعيم بن مسعود. نعيم بن مسعود رجل من المشركين لا يتوقع إسلامه أبداً في هذا التوقيت، بل يكاد يكون مستحيلاً، لماذا أقول: إنه من الصعب جداً أن يسلم في هذه الظروف؟ نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي الغطفاني من قبيلة غطفان المحاصرة للمسلمين، كيف لرجل من هذا الجيش القوي المحاصر للمسلمين، وبعد أن مر شهر على الحصار، وقد ينهار المسلمون في أي لحظة، خاصة بعد خيانة اليهود، كيف له أن يترك جيشه القوي؛ لينضم إلى الجيش الضعيف المهدد بالموت في أي لحظة، ولعل بعض المسلمين كانوا يريدون أن يسلم نعيم بن مسعود قبل سنة أو سنتين أو أكثر، ولو أسلم قبل الأحزاب لما كان له دور في رفع الحصار على المسلمين، لكن كل شيء محسوب: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. جاء نعيم بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! إني قد أسلمت، وإن قومي غطفان لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد -أي: أن انضمامك إلينا لن يكون فيه فارق كبير- فخذّل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة) لكن الله سبحانه وتعالى هداه لفكرة عجيبة جداً! لو فكر فيها عشرين سنة لما وصل إليها، ولم تخطر هذه الفكرة على بال الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على بال أحد من حكماء الصحابة، لكن إذا أراد الله سبحانه وتعالى للنصر أن ينزل على المسلمين فسينزل ولا معجز له سبحانه وتعالى، ونعيم بن مسعود شخصية معتبرة قيادية معروفة عند اليهود وعند قريش، ذهب مباشرة إلى يهود بني قريظة وهم يظنونه مشركاً، ويعلمون أنه من قادة غطفان، وله معرفة ببواطن الأمور وما يجري خلف الأبواب. قال لهم: قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، قال: فإن قريشاً ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشاً قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، فقالوا: وما العمل يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يُعطوكم رهائن، قالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم ذهب نعيم إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونُصحي لكم، قالوا: نعم، قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم ما قاله لقريش. وهكذا شعرت قريش بالقلق، وكذلك غطفان، فأرسلوا رسالةً سريعة لليهود، وكانت الرسالة يوم السبت وبتدبير رب العالمين، وأنتم تعرفون أن السبت هي إجازة رسمية عند اليهود، قالت قريش لليهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك القراع والخف -أي: الدواب والماشية التي معهم- فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فبعث اليهود إليهم وقالوا: هذا اليوم هو يوم السبت ولا نستطيع، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فقالت قريش لغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود وقالوا: إنا لا نُرسل إليكم أحداً فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقال اليهود: صدقكم والله نعيم، فدبت الفرقة بين الفريقين وتفكك الأحزاب. لماذا يأتي إسلام نعيم بن مسعود في هذا الوقت بالذات؟ ومن أين أتته الفكرة؟ وكيف تم تطبيقها؟ وكيف وقع فيها اليهود؟ وكيف وقع فيها حكماء قريش وغطفان؟ ولماذا لم يحصل تحقيق ومحاولات لكشف الحقيقة؟ ليست هناك سوى إجابة واحدة فقط: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. هذا أحد جنود الرحمن في الأحزاب وهو نعيم بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

الريح

الريح الجندي الثاني: الريح، وهو جندي هائل من جنود الرحمن سبحانه وتعالى، فقد بعث الله سبحانه وتعالى ريحاً باردة قاسية البرودة على معسكر الكافرين، لم تترك لهم خيمة إلا قلعتها، ولا قدراً إلا قلبته، ولا ناراً إلا أطفأتها، فكانت الريح شديدة على الكفار وهيّنة على المسلمين، وليس بينهم إلا عرض الخندق، ووصلت شدة الريح وخطورتها إلى الدرجة التي دفعت المشركين لأخذ قرار العودة دون قتال وفك الحصار، ورفع الحصار عن المدينة المنورة. كيف اختارت الريح مكاناً وتركت مكاناً؟ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ولماذا لم تأت الريح من أول يوم، وانتظرت شهراً كاملاً؟ ليتم اختبار المؤمنين ويتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق. ولماذا لم تأت أقوى من ذلك لتهلك الكفار كما أهلكت عاداً وثمود؟ لأن معظم هؤلاء الكفار سيسلمون، ويكونون بعد ذلك في جيش الإسلام. الكون يجري وفق نواميس هي غاية في الدقة والإعجاز.

الملائكة

الملائكة الجندي الثالث: الملائكة، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]. وسوف نرى في حديث بني قريظة بعد قليل أن الملائكة شاركت في الحرب، بل وشارك جبريل عليه السلام بنفسه. وتم نصر الله عز وجل، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى معسكر الكفار؛ ليطمئن على سير الأحداث وعلى فعل الرياح بهم، وعلى أثر الفرقة التي أحدثها نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فعاد حذيفة بالخبر الجميل والنصر العظيم، لقد عزم الجميع على الرحيل، حدث كل هذا من غير قتال من المسلمين، وانظر إلى قوله تبارك وتعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25] وانتهت واحدة من أعظم معارك المسلمين، مع أنه لم يحدث فيها قتال، وكأن الله عز وجل يريد أن يقول لنا: ليس المطلوب هو تحقيق النصر، ولكن المطلوب هو العمل من أجله، المطلوب هو قرار الجهاد، المطلوب هو الثبات في أرض المعركة، المطلوب هو صفات الجيش المنصور، أما النصر فينزل بالطريقة التي أراد الله عز وجل، وفي الوقت الذي يريد سبحانه وتعالى.

غزوة بني قريظة وحكم الله فيهم

غزوة بني قريظة وحكم الله فيهم إن كانت قصة الأحزاب انتهت فقصة بني قريظة لم تنته بعد، فاليهود أعداء الله وأعداء المؤمنين وأعداء الحق وأعداء الأخلاق الحميدة وأعداء كل خير. رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الخندق بعد صلاة الصبح، وذهب إلى بيته بعد غياب قرابة شهر، وبعد عناء كبير ومشقّة بالغة يغتسل صلى الله عليه وسلم، فإذا بجبريل عليه السلام قد جاءه عند الظهر فقال له: (قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه) أي: أن الملائكة لم يضعوا السلاح، بل في رواية السيدة عائشة عند الطبراني والبيهقي تقول: (فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل). سبحان الله! يقاتل جبريل عليه السلام قتالاً حقيقياً في أرض المعركة. قال جبريل: (اخرج إليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة)، وفي رواية: (أن جبريل قال: إني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب) وهكذا سار جبريل عليه السلام في موكبه من الملائكة، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أمر المسلمين بالتوجه السريع إلى بني قريظة، وليس هناك راحة بعد هذا الشهر الطويل، إنما الراحة هناك في الجنة، أما الدنيا فهي دار عمل، فقال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) وهكذا اجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في ثلاثة آلاف مقاتل، هذا غير الملائكة، في حصار بني قريظة، واستمر الحصار (25) ليلة، تقريباً كالحصار الذي كان على المسلمين في المدينة المنورة. ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال تحول المسلمون من محاصَرين إلى محاصِرين في لحظات، واستمر الحصار كما قلنا (25) ليلة، وبعد كل تعب الخندق لا يزال المسلمون في قوة، يحاصرون (25) ليلة، وفي النهاية قذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود، فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان بإمكانهم المطاولة في الحصار، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يُقيدوا فقيدوا، فجاءت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وقد كان من المقرر أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقتل بني قينقاع، لكن جاء عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم الخزرج واستنقذهم منه، فجاءت الأوس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت: (يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء بنو قريظة موالينا فأحسن فيهم، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى قال: فذاك إلى سعد بن معاذ. قالوا: قد رضينا) فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة مصاباً، فأتوا به من المدينة المنورة راكباً على حمار، فلما رآه الأوس التفوا حوله، وقالوا: يا سعد! أجمل في مواليك فأحسن فيهم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكّمك لتحسن فيهم، وهو ساكت رضي الله عنه لم يرد عليهم، حتى قال لهم: قد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، عندما سمعوه يقول هذا عرفوا أن سعداً سوف يحكم فيهم حكماً شديداً، وأتى سعد ووصل إلى المكان الذي فيه الصحابة، ولما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: (قوموا إلى سيدكم، فقام الصحابة احتراماً لـ سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وأنزلوه من فوق الحمار، وقالوا: يا سعد! إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك. قال سعد: وحكمي نافذ عليهم؟ -أي: أن الذي سأقوله سوف يحصل فيهم؟ - قالوا: نعم، قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم، قالوا: وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه رضي الله عنه وأرضاه، وأشار ناحية الرسول عليه الصلاة والسلام)، وهو لا يريد أن يقول: وحكمي نافذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أدبه رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، وعليّ -أي: أن حكمك ينفذ عليّ- قال: فإني أحكم فيهم أن يُقتل الرجال وتُسبى الذرية وتقسّم الأموال، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) وبدءوا بتنفيذ حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وجمعوا يهود بني قريظة وقتلوا الرجال جميعاً، كان تعدادهم تقريباً (400) وفي بعض الروايات: (700)، وقتل معهم حيي بن أخطب الذي وعد قبل هذا كعب بن أسد. قال له: لو رجعت غطفان وقريش فسأدخل معكم في الحصن، ودخل في الحصن معهم وقُدِّم للقتل، فقد كان تاريخه أسود وطويلاً مع المسلمين، وانظر إلى قوله للرسول عليه الصلاة والسلام وهو في حالة القتل، قال: والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يغالب الله يُغلب، إذاً: هو يعرف أنه يُغالب رب العالمين سبحانه

استشهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه

استشهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه بعد أن انتهت قصة بني قريظة استجاب الله عز وجل لدعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه، فانفجر جرحه وسالت منه الدماء حتى خرجت من خارج الخيمة، رضي الله عنه وأرضاه، ليلقى ربه سعيداً راضياً، ويكفي في حق سعد بن معاذ ما رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حقه: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ). وعندما أخذ الصحابة سعد بن معاذ وجدوا جنازته خفيفة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة كانت تحمله) كانت قيمته كبيرة في ميزان الإسلام رضي الله عنه وأرضاه، مع أن كل عمره في الإسلام ست سنين، ومع ذلك فإن إنجازه يعجز عن مثله الناس في (30) و (40) و (50) سنة، فرضي الله عنه ورضي الله عن صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم أجمعين. هذه كانت قصة الأحزاب وبني قريظة، كانت موقعة عجيبة بلا قتال تقريباً: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] لكنها كانت امتحاناً عظيماً، ولم يثبت فيها إلا الصادق حقاً، وكانت في نفس الوقت غزوة فرقت بين مرحلتين رئيستين في السيرة، فما قبل الأحزاب شيء، وما بعد الأحزاب شيء. قبل الأحزاب كان الاضطراب والقلق والمشاكل الكثيرة وعدم الاستقرار، أما بعد الأحزاب فقد نضجت الدولة الإسلامية نضجاً جعلها قادرة على الوقوف بصلابة في وجه كل أعدائها، رسّخت الأحزاب أقدام المسلمين في الجزيرة العربية، ولم يجرؤ أحد بعد ذلك على تحدي هذا الكيان الصلب الجديد، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى العمق في تحليله لغزوة الأحزاب، فقد قال بعد أن ذهب الكفار: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) أي: نحن نسير إليهم. والفترة التي كانت بين الهجرة والأحزاب كانت فترة تأسيس للدولة الإسلامية، أما الفترة التي ستأتي بعد الأحزاب فستكون فترة تمكين لدين الله عز وجل في الأرض، وسنرى فيها صلح الحديبية وفتح خيبر ومؤتة وفتح مكة وحنين وتبوك، وسنرى فيها المراسلات إلى ملوك العالم وأمرائهم، وسوف نرى انتشار دين الله سبحانه وتعالى في المدن والبوادي، وسنرى تسابق الوفود لإعلان إسلامهم بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم، ستكون فترة سعيدة، وكل أحداث السيرة سعيدة، وكيف لا وهي حياة أفضل العالمين وخير البشر وسيد الدعاة وإمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم. وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا به في أعلى عليين، وألا يفرق بيننا وبينه حتى يدخلنا مدخله، وأن يسقينا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يربط على قلوب المؤمنين، وأن يستعملنا لدينه، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المسلمون بعد الأحزاب

سلسلة السيرة النبوية_المسلمون بعد الأحزاب المتتبع للأحداث التي حصلت من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب يجد فيها حنكة القائد المتمرس، فقد جعل صلى الله عليه وسلم تلك الفترة -بين الأحزاب والحديبية- بمثابة المدرسة التدريبية للصحابة، فقد كثف فيها الغزوات والسرايا التأديبية لمن سعى في النيل من المسلمين في الأحزاب وما بعدها، تلا تلك الغزوات والسرايا حدث هام، وهو صلح الحديبية الذي سماه الله تعالى فتحاً مبيناً.

مقدمة بين يدي ما بعد غزوة الأحزاب

مقدمة بين يدي ما بعد غزوة الأحزاب أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فلا شك أن دراسة التاريخ بصفة عامة من أهم الأمور في حياة البشر عامة، ومن أهم الأمور في حياة المسلمين بصفة خاصة؛ لأن هذا أمر إلهي مباشر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]. ولا شك أن أروع القصص وأهمها هي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس فقط لكونها أحداثاً مشوقة ومواقف عجيبة، لا، لكن لأن السيرة النبوية جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان قرآناً يمشي على الأرض، وحياته كانت تطبيقاً عملياً لكل توجيه رباني في الكتاب الكريم. واتباع السنة المطهرة والطريقة التي كان يحيا بها صلى الله عليه وسلم أمر ضروري ولازم لرضا رب العالمين ولدخول الجنة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]. إذاً: كيف سنتبع الرسول عليه الصلاة والسلام من غير أن نعرف سيرته وحياته؟! كنا قد تحدثنا في محاضرات سابقة عن فترات هامة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، تحدثنا في مجموعة من المحاضرات عن العهد المكي في غاية الأهمية، وفي مجموعة أخرى من المحاضرات تحدثنا عن تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة خلاص الخمس السنوات الأولى من الفترة المدنية، فالسنوات الخمس الأولى كانت مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية، بدأت من الهجرة وانتهت بانتهاء غزوة الأحزاب. وكانت مرحلة التأسيس مرحلة شاقة جداً ومرهقة، فقد تعددت فيها أنواع الصراع مع أعداء الأمة، فقد وجهوا كل طاقاتهم لمنع قيام الدولة الإسلامية، ولكن بفضل الله نجح المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في تأسيس دولتهم برغم كل هذه المعوقات، وبانتهاء غزوة الأحزاب انتهت هذه المرحلة الهامة لتبدأ مرحلة أخرى لا تقل أهمية أبداً عن المراحل السابقة، عبر عنها صلى الله عليه وسلم بقوله الدقيق الذي يعبر عن دراية كاملة بوضعه ووضع العالم من حوله، قال صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء الأحزاب: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) يعني: نحن سنسير إليهم؛ لأن الدولة الإسلامية بفضل الله أصبحت من القوة بحيث أنها لا يمكن أن تستأصل، وبحيث أنه من الصعب جداً على الآخرين التفكير الجدي في غزو المدينة المنورة، هذه المرحلة الجديدة نستطيع أن نسميها مرحلة الانتشار والفتح والتمكين لدين رب العالمين سبحانه وتعالى. سينتشر فيها دين الإسلام كما سنرى بسرعة مذهلة، ليس فقط في الجزيرة العربية، بل وما حولها، وسيتطور الأمر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لينتشر الإسلام في ربوع العالم المختلف. هذه هي طبيعة بناء الأمة الإسلامية، تبدأ شاقة وعسيرة؛ لأن كل الأعداء على اختلاف توجهاتهم يتعاونون في حربها، ثم تخرج الأمة من عنق الزجاجة في وقت ما لتبدأ مرحلة الانتشار والفتح والتمكين.

مرحلة الانتشار والفتح بعد غزوة الأحزاب

مرحلة الانتشار والفتح بعد غزوة الأحزاب في ذي العقدة سنة (5) هـ رحلت الأحزاب، وفي نفس الشهر بدأ المسلمون مرحلتهم الجديدة، حملات عسكرية متتابعة وسريعة لهدف رئيس هو تأديب وعقاب أولئك الذين شاركوا في حصار المسلمين في غزوة الأحزاب، أو تأديب أولئك الذين غدروا بالمسلمين في حوادث أخرى سابقة للأحزاب؛ ليعلم الجميع أن انتهاك حرمات الأمة الإسلامية لا يمر هكذا بدون عقاب. والحملات العسكرية بعد الأحزاب كانت مكثفة جداً، بمعدل حملة كل (20) يوماً تقريباً، وهذا فيه إرهاق شديد جداً على الدولة الإسلامية الناشئة، ومع ذلك هذا الإرهاق لا بد منه؛ لأن الأمة التي لا تجاهد تصاب بالذل، روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة)، العينة: نوع من أنواع الربا، (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد) ما هو الذي سيحصل؟ (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، ضعف المسلمين وذلة المسلمين لا يؤدي فقط إلى التهديد المستمر للدولة الإسلامية، ولكن يؤدي أيضاً إلى فقد الثقة في الدين الإسلامي نفسه، ستقول الناس: لو كان هذا الدين عظيماً لكافح من أجله أصحابه، لو كان هذا الدين عظيماً لفرض نفسه على الآخرين وسادهم، ولذلك جعل الله عز وجل من دعاء المؤمنين أن يقولوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس:85]، هذه الفتنة قد تكون نتيجة الوضع المتردي للمسلمين في فترة من فترات حياتهم، ينفر الناس من الإسلام، يهجرون الإسلام؛ لعدم ثقتهم في المسلمين، وهذا أمر خطير، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن تبقى صورة الأمة الإسلامية مرفوعة ومهابة وسط الجزيرة العربية.

سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق

سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق لقد بدأ الجهاد مباشرة بعد غزوة الأحزاب، وأول ما بدأ به تحرك تجاه أولئك الذين حركوا جموع العرب لغزو المدينة المنورة، وبالتحديد اتجاه اليهود وزعمائهم، وأهم هؤلاء الزعماء حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب كان قد قتل مع يهود بني قريظة في أعقاب غزوة الأحزاب مباشرة، وبعد مقتل حيي بن أخطب لزم على المسلمين أن يذيقوا سلام بن أبي الحقيق من نفس الكأس الذي كان يريد أن يذيقه للشعب المسلم بكامله في المدينة المنورة، من أجل هذا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية لاغتيال سلام بن أبي الحقيق في خيبر، وسلام بن أبي الحقيق من زعماء خيبر، وخيبر على بعد حوالي (150) كيلو شمال المدينة المنورة، وهي مهمة خطيرة جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل سرية كاملة بقيادة عبد الله بن عتيك رضي الله عنه وأرضاه. ونحن نرى الفكر السياسي والعسكري الدقيق لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بالسرية هذه سيقضي على رءوس الفتنة ومجرمي الحرب ومحركي الجموع، وبالتالي يستطيع بعد ذلك أن يسيطر على الأمور بصورة أيسر وبطريقة أسرع، وبحمد الله نجحت سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه في قتل سلام بن أبي الحقيق، وتخلص المسلمون من رأس كبير من رءوس الفتنة، وكانت خسارة كبيرة جداً لليهود، وبالذات أن ذلك كان بعد التخلص من بني قريظة، وبعد التخلص من حيي بن أخطب، وبات واضحاً للجميع أن الدولة الإسلامية في طريقها إلى النمو والقوة، وأن نجمها سيعلو في الجزيرة بكاملها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يهمل هذه النجاحات المتتالية في الأحزاب وبني قريظة وفي حادثة اغتيال الزعيم اليهودي سلام بن أبي الحقيق، بل استغلها بنشر القوات الإسلامية في كل مكان هنا وهناك، وبسط السيطرة على المناطق المختلفة في الجزيرة، وقام بتأديب وعقاب من اشتركوا في إيذاء المسلمين قبل ذلك.

سرية محمد بن مسلمة لتأديب بني بكر بن كلاب من قبائل نجد

سرية محمد بن مسلمة لتأديب بني بكر بن كلاب من قبائل نجد بعد عودة سرية عبد الله بن عتيك من خيبر، أرسل سرية بقيادة محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالقرطاء، وهي تبعد عن المدينة المنورة أكثر من (300) كيلو متر، وهذه السرية كانت موجهة إلى بطن بني بكر بن كلاب، وهم من قبائل نجد الذين اشتركوا في حصار المدينة المنورة أيام الأحزاب، مع أن هذه السرية كانت مكونة فقط من (30) فارساً فهي سرية صغيرة، إلا أنها حققت نتائج عظيمة جداً، لا تتناسب مطلقاً مع عددها الصغير. ألقى الله سبحانه وتعالى بهذه السرية الرعب في قلوب بني بكر، لقد هرب معظمهم من السرية، وتفرقوا في الصحراء وقتل منهم عشرة، واستاق محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه عدداً كبيراً جداً من الإبل والشياه، جاء في بعض التقديرات أنها (150) من الإبل و (3000) من الشياه. وكان من آثار هذه السرية أن ارتفعت هيبة المسلمين في قلوب الأعراب هنا وهناك، وخاف الناس منهم، وتحسن الوضع الاقتصادي في المدينة المنورة، وبالذات أن المسلمين لا زالوا خارجين من أزمة الأحزاب، فقد كانوا في حالة شديدة جداً من الفقر والجوع، وارتفعت معنويات المسلمين جداً، وشعروا بشعور المهاجم لا شعور المدافع. إذاً: هذه ثلاثة آثار إيجابية لهذه السرية البسيطة.

قصة أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه

قصة أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه عند عودة المسلمين من هذه السرية من أرض نجد أسروا رجلاً كان في طريقهم لم يكونوا يعرفونه، فلما أتوا به إلى المدينة المنورة تبين أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، فهو من أعظم وأكبر زعماء العرب مطلقاً في ذلك الوقت، فقد كان ذاهباً من بني حنيفة متنكراً من أجل أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن تعالوا لننظر ماذا سيحصل مع هذا الأسير؟ وما هي الآثار التي نتجت عن أخذ هذا الأسير الكبير؟ أخذ المسلمون هذا الأسير وربطوه في سارية من سواري المسجد النبوي، فخرج صلى الله عليه وسلم وسأله: (ما عندك يا ثمامة؟) لنتصور حلم ورفق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب رجلاً يعلم أنه جاء ليقتله: (ما عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: عندي خير يا محمد). ثم عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور، يقول: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: لو قتلتني ورائي قبيلة كبيرة جداً بنو حنيفة ستأخذ بثأري، فدمي لن يذهب هدراً. هذا أول شيء، وهذه صيغة تهديدية، (إن تقتل تقتل ذا دم). الثاني: (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: لو أطلقتني بغير فداء سأحفظ لك هذا الجميل وأشكره لك. الثالث: (وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت) يعني: إن طلبت المال كفدية سنعطيك منه ما تشاء؛ لأن ثمامة من أغنى أغنياء العرب، وتصور هذا العرض والمدينة في حالة من أشد حالات الفقر. إذاً: هذه اختيارات ثلاثة عرضها ثمامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام آثار آثر يرد سريعاً على هذه الاختيارات الثلاثة، بل تركه مربوطاً في سارية المسجد يشاهد حركة المسلمين وتعامل المسلمين وصلاة المسلمين ودروس المسلمين، فالمسجد كان حياة المسلمين كلها، كل شيء يحصل في المسجد، حتى الأمور السياسية والعسكرية الخطيرة تتم في داخل المسجد، ويؤخذ القرار في داخل المسجد. فـ ثمامة بن أثال وهو مربوط يرى واقع المسلمين وحياة المسلمين وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الأخ وأخيه، يرى الإسلام بصورة واقعية تماماً. فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني وسأل ثمامة نفس السؤال قال: (ما عندك يا ثمامة؟) فرد عليه بنفس الرد وعرض عليه الأمور الثلاثة، فتركه الرسول عليه الصلاة والسلام للمرة الثانية ورجع له في اليوم الثالث وقال له: (ما عندك يا ثمامة؟) فرد ثمامة بنفس الرد، هنا الرسول صلى الله عليه وسلم سيختار أحد الاختيارات الثلاثة، فالرسول عليه الصلاة والسلام رأى ثمامة رجلاً عاقلاً سيداً شريفاً زعيماً، ومن ورائه رجال وأقوام، وراءه قبيلة كبيرة جداً قبيلة بني حنيفة، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لاحظ انبهار ثمامة بن أثال بالمسلمين وبطبيعة الدين الإسلامي، ولاحظ انبهار ثمامة بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إسلام ثمامة محتمل، فلو أطلقه بدون فداء لعل هذا يؤثر فيه ويسلم، وقد يسلم من ورائه أيضاً قبيلة بني حنيفة، وكان إسلام الرجل أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الدنيا جميعاً، أن يسلم واحد ويستنقذ من الكفر إلى الإيمان هذا يساوي عند الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من كل أموال الدنيا، لذلك اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ثمامة بغير فداء. تصور هذا أسير ثمين جداً ويطلقه هكذا بغير فداء! أنعم عليه آملاً أن يكون ثمامة بن أثال صادقاً عندما قال: (إن تنعم تنعم على شاكر)، وهذا التصرف في حسابات أهل الدنيا من السياسيين يعتبر تصرفاً غير مفهوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم دولة فقيرة، وهي لا زالت خارجة من أزمة اقتصادية طاحنة، ولو طلب الأموال الطائلة لبذلت لفك أسر ثمامة بن أثال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفكر في الدنيا بكاملها، كل الذي يفكر فيه استنقاذ ثمامة وقبيلة ثمامة من براثن الكفر وجذبهم إلى جنة الإيمان، ولا يفقه ذلك إلا سياسي مؤمن، وثمامة كان عند حسن ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد خرج مسرعاً من المسجد النبوي بعد أن أطلق سراحه، انطلق إلى نخل قريب من المسجد عنده بئر من الآبار فاغتسل من هذا الماء الذي في البئر، والظاهر أنه سأل قبل ذلك عن كيفية الإسلام، لكنه لم يرد أن يسلم وهو في قيده؛ من أجل ألا يتهم بالنفاق، أو يتهم أنه أسلم ليطلق سراحه، وإنما انتظر حتى أطلق ثم اغتسل وجاء بنفسه مختاراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، فعل ذلك بكل حسم وعمق إيمان، لم يفكر في الرجوع إلى بلده للاستشارة وأخذ الرأي،

قصة غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لعضل والقارة من بني لحيان

قصة غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لعضل والقارة من بني لحيان بعد هذه الآثار العظيمة من ارتفاع معنويات المسلمين، وخوف الأعراب، وهزة قريش، وإسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وقتل زعماء اليهود الكبار وفي أولهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، بعد كل هذا كان لزاماً على المسلمين أن يستغلوا هذه الآثار الضخمة بسلسلة منظمة من الحملات العسكرية هنا وهناك؛ لأن قريشاً ستنشغل بنفسها ولن تقدم أي معونة لأحد في حرب المسلمين، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في رسم خطة لبسط السيطرة على الجزيرة العربية. ومن يشاهد خريطة تحركات الجيوش والسرايا بعد غزوة الأحزاب يدرك بجلاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على دراية تامة بجغرافية وظروف الجزيرة العربية، كانت الغزوات والسرايا متنوعة في كل الاتجاهات في صورة شبكة منظمة رائعة، طرقت تقريباً كل دروب الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وكان شعار هذه المرحلة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). فأول قبيلتين فكر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يحاربهم: قبيلة عضل، وقبيل قارة، وقصة هاتين القبيلتين في الغدر بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام معروفة ومشهورة، وتكلمنا عليها قبل هذا في الدروس السابقة، وهي قصة الغدر عند ماء الرجيع. فقد قتلت هاتان القبيلتان من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام (10) عند ماء الرجيع، بعد أن أوهموا المسلمين أنهم يريدون هؤلاء الصحابة لتعليمهم الإسلام، وكان وقع هذه المصيبة كبيراً جداً على الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إنه ظل يدعو عليهم في قنوته في كل صلواته لمدة شهر كامل. فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما وجد الفرصة مواتية لقتالهم أعد العدة لذلك، بل وقرر الخروج بنفسه على رأس الجيش، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة بني لحيان. وبنو لحيان هي القبيلة التي تنتمي إليها قبائل عضل وقارة، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بالفعل بجيشه إلى بني لحيان في ربيع أول سنة (6) هـ، وهذا الخروج خطير جداً لأمور: أولاً: لأن قبائل بني لحيان قبائل قوية مقاتلة. ثانياً: لأن قبائل بني لحيان اشتهرت بالغدر وقطع الطريق، من أجل هذا عندهم عدة كمائن على الطريق. ثالثاً: لأن مساكن بني لحيان بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فهي تبعد تقريباً (400) كيلو متر من المدينة المنورة إلى الجنوب. رابعاً: لأن مساكن بني لحيان قريبة جداً من مكة المكرمة، على بعد (90) كيلو متر من مكة المكرمة، فلا يستبعد أبداً أن تدرك قريش أن جيش المدينة على مقربة من مكة المكرمة فتخرج له قريش، وأنتم تعرفون قوة قريش. كل هذه الأمور جعلت هذه الغزوة خطيرة، ومن أجل هذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه فيها. وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع أول (6) هـ، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في (200) من أصحابه، ومعه مجموعة من الفرسان في هذه الغزوة، وأوهم الناس أنه سيتجه إلى الشمال في بادية الشام، وبعد ذلك غير الاتجاه وذهب إلى الجنوب حتى يعمي على العدو، ووصل إلى ديار بني لحيان، لكن كما ذكرنا قبل هذا أن بني لحيان كانت لهم عدة كمائن على الطريق، واكتشفت هذه الكمائن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم إلا أن فروا من ديارهم لما عرفوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قد غزوهم، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في (200) فارس، وجاء على بعد (400) كيلو من المدينة المنورة، فهرب بنو لحيان جميعاً في رءوس الجبال وتركوا ديارهم خالية. وكان على غير مراد الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد أن يقابلهم ويحاربهم؛ لينتقم لأصحابه أصحاب الرجيع، لكن هروب بني لحيان ترك أثراً إيجابياً كبيراً جداً في صالح المسلمين في المنطقة كلها. العربي ليس من شيمه الهروب، والجبن صفة مذمومة جداً عنده، لا يحب أبداً أن يوصف بها، وبالذات إن كانت القبيلة قبيلة قوية لها تاريخ في الحرب والقتال والغزو، لكن ربنا سبحانه وتعالى ألقى الرعب في قلوبهم، لم يفكروا أصلاً في المقاومة، لم يفكروا في سمعتهم أمام القبائل الأخرى، فكان ذلك انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين بلا شك، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا الانتصار، بل مكث في ديار بني لحيان يومين كاملين يبث السرايا للبحث عنهم في كل مكان، لكن لم يعثر على أحد منهم. ويعتبر بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام في أرض القبيلة مدة يومين كاملين هذا من أقوى دلالات الانتصار عند العرب، لأن من ينتصر لا يخرج سريعاً من مكان القتال وكأنه يخشى القوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أثبت أنه لا يخاف بني لحيان ومكث يومين كاملين، ليس هذا فحسب، بل أرسل سرية صلى الله عليه وسلم من (10) فرسان في اتجاه مكة حتى بلغت كراع الغميم، وكراع الغميم على بعد حوالي (60) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وأمرهم أن يظهروا أمرهم ولا يستخفون؛ ليعلم بهم أهل مكة وأنهم سيغزون مكة؛ وذلك لإلقاء الرعب في قلوب القرشيين، وحدث ما تمناه المصطفى صلى الله عليه وسلم فقد فزعت قري

غارة عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين حول المدينة وردة فعل المسلمين تجاه ذلك

غارة عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين حول المدينة وردة فعل المسلمين تجاه ذلك بعد أسبوعين كاملين من الغياب عن المدينة المنورة، وفي أثناء عودة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة أغار عيينة بن حصن الفزاري على بعض ممتلكات المسلمين في خارج المدينة المنورة، في منطقة تعرف بالغابة، وأخذ منها إبلاً وشياهاً للمسلمين، وقتل راعيها -وهو رجل من غفار- واحتملوا امرأته، وهرب عيينة بن حصن في اتجاه الشمال الشرقي للمدينة في ناحية منازل غطفان، ووصل الخبر إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم نقل له سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، وسلمة من أعظم الرماة في الإسلام، فلما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك عاد سلمة مسرعاً إلى منطقة الغابة وظل يرمي الفرقة الغازية فقتل بعضهم وأصاب بعضهم. وأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فرقة سريعة الحركة من الفرسان، وأمر عليهم سعد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهذا غير سعيد بن زيد المهاجري رضي الله عنهم أجمعين، وكان في هذه الفرقة المقداد بن عمرو وعباد بن بشر وأبو قتادة وعكاشة بن محصن رضي الله عنهم أجمعين، ومجموعة من خيار فرسان الصحابة، وقال صلى الله عليه وسلم لأميرهم سعد بن زيد: (اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس) وخرجت هذه الفرقة السريعة، والرسول عليه الصلاة والسلام تبعها بعد ذلك بجيش من المسلمين، وأدرك هذه الفرقة عند مكان يسمى ذو قرد على بعد حوالي (35) كيلو متر شمال شرق المدينة المنورة. في هذه الغزوة قتل أبو قتادة رجلاً من المشركين، وقتل عكاشة بن محصن رجلين، واستنقذ المسلمون بعض الإبل والشياه، وفرت المرأة المسلمة امرأة أبي ذر ونجت بنفسها إلى المدينة المنورة، وهرب عيينة بن حصن ومن معه ببعض الإبل. وطلب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجعل معه من الرجال ليغزو بهم قبائل غطفان في مكانها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض ذلك؛ لأن قبائل غطفان قبائل قوية جداً ومنازلها بعيدة عن المدينة المنورة، ولا يريد أن يدخل معها في صراع وهو لم يعد العدة الكافية لذلك. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام يكافح ويجاهد ويستخلص الإبل قدر المستطاع في واقعية دون تهور، فقد كان كل ذلك في حدود المدينة المنورة، وفي نفس الوقت هو لا يتهور بإرسال جيش إلى مغامرة غير مأمونة، وعلى العكس من ذلك فقد أخذ جيشه القليل صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بني لحيان؛ لأن هناك اختلافاً بين بني لحيان وبين بني غطفان، فقبيلة لحيان وإن كانت قوية إلا أنها أقل بكثير جداً من قبائل غطفان، فالرسول عليه الصلاة والسلام يعطي لكل أمر قدره، يحسب حساباته بدقة، ويتصرف على ضوء هذه الحسابات، في توازن رائع وفقه عميق. هذه الحملة الأخيرة التي قادها صلى الله عليه وسلم تعرف بغزوة الغابة، وهو المكان الذي أغار عليه عيينة بن حصن، أو غزوة ذي قرد، وهو المكان الذي وصل إليه صلى الله عليه وسلم في مطاردته للمشركين، وهذه الغزوة كانت في ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6) هـ.

السرايا التي بعثها صلى الله عليه وسلم بعد غزوة ذي قرد لتأديب القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب وغيرها

السرايا التي بعثها صلى الله عليه وسلم بعد غزوة ذي قرد لتأديب القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب وغيرها وبعد عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ في إخراج سرايا منظمة إلى كل بقاع الجزيرة العربية تقريباً؛ وذلك إلى القبائل التي شاركت في غزوة الأحزاب، وكذلك القبائل التي اشتركت في قتال المسلمين قبل ذلك، أو إلى القائل التي تستعد لغزو المدينة المنورة. وهكذا بعث صلى الله عليه وسلم السريا الآتية: أولاً: بعث سرية بقيادة عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه إلى غمر مرزوق، وهو تجمع لفرع من فروع بني أسد، وبنو أسد من القبائل التي اشتركت في حصار الأحزاب، وكانت هذه السرية في نفس الشهر الذي تمت فيه غزوة ذي قرد وهو ربيع الأول أو ربيع الثاني سنة (6) هـ. السرية الثانية كانت بقيادة محمد بن مسلمة إلى ذي القصة لقتال بني ثعلبة على بعد حوالي (55) كيلو متر شمال المدينة، وهذه كانت في ربيع الثاني سنة (6) هـ. في نفس الشهر ربيع الثاني خرجت سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه إلى نفس المكان ولنفس الهدف لقتال بني ثعلبة. في نفس الشهر كذلك ربيع الثاني خرجت سرية أخرى بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة تعرف بالجموم، والجموم على بعد حوالي (100) كيلو متر من المدينة المنورة وخرجت لقتال بني سليم. وبعد عودة هذه السرية بأيام في شهر جمادى الأولى خرجت سرية مهمة جداً بقيادة زيد بن حارثة مرة ثانية أيضاً. وسنرى أن اسم زيد بن حارثة يتكرر مرة واثنتين وثلاثاً وأكثر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يدربه لأمر كبير جداً سنعرفه عندما نأتي لغزوة مؤتة إن شاء الله. المرة الثانية: خرج زيد بن حارثة على رأس سرية أخرى موجهة إلى منطقة تعرف بالعيص، وهذه المنطقة شمال غرب المدينة المنورة، وكان غرض هذه السرية اعتراض قافلة من قوافل قريش، فأمسك زيد بن حارثة بالقافلة بكاملها، وكانت ضربة كبيرة جداً لقريش. وفي الشهر الذي يليه شهر جمادى الآخرة من سنة (6) هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الثالثة على رأس سرية إلى منطقة تعرف بالطرف على بعد (55) كيلو متر من المدينة المنورة على طريق العراق، وكانت لقتال فرع من فروع بني ثعلبة. وفي نفس الشهر جمادى الآخرة سنة (6) هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الرابعة على رأس سرية في منتهى الأهمية إلى منطقة حسمى في شمال الجزيرة العربية، وهذه السرية مهمة جداً ومحتاجة لوقفة، وسبب هذه السرية أن أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وهو دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه كان في طريقه من الشام إلى المدينة المنورة فاعترض طريقه أحد زعماء قبيلة جذام، وقبيلة جذام تسكن في شمال الجزيرة العربية، فهذا الزعيم كان اسمه الهنيد بن عوص ومعه ابنه ومجموعة من رجال قبيلة جذام، وأخذوا ما مع دحية الكلبي رضي الله عنه، وسمع بذلك مجموعة من بني الضبيب، وبنو الضبيب كانوا من المسلمين فهبوا لنجدة دحية الكلبي، ونجحوا في استرداد الأشياء التي سلبها منه الهنيد بن عوص ومن معه، وحمل دحية الكلبي هذه الأشياء وعاد إلى المدينة المنورة، في عرف أناس كثيرين أن الموقف انتهى، ما دام الشيء الذي أخذ رجع فليس هناك داع للقتال، لكن عندما أخبر دحية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجعل هذا الموقف يمر دون وقفة، حتى وإن كان ما سلب من المسلمين رد إليهم؛ ليعلم الجميع أن هيبة الأمة الإسلامية لا ينبغي أبداً أن تنتقص، وأن أي قبيلة أو إنسان تسول له نفسه التعدي على حرمة الأمة الإسلامية، ولو كان هذا التعدي على رجل واحد أو امرأة واحدة من المسلمين لا بد أن يحدث انتقام من قبل الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، من أجل هذا قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبعث جيشاً لعقاب قبيلة جذام على تعديها على أحد رعايا الدولة الإسلامية، وبخاصة الهنيد بن عوص وابنه اللذان تزعما الفرقة التي هجمت على دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه. هذا موقف مشرف جداً، يكتب بماء الذهب وأغلى من الذهب، لقد رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ينتفض لانتهاك حرمة امرأة واحدة أهينت على يد يهود بني قينقاع، فحاربهم وأجلاهم من المدينة جميعاً، وهاهو الآن ينتفض لانتهاك حرمة رجل مسلم واحد اعتدي عليه من قبيلة قوية في شمال الجزيرة العربية بعيدة جداً عن المدينة المنورة، فلا تسل عن مدى إحساس رعايا الدولة الإسلامية بالأمان والطمأنينة لحماية القائد لها، ولا تسل عن مدى إحساسهم بالأمان وهم يعلمون ويوقنون أن دولتهم بكاملها تقف وراءهم، تحفظ كرامتهم، تدافع عن حقوقهم، ترفع رءوسهم في العالم أجمع. وهذا الموقف يزداد قيمة عندما نعرف أن القبيلة التي اعتدت على دحية الكلبي هي قبيلة قوية جداً، قبيلة جذام، وتقع مساكنها على بع

غزوة بني المصطلق

غزوة بني المصطلق سمع صلى الله عليه وسلم بتجمع قبيلة بني المصطلق لحرب المسلمين في المدينة المنورة، فباغتهم صلى الله عليه وسلم بخروجه إليهم في (2) شعبان سنة (6) هـ، ووصل إليهم عند منطقة تعرف بماء المريسيع، لذلك هذه الغزوة تعرف في بعض الكتب بغزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق، وفي هذه الغزوة انتصر المسلمون انتصاراً كبيراً على بني المصطلق وغنموا غنائم ضخمة وكبيرة، وسبوا عدداً كبيراً من نساء القبيلة، وكان منهن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها التي أصبحت أم المؤمنين بعد ذلك، وهي ابنة زعيم بني المصطلق الحارث بن ضرار، وكانت ضربة قوية هائلة للقبيلة. ووقعت جويرية بنت الحارث التي هي بنت زعيم قبيلة بني المصطلق في نصيب ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه من الأنصار، والرسول عليه الصلاة والسلام في قصة طويلة أدى عنها مكاتبتها لـ ثابت بن قيس، وعرض عليها الزواج بعد أن أسلمت وتزوجها صلى الله عليه وسلم، وكان الهدف من الزواج واضحاً جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد بهذا الزواج أن يتألف قلوب بني المصطلق، حيث أعتق المسلمون سبايا بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق يوم زواج الرسول عليه الصلاة والسلام من جويرية بنت الحارث أهل مائة بيت من بني المصطلق، وكان ذلك سبباً في إسلام قبيلة بني المصطلق، وكان نصراً عزيزاً للإسلام والمسلمين، ومع كون غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع ليست من الغزوات الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الصراع فيها طويلاً ولا كبيراً ولا القتلى والشهداء كثيرين، ومع ذلك فهذه الغزوة اكتسبت أهمية خاصة في السيرة النبوية؛ لخطورة الآثار التي ترتبت على وجود المنافقين في داخل هذه الغزوة.

دور المنافقين في إذكاء الفتن بين المسلمين في غزوة بني المصطلق

دور المنافقين في إذكاء الفتن بين المسلمين في غزوة بني المصطلق لقد حدثت انتصارات سابقة كثيرة بعد غزوة الأحزاب، ورأى المنافقون هذه الانتصارات المكثفة فخرجوا في غزوة بني المصطلق ابتغاء الحصول على غنيمة، وفي غزوة بني المصطلق تسبب المنافقون في أكثر من أزمة، كادت كل واحدة منها أن تطيح بكيان الدولة الإسلامية، وصدق الله عز وجل إذ يقول في حق المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] (خبالاً) يعني: اضطراباً وضعفاً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]. فهذا عين ما حدث في غزوة بني المصطلق، فقد تسبب المنافقون في فتن متتالية، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] يعني: وقع المؤمنون الصادقون في أمور كثيرة بسبب المنافقين، حيث التبس الأمر على أكثر المؤمنين في هذه الغزوة. وهذه الأزمات التي أثارها المنافقون في هذه الغزوة من الضخامة بمكان، فهي بحاجة إلى تحليل طويل وتدبر عميق، مما قد لا يتسع له المقام في هذه المحاضرة، لكن بإذن الله سنفرد لها حديثاً خاصاً في مجموعة أخرى من المحاضرات وقد نوهنا عنها قبل ذلك: وهي مجموعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطاء المؤمنين، سنجمع فيها كل الأخطاء التي وقع فيها الصحابة سواء في غزوة بني المصطلق أو في الغزوات الأخرى أو في السرايا أو في جميع السيرة النبوية، ونحلل فيها كيف كان رد فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأخطاء وهذه الأزمات. وفي هذه المحاضرة إن شاء الله سنعرج سريعاً على هذه الفتن التي دارت في غزوة بني المصطلق. الأزمة الأولى التي حدثت: كانت صراعاً قام بين المهاجرين والأنصار على السقاية من بئر من آبار المنطقة، وهذا الحدث نادر في السيرة، لعله الوحيد الذي حدثت فيه أزمة ضخمة بين المهاجرين والأنصار، وكانت أزمة كبيرة جداً كادت أن تتفاقم لولا حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في السيطرة عليها. ثم إنه نجمت عن هذه الفتنة فتنة أخرى خطيرة جداً وهي فتنة نداء المنافقين في أوساط الأنصار بأن يخرجوا المهاجرين من المدينة، وقال عبد الله بن أبي ابن سلول كلمته الفاجرة يعلق فيها على المهاجرين بقوله: والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. كانت أزمة خطيرة جداً توشك أن تقضي على الأمة لولا أن الله عز وجل سلم. وحدث بعد ذلك فتنة ثالثة خطيرة شنيعة أشد من الأولى والثانية: إنها حادثة الإفك، وفيها اتهم المنافقون السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه وأرضاها بالفاحشة، وللأسف الشديد وقع بعض المؤمنين في الأمر، واتسع نطاق الأزمة حتى شمل المسلمين كلهم ما بين مدافع ومهاجم، وما بين مبرئ ومتهم، ولم ينزل وحي في هذه القضية إلا بعد شهر كامل، فبعد شهر كامل نزل الوحي بتبرئة السيدة عائشة الطاهرة رضي الله عنه وأرضاها من التهمة الشنيعة التي أثارها المنافقون، واشترك فيها كما ذكرنا بعض المؤمنين. وحادثة الإفك هذه من أشد الأزمات التي مرت بالمسلمين في فترات السيرة النبوية، وهذه الأزمة خطيرة جداً تحتاج إلى وقفات طويلة وتحليلات كثيرة، وانتباه إلى رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدبر في تعليق رب العالمين سبحانه وتعالى للحدث كما في سورة النور. إذاً: هذه قصة كبيرة جداً تحتاج إلى تفريغ وقت وتدبر، وسنفرد إن شاء الله كما ذكرنا تفصيلاً في موضوع أخطاء المؤمنين.

استمرار السرايا التأديبية للمناوئين والمعارضين للدولة الإسلامية الناشئة

استمرار السرايا التأديبية للمناوئين والمعارضين للدولة الإسلامية الناشئة الذي نريد أن نذكره في هذا المقام: أنه بالرغم من الأزمات والفتن التي حدثت في غزوة بني المصطلق إلا أن أسهم المسلمين كانت في ارتفاع دائم، وكان الجو العام في الجزيرة العربية يشير بوضوح إلى نمو الدولة الإسلامية نمواً سريعاً، وأن هذا النمو يسير بشكل طبيعي ومتدرج ومدروس، وكل هذا سيكون له آثار كبيرة جداً على الأحداث المستقبلية للدولة الإسلامية، وسنفهم الكلام هذا أكثر عندما نأتي لصلح الحديبية. وغزوة بني المصطلق كانت في شهر شعبان سنة (6) هـ ومع أن الأحداث كانت تغلي بالأحداث الأخيرة وبالذات حادثة الإفك إلا أن حركة الجهاد لم تتوقف. وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس الشهر شهر شعبان سنة (6) هـ سريتين هامتين جداً: الأولى: بقيادة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه إلى ديار بني كلب بدومة الجندل على مسافة كبيرة جداً من المدينة المنورة، والأخرى: إلى ديار بني سعد بفدك، والذين كانوا يعدون العدة للتعاون مع يهود خيبر لحرب المسلمين، وكانت هذه السرية الأخيرة بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، كان هذا البعث في شهر شعبان مع وجود حادثة الإفك في المدينة، فحركة الجهاد في سبيل الله لم تتوقف. وفي شهر رمضان سنة (6) هـ أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام سرية أخرى إلى بني فزارة في منطقة وادي القرى، وكان على رأسها أبو بكر الصديق أو زيد بن حارثة رضي الله عنهما أجمعين، وهذه السرية كانت موجهة لامرأة في هذه المنطقة اسمها أم قرفة، فهذه المرأة أعدت فرقة من ثلاثين فارساً لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الفرقة المجهزة له أخرج لها هذه السرية الإسلامية، فقتلت هذه السرية الإسلامية هؤلاء الفرسان الثلاثين جميعاً، وازداد نشاط المسلمين جداً في شهر شوال سنة (6) هـ، فبعث الرسول عليه الصلاة والسلام فيه ثلاث سرايا خطيرة: الأولى: كانت إلى مجموعة من المشركين من قبائل عكل وعرينة كانوا قد أظهروا الإسلام وغدروا بأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقتلوا منهم واحداً، وسرقوا كمية كبيرة من الإبل، فبعث لهم الرسول عليه الصلاة والسلام سرية بقيادة كرز بن جابر الفهري رضي الله عنه واستطاع الإمساك بهم وقتلهم وتمكن من استرداد الإبل. السرية الثانية: في شوال (6) هـ كذلك وكانت هذه السرية بقيادة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، وكانت مهمتها في منتهى الخطورة، مهمتها اغتيال اليسير بن رزام أمير خيبر من اليهود، فهو من أكابر اليهود ومن الذين أخذوا يجمعون اليهود في خيبر ووادي القرى وفدك لحرب المسلمين، ولم يكتف بذلك، بل قام بجمع غطفان من جديد لحرب المسلمين، من أجل أن يعيد الأحزاب مرة ثانية، كان يريد أن يقوم بنفس الدور الذي قام به قبله حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، ولكي لا تتكرر مأساة حصار المسلمين في داخل المدينة المنورة حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على التخلص من هذا الطاغية قبل أن يجمع هؤلاء المشركين، وبذلك يجنب المسلمين ويلات أزمة ضخمة قد تحدث، وكانت هذه السرية المكونة من ثلاثين فارساً، وتمكنت هذه السرية من قتل اليسير بن رزام، وأمن بذلك المسلمون شر خيبر، ولكن بصفة مؤقتة؛ لأن كل اليهود في ذلك الوقت كانوا متجمعين في خيبر، ولا شك أن العلاج النهائي لمشكلة يهود خيبر وتأليبهم المستمر على المسلمين يحتاج إلى وقفه حاسمة، ويحتاج إلى حرب فاصلة مباشرة كالتي فعلت قبل ذلك مع يهود بني قينقاع ويهود بني النضير ويهود بني قريظة، هذا هو الحل النهائي مع يهود خيبر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن قادراً على ذلك الوقت؛ لأن وضع المدينة المنورة خطير، لا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يغزو خيبر الآن دون أن يؤمن ظهره، فأخطر ما يهدد ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام هو غزو قريش المدينة المنورة، وبالذات أن غزوة الأحزاب لم يمض عليها سوى سنة واحدة، وإذا خرج الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش الآن إلى حرب خيبر حرباً شاملة فقد يستغرق هذا الخروج إلى فترة طويلة جداً من الزمان قد تصل إلى شهور؛ لشدة بأس المقاتلين من أهل خيبر، ومناعة حصون خيبر، وبعد خيبر عن المدينة، فهو صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يترك المدينة خالية من الجند فترة طويلة غير محسوبة، لذلك اكتفى صلى الله عليه وسلم باغتيال رأس الفتنة ومحرك الجموع اليسير بن رزام إلى أن يصل إلى وسيلة لتأمين جانب قريش، وبعدها يفكر في قضية خيبر، وهذا عين ما سنراه بعد صلح الحديبية. إذاً: كل هذا كان في شوال (6) هـ، وكانت هذه هي السرية الثانية في شوال. السرية الثالثة والأخيرة في هذا الشهر كانت سرية خطيرة جداً، ووجهة هذه السرية كانت غريبة جداً، كانت وجهتها مكة المكرمة، وكثير من الناس لا يعرف أمر هذه السرية، خرجت هذه السرية إلى مكة المكرمة لمهمة في

آثار الغزوات والسرايا التي حدثت في السنة السادسة للهجرة

آثار الغزوات والسرايا التي حدثت في السنة السادسة للهجرة لقد تميزت هذه السنة المباركة السنة السادسة من الهجرة بأنها كانت سنة جهادية من الدرجة الأولى، حيث انتشرت فيها جيوش المسلمين كما رأينا في كل أنحاء الجزيرة العربية تقريباً، وتمت فيها (20) حملة عسكرية كاملة، يعني: بمعدل حملة عسكرية كل (20) يوماً، كان منها (17) سرية بقيادة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، و (3) غزوات بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم. ومع أن هذه الغزات والسرايا بصفة عامة لم تكن من المعارك الضخمة إلا أن تأثيرها كان عميقاً جداً على كل أهل الجزيرة، سواء من المسلمين أو المشركين أو اليهود أو المنافقين، فكل الناس تأثرت بهذه الغزوات والسرايا. فتعالوا بنا نذكر بعض الآثار الحميدة لهذه السرايا والغزوات المتتالية في السنة السادسة من الهجرة هذه عشرة آثار نذكرها كما يلي: الأثر الأول: تحسن الوضع الأمني للمسلمين في الجزيرة العربية، سواء في المدينة أو في القبائل المسلمة في أي مكان، أو حتى للمسلمين العابرين أو المسافرين من مكان إلى مكان؛ لأن هيبة المسلمين أصبحت في قلوب الجميع عظيمة جداً. الأثر الثاني: تحسن المستوى العسكري والأداء القتالي للمسلمين تحسناً ملحوظاً، فقد كانت هذه الغزوات والسرايا بمثابة دورات عسكرية تدريبية عملية تختلف كثيراً عن التعليم النظري، بل تختلف عن التدريب الاصطناعي غير الواقعي، فيظهر أثر هذه التدريبات المكثفة على مستقبل الجيش الإسلامي، سنرى بعد هذه الغزوات والسرايا المعارك المتلاحقة التي ستأتي بعد ذلك: خيبر، مؤتة، فتح مكة، حنين، الطائف غيرها وغيرها، وسنرى أثر هذه الدورات التدريبية على أداء المقاتل المسلم. الأثر الثالث: تحسن الوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية، وذلك لعدة أمور منها: الاستقرار الأمني الذي يشجع على التجارة. ومنها: العلاقات المنتشرة للمسلمين في كل مكان. ومنها: كثرة الغنائم في السرايا والغزوات. ومنها: اعتماد المسلمين تجارياً على أنفسهم بعد قطع العلاقات التجارية مع اليهود. الأثر الرابع: أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع الكثير من موازين القوى في الجزيرة العربية، سواء على مستوى القبائل أو على مستوى الأفراد الزعماء، فعلى سبيل المثال: أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع قبائل بني المصطلق، ومع قبائل بني كلب في دومة الجندل ومع غيرها، وكذلك مع بعض الزعماء الكبار أمثال: ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه. الأثر الخامس: في مقابل هذه العلاقات حدث تفكك ملحوظ في علاقات قريش مع كثير من القبائل العربية؛ لأن القبائل التي عقدت علاقات مع المسلمين فقدتها قريش، وهناك من القبائل العربية التي لم تنضم إلى هنا أو هناك آثرت أن تبقى على الحياد، لا هي مع قريش ولا هي مع المسلمين، وهذا يعتبر انتصاراً كبيراً جداً للمسلمين؛ لأن قريشاً مع ما لها من تاريخ وقوة وسيادة لم تعد مقنعة لعموم القبائل العربية كحليف، وهذا لا شك سيكون له بُعْدٌ هام في صلح الحديبية بعد ذلك كما سنرى. الأثر السادس: شعرت قريش بالقلق الشديد نتيجة نمو الدولة الإسلامية بهذه الصورة، وأحست أن المسلمين قادرون على تهديدها في عقر دارها، فقد رأينا كيف أن سرية إسلامية وصلت إلى حدود مكة كما ذكرنا في غزوة بني لحيان، ورأينا محاولة اغتيال أبي سفيان، ولا شك أن كل هذا له أثر كبير جداً على نفسيات القرشيين، مما جعلهم يحسون أن البساط سينسحب من تحت أرجلهم، وأن الأيام الآتية ليست لهم، بل للمسلمين، وهذا سيكون له أيضاً أثر كبير في صلح الحديبية. الأثر السابع: نتيجة التقدم الإسلامي الملموس والتأخر القرشي الواضح ارتفعت معنويات المسلمين جداً، وازدادت ثقة المسلمين بأنفسهم، وهذا سيعطيهم القدرة على الانطلاق إلى قرارات جريئة جداً، تكون لها تبعات كبيرة جداً، ولن يقف أمام أحلامهم أحد، بل إننا سنشاهد مواقف لعلها لم تكن تخطر أصلاً في أذهان المسلمين. الأثر الثامن: نتيجة هذا المستوى الإسلامي المتميز سارع المنافقون بكتم نفاقهم، ومن كان يجاهر بالسوء أيام الأحزاب، فإنه الآن يتملق ويداهن ويتخفى، وليس معنى ذلك أنهم سيكفون عن أذاهم، أبداً، لكن معناه: أنهم سيكيدون كيدهم بحذر أكثر وحرص أعظم، وهذا قد يضاعف من خطورتهم، وما أحداث غزوة بني المصطلق بخافية عن أحد، فقد دبروا كل الفتن التي حدثت في بني المصطلق في خفاء شديد وفي سرية مطلقة. بل إنهم عندما سئلوا مباشرة عن هذه الأحداث أنكروا وحلفوا بالله ما قالوا، ولا شك أن فتنة المنافقين ستزداد كلما ازدادت قوة الدولة الإسلامية، وستتفاقم هذه الفتنة كما تعلمون بعد ثلاث سنوات من هذه الأحداث في غزوة تبوك، كما سنرى إن شاء الله في الدروس الآتية، وعلى المسلمين أن يكونوا دائماً على حذر تام من هذه الثعابين التي تسعى في الظلام. إذاً: الأثر الثامن: ازدياد خطورة المنافقين. الأثر التاسع: ضعف قوة اليهود إلى حد كبير، وهذا كان له أثر بعد ذلك، فقد قتل أكابر مجرميهم بدءاً بـ حيي بن أخطب وسلام بن مشكم

الطريق إلى الحديبية

سلسلة السيرة النبوية_الطريق إلى الحديبية كانت هناك إرهاصات ومقدمات بين يدي صلح الحديبية، وقد كان دور النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم حكيماً في كسب تأييد رسل قريش للمفاوضات معه، وكذلك إضعاف معنويات القرشيين، الأمر الذي جعل الكفة في صالح النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، فتمخض من تلك المواقف الحكيمة استسلام قريش للصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم.

بين يدي صلح الحديبية

بين يدي صلح الحديبية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثاني من دروس السيرة النبوية العهد المدني فترة الفتح والتمكين. وفي هذا الدرس إن شاء الله سنتحدث عن حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وأعظم أحداث الأرض بصفة عامة، وهو لحظة فارقة حقيقية في تاريخ الأمة الإسلامية، وله انعكاسات ليس فقط على الجزيرة العربية، ولكن على العالم أجمع كما سيتبين لنا إن شاء الله، وهذا الحدث العظيم هو صلح الحديبية. ويكفي في وصف عظمة هذا الحدث أن الله عز وجل سماه بالفتح المبين، الفتح الذي جاء في الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] الكثير من المفسرين يفسرون هذا الفتح المبين بأنه صلح الحديبية، ويكفي الذين اشتركوا في هذا الخروج إلى صلح الحديبية من الصحابة أنه سبحانه وتعالى قد رضي عنهم تصريحاً في كتابه الكريم قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وكان عددهم (1400) صحابي، فهذا الجمع الهائل من الصحابة صرح ربنا سبحانه وتعالى أنه قد رضي عنهم، وهذا أمر يستوجب منا الوقوف والدراسة والتأني في بحث هذا الموضوع الهام الخطير، لكن لا نستطيع أن نفهم أبعاد صلح الحديبية إلا بالرجوع إلى ما ذكرناه في الدرس السابق، وقد ذكرنا فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب قال كلمته المشهورة: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، ومن ثم كانت السنة السادسة من الهجرة هي السنة التي تلت غزوة الأحزاب، وكان في مجملها مجموعة من السرايا والغزوات في كل مكان في الجزيرة العربية، ونتج عن ذلك آثار كثيرة لخصناها في آخر الدرس السابق، ومجمل هذه الآثار: أن الدولة الإسلامية أصبحت دولة مرهوبة لها قوة وهيبة وعظمة في قلوب جميع العرب بما فيهم قريش، وأن قريشاً بدأت تفتقد إلى الأعوان والأحلاف والأصحاب، وميزان القوى بدأ يسير في صف المسلمين على حساب قريش، هذا الأمر سيكون له مردود هام جداً في صلح الحديبية، كما سيتبين لنا الآن.

رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم دخول البيت الحرام مع أصحابه

رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم دخول البيت الحرام مع أصحابه في شهر شوال من السنة السادسة من الهجرة، يعني: بعد مرور سنة من غزوة الأحزاب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا: رأى أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين معتمرين، ورؤيا الأنبياء حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيأخذ أصحابه ويذهب في رحلة عمرة جماعية إلى مكة المكرمة إلى عقر دار قريش، وهذا أمر صعب جداً، فهم قبل سنة واحدة فقط جاءت الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل: (4000) من قريش والقبائل التي تحالفها، و (6000) من غطفان، جاءوا يحاصرون المدينة المنورة بغرض استئصال المؤمنين بكاملهم. فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد مرور سنة واحدة من غزوة الأحزاب في شجاعة منقطعة النظير يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالتجهز لأداء العمرة، وليس بينه وبين قريش أي نوع من المعاهدات أو الصلح أو الاتفاقيات. لما ذكر صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم قبل الجميع من الصحابة ذلك دون تردد، بل اشتاقوا إلى الأمر، مع أن السفر إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت سواء للعمرة أو غيرها يحمل خطورة شديدة جداً عليهم، والمسلمون قد تحملوا الكثير والكثير قبل ذلك من قريش، وقريش لم ترع أي حق للبيت الحرام ولا للبلد الحرام، فقد انتهكت حرمة البلد الحرام قبل ذلك كثيراً، ومع ذلك لم يتردد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في قبول الأمر النبوي بالذهاب إلى العمرة، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاستفادة قدر المستطاع من قوانين المجتمع المشرك التي يعيش فيها، أي: الأعراف الدولية في ذلك الوقت، أعراف الجزيرة العربية، وأعراف قريش ذاتها تقضي بأن الذي يذهب إلى مكة المكرمة لأداء العمرة آمن مهما كان بينه وبين قريش من خلافات، فهل ستحترم قريش هذه القوانين القديمة أم لا؟! هذا ما سنراه. فخرج المسلمون سعداء قد شرحت صدورهم لهذه العمرة مع خطورتها، وهذا مهم جداً في بداية أي عمل، لذلك سيدنا موسى عليه السلام كان يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]، فالإنسان عندما ينشرح صدره لعمل ما يكون أداؤه فيه أداء متميزاً. لم يكن هناك أي نوع من الإكراه لصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام للذهاب إلى هذا المشوار الصعب، لكن في المقابل من الناحية الأخرى جميع المنافقين تقريباً لم يستطيعوا الخروج إلى هذا المشوار الصعب، وترددوا كثيراً وفكروا كثيراً، وفي النهاية أخذوا القرار الحاسم أنهم لن يخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة؛ لأن هذا المشوار في نظرهم مشوار مهلك، كيف نذهب إلى قريش في عقر دارها وبسلاح المسافر، ليس معنا أسلحة الحروب؟ لذلك لم يخرج مع المسلمين إلا منافق واحد اسمه الجد بن قيس. كذلك الأعراب حول المدينة المنورة دعوا إلى الخروج، ولكنهم جميعاً أبوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك هذا الصف الذي خرج من المدينة إلى مكة هو صف خالص نقي طاهر، وعددهم (1400) مؤمن ليس فيهم إلا منافق واحد ليس له كبير الأثر في أوساط المؤمنين، وكما هو معلوم في الغزوات السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج بصف مؤمن خالص كان النصر قريباً بإذن الله عز وجل، فسنرى -إن شاء الله- نتائج عظيمة جداً نتيجة خروج هذا الصف النقي من المدينة المنورة، فقد كانوا (1400) وفي رواية: (1500) صحابي، وأخذ صلى الله عليه وسلم معه في خروجه زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وكان هذا الخروج في غرة ذي القعدة سنة (6) هـ بعد سنة من الأحزاب، واتجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، وفي ذي الحليفة التي هي الآن آبار علي وهو المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة، هناك في ذي الحليفة أحرم صلى الله عليه وسلم وقلد الهدي، وكان قد أخذ معه مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحها في مكة المكرمة، وهذا من النوافل، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة ولبس لباس العمرة وبدأ بالتلبية؛ كل هذا ليدل على أنه لم يذهب إلى مكة إلا للعمرة فقط، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن هناك عيوناً كثيرة لقريش على الطريق، وهذه العيون لاشك أنها ستنقل الأخبار إلى مكة المكرمة، وهو لا يريد حرباً مع أهل مكة ولم يذهب إلا للعمرة، وما رآه في الرؤيا هو فقط مجرد العمرة؛ ولذلك لم يخرج صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بسلاح المسافر، وفي طريقه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة إلى مكة المكرمة كان يلبي: لبيك اللهم لبيك إلى آخر الدعاء.

توقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكراع الغميم

توقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكراع الغميم وصل صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى منطقة تسمى كراع الغميم، وهو على بعد (60) كيلو أو (64) كيلو تقريباً من مكة المكرمة، وهناك فوجئ عليه الصلاة والسلام بأن قريشاً قد جمعت جيشاً وجمعت الأحابيش، والأحابيش: هي مجموعة من القبائل كانت تتحالف مع قريش، وسميت بذلك؛ لأنهم اجتمعوا عند جبل اسمه حبشي، وعقدوا اتفاقية دفاع مشترك عن مكة المكرمة. فهذه المجموعة من القبائل جمعتها قريش لصد الرسول صلى الله عليه وسلم عن أداء العمرة في مكة المكرمة، مع أن العرف والقانون الدولي في ذلك الوقت يسمح للرسول عليه الصلاة والسلام بأن يذهب إلى مكة معززاً مكرماً ممنوعاً، بل على قريش في أعرافها وفي قوانينها أن ترعى حقوق المسلمين، وأن تخدم المسلمين، وأن تسقي الحجاج، وأن تفعل كذا وكذا، لكن كل هذا ضربت به قريش عرض الحائط، وبدأت التعامل مع الموضوع بنوع من الغدر ومخالفة القوانين والعهود التي بينها وبين العرب قاطبة. فوجد صلى الله عليه وسلم أن هناك جيشًا يقف عند كراع الغميم يمنع المسلمين من الوصول إلى مكة المكرمة، هذا موقف خطير، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا (1400) من المسلمين وبسلاح المسافر، ويقف أمامه عند كراع الغميم جيش، ليس من قريش فقط، ولكن من قريش ومن معها من القبائل المحالفة لها، فوقف صلى الله عليه وسلم وبدأ يأخذ الشورى بينه وبين أصحابه، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى في موقف من المواقف، إلا في حالة ما إذا كان هناك أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، إذا كان أمر حل أو حرمة فهنا لا يأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام رأي الصحابة فيه. فمثلاً: الخروج من المدينة المنورة إلى مكة لأداء العمرة كان عن وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لذلك لم يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ليأخذ رأيهم: نذهب أو لا نذهب؟ مع خطورة الأمر. إذاً: ما دام ربنا سبحانه وتعالى أمر بكذا أو نهى عن كذا فلا مناقشة ولا تردد، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في قضية عسكرية فأخذ الشورى فيها، فقد جمع أصحابه في هذا الموقف الخطير الذي هم فيه، وشاورهم: هل نحارب هؤلاء الذين تجمعوا لنا أم نعود ولا ندخل إلى مكة؟ هل نغير على قبائل الأحابيش الخالية الآن من الرجال؛ لأن معظم جيش الأحابيش خرج للوقوف عند كراع الغميم؟ وكان عليه الصلاة والسلام قد عرض فكرة الالتفاف حول هذا الجيش والميل على قبائلهم الفارغة من الجنود وقتلهم وسبيهم، فيكون ذلك عزة وقوة للمسلمين على الكفار، هذه كانت آراء مطروحة من الرسول صلى الله عليه وسلم طرحها على الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ ليختاروا ما يناسبهم، وعرض بعض الصحابة رضي الله عنهم آراءهم، فكان ممن تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال: الله ورسوله أعلم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، يعني: رأي الصديق رضي الله عنه وأرضاه ألا نسعى لقتالهم ولا نذهب إلى قبائل الأحابيش ولا نقاتل هذا الجيش، بل نكمل الطريق في محاولة الوصول إلى البيت، فإن كان هذا الجيش الذي وضع في كراع الغميم مجرد إرهاب للمسلمين ولن يقاتل فنحن سنكمل الطريق ونذهب إلى العمرة في مكة المكرمة، وإن أصروا على القتال قاتلناهم فنحن لا نخشى القتال، ولكن لا نسعى إليه، هذا ملخص رأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. فالصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قبلوا هذا الرأي واستحسنوه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أكملوا الطريق، لكن قريشاً كانت مصرة على منع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه من دخول مكة المكرمة للعمرة؛ لذلك وضعت فرقة قوية من الفرسان على رأسهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان وقتها مشركاً، وهذه الفرقة من الفرسان حوالي (200) فارس، ووراءهم جيش مكة، وهذه الفرقة كانت في كراع الغميم، ولما اقترب الرسول عليه الصلاة والسلام وقف أمام هذه الفرقة المسلحة، وعند هذا الوقوف جاء موعد صلاة الظهر، والمسلمون في أي ظرف من الظروف لا يضيعون الصلاة ولا يؤخرون الصلاة عن أوقاتها إلا في الظروف الضيقة المحدودة جداً، تكاد في السيرة تعد على أصابع اليد الواحدة، كما حدث في غزوة الأحزاب قبل كذا، لكن عموم الأمر أن المسلمين يصلون الصلوات في أوقاتها حتى في ميادين القتال، بل إنهم كثيراً ما كانوا يصلون الصلاة على خيولهم إيماءً إذا احتدم القتال، هذا اهتمام كبير جداً بقضية الصلاة، ووقف صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه يصلون صلاة الظهر خلفه مؤتمين به صلى الله عليه وسلم، يركعون ويسجدون جميعاً مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كما ذكرنا (1400)، فـ خالد بن الوليد قائد فر

وصول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الحديبية

وصول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الحديبية لقد أكمل صلى الله عليه وسلم الطريق إلى مكة المكرمة إلى أن وصل إلى مكان يعرف بالحديبية، ويوجد هناك بئر، وهذا الموضع قريب جداً من مكة المكرمة، يقع بين التنعيم وبين مكة المكرمة، ويبعد التنعيم حوالي (5) كيلو من مكة المكرمة، فهو عليه الصلاة والسلام دخل في حدود مكة المكرمة نفسها، وأصبح الموقف شديد الحرج، ففي أي لحظة من اللحظات القادمة قد يحدث قتال عند إرادة دخول مكة المكرمة، لكن قبل دخول مكة المكرمة حدث أمر مفاجئ، حدث أن ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم توقفت عن المسير، فالصحابة اجتمعوا ليدفعوا الناقة إلى القيام وإكمال المسيرة إلى مكة المكرمة، وكان الجميع متحمساً جداً لدخول مكة المكرمة، ورفضت الناقة أن تقوم، فقال الصحابة: (خلت القصواء خلت القصواء) أي: امتنعت عن القيام وعن التقدم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما خلت القصواء وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس من خلق القصواء أن ترفض الأمر الموجه إليها، وما ذاك لها بخلق: (ولكن حبسها حابس الفيل) يعني: أنه سبحانه وتعالى أراد لها ألا تتقدم، فهو أمر من الله عز وجل للناقة. وقوله: (حبسها حابس الفيل) يعني: الفيل الذي كان يركبه أبرهة عندما أراد دخول مكة المكرمة، لكن الله أمره ألا يدخل، فوقف الفيل ولم يستطع أبرهة أن يدفع الفيل لدخول مكة، فهذا الأمر تكرر تماماً مع الناقة النبوية. وقد تكرر هذا الموقف مع الناقة قبل ذلك، ومن أشهر المواقف التي حدثت مثل ذلك: عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ترك عليه الصلاة والسلام الناقة تسير إلى أن استقرت في مكان ما، وقال للصحابة من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: (دعوها فإنها مأمورة)، فنفس الموقف يتكرر في الحديبية؛ بسبب هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة مهمة جداً، وستفسر لنا هذه الكلمة أموراً كثيرة آتية بعد ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد أن أحس وشعر أن هناك وحياً واضحاً في هذه القضية، قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، يعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أنه سيقبل بالصلح مع قريش، فهو عليه الصلاة والسلام كان يشعر أن هناك وحياً في هذه القضية لم يكن مباشراً، لكنه فهمه من خلال وضع الناقة وعلم أنها مأمورة؛ وعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يريد قتالاً يتم بينه وبين قريش في ذلك الوقت، لذلك سيقبل عليه الصلاة والسلام بأي خطة تعظم حرمات الله، فهو يشترط في الخطة أن تعظم حرمات الله، فلن يقبل بظلم على المسلمين، ولن يقبل بمخالفة شرعية صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر في غاية الأهمية. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد مصالحة وخطة ليس فيها قتال، وهذا أيضاً سيفسر لنا قبول الرسول عليه الصلاة والسلام بصلح الحديبية بصورة واضحة؛ لأنه أمر مرضي له صلى الله عليه وسلم. وبعد بقاء المسلمين في منطقة الحديبية أرسلت قريش أحد الرسل؛ جاء لكي يحل المشكلة بين المسلمين وبين قريش، وهذا الرسول هو بديل بن ورقاء الخزاعي فهو ليس من قريش وإنما من قبيلة خزاعة، ومعروف أن قبيلة خزاعة حليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يحب خزاعة، وقريش لم ترسل رجلاً منهم، لم ترسل زعيماً من زعمائهم يهدد ويتوعد، لا، لأن قريشاً تريد أن تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام بالسلم، وبنوع من الحسنى، وبتجنب القتال قدر المستطاع، ونحن قد نستغرب ونقول: كيف قبلت قريش العزيزة المنيعة القوية القبيلة الكبيرة المعظمة عند جميع قبائل العرب بلا استثناء، كيف تقبل هذه القبيلة الكبيرة بالجلوس مع الرسول عليه الصلاة والسلام في طاولة المفاوضات، مع عدم الضغط المباشر على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أقول: إن الذي حصل في السنة السادسة من الهجرة أثر تأثيراً كبيراً على سلوك قريش، الذي حصل من سرايا وغزوات متتالية في العام السادس من الهجرة كان فيه رفع الراية الجهاد وإظهار الهيبة الإسلامية والعزة الإسلامية في كل مكان، فكل هذا كان له تأثير سلبي واضح على نفسيات قريش، وكان له تأثير معنوي إيجابي رائع جداً عند المسلمين، مما جعل الموقف يكون بهذه الصورة.

أول رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

أول رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية لقد كان المسلمون على بعد عدة كيلو مترات قريبة جداً من مكة المكرمة، وبهذه العزة يقفون ينتظرون رسل قريش، وقريش لا تستطيع أن ترسل زعيماً من زعمائها وإنما تبعث واحداً وسيطاً يتوسط عند المسلمين أن يعودوا، فذهب بديل بن ورقاء الخزاعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليمنعه قدر المستطاع من دخول مكة، فقريش لا تريد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة في ذلك الوقت، ولا تريد أن تحدث معه قتالاً؛ لأنها تشعر أنها أضعف من المسلمين، مع أن المسلمين ليس معهم إلا سلاح المسافر فقط، فوقف بديل بن ورقاء وحاول أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم تهديداً خفيفاً، لكن هذا التهديد لم يكن من قريش؛ لأن بديل بن ورقاء ليس قرشياً، فقال بديل مهدداً: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل. يعني: ما تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي وهما فرعان من قريش يعيشون في مكة تركتهم نازلين قريباً جداً من الحديبية، (معهم العوذ المطافيل) يعني: معهم الأبناء والأولاد وهم يريدون حربك يا محمد، فالحرب ستكون ضارية بينك وبين قريش، ثم يكمل بديل بن ورقاء ويقول: وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فماذا كان رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد رتب الرسول عليه الصلاة والسلام الكلمات ترتيباً سياسياً حكيماً بارعاً، وبين له فيه أنه فهم الموقف تمام الفهم، وأن قدوم الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة لم يكن قدوماً متهوراً غير مدروس، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل حسابه لكل نقطة، فماذا قال؟ قال: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين) يعني: نحن لسنا مخالفين لقوانين الجزيرة العربية، وإنما أنتم الذين تخالفون قوانين الجزيرة العربية، وقوانين قريش نفسها تقضي بأن ندخل إلى مكة المكرمة لأداء العمرة إذا أرادنا ذلك، بل على قريش أن تحمينا وتحرسنا بسيوفها، فنحن نسير وفق هذا القانون وأنتم تخالفون هذا القانون. فهو في منتهى القوة يقول: (إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين). الأمر الثاني: أنت تهددني بقريش وأنهم قد جمعوا العوذ المطافيل وجمعوا جيوشاً ليحاربوني، لا، أنا أعلم بوضع قريش، قال: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم) يعني: ليست قادرة على محاربة المسلمين، فقريش أضعف من أن تحارب، فقد عادت من الأحزاب في خزي واضح بعد أن فشلت في غزو المدينة المنورة، وقريش لم تحرك جيشاً واحداً لقتال المسلمين في خلال السنة السادسة من الهجرة، مع اقتراب المسلمين أكثر من مرة من حدود مكة المكرمة. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم القوة التي هو فيها الآن، ويفاوض من هذا الوضع القوي، ولذلك كلماته مسموعة وكلماته مرغوبة عند بديل بن ورقاء وعند القرشيين جميعاً، فقال هذه الكلمات: (وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا)، فبدأ يعدد عروضاً في منتهى الوضوح، فقد أعطاهم ثلاثة عروض ليختاروا منها ما يشاءون. العرض الأول: (فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: هذا العرض يقضي أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب من قريش أن تضع الحرب بينه وبينهم مدة من الزمان، وهذه المدة سنة سنتان ثلاث عشر، ويتركون ما بيني وبين الناس، أنا أدعو الناس وهم يدعون الناس، وكل واحد يتصرف دون خشية من الطرف الآخر أن يدخل معه في حرب. فهذا العرض يفسر لنا أن ما حدث في صلح الحديبية من كون القرشيين يطلبون المعاهدة والمدة كان مطلباً إسلامياً في البداية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب هذه المدة؛ لأنه يعلم تمام العلم أن الدعوة في الجو السلمي أكثر إنتاجاً وأعظم تأثيراً وأسرع إلى قلوب الناس منها في جو الحروب، لذلك كان يطلب صلى الله عليه وسلم من قريش أن تضع الحرب بينها وبينه مدة من الزمان؛ ليسمح له فيها بالدعوة في كل مكان دون قتال. العرض الثاني: (وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا)، يعني: لو أرادوا أن يسلموا ويبقوا مثلنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا فعلوا ذلك، فنحن نرحب بهم في الإسلام. إذاً: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذه الكلمات وهو بسلاح المسافر فهذا يدل على عزة الإسلام فعلاً. العرض الثالث: (وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره)، يعني: قتال إلى النهاية حتى الموت، فنحن لا نخشى القتال، بل نطلبه ونحبه؛ لأنه في سبيل الله عز وجل. والسالفة أي: الرقبة، فهذا كان وضع الرسول عليه الصلاة والسلام، كلمات في منتهى القوة، وعروض ثلاثة واضحة جداً. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، وأخذ العروض الثلاث وانطلق إلى مكة المكرمة، وعندما ذكر بديل هذه الأمور لزعماء مكة، كان المتوقع منهم أن يثوروا ويغضبوا، كيف يقول لهم ا

ثاني رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

ثاني رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية لقد حاولت قريش قدر المستطاع أن يتجنبوا اللقاء والصدام مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان بسلاح المسافر، فأرسلوا الحليس بن علقمة، والحليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة زعيم الأحابيش المحالفين لقريش، فقريش للمرة الثانية لم ترسل قريش أحد زعماء قريش؛ لأنه قد يتهور في قرار لا يستطيع القرشيون تحمله، فأرسلوا الحليس بن علقمة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى الحليس قال: (هذا من قوم يعظمون البدن)، يعني: من قبيلة بني الحارث بن عبد مناف وهم قوم متدينون يحترمون قواعد البيت الحرام وأعراف البيت الحرام، ويعظمون البدن، ويحترمون من جاء لأداء العمرة أو الحج في مكة المكرمة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عامله بما هو أهله، فأرسل في وجهه البدن؛ ليشعره أنه ما جاء إلى هنا إلا ليقوم بما يعظمه الحليس بن علقمة وقومه، فعندما أرسل البدن في وجهه واستقبله الصحابة يلبون: لبيك اللهم لبيك، لما رآهم الحليس بن علقمة قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فالرسول عليه الصلاة والسلام استطاع أن يكسب قلب الحليس بن علقمة حتى قبل أن يتم بينه وبينه كلام، فقد كان عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقه في منتهى الروعة، فـ الحليس بن علقمة كافر، وبديل بن ورقاء كافر، وأبو سفيان كافر، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل قبل ذلك، وكل هؤلاء كفار، لكن كل واحد له طريقة تعامل، فهناك كافر غادر، وهناك كافر من نبلاء القوم، وهناك كافر لا يعظم أي دين، وهناك كافر يعظم الدين وإن كان ديناً باطلاً هكذا كل واحد له طريقة في التعامل، والرسول عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الرجل على قدر علمه وقدر بيئته وقدر ظروفه، وهذه هي الحكمة في حقيقتها. إذاً: الرسول الثاني لقريش فشل في أداء ما تتمناه قريش، بل بالعكس فقد رجع إليهم وقال لهم: اسمحوا له بالدخول إلى مكة لأداء العمرة، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، لكن قريشاً ضربت بكلامه عرض الحائط، وقالوا: هذا الكلام لا يستقيم نحن نريد أن نمنعه مهما كانت الأعراف والقوانين.

ثالث رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

ثالث رسل قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية لقد تأزم الموقف جداً عند قريش، فأرسلت الرسول الثالث وأيضاً ليس من قريش وهو عروة بن مسعود الثقفي من قبيلة ثقيف، فقريش أرسلت واحداً تعتقد اعتقاداً جازماً أن المسلمين سيحترمون رأيه ويسمعون كلامه؛ لأنه كان معظماً جداً في كل الجزيرة العربية، وهذا الرجل هو عروة بن مسعود الثقفي، وكما تعلمون عندما نزل القرآن الكريم على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة وبلغ به الناس، وقف القرشيون وقالوا قولتهم التي حكاها الله عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم يريدون سحب العظمة من الرسول عليه الصلاة والسلام وينسبونها إلى أولئك الذين كثرت أموالهم وعظمت قوتهم في الجزيرة العربية، والقريتان هما: مكة والطائف، والرجل الذي يقصدونه من مكة: هو الوليد بن المغيرة، والذي يقصدونه من الطائف: هو عروة بن مسعود الثقفي هذا. إذاً: جميع أهل مكة والجزيرة العربية يدركون أن هذا الرجل أعظم رجلين في داخل الجزيرة العربية بكاملها، لذلك أرسلوه للتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وعروة بن مسعود لكونه عزيزاً وسيداً جاء بكلمات تهذيبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت إن هدد ولم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بكلامه لن يكون ذلك مؤثراً على قريش؛ لأنه من ثقيف، فذهب عروة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (أرأيت لو استأصلت قومك)، انتبه لكلمات عروة بن مسعود الثقفي كيف يقلب الحقائق، كيف يصور رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يريد أن يقتل الناس وليس العكس، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام جاء وأعلن أكثر من مرة: (إنا لم نأت لقتال أحد ولكن أتينا معتمرين)، فهو يريد حقاً تعطيه قريش لكل الناس، ولكنهم يخالفون ويرفضون إعطاء ذلك الحق، فهنا قلب للحقائق وتصوير المظلوم أنه الظالم وتصوير الظالم أنه المعتدى عليه، وهذا أمر متكرر كثيراً في التاريخ، من ذلك: كلام فرعون عن موسى عليه الصلاة والسلام عندما قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]. فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال: (أرأيت لو استأصلت قومك وقتلت كل من في مكة، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك)، انظر إلى القلب الواضح للحقائق، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: إنه يريد أن يستأصل قومه، بل بالعكس هو طلب منهم أن يسمحوا له بالعمرة ويرجع إلى المدينة المنورة، ولم يسأل عن حقوقه داخل مكة المكرمة، ولم يسأل عن دياره، ولم يسأل عن أمواله، ولم يسأل عن كذا وكذا من حقوق الصحابة، فقد سلب هو أصحابه من أهل مكة كل هذه الحقوق، ومع ذلك تجد الكلمات معكوسة تماماً من عروة بن مسعود الثقفي هذه عاداتهم، ثم يقول عروة بن مسعود: (وإن الأخرى) يعني: إن هي غلبت قريش المسلمين، قال: (فوالله إني لأرى وجوهاً وأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، هذا كلام في منتهى سوء الأدب، يعني: أن هؤلاء الذين معك كلهم إذا بدأت الحرب سيفرون ويتركونك، إنما هم أوباش من الناس، فهو يسب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ويذكر أنهم جميعاً سيفرون عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدعونه لقريش. فهذا الرجل يهدد ويتوعد وليس كالذي سبقه الحليس بن علقمة، فمثل هذا ما ينفع معه الكلام الهادئ وما ينفع معه العظة كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الحليس بن علقمة، هناك رد ثان مناسب له، والذي تولى الرد عليه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع علمنا بـ الصديق في رفقه ولينه ورقته ورحمته رضي الله عنه، لكن كل ذلك في موضعه، أما إذا كان في موضع العزة والقوة فهو أقوى الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان في كل حياته، وراجعوا ما قلناه في محاضرات الصديق رضي الله عنه وأرضاه عن قوة الصديق وبأسه رضي الله عنه. فهنا وقف الصديق وتكلم بغلظة وشدة وعنف لم نعهده فيه قبل ذلك، قال رضي الله عنه وأرضاه بعد أن سب عروة بن مسعود سبة قبيحة مباشرة، قال وهو مستنكر: (أنحن نفر عنه؟) يعني: هل الصحابة تفر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعروة بن مسعود لما سمع السباب الذي قاله أبو بكر الصديق ومعلوم أن عروة بن مسعود زعيم وعظيم من عظماء العرب، ومن المستحيل أن توجه له هذه السبة أو هذا القذف دون أن يحرك الجيوش والجموع، لكنه قال كلمة تعبر عن مدى أخلاقيات بعض رجال العرب حتى في جاهليتهم، قال: (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأج

محاولة بعض شباب قريش منع الصلح مع المسلمين

محاولة بعض شباب قريش منع الصلح مع المسلمين لقد هزمت قريش هزيمة نفسية قاتلة، وبدأت تفكر تفكيراً جدياً في الصلح، لكن ما هي بنود الصلح؟ ما هي ظروف الصلح التي يفكرون فيها؟ كانوا قبل ذلك يرفضون الجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم على طاولة المفاوضات؛ لأنهم لا يعترفون به أصلاً، وهاهم الآن حين رأوا هذه العزة العظيمة للمسلمين يتفاوضون معهم، وبدءوا يفكرون في الصلح، لكن هناك مجموعة من شباب قريش المتحمسين المتهورين أرادوا أن يقطعوا كل طريق للصلح، فقامت هذه المجموعة وهم حوالي (50) شخصاً من المشركين وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل وكان وقتها مشركاً، قامت هذه المجموعة بالتسلل إلى معسكر المسلمين ليلاً ليقتلوا بعض المسلمين، وهم غرضهم أن يبدأ القتال ثم بعد ذلك ستكون الحرب الكبيرة بين المسلمين وبين قريش. فما الذي حصل مع هؤلاء؟ لقد كانت هناك مجموعة من الحرس يحمون المسلمين، وعلى رأس الحرس محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأرضاه، فاعتقل محمد بن مسلمة هؤلاء الخمسين المشرك، فماذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع هؤلاء الخمسين؟ لقد أطلقهم صلى الله عليه وسلم جميعاً مناً بلا فداء؛ لإبداء حسن النوايا ولإبداء الرغبة في الصلح، كأنه يقول لقريش: هذه رغبة حقيقية عندنا فنحن لم نجئ للقتال إنما جئنا معتمرين، ويريد صلى الله عليه وسلم أيضاً الصلح والهدنة؛ لينتشر الإسلام في الجزيرة العربية بأسلوب سلمي، قال الله سبحانه وتعالى يصف هذا الموقف في كتابه الكريم: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، فقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] يعني: بعد أن أخذتم هؤلاء الخمسين أسارى.

إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان لمفاوضة قريش في الصلح

إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان لمفاوضة قريش في الصلح لقد أرسلت قريش ثلاثة رسل حتى الآن: أرسلت في البداية بديل بن ورقاء الخزاعي من خزاعة، وأرسلت بعد ذلك الحليس بن علقمة من بني الحارث بن كنانة، وأرسلت بعد ذلك عروة بن مسعود الثقفي من ثقيف، وهؤلاء الثلاثة من خارج قريش، أرسلتهم محاولة للتوسط بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام في كل مرة يبلغهم بشيء، لكي يوصلوه إلى مكة المكرمة، لكن إلى الآن لم تستمع قريش مباشرة إلى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هؤلاء الرسل لم يبلغوا الأمر بصورة مرضية؛ إما لشيء في صدورهم، أو سوء فهم لقضية من القضايا؛ فلذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل رسولاً من المسلمين، يستطيع بواسطته أن يصل بالمعاني التي يقتنع بها المسلمون ويطالبون بها، يوصلها بوضوح إلى زعماء قريش؛ ليتجنب فتنة ليس لها أصل، فالرسول صلى الله عليه وسلم فكر في إرسال سفير ورسول، فمن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يرسله؟ أول من أراد أن يرسله إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وعمر بن الخطاب كما تعلمون رجل قوي مفاوض له حكمة وقوة ورأي سديد جداً، فهو في كثير من المرات ينزل القرآن الكريم موافقاً لرأيه رضي الله عنه وأرضاه، فيما عرف بموافقات عمر رضي الله عنه، ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يختار عمر بن الخطاب أنه كان في جاهليته سفيراً لقريش. وكانت الزعامة في قريش موزعة على عشر قبائل، كل قبيلة عليها دور من الأدوار في قيادة مكة، والدور الموكل إلى بني عدي -التي هي قبيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- كان دور السفارة في قريش، والذي كان يقوم بهذا الدور من قبيلة بني عدي هو عمر بن الخطاب نفسه، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يبعث رسولاً قديماً من رسل قريش تعترف به كسفير، فهذا في غاية الأهمية وله عمق إستراتيجي واضح، فهذه كانت وجهة نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في إرسال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن على غير المعتاد اعتذر عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أن الأمر ليس وحياً، وإنما هو رأي من الرسول عليه الصلاة والسلام له أن يراجع فيه ويعرض رأيه، فعرض عمر بن الخطاب رأيه في منتهى الوضوح ومنتهى الصراحة وقال: (يا رسول الله! ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت) يعني: أنا من قبيلة ضعيفة، قبيلة بني عدي بطن ضعيف من بطون قريش، لو حصل وقتل عمر بن الخطاب فلن يتحرك له أحد، ثم قال: (فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها). وعثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية عزيزة شريفة لها تاريخ ولها جنود ولها رجال، والجميع يعمل لها ألف حساب، ثم يقول: (وإنه -أي: عثمان بن عفان - مبلغ ما أردت) يعني: الذي تريده سيتحقق على يد عثمان ما هو علي يدي أنا، وواضح من كلام عمر بن الخطاب ومن سيرته قبل هذا الأمر وبعد هذا الأمر أنه لا يخشى الموت، ولم يقل هذا الكلام خوفاً من قريش أو من غيرها، بل كان على استعداد دائم أن يبذل روحه في سبيل الله عز وجل، لكنه يريد أن تتم المهمة، وهذه المهمة مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه سيؤديها؛ لأن عمر ليست له منعة في داخل مكة المكرمة وهو يريد أن تتم هذه المهمة؛ لذلك ذكر اسم عثمان بن عفان، ولماذا عثمان بن عفان من بين (1400) صحابي؟ هذا اختيار في منتهى الحكمة فعلاً؛ لأنه الرجل المناسب في المكان المناسب، فـ عثمان بن عفان من قبيلة بني أمية وهي قبيلة قوية تقدر على حماية عثمان بن عفان، وإجارة بني أمية تمضي على كل قريش، كذلك أبو بكر الصديق نفسه لو ذهب فإنه لا يؤدي مثل ما يؤدي عثمان بن عفان؛ لأن قبيلة أبي بكر الصديق قبيلة ضعيفة، التي هي قبيلة بني تيم. إذاً: كان اختيار عمر موفقاً لـ عثمان جداً هذا أولاً. ثانياً: عثمان بن عفان مشهور بالحلم والحكمة، فعنده القدرة على أن يتفاوض ويؤدي المهمة كما ينبغي أن تؤدى. ثالثاً: عثمان بن عفان رجل محبوب جداً في داخل مكة المكرمة سواء في أيام جاهليته أو في أيام إسلامه؛ لأنه كان كريماً واسع الكرم، يعطي عطاء بلا حدود، وكل أهل مكة قبل ذلك استفادوا منه، فهو عند أهل مكة محبوب، والناس كلها لن تؤذيه قدر المستطاع، وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه زوج ابنتي الرسول صلى الله عليه وسلم، كان متزوجاً في البداية من السيدة رقية، فلما ماتت تزوج أم ك

صلح الحديبية

سلسلة السيرة النبوية_صلح الحديبية في صلح الحديبية تجلت حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث عقد الصلح مع قريش راجياً من ورائه مكاسب عظيمة للإسلام والمسلمين، فقد كانت نظرته بعيدة، وهدفه عظيماً، بخلاف بعض الصحابة الذين نظروا إلى الصلح نظرة سطحية، فجعلهم ذلك يرفضون الصلح ويستنكرونه.

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من إشاعة مقتل عثمان بمكة

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من إشاعة مقتل عثمان بمكة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية في العهد المدني في فترة الفتح والتمكين، وقد ذكرنا في الدرس السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا أنه يذهب هو وأصحابه إلى مكة المكرمة للعمرة، وأنه أخذ أصحابه وخرج متوجهاً بهم إلى مكة، وكانت تداعيات هذا الأمر كبيرة جداً في مكة المكرمة، فقد حاول القرشيون في مكة المكرمة قدر استطاعتهم أن يمنعوا رسول صلى الله عليه وسلم من دخول مكة المكرمة، ودارت بينهم مفاوضات كثيرة كما ذكرنا، وفي النهاية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه سفيراً للمسلمين إلى قريش؛ ليتفاوض معهم في أمر دخول المسلمين إلى مكة للعمرة، فكان المشركون في موقف صعب، وكما ذكرنا في الدرس السابق: أن موقف قريش مع كونها قبيلة كبيرة وعزيزة كان ضعيفاً شديد الضعف، فقد وقفت قريش حائرة مع صلابة وقوة وعزة المسلمين، وما استطاعت أن تأخذ قراراً بحرب المسلمين، وبدأت تقدم رِجْلاً وتؤخر أخرى، وترسل وسطاء الواحد تلو الآخر، ومحتارة ماذا تعمل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يحملون معهم إلا سيف المسافر فقط، فقوتهم ضعيفة نسبياً بالمقارنة إلى قوة قريش وقبائل الأحابيش التي تتحالف مع قريش، لكن مع كل هذه المفارقات بين قوة المسلمين وقوة المشركين إلا أن المشركين حرصوا تمام الحرص على إتمام الصلح بينهم وبين المسلمين، وتجنبوا القتال. لم يكن هذا القرار سهلاً على قريش، فقد ظلت تفكر أياماً في أمر هذا القرار وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في مكة ينتظر قرار قريش. في هذا الوقت أشيع عند المسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل في مكة المكرمة، وهذا أمر خطير ومخالف للأعراف كما تعلمون، فقتل الرسول يعتبر إهانة كبيرة جداً للدولة التي يقتل رسولها، ومخالفاً للأعراف والقوانين، لذلك بمجرد أن وصلت هذه الإشاعة إلى المسلمين ومع أن الإشاعة لم تكن صحيحة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع الموضوع بمنتهى الجدية، فعندما أشيع أن عثمان بن عفان قد قتل جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً وعقد معهم مبايعة، وبايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة من أعظم البيعات في تاريخ الأرض، عرفت في التاريخ ببيعة الشجرة أو بيعة الرضوان، بيعة الشجرة؛ لأنها تمت تحت شجرة عند الحديبية، وبيعة الرضوان؛ لأن الله عز وجل صرح في كتابه أنه رضي عن أولئك الذين قاموا بهذه البيعة، قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. لقد بايع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً على ألا يفروا، كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وبايع بعض الصحابة على الموت، بل بايع بعضهم على الموت ثلاث مرات، وممن بايع على الموت ثلاث مرات سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه كما جاء ذلك في صحيح مسلم. إذاً: كانت هذه البيعة خطيرة، وبايع الجميع على عدم الفرار، أي: أنهم سيناجزون القوم، وسيقاتلون قريشاً ولن يفروا أبداً في هذا القتال، مع كونهم لا يحملون إلا سلاح المسافر، إنها بيعة في منتهى الأهمية، بايع جميع الصحابة إلا واحداً فقط وهو الجد بن قيس، وهو كما ذكرنا في الدرس السابق من المنافقين. وبعد هذه البيعة مباشرة جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القرشيين قد وافقوا على الصلح، وسيأتي رجل منهم ليفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنود الصلح.

وقفات مع بيعة الرضوان

وقفات مع بيعة الرضوان نحتاج إلى أن نقف وقفات مع هذه البيعة العظيمة: بيعة الرضوان. أولاً: هذه البيعة فيها خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، كل شيء في حياتي لله عز وجل إلى لحظة الموت، أنا في سبيل الله عز وجل، طاعة كاملة لله ولرسوله، فأمر هذه البيعة صعب، فهؤلاء المسلمون جاءوا إلى مكة للعمرة بسلاح المسافر فقط، ولا مدد لهم من المدينة؛ لأن المدينة تبعد عن مكة قرابة (500) كيلو، ومن الطبيعي إذا قاتلوا المشركين في هذا المكان فإن المسلمين قد يقتلون؛ لأنهم يقاتلون جيشاً بعدة وعتاد وعلى بعد خطوات من المدد، وليست قريشاً فقط، ولكن معها قبائل الأحابيش الحليفة لها، لكن مع ذلك لم يفكر واحد من المسلمين في أسرته، في أولاده، في زوجته، في تجارته، في أعماله، في حياته، لم يقل أحد منهم: ظروفي لا تسمح أبداً، بل لم يقم أحدهم بهذه البيعة إحراجاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إحراجاً من المسلمين، بل فعلوها جميعاً راغبين صادقين، وهذا كلام رب العالمين في قرآنه الكريم سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، أي: اطلع الله عز وجل على قلوب كل من بايع، فعلم سبحانه وتعالى أن هذه القلوب جميعاً قلوب مؤمنة مخلصة، من الفتح المبين الذي ذكره الله عز وجل في بداية السورة التي تحدثت عن صلح الحديبية وهي سورة الفتح، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فكون رب العالمين يصرح بالرضا عن مجموعة كبيرة عددها (1400) شخص وهم ما زالوا أحياء على وجه الأرض هذا من الفتح المبين، وأن تصل مجموعة من البشر إلى هذا الرقي وهذا الإخلاص وهذا الفقه والفهم والعمل بهذه الصورة التي ترضي رب العالمين سبحانه وتعالى رضاءً تاماً يكتبه في كتابه نقرؤه إلى يوم القيامة هذا من الفتح المبين، فهذه البيعة لها مكانتها، ولها قيمتها في الميزان الإسلامي، وظل هؤلاء عند جميع علماء الأمة من أعظم المسلمين درجة وإلى يوم القيامة، وهذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم الحديبية فقال لهم: أنتم اليوم خير أهل الأرض)، وهم (1400) صحابي. إذاً: أول شيء: أنه ظهر في هذه البيعة التضحية والبذل والعطاء الكامل من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه. ثانياً: هذا الموقف الذي أعلن فيه المسلمون رغبتهم في الموت هز مكة تماماً من داخلها، فمن يستطيع أن يقاتل قوماً يطلبون الموت؟ بماذا ستخوفهم؟ ستقتلهم، فهم الذين يريدون أن يموتوا، فقد بايعوا على أن يموتوا، بايعوا على ألا يفروا حتى النهاية، ولم يكن معهم إلا سلاح بسيط، ومع ذلك بايعوا على الموت. إذاً: هذا الموقف هز مكة تماماً، وجعلها تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعود إلى المدينة بأي ثمن، حتى وإن كان في ذلك حط من كرامة قريش، وهذا ما سنراه بعد ذلك في بنود المعاهدة. لقد عبر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بعد هذا الحدث بسنوات عن صفات الجيش المنصور بكلمات قليلة ذكرها لـ هرمز قائد الفرس عند بداية فتح فارس قال: جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة. يعني: الجيش الذي يحب الموت من المستحيل أن يهزم، وهذا درس من أعظم الدروس؛ من أجل ذلك قررت قريش إبرام الصلح بكل ما فيه. ثالثاً: قبل أن نخوض في بنود الصلح هناك شيء غريب جداً وهو أنه لم يصب المسلمين سوء عندما أخذوا قرار الموت، بينما في أحد عندما أخذوا قرار الفرار، استشهد منهم سبعون، وكان عددهم في أحد (700) وفي الحديبية (1400) لم يصب منهم أحد بسوء. وهذه كلمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي كلمة جميلة جداً يقول فيها: احرص على الموت توهب لك الحياة. يعني: الجيش الذي يريد أن يموت يهب الله له الحياة والنصر والتمكين والسيادة، والجيش الذي يريد أن يعيش أي عيشة حتى لو كانت رخيصة أو ذليلة أو تعيسة، المهم أن يعيش فهذا جيش يكتب عليه الموت. رابعاً: أن الله سبحانه وتعالى صرح برضاه عن أولئك الذين قاموا بالبيعة، مع أنهم ما زالوا على قيد الحياة، ومن الممكن أن يرتكبوا بعد ذلك ذنوباً أو أخطاءً أو كذا أو كذا من الأمور، ومع ذلك ربنا سبحانه وتعالى صرح أنه قد رضي عنهم، والله سبحانه وتعالى يعلم الغيب، ويعلم أن هؤلاء سيفعلون كذا وكذا، وأنه من المؤكد أن يكون لهم أخطاء؛ لأنهم من البشر، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن يوجد معنى في غاية الأهمية ينبغي أن نفهمه من هذا الكلام: وهو أن موقفاً واحداً في حياتك لصالح المسلمين ولصالح الأمة يكون من الثقل بحيث أنه لا

إرسال قريش سهيل بن عمرو للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص بنود الصلح

إرسال قريش سهيل بن عمرو للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص بنود الصلح نعود إلى الحديبية، قررت قريش الصلح، وقررت أن ترسل رجلاً لإتمام الصلح مع رسول صلى الله عليه وسلم، وهنا لا ينفع أن تبعث قريش وسيطاً من خزاعة أو من ثقيف أو من أي قبيلة غير قريش؛ لأنه سيتفق وسيفاوض في بنود ستتأثر بها قريش تأثراً مباشراً، فلا بد أن يكون واحداً من قريش، إذاً: من تبعث؟ هل تبعث عكرمة بن أبي جهل أم تبعث خالد بن الوليد أم تبعث أبا سفيان أم تبعث صفوان بن أمية؟ لم تبعث أحداً من هؤلاء؛ لأن كل هؤلاء كما يطلقون عليهم في هذه الأيام من: الصقور، كل هؤلاء يريدون أن يحاربوا المسلمين، وقريش لا تريد أن تحارب، هي تريد أن تلطف الأمر بقدر المستطاع، فأرسلت رجلاً من الحمائم رجلاً طيباً كما يقولون، أرسلت: سهيل بن عمرو، وسهيل بن عمرو حياته كلها في مكة هادئة وهو إنسان لطيف وليست له مشاكل ضخمة مباشرة مع المسلمين، ويستطيع أن يتفاوض بلطف مع المسلمين، وهذا ما تريده قريش، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى سهيل بن عمرو قال: (قد سهل لكم أمركم) يعني: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فالرسول صلى الله عليه وسلم استبشر وبشر المؤمنين، وأخذ من كلمة سهيل معنى فقال: (سهيل قد سهل أمركم)، والفأل الحسن في الإسلام مطلوب، لكن في نفس الوقت كانت قريش حذرة؛ لأن سهيل بن عمرو رجل مصاب من المسلمين في بيته، أتدرون كم شخص أسلم من عائلته؟ أربعة من أولاده أسلموا، وهذه كارثة بالنسبة له، فهذا الرجل سيذهب ليدافع عن قضية شخصية، أسلم أربعة من أولاده وثلاثة من إخوته، أولاده: أم كلثوم وسهل وعبد الله هؤلاء الثلاثة أسلموا منذ زمن بعيد، ويعيشون في المدينة المنورة، والرابع: أبو جندل مسلم أيضاً ومقيد قيده أبوه سهيل بن عمرو قبل أن يخرج؛ لئلا يلتحق بالمسلمين. وإخوته: السكران بن عمرو وأبو حاطب بن عمرو وسليط بن عمرو، يعني: عائلته تقريباً كلها أسلمت ولم يبق إلا هو، فهو مصاب في عزته في وسط قريش، فذهب يفاوض بكل حمية، ذهب لكي يأخذ من المسلمين كل مصلحة ممكن تكون لقريش. وهنا لا بد أن نقف وقفة ونقول: إذا قام فريقان بالصلح فمعنى ذلك: أن القوتين متكافئتان، وإذا حرص القوي في الظاهر على الصلح مع الضعيف فاعلم أنه يرى الضعيف أقوى منه، وأنه من داخله يخشى هؤلاء الضعفاء، ويعمل لهم ألف حساب، ومستعد أن يتنازل، فعلى المسلمين أن يثبتوا وإن كانوا ضعفاء، فإنهم على الحق، والله معهم، وإذا ثبتوا فإن هذا يزلزل كيان الكافرين. قعد القرشيون بكل ما لهم من تاريخ وقوة وجنود وأحلاف، قعدوا مع الجماعة الضعيفة المستضعفة التي كانت تعيش عندهم وخرجت من ديارهم وذهبت إلى المدينة المنورة، وجاءت الآن للعمرة بسلاح المسافر، قعدوا من أجل الصلح في مصلحة الطرفين، ويلتقون في منتصف الطريق كما ذكروا، هذا الصلح يحمل إيجابية واضحة، ولكنه في نفس الوقت يحمل سلبية لا بد أن يفقهها المسلمون، فالإيجابية الهامة: أن كل طرف أصبح معترفاً بالآخر، فإذا كنت أنت جماعة لا دولة وتم معك الصلح فهذه إيجابية كبرى جداً؛ لأنها بداية الاعتراف بأنك أصبحت قوياً متكافئاً، فقريش لا تحتاج لاعتراف الرسول بها؛ لأن قريشاً صار لها ستمائة سنة وأكثر قبيلة معترف بها وسط الجزيرة العربية بكاملها، بل ووسط العالم، ولها علاقات مع بعض الدول في العالم، أما جماعة المسلمين فلا يعترف بهم أحد لا قريش ولا غيرها؛ لأنها جماعة ناشئة ضعيفة مستضعفة، فإذا اعترفت بها قريش فهذه من أعظم إيجابيات صلح الحديبية، ونحن الآن في أيامنا رأينا عندما نجحت حماس في انتخابات فلسطين ماذا حصل؟ دعتها بعض الدول العالمية للحديث والتحاور والتفاوض، منها: روسيا مثلاً، وروسيا تعتبر من أقطاب العالم ومن أقوى دول العالم، ومع ذلك دعت حركة حماس لسماع الرأي ولتبادل المشورة في بعض الأمور، وهذا في حد ذاته اعتراف بحماس، وهذا الكلام أغضب اليهود جداً؛ لأن هذه المفاوضات فيها اعتراف ضمني بشرعية حماس وبقوة حماس، فهذا الذي كان يعيشه الرسول صلى الله عليه وسلم أيام صلح الحديبية، فكون قريش تجلس على طاولة المفاوضات معه فهذا اعتراف أمام الجميع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح زعيماً لدولة معترف بها في الجزيرة العربية، وهذا انتصار كبير وفتح مبين فعلاً. أما السلبية التي تكون في هذا الصلح: أنه إذا جلست قوتان للتفاوض وللصلح فلا بد أن يتنازل كل طرف عن شيء، وهذا يحتاج إلى وقت من أجل أن نفهمه، فحين تحصل مفاوضات بين مجموعة من المسلمين وبين دولة قوية في العالم لا بد أن نعرف بالضبط حدود التفاوض، ونعرف بالضبط ما هو الذي يمكن أن نسمعه ويغضبنا ونمرره، والذي يمكن أن نسمعه ويغضبنا ولا يمكن أن نمرره؟ فالرسول صلى الله عل

بنود صلح الحديبية

بنود صلح الحديبية صلح الحديبية: معاهدة من أربعة بنود، تعالوا لنرى كل بند هل هو في صالح المسلمين أم في صالح المشركين؟

رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية في عامهم ذلك دون دخول مكة

رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الحديبية في عامهم ذلك دون دخول مكة أولاً: البند الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يرجعون من عامهم هذا فلا يدخلون مكة، وإذا جاء العام المقبل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثة أيام، ليس معهم إلا سلاح الراكب، ولا تتعرض لهم قريش، هذه البند الأول. هل هذا البند في صالح المسلمين؟ رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العام في صالح قريش؛ لأنه يحفظ لها نسبياً ماء وجهها، لكن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، ودخول مكة دون مقاومة، بل وخروج أهلها منها وعدم التعرض مطلقاً لجيش المسلمين، هذا والله انتصار مهول للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، ونحن عندما نتذكر ما حدث للمسلمين في مكة صدق مدة ثلاث عشرة سنة من التعذيب والإبادة، ثم بعد ذلك الهجرة وفرار المسلمين بدينهم، وقد تركوا كل شيء في مكة، ثم نتذكر بدراً وأحداً وتجميع قريش للأحزاب وحصار المدينة منذ أقل من سنة واحدة، كل هذه المقاومة القرشية انهارات، وقبل المشركون بفتح باب دولتهم للمسلمين دون مقاومة، أي نصر للمسلمين؟! وأي رفع رأس للمسلمين في الجزيرة العربية بكاملها؟! وأي إراقة لماء وجه قريش وسط الجزيرة العربية؟! أين صقور قريش؟ أين السلاح والعتاد؟ أين العلاقات والأحلاف؟ أين الأموال والاقتصاديات الهائلة لقريش؟ أين كل ذلك؟ كل هذا ينهار أمام دولة المسلمين الناشئة. إذاً: هذا البند بكل تأكيد في صالح المسلمين، ليس هذا فقط اعترافاً من قريش بدولة المسلمين، ولكن هذا اعتراف أن دولة المسلمين دولة قوية تفتح لها أبواب مكة، ويخرج أهلها منها، وهذا لم يحصل مع أي قبيلة في تاريخ مكة بكاملها، فقريش لم تخرج وتترك مكة المكرمة مفتوحة الأبواب ولا مرة لأي قبيلة من قبائل العرب مهما كانت قوية، وحصل هذا مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أنه أقوى من أي قبيلة في الجزيرة العربية في نظر قريش. إذاً: هذا البند في صالح المسلمين.

وضع الحرب بين الطرفين مدة عشر سنين

وضع الحرب بين الطرفين مدة عشر سنين البند الثاني: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فهذا البند في صالح من؟ من الذين يحتاج إلى وضع الحرب ويرغب في الأمان؟ أليس هم المسلمون؟ هذه بغية المسلمين، كان الأمان طلباً نبوياً قبل المعاهدة أصلاً قبل صلح الحديبية، لعلكم تذكرون الكلام الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لـ بديل بن ورقاء الخزاعي وذكرناه في الدرس السابق، قال: (فإن شاءوا ماددهم) يعني: كان هذا طلباً إسلامياً أن تحدث مدة بين المسلمين وبين المشركين. إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يحتاج أن يقيم دولته ويؤسسها، أما دولة قريش فمقامة منذ مئات السنين، بينما دولة المسلمين الناشئة عمرها ست سنين فقط، وتحتاج إلى كثير وكثير من الإعداد والتأسيس، فهل ستكون الدعوة في الجزيرة العربية أسهل في جو الحروب والدماء والعداوات المتكررة أم ستكون أسهل في حالة الأمان؟ لا شك أنها في حالة الأمان أسهل، وهذا ما يريده المسلمون، فإنهم سيتحركون في كل مكان بسهولة آمنين من الحرب مع القبائل المختلفة أيضاً، وحركة المسلمين لدعوة القبائل البعيدة عن المدينة المنورة والقبائل القريبة من مكة المكرمة ستكون أسهل وأيسر، بخلاف ما إذا كانت الحرب معلنة بين المسلمين وبين قريش. إذاً: الدعوة والحركة ستكون أسهل وأقرب إذا كانت الحرب موضوعة ولمدة عشر سنوات كاملة؛ لأن المسلمين سيتحركون ويدعون الناس إلى الإسلام، وتزداد قوتهم، والناس محتاجة إلى تعريفها بالإسلام، وبمجرد معرفة الإسلام معرفة صحيحة فإن الفطرة السليمة ستقبل الإسلام بلا تردد، وكانت القبائل خائفة من سماع شيء عن الإسلام؛ لأن كلمة الإسلام تعني حرب قريش، وقريش أعز قبيلة في العرب، فإن أمنت الناس حرب قريش سيدخل في الإسلام رجال ونساء وأطفال كثيرون، وهذا ما رأيناه فعلاً بعد صلح الحديبية بعد ذلك، كما سنتكلم عنه إن شاء الله. إذاً: هذا البند بوضوح في صالح المسلمين، ولكن توجد هنا ملاحظة مهمة جداً، وهي أن المسلمين عندما عقدوا هدنة مع المشركين في ذلك الوقت لم يأخذوا كل حقوقهم، ولم ترد إليهم كامل حقوقهم، لا زالت هناك ديار منهوبة، لا زالت هناك أموال مسلوبة، لا زالت هناك أرض محتلة من القرشيين، ومع ذلك قبل المسلمون بالهدنة قبل أن ترد إليهم حقوقهم المسلوبة، لكن المسلمون في هذه المعاهدة لم يقروا قريشاً على أي حق مسلوب لهم عندهم، لم يقولوا: ديارنا وأموالنا وأرضنا كلها حق لكم، أبداً لم يقولوا هذا الكلام، وإنما وضعوا الحرب عشرة سنوات، وبعد هذه العشر السنوات سنطالب بحقوقنا وسنسعى لاسترداد كل ما سلب مني. إذاً: إذا جلس المسلمون في صلح مع أعدائهم، وقبلوا بالهدنة دون إقرار العدو على حقوق مسلوبة هذا أمر شرعي، لكن إذا أقر المسلمون لعدوهم بحق المسلمين المسلوب هذا غير جائر وغير شرعي، ولا يمكن أبداً أن تقيس هذه المعاهدة التي قام بها صلى الله عليه وسلم بمعاهدات أخرى أقر فيها المسلمون لعدوهم بحقوق المسلمين، هذا شيء وما فعله المصطفى صلى الله عليه وسلم شيء آخر، وهناك فارق كبير بين معاهدة صلح الحديبية وبين المعاهدات التي قام بها المسلمون في عصرنا هذا مع اليهود، التي أقروا فيها لليهود بممتلكات إسلامية خالصة، فحذار أن يشبه أحد هذه المعاهدات الحديثة بمعاهدة صلح الحديبية، شتان بين المعاهدتين. إذاً: البند الثاني من بنود صلح الحديبية في صالح المسلمين تماماً.

دخول القبائل في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حلف قريش

دخول القبائل في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حلف قريش البند الثالث: من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزء من ذلك الفريق. فأي عدوان تتعرض له أي قبيلة من القبائل المحالفة يعتبر عدواناً على ذلك الفريق، ويعتبر في نفس الوقت مخالفة واضحة للاتفاقية، فهذا البند في صالح من؟ قريش أعظم قبائل العرب، والذي يحتاج ويريد أن يدخل في عهدها لا ينتظر معاهدة بهذه الصورة، إن أردت فادخل في عهد قريش من الآن، أين المشكلة؟ سيدخل في عهدها مباشرة لقوتها وتاريخها، لكن القبائل التي تريد أن تدخل في عقد وحلف محمد صلى الله عليه وسلم ستتردد ألف مرة؛ خوفاً من بطش قريش وحلفائها، لكن بعد صلح الحديبية من كان في قلبه تردد سيأمن من وضع الحرب، وسينضم إلى فريق المسلمين وهو مطمئن. إذاً: هذا البند لم تستفد منه قريش مطلقاً؛ لأن قريشاً أي أحد يريد أن يحالفها سيحالفها، بينما استفاد المسلمون من هذا البند استفادة قصوى، فالقبائل ستنضم لهم بعد أن أمنت قريشاً، من أجل هذا كان هذا البند في صالح المسلمين، ودليل هذا أن قبيلة خزاعة لم تنضم في حلف المسلمين إلا بعد صلح الحديبية، مع أن قبيلة خزاعة من أكثر القبائل قرباً إلى رسول صلى الله عليه وسلم حتى إن كتّاب السير يقولون: كانت خزاعة عيبة نصح لرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: موضع سر وثقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما ذكرنا من قبل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل عيوناً من خزاعة، ويتحالف مع خزاعة، وكان بينها وبين بني هاشم حلف قديم جداً ومع بني عبد المطلب، ولها تاريخ طويل في هذه القضية، فقبيلة خزاعة التي تحب الرسول صلى الله عليه وسلم لم تدخل في حلفه إلا بعد صلح الحديبية، فما بالك ببقية القبائل؟ إذاً: هذا البند فعلاً كان في صالح المسلمين، وهذا البند بالذات هو الذي سيكون سبباً بعد هذا في فتح مكة المكرمة، فأي خير جاء من ورائه.

إرجاع من أسلم من أهل مكة بعد صلح الحديبية لقريش وعدم إرجاع من ارتد إلى المسلمين

إرجاع من أسلم من أهل مكة بعد صلح الحديبية لقريش وعدم إرجاع من ارتد إلى المسلمين البند الرابع، وهذا البند يحتاج منا وقفة مهمة، البند الرابع: من جاء قريشاً ممن مع محمد صلى الله عليه وسلم هارباً منه لم يرد إليه، ومن أتى محمداً صلى الله عليه وسلم من غير إذن وليه هارباً منه رده عليهم، يعني: من يأتي المسلمين من أهل قريش بعد صلح الحديبية مسلماً يرجعونه إلى أقاربه، إن كان أقاربه يرفضون إسلامه، ومعلوم أن كل المشركين سيرفضون إسلام أهل مكة. إذًا: هذا البند يقضي أن كل مسلم جديد بعد صلح الحديبية سيرجع مرة أخرى إلى مكة المكرمة، وعلى الناحية الأخرى إذا ارتد أحد المسلمين وذهب إلى مكة لا تعيده مكة إلى المسلمين. هذا البند في ظاهره في صالح القرشيين، لكن تعالوا نحلل هذا البند، هذا البند يتكون من جزأين: الجزء الأول: من يهرب من الصف المسلم إلى الصف الكافر، هل يريده المسلمون؟ لو أن شخصاً من المسلمين ارتد وقرر أن يكون في صف قريش هل نتمسك به؟ هل نجبره على البقاء في المدينة المنورة وهو كاره للإسلام والمسلمين؟ واضح جداً أننا لسنا بحاجة إليه، بل لو كان هذا البند غير مكتوب في المعاهدة كل من يريد أن يرتد من المسلمين سيبطن هذه الردة ولن يظهرها؛ لأنه خائف من أن ترجعه قريش إلى المسلمين؛ لذلك هذا البند يسمح لكل من في قلبه مرض أن يظهر هذا المرض، ويتخلص منه المسلمون، وقد ذكرنا الآية قبل هذا أكثر من مرة، قال الله عز وجل في كتابه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]، يعني: المنافقين، فأنا لماذا أدع المنافق داخل المدينة المنورة يدل على عوراتي، وينقل أخباري إلى المشركين، ففي بقاء أهل النفاق خطورة شديدة على المسلمين، والمسلمون ليسوا في حاجة إلى من يبقي معهم بجسده وهو ليس معهم بقلبه، من أجل هذا فالتخلص منه أفضل. إذاً: هذا الجزء من البند الرابع في صالح المسلمين. الجزء الثاني هو الذي فيه سلبية واضحة: أي واحد من أهل مكة بعد صلح الحديبية جاء إلى المسلمين مسلماً، سواء كان إسلامه قبل صلح الحديبية أو بعده، فإن على المسلمين أن يردوه إلى مكة المكرمة، يردونه إلى أهله من الكافرين، ومعلوم إذا رد مسلم إلى الكفار فإنه قد يفتن في دينه، فقد يعذبه المشركون حتى يكفر بالله عز وجل، بالإضافة إلى أن المسلمين سيخسرون قوته، كان المفروض أن يضيف قوته إلى قوة المسلمين، فالمسلمون في هذه الحال لن يستفيدوا من قوته ومن طاقته. إذاً: نستطيع أن نقول: هذه الفائدة الوحيدة التي حصلت قريش عليها في هذه المعاهدة الطويلة، فهذا البند يعتبر في صالح قريش، ولا بد أن يكون في صالحها شيء، وإلا لما تمت المعاهدة، ومع ذلك هذه الجزئية من البند لا تخلو من فائدة للمسلمين، لكن كيف؟ نقول: المسلم الذي سيعود إلى مكة قد يصبح مصدراً للاضطراب في داخل دولة مكة، قد يدعو إلى الإسلام في داخل مكة، قد يؤثر على عقليات المشركين في داخل مكة، قد يجمع نفسه مع غيره ويصيب المشركين بأذى في داخل مكة أو في خارجها، بل قد يخفي إسلامه ويدل على عورات المشركين، ويحدث فتناً في داخل المشركين، فهو لا يقبل دينهم ولا يقبل عبادتهم، فيكون خطراً حقيقياً على المشركين، وهذا عين ما رأيناه بعد ذلك، يعني: حتى هذه الجزئية من هذا البند التي هي في صالح المشركين فيها خسارة للمشركين أيضاً. هذه هي بنود صلح الحديبية الأربعة، تعالوا نراجع هذه البنود الأربعة سنجد أنها في الغالب في صالح المسلمين على حساب قريش، وفيها فوائد جمة ومزايا عميقة جداً، سبعة أثمان المعاهدة في صالح المسلمين، والجزئية الوحيدة التي تمثل ثمن المعاهدة التي في صالح المشركين في صالح المسلمين أيضاً، ولكن بخسارة، فأي فائدة لا تخلو من خسارة، هذا هو صلح الحديبية، وهذه هي قيمة هذا الصلح الكبير، وهذا هو الصلح الذي سيكون له نتائج غيرت ليس فقط وجه الجزيرة العربية، ولكن وجه العالم.

كتابة صيغة صلح الحديبية وتوثيقها

كتابة صيغة صلح الحديبية وتوثيقها بعد أن اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم على بنود الصلح مع قريش لا بد أن توثق وتسجل في صحيفة تكون بين الدولتين يوقع عليها الطرفان، ويعترف بها في الجزيرة العربية بكاملها، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الجلوس مع سهيل بن عمرو لكتابة الصحيفة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أمّي لا يكتب ولا يقرأ، فالذي كان يكتب المعاهدة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، والذي يملي عليه الكلمات هو رسول صلى الله عليه وسلم، وهذه إشارة قوية جداً إلى أن اليد العليا في المعاهدة للمسلمين، فهم الذين يملون المعاهدة ويكتبونها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يملي وعلي بن أبي طالب يكتب، وسهيل بن عمرو مجرد مستمع. فقال صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، بداية كل عمل للمسلمين: بسم الله الرحمن الرحيم، فوقف سهيل واعترض، وكل اعتراضات سهيل بن عمرو شكلية، لم يعترض على كل البنود السابقة مع كل الخسائر التي خسرتها قريش لضعف قريش، وإنما هو الآن يعترض اعتراضات شكلية، ونريد أن نشاهد مرونة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال سهيل: (ما الرحمن؟) يعني: لسنا موافقين على هذه الكلمة، (ما الرحمن؟ فو الله ما ندري ما هو، اكتب: باسمك اللهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لسيدنا علي: اكتب: باسمك اللهم)، يعني: (باسمك اللهم) هذه ليست فيها معارضة لأمر شرعي، وإذا لم يكتب الرحمن الرحيم ليس معنى ذلك أنه غير معترف بأن الله عز وجل هو الرحمن الرحيم، لا، وإنما لم يكتب ذلك في المعاهدة، فهذه نقطة شكلية مررها الرسول صلى الله عليه وسلم دون وقوف، (فمحا علي بن أبي طالب البسملة وكتب: باسمك اللهم، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله)، ولم يكمل الكلمة بعد حتى وقف سهيل مرة أخرى، لكن هذه الوقفة مهمة جداً من سهيل قال: (لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله)، يعني: هم لم يعترفوا بعد بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكيف تكتب في الصحيفة ويوقع عليها سهيل، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إني رسول الله وإن كذبتموني، ثم أمر علياً أن يمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فسيدنا علي قال: لا أستطيع أن أمسح كلمة رسول الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال له: أرني مكانها، فأشار له علي رضي الله عنه وأرضاه على مكان الكلمة، فمحاها صلى الله عليه وسلم بنفسه)، هذا موقف في منتهى العمق، فـ سهيل بن عمرو يريد أن يأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في قضايا جانبية بعيدة عن الصلح، فهو يسحبه في تفريعات بعيدة عن الموضوع الأساس الذي نتكلم فيه، وكانت رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام واضحة جداً، فهو يريد أن تتم المعاهدة؛ لأن هذه البنود كلها في صالح المسلمين، ويرى أن فيها نصراً للمسلمين، لم يكونوا يحلمون قبل صلح الحديبية، فالمسلمون يقولون: كان كل طموحنا أننا نؤدي العمرة ونرجع مرة أخرى إلى المدينة المنورة، والآن عندنا كل المكاسب، فلا نعطل الصلح من أجل كلمة كذا أو كذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يريد للصلح أن يتم، وهذه الكلمات لن تؤثر على الصلح. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يمحو كلمة: محمد رسول الله، ويكتب: محمد بن عبد الله، وهذا الكلام ليس فيه خطأ هو فعلاً محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا نكتب هذا الأمر وتمر المعاهدة بسلام، ويخرج المسلمون بكل هذه الفوائد التي فيها؟! من المرونة أن أتنازل عن أشياء لا تقدم ولا تؤخر، وليس فيها مخالفة شرعية، وهذا واضح من إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لمحو هذه الكلمات، فهو صلى الله عليه وسلم لا يقر باطلاً أبداً، ونحن نحتاج إلى أن نفهم هذا الكلام جيداً، نحتاج إلى أن نفهم متى نتشدد ومتى نتساهل، متى نقول: لا يمكن أبداً أن نتنازل عن هذا الأمر، ومتى نقول: يمكن نتنازل عن هذا الأمر أو نقبل بهذا الأمر.

الضوابط والشروط المستفادة من صلح الحديبية

الضوابط والشروط المستفادة من صلح الحديبية السيرة النبوية كلها كنوز، وكلها واقع، نحن نقرأ هذا الكلام الذي وقع قبل (1400) سنة، لكن هذا الكلام له تطبيق في كل يوم من حياتنا وتعالوا ننظر إلى صلح الحديبية وكيف أنه بين لنا وعرفنا شروط الصلح في الإسلام: أولاً: هذا الصلح ليس فيه إقرار للمشركين على باطل، وليس فيه تنازل عن شيء من الدين، وليس فيها إعطاء أرض لقريش ليست أرضهم، أو الاعتراف لهم بها، هذه الأمور لم تكتب في الصلح، وهذا الصلح لا يمنع المسلمين من التسلح، ولا يمنع المسلمين من عقد الأحلاف، ولا يمنع المسلمين من إعداد العدة، ولا يأمر المسلمين بتغيير المناهج أو تبديل الثوابت. إذاً: هذا والصلح في الإسلام، صلح ليس فيه تنازل عن شيء من الشرع. ثانياً: هذا العهد وهذا الصلح بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين قريش لم يقر الصداقة بينهما، وإنما فقط أقر وضع الحرب لمدة عشر سنوات مع بقاء الحالة كما هي عليها، حالة العداوة بين المسلمين وبين المشركين باقية، لم يقر الصداقة بين المسلمين وبين المشركين. ثالثاً: هذا العقد إلى أجل، عشر سنوات، وبعد العشر سنوات يمكن أن نقعد ونتكلم، إذا أردنا أن نمد العهد بعد عشر سنوات نفعل، وإن رأينا أن هذه المدة تكفي لم نفعل، لكن لا يوجد شيء اسمه سلام دائم، كما في عصرنا مع عدم عودة الحقوق سلام دائم لا ينفع، السلام مقرون بعودة الحقوق. رابعاً: هذا العقد واضح البنود ليس فيه بند مبهم، بحيث يفهم على أكثر من محمل، لا، بل واضح جداً؛ من أجل أن يضمن المسلمون حقهم تماماً دون خداع من الطرف الآخر. خامساً: هذا العقد عُقد وللمسلمين قوة تستطيع أن تردع العدو إذا خالف المعاهدة، أما إن لم تكن لك هذه القوة فلا معنى للمعاهدة، فمثلاً: لو أننا وضعنا بنوداً وحصلت منا تنازلات ومنهم تنازلات، وجاء بعد سنة أو سنتين فخالفوا هذه المعاهدة، ماذا ستعمل هل ستذهب لتشتكي وتشجب وتندب وتدعو هذا وذاك ليدافع عنك، أم عندك القوة الكافية لردع العدو ومعاقبة العدو إذا خالف المعاهدة؟! فالرسول عليه الصلاة والسلام كانت عنده هذه القوة، وسنرى بعد سنتين كيف أنه صلى الله عليه وسلم ردع قريشاً وحلفاءهم بني بكر عندما خالفوا هذه المعاهدة مع المسلمين، لكن لو كان المسلمون ضعافاً وحصلت مخالفة ولم يستطيعوا أن يردعوا المخالف فماذا سيكون الموقف؟ سيكثر الاستهزاء والاستخفاف بهم، وهذه شيء طبيعي جداً، وحتى لو دخل طرف ثالث في المعاهدة ليضمن الطرفين، فهل الطرف الثالث سيكون على الحياد وقوي بحيث يستطيع أن ينصر الطرف الأول على الطرف الثاني، أو الطرف الثاني على الطرف الأول إذا خالف أحدهما، أم هو مع طرف من الطرفين سواء كان ظالماً أو مظلوماً؟! إذاً: إذا لم يملك المسلمون القوة الكافية للردع عند المخالفة فلا معنى للمعاهدة.

المقارنة بين معاهدة صلح الحديبية وبين معاهدات زعماء المسلمين في عصرنا مع اليهود

المقارنة بين معاهدة صلح الحديبية وبين معاهدات زعماء المسلمين في عصرنا مع اليهود إن معاهدة صلح الحديبية بالمقارنة بمعاهدات المسلمين مع اليهود في زماننا هذا، وأشهر هذه المعاهدات معاهدة (أوسلو) ومعاهدة (خارطة الطريق) وغيرهما من المعاهدات بين المسلمين واليهود، وفي هذه المعاهدات أُقِرَ اليهود على باطل، وهو امتلاكهم لأرض فلسطين، أو لجزء من أرض فلسطين، والمسلمون جميعاً كانوا مقتنعين تماماً الاقتناع أن فلسطين أرض إسلامية، أو أرض عربية كما كانوا يقولون، لكن بعد هذه المعاهدات أقر بعض المسلمين أن جزءاً من أرض فلسطين لم يعد مملوكاً للمسلمين. وفي هذه المعاهدات قلب العداء بين المسلمين واليهود إلى صداقة، ويتبع ذلك رفع عداوة اليهود من مناهج التعليم والإعلام؛ من أجل أن يصعد جيل من المسلمين لا يعرف عدوه من صديقه، وهذا شيء خطير جداً. وفي هذه المعاهدات لم يحدد المسلمون فترة معينة للمعاهدة ثابتة أو مفتوحة، وإنما السلام الدائم مهما حدث، وهذا شيء خطير. وفي هذه المعاهدات لم يعترف اليهود بالأحلاف التي بين المعاهد وبين الدول الأخرى، يعني: في كامب ديفيد لم يعترف اليهود بمعاهدات مصر مع الدول الأخرى، فلو دخلت إسرائيل مع دولة أخرى من دول العالم الإسلامي في حرب ليس لمصر أن تعترض؛ لأن بنود المعاهدة تقر بأنه ليس هناك حرب بين إسرائيل وبين مصر، فماذا حصل بعد هذا؟ الذي حصل بعد هذا أن إسرائيل غزت لبنان بعد كامب ديفيد بسنوات قليلة جداً، ففي عام (1982) م غزت إسرائيل لبنان ولم تستطع مصر أن تدافع عن لبنان بجيشها، مع أن هناك معاهدة دفاع مشترك بين مصر ولبنان، كما يقر بذلك ميثاق جامعة الدول العربية، لكن ما دام هناك معاهدة مع إسرائيل فإن مصر لا تدافع عن دولة أخرى إذا حاربتها إسرائيل، وكان كل دور مصر أن تخرج ياسر عرفات من لبنان مع وجود الجيش اليهودي في داخل لبنان، وهذا شيء خطير جداً. هذا العقد بين إسرائيل ومصر عُقد وليس للمسلمين القوة الكافية للردع لو حصلت مخالفة؛ لأن سيناء التي هي محل النزاع أصلاً لم يترك فيها جيش مصري، أقصى مسافة يمكن أن يكون فيها الجيش المصري على بعد (5) كيلو متر من قناة السويس، بينما يوجد جيش اليهود على بعد ثلاثة كيلو مترات من رفح، يعني: بقيت منطقة سينا بكاملها خالية من السلاح ومن الجيش، مع أنها صارت مصرية، فهذا بالتالي يجعل الجنود المصريين أو المسلمين عند الإسماعيلية وبور سعيد والسويس، بينما جنود اليهود عند رفح في أي لحظة من لحظات التعدي جنود اليهود سيكونون داخل سينا، ورأينا عندما حصلت مخالفة في داخل رفح لم يستطع المصريون المقاومة المسلحة لهذا الأمر؛ لأن الجيش المصري في الإسماعيلية وبور سعيد والسويس ليس في رفح، وكان من المفروض أن يكون جيشنا على بعد (3) كيلو متر من رفح، كما أن جيشهم على بعد (3) كيلو متر من رفح، أليست رفح هي الحد الفاصل؟ المسافة العدالة الفاصلة أن يكون بيننا وبين رفح (50) كيلو، ويكون بينهم وبين رفح (50) كيلو، بيننا وبين رفح (1000) كيلو، وبينهم وبين رفح (1000) كيلو، هذا هو العدل، لكن ألا يكون عندك أي نوع من الحماية لأرض لك، وجيوش عدوك على بعد مسافة ثلاثة كيلو مترات فقط من الحدود، هذا أمر غير مقبول. ثم من الذي يراقب هذا العهد؟ أمريكا الموالية لإسرائيل، والأمم المتحدة المؤسسة لإسرائيل، أليس هذا هو الحاصل؟ وإذا حدث خلاف بين الطرفين من الذي سيحكم، ستحكم أمريكا أو الأمم المتحدة، وكلنا نرى ذلك. ثم الأخطر من كل ما سبق في هذه المعاهدة أنه تم الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة مستقلة في فلسطين، فكونها تعقد الأحلاف والمعاهدات وتعترف بها دولة من أكبر دول المنطقة كمصر هذا من أفضل نجاحات اليهود في الخمسين السنة الأخيرة، وقبل ذلك كان المسلمون جميعاً يطلقون على اليهود: الكيان الصهيوني، أو يطلقون عليهم: المحتلين اليهود، لكن بعد معاهدة كامب ديفيد صارت دولة إسرائيل ولها سفارات في معظم العالم الإسلامي. أما نتائج صلح الحديبية فمختلفة تماماً عن نتائج هذه المعاهدات المعاصرة. وبعد الاعتراف بإسرائيل تم فصل مصر عن العالم العربي، أليس كذلك؟ ونتج عن هذا الاعتراف خلاف دائم بين مصر والعالم العربي، وحصل شقاق كبير جداً جداً في الصف المسلم، لكن بعد صلح الحديبية حصل العكس تماماً، دخل مسلمو اليمن في الدولة الإسلامية، وعاد مسلمو الحبشة إلى الدولة الإسلامية، وتوافدت القبائل المسلمة إلى الدولة الإسلامية، وحصلت وحدة بعد صلح الحديبية وليس فرقة. أقول لكم كلمة موجعة جداً: صلح الحديبية فعلاً شبه كامب ديفيد لكن بطريقة عكسية، يعني: حقق اليهود الفوائد التي حققها المسلمون من صلح الحديبية، والمسلمون في زماننا الآن خسروا الخسائر التي خسرتها قريش في صلح الحديبية، وراجعوا الصلحين وضعوهما مع بعض وقارنوا بينهما ستجدون أن هذا الكلام صحيح مائة بالمائة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن صلح الحديبية تم والحمد لله، وكتب بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين سهيل بن عمرو، لكن هل أعجب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هذا الص

الهدف من صلح الحديبية

الهدف من صلح الحديبية ليس الهدف من صلح الحديبية استئصال قريش، وليس الهدف عمرة عابرة في حياة المسلمين، وليس الهدف إذلال قريش بالدخول إلى مكة رغماً عن أنفها، وليس الهدف إيمان مكة وحدها. إذاً: ما هو الهدف؟ لقد كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمق من ذلك بكثير، الهدف هو نشر دين الله عز وجل في الأرض قاطبة، حتى لو تأخر إسلام مكة عدة سنوات، مع أن مكة أحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان ينظر نظرة شمولية، وينظر في ذات الوقت نظرة واقعية للأحداث، فبعض الصحابة في ذلك الوقت لم ينظروا هذه النظرة، كان كل همهم أن يدخلوا تلك السنة إلى مكة المكرمة، كان كل همهم أن يعودوا بالمسلمين الموجودين بمكة إلى داخل المدينة المنورة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نظرته أعمق وأوسع من هذا بكثير، كان يرى كل الفوائد التي تكلمنا عليها وأكثر من هذا في داخل صلح الحديبية؛ من أجل هذا قبل صلى الله عليه وسلم بالصلح. هنا سؤال مهم جداً ومحتاج إلى وقفه مهمة وهو: لماذا لم يستجب الرسول عليه الصلاة والسلام لرأي الصحابة مع أن الأغلبية منهم لا يريدون أن يتم الصلح بهذه الصورة؟ لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام خالف هؤلاء الصحابة؟ أين الشورى في ذلك الموقف؟ هذا شيء في منتهى الأهمية، والشورى لا تكون إلا في الأمور التي ليس فيها وحي، التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والرسول قبل ذلك أشار في أكثر من مرة أن هذا الأمر وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالرؤيا التي رآها في المدينة المنورة كانت وحياً من الله عز وجل، والناقة التي حبست من دخول مكة المكرمة وذكر صلى الله عليه وسلم أنها مأمورة، وأنه حبسها حابس الفيل، فهذه إشارة واضحة من رب العالمين سبحانه وتعالى أنه لا يريد له أن يدخل مكة المكرمة، لذلك أخبر أصحابه أنه سيقبل بأي خطة تعظم فيها حرمات الله عز وجل، وفيها منع للقتال، ثم بعد ذلك ذكر ذلك عندما جادله صلى الله عليه وسلم كلمة توضح أن كل المعاهدة كانت بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، ذكر ذلك عندما جادله بعض الصحابة كما سيتبين إن شاء الله في الدرس القادم، قال لهم موضحاً لهم أهمية هذه المعاهدة وأنها أمر من رب العالمين سبحانه وتعالى، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً). إذاً: اتضح أن هناك وحي في هذه القضية، وهناك أمراً مباشراً من رب العالمين سبحانه وتعالى أن يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البنود، فهنا لا يوجد شورى.

الفرق بين الشورى والديمقراطية

الفرق بين الشورى والديمقراطية هناك فارق ضخم جداً وهائل بين الشورى وبين الديمقراطية، فالشورى في الإسلام تكون في الأمور التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إذا كان هناك أمر من الله فلا خيرة للمؤمنين، لكن في الديمقراطية أي شيء موضوع للتشاور، أي شيء موضوع لاجتماع الشعب، أي شيء موضوع للأغلبية، حتى وإن أحلت الأغلبية حراماً أو حرمت حلالاً، هذا في عرف الديمقراطية مقبول، أما في عرف الإسلام فغير مقبول، هذا فارق ضخم جداً، نعم، هناك نقط تماس بين الشورى والديمقراطية يرجح رأي الشعب ورأي الأغلبية في القضايا التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين سبحانه وتعالى، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: الفرق الضخم الهائل أن مرجعيتنا في الشورى إلى الإسلام وإلى الكتاب والسنة، وهذا من أعظم الفوارق بين المنهجين: الشورى، والديمقراطية. فهذا هو صلح الحديبية وهذه هي البيعة التي قال الله عز وجل في حقها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وهذه البنود التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو، وكان من أثرها أن عم الإسلام وانتشر ليس في الجزيرة العربية فقط، بل في عموم بلاد العالم، كما سنرى هذه الأمور بالتفصيل إن شاء الله رب العالمين في الدروس القادمة. في الدرس القادم إن شاء الله سنتحدث عن موقف الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من صلح الحديبية، وسنتحدث أيضاً عن بعض المواقف الحساسة جداً التي حدثت مباشرة بعد صلح الحديبية، وكيف تعامل معها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسنتحدث عن آثار صلح الحديبية في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة وفي الجزيرة العربية وفي غيرها، وهناك أمور كثيرة أخرى تعلقت بهذا الأمر ونتجت عنه. ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ما بعد الحديبية

سلسلة السيرة النبوية_ما بعد الحديبية تجلت الحكمة والحنكة العظيمة في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في صلح الحديبية، فقد بين لهم بسعة صدر ورحمة أن ما يقوم به هو وحي من الله عز وجل، وأن هذا الصلح وإن كان في ظاهره إجحاف بالمسلمين؛ إلا أن مضمونه في صالحهم، فقد كان نصراً وفتحاً مبيناً، كما سماه الله تعالى في سورة الفتح، وظهرت آثار ذلك الصلح بعد في مصلحة المسلمين، فقد انتشرت الدعوة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وسمع العالم بدولة الإسلام.

مواقف في صلح الحديبية

مواقف في صلح الحديبية

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من رد أبي جندل وتسليمه لأبيه

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من رد أبي جندل وتسليمه لأبيه أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الرابع من دروس العهد المدني في السيرة النبوية، فترة الفتح والتمكين. تحدثنا في الدرس السابق عن صلح الحديبية الذي سماه ربنا سبحانه وتعالى بالفتح المبين، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وكثير من المفسرين وكثير من الصحابة يطلقون هذا الفتح المبين على صلح الحديبية، وآثار الحديبية كثيرة جداً وعظيمة جداً. وتكلمنا في الدرس السابق عن بنود صلح الحديبية وعن مدى استفادة المسلمين من هذا الصلح العظيم، ومع كل هذا إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يروا الخير الذي في ذلك الصلح أول الأمر، بل رأوا أنهم قد أعطوا الدنية في دينهم، ورأوا أنهم لم يدخلوا المسجد الحرام أو البيت الحرام، وكانوا قد وعدوا بدخوله والطواف حول البيت وما إلى ذلك، فهذا ترك أثراً سلبياً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. ووقفنا في الدرس السابق عند كتابة هذا الصلح، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر مرونة واضحة في كتابه هذا الصلح حتى يتمه، وبعد أن كتب الصلح حدث أمر زاد من هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو أن أحد المسلمين الذين أسلموا في مكة ولم يستطع أن يهاجر إلى المدينة المنورة مع المسلمين جاء إلى المسلمين بعد كتابه الصالح، فهو عندما علم أن المسلمين قد جاءوا إلى الحديبية جاء إليهم وهو يرسف في أغلاله، كان أبوه قد قيده في داخل البيت من أجل ألا يهاجر إلى المسلمين، وعندما علم أن المسلمين على أبواب مكة جاء إليهم يرسف في أغلاله، فمن هو هذا الرجل؟ هذا الرجل هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو، هو ابن سفير قريش في معاهدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوه هو الذي كتب المعاهدة بينه وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو جندل بن سهيل لينضم إلى صف المسلمين، ولقد فجع سهيل حين رأى ولده أبا جندل مع أنه كان قد قيده قبل ذلك في البيت، فأصبحت الأزمة أزمة كبيرة جداً، فهذا ابن سهيل يريد أن ينضم إلى المسلمين، هنا انتفض سهيل بن عمرو وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده، فالمعاهدة تقول: من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مسلماً يرده صلى الله عليه وسلم إلى أوليائه، وهذا سهيل بن عمرو ولي أمر أبي جندل يطلب أن يرده الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول عليه الصلاة والسلام حاول قدر المستطاع أن يأخذ أبا جندل، فقال: (إنا لم نقض الكتاب بعد) يعني: نحن ما زلنا نكتب الكتاب، فقال سهيل: إذاً -والله- لا أقاضيك على شيء أبداً يعني: إما أن آخذ أبا جندل وإما ألا يكون هناك صلح، فأصبح الموقف صعباً، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يشعر بقيمة هذه المعاهدة ويريد لها أن تتم قدر المستطاع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذاً فأجزه لي) يعني: أعطه لي كرماً منك، قال: ما أنا بمجيزه لك. يعني: لن أعطيه لك، فقال صلى الله عليه وسلم يحاول أن يسترضي سهيل بن عمرو قال: (بلى تفعل، قال: ما أنا بفاعل) إنه موقف صعب، وقد ذكرنا في الدرس الذي سبق أن ثلاثة من أولاده أسلموا قبل ذلك وانضموا إلى جيش المسلمين وإلى دولة المدينة المنورة، وهؤلاء الثلاثة هاجروا هجرة الحبشة ثم هاجروا بعد ذلك هجرة المدينة المنورة، فهذا هو الذي بقي له أبو جندل، فهو متمسك به إلى النهاية، قال: ما أنا بمجيزه لك، ما أنا بفاعل. ثم لم يكتف بذلك سهيل بن عمرو، بل قام وأخذ يضرب أبا جندل أمام المسلمين، والمسلمون يتأثرون ويبكون على حال أبي جندل، لقد كان موقفاً مؤثراً جداً، وأبو جندل رضي الله عنه وأرضاه لم يكتف بهذا المشهد المؤثر جداً في المسلمين، بل ذهب إلى المسلمين وقال لهم: (يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! الحقيقة أن هذا موقف صعب شديد الصعوبة، فماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وهو يريد لهذه المعاهدة أن تتم ويرى ما فيها من آثار، وموقف أبي جندل لا شك أنه محرج، لكن ماذا يفعل؟ إذاً: الموازنة هنا وتحكيم العقل تقول: إنه يرد أبا جندل مع كل التداعيات التي قد تحدث لـ أبي جندل بعد ذلك؛ لأن ثمن إتمام صلح الحديبية هو أن يرد أبا جندل إلى المشركين مرة ثانية؛ لأننا قد كتبنا العهد، والمسلمون

موقف الصحابة رضوان الله عليهم من صلح الحديبية

موقف الصحابة رضوان الله عليهم من صلح الحديبية بعد تمام صلح الحديبية رجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معسكره في الحديبية ليعد العدة للعودة إلى المدينة المنورة مرة ثانية، ثم بعد ذلك بعام يأتي إلى مكة المكرمة من جديد للعمرة، فالرسول عليه الصلاة والسلام في كل هذه الرحلة وكل هذه المحاورات كان محرماً، فقد أحرم من ذي الحليفة كما ذكرنا قبل ذلك، وجاء ملبياً حتى وصل إلى الحديبية، فمنع هناك، فهو في هذا المكان عند الحديبية أحصر صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة المكرمة، فانطبق عليه حكم المحصر عن العمرة، يعني: أنه نوى عمرة ولم يستطع أن يصل إلى مكة المكرمة لأي سبب من الأسباب، لذلك قرر صلى الله عليه وسلم أن يقوم بالنحر والحلق في هذا المكان؛ ليتحلل من إحرامه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن هذا الهدي الذي كان معه صلى الله عليه وسلم هو مستحب وليس فرضاً على المسلمين، لكن عند الإحصار لابد له أن ينحر هذا الهدي الذي وهبه لله عز وجل. فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة جميعاً بالنحر، قال لهم: (قوموا فانحروا)، وهذا أمر واضح جداً، لكن رد الفعل كان غريباً جداً، يقول الراوي: (فوالله ما قام منهم أحد) والرسول عليه الصلاة والسلام كرر الأمر مرة ثانية وقال: (قوموا فانحروا. فلم يقم أحد، فكرر الثالثة: قوموا فانحروا، فلم يقم منهم أحد)، ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كان يقدر الحالة النفسية التي عليها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم مع طاعتهم له التي وصفها عروة بن مسعود قبل هذه المعاهدة بساعات قليلة جداً، فقد وصف حالة الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم في تفانيهم في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم في هذا الموقف لا يستطيعون أن يقوموا بالنحر والحلق، لأن معنى النحر والحلق أنهم تحللوا من العمرة، ومعنى تحللهم من العمرة أنهم راجعون إلى المدينة المنورة، وهم إلى هذه اللحظة ما زال لديهم أمل في أن يدخلوا مكة المكرمة ويعتمروا كما كانوا يرغبون، فهم غير قادرين على أن ينفذوا هذا الأمر بالذات، أمر النحر والحلق، وموقف أبي جندل زاد المأساة عند الصحابة، والقضية عندهم قضية خطيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يشعر بما يشعر به الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وليس معنى هذا أن يعذر الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم معذورون وليسوا مخطئين، بل هذا خطأ وسنتحدث عنه -إن شاء الله- بالتفصيل عند الحديث عن أخطاء المؤمنين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام تعامل مع الموقف بمنتهى الحكمة، فقد دخل صلى الله عليه وسلم إلى خيمته وهو حزين جداً ولم يعنف الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم؛ لأنه يرى ما بهم من أزمة. فالصحابة إذا كانوا غير راضين بإقرار هذه المعاهدة فالبديل عن هذه المعاهدة هو الحرب، وهم كانوا مستعدين أن يحاربوا ويقاتلوا إلى الموت كما ذكرنا في الدرس السابق، فهم قد بايعوا على عدم الفرار، فلو لم يتم هذا الصلح فستكون النتيجة القتال، قد تذهب فيه أرواحهم جميعاً، فحزن الصحابة يدل على مدى تجردهم وحبهم للموت في سبيل الله عز وجل، والرسول عليه الصلاة والسلام يدرك كل هذه المشاعر، فلذلك قدر موقف الصحابة رضي الله عنهم جميعاً. فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل إلى خيمته وكانت معه في هذه الرحلة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها (فلما دخل عليها ورأت ما به من الحزن سألته، فذكر لها ما لاقى من الناس، فقالت: يا رسول الله! أتحب ذلك -يعني: أن ينحروا ويحلقوا-؟ فقال: نعم، قالت: اخرج) انتبه إلى هذه النصيحة الجميلة جداً من أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وانتبه إلى تشاور المصطفى صلى الله عليه وسلم مع زوجته في قضية من أخطر قضايا المسلمين، لم يذهب للتشاور مع أبي بكر أو مع عمر أو مع غيرهما، لكنه ذهب إلى زوجته وتحدث معها في قضية تهز كيان الدولة الإسلامية بكاملها، واستمع إلى رأيها، وكان رأيها حكيماً جداً، أخرج المسلمين من الأزمة، ماذا قالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها؟ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخرج ثم لا تكلم أحداً حتى تنحر بُدُنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام صلى الله عليه وسلم فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك)، نحر البدن ودعا الحالق فحلق له، فالرسول عليه الصلاة والسلام فعل أمراً جميلاً جداً بنصيحة السيدة أم سلمة، فلما رأى الصحابة ذلك الأمر قاموا جميعاً لم يتخلف منهم أحد، قاموا وبدءوا في النحر، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. يعني: كاد بعضهم أن يصيب الآخر من شدة الحزن والغم الذي كان يشعر به، لكن في النهاية استجاب الجميع، ونحروا وحلقوا. ومما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أن قدم جملاً يعرفه الجميع لينحره مع الناس، هذا الجمل هو جمل أبي جهل، كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذه من غنائم بدر، وأتى به إلى هذا المك

موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من صلح الحديبية

موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من صلح الحديبية لقد ظل الحزن مسيطراً على عامة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد وصل الحزن ببعضهم إلى أمر لا نتخيله حقيقة، وصل إلى حوار عجيب دار بينهم وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار دار بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار يعبر عن مدى الأسى والحزن الذي كان في قلب عمر والصحابة رضي الله عنهم؛ من جراء هذا الصلح الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا الحوار العجيب جاء في صحيحي البخاري ومسلم. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فقلت: ألست نبي الله؟) فالرسول عليه الصلاة والسلام بسعة صدر عجيبة، قال: (بلى، قلت: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا كلام غريب جداً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل أن يعطي الدنية أبداً في دينه، لكن هكذا صرح عمر بن الخطاب بهذه الكلمات التي كانت في قلوب كثير من الصحابة، ولكن لم يجرءوا على التصريح بها، فقال صلى الله عليه وسلم كلمات واضحة جداً، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) وفي رواية: (ولن يضيعني أبداً) يعني: هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أمرني ولن أعصيه في هذا الأمر، وهذا الأمر الذي تكرهونه سترون من ورائه خيراً إن شاء الله. ومع كل هذه التوضيحات والتوجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عمر رضي الله عنه قال: (أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟) يعني: أنت قلت لنا: سنأتي البيت الحرام ونطوف به. وأنا لا أعرف كيف قال سيدنا عمر بن الخطاب هذه الكلمات لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لكن هذا يعبر عن مدى المأساة التي كان يعيشها عمر رضي الله عنه وأرضاه والصحابة أجمعون، ومع ذلك وسع الرسول عليه الصلاة والسلام صدره وصبر على كلمات عمر بن الخطاب، وقال له: (بلى) يعني: أنا أخبرتك بهذا الأمر فعلاً، لكن انتبه إلى ما قال بعد، قال: (أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال عمر: لا) يعني: أنا أخبرتكم أننا سندخل مكة المكرمة معتمرين إن شاء الله، لكن ما ذكرت لكم أن هذا يكون في هذا العام، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإنك آتيه ومتطوف به). قال هذا الكلام وهو في منتهى الثقة؛ لأن هذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى، وعمر بن الخطاب في ظننا بعد هذه الكلمات الواضحة جداً سيترك الموضوع ويسلم الأمر لله عز وجل، وينطلق إلى المدينة المنورة، لكن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقال له: (يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟)، فما زال يتكلم في الموضوع وبهذه الصيغة، (قال أبو بكر: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) فـ أبو بكر الرجل الهادئ اللطيف لما سمع هذه الكلمات انتفض وقال: (يا عمر! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه عز وجل، وهو ناصره) فكلمات الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم توافقت مع نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم مناقب الصديق كما يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح صحيح البخاري، ثم إن الصديق يعطيه نصيحة هامة جداً وهي له ولعموم الأمة الإسلامية، قال: (فاستمسك بغرزه) يعني: أي خطوة يخطوها صلى الله عليه وسلم استمسك بها، تمسك بسنته، قال: (فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق) كل هذا الكلام وما زال عمر رضي الله عنه يعترض، فقال: (أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟)، رد عليه الصديق: (قال: بلى، ثم قال: أفأخبرك أنه يأتيه العام؟) سبحان الله! نفس الكلمات: (أفأخبرك أنه يأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومتطوف به). هذا يدل على أن الصديق رضي الله عنه أعظم البشر بعد الأنبياء، وهذا لم يأت من فراغ، فقد كان لديه يقين مرتفع جداً، وإيمان كامل بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك في مواطن كثيرة جداً من حياته، وهذه من أعظم مواطنه رضي الله عنه وأرضاه. وبعد أن انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا الموقف ركب الطريق إلى المدينة المنورة، وفي طريقه إلى المدينة المنورة نزلت عليه سورة الفتح، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد أنز

مواقف بعد صلح الحديبية

مواقف بعد صلح الحديبية

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هجرة النساء من مكة بعد صلح الحديبية

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هجرة النساء من مكة بعد صلح الحديبية لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بدأ يعيد ترتيب الأوراق حسب الوضع الجديد الذي تمخضت عنه هذه المعاهدة، وبمجرد وصوله صلى الله عليه وسلم وصلت بعض المؤمنات من مكة المكرمة مهاجرات إلى المدينة المنورة، وهذا أول قدوم للمسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد الصلح، ولكن هؤلاء القادمون لم يكونوا رجالاً إنما كانوا نساءً، ومع ذلك أسرعت قريش وطلبت إعادة المؤمنات المهاجرات إلى مكة المكرمة كما تقول المعاهدة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف لهم وقال: إن نص المعاهدة ينص على الرجال فقط، ونص حديث البخاري يقول: (وعلى ألا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته علينا) يعني: لم يدخل النساء في القضية، والحمد لله أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على ذلك الأمر عند كتابة المعاهدة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يطمئن إلى إسلام هؤلاء المؤمنات اللاتي قدمن من مكة إلى المدينة، فنزلت سورة الممتحنة وفيها تفصيل لهذا الأمر، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] يعني: تأكدوا من إيمانهن، هل جئن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هرباً من أزواجهن أو طلباً لرجال المدينة المنورة أم جئن إلى المدينة المنورة مهاجرات إلى الله عز وجل وإلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؟ {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة:10] أي: بعد هذا الاختبار والامتحان تأكدتم أنهن من المؤمنات الصادقات: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]، يعني: لا ينبغي أن يعدن إلى الكفار وإن كن أزواج كفار من مكة، ما ينبغي لامرأة مؤمنة أن تتزوج من رجل كافر، {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، لكن انظر لما سيأتي بعد ذلك في الآيات، فهذا بعد حضاري راق جداً في الإسلام وعدل مطلق، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10]، يعني: الكفار الذين هربت أزواجهم من مكة إلى المدينة المنورة دفعوا قبل ذلك مهوراً لأزواجهم من المؤمنات، والآن هربت الزوجة إلى بلاد المسلمين وما عادت تصلح أن تكون زوجة لهذا الرجل الكافر، فلا يجب أن يضيع عليه هذا المهر الذي دفعه لها، يقول الله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة:10]، يعني: أعيدوا إلى الكفار القدر الذي أنفقوه من المهر إليهن؛ حتى يستطيعوا به أن يتزوجوا مرة ثانية من امرأة تحل لهم. هذا حكم عام نزل لكل المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وظل بعد ذلك حكماً إلى يوم القيامة، لا يجوز أبداً لامرأة مسلمة أن تتزوج من رجل كافر. كذلك نزل في نفس الآيات أنه لا يجوز أيضاً لرجل مسلم أن يتزوج من امرأة كافرة، قال الله عز وجل في نفس الآيات: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، هذه الآية موجهة إلى رجال المسلمين، يعني: لو كان عندك امرأة مشركة تزوجت بها قبل أن ينزل هذا الحكم فلا بد أن تطلقها وتعيدها مرة ثانية إلى أهلها المشركين في مكة المكرمة أو غيرها، وعند نزول هذا الحكم طلق المسلمون المؤمنون نساءهم الكافرات وأعادوهن إلى أهلهن، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه طلق زوجتين من الكفار كانتا عنده وأعادهما إلى مكة المكرمة. وبما أننا في هذا الوقت نبني مجتمعاً مسلماً خالصاً فمحال على أم كافرة أن تربي أولادها على معاني الإسلام والعقيدة الصحيحة، وكذلك محال على أب كافر أن يربي أبناءه على معاني الإسلام والعقيدة السليمة الصحيحة. إذاً: استقر الوضع في داخل المدينة المنورة وقبل المشركون بقضية المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة.

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هجرة أبي بصير إلى المدينة بعد صلح الحديبية

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هجرة أبي بصير إلى المدينة بعد صلح الحديبية جاء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة مهاجراً إلى الله ورسوله رجل اسمه أبو بصير رضي الله عنه وأرضاه، وأبو بصير من ثقيف، لكنه كان يعيش في داخل مكة المكرمة حليفاً لقريش، وأبو بصير أسلم بعد صلح الحديبية أو قبيل صلح الحديبية، وهرب من مكة المكرمة ووصل إلى المدينة المنورة، وطلب اللجوء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمجرد أن خرج من مكة علمت قريش بخروجه فأرسلوا رجلين وراءه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا: هذا داخل في بند المعاهدة، المعاهدة تقول: إنه من أتى إليكم من أهل مكة مسلماً فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده إلى المشركين، وهذا يجب أن ترده، هذا موقف صعب جداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الموقف بنفس العقل الذي تعامل به مع موقف أبي جندل قبل ذلك، فأعاد أبا بصير إلى الرجلين، وقبل صلى الله عليه وسلم أن يعود مرة ثانية إلى مكة مع مدى المأساة التي كان يشعر بها، لكن هذه معاهدة، ورجع أبو بصير مع الرجلين، وعند ذي الحليفة جلس الثلاثة ليستريحوا قليلاً في طريق السفر، فقام أبو بصير وأخذ سيف أحد المشركين وقتل به أحدهما، وهرب المشرك الثاني جهة المدينة المنورة؛ لأنه سيجد العدل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام من بعيد قال: (لقد رأى هذا ذعراً) يعني: هذا الرجل خاف من شيء خطير جداً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتل والله صاحبي، وإني لمقتول) يعني: أبو بصير قتل صاحبي وسيلحقني بعد قليل، فجاء أبو بصير يجري خلف هذا المشرك، ووصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم)، يعني: أنت عملت الذي عليك، وفيت بالعهد وأرجعتني إلى المشركين، لكن أنا هربت من المشركين، فالآن أنا لست داخلاً في دولتك، أنا لست فرداً من أفراد المدينة المنورة، أنا لا ينطبق علي الآن العهد، قد أوفى الله ذمتك، فلما سمع منه هذه الكلمات؛ قال عليه الصلاة والسلام كلمة عجيبة، قال: (ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد)، فقوله: (ويل أمه) هذه كلمة تقال عند المدح، يعني: هذا الرجل فعل أمراً عظيماً، ما كان يتصور أحد أن يأتي هذا الفعل منه، (ويل أمه! مسعر حرب لو كان معه أحد)، يعني: هذا سيؤجج الحرب في المنطقة، لو كان معه أحد يشاركه في ذلك. وفي هذا إشارة واضحة لـ أبي بصير أن: استعن بمن معك من المستضعفين المسلمين، فأنت وحدك لن تعمل شيئاً، لكن اجعل قوتك مع المسلمين لتقدروا على فعل شيء، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير مرة ثانية. فخرج أبو بصير هارباً بنفسه خارج المدينة المنورة، وقعد على طريق القوافل المتجهة من مكة المكرمة إلى الشام، وكلما مرت عليه قافلة اعترض طريقها يقتل منها من استطاع قتله ويأخذ من غنائمها ما استطاع، وعلم المسلمون المستضعفون في داخل مكة المكرمة وفي غيرها بمكان أبي بصير، فهربوا إلى أبي بصير، وبدأ أبو بصير رضي الله عنه يكون عصابة من الرجال، حتى صارت مجموعة كبيرة من الرجال تعترض طريق القوافل المكية، وهذا الفعل أحدث أزمة كبيرة جداً في مكة، مما جعلهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويناشدونه الرحم ويطلبون منه أن يضم أبا بصير وأصحابه إلى المدينة المنورة، وأن يلغي هذا البند من صلح الحديبية: أن يرد من جاء مسلماً إلى مكة، بل يقبل المسلمين من مكة ولا يعيدهم إليها مرة أخرى، وهذا هو البند الذي كان مشكلة عند الصحابة، ففي أيام قليلة بعد صلح الحديبية يلغى هذا البند من المعاهدة، وأصبحت المعاهدة خالصة لصالح المسلمين، وأصبحت فتحاً مبيناً حقيقياً للمسلمين.

الآثار الإيجابية المترتبة على معاهدة صلح الحديبية

الآثار الإيجابية المترتبة على معاهدة صلح الحديبية تعالوا ننظر إلى معاهدة صلح الحديبية بعد أيام من حدوثها، تعالوا لننظر الخير الذي جاء من ورائها، فأصدق تصوير لها وأفضل تعبير لها هو ما اختاره لها رب العالمين سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فهذا الفتح المبين له دلالات كثيرة جداً أعددت منها عشرة: أولاً: وضوح إيمان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ويكفي أن الله عز وجل أنزل فيهم قرآناً، قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] سبحان الله! فالله عز وجل شهد لهم بالإيمان وزيادة الإيمان بعد هذا الحدث العظيم: صلح الحديبية. الأمر الثاني: من أعظم ثمرات صلح الحديبية: هو اعتراف قريش بالمسلمين كقوة ودولة، وهذا الاعتراف جاء من قريش وهي أعظم قبيلة عربية، فالميلاد الرسمي للدولة الإسلامية في الجزيرة العربية هو صلح الحديبية؛ لأنه بعد هذا الاعتراف من قريش بدأت معظم القبائل الموجودة في المنطقة تعترف بالمسلمين، بل بدأت الدول في العالم تعترف بالمسلمين كدولة. إذاً: هذا من أعظم ثمرات صلح الحديبية فعلاً، وكل الآثار التي ستأتي بعد هذا مترتبة على كون المسلمين أصبحوا دولة حقيقية معترفاً بها في المنطقة. الأمر الثالث: هو الفتح المبين في انتشار الإسلام في الجزيرة العربية، فالذين أسلموا في هاتين السنتين بعد صلح الحديبية وإلى فتح مكة من سنة (ست) أو أواخر سنة (ست) إلى أواخر سنة (ثمان) من الهجرة أكثر من الذين أسلموا خلال (تسع عشرة) سنة كاملة من الدعوة، فالدعوة الإسلامية أخذت (ثلاث عشرة) سنة في مكة المكرمة و (ست) سنوات بعد ذلك في المدينة المنورة إلى أن أتى صلح الحديبية، فالذين أسلموا في تسع عشرة سنة لا يتجاوزون (ثلاثة آلاف) شخص، بينما الذين أسلموا بعد هذا من أواخر سنة (ست) من الهجرة إلى فتح مكة خلال سنتين فقط قرابة (سبعة آلاف) شخص؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام دخل مكة المكرمة عام الفتح بجيش قوامه (عشرة آلاف) مقاتل، غير النساء والصبيان الذين كانوا معهم، وكان المسلمون في صلح الحديبية (ألفاً وأربعمائة) شخص، وسائر الـ (ثلاثة آلاف) كانوا بالمدينة. إذاً: تصور مدى الفتح المبين في سنتين فقط، تضاعف العدد ووصل إلى (عشرة آلاف) مقاتل، فهذا فعلاً فتح مبين. الأمر الرابع: بعد صلح الحديبية مباشرة اطمأن الرسول عليه الصلاة والسلام إلى استقرار الأوضاع في المدينة المنورة، فأرسل إلى المسلمين الموجودين في الحبشة؛ لأن بعض المسلمين كانوا قد هاجروا إلى الحبشة في العام السادس من البعثة النبوية، وقعدوا في الحبشة (سبع) سنوات كاملة حتى الهجرة و (ست) سنوات كاملة من أيام المدينة المنورة، يعني: (ثلاث عشرة) سنة كاملة في داخل الحبشة لم يرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن بعد صلح الحديبية مباشرة وجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن الفرصة أصبحت مواتية ليستفيد من جهود وطاقات المسلمين الموجودين في الحبشة، فأرسل إليهم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه وأرضاه ليستقدم هؤلاء، وبالفعل جاءوا مباشرة ووصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فتح خيبر كما سنذكر ذلك إن شاء الله في الدروس القادمة. إذاً: الأمر الرابع: أضيفت إلى قوة المسلمين في المدينة المنورة قوة المسلمين الذين كانوا في الحبشة بعد غياب ثلاث عشرة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأمر الخامس: قدوم المسلمين من القبائل المختلفة الأخرى، فمسلمو اليمن بدءوا يقدمون إلى المدينة المنورة، مسلمو بني حنيفة، ومسلمو بني كلب، ومسلمو بني كذا كذا وكذا، كل مسلمي قبائل العرب بدءوا يتحركون منها إلى المدينة المنورة، وقبل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين أن يمكثوا في قبائلهم ولا يقدموا إلى المدينة المنورة؛ لأنهم كانوا يقومون بالدعوة في قبائلهم، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن الوضع في داخل المدينة المنورة لم يكن مستقراً قبل ذلك، أما الآن بعد صلح الحديبية فقد فتحت الأرض للمسلمين فزادت قوتهم بعد هذا الصلح. الأمر السادس: تعاهدت قبائل كثيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية، وما كانت هذه القبائل تجرؤ على هذا الأمر قبل هذا الصلح، وأول هذه القبائل قبيلة خزاعة، وبعدها بدأت القبائل تتوافد على المدينة المنورة. الأمر السابع: هو أمر خطير جداً وغريب جداً، وسنفرد له إن شاء الله درساً كاملاً، وسيكون موضوع الدرس الذي سيأتي إن شاء الله، وهذا الأمر هو بداية المراسلات النبوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عموم زعماء وقادة العالم في كل مكان، فقد راسل كسرى فارس، وراسل قيصر الروم، وراسل زعماء العرب في كل مكان يدعوهم إلى الدخول في هذا الدين الجديد وهو الإسلام. وقبل صلح الحديبية ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة واحدة إلى زعماء العالم، فهذا يدل على التغير الهائل في مسار الدعوة، والانطلاقة العظيمة لل

وقفات هامة مع صلح الحديبية

وقفات هامة مع صلح الحديبية صلح الحديبية يحتاج منا وقفات كثيرة جداً، لكن سأقف هنا ثلاث وقفات هامة:

ضرورة الرضى بشرع الله عز وجل واعتقاد الخيرية فيه

ضرورة الرضى بشرع الله عز وجل واعتقاد الخيرية فيه الوقفة الأولى: هل كان الصحابة يرون كل هذا الخير من الآثار التي ذكرناها، وقد توجد غيرها وغيرها؟ A لا، فالصحابة ما كانوا يرون هذا الخير كله، بدليل ما رأيناه منهم ومن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بالذات، لكن ما حدث في صلح الحديبية هو وحي، بدليل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنه ربي ولن يضيعني أبداً)، فهذا وحي، ومع ذلك لم ير الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الخير في هذه النقطة الشرعية في ذلك الوقت، وهذا أمر غريب، وإذا كنا نلوم الصحابة أنهم وقعوا في هذا الأمر مرة في حياتهم فلا بد أن نعترف أننا نقع فيه مراراً. فما أكثر ما سمعنا عن حكم الشرع في قضاياً كثيرة جداً، ويكون أحياناً الحكم مباشراً جداً وواضحاً جداً، لكننا نقدم رأينا، أحياناً نرى الأم والأب يتركان البنت بلا حجاب بغية الزواج، والعلة في أذهانهما أنهما يريدان أن تتزوج البنت، ولو حجبت في اعتقادهما فهذا سيؤخر زواجها فيتركانها من غير حجاب، وهذه مخالفة صريحة للشرع، فهما يريان الخير في غيره فيقدمان رأيهما ويلغيان من حياتهما حكم الشرع في هذه الجزئية. ونرى استثمارياً كبيراً جداً يقترض بالربا؛ لكي يقيم مشروعاً كبيراً وعنده مليون علة في ذهنه لهذا الأمر، فهو يعلم حكم الشرع تماماً ثم يخالف بغية البحث عن خير، فهو يرى أن الخير في مخالفة الشرع في هذه الجزئية. ونرى دولة تبيع خمراً؛ لكي تنشط السياحة لديها. ونرى حاكماً يوالي دولة قوية وإن كانت معادية للإسلام؛ لأنه يرى أن هذا أصلح لحياة الناس، ولا يرى الخير في حكم الشرع، وهذه القضايا نراها كثيراً جداً في حياتنا، لكن الخطير جداً في حياتنا أننا نفعل ذلك طلباً للدنيا، وليس طلباً للآخرة، أما خطأ الصحابة في قضية صلح الحديبية فلم يكن طلباً للدنيا أبداً، إنما فعلوه طلباً للآخرة، ليس لدى الصحابة مصالح دنيوية يرجونها يوم الحديبية رضي الله عنهم أجمعين، وإنما كانوا يريدون أن يدخلوا مكة لأداء عبادة العمرة، لم يأتوا لتجارة ولا لحرب ولا لأي مصلحة دنيوية، بل جاءوا لأداء عبادة العمرة ثم يعودون بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وإن منعوا قاتلوا، والقتال كان خطيراً جداً؛ لأنهم لا يملكون سلاح المقاتل، وكانوا معرضين للقتل، ومع ذلك يقبلون بذلك، أي: أنهم عندما عرضوا رأياً مخالفاً لحكم الشرع، ما عرضوا ذلك إلا طلباً للآخرة، وليس طلباً للدنيا، ولو كانوا طلاب دنيا لآثروا الرجوع حفاظاً على حياتهم. إذاً: نستفيد من صلح الحديبية بعد رؤية الخير العميم الذي نتج عنه: أن نرضى بشرع الله عز وجل، ولا أقول: نقبل بشرع الله عز وجل، ولكن نرضى بشرع الله عز وجل بحب واقتناع؛ لأنه وإن كانت عيوننا لا ترى الخير فإننا على يقين أن الخير موجود، سنراه اليوم أو غداً أو بعد سنة أو سنتين أو أكثر، أو ربما نموت قبل أن نراه، لكن من المؤكد أن فيه خيراً، قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وقال سبحانه وتعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]. نحن نريد أن نصل إلى درجة التسليم الكامل لرب العالمين سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في كتابه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ودرجة التسليم معناها: الرضا الكامل بحكم الله عز وجل، وأن نوقن يقيناً جازماً أن الخير فيما اختاره لنا الله عز وجل، والصحابة رضوان الله عليهم تعلموا من درس الحديبية حين رأوا الخير الذي حصل بعد صلح الحديبية، مع أنهم في وقت الصلح لم يكونوا يرون هذا الخير، وخاصة وقت موقف أبي جندل ما كانوا يشاهدون إلا الشر، من أجل هذا عرف عمر بن الخطاب أنه كان مخطئاً وحاول قدر المستطاع بعد ذلك أن يكفر عن الخطأ الذي حدث منه في يوم الحديبية، يقول: (فعملت لذلك أعمالاً). يعني: عمل أعمال خير كثيرة جداً؛ للتكفير عن هذا الأمر، ويقول: (فما زلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً). فما عرف أنه مخطئ فقط، بل استفاد من الدرس بعد ذلك في كل حياته، فكان يقول معلماً للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه: (أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين) يعني: قد يكون لك رأي في قضية من القضايا وتشعر أنه أفضل من الحكم الشرعي في هذه القضية، وهذا يأتي على أذهان الكثير، فاتهم رأيك مهما كان في تصورك مقنعاً وقدم حكم الشرع، يقول: (اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي، فوالله ما آلو على الحق)، يعني: أنا كنت فعلاً أبحث عن الحق، ومع ذلك كان الخطأ في رأيي والصواب في حكم الشرع، (وذلك يوم أبي جندل). ويقول نفس الكلام سهل بن

الثقة في القيادة وإعذارها

الثقة في القيادة وإعذارها الوقفة الثانية المهمة جداً: الثقة في القيادة، فأحياناً تتخذ القيادة قرارات لا يدرك الجنود كامل أبعادها، فكثيراً ما تكون الرؤية عند القيادة أشمل وأكبر، ويكون تحليل الأمور بصورة أعمق؛ لأن القيادة تطلع على أمور لا يراها الجنود، وتفكر في مصالح لا ينظر إليها الجندي، وتحاول تجنب مفاسد لا يدركها الجندي. والقيادة الحكيمة هي التي تجمع بين الأحلام المطلوبة والواقعية في الأداء، وتقارن بين وسائل تغيير المنطق، وتعرف معنى التدرج في التغيير، وتقدر حجم المكاسب والخسائر، كل هذه أبعاد قد لا يراها الجندي المتحمس أو المسلم المتلهف لأن يرى الإسلام ممكناً له في الأرض ما بين يوم وليلة، فالقيادة هي التي تدرك كل هذه الأمور وقد تأخذ قرارات يراها الجنود أحياناً مخيبة للآمال أو يرونها محبطة للنفسيات أو خاطئة سياسياً، وأحياناً قد يرى الجندي أن هذه مخالفة شرعية، مع أن كل هذا قد يكون وهماً لا حقيقة له. فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل برد المسلم الذي يأتيه من مكة إلى المدينة مع خطورة ذلك عليه، نعم هذه خطورة حقيقية، لكن لماذا قبل بذلك؟ لأنه ينظر إلى المصالح مجتمعة، وينظر إلى المفاسد مجتمعة، فوجد أن المصالح أعلى بكثير من المفاسد، مع الإقرار التام أن أمر إعادة المسلم إلى مكة أمر فيه مفسدة، لكن المصالح أعلى، وهو لا يستطيع أن يمنع المفسدة الآن، فقبل بها، وعليه أن يختار المصالح الكثيرة التي معها بعض المفاسد، ولا يختار دفع بعض المفاسد ويضيع المصالح الكثيرة، وهذا الأمر يحتاج إلى حكمة وإلى ورع وإلى علم، والموفق من وفقه الله عز وجل. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قَبِلَ قَبْلَ ذلك بأمور لا يحبها، بل يمقتها كل المقت، ولكن الواقع فرضها عليه، ولم يقبلها قبل ذلك المتحمسون من الشباب، ثم تبين أن الخير كان في قراره صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بعدم الرد على من آذى المسلمين وعذبهم -بل وقتلهم- في العهد المكي، وهذا كان حكماً شرعياً قبل به الرسول عليه الصلاة والسلام وعموم الصحابة في ذلك الوقت، لكن بعض المتحمسين من الصحابة لم يقبلوا بهذا الأمر، وقالوا: لم نعطي الدنية في ديننا؟ ولم لا نرد على المشركين؟ ولم كذا وكذا؟ ثم ظهر لهم بعد ذلك الخير في قرار الشرع. فهذا ما نسميه: بفقه المرحلة، أو فقه الموازنات. كذلك تطاول اليهود على المسلمين في أوائل عهد المسلمين بالمدينة، وقاموا بأمور كان من الممكن أن تفسر على أنها نقض للمعاهدة، ومع ذلك التزم الرسول عليه الصلاة والسلام بسياسة ضبط النفس قدر المستطاع، ليس هذا لضعف ولا لتفريط، ولكن فقه المرحلة وفقه الموازنات يقتضي ذلك. وهكذا كان الوضع في صلح الحديبية، وهكذا كان الوضع أيضاً في مواضع كثيرة جداً في السيرة النبوية، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنه يكاد يكون مستحيلاً أن تجد قراراً يخلو من أي سلبية، وإنما القضية قضية موازنات، حتى إننا في الأمثال الشعبية نقول: (ما هناك حلاوة من غير نار)، دائماً توجد مشكلة، ومع ذلك الموازنة بين المصالح والمفاسد هي التي تختار قراراً دون قرار. وهذه كلمة جميلة جداً لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وهو مشهور بالحكمة، قال: ليست الحكمة أن تدرك الفرق بين الخير والشر، أو الفرق بين الحلال والحرام، ولكن الحكمة أن تدرك أي المنفعتين أعلى وأي الضررين أكبر. هذه هي الحكمة. المهم في هذا المقام أن تدرك أنه لكي تقوم وتسود وتمكن لا بد من أخذ قرارات تبدو في ظاهرها مؤلمة للمسلمين، وقد يبدو فيها للناظر مخالفات شرعية، لكن المدقق والمحلل والعالم ببواطن الأمور سيجد أنها أخف الضررين، وليس معنى هذا أنها ليست ضرراً، لا، بل هي ضرر، ولكن في هذا الموطن هي أخف الضررين، فتقبل شرعاً ولا تعد مخالفة. ولا بد لكل جندي أن يدرك كل هذه الأبعاد، ومن ثم يعذر القيادة، ويقدم لها النصح والإرشاد بأدب، ويقبل منها الأمر والتوجيه، وكل ذلك لا يمكن أبداً أن يكون إلا بثقة تامة في القيادة، وإدراك كامل للعبء الثقيل الملقى على أكتاف القادة، وبغير هذه العلاقة الوثيقة بين القيادة وجنودها لا يمكن لجماعة أو لأمة أن تقوم. إذاً: هذه النقطة الثانية مهمة جداً، أنه يجب أن تتوافر الثقة في القيادة، وأن يدرك الجنود أن القائد قد يختار من الأمور ما قد يحزن الجنود، ولماذا اختار هذا؟ لأنه أخف الضررين، ولم يختر هذا الأمر لأنه يرغب في الضرر ذاته أو لأنه متنازل أو مفرط، أبداً، إذاً: لابد أن نفهم هذه القاعدة جيداً.

إعذار القيادة لجنودها وأفرادها

إعذار القيادة لجنودها وأفرادها النقطة الثالثة والأخيرة في التعليق على هذا الحدث: أنه إذا كنا قد طلبنا من الجنود أن يعذروا القيادة في قراراتها، وأن تتصف ردود أفعال الجنود بالثقة في اختيار القائد، فإننا في نفس الوقت نطلب من القيادة أن تعذر جنودها عند ظهور بعض علامات الغضب، أو عدم الرضا من بعض القرارات غير المفهومة لعموم الناس، وأن يتسع صدر القيادة لتستوعب الجنود وهم في حالة نفسية سيئة، وأن تقبل منهم بعض الأخطاء، وأحياناً تكون هذه الأخطاء كبيرة جداً، ليس هناك مانع، لكن ننظر إلى ملابسات هذا الخطأ وفي أي ظرف حصل وممن حصل، وخير مثال على هذا الأمر في صلح الحديبية: ما رأيناه من رسولنا صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصحابة، وخاصة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أصر على المجادلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة، ومع ذلك لم يعنته رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة اعتراضاته، ما قال له: هذا الكلام وهذا الحوار بهذه الطريقة لا يصلح أن يكون معي وأنا رسول صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم عذره؛ لأنه يقدر موقفه ويعلم تاريخه ويعلم واقعه، وهذا الخطأ الذي حدث منه -وإن كان عظيماً- فقد قاسه على سيرته الجميلة رضي الله عنه وأرضاه، فسيرة عمر كلها تضحيات وكلها طاعة وجهاد في سبيل الله، وكلها بذل وعطاء، حتى إننا وجدناه صلى الله عليه وسلم يرسل لـ عمر خاصة بعد نزول سورة الفتح ليطمئن قلبه، فقرأ عليه سورة الفتح بكاملها من أجل أن يقول له: إن قرار الصلح هو القرار الأصوب، ولما سأله سيدنا عمر بن الخطاب: (أفتح هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم)، اكتفى بذلك ولم يذكره بخطئه السابق، وما قال له: ما كان ينبغي أن تقول كذا وكذا، وحتى بعدما ظهرت خيرات صلح الحديبية بعد ذلك لم نسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام استدعى عمر بن الخطاب وقال له: ألم أقل لك إن ذلك خير؟ أرأيت كذا وكذا؟ ما قال له هذه الكلمات، بل إنه عليه الصلاة والسلام قبل منه الخطأ بسعة صدر؛ لأنه يقدر الظروف التي حدث فيها ذلك الخطأ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بـ عمر وبسائر أصحابه صلى الله عليه وسلم تمام الرحمة، وكان مقدراً حبهم للإسلام تمام التقدير، هذه هي القيادة الرشيدة. خلاصة الأمر: أن الأمة الناجحة حقاً هي الأمة التي يشعر فيها الجندي أنه قريب جداً من القائد، يحبه ويقدره ويطيعه ويثق به تماماً، ويشعر القائد كذلك أنه قريب جداً من جنوده، يحبهم ويقدرهم ويثق بهم، وهذه الثقة والتسامح والمحبة المتبادلة بين القائد وجنوده من أقوى الأسباب التي تقوم عليها الأمم. نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عالمية الإسلام

سلسلة السيرة النبوية_عالمية الإسلام إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم للرسل والسفراء إلى زعماء العالم بعد نقلة نوعية في حياة الدولة الإسلامية الناشئة؛ إشارة واضحة إلى عالمية الإسلام، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وفيه نجاة العالم أجمع في الدنيا والآخرة لو تمسكوا به وطبقوه في حياتهم.

وضع المسلمين بعد صلح الحديبية

وضع المسلمين بعد صلح الحديبية أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني، فترة الفتح والتمكين. في هذا الدرس نتحدث عن وضع المسلمين بعد صلح الحديبية. على الرغم من القوة المتنامية للدولة الإسلامية والتي ظهرت بجلاء بعد غزوة الأحزاب، إلا أن الاستقرار الحقيقي للدولة الإسلامية لم يأت إلا بعد صلح الحديبية، وكما ذكرنا قبل ذلك: اعتراف قريش أكبر قبائل العرب وزعيمة الجزيرة سياسياً ودينياً واقتصادياً وتاريخياً بالمسلمين، كل هذا أعطى المسلمين شهادة ميلاد حقيقية، وأعلن للجميع سواء من العرب أو من العجم أن هناك دولة جديدة ولدت في المدينة المنورة، وهذه هي الدولة الإسلامية وزعيمها هو الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

إرسال الرسل إلى زعماء العالم بعد صلح الحديبية

إرسال الرسل إلى زعماء العالم بعد صلح الحديبية أول شيء فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما عاد إلى المدينة بعد صلح الحديبية هو إعلام العالم أجمع بهذا الدين الجديد الإسلام؛ ليثبت لنا وللجميع أن هذا الدين دين عالمي نزل لأهل الأرض كلهم، يقول الله سبحانه وتعالى في الكتاب: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي -وذكر منها-: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). ونحن لابد أن نفهم هذا الموضوع جيداً، ونفهم أن علينا دور توصيل الإسلام إلى كل بقعة في العالم، وليس هذا تفضلاً منا، بل واجباً علينا. كان الرسول عليه الصلاة والسلام من أول أيام الدعوة يدرك عالمية الدعوة، ويدرك أهمية وصول هذه الدعوة إلى كل بقاع الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يبشر المسلمين في مكة قبل سنوات من الهجرة، يبشرهم أن لهم دوراً تجاه العالم، وكان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم). كانت القضية في ذهنه واضحة جداً، لكنه لم يشرع فيها بخطة وبنظام إلا بعد صلح الحديبية، وقد يقول شخص: لماذا لم يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رسائل إلى عموم ملوك وأمراء الأرض من أول أيام الدعوة في مكة، أو من أول أيام المدينة المنورة، وقد كانت هناك بعض التعاملات مع بعض الممالك والدول الأخرى، ومع ذلك في هذه التعاملات لم يخطط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم في ذلك الوقت؟ تفسير ذلك في كلمة واحدة هي الواقعية، يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعية المنهج، فإرسال رسالة يدعو فيها الناس إلى تبديل دينهم والدخول في دين جديد لم يسمع به أحد ولو أن أحدهم سمع به، فماذا سيسمع؟ سيسمع عن التشريد والاضطهاد والتعذيب لأبناء هذا الدين الجديد، إرسال مثل هذه الرسالة قد لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، فمن هذا الذي سيقدم على مثل هذه الخطوة الجبارة ويبدل عقيدة لأجل مجموعة من الضعفاء في قرية صغيرة من قرى العالم؟! ولقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما هاجروا إلى الحبشة لم يكن من مهمتهم دعوة النجاشي رحمه الله للإسلام، بل إنهم لم يعرفوا النجاشي بدينهم، ولولا الموقف الذي قام به عمرو بن العاص ومحاولته إثارة النجاشي على المسلمين لما شرح جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي الإسلام، وحتى بعد هذا الشرح لم يدع جعفر بن أبي طالب النجاشي إلى الدخول في هذا الدين الجديد، مع أنه كان يشعر أن هناك ميلاً في كلام النجاشي للإسلام، ومع ذلك لم يدعه صراحة إلى الإسلام، لماذا؟ لنفس الكلمة التي قلناها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا واقعيين إلى أقصى حد، لا يصح ولا يجدي لقائد جماعة صغيرة ضعيفة أن تراسل كبار زعماء العالم لتدعوهم بتغيير معتقداتهم وتبديل أديانهم وإظهار التبعية لفكر جديد أو قانون جديد، بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن هذه الدعوة المبكرة قد يكون لها من الآثار السلبية أكثر من الآثار الإيجابية، والدليل الشرعي على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعله، ولو كان خيراً لفعله صلى الله عليه وسلم، وما كان يعجزه صلى الله عليه وسلم أن يرسل رسولاً إلى كل دولة من دول العالم من أول أيام الإسلام، لكن لم يفعل؛ لأنه لا فائدة من هذا الإرسال. أما الدليل العقلي على ذلك فإنه قد يلفت الأنظار بدعوته هذه إلى جماعته الصغيرة الناشئة فتستأصل في مهدها. أما افتراض أنه من الممكن أن الله سبحانه وتعالى يفتح قلوب الزعماء ويضحون بملكهم وسلطانهم من أجل هذا الرجل البسيط الذي ظهر في قرية صغيرة في صحراء الجزيرة، فهذا افتراض بعيد جداً لا يرقى أبداً إلى درجة الواقعية، كل هذا الكلام كان قبل صلح الحديبية، لكن بعد صلح الحديبية تغير الوضع جداً، كان جميع العالم يسمع عن قريش، فقريش القبيلة العربية الكبيرة العزيزة، وإن لم تكن بقوة فارس والروم، ولم تكن تحلم بهذا الشيء، لكنها كانت معروفة لكل الناس حتى خارج الجزيرة العربية، بل إنه كانت لها علاقات اقتصادية وسياسية مع معظم القوى الموجودة في العالم آنذاك، من أجل ذلك اعتراف قريش بدولة الإسلام كدولة لها سيادة يعتبر أهم نقطة لإعطاء شرعية لهذه الدولة الجديدة؛ الدولة الإسلامية. وكل دول العالم لن تتعامل مع هذا الكيان الجديد -الدولة الإسلامية- إلا بعد اعتراف قريش به، أما قبل ذلك فالمسلمون في نظر العالم عبارة عن جماعة غير شرعية خرجت عن منهج الدولة الأم قريش، وبالتالي لا يمكن التعاون معها إلا من قبل المعادين لقريش، ولم يكن أحد يعادي قريشاً لا في الجزيرة ولا في العالم في ذلك الوقت، من أجل ذلك الرسول عليه

نص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل والدروس المستفادة منها

نص رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم لهرقل والدروس المستفادة منها وتعالوا نأخذ رسالة كمثال من أجل أن نرى هذا الوضوح، ولكي نفهم ماذا تعني رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك أو زعيم من زعماء العالم. ؟ لندرس رسالة هرقل قيصر الروم، والرسالة جاءت في البخاري، وذكرت رواية البخاري لها؛ حتى لا يستغرب السامع مضمون هذه الرسالة، واعلم أن هذه الرسالة رسالة من رئيس دولة صغيرة جديدة هي دولة المدينة المنورة، وجيشها على أكبر تقدير (3000) جندي، وعمرها لا يتجاوز (6) سنوات، وأسلحتها بسيطة، وعلاقاتها في العالم محدودة جداً، ومع ذلك كله أعلم أن هذه الرسالة ترسل إلى هرقل قيصر الروم، الزعيم الأعظم للدولة الأولى في العالم الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الرومانية تسيطر تقريباً على نصف أوروبا الشرقية، غير تركيا والشام بكامله، وغير مصر وليبيا، وجيوشها تقدر بالملايين بلا أي مبالغة، وأسلحتهم متطورة جداً، وتاريخها في الأرض له أكثر من (1000) سنة، ضع كل هذه الأمور في ذهنك وأنت تقرأ أو تسمع كتاب وخطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قيصر الروم. يقول صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين) (الأريسيين) يعني: الفلاحين، يعني: الشعب، ثم كتب آية من آيات رب العالمين سبحانه وتعالى، قال: ({قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]). رسالة فيها الوضوح والقوة والعزة والحكمة في كل كلمة من كلمات الخطاب، وهذا الخطاب يحتاج إلى محاضرات لكي نحلله وندرسه ونستخرج منه الدروس التي في باطنه، لكن نحن هنا سنشير إلى بعض الدروس الهامة إشارة سريعة. من هذه الدروس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على ظهور عزته وعزة الدولة الإسلامية في كل كلمة من كلمات الخطاب. فهو أولاً: بدأ باسمه قبل اسم هرقل، وهذا الكلام خطير جداً في زمانهم، قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)، ثم دعاه مباشرة إلى الدخول في الإسلام، فقال: (أسلم تسلم)، حتى لم يعرض الطلب بصيغة فيها تردد أو صيغة فيها عرض يقبل أو لا يقبل وإنما قال: (أسلم تسلم). وأيضاً من الدروس: أنه مع إظهار هذه العزة والقوة إلا أنه لم يقلل من قيمة الطرف الآخر، بل بالعكس رفع قدر الطرف الآخر وحفظ له المكانة، حيث قال: (إلى هرقل عظيم الروم). وأيضاً من الدروس: أنه جمع في مهارة عجيبة بين الترغيب والترهيب، بقوله له: (أسلم يؤتك الله أجرك مرتين) يعني: فيها نوع من الترغيب، ثم يقول له وهو يهدد بوضوح: (فإن توليت، فإن عليك إثم الأريسيين) والكلام كله عبارة عن عدة أسطر قليلة جداً. وأيضاً من الدروس: حسن اختيار الآية المناسبة من القرآن الكريم، أتى بآية تقرب كل أهل الكتاب، وتوضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وبينهم، من أجل ذلك يمكن أن يفتح عقله للتفكير، ويرفع حواجز كثيرة جداً بين الطائفتين المسلمة والنصرانية. هكذا كان الخطاب لـ هرقل عظيم الروم، وهكذا كان الخطاب لكل زعماء العالم، فالخطابات تقريباً مشابهة لهذا مع اختلافات قليلة جداً في الألفاظ حسب البلد المرسل إليها والدين الذي يدينون به، ومع وحدة الخطاب تقريباً لكل مكان من السبعة الأماكن التي تكلمنا عليها إلا أن ردود الأفعال كانت متباينة جداً، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الرد، بينما بلغت بعضها أدنى مستوى لسوء الأدب والمعاداة، وبين هذا وذاك كانت هناك ردود أفعال أخرى كثيرة.

موقف النجاشي ملك الحبشة والمنذر بن ساوى ملك البحرين من رسائل النبي صلى الله عليه وسلم

موقف النجاشي ملك الحبشة والمنذر بن ساوى ملك البحرين من رسائل النبي صلى الله عليه وسلم لقد جاءت أفضل الردود من النجاشي ملك الحبشة، ومن المنذر بن ساوى ملك البحرين، وهؤلاء الاثنان أسلما دون تردد. واحد أسلم وأخفى إسلامه وهو النجاشي ملك الحبشة؛ لأن وضع الدولة النصراني كان صعباً جداً، فهو لا يستطيع أن يعلن إسلامه، ولأنه لو أسلم فإن الشعب سيقتلعه اقتلاعًا من كرسيه، وقد حصل قبل ذلك عندما ساند المسلمين أن الشعب أقام عليه ثورة وكاد أن يقتلع النجاشي من كرسيه، من أجل ذلك أخفى إسلامه، وآثر أن يساعد الدولة الإسلامية الناشئة الجديدة هناك في المدينة المنورة، وهو يعلن النصرانية في الظاهر ويبطن الإسلام. أما المنذر بن ساوى رحمه الله فقد أعلن إسلامه وأسلم شعبه، وكانوا يدينون بعبادة الأصنام، لكن يبدو أن المنذر بن ساوى رحمه الله كان قوياً ممكناً في قبيلته ومحبوباً بين شعبه، وكان الناس تبعاً لقائدهم كعادة العرب في ذلك الوقت، فزعيم القبيلة أخذ قرار الإسلام فأسلمت قبيلته وأسلم شعبه. وهذا الوضع غير الوضع في بلاد الحبشة حيث كان بلدًا نظامياً كبيراً له تاريخ طويل، ومن الصعب على النجاشي أن يغير أفكار الناس كلها في لحظة واحدة. إذاً: هذا هو الوضع بالنسبة لملك الحبشة وبالنسبة لملك البحرين وهذه أفضل ردود.

موقف المقوقس ملك مصر من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له

موقف المقوقس ملك مصر من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له أما المقوقس فقد أحسن استقبال الوفد الإسلامي وأكرمه بالهدايا، إلا أنه لم يسلم، وإني لأتعجب جداً من عدم إسلامه؛ لأن المقوقس ذكر في رده لـ حاطب بن أبي بلتعة الذي كان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر في رده له أنه كان يعلم أن نبياً سيظهر في هذا الزمان، ولكنه كان يحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام، فهو كانت عنده تهيئة نفسية لظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلم، بل إنه لم يفكر أصلاً في التأكد من كونه نبياً أم لا، مع أنه كان يعرف أنه نبي فعلاً، وإلا لما أكرم سفارته وحملها بالهدايا كما نعلم جميعاً؛ لأنه ليس من الممكن أن يفعل هذا الأمر مع كذاب يدعي النبوة، وخاصة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت لم تكن له قوة كبيرة أو بأس، ولم يكن يحكم دولة ضخمة يخشاها المقوقس فيحتاج إلى مهادنته، بالعكس فإن قوة مصر المادية كانت أضعاف أضعاف قوة المدينة المنورة في ذلك الوقت، لكن على كل حال إكرام المقوقس لوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أثراً إيجابياً للدولة الإسلامية في كل مكان، أكد على شرعيتها في النظام الدولي الجديد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. إذاً: هذا كان رد المقوقس رد بأدب وحمل الهدايا لكن لم يسلم.

موقف هرقل ملك الروم من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له

موقف هرقل ملك الروم من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له أما هرقل زعيم الدولة الرومانية التي كانت تسيطر تقريباً على نصف مساحة العالم في ذلك الوقت، فإن موقفه من الرسالة يحتاج إلى وقفة ويحتاج إلى تحليل، فهو يفسر لنا الكثير من أحداث التاريخ، سواء في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أو في الأيام التي تلت الرسول عليه الصلاة والسلام، وحتى إنها تفسر لنا أحداثاً كثيرة جداً من الواقع الذي نعيشه؛ لأنكم تعرفون أن التاريخ يتكرر. فعندما استلم هرقل رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، مع أنه زعيم أكبر دولة في العالم، ويستلم رسالة من زعيم دولة لم يسمع بها أحد إلى الآن، وهذه الدولة الجديدة خرجت في بلاد العرب، والرومان بصفة عامة كانوا ينظرون إلى بلاد العرب نظرة دونية، يرونهم دائماً أقل من أن يهتموا بشأنهم، لم يدرسوا أحوالهم أو عاشوا ظروفهم؛ لأن هؤلاء العرب قوم يعيشون حياة البداوة في أعماق الصحراء، بعيدون كل البعد عن كل مظاهر الحضارة والمدنية، متفرقون مشتتون متنازعون، أحلامهم بسيطة جداً، طموحاتهم قليلة جداً، عددهم محدود، أسلحتهم بدائية، والفارق بينهم وبين إمبراطورية الرومان الهائلة كالفارق بين السماء والأرض. وكلنا نعرف كيف كان الصراع يدور بين دولة فارس والروم وكل ما عمله العرب هو الاكتفاء فقط بمراقبة الأحداث، وأنهم يتراهنون من الذي سيكسب من الدولتين العظيمتين فارس والروم، ولم يكن أحد فيهم عنده طموح في مشاركة القوى العالمية لا من قريب ولا من بعيد في الأحداث الجارية في العالم، ومع كل هذا فـ هرقل زعيم الروم عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إليه رسالة أخذ الأمر بمنتهى الجدية، ولم ينكر أن يكون ذلك الرجل نبياً حقاً، ولم يكن ينقصه إلا التأكد فقط، ويريد دليلاً، ونحن عندما نسمع عن هرقل أو نقرأ عنه نشعر أنه كان زعيماً نصرانياً متديناً ملتزماً إلى حد كبير بتعاليم دينه، وكان يقدر كثيراً أن الله عز وجل يساعده في معاركه، وكلنا نعرف أنه نذر أن يحج إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه من حمص إلى القدس شكراً لله على نصره للرومان على الفرس، فمثله يتأكد أنه قرأ في التوراة والإنجيل أن هناك رسولاً سيأتي، وأن هذا الرسول بشر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكان ينتظر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا الرجل الذي أرسل له رسالة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر له في هذه الرسالة أنه نبي آخر الزمان، وقبل هرقل الفكرة، بل لعله مشتاق إلى رؤية ذلك النبي، وقبل هذا هرقل كان قد سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الله عز وجل يسر له لقاء غريباً عجيباً؛ فقبل استلام الرسالة هيئ هرقل نفسياً تماماً لاستلام مثل هذه الرسالة العجيبة، وذلك أنه سمع أن نبياً ظهر في بلاد العرب، فقال لجنوده: ائتوني ببعض العرب أسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم، فأتى الجنود ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة في فلسطين، وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت، وذهبوا بهم إلى هرقل من أجل أن يتأكد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش، وحصلت هذه القصة بعد صلح الحديبية مباشرة، يعني: بعدما تم صلح الحديبية سافر أبو سفيان إلى غزة وأخذه الجنود إلى هرقل في بيت المقدس، وكان التوقيت توقيتاً عجيباً جداً من كل النواحي، وكأن الله سبحانه وتعالى بعث أبا سفيان الكافر في ذلك الوقت ليقيم الحجة على هرقل، وهذا اللقاء ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعه من أبي سفيان رضي الله عنه بعد إسلامه. فلما مثل التجار عند هرقل سألهم: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً إليه، فقال هرقل: أدنوه مني وقربوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا - يعني: أبا سفيان - عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. يعني: يريد هرقل أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فهو سيسأل أقرب الناس إليه نسباً؛ لكونه أعرف الناس به، وفي نفس الوقت سيجعل وراء أبي سفيان التجار الآخرين كحكام على صدقه. فالتجار تحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه كل واحد منهم يخاف أن يكذب، وكذلك أبو سفيان يخاف أن يكذب. لكن العرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب، وتعتبرها نوعاً من الضعف غير المقبول، من أجل ذلك كان أبو سفيان يقول تعليقاً على كلمة هرقل هذه: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عليه. فهو في تلك اللحظة مع أنه يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة،

موقف هرقل بعد قراءة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته فيها للإسلام

موقف هرقل بعد قراءة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته فيها للإسلام لقد كان هرقل على استعداد لاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة جداً في داخل البلاط الملكي ترفض تماماً فكرة الإسلام، وأدرك هرقل أنه إذا أعلن رغبته في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عليه أن يغامر بملكه، وعليه أن يخاطر بسيادته على شعبه، وقد ينزعه الأمراء نزعاً من رئاسة البلد، حتى إنه في رواية قال لـ دحية بن خليفة الكلبي الذي هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظر، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته. وفي رواية أخرى ذكرها ابن كثير رحمه الله: أن هرقل اتبع الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب، قال: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى، الذي كنا ننتظره. قال هرقل: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه. الأسقف الأكبر آمن. فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل. يعني: أنا أعرف أنه نبي، لكن لا أستطيع أن أتبعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم. وفي رواية أخرى: أن هذا الأسقف كان اسمه صغاطر وأنه خرج إلى الرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله تعالى، وإلى الإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن الشهادة أمام الجميع: أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فماذا عمل الناس؟ قام الناس كلهم إليه فضربوه حتى قتلوه. وهذا الأسقف كان أعظم شخصية في الدولة الرومانية، وهو أعلم من هرقل عند الناس، وعلم هرقل بقتل هذا الرجل الأسقف الكبير فلم يستطع أن يفعل أي شيء مع من قتله، وهذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسي الذي يجلس عليه. إذاً: هرقل عقد مقارنة سريعة جداً بين الملك والإيمان، وبين الحياة ممكناً وبين الموت شهيداً، فأخذ القرار بمنتهى السهولة، واختار الملك والحياة، ورفض الإيمان والشهادة، لم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ضن بملكه وضحى بالإيمان. فأمر الإيمان واضح جداً، وإعجاز القرآن ظاهر، وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في نفس الإنسان يضحي، والناس كلها تضحي، ولا أحد يستطيع أن يجمع كل شيء، والواحد قد يضحي بالإيمان من أجل أن يأخذ الملك، وآخر قد يضحي بالملك من أجل أن يأخذ الإيمان، فـ هرقل وأمثاله ينطبق عليه قول الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108]. وهرقل لا يمكن أن يعذر في عدم إسلامه مهما كانت فتنته، ومهما كان راغباً في الملك راهباً من الموت؛ لأن الإيمان لا يوزن إلى جواره شيء. ويعلق الإمام النووي رحمه الله على موقف هرقل فيقول: ولا عذر له في هذا؛ لا عذر له في ترك الإيمان مهما كان سيضيع منه أو سيقتل، لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح بالملك وطلب الرئاسة. ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله أيضاً تعليقاً على هذا الحديث: ولو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة وأسلم، لسلم له كل الدنيا وكل الآخرة، لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله عز وجل. وهرقل بعد كل هذا اليقين اكتفى بأنه يُحمِّل دحية الكلبي بعض الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفكر في قضية الإيمان، مع أنه كان يعلم أنه في يوم من الأيام سيئول كل ملكه الذي يحكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوقن بذلك؛ لأن ذلك موجود في التوراة والإنجيل، وقد قال قبل ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان: (إنه سيملك موضع قدمي هاتين) وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية، قال وقد أشرف على الشام حين طلع فوق ربوة عالية وأطل على الشام بكاملها، ثم قال: السلام عليك يا أرض سوريا. يسلم عليها تسليم الوداع، وأنه لن يرجع إليها مرة أخرى. أدرك أن هذه البلاد لن تبقى بعد هذا الظهور لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تحت سيطرته، وبعد كل هذه القناعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حد عدم الإيمان، ولم يقبل بالحياد، ولكن سير الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين، مع إحس

موقف كسرى ملك فارس من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له

موقف كسرى ملك فارس من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له أما كسرى فارس وكان اسمه إبرويز بن هرمز، وقد ظهر عداؤه للإسلام من أول لحظة قرأ فيها الخطاب، وكان ينوي تدمير هذا الدين الجديد وحرب هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لكسرى هو نفس خطاب هرقل إلى حد كبير، بدأ فيه بالبسملة، ثم بعد ذلك قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس)، ثم بعد ذلك دعا صلى الله عليه وسلم كسرى إلى الدخول في الإسلام، لكن مع تغيير يسير في بعض الألفاظ لتناسب كسرى فارس والديانة التي هم عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، واشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]، فأسلم تسلم، فإن أبيت، فإن إثم المجوس عليك) خطاب في منتهى القوة. فغضب كسرى غضباً شديداً عندما سمع هذا الخطاب، وتعامل معه بسطحية بالغة، لم يلتفت إلى المعاني التي فيه، ولا إلى الرسالة التي يشير إليها الخطاب، لكن كل الذي نظر إليه الشكليات التي في الخطاب، فأمسك الخطاب ومزقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي، وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما وصلت هذه الكلمات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)؛ لأنه مزق الكتاب. وبالفعل ففي غضون سنوات قليلة جداً من هذه الأحداث مزق الله عز وجل ملك كسرى تماماً، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية، وسقطت الإمبراطورية الفارسية تماماً، وكانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض. هذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسية الكافرة، لكن كسرى فارس إبرويز لم يكتف بهذه الكلمات وبتقطيع الخطاب، لا، بل إنه حاول أن يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعاقبه بنفسه، فأرسل رسالة إلى عامله الفارسي على بلاد اليمن، وكانت اليمن مستعمرة فارسية، وهي قريبة من المدينة المنورة، فأرسل رسالة إلى عامل اليمن واسمه باذان وكان فارسياً، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة فارس. انظروا يبعث اثنين فقط من الرجال ليأتيا بزعيم المدينة المنورة، وانظروا كيف كانت نظرة كسرى فارس للعرب، بعث اثنين من الرجال ولم يبعث جيشاً ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة الدولة الفارسية، وقال لهما: أخبراه إن هو رفض فسيقتل، وسيهلك كسرى قومه ويخرب بلاده، فذهب الرسولان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالا له هذا الكلام، فطلب الرسول عليه الصلاة والسلام طلب منهما في أدب جم أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسيرد عليهما، وجلسا في المدينة تلك الليلة، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا كسرى أتى الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بنبأ عجيب، أخبره أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس إبرويز قتل في نفس الليلة، ومن الذي قتله؟ قتله ابنه شيرويه بن إبرويز، وكانت هذه الوقعة في ليلة الثلاثاء (10) جمادى الآخرة سنة (7) هـ، وفي اليوم التالي أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرسولين وجلس معهما وقال لهما: (إن ربي سبحانه وتعالى قتل ربكما الليلة، ففزع الرسولان وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من ذلك، أنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذان الذي هو ملك فارس في اليمن؟ فقال صلى الله عليه وسلم في منتهى الثقة: نعم أخبراه ذاك عني)، ليس هذا فحسب، بل قال لهما في يقين: (وقولا له أيضاً: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت -يخاطب باذان - أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك)، والرسول عليه الصلاة والسلام عاملهما معاملة الملك الكريم وحملهما بالهدايا، وأعادهما إلى باذان مرة أخرى، ووصل الرسولان إلى باذان ملك اليمن الفارسي، وقالا له ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان باذان رجلاً عاقلاً؛ فإنه عندما سمع هذه الكلمات، قال: (والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، وليكونن ما قال، فلئن كان هذا حقاً فهو نبي مرسل)، يعني: كيف عرف أن هناك شيئاً حصل في المدائن، وهي على بعد مئات الكيلو مترات في ذلك الزمن؟ ثم قال: (وإن لم يكن الذي قاله فسنرى فيه رأينا). وذهبت الأيام وجاء خطاب من الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن إبرويز جاء خطاب إلى باذان عامل اليمن يقول له فيه: إنه قد قتل أباه إبرويز؛ بسبب أنه قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد أن يودي بفارس إلى الهلاك. سوع

موقف هوذة بن علي صاحب اليمامة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له

موقف هوذة بن علي صاحب اليمامة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له أما هوذة بن علي صاحب اليمامة، فإنه عندما وصلت إليه الرسالة لم يفكر في الإسلام؛ لأنه أعجب بالإسلام، لكنه فكر فيه لأنه شعر بقوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنبأ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم بمستقبل كبير، من أجل ذلك قرر أنه يفاوض الرسول عليه الصلاة والسلام وأرسل له رسالة، قال فيها: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك)، هذه مساومة. والرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هوذة بن علي وعده أن يعطيه ما تحت يديه من اليمامة إن أسلم، لكن هوذة بن علي رغب في مساومة الرسول عليه والصلاة والسلام حتى يأخذ ملكاً أكبر، وعلق إسلامه على هذا الشرط، والرسول صلى الله عليه وسلم يرفض أن يطلب أحد الإمارة، ويرفض أن يعطي الإمارة لمن يطلبها، كما جاء في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)، لماذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع الإمارة لمن يطلبها؟ لأنه يعلم أن من سيتولى الإمارة وهو حريص عليها فلن يعود ضرره عليه فقط، ولكن سيعود الضرر على كل من يقود؛ لأنه مفتون بالإمارة، وسيضحي من أجلها لا من أجل الإسلام، ولأنه لو تعارض الإسلام مع استمراره في الإمارة سيترك الإسلام ويتمسك بالإمارة، وهنا قد يتبعه قومه، وستكون كارثة ومشكلة كبيرة؛ من أجل ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الإمارة لأحد طلبها، ومن أجل ذلك علق الرسول عليه الصلاة والسلام على موقف هوذة بن علي وقال: (لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت)، ثم تنبأ له بالهلكة، قال: (باد وباد ما في يديه)، وتحقق تنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أقل من سنتين، حيث مات هوذة بن علي وفقد ملكه ولم يسلم.

موقف الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له

موقف الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له من الزعماء الذين أرسل إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام الرسائل الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، وكان هذا الرجل نصرانياً تابعاً لـ هرقل قيصر الروم، وكان رده تقريباً نفس رد كسرى زعيم فارس، ألقى الخطاب وقال: من ينزع ملكي مني؟ وأنا سائر إليه، وبدأ في تجهيز الجيوش من أجل أن يغزو المدينة المنورة، لكن قبل أن يفعل هذا أحب أن يستأذن هرقل وبعث له برسالة، فتزامن وصول رسالة الحارث مع وصول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فـ هرقل قال له: لا، انتظر، لا ندري ماذا سيحدث بعد ذلك من الأحداث؟ فأمره ألا يرسل الجيوش، فانصاع الحارث إلى كلام هرقل ولم يرسل الجيوش، وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم رد فعل الحارث قال: (باد ملكه)، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ما لبث أن مات وباد ملكه تماماً، بل دخل ملكه بعد ذلك في ملك المسلمين. إذاًَ: هذه كانت ردود الأفعال المختلفة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للعالمين، وكما رأينا اختلف رد الفعل من إيمان سريع، إلى تفكير ثم إسلام، إلى حياد مؤدب، إلى رفض للإسلام، إلى حرب الإسلام، ردود مختلفة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ونخلص من كل هذه الرسائل إلى أنه ليس من واجب الداعية أن يفتح قلوب الناس إلى الإسلام أبداً، لكن من واجب الداعية أن يصل إليهم بدعوته بيضاء نقية، ثم بعد ذلك فإن الله سبحانه وتعالى سيفتح قلوب من يشاء إلى الهدى والإيمان، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] والرسول عليه الصلاة والسلام عمل هذا البلاغ على أتم ما يكون.

نظرة تحليلية حول رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زعماء ورؤساء وملوك العالم

نظرة تحليلية حول رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زعماء ورؤساء وملوك العالم بقي لنا في موضوع هذه المراسلات العظيمة أن ننظر نظرة تحليلية في السفراء الكرام الذين اختارهم الرسول عليه الصلاة والسلام لإيصال الرسائل إلى زعماء وأمراء العالم. سنلاحظ عدة ملاحظات جميلة جداً: أولاً: هؤلاء الرسل جميعاً عندما تنظر إلى أسمائهم تجد أنهم من قبائل مختلفة، فـ عمرو بن أمية من بني ضمرة، وهو الذي أرسل إلى النجاشي. والعلاء بن الحضرمي من حضرموت اليمن، وأرسل إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين. وعبد الله بن حذافة من بني سهم، وأرسل إلى كسرى فارس. ودحية بن خليفة من بني كلب، وأرسل إلى قيصر الروم. وحاطب بن أبي بلتعة من بني لخم، وأرسل إلى المقوقس في مصر. وسليط بن عمرو من بني عامر، وأرسل إلى هوذة بن علي باليمامة. وشجاع بن وهب من بني أسد، وأرسل إلى الحارث بن أبي شمر في دمشق. وهذا الاختلاف في القبائل لا شك أنه إشارة واضحة جداً من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كل المسلمين سواء في المدينة أو في خارج المدينة، وإلى كل العرب المراقبين للأحداث، وإلى كل دول العالم التي أرسل إليها السفراء، وإلى كل المحللين والدارسين للسيرة على مدار السنين إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، أن هذه الدعوة ليست قبلية أبداً، بل هي دعوة تضم بين طياتها أفراداً من كل قبائل العرب، وهؤلاء السفراء كانوا بمثابة الصورة الجديدة المرجوة لهذه الأمة، ووحدة العناصر المختلفة على رباط واحد فقط هو رباط العقيدة الإسلامية. إذاً: هذه كانت ملحوظة في منتهى الأهمية. الملحوظة الثانية: أن قريشاً لم يمثلها في هذه السفارات إلا صحابي واحد فقط، وهو عبد الله بن حذافة السهمي القرشي رضي الله عنه، وبقية السفراء جميعاً ليسوا من قريش. وهذه إشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأصلح هو الذي يعطى العمل ويكلف بالمهمة، بغض النظر عن النسب والمكانة العائلية والقبلية وما إلى ذلك، مع أن الجميع يعرف أن قريشاً هي أعلى العرب نسباً، وقد يقول البعض: لعله من الأصلح والأفضل أن نجعل كل السفراء من قريش؛ لأجل رفع قيمتهم عند زعماء العالم، لكن مثل هذا سيترك رسالة عكسية سلبية وهي أن السفارة لا تكون إلا في الأشراف، وهذا ليس صحيحاً، الأكفأ والأفضل هو الذي يحمل الرسالة. الملحوظة الثالثة: أن التمثيل القرشي لم يكن فقط يسيراً في هؤلاء السفراء، وإنما كان التمثيل في بني هاشم منعدماً تماماً، وهذه إشارة واضحة جداً من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجب أبداً أن تعطى المناصب الهامة إلا للأكفاء بغض النظر عن قرابتهم أو علاقتهم بالقائد، فالقائد المتجرد حقاً هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة لا مصلحة القبيلة، ويهتم بقضايا الشعب لا قضايا العائلة. إذاً: هذه كانت الملحوظة الثالثة. الملحوظة الرابعة في هؤلاء السفراء الكرام: أنهم جميعاً من المهاجرين لا يوجد فيهم أنصاري واحد، وهذه الملحوظة ليست خاصة بهؤلاء السفراء، لا، سنجدها تقريباً في كل مواطن السيرة، قلما تقلد أنصاري منصباً هاماً أو قيادياً في الدولة الإسلامية؛ ولعل ذلك ليبقى الأنصاري رمزاً في المسلمين يعطي ولا يأخذ، وأنتم تعرفون أهم سمة تميز الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: أنها صفة الإيثار، كما وصفهم الله تعالى وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9]، لابد أن يبقى مثلاً يؤثر على نفسه وهو راض مطمئن. والأنصار رضي الله عنهم أجمعين ما نالوا من الدنيا شيئاً يذكر، لا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، كانوا مثلاً رائعاً للعطاء بلا حدود؛ للإيثار دون تردد، فمن الأفضل أن يظلوا بهذه الصفة دائماً؛ من أجل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم السفارة ولا القيادة، جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه وأرضاه عن أسيد بن حضير أخبره: (أن رجلاً من الأنصار جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ستلقون -يخاطب الأنصار عامة- بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). يعني: أمر الأنصار ألا يبحثوا أبداً على الإمارة؛ حتى يبقى دائماً مثل الإيثار واضحاً نقياً عندهم رضي الله عنهم. وليس معنى هذا أن المهاجرين كانوا يتشوفون للإمارة أو يرغبون في السفارة أبداً، بل على العكس المهاجرون باعوا الدنيا تماماً، وهذه السفارات على شرفها خطيرة جداً، وقد يكون ثمنها حياة السفير، وسنرى هذا الكلام فعلاً بعد ذلك مع الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه عندما يقتل على يد شرحبيل بن عمرو الغساني، وسيكون قتله سبباً في غزوة مؤتة، وسنرى هذا في الدروس القادمة. إذاً: نخلص من ذلك الأمر: أن الأنصار لا

فتح خيبر

سلسلة السيرة النبوية_فتح خيبر من آثار صلح الحديبية العظيمة فتح خيبر، فقد سارع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة من صلح الحديبية إلى خيبر، لتأديب اليهود ومعاقبتهم على دسائسهم ومؤامراتهم، واصطفى للقتال من بايع بيعة الرضوان، فأجرى الله تعالى على أيديهم فتح خيبر وغنم المسلمون أموالها، وكان ذلك فتحاً مبيناً.

أسباب فتح خيبر

أسباب فتح خيبر أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين. تحدثنا قبل ذلك عن صلح الحديبية، وذكرنا أن صلح الحديبية يعتبر نقطة تحول حقيقي ويعتبر نقلة نوعية في تاريخ الأمة الإسلامية بكل المقاييس، ولذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح الهام يرتب أوراقه من جديد، فقد قام بخطوتين كان من الصعب جداً أن يقوم بهما قبل هذا الصلح: الخطوة الأولى: خطوة مراسلة زعماء وملوك العالم، وهي خطوة ما كان يستطيع أن يقوم بها أبداً قبل صلح الحديبية؛ لأن دولة الإسلام في ذلك الوقت كانت دولة غير مستقرة، غير معترف بها حتى في محيط الجزيرة العربية، فكيف يعترف بها على مستوى العالم، أما بعد صلح الحديبية فقد استقرت الأوضاع إلى حد كبير جداً في المدينة المنورة، وأمن الناس من احتمال الحرب، واعترفت قريش بالدولة الإسلامية، وكذلك اعترفت القبائل العربية الكبرى بهذه الدولة الجديدة، بدليل دخول بعض القبائل -كخزاعة- في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ونتيجة هذا الاستقرار بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في نشر الإسلام عالمياً عن طريق مراسلات عديدة إلى زعماء وملوك العالم كما فصلنا. إذاً: هذه كانت هي الخطوة الأولى بعد صلح الحديبية، وتقريباً بدأت في أول محرم سنة سبع أو في أواخر سنة ست في آخر ذي الحجة. الخطوة الثانية: فتح خيبر، وقد قام به صلى الله عليه وسلم بمجرد أن انتهى من صلح الحديبية. وخيبر كما نعلم جميعاً من أكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، وملف اليهود بصفة عامة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أسود شديد السواد، وهذا السواد شمل كل فترات المعاملات، سواء في السلم أو في الحرب، أو في وقت المعاهدة التي عقدها مع يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، كان الأصل عند اليهود في التعامل هو الخيانة المتكررة، والتشكيك المستمر في دين الإسلام، ومحاولة إثارة الفتنة على الدوام، ثم تطور الأمر إلى معارك حقيقية بين المسلمين وبين يهود القبائل الثلاث، وانتهى الأمر بإجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال القبيلة الثالثة بني قريظة، ولم يبق من تجمعات اليهود الكبرى في الجزيرة إلا تجمع خيبر وما حولها من تجمعات أصغر مثل تجمع تيماء، وتجمع فدك، وتجمع وادي القرى، لكن التجمع الرئيس كان تجمع خيبر، وهذا التجمع الكبير من أقوى التجمعات اليهودية مطلقاً، وقد ازداد قوة بعد إجلاء يهود بني النضير؛ لأنهم انضموا بكل طاقتهم إلى يهود خيبر، وإذا كنا رأينا قبل ذلك أن كل التعاملات اليهودية مع الرسول عليه الصلاة والسلام كان فيها خيانة وغدر وكيد وتدبير مؤامرات تلو المؤامرات، فإن يهود خيبر لم يخالفوا هذه القاعدة، مع أن علاقة يهود خيبر بالرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مباشرة كالقبائل اليهودية الثلاث التي ذكرناها قبل ذلك، إلا أنهم لم يكفوا عن محاولتهم للكيد للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وأخطر محاولات ومؤامرات خيبر كانت مؤامرة جمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، فيهود خيبر بعثوا وفداً كبيراً جداً مكوناً من عشرين زعيماً من زعماء خيبر، بالاشتراك مع بعض زعماء قبيلة بني النضير، وبدءوا يجوبون القبائل العربية الكبرى مثل: قريش، وغطفان وغيرهما؛ لتحفيز هذه القبائل على الاجتماع لحرب المسلمين، ولم يكتف يهود خيبر بالدور التنسيقي للأحزاب، بل بذلوا المال وثمار خيبر لقبائل غطفان؛ لكي يدفعوها دفعاً لاستئصال المسلمين، وقبائل غطفان مرتزقة يحاربون بالأجر، فخيبر ضحت بنصف ثمارها؛ لكي تدفع غطفان لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل كان لهم دور كبير جداً في إقناع بني قريظة بخيانة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الفعل كان سيؤدي إلى كارثة حقيقية بالمدينة المنورة، لولا أن الله عز وجل لطف بعباده المؤمنين، كما فصلنا وشرحنا في غزوة الأحزاب. رغم فشل الأحزاب في غزو المدينة إلا أن يهود خيبر لم يكفوا أبداً عن محاولتهم المضنية لإيذاء المسلمين، وثبت أنهم قاموا بالتجسس مع المنافقين في المدينة المنورة؛ لكي يدبروا مؤامرات كيدية للمسلمين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا التاريخ الطويل من الكيد والدس والمؤامرات يحتاج إلى وقفة من المسلمين، وكان من الأفضل والمناسب أن تكون هذه الوقفة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، لكن لم يكن ذلك ممكناً ومتيسراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخشى أن تباغت قريش المدينة المنورة في أي لحظة، وما غزوة الأحزاب عنه ببعيد، لأنه قد يجتمع الناس من جديد لمحاصرة المدينة واقتحامها، فالرسول عليه الصلاة والس

أهداف سرعة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر

أهداف سرعة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر بعد أقل من شهر من عودته من صلح الحديبية في محرم سنة سبع، وكانت هذه السرعة لأهداف، منها: أنه يريد حفظ كرامة الأمة الإسلامية بالرد على اليهود الغادرين. ومنها: أنه لا يأمن غدر قريش وحلفائها؛ من أجل ذلك بادر إلى هذه الخطوة قبل أن تفكر قريش في الغدر أو تستعد له. ومنها: أن خبر صلح الحديبية وصل حتماً إلى يهود خيبر، وقد يتوقعون هجوماً من المسلمين، لذلك كلما كان أسرع كان أفضل قبل أن يستعد اليهود. ومنها: أنه أراد أن يرفع معنويات المسلمين المنكسرة بعد صلح الحديبية، فهم لم يكونوا قد رأوا الخير الذي ترتب على صلح الحديبية، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعوضهم بهذا الفتح القريب. وفوق كل هذه الأهداف أن رب العالمين سبحانه وتعالى كان قد بشر المؤمنين أن هناك مغانم كثيرة سيحققونها بعد صلح الحديبية، كما جاء في سورة الفتح التي نزلت مباشرة بعد الصلح، ولعل هذه الغنائم تكون غنائم خيبر، وقد كان كما قال الله عز وجل في سورة الفتح: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20]. فقوله تعالى: (مَغَانِمَ كَثِيرَةً) هي مغانم خيبر وغير خيبر من الفتوحات الإسلامية التي جاءت بعد هذا الصلح العظيم. وقوله: (هَذِهِ) يعني: صلح الحديبية.

سبب عدم قبول الرسول صلى الله عليه وسلم خروج المنافقين معه إلى خيبر

سبب عدم قبول الرسول صلى الله عليه وسلم خروج المنافقين معه إلى خيبر كانت هناك مشكلة كبيرة جداً، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً من خيانة المنافقين داخل المدينة المنورة، وكما ذكرنا أن المنافقين يتعاملون مع اليهود، والعلاقة بينهم كانت حميمة من أيام بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والآن ثبت أنهم يتعاملون مع يهود خيبر، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يخرج معه المنافقون في هذا الجيش، فماذا يفعل؟ هو لا يستطيع أن يقف ويقول: المنافق لا يخرج؛ لأن النفاق أمر قلبي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن أنه لا يخرج إلى قتال أهل خيبر إلا من شهد صلح الحديبية، وبذلك يضمن أن كل من شارك في هذا الفتح سيكون من المؤمنين؛ لأن هذه المجموعة التي شاركت في صلح الحديبية جميعاً مؤمنون كما قال الله عز وجل عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بألف وأربعمائة مقاتل، وهم الذين كانوا معه في صلح الحديبية. وكما هو معلوم إذا رأينا الصف المؤمن خالصاً نقياً مؤمناً؛ فإن الله عز وجل يمنحه النصر والتمكين. فخرج هذا الجيش العظيم بهذه الروح الطيبة المتفائلة، ولنتذكر أن ألف وأربعمائة مقاتل سيحاربون أعداداً ضخمة هائلة؛ لأن أعداد اليهود كانت أضعاف أضعاف الجيش الإسلامي، ومع ذلك كانوا خارجين بتصميم ويقين على أن النصر من عند الله سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. وكما توقع الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أرسل المنافقون إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بل وشجعوهم على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: لا تخافوا منهم؛ فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا القليل.

قرارات الرسول صلى الله عليه وسلم في تأمين عملية اجتياح خيبر

قرارات الرسول صلى الله عليه وسلم في تأمين عملية اجتياح خيبر لما وصلت رسالة المنافقين إلى أهل خيبر بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم واستعد أهل خيبر، ولم يكتفوا بالاستعداد والتحصن، بل أرسلوا أحد زعماء اليهود واسمه كنانة بن أبي الحقيق، وهو أخو سلام بن أبي الحقيق الذي قتل قبل عدة أشهر على أيدي المسلمين، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق إلى قبائل غطفان المرتزقة وعرضوا عليهم المال؛ لكي يساعدوهم ويعاونوهم في حرب المسلمين، وعرضوا عليهم نصف ثمار خيبر، وبالفعل بدأت قبائل غطفان في التجهز للخروج في اتجاه خيبر وأعدوا جيشاً كبيراً جداً لهذا الأمر، وبفضل الله اكتشفت مخابرات الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التحرك لغطفان، وبسرعة أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام عدة قرارات لكي يؤمن عملية اجتياح خيبر: أولاً: أخرج صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبان بن سعيد رضي الله عنه باتجاه أعراب نجد حول المدينة؛ لكي يثير الرعب في هذه المنطقة فلا تجرؤ غطفان ولا غير غطفان على مهاجمة المدينة المنورة؛ لأنها خالية تقريباً من الرجال في ذلك الوقت. إذاً: أول شيء: أنه قام بتأمين المدينة المنورة. ثانياً: أرسل سرية إلى ديار غطفان، فالمسلمون متجهون إلى الشمال باتجاه خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل سرية إلى الشمال الشرقي إلى ديار غطفان؛ لكي يوهم جيش غطفان أنه سيغزو ديارهم لا ديار اليهود، وأمر هذه السرية أن تظهر أمرها ولا تتخفى، وتحدث لغطاً وصوتاً عالياً، لكي يلفت أنظار جيش غطفان فيعود مرة ثانية إلى دياره، ولا يشترك مع أهل خيبر في الدفاع عن حصون خيبر، وفعلاً هذا الذي حصل، فجيش غطفان لما سمع الصوت رجع سريعاً عائداً إلى قبائله وإلى دياره، وترك يهود خيبر يواجهون الرسول عليه الصلاة والسلام منفردين. ثالثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير اتجاهه، حيث أخذ بعض الأدلة لتدله على طريق آخر ليدخل خيبر من شمالها وليس من جنوبها، والمدينة المنورة في جنوب خيبر، وبدلاً من أن يدخل من الجنوب دخل من الشمال، ويكون بذلك حقق شيئين، وضرب عصفورين بحجر: أولاً: سيحول بين غطفان وبين خيبر بجيشه، فجيشه سيفصل بين قبائل غطفان وبين مدينة خيبر. ثانياً: سيمنع اليهود من الفرار إلى الشام، فيحصر اليهود في منطقة خيبر، وسيكون الطريق إلى الشمال مغلقاً بالجيش الإسلامي. وهذا تخطيط عسكري على أحسن مستوى.

عوامل ومقومات النصر في جيش الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر

عوامل ومقومات النصر في جيش الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر نستطيع بهذا أن نتبين بعض ملامح الجيش المنصور من الخطوات السابقة: أولاً: الجيش بكامله من المؤمنين وهذا أهم عامل، فالرسول عليه الصلاة والسلام حدد الخروج في أولئك الذين شهدوا صلح الحديبية، حتى لو كان هؤلاء قلة، فإنهم سينتصرون بإذن الله عز وجل. فكل الجيش كان مؤمناً، وكان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويجمعهم رباط العقيدة، وقد تخلت غطفان عن اليهود؛ لأنه لا يربطهم ببعضهم إلا المصالح الدنيوية، أما الجيش الإسلامي بشتى فروعه: قبائل الأنصار، وقبائل المهاجرين، وغير ذلك من القبائل التي دخلت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، كل هذا الجيش كان وحدة واحدة، وهذا من أهم عوامل النصر. وكذلك الأخذ بالأسباب: إعداد العدة، والخطة، والخطط البديلة، وتغيير الاتجاه، والعيون، فكل شيء يستطيع أن يفعله عليه الصلاة والسلام من أسباب النصر فعله صلى الله عليه وسلم، فهو سيدخل منطقة خيبر وعنده مقومات النصر للمسلمين. واقترب الرسول عليه الصلاة والسلام من خيبر جداً، وكان هذا الاقتراب في الليل، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل بالليل، كان ينتظر حتى يأتي الفجر، ثم يقاتل بعد الفجر صلى الله عليه وسلم، فاختار صلى الله عليه وسلم مكاناً وعسكر فيه قريباً من مجموعة حصون اسمها حصون النطاة، على وزن حصاة، وكانت مجموعة حصون كبيرة في منطقة خيبر، وعندما اختار الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك المكان جاء إليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! إن هذا المنزل قريب من حصن نطاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وهذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة) يعني: هذا مكان بين النخلات قد يتسلل اليهود من خلال النخيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يدركون هذا التسلسل. (فلو أمرت بمكان آخر نتخذه معسكراً، فقال صلى الله عليه وسلم: الرأي ما أشرت به) وغير عليه الصلاة والسلام المكان إلى المكان الذي أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه، والحباب قبل ذلك أشار بمثل هذه المشورة في موقعة بدر، ورأينا سعة صدر الرسول عليه الصلاة والسلام لقضية الشورى وسماع آراء الآخرين، وكيف كان ذلك سبباً للنصر في بدر، وسيكون سبباً من أسباب النصر في خيبر، وهي سنن ثابتة كما نرى.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراية في خيبر لعلي رضي الله عنه

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراية في خيبر لعلي رضي الله عنه بعد أن استقر الجيش الإسلامي في مكانه الجديد، قام صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال لهم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه). واضح جداً من هذا الوصف أن من يفتح الله عز وجل على يديه البلاد، ويمكن له في الأرض وينصره على أعدائه لا بد لهذه الشخصية أن تكون محبة لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن تكون محل حب الله عز وجل وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، هذه الصفة لا تأتي إلا بموافقة تامة للشرع وبصدق كامل في النية، والله عز وجل مطلع على القلوب، ولا يعطي نصره إلا لمن أحب سبحانه وتعالى. وهذا الأمر ينطبق على كل مراحل التمكين في حياة الأمة الإسلامية، وعلى كل انتصارات الأمة الإسلامية، فأنت إذا رأيت الله عز وجل نصر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، أو نصر عمرو بن العاص، أو نصر صلاح الدين الأيوبي، أو سيف الدين قطز، أو يوسف بن تاشفين أو أي إنسان مكن له في الأرض ونصر، فاعلم أن هذه علامة من علامات حب الله عز وجل للعبد. فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال هذه الكلمات وأصبح في اليوم الثاني جاء الناس جميعاً متشوفين لحمل هذه الراية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟ فقال الناس: يا رسول الله! هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه) فسيدنا علي بن أبي طالب كان عنده رمد في عينيه، وكان لا يرى إلا بصعوبة، فهم قالوا: يا رسول الله! إنه مريض به رمد في عينيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أصر على الإتيان بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلما جاء بصق صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرئ علي بن أبي طالب كأن لم يكن به أي مرض، وأعطاه صلى الله عليه وسلم الراية، وكان الجميع يرى أن ظروف علي بن أبي طالب لا تسمح له بالقيادة، ولكن رب العالمين سبحانه وتعالى يسر له ذلك الأمر، فإن كنت صادقاً فسيفتح الله لك أبواب العمل، وأبواب التوفيق إلى عمل، حتى وإن كانت الظروف صعبة والمعوقات كثيرة، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]. فأخذ سيدنا علي الراية وقال: (يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟) فقال صلى الله عليه وسلم موضحاً الغاية من الحرب في الإسلام: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيهم، فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). يبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن إسلام هؤلاء أحب إليه من أموالهم ومن ديارهم ومن سلطانهم ومن كل شيء، فمع كل التاريخ الأسود لليهود، ومع كل المحاولات المضنية التي بذلوها لاستئصال المسلمين في المدينة المنورة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال إلى هذه اللحظة حريصاً تمام الحرص على إسلامهم وهدايتهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.

بدء تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تجاه حصون خيبر بعد إصرار اليهود على الحرب

بدء تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تجاه حصون خيبر بعد إصرار اليهود على الحرب بدأ الجيش الإسلامي في التحرك باتجاه خيبر، وخرج اليهود كالعادة من حصونهم إلى مزارعهم، وفوجئوا برسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش معه، فقالوا: محمد والخميس. و (الخميس) يعني: الجيش الكبير، ورجعوا هاربين بسرعة إلى حصونهم، وأغلقوا الأبواب عليهم، وصاح الرسول عليه الصلاة والسلام صيحة عالية سمعها الجيش بكامله وسمعها اليهود، قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! خربت خيبر، الله أكبر! خربت خيبر، الله أكبر! خربت خيبر) قالها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم ثم قال: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). فهذه الكلمات كانت آثارها هامة على الجيشين: الجيش الإسلامي، والجيش اليهودي، فهو يذكر المسلمين بأن النصر من عند الله عز وجل، وأن الله عز وجل أكبر من أي عدو، فإن كنتم ترون حصون خيبر وسلاح خيبر وأعداد خيبر أكثر بكثير منكم فاعلموا أن الله عز وجل معنا وهو ناصرنا عليهم، ففيها رفع الروح المعنوية عند المسلمين، وذكر المسلمين بأيام الله عز وجل، ذكرهم ببدر وذكرهم بالأحزاب، وذكرهم بما حدث قبل ذلك من قتال مع اليهود في المواقع الثلاثة التي ذكرناها قبل ذلك. وهذه الكلمات أيضاً وصلت إلى أسماع اليهود وأوقعت الهزيمة النفسية في قلوبهم. (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين). و (المنذرون) هم اليهود؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلغهم الرسالة مرات عديدة فأبوا أن يستمعوا إلى كلامه، ثم أعاد عليهم الرسالة على لسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كما فصلنا.

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لحصون خيبر واحدا تلو الآخر

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لحصون خيبر واحداً تلو الآخر خيبر عبارة عن منطقة ذات حصون كثيرة جداً، فيها حصون كبيرة وفيها حصون صغيرة، لكن الحصون الكبيرة عبارة عن ثمانية حصون رئيسة، خمسة منها في منطقة، وثلاثة في منطقة ثانية، والخمسة الحصون هي خط الدفاع الاستراتيجي الأول لليهود، وهذه الحصون مقسمة إلى ثلاثة حصون وحصنين، ثلاثة حصون في منطقة اسمها النطاة، واثنان في منطقة اسمها الشق، والحصون الثلاثة التي في منطقة النطاة أسماؤها: ناعم، ثم الصعب بن معاذ، ثم قلعة الزبير، أول حصن منها قابل الرسول عليه الصلاة والسلام كان حصن ناعم، وهو من الحصون القوية جداً في خيبر، والرسول عليه الصلاة والسلام اقترب كثيراً من هذا الحصن، وأرسل علي بن أبي طالب ليدعوهم إلى الإسلام كما ذكرنا قبل ذلك، وهنا لا ينبغي أن يقول قائل: إنه لا إكراه في الدين؛ لأن الحرب هنا ليست عقاباً لهم على تركهم للإسلام، وليست عقاباً لهم على رفضهم الدعوة الإسلامية، ولكن جاء الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة إلى خيبر ليعاقب اليهود على جرائمهم المتعددة السابقة، ليعاقبهم على تحزيبهم الأحزاب وحصار المدينة المنورة، وعلى تجسسهم مع المنافقين في داخل المدينة المنورة، وعلى محاولتهم اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى تحفيزهم لغطفان أكثر من مرة لحرب المسلمين، فلذلك قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعاقبهم، ولكنه أعطى لهم فرصة أخيرة ليرفعوا عن أنفسهم العقاب الذي يستحقونه، فهو أخبرهم إن أسلمتم رفعنا عنكم العقاب وتناسينا كل ما سبق، وهذه سعة صدر ورحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن اليهود رفضوا هذه الدعوة، رفضوا دعوة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهم بالإسلام، وقرروا الحرب، واغتروا كثيراً بقواتهم وأعدادهم وحصونهم.

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن ناعم بعد قتل مرحب وأخيه ياسر

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن ناعم بعد قتل مرحب وأخيه ياسر عادة الحروب القديمة أن يبدأ القتال بمبارزة بين أحد الفرسان من فريق، وأحد الفرسان من الفريق الآخر، والمنتصر في هذه المبارزة يعطي دفعة معنوية كبيرة للفريق الذي انتصر في هذه اللحظات الأولى من القتال، فاليهود أخرجوا أحد أبطالهم وأشد فرسانهم وكان اسمه مرحباً، وكان عملاقاً ضخم الجثة، وخرج وطلب المبارزة فخرج له عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، وسرعان ما دارت المبارزة بين الاثنين، وضرب عامر بن الأكوع مرحباً اليهودي ضربة كبيرة، ولكن طاشت الضربة ولم تصل إلى مرحب، لكن هذه الضربة أكملت الطريق ووقع سيف عامر نفسه في ركبته، فقتل عامر بسيفه خطأ، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه، فقال الناس: قتل نفسه، وتأثر الناس جداً من هذا الموقف، بل وصل الأمر إلى أن بعض الصحابة قالوا: حبط عمله، وكأنه قد قتل نفسه بإرادته، وهذا لم يحدث، ودليل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام علق بعد ذلك على هذه الحادثة، وأثنى على عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (إن له لأجرين، وجمع بين إصبعيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنه لجاهد مجاهد) يعني: مجتهد جداً في العلم والعبادة والعمل، مجاهد في سبيل الله. (قل عربي مشى بها مثله) يعني: نادر جداً من العرب من مشى في أرض المعركة أو مشى في الأرض بصفة عامة مثل هذا الرجل المجاهد عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، لكن في أرض المعركة أحدث قتل عامر بن الأكوع هزة عند المسلمين، ورفع الروح المعنوية عند اليهود، فوقف مرحب القائد اليهودي يطلب المبارزة من جديد بعد أن ارتفعت معنوياته في اللحظات الأولى من القتال، فخرج له من المسلمين البطل الإسلامي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه حامل راية المسلمين في موقعة خيبر، ودار بينهما قتال شديد عنيف، ثم من الله عز وجل على علي بن أبي طالب بالنصر، كما تنبأ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، (رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه)، وبالفعل فتح الله عز وجل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتل مرحباً، وقتل مرحب فيه إشارة كبيرة إلى أن النصر سيكون للمسلمين؛ لأن مرحباً كان أقوى رجل في اليهود، وكان اليهود لا يتصورون أبداً أن يقتله أحد المسلمين، وخرج أخو مرحب واسمه ياسر، وأراد الثأر لأخيه، وكان أيضاً من العمالقة اليهود، خرج يطلب المبارزة فخرج له الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، واستطاع الزبير رضي الله عنه وأرضاه أن يقتل ياسراً أخا مرحب، وكانت بداية الانتصار للمسلمين واحتدم اللقاء بين الفريقين، واللقاء لم يتم في ساعة أو ساعتين ولكن استمر عدة أيام منفصلة، وهذا غريب في عرف القتال عند العرب؛ لأن العادة -كما رأينا قبل ذلك في بدر وفي أحد وفي غيرهما- أن يكون اللقاء يوماً واحداً، لكن في هذا اللقاء الشديد دارت المعركة أكثر من يوم، حتى تسلل اليهود من حصن ناعم وتركوه فارغاً للمسلمين, وكان هذا التسلل ليلاً في أحد الأيام، وانتقلوا إلى الحصن الذي وراءه وهو حصن الصعب بن معاذ، واحتل المسلمون حصن ناعم، وكان ذلك رافداً قوياً للجيش الإسلامي في موقعة خيبر.

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن الصعب بن معاذ

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن الصعب بن معاذ لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النصر الجزئي في هذه المعركة، بل استمر في القتال مع اليهود، فهو جاء لينتقم من أفعال اليهود المتكررة، وليخرج اليهود من هذه البلاد كما أخرج قبل ذلك يهود بني قينقاع وبني النضير، وحاصر الرسول عليه الصلاة والسلام حصن الصعب بن معاذ حصاراً شديداً، وحصن الصعب بن معاذ كان أشد صعوبة من الحصن الذي قبله حصن ناعم. ومع أن الحصار شديد، ومع أن فتنة الحرب كبيرة، إلا أن الله عز وجل أراد أن يبتلي المؤمنين أكثر وأكثر، فأوقعهم في أمر صعب إلى جوار صعوبة الحرب، وهو أمر الجوع، لقد جاع المسلمون جوعاً شديداً، حتى قالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء. ولما ازداد الجوع بالمسلمين قام بعض رجال الجيش الإسلامي بذبح بعض الحمير للأكل، والعرب كانت تأكل الحمير في ظروف معينة، ولم يكن هذا الأمر محرماً على المسلمين في ذلك الوقت، ونصبوا القدور ولم يكن هذا بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام النيران مشتعلة، قال: (على أي شيء توقدون؟) وهو يعلم أنه ليس مع الجيش لحم يوقد عليه النار، فقالوا: (يا رسول الله! على لحم) يعني: نوقد هذه النيران على لحم. (قال: أي لحم؟ قالوا: لحوم الحمر الإنسية) يعني: لحوم الحمر التي نعرفها وتستخدم في النقل، وهذه الحمير لم تكن محرمة على المسلمين حتى تلك اللحظة، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف الصعب قام ونهى عن أكل لحوم الحمر الإنسية، حيث قال: (إنها لا تحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر). هذا موقف صعب، الناس في ضائقة وفي مخمصة شديدة، كما وصف أحد الصحابة أنه جوع شديد جداً، وبدأت اللحوم تنضج، ورائحة اللحوم بدأت تظهر عند الناس ونفوسهم متشوقة إلى الأكل، ثم أتى النهي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا ابتلاء كبير لا ينصاع له إلا مؤمن كامل الإيمان، وبفضل الله نجح الجيش بلا استثناء في هذا الاختبار، والكل لم يأكل من هذه اللحوم؛ بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتحريم الأكل من لحوم الحمر الإنسية، وإنما قال (أريقوها واكسروها) يعني: أريقوا ما في القدور من اللحوم والمرق واكسروا القدور؛ ليختفي كل أثر لهذه اللحوم، فسأل بعض الصحابة: (أنريقها ونغسلها؟) يعني: بدل الكسر نغسل القدور، (فقال: أو ذاك) يعني: قبل صلى الله عليه وسلم بغسل القدور. وهذا التحريم جاء في وقت يحتاج فيه الجيش لهذا الأكل، وواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرى أن موقف الصحابة لم يصل بعد إلى موقف الاضطرار، وما زال بهم قوة أن يبقوا بدون طعام فترة من الزمان، وإلا لو كانوا مضطرين لجاز لهم أكل أي شيء حتى الميتة كما يعلم الجميع. هذه تربية إيمانية عالية جداً، ونجاح عظيم للجيش المؤمن، وهذه من أعظم أسباب النصر. وهذا يلفت أنظارنا لمسألة مهمة نحب أن نقف عليها، وهي أن هذا التحريم الذي جاء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأت في القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى ذكر في الكتاب أنواعاً كثيرة من المحرمات على المسلمين، منها: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة:3]، وغيرها من المحرمات التي ذكرت للمسلمين. وتحريم الحمر الإنسية لم يأت في كتاب الله عز وجل، وإنما جاء فقط في السنة النبوية، ومع ذلك على المسلمين ألا يأكلوا من الحمر الإنسية، والرسول عليه الصلاة والسلام بعد رجوعه إلى المدينة المنورة قال في خطبة ذات يوم للصحابة بعد أن ادعى بعض المنافقين أنه يكتفي فقط بالقرآن الكريم، أو أن الرسول عليه الصلاة والسلام تنبأ أنه سيأتي زمان على المسلمين فيدعي بعضهم أن القرآن الكريم يكفيهم دون السنة، فروى أبو داود رحمه الله عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه). و (الكتاب) يعني: القرآن الكريم. (ومثله معه) يعني: السنة المطهرة، والسنة وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى. (ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) يعني: يقصد هذا الشخص الجالس على أريكته الاكتفاء بالقرآن والابتعاد عن السنة. ثم قال: (ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع)، وذكر صلى الله عليه وسلم أنواعاً أخرى من المحرمات، وهذه المحرمات لم تأت في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهي محرمة على المسلمين بتحريم الرسول صلى الله عليه وسلم لها، فثبت الحكم عند المسلمين، وهذا من أبلغ الأدلة لكون السنة النبوية مصدراً هاماً من مصادر التشريع. بعد هذه الأزمة التي حصلت للمسلمي

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن قلعة الزبير

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن قلعة الزبير بعد أن سقط حصن ناعم، ثم سقط حصن الصعب بن معاذ، وفيه وجدوا الكثير من الطعام كما ذكرنا، انتقلوا بعد ذلك إلى حصن قلعة الزبير، وهو الحصن الثالث في المنطقة، وحصن قلعة الزبير من أمنع الحصون في هذه المنطقة، وكما يقول الرواة: لا تقدر عليه الخيل والرجال؛ لأنه فوق قمة جبل، ويصعب الوصول إليه، ففرض الرسول عليه الصلاة والسلام عليه الحصار مدة ثلاثة أيام، ثم ألقى الله عز وجل الرعب في قلب رجل من اليهود، فأتى وتسلل من الحصن، وجاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وطلب الأمان، ثم قال له: يا أبا القاسم! إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، إن لهم شراباً وعيوناً تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك. يعني: هناك شراب يدخل إلى الحصن عن طريق عيون تدخل من تحت الأرض، وهم في كل ليلة يخرجون دون أن يشعر المسلمون ويأخذون من هذا الشراب، فيقول اليهودي: فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. يعني: لو قطعت هذه العيون لا بد أن يخرجوا؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بدون ماء، فقطع صلى الله عليه وسلم الماء عن اليهود، فخرجوا وقاتلوا أشد القتال، واستمر القتال فترة من الزمان حتى انتصر المسلمون، وافتتحت قلعة الزبير. وهذه من أشد المعارك ضراوة في تاريخ المسلمين، فهم عند كل حصن يقاتلون أياماً، ثم يهربون من الحصن إلى الحصن الذي يليه، وهكذا وهذه الحصون مبنية بمهارة عجيبة جداً، فكل حصن متصل بالآخر. وهكذا انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من فتح الحصون الثلاثة الأولى، التي هي: حصن ناعم، وحصن الصعب بن معاذ، وحصن قلعة الزبير، وكانت في منطقة تسمى النطاة. وقبل أن ننتقل ونعرف ماذا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح حصون منطقة النطاة، لا بد أن نقف وقفة ونقول: إن نصر الله سبحانه وتعالى يأتي بعد أن يستنفد المسلمون كل أسباب النصر، وقد لا تؤدي هذه الأسباب إلى النصر بذاتها، بل كثيراً ما يحدث أن يعجز المسلمون بعد بذل الأسباب، ثم يأتي النصر من حيث لا يتوقعون، كما فعل الله عز وجل قبل ذلك في بدر وفي الأحزاب وفي مواطن كثيرة، وجنود الرحمن كثيرون، كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. وأحد جنود الرحمن سبحانه وتعالى في موقعة خيبر كان ذلك اليهودي، وهو ما زال على يهوديته، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف له الطريق الذي به استطاع المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين معه أن يفتحوا هذا الحصن الصعب: قلعة الزبير، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لحصني أبي والنزار من الشق

فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لحصني أبي والنزار من الشق بعد هذه الفتوح انتقل اليهود إلى الحصن الذي يليه، الذي هو: حصن قلعة أبي، وهو أحد حصون منطقة الشق، فبعد أن فتحت منطقة النطاة كلها بقيت منطقة الشق وفيها حصنان: أبي، والنزار، ودار قتال عنيف حول قلعة أبي إلى أن فتحت بنفس الطريقة، حصار ثم قتال، ثم هرب اليهود إلى الحصن الذي يليه، الذي هو حصن النزار. وهذا الحصن الخامس وقف الرسول عليه الصلاة والسلام محاصراً له عدة أيام؛ لأنه كان أمنع الحصون الخمسة، لذلك وضع اليهود في ذلك الحصن الذراري والنساء، وظنوا أنه من المستحيل أن يفتح، ولذلك استمر الحصار فترة طويلة من الزمان بالقياس إلى ما قبله، وما استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفتح الحصن، فلجأ عليه الصلاة والسلام إلى طريقة جديدة في الحرب، أتى بالمنجنيق، وكان المسلمون قد استولوا عليه من بعض الحصون اليهودية السابقة، يقال: كان في حصن الصعب بن معاذ، فنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجنيق وبدأ يقصف الحصن بقذائف من بعد، حتى أحدث خللاً في بعض الجدران لهذا الحصن، ومن هذا الخلل تسلل المسلمون إلى داخل الحصن ودار قتال من أعنف أنواع القتال في داخل الحصن، وكتب الله عز وجل النصر للمسلمين، وفتح الحصن العظيم حصن النزار، وهرب منه بقية اليهود إلى حصون المنطقة الأخرى التي اسمها الكتيبة، وتركوا خلفهم النساء والأطفال وكل شيء.

حصار الرسول صلى الله عليه وسلم لحصن القموص وتسليم حصني الوطيح والسلالم

حصار الرسول صلى الله عليه وسلم لحصن القموص وتسليم حصني الوطيح والسلالم انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى منطقة الكتيبة، ومنطقة الكتيبة منطقة واسعة فيها ثلاثة حصون كبيرة: حصن القموص، وحصن الوطيح، وحصن السلالم، هذه الحصون الثلاثة كانت من الحصون المنيعة، وتحصن فيها اليهود، لكنهم كانوا قد أصيبوا بهزيمة نفسية كبيرة نتيجة الهزائم المتلاحقة في أكثر من موقعة سابقة في خبير. ففتح خيبر ليس مجرد لقاء عابر، وليس مجرد موقعة واحدة، بل هو عبارة عن عدة مواقع متتالية في مكان واحد، حصن وراء حصن، حتى فتح المسلمون خمسة حصون صعبة دون هزيمة واحدة؛ لذلك كانت خيبر محفورة في أذهان اليهود، ومحفورة في أذهان المسلمين، فهي من أعظم انتصارات المسلمين مطلقاً، وسماها ربنا في كتابه الكريم فتحاً: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] أي: فتح خيبر. انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منطقة الكتيبة وحاصر أول حصن الذي هو حصن القموص، واستمر الحصار أربعة عشر يوماً متصلة، واختلف الرواة فيما حدث في هذا الحصن، هل دار قتال بعد هذا الحصار، أم أنهم سلموا بدون قتال؟ الثابت أن الحصنين الآخرين اللذين هما حصن الوطيح وحصن السلالم سُلِّما دون قتال، لكن المختلف فيه هو حصن القموص، لكن سواء دار قتال أو لم يدر قتال، فقد طلب اليهود بعد عدة أيام أن ينزلوا على الصلح، وقاموا بعمل المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل صلى الله عليه وسلم أن يتفاوضوا في هذا الأمر، وكان الذي نزل للمفاوضة هو كنانة بن أبي الحقيق، فدار بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حوار طويل خلاصته أن المفاوضات في صالح المسلمين (100%)، فقد صالح اليهود على حقن دماء كل من في الحصون من المقاتلة والذرية والنساء، على أن يتركوا الديار والثياب والأموال والذهب والفضة وكل شيء، فسيخرجون في أكبر هزيمة من هزائم اليهود مطلقاً، والحقيقة أنه كان انتصاراً مهولاً بالنسبة للمسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعاهدة شرط عليهم شرطاً هاماً جداً، قال: (وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم إن كتمتموني شيئاً) يعني: لو أخفى اليهود شيئاً من الأموال أو من الذهب والفضة، فإنه يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام أن يعاقبهم؛ بسبب إخفائهم للمال أو للذهب أو الفضة. وقبل اليهود بذلك الشرط، وبدءوا في الخروج من خيبر.

وقفة مع قتال الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود بخيبر ومقارنة ذلك بقتال غير المسلمين

وقفة مع قتال الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود بخيبر ومقارنة ذلك بقتال غير المسلمين نقف وقفة ونقول: يجب ألا ينسى المحلل لهذه الغزوة أنها من أولها إلى آخرها جاءت عقاباً لليهود على خياناتهم المتكررة، وتأليبهم القبائل العربية على حرب المدينة المنورة، ومحاولاتهم المستمرة لاستئصال أهل المدينة المنورة، واغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل بخروجهم أحياء؛ فهذا تفضل منه صلى الله عليه وسلم، وكان من حقه أن يعاملهم بالمثل وبالقصاص بأن يقتل المقاتلة الذين يقاتلون منهم، لكن أقيمت المعاهدة على هذا النمط. وكل الغربيين الذين حللوا موقعة خيبر يقولون: إن هذا من الظلم لليهود، وهذا من الشر في الحروب، وهذا من التجاوز في المعاملة! نقول: هذه طبيعة الحروب، وكان اليهود حريصين تمام الحرص على قتل المسلمين، والناظر إلى تاريخ الحروب في الأرض يجد أن حروب الرسول عليه الصلاة والسلام هي من أرحم الحروب مطلقاً في تاريخ الإنسانية، ولو نظرتم إلى حال الإنجليز والفرنسيين في الحروب، وإلى حال ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فخسائر ألمانيا في الحرب العالمية الثانية (20) مليون قتيل، منهم (850) ألفاً من الجنود، يعني: أقل من مليون من الجنود، و (19) مليوناً من المدنيين قتلوا في الحروب، بينما في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتل مدني أبداً، بل كان يأمر الناس أن (اغزوا في سبيل لله، على بركة الله، لا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا منعزلاً في صومعة) ولا أي إنسان لم يقاتل المسلمين، وكان يفرق صلى الله عليه وسلم بين الكافر الذي يقاتل المسلمين، والكافر الذي لا يقاتل المسلمين، بل أمر الله عز وجل أن يبلغ الكافر الذي لا يقاتل المسلمين مأمنه، ويعلم الدين، فالأمر ليس على إطلاقه أننا نحارب كل الكفار ونقتل كل الكفار، بل نقاتل من قتل المسلمين أو وقف أمام نشر الدين، فهذا أمر لا بد أن نضعه في حساباتنا عند تحليل غزوة خيبر وفتح خيبر، فقد كان فيها رحمة كبيرة، وبرغم الهزيمة القاسية التي وقعت على اليهود؛ إلا أنه لم يقتل من اليهود غير ثلاثة وتسعين مقاتلاً، واستشهد من المسلمين ستة عشر إلى ثمانية مجاهداً حسب اختلاف الروايات.

مصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر

مصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر لقد ترك اليهود غنائم ضخمة جداً، تركوا أموالاً ودياراً، وتركوا أهم من ذلك النخيل، وكانت خيبر بلاداً غنية جداً بالزراعة، فتركوا كل هذا وراءهم وبدءوا في عملية الخروج. ثم إن اليهود بعد قرار المعاهدة وقرار الخروج من خيبر قدموا عرضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: (يا محمد! دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم). وقد كانت أراضيها كبيرة جداً، والصحابة لم يكن لهم علم كبير بالزراعة، وهي بعيدة عن المدينة المنورة، واليهود يستطيعون أن يصلحوا هذه الأراضي ويخرجوا منها الثمار، فقالوا: دعنا نقوم على إصلاح هذه الأراضي، ثم نقيم معاهدة بيننا وبينك على اقتسام هذا الثمار، فوجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا العرض عرض مناسب للمسلمين، فأقر اليهود على أن يعطيهم الشطر من كل زرع ومن كل ثمرة، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم في خيبر، فإذا أمر صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام دون تحديد في هذه المعاهدة بخروج اليهود من خيبر فعليهم أن يخرجوا، وهو ما تم بعد ذلك في عهد عمر بن الخطاب كما يعلم الجميع. انتهت المعركة بهذا الأمر، وبدأ عليه الصلاة والسلام يقسم غنائم خيبر الكثيرة جداً على المسلمين غير الزراعة، كان هناك سلاح، وكان هناك أموال، فهذه الغنائم كانت كثيرة، حتى إن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول -كما روى البخاري -: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها -كما جاء في البخاري -: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر. وكان من بنود المعاهدة أن من كتم مالاً من اليهود عن المسلمين برئت منه ذمة الله عز وجل وذمة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه يقتل لإخفائه ذلك المال. فاكتشف الرسول عليه الصلاة والسلام أن كنانة بن أبي الحقيق أخفى مالاً، ذكر له ذلك أحد اليهود، فأتى بـ كنانة بن أبي الحقيق، وبدأ باستجوابه فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل أخفيت مالاً؟! فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم)، فأمر صلى الله عليه وسلم بالبحث في أرضه، وكان أحد اليهود قد عين مكاناً معيناً، قال: إن كنانة قد أخفى في هذا المكان شيئاً، فبحثوا في ذلك المكان فوجدوا كنزاً كبيراً من المال، وقتل كنانة بن أبي الحقيق نتيجة مخالفته للمعاهدة التي كانت مع المسلمين، وسبيت امرأة كنانة بن أبي الحقيق، وكانت امرأة كنانة هي صفية بنت حيي بن أخطب، وكما نعلم جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد ذلك وأصبحت من أمهات المؤمنين.

الحكمة من زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي رضي الله عنها

الحكمة من زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي رضي الله عنها لنا وقفة مع زواج الرسول عليه الصلاة والسلام من السيدة صفية رضي الله عنها وأرضاها. بداية الأمر أن السيدة صفية أخذت في السبي وكانت مع أحد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، فأتى أحد الصحابة إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذه بنت ملك، ولاينبغي أن تكون إلا لك، فأخذها صلى الله عليه وسلم. وفي زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية حكم، من هذه الحكم أنه رفع درجة السيدة صفية، فهي بنت ملك أو بنت زعيم من زعماء اليهود، وزوجة زعيم من زعماء اليهود، فلا يليق أن تعطى لأي إنسان من المسلمين، فرفع من قدرها وعظم من شأنها، وتزوجها صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلنت إسلامها. ثم إن هذا الزواج فيه استمالة لقلوب اليهود، فعندما يكون بينهم وبين زعيم الدولة الإسلامية نبي هذه الأمة علاقة مصاهرة؛ فإن هذه العلاقة قد ترقق قلوب اليهود وتفتح قلوبهم للإسلام. ثم إن هذا سيمنع الخلاف بين الصحابة؛ لأن أحد الصحابة -كما ذكرنا- جاء إليه وقال: أعطيت دحية الكلبي هذه، فقد ينظر بعض الصحابة إلى أنه أعطى أحد الصحابة شيئاً قد يناسب غيره من عموم الصحابة، وبذلك قطع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وكانت هذه بداية خير كبير للسيدة صفية، فقد أصبحت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وروت الكثير والكثير عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذه كانت غزوة خيبر.

مؤامرات اليهود ضد المسلمين بعد غزوة خيبر

مؤامرات اليهود ضد المسلمين بعد غزوة خيبر هل امتنع كيد اليهود بعد هذه الغزوة، وبعد هذا القتال المرير الذي دار عدة أيام بلغ شهراً أو أكثر من القتال؟ هل سكنوا لذلك الأمر؟ لم يكتف اليهود بذلك، بل استمروا في المؤامرات وفي الكيد وفي الدس، حتى إنهم فكروا في قتل الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يغادر خيبر. وكلنا نعرف قصة الشاة المسمومة، ونحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذه الشاة، لنرى رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع هذا الأمر، حيث اجتمع اليهود على محاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام بعد انتصار المسلمين في خيبر، وقصة الشاة المسمومة ليست تفكيراً من امرأة واحدة كما تروي بعض الروايات، بل كان بتدبير من كل اليهود، والروايات كلها صحيحة، ولا بد من الجمع بينها كما سنذكر. هذه رواية في صحيح البخاري تقول: (إن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها صلى الله عليه وسلم، فجيء بها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسألها عن ذلك؟ قالت: أردت قتلك، قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك). وفي بعض الروايات أن هذه المرأة هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم الذي قتله المسلمون قبل ذلك، فأرادت أن تنتقم لزوجها القتيل، ولقومها بصفة عامة. وهناك رواية أخرى في صحيح البخاري أيضاً وفي صحيح مسلم كذلك، يروي هذه الرواية أبو هريرة رضي الله عنه، يقول: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من هاهنا من اليهود، فجمعوا له اليهود، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه؟ فقالوا: نعم، يا أبا القاسم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان) ذكروا رجلاً معيناً، فذكر لهم خلافه. (فقالوا: صدقت وبررت). بهذا السؤال أثبت الرسول عليه الصلاة والسلام لهم أنه يستطيع أن يكتشف الكذب الذي يكذبونه بواسطة الوحي، فسألهم سؤالاً آخر، وقال: (هل أنتم صادقوني عن شيء إن أنا سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها) يعني: يمكث اليهود فيها قليلاً ثم يدخل المسلمون فيها إلى الأبد، هذا كلام اليهود. فقال صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً، فقال لهم بعد ذلك: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم، فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم) يعني: أن اليهود اجتمعوا على جعل السم في الشاة ليقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أعطوا هذه الشاة لامرأة سلام بن مشكم لتهديها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (ما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كذاباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لن يضرك). فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد اعتراف اليهود اعترافاً صريحاً جازماً بأنهم دبروا محاولة لقتله عفا عنهم جميعاً. فهذه من أبلغ مواطن الرحمة في حياته صلى الله عليه وسلم، وعفا عن المرأة التي قدمت له الشاة، وسئل مباشرة صلى الله عليه وسلم: (ألا تقتلها؟ قال: لا) ولم يقتل المرأة. ثم إن أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم -وهو بشر بن البراء بن معرور - أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أكله من الشاة المسمومة، وكما هو مشهور أن الشاة المسمومة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكل مني فإني مسمومة)، فالرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الشاة وأمر الصحابة ألا يأكلوا، لكن هذا الصحابي بشر بن البراء كان قد ابتلع قطعة من اللحم من هذه الشاة المسمومة فمات بها، فلما مات بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد على المرأة التي قدمت الشاة فقتلها به. يعني: من كل أرض خيبر لم تقتل إلا امرأة واحدة؛ لأنها قتلت رجلاً من المسلمين بالشاة المسمومة، وإذا قارنا هذه المعركة العظيمة بكل معارك الأرض، كما ذكرنا أن ألمانيا قتل منها (20) مليوناً منهم، (19) مليون مدني، وهذا تكرر في معظم المعارك الأخرى، ففي (ناجازاكي) و (هيروشيما) قتل ربع مليون وكلهم من المدنيين، رجال ونساء وأطفال، فشتان بين حروب المسلمين وبين حروب غير المسلمين. من الأشياء الهامة جداً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر غنم مجموعة من صحائف التوراة، ومع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنها محرفة تمام التحريف، وأنه قد أزيلت منها البشارات التي تبشر به صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اعتدي فيها كثيراً على حرمات الله عز وجل، إلا أنه سلم هذه الصحائف كاملة لليهود عندما طلبوها من

الآثار المترتبة على غزوة خيبر

الآثار المترتبة على غزوة خيبر كانت غزوة خيبر غزوة مهولة من غزوات المسلمين، وتركت أثراً ضخماً جداً على الجزيرة العربية، وأشد هذه الآثار على اليهود القريبين من خيبر أو البعيدين عن خيبر، فكل اليهود في المنطقة بعد أن سمعوا أنباء خيبر بدءوا يفكرون تفكيراً جدياً في التسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء يهود فدك فقد قبلوا أن ينزلوا على نفس الصلح الذي نزلت عليه يهود خيبر، على أن يكون لهم النصف من الثمار كنفس المعاهدة التي تمت في خيبر. كذلك يهود وادي القرى قاوموا في البداية بعض المقاومة، ثم إنهم بعد ذلك قبلوا أيضاً بنفس الصلح. وكذلك يهود تيماء، وبذلك حيد جانب اليهود تماماً في الجزيرة العربية. فعاد الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذه الغزوة إلى المدينة المنورة في أواخر صفر، أو أوائل ربيع الأول سنة سبع، يعني: بقي أكثر من شهر في منطقة خيبر، كما توقع صلى الله عليه وسلم أنه سيبقى وقتاً طويلاً هناك. فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد تخلص نهائياً من خطر اليهود، فإذا أضفنا إلى هذا التخلص ما حدث في صلح الحديبية مع قريش فسنجد أن معظم القوى الموجودة في الجزيرة قد تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق من قوى الجزيرة إلا قوة غطفان، وإن وجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا، لكنها تحتاج هي الأخرى إلى وقفة جادة وتصرف حكيم سريع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ترى ماذا فعل صلى الله عليه وسلم مع غطفان؟ وماذا كان موقف الجزيرة العربية بعد هذا الفتح العظيم، فتح خيبر؟ وما هي الآثار الضخمة لصلح الحديبية التي بدأ المسلمون في جنيها في العام السابع من الهجرة؟ وما هي عمرة القضاء التي اتفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش على أن تكون بعد عام من صلح الحديبية؟ هذه الأحداث وغيرها سنتحدث عنها في درسنا القادم. نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قوة الإسلام

سلسلة السيرة النبوية_قوة الإسلام لقد ظهرت قوة الإسلام وعزته بعد صلح الحديبية في عمرة القضية وغيرها من الأحداث، وبسبب ظهور هذه العزة دخل كبار فرسان قريش في الإسلام، فقد أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بعد عمرة القضية؛ وذلك لما رأوا من عزة الإسلام والمسلمين، وتناقص الأرض على قريش، ودخول القبائل المجاورة لها في الإسلام، وهذا يدل على الحكمة التي ظهرت في سياسة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأحداث.

الوضع العام بعد فتح خيبر

الوضع العام بعد فتح خيبر أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين. تحدثنا في الدروس السابقة عن بعض آثار صلح الحديبية المجيدة، ومن هذه الآثار -كما ذكرنا في الدرس السابق-: فتح خيبر، والآن نقف وقفة لتحليل الوضع بعد فتح خيبر. تحليل الوضع في أوائل العام السابع من الهجرة: أولاً: حيّد جانب قريش، وبدأت الأرض تتناقص من حول قريش، وشعرت قريش بعظمة الدولة الإسلامية وخاصة بعد فتح خيبر، وكانت قريش تعتبر خيبر من أقوى حصون الجزيرة العربية مطلقاً، وكانت تعتبر اليهود من أشد الناس قتالاً ومن أقواهم عدة، فكانت هزيمة اليهود في خيبر ضربة كبيرة جداً ليس لليهود فقط، ولكن لقريش في عقر دارها، لم تتصور قريش أن المسلمين بلغوا من القوة إلى الدرجة التي تمكنهم من فتح خيبر. ثانياً: أمن المسلمون جانب اليهود بعد هزيمتهم في خيبر، وأصبح للمسلمين اليد العليا بلا منازع في الصراع الذي بينهم وبين اليهود بصفة عامة، ورأينا قبل هذا أن المسلمين لم يكتفوا فقط بفتح خيبر، ولكنهم فتحوا أيضاً وادي القرى وتيماء وفدك، يعني: جميع التجمعات اليهودية الموجودة في شمال المدينة المنورة. ثالثاً: ازدادت قوة المسلمين بشكل ملحوظ، وكان ارتفاع الروح المعنوية عند المسلمين عالياً جداً؛ لأن فتح خيبر كان فيه خير كثير جداً للأمة الإسلامية، ليس من الجانب العسكري فقط، ولكن من الجانب الاقتصادي أيضاً، وذكرنا قول السيدة عائشة رضي الله عنها عندما قالت: ما شبعنا من التمر إلا بعد فتح خيبر. وكذلك قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وفوق ارتفاع الروح المعنوية انضم المسلمون من أماكن مختلفة في الجزيرة العربية إلى قوة المدينة المنورة، وجاء المسلمون من الحبشة، وهذا حدث تزامن مع فتح خيبر ولم نذكره في الدرس الماضي، ففي أواخر خيبر بعد أن تم فتح خيبر جاء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه والمهاجرون من الحبشة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أسهم لهم من أسهم خيبر؛ لأنه اعتبرهم مشاركين في الغزوة حيث جاءوا بهذه النية من الحبشة، فكانت إضافة كبيرة جداً للدولة الإسلامية، وقدم أيضاً الأشعريون وعلى رأسهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه من اليمن، وقدم كذلك الدوسيون وقبائل دوس قبائل كبيرة من اليمن، جاءت أيضاً في ذلك الوقت وعلى رأسهم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وقدم المسلمون من قبائل أخرى كبيرة إلى المدينة المنورة، وازدادت أعداد المسلمين بعد فتح خيبر أو بعد صلح الحديبية، بل إن المسلمين قدموا أيضاً من مكة المكرمة ذاتها، بعد أن تنازلت قريش عن بند إعادة المسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة، بعد الحرب التي شنها عليهم أبو بصير رضي الله عنه وأرضاه وأصحابه، كما ذكرنا في الدروس السابقة، وبدأت قوة الدولة الإسلامية تنمو، وفي نفس الوقت بدأت قوة قريش تقل، ثم إن هناك عدداً كبيراً من العرب بعد صلح الحديبية أسلم ودخل في صف المسلمين، لم يكن يقوى على إعلان إسلامه قبل صلح الحديبية. إذاً: بعد أن وضعت الحرب في الجزيرة العربية أوزارها وأمن الناس جانب قريش دخل في الإسلام من كان متردداً. رابعاً: بقي من الأعداء القدامى للمسلمين قبيلة غطفان، وقبيلة غطفان مجموعة من المرتزقة يؤجرون للهجوم على الغير، استأجرهم قبل ذلك اليهود لحرب المسلمين في الأحزاب، وحاصروا المدينة المنورة بستة آلاف مقاتل مع أربعة آلاف من قريش، وكان الجميع عشرة آلاف، وكانوا يريدون استئصال الدولة الإسلامية تماماً، ولهم تاريخ معقّد مع المسلمين، ففي أكثر من مرة يحدث منهم نوع من الغدر بالمسلمين وقتل عدد من المسلمين، وما أحداث بئر معونة وغيرها من الأحداث ببعيدة من المسلمين، وآخر الأحداث التي حصلت من غطفان كان حصار الأحزاب، ثم محاولة معاونة يهود خيبر في حربهم ضد المسلمين لولا أن فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحالف الذي كان بين اليهود وبين غطفان، عن طريق إرسال سرية إلى غطفان كما فصلنا في الدرس السابق. لقد تخلص المسلمون من عدوين: من قريش عن طريق المصالحة والمهادنة، ومن اليهود عن طريق الحرب كما في فتح خيبر، ولم يبق أمامهم سوى عدو واحد كبير وهو غطفان، بهذا التحليل أستطيع أن أحدد أهداف المرحلة القادمة.

أهداف الرسول صلى الله عليه وسلم في مرحلة ما بعد فتح خيبر

أهداف الرسول صلى الله عليه وسلم في مرحلة ما بعد فتح خيبر ما هي أهداف الرسول صلى الله عليه وسلم في العام السابع، أهداف المرحلة التي بعد فتح خيبر؟ لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم هدفان رئيسان في العام السابع من الهجرة، أو في الفترة التي تلت فتح خيبر. الهدف الأول: هو نشر الدعوة، واستغلال الهدنة التي حصلت بين المسلمين وبين قريش بعد صلح الحديبية. الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان وتأمين جانبهم، والانتقام لكرامة الأمة الإسلامية من حصار غطفان ومن حرب غطفان المرة تلو المرة للمسلمين. من اللافت للنظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لتحقيق هذين الهدفين سلك مسلكاً واحداً وهو إظهار القوة والعظمة والعزة للإسلام والمسلمين، فكما أن الإسلام دين وشريعة وقرآن يتلى يؤثر في قلوب الكثير من الناس، إلا أن هناك الكثير من الناس لا يتأثرون إلا بمظاهر القوة، ولا ينبهرون إلا بعزة الإسلام وسيادته على الغير، والطابع الذي كان يغلب على السنة السابعة هو إظهار القوة الإسلامية والعظمة الإسلامية والعزة الإسلامية، وقد ظهر ذلك في مراسلات الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في حروب الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في عمرة القضاء، وظهر تأثر الكثير من أهل مكة وأهل الجزيرة بصفة عامة -بل والعالم أجمع- بمظاهر القوة الإسلامية التي ظهرت في العام السابع من الهجرة. لننظر هنا كيف حقق النبي صلى الله عليه وسلم الهدفين في السنة السابعة من الهجرة عن طريق إظهار القوة الإسلامية.

نشر الدعوة

نشر الدعوة الهدف الأول: نشر الدعوة، تكلمنا قبل هذا على الرسائل للزعماء والملوك، وفصّلنا فيها كثيراً، وهذه الرسائل أضافت للمسلمين قوة كبيرة جداً، وليست قوة معنوية، ولكن قوة عددية؛ لأن بعض هذه الرسائل أدت إلى دخول عدد جديد من المشركين في الإسلام، ومن أبرز هؤلاء مملكة البحرين بكاملها، دخل زعيمها المنذر بن ساوى ودخل جميع شعب البحرين في صف المسلمين، وكذلك دخلت دولة اليمن في الإسلام بعد إسلام باذان قائد اليمن الفارسي عندما آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن معه شعبه الفارسيون الذين يعيشون في اليمن وأهل اليمن الأصليين، الجميع تقريباً آمن ودخل في صف الدولة الإسلامية، نعم هم بقوا في مكانهم في اليمن، ولكن هذه إضافة قوية جداً للدولة الإسلامية، ولا ننسى أن اليمن في جنوب قريش والمدينة المنورة في شمال قريش، بهذا تكون مكة المكرمة محاصرة بين مناطق إسلامية، وهذا بلا شك إضافة كبيرة للدولة الإسلامية الجديدة. إذاً: أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاة هنا وهناك يدعون الناس إلى الإسلام، وبدأت القبائل تفكر في الإسلام بطريقة جديدة دون خوف أو وجل من قريش، فهناك أعداد كبيرة من العرب دخلت في الدين الإسلامي بعد صلح الحديبية.

إيقاف خطورة قبيلة غطفان

إيقاف خطورة قبيلة غطفان الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان، وقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام ليوقف خطورة غطفان ويؤمن جانبها عدة سرايا قرابة ست سرايا، ثم خرج إليها في غزوة ذات الرقاع، وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة سبع، يعني: كانت بداية فتح خيبر في أول محرم سنة سبع، واستمر أكثر من شهر، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج في أواخر شهر صفر سنة سبع أو أوائل ربيع الأول سنة سبع إلى غطفان، فهو خرج إلى غطفان بمجرد أن عاد من فتح خيبر، كان في حركة دائبة وفي جهاد مستمر في سبيل الله، وذكرت بعض كتب السير أن غزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة، وهذا لا يستقيم؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه ثبت في البخاري أنه شارك في غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى الأشعري باتفاق لم يأت إلا في العام السابع من الهجرة مع قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر، فمن المؤكد أن غزوة ذات الرقاع تمت في السنة السابعة من الهجرة. وهذه الغزوة كانت موجهة إلى قبائل غطفان، وقبائل غطفان لم تكتف بحصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب ولا بمساعدة اليهود في خيبر، بل كانوا يعدون العدة لغزو المدينة المنورة مرة أخرى بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم سرية قبل ذلك وهو يفتح خيبر، فلذلك أرادوا أن يغزوا المدينة المنورة من جديد، فكان على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقف وقفة جادة تجاههم، ويخرج إليهم صلى الله عليه وسلم بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ لكي لا يُظَن أن المسلمين يخافون من غطفان وأنهم لا يجرءون على المواجهة المباشرة معهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد وجود هذا الانطباع السلبي لا عند غطفان ولا عند أهل الجزيرة العربية بصفة عامة؛ ولهذا جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً وخرج فيه بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن مختلفة، فهناك جيوش في خيبر وفي وادي القرى وفدك وتيماء وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت؛ فلذلك لم يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يترك المدينة بلا جيش يحميها، فهو لا يأمن غدر قريش، وقد تلف قبائل غطفان من هنا أو هناك لتدخل إلى المدينة المنورة، واليهود كذلك قد يغدرون، فهناك أمور خطيرة جداً تجعله يترك حامية في داخل المدينة المنورة، وهذه الأمور جعلت الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج في جيش صغير نسبياً، هذا الجيش كان تقريباً أربعمائة وفي بعض الروايات سبعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن معهم من الإبل إلا القليل، حتى إن الستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وذهب الرسول عليه الصلاة والسلام مسافة كبيرة جداً بجيشه في عمق الصحراء، توغل جداً حتى بلغ ديار غطفان، وغطفان إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليال من المدينة، ولكون المسافة كبيرة والصحابة يسيرون على أقدامهم فقد أثّر ذلك جداً عليهم رضي الله عنهم أجمعين، روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه)، أي: أن الستة يتناوبون على بعير واحد فقط، يقول: (فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا). نحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل النادر، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لقد كانوا في حركة دائبة مستمرة في سبيل الله. ففي الأشهر الأخيرة من السنة السادسة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، مع التضحية التامة بالنفس والذهاب إلى عقر دار قريش، وبيعة على عدم الفرار وعلى الموت، واستعداد تام للقتال حتى النهاية، ثم عودة للمدينة المنورة بعد صلح الحديبية، وانطلاق مباشر إلى حصون وقلاع خيبر وقتال شرس أكثر من شهر متصل في خيبر، وانتصار مهيب لا مثيل له، ثم عودة للمدينة لعدة أيام ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويلة لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب. فالصحابة كانوا في حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل دقيقة، وسبق أن رأينا كيف أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عاد من الحبشة ووجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد غادر المدينة إلى خيبر فترك المدينة مباشرة واتجه إلى خيبر ليشترك في القتال، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يأتي من اليمن في أيام خيبر، فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الشديدة غزوة ذات الرقاع، لم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر الكم الهائل من الأحداث التي تمت في زمن البعثة النبوية، و

قصتان وقعتا بعد غزوة ذات الرقاع

قصتان وقعتا بعد غزوة ذات الرقاع عاد الرسول عليه الصلاة والسلام دون قتال، لكن ترك أثراً لا يُمحى من قلوب غطفان، وشاء الله عز وجل أن يضاعف من هذا الأثر بقصتين حدثتا مباشرة بعد هذه الغزوة أثناء عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غطفان إلى المدينة المنورة.

القصة الأولى

القصة الأولى القصة الأولى: جاء في البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن الجيش الإسلامي وهو عائد من غطفان إلى المدينة المنورة نزل في مكان ليستريح، فتفرق الناس في ظلال الشجر ليستظلوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نوماً، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ناموا؛ فالطريق متعب، قال: فجاء رجل من الأعراب المشركين فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، وفجأة استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد الأعرابي واقفاً على رأسه بالسيف، فقال له الأعرابي المشرك -وهو من غطفان-: أتخافني؟ الأعرابي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ وهذا السؤال غريب، وكان من المتوقع من هذا الرجل أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك ينال شرفاً كبيراً جداً عند أهل غطفان، لكن الرجل لم يفعل ذلك، وإنما بدأ في حوار مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لمنع رب العالمين سبحانه وتعالى رسوله الكريم من أذى الآخرين، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] قال له: أتخافني؟ فرد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: لا. يعني: ما اهتز له جسم ولا دخل في قلبه أي خوف، فتعجب الأعرابي من هذا الموقف، السيف في يده والرسول عليه الصلاة والسلام أعزل وليس معه أحد ومع ذلك لا يخاف، فقال الأعرابي: فمن يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله. وفي رواية أن الأعرابي كرر السؤال ثلاث مرات: من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ وفي كل مرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الله. الله، فوقع السيف من يد الأعرابي، وفي رواية البخاري أيضاً يقول: إن الأعرابي شام السيف، أي: أنه أغمد السيف ولم يقع منه رغماً عن إرادته؛ تعجباً من ثبات الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية التي ذكرها الإمام أحمد بن حنبل وابن إسحاق رحمهما الله: أنه عندما وقع السيف من يد الأعرابي، فأمسك رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسيف ورفعه على الأعرابي وقال له: من يمنعك مني؟ فالأعرابي كافر ما استطاع أن يقول: الله، وما استطاع أن يلجأ إلى آلهته المزعومة من الأصنام، لكن طمع في كرم الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: كن خير آخذ، فقال صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال الأعرابي: أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. أي: أنه لم يسلم، لكنه وعد الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يقاتله بعد ذلك، وعلى الرغم من الموقف الشديد إلا أن الأعرابي لم يستطع أن يأخذ قرار الإسلام، ومع ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراحه ولم يعاقبه، وثبت ذلك في البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعاقب هذا الرجل، وعاد الرجل إلى أهله سالماً وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس، وفي رواية: أن عدداً كبيراً من أهله أسلم، وأن هذا الرجل اسمه غورث بن الحارث. فهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة، إلا أنها تركت أثراً كبيراً جداً في أعراب هذه المنطقة من قبائل غطفان، وأدركوا بهذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس رجلاً كريماً فقط، وليس قائداً شجاعاً جريئاً فقط، وإنما هو أيضاً نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدداً هكذا، ليس من عادتهم الرحمة والكرم والتسامح إلى هذا الحد، فهذا ليس من طبع الملوك والقادة. ولا شك أن هذه القصة بالإضافة إلى غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بجيشه الصغير البسيط دون خوف ولا وجل؛ كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جدياً في قضية الإسلام.

القصة الثانية

القصة الثانية هذه قصة أخرى عجيبة حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أن جيش المسلمين نزل بأحد الأماكن للراحة، فعيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين للحراسة: عباد بن بشر الأنصاري رضي الله عنه، وعمار بن ياسر المهاجري رضي الله عنه، فقسم الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر، فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، ووقف يصلي قيام الليل، فجاءه أحد المشركين أيضاً من غطفان، ورماه بسهم، فنزع عباد السهم وأكمل صلاته، والدم يسيل منه ويتفجّر، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة فجأة ولكنه أكمل صلاته، ثم أيقظ عمار بن ياسر، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان ورأى الأسهم الثلاثة، قال لـ عباد: هلا أيقظتني أول ما رمى؟ فيرد عباد بن بشر رضي الله عنه في يقين وخشوع ويقول: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها. وفي رواية ابن إسحاق: قال عباد: وايم الله لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أحب إلي من قطعها. أي: لقطع هذا الرجل حياتي قبل أن أقطع هذه السورة، ولك أن تتصور مدى استمتاع عباد بقراءته، ومدى حبه لقيام الليل، ومدى استغراقه في عبادته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة رضي الله عنه وأرضاه. والشاهد في هذه القصة هو أن هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام هرب عندما رأى عمار بن ياسر استيقظ وفر إلى قومه، ولا ندري عنه شيئاً بعد ذلك، إلا أنه انبهر لرؤية أولئك الذين كانوا منذ قليل يغزونهم بشجاعة ويحاربونهم بضراوة يقفون في عبادتهم بهذه الصورة الخاشعة، لا شك أن جمع الصحابة بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الثأر للكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن ذلك كان لافتاً للنظر جداً لكل الناس، ولا شك أنه كان يترك انطباعاً إيجابياً عند عموم البشر، بغض النظر عن جنسياتهم أو أعرافهم أو قبائلهم.

إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم للسرايا بعد غزوة ذات الرقاع

إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم للسرايا بعد غزوة ذات الرقاع كانت غزوة ذات الرقاع غزوة بلا قتال، لكنها غيّرت كثيراً في أوساط قبائل غطفان، وعدّلت كثيراً من سلوكهم، وهذا سوف يفسّر لنا أحداثاً كثيرة ستأتي بعد هذا. لم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بعد غزوة غطفان بهذا الإنذار القوي الموجه لها، لكن أرسل بعد غزوة ذات الرقاع ست سرايا متتالية كلها في العام السابع من الهجرة، أرسل هذه السرايا إلى عدة مناطق مهمة في الجزيرة العربية، وهي: منطقة كديد، ومنطقة تربة، ومنطقة بني مرة، ومنطقة ميفعة، ومنطقة يمن، ومنطقة الغابة، ست مناطق، والقاسم المشترك بين كل هذه المناطق أنها كلها أرض لغطفان. إذاً: هناك تركيز واضح على قبيلة غطفان في العام السابع الهجري، وواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يسير بخطة محكمة، ليست هناك عشوائية أبداً في الأداء، فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد صلح الحديبية وتحييد جانب قريش وجه كامل الطاقة لردع بقية الأحزاب، ولصد بقية أعداء الأمة، ولهذا رأينا الحرب ضد اليهود والحرب ضد غطفان، فالأمور في غاية الترتيب، ونجح الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحملات المتكررة في ردع اليهود وغطفان تماماً، وبذلك أصبحت القوة الإسلامية في أواخر العام السابع الهجري هي القوة الأولى في الجزيرة العربية، ومع نجاح هذا الجانب العسكري للدولة الإسلامية إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك مهمته الأولى كرسول وهي مهمة البلاغ ونشر الدعوة إلى الله عز وجل في كل مكان في الجزيرة العربية، بل خرج خارج الجزيرة العربية كما ذكرنا، ودعا إلى الإسلام صراحة وبقوة وعزة حتى وصل الإسلام إلى معظم ممالك العالم في ذلك الوقت. إذاً: كملخص للعام السابع الهجري: نجد أنه كان عاماً جهادياً ودعوياً، بدأ فيه المسلمون في جني ثمرات صلح الحديبية، وصلت في هذا العام دعوة الإسلام إلى كل مكان، وانتصر المسلمون فيه انتصاراً باهراً على اليهود في خيبر ووادي القرى وفدك وتيماء، وانكمشت غطفان وتضاءلت جداً، وعرفت أن قوة المسلمين أعلى بكثير من قوتها، حتى وإن كان عدد المسلمين قليلاً، وزاد عدد المسلمين بشكل ملحوظ بعد قدوم المسلمين من كل مكان، فقد جاء مهاجرو الحبشة وجاء الأشعريون والدوسيون وغيرهم، بل وأسلم الكثير والكثير في العام السابع الهجري، وكان عاماً حافلاً بالدعوة والجهاد، وتوج هذا العام في آخره بتحقيق شيء فرح المسلمون به كثيراً، وهو دخول مكة المكرمة لأداء العمرة؛ لأن من بنود صلح الحديبية أن المسلمين يرجعون دون دخول مكة للعمرة في العام السادس الهجري، على أن يأتي المسلمون بعد عام، أي: في نهاية العام السابع الهجري ليدخلوا مكة معتمرين، ليس معهم إلا سلاح المسافر، ويخرج أهل مكة من مكة تماماً، ويتركون البلد الحرام للمسلمين مدة ثلاثة أيام متواصلة، وبالفعل مرت السنة كما رأينا وجاء شهر ذي القعدة من العام السابع الهجري، وأُعلن في المدينة المنورة عن العمرة العظيمة، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يتخلف عنها أحد شهد الحديبية، وستبدأ تفصيلات هامة لهذه العمرة المباركة، وفي الحقيقة تحتاج منا إلى وقفة مهمة جداً.

عمرة القضاء وآثارها الإيجابية على المسلمين

عمرة القضاء وآثارها الإيجابية على المسلمين لقد خرج في هذه العمرة المباركة ألفان من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من غير النساء والصبيان، يعني: كل من شهد الحديبية خرج إلا من استشهد، وخرج معهم أيضاً آخرون، فالصحابة الذين كانوا في الحديبية هم ألف وأربعمائة، وفي هذا الوقت خرج ألفان، وخرجوا بالسلاح الكامل في موكب مهيب، ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان متفقاً مع قريش أنه لا يدخل مكة إلا بسلاح المسافر فقط، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمن من غدر قريش، فخرج بالسلاح الكامل والعدة الكاملة، بالرماح وبالسهام والدروع وبكل شيء وكأنه مستعد لحرب، لكنه سيترك كل هذه الأشياء خارج مكة ليدخل مكة بسلاح المسافر فقط، وفاء لعهده صلى الله عليه وسلم، فجمع بين الأمرين: الأخذ بالأسباب والحماية لهؤلاء الخارجين إلى مكة المكرمة للعمرة، وفي نفس الوقت يدخل بعهده مع قريش إلى مكة بسلاح المسافر، وأحرم صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة (أبيار علي)، وظل يلبي من ذي الحليفة إلى أن وصل إلى مكة المكرمة، عشرة أيام تقريباً من التلبية المتواصلة، ووصل إلى مكة، وهذه اللحظة من أعظم لحظات السيرة النبوية؛ فهي لحظة مهيبة فعلاً، بعد سبع سنوات كاملة من الهجرة، وبعد أن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أحب البلاد إليه يعود الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى بلده مكة. فالأيام تمر بحلوها ومرها، تمر بسعادتها وأحزانها، الأيام تمر دوماً: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. شتان بين حال المسلمين منذ سبع سنوات وحالهم الآن، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة منذ سبع سنوات مهاجراً يترقب ويستخفي بنفسه ويختبئ هنا تارة وهنا تارة، يخفي آثاره قدر ما يستطيع، واليوم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معلناً للجميع أنه داخل، وليس هذا الإعلان لأهل مكة فقط، بل لأهل الجزيرة جميعاً، بل لعله للعالم أجمع. خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة منذ سبع سنوات هو وصاحبه الصديق وعامر بن فهيرة والدليل المشرك عبد الله بن أريقط، أربعة نفر لا يكاد يراهم أحد، والآن يعود الرسول عليه الصلاة والسلام بألفين من الرجال دون النساء والصبيان، في مظاهرة إيمانية عظيمة، وتلبية تقطع صمت الصحراء، تُعلن لكل الخلق أن: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، حقاً لا شريك لك، حقاً إن الحمد كله لله، وحقاً إن الملك كله لله، والدليل أن هذه العمرة التي نتحدث عنها قبل سبع سنوات منها يخرج أهل مكة جميعاً يبحثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل بقعة ليقتلوه، والآن خرج أهل مكة جميعاً إلى جبال مكة وإلى أودية مكة يفسحون الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدخل مكة معتمراً ملبياً، رافعاً رأسه، محاطاً بكوكبة من المسلمين المسلحين بالسيوف في أعظم تشريفة رأتها مكة في كل تاريخها، اكتفى أهل مكة بالمراقبة له ولأصحابه وهم يؤدون شعائر العمرة على طريقة المسلمين.

مظاهر قوة المسلمين في عمرة القضاء

مظاهر قوة المسلمين في عمرة القضاء هذا حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وهذه العمرة تمهيد نفسي رائع لما سيحدث بعد ذلك بعام، عندما يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، ولعل قضية فتح مكة تكون غير متوقعة عند كثير من الصحابة؛ لأن مكة أعظم مدن الجزيرة، بل أعظم مدن العالم، وقريش هي أعز قبيلة في العرب، فكون المسلمين سيأتون في جيش لاقتحام مكة، ويغزون قريشاً في عقر دارها هذا أمر بعيد جداً في تصور الكثيرين، لكن بعد هذه العمرة أصبح الوضع مختلفاً، رأى المسلمون أهل مكة يفسحون لهم الطريق دون مقاومة، وليس هذا فقط، بل إنهم يتركونهم ثلاثة أيام متواصلة في داخل مكة، يكتفون فقط بالمراقبة بحسرة، وهم لا يستطيعون فعل أي شيء، لا شك أن المسلمين لاحظوا الانبهار الذي كان عند القرشيين من رؤية قوة المسلمين؛ ولنا مع هذا الانبهار من أهل قريش وقفة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف أن هناك أناساً كثيرين لا ينبهرون إلا بالقوة، ولا يحترمون غيرهم إلا إذا وجدوه صلباً شديداً عزيزاً، وصدق عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ يقول: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. فأهل مكة عند سماع الآيات الجليلة الباهرة للقرآن الكريم لم يرتدعوا، مع تمام علمهم أن القرآن معجز وأنه فوق طاقة البشر، وأنهم لا يستطيعون الإتيان بسورة من مثله ولو اجتمعوا لذلك، لم يرتدعوا بهذا القرآن العظيم، لكن على الناحية الأخرى وقفوا منبهرين تماماً أمام قوة المسلمين وجلد المسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف هذا جيداً، وحرص تمام الحرص على إبراز قوة المسلمين قدر المستطاع صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك مثلاً: أولاً: جاء عليه الصلاة والسلام بالسلاح الكامل من المدينة المنورة، لكنه أبقى السلاح خارج مكة مع سرية من الصحابة، وكانوا مائتي رجل، وكان عليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وبعد أن انتهى صلى الله عليه وسلم ومن معه من العمرة تبادل هؤلاء الحراس مع مجموعة أخرى من المسلمين وأدوا العمرة كغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالمسلمون جاءوا من المدينة إلى مكة بالسلاح؛ لأنهم يعرفون أن هناك عيوناً لقريش ترقب الموقف، فلما رأت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم معه قوة السلاح وقوة جيوش غير معتمرة، أرسلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر، وأخبروه أنه قد وعدهم أن يدخل مكة فقط بسلاح المسافر، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه عند وعده، وأنه سيترك السلاح خارج مكة، ولكنه لا يأمن على نفسه ولا على جيشه من غدر قريش؛ فلذلك أخذ بالأسباب صلى الله عليه وسلم، فأتى بعدة كاملة؛ ليلقي الرهبة في قلوب المشركين. ثانياً: دخل الرسول عليه الصلاة والسلام مكة راكباً ناقته القصواء، والمسلمون حوله يشهرون سيوفهم لحمايته، تصور كون الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط المسلمين وهم محيطون به كما يحيط السوار بالمعصم؛ حماية له من المشركين أو من غدر قريش. إذاً: هذا منظر مهيب جداً. ثالثاً: دخل المسلمون مكة وهم يلبون جميعاً في صوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وأنا أريد منك أن تتصور أن ألفين من الرجال الأشداء يلبون ويرفعون أصواتهم بالتلبية وهم يدخلون مكة، أول مرة ترى مكة منظراً كهذا. رابعاً: يتقدم صفوف المسلمين عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وهو ينشد الشعر، نحن نستغرب ونقول: لماذا هذا الشعر في مثل هذا الموقف؟! لقد كان الشعر عند العرب وسيلة الإعلام الأولى، إذا قيل الشعر وقف الجميع ليستمع، وكان عبد الله بن رواحة يعرف جيداً هذا الموقف، واختار من شعره ما يناسب إظهار القوة، ومما قاله في شعره ما جاء في سنن الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، والحديث حسن صحيح قال: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله إلى آخر الأبيات، والمضمون لهذا الشعر أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه يفسح الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلنها واضحة صريحة أنه سيضرب كل من سوّلت له نفسه الغدر به صلى الله عليه وسلم. فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستوعب هذا الذي فعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فقال له: (وفي حرم الله تقول الشعر؟) لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موافقاً لفعل عبد الله بن رواحة؛ لأنه مدرك لعقلية العرب عامة ولعقلية قريش خاصة، فقال له: (خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل) يعني: هذه الأبيات أسرع في قريش من رمي النبل والسهام، فكان هذا الأمر فعلاً من أقوى الأسلحة التي وجهت لقريش. خامساً: صلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالمسلمين الصلوات الخمس في الأيام الثلاثة بصورة جماعية في الحرم، وتصور صلاة ألفين من الرجال غير النساء والصبيان بطريقة واحدة بتكبير وتحميد، وبقيادة منظمة ل

قصة إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة

قصة إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة لقد حدث شيء مهم في شهر صفر سنة ثمان، يحتاج إلى وقفة كبيرة ومهمة، وهو من أعظم ثمار صلح الحديبية وعمرة القضاء، وهذا الحدث يعتبر نقطة تحول ليست في تاريخ مكة المكرمة ولا في تاريخ الجزيرة العربية ولا في تاريخ العالم في ذلك الوقت، ولكن في تاريخ الإنسانية وإلى يوم القيامة، فأنت عندما تتدبر في هذا الحدث وآثار هذا الحدث على الأرض بصفة عامة في عمق الزمان والمكان تجد له آثاراً لا تنتهي، هذا الحدث العظيم هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين، ثلاثة من عمالقة مكة، بل من عمالقة الأرض بصفة عامة، هؤلاء الثلاثة لم يسلموا فقط في شهر صفر سنة ثمان، بل أسلموا في يوم واحد من شهر صفر سنة ثمان، فهذا نصر كبير جداً للإسلام والمسلمين، فقد عبّر صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم بقوله: (إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها) وفي رواية: (أفلاذ أكبادها) يعني: خلاصة ما في مكة هم هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم. انظر إلى الآثار التي حدثت في الأرض على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وعلى يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، من الآثار أنها فُتحت العراق، وفُتحت فارس، وفُتحت بلاد ما وراء النهر، وفُتحت أرمينية، وفُتحت بلاد كثيرة جداً في آسيا، وفُتحت الشام، كل ذلك على يد البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك فُتحت فلسطين وفُتحت مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فكم من المسلمين الذين في هذه البلاد؟ وكم من الأعمال الصالحة؟ وكم من الجهاد في سبيل الله؟ وكم من الدعوة إلى الله عز وجل؟ وكم من العلم؟ وكم الإضافات الإنسانية؟ كل هؤلاء دخلوا بجهاد هذين البطلين العظيمين: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فهو إنجاز هائل للمسلمين في العام الثامن من الهجرة، فإضافة هذين الاثنين في الدولة الإسلامية من أقوى الإضافات في تاريخ الإسلام، وأعطى الرسول عليه الصلاة والسلام هذين الرجلين أهمية خاصة جداً في أحاديثه وفي معاملاته صلى الله عليه وسلم، حتى إنه أعطى خالد بن الوليد رضي الله عنه لقباً ما أعطاه لأحد قبله ولا بعده، وسماه سيف الله المسلول، وقال عن عمرو بن العاص كلمات ما قالها لأحد غيره رضي الله عنه، قال عنه: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) والحديث صحيح كما رواه الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه، وحسّن هذا الحديث الألباني رحمه الله. فقوله: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) كلمة كبيرة جداً في حق هذا البطل العظيم، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن طلحة رضي الله عنه وصححه الألباني، يقول: (عمرو بن العاص من صالحي قريش) وهذا الكلام فيه أبلغ الرد على كل من يطعن في هذين الصحابيين الجليلين العظيمين اللذين فتحا بلاداً شتى، لا أقول: دخل مئات الآلاف في الإسلام على يديهما فقط، وإنما دخل الملايين من البشر في زمانهم وإلى الآن، فكل المسلمين في فلسطين وفي العراق ومصر والشام، كل هؤلاء يدينون بالفضل لهذين البطلين. هذا أمر خارج عن التصور، ويعتبر من أعظم أحداث التاريخ الإسلامي، لا بد أن ندرس إسلام هذين البطلين، لا بد أن نفهم لماذا أسلما بعد سنوات طويلة جداً من الصد والبُعد عن دين الله عز وجل؟ فإسلام هذين البطلين وغيرهما يحتاج منا إلى وقفة وتحليل، فالذي دفع هؤلاء إلى الإسلام هو الانبهار بقوة الإسلام، والانبهار بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد، فهؤلاء جميعاً من القادة العسكريين، ومن الفرسان المشهورين في بلاد العرب، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام قائد بارع عظيم من القواد لم يروا مثله قبل ذلك، حتى في موقعة أحد فشل سيدنا خالد في إحباط الخطة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الخطة في تمام الإحكام، وكان سيدنا خالد يدرس هذا الكلام جيداً، ويعرف أنه لا يستطيع الغلبة على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولولا مخالفة الرماة لما استطاع أن يأتي المسلمين من خلفهم، ولهرب مع من يهرب، فـ خالد قد فشل أكثر من مرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعله ينبهر تمام الانبهار بقوة وبأس وتخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك ينبهر بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام كداعية وكإنسان يعيش وسط الناس بمبادئ وقيم معينة لا يخالفها، وعادة العسكريين أنهم يدوسون على كل القيم والأخلاق، ويحققون الأهداف بغض ا

كيفية إسلام خالد بن الوليد

كيفية إسلام خالد بن الوليد لقد وقف خالد بن الوليد رضي الله عنه في جمع من المشركين بعد خروج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة في عمرة القضاء، في أواخر العام السابع من الهجرة، وقف وقال للجميع كلاماً عجيباً غريباً يُستغرب جداً من مثله في هذا الموقف، قال لهم: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمداً ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، وقف هذا الموقف مع أنه كان قد سمع كثيراً من القرآن الكريم وكثيراً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قبل ذلك، لكن الآن جوبه بقوة وعزّة الإسلام فانبهر رضي الله عنه فقام هذا المقام وقال هذه الكلمات وهو من هو، وهو من أعظم زعماء مكة مطلقاً، وكان قائد الفرسان في معارك قريش، ولعل هذا هو الذي أخّر إسلامه إلى هذا الوقت، فعندما أسلم كان عمره سبعاً وأربعين سنة، ففي هذه الفترة كان قائداً في قريش، فكان يخشى على مكانته إذا انضم إلى الإسلام، وكانت له مكانة مرموقة جداً في الجيش المكي، وله مكانة مرموقة في وسط العرب، فخاف على هذه المكانة أن تضيع، وبالإضافة إلى أن أباه الوليد بن المغيرة كان من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، لكن خالد بن الوليد في هذا الوقت تغير وانبهر بقوة الإسلام، وانبهر بالرسول عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، وهذا الذي جعله يقول هذه الكلمات التي تعبر عن رغبته في دخول الإسلام، ثم علّق على هذه الكلمات وقال: فحق لكل ذي لب أن يتبعه. ولما علم أبو سفيان ما قال خالد بن الوليد ناداه حتى يتأكد من أنه قال هذا الكلام أم لم يقله، فأكد له خالد صحة ما قال وكرر نفس الكلمات أمام أبي سفيان، فاندفع أبو سفيان إلى خالد بن الوليد يريد أن يضربه، فحجز بينهما عكرمة بن أبي جهل، وكان عكرمة في ذلك الوقت لا يزال مشركاً، وكان من أكثر الرجال قرباً إلى قلب خالد بن الوليد، وكانت بينهما صداقة قديمة جداً، فحجز عكرمة بين أبي سفيان وبين خالد وقال كلمات عجيبة هو الآخر لـ أبي سفيان قال: مهلاً يا أبا سفيان، فوالله لقد خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه. يعني: كما أنك تخاف من أن كلام خالد يؤثر في الناس، فأنا أيضاً قد خفت من هذا الكلام، بل إنني خفت أن أكون على دين محمد بعد هذا الذي رأيت في عمرة القضاء، ثم قال له: أنتم تقتلون خالداً على رأي رآه، وهذه قريش كلها تبايعت عليه؟ والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم. أي: ليس خالد وحده منبهراً بمحمد وأصحابه، وهذا كلام صريح جداً، لكن كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، الجميع يعلم أن هذا الدين حق، وأن هذا الرسول حق؛ فلذلك كسر بعضهم كبرياءه واتبع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضهم ظل في كبريائه وفي غيه إلى أن مات على ذلك، والحمد لله أن كل هؤلاء الذين دخلوا في الحوار أسلموا بعد هذا، لكن تأخر إسلام بعضهم عن بعض. إذاً: هذا كان موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ولا ننسى أن خالد بن الوليد في يوم الحديبية قال كلمة عظيمة في حق المسلمين، قال: إن القوم ممنوعون، وذلك عندما نزلت صلاة الخوف كما ذكرنا ذلك في درس الحديبية، فـ خالد بن الوليد يعلم أن القوم ممنوعون من الله عز وجل، وأن الله عز وجل يحيطهم برعاية وعناية خاصة جداً، وهذا كله كان له أثر كبير جداً في قلب خالد بن الوليد. لكن هناك شيء آخر أيضاً أثر في خالد كثيراً، وهو أن خالد بن الوليد عندما رأى جيش المسلمين داخل مكة المكرمة للعمرة في العام السابع من الهجرة، لم يستطع أن يحتمل هذا المنظر في بدايته، وخرج من مكة وتركها، وكان له أخ اسمه الوليد بن الوليد رضي الله عنه وهو من الصحابة الذين دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة، فعندما دخل بحث عن أخيه خالد بن الوليد ليخبره عن أمر الإسلام فلم يجده، فكتب له كتاباً قال له فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ ثم كتب كلاماً عجيباً بعد ذلك، قال: وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فهذه الكلمات كانت من أبلغ الكلمات أثراً في إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه. قال له أخوه الوليد بن الوليد: (وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك قال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثله جهل الإسلام؟). أي: كيف لـ خالد

كيفية إسلام عمرو بن العاص

كيفية إسلام عمرو بن العاص لقد ظل عمرو بن العاص فترة طويلة جداً من حياته يرفض فكرة الإسلام، فـ عمرو بن العاص عندما أسلم كان عمره سبعاً وخمسين سنة، بقي فترة طويلة جداً من حياته يحارب الإسلام والمسلمين، فقد ظل أكثر من عشرين سنة من عمره وهو يرفض فكرة الإسلام، فما الذي غيّر فكر عمرو بن العاص؟ كانت عند عمرو بن العاص موانع كثيرة جداً، فقد كان له قيمة كبيرة في قريش كـ خالد بن الوليد، وكان أبوه العاص بن وائل من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، فقد تربى في بيت يكره الإسلام والمسلمين، فهذا الذي جعله يتأخر هذه الفترة الطويلة من الزمن، وانظر إلى بداية التغير في فكر عمرو بن العاص، يقول: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون -والله- أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً عظيماً، فبدأ عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب، فكان يرقب بعينه أن الأيام القادمة للمسلمين وعلى قريش، فقال: وإني قد رأيت أمراً فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي، وقد كان النجاشي صديقاً حميماً لـ عمرو بن العاص، فيقول: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي. فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد. انظروا إلى أي مدى بلغت الكراهية في قلبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لأن يحكمهم النجاشي خير من أن يحكمهم محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرشي، ومن نفس القبيلة التي منها عمرو بن العاص، وقد كان عمرو بن العاص سهمياً قرشياً، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام هاشمياً قرشياً، لكن عمرو بن العاص يقبل بحكم النجاشي ولا يقبل بحكم بمحمد صلى الله عليه وسلم! ثم يقول: وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا كل خير، أي: أنه لو انتصرت قريش على المسلمين فسيعود بعد ذلك عمرو بن العاص وله من المكانة المحفوظة ما له في قريش. وهذا موقف سلبي؛ لأنه يترك الحرب تثور بين قريش وبين المسلمين، فإن انتصرت قريش عاد إليها وإن لم تنتصر بقي هناك عند النجاشي، هذا موقف سلبي من عمرو بن العاص في ذلك الوقت، وسبحان الذي أعزه بعد ذلك بالإسلام. المهم أن أصحابه وافقوه على هذا الرأي، وقالوا: إن هذا هو الرأي، قال: ثم قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان من أكثر ما يحبه النجاشي هو الجلود، ولذلك جمعوا له كمية كبيرة من الجلود وأخذوها وسافروا إلى النجاشي، وكما يقول عمرو بن العاص: فوالله إنا لعنده إذا جاءه عمرو بن أمية رضي الله عنه الصحابي الجليل أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى النجاشي ليأتي بـ جعفر بن أبي طالب وأصحابه بعد صلح الحديبية، فعندما رأى عمرو بن العاص عمرو بن أمية عند النجاشي فكّر في شيء، وهو أن يطلب قتل عمرو بن أمية، فإن قتله أصبحت له يد كبيرة عند قريش، فدخل عمرو بن العاص على النجاشي فقال له: أيها الملك! إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، لكن رد فعل النجاشي كان خارج تصورات عمرو بن العاص تماماً، لقد غضب النجاشي غضباً شديداً، حتى قال عمرو بن العاص: لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت له: أيها الملك! والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك، وكان النجاشي قد أسلم وأخفى إسلامه، لكن وجد فرصة لأن يدعو عمرو بن العاص، فهو يخاف أن يدعو بدعوته في داخل الحبشة حتى لا يخلعه قومه من كرسيه، لكن عمرو بن العاص صاحبه وبينهما علاقة قديمة جداً، فأراد أن يصل إليه بالخير الذي وصل إليه قبل ذلك، النجاشي، فقال النجاشي: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله؟ ثم قال عمرو بن العاص: قلت: أيها الملك! أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، وفجأة ألقى الله عز وجل في قلب عمرو بن العاص الإسلام. وهذه تراكمات كثيرة، فهو منبهر كما ذكرنا قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، منبهر بكامل حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن تنازعه نفسه ألا يؤمن؛ بسبب العادات والتقاليد، ومعاداة أبيه للرسول عليه الصلاة والسلام، فهذه أمور كثيرة جداً كانت مانعة له عن الإسراع إلى الإسلام، لكن فجأة اكتشف الحق أمام عينيه، فقال للنجاشي: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال النجاشي: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، أي: أن إسلام عمرو ب

كيفية إسلام عثمان بن طلحة

كيفية إسلام عثمان بن طلحة بعد أن تحدثنا عن عمرو بن العاص وعن خالد بن الوليد سنتحدث عن عثمان بن طلحة، فـ عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه من بني عبد الدار حامل مفتاح الكعبة، وإسلام عثمان بن طلحة يعتبر إضافة سياسية في منتهى القوة للدولة الإسلامية؛ فهؤلاء هم عمالقة مكة بالفعل، وعظماء مكة: خالد بن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن العاص بن وائل، وعثمان بن طلحة العبدري رضي الله عنهم أجمعين، هؤلاء الثلاثة من أعظم الفرسان في تاريخ مكة جميعاً، فكان هذا هو الحدث الهائل الذي حدث في صفر سنة ثمان، وهو من أعظم آثار الحديبية وعمرة القضاء مطلقاً، وآثار هذا الحدث ما زلنا نجنيها إلى هذه اللحظة، وسنظل نجني في هذه الآثار إلى يوم القيامة، فهذا الحدث هائل لن تدركوا عظمته إلا بدراسة الفتوح الإسلامية، ورؤية الآثار العظيمة التي تركها هؤلاء العمالقة رضي الله عنهم وأرضاهم للإسلام والمسلمين. في الدرس القادم -إن شاء الله- سوف نتعرف على بداية إسلام هؤلاء العمالقة الثلاثة، وما هو دورهم الفعّال المباشر في خط سير الدولة الإسلامية؟ وما هي أعظم المهمات التي قام بها كل من هؤلاء الثلاثة في تاريخ الإسلام وفي تاريخ الدولة الإسلامية؟ نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نصر مؤتة

سلسلة السيرة النبوية_نصر مؤتة بعد التأمل الدقيق لما حصل في معركة مؤتة يجد المؤمن مدى معية الله عز وجل لعباده المؤمنين، ففي هذه المعركة غير المتكافئة يواجه ثلاثة آلاف من المسلمين مائتي ألف من الرومان ومن نصارى العرب، ومع ذلك يكون النصر حليف المسلمين، وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن الله عز وجل ناصر دينه وعباده الصالحين، وأن النصر لا يخضع للقوة المادية، فعلى المجاهدين أن يبذلوا جهدهم ويصدقوا مع ربهم وسيكون النصر حليفهم.

إرهاصات غزوة مؤتة

إرهاصات غزوة مؤتة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين. وضح لنا في الدرس السابق أن الدولة الإسلامية في العام السابع من الهجرة كانت تسير من ارتفاع إلى ارتفاع، ومن مجد إلى مجد، فمن فتح خيبر إلى انتصارات متتالية على غطفان، إلى عمرة القضاء بكل أبعادها السياسية والدعوية، إلى إسلام أبطال مكة الثلاثة: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين. هكذا كانت الدولة الإسلامية، وكان الوضع يسير في تقدم ملموس واضح لكل الناس، لكن هذا النمو المتزايد لفت أنظار الكثيرين ممن لم تكن لهم علاقة مباشرة بالدولة الإسلامية، فأحسوا بخطر قيام هذه الدولة الفتية في المدينة المنورة، ومن ثم بدءوا في التحرش بالدولة الإسلامية، وتفاقم الأمر حتى وصل إلى إراقة دماء مسلمة. هذه المشاكل في مجموعها كانت تأتي من شمال الجزيرة العربية، وشمال الجزيرة العربية كان موطناً لعدة قبائل كبرى من قبائل العرب، ومن أشهر هذه القبائل: لخم، وجذام، وبلقين، وبهراء، وبلى، وغسان، وقضاعة، وغيرها من القبائل، وكان الكثير من هذه القبائل يدين بالنصرانية، ويوالي الدولة الرومانية القريبة من هذه الأماكن، فالدولة الرومانية كانت تحتل بلاد الشام، ولها هيمنة على هذه المنطقة بكاملها، وزعماء هذه القبائل على عظمها كانوا عبارة عن مجرد عمال لـ هرقل على بلادهم، كعادة الدولة الصغرى في التعامل مع الدولة العالمية العملاقة. ولما بدأت الدولة الإسلامية في الظهور، وبخاصة بعد غزوة الأحزاب، بدأت هذه المنطقة الشمالية في التحرش بالدولة الإسلامية. عندما نقوم بمراجعة سريعة لتاريخ هذه المنطقة، نجد أن الأمور تتصاعد وتنذر بصدام كبير بين قبائل المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنتين السابقتين سنة ست وسبع من الهجرة، وقد ذكرنا أنه في شهر جمادى الآخرة سنة ست اعترضت قبيلة جذام دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، وأنهم سلبوه كل ما كان معه من هدايا موجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا سبباً في إرسال سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة حسمى، وتكلمنا عليها من قبل، وكانت سرية ضخمة عددها خمسمائة رجل، وهذه السرية هزت هذه المناطق وحققت نجاحاً كبيراً للمسلمين. وأيضاً مر بنا رد هرقل لفكرة الإسلام مع إيمانه الجازم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه ضن بملكه وآثر أن يكون ملكاً على أن يكون مؤمناً. وأيضاً مر بنا موقف الحارث بن أبي شمر زعيم دمشق، وعزم هذا الرجل على تجهيز الجيوش لغزو المدينة لولا أن هرقل منعه كما ذكرنا. كانت هناك حوادث كثيرة تنبئ عن قرب الصدام بين المسلمين وبين هذه المنطقة الشمالية. أيضاً كانت هناك أحداث جديدة، فقد قامت قبيلة قضاعة في ربيع الأول سنة ثمان باغتيال مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعددهم خمسة عشر رجلاً، وكان على رأسهم كعب بن عمير الأنصاري أو عمرو بن كعب الغفاري رضي الله عنهم أجمعين. اعترضت قبيلة قضاعة طريقهم وقامت بقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً فقط، وهذه السرية التي خرجت للدعوة إلى الله عز وجل تعرف بسرية ذات أطلاح، وقد ذكرنا أن قبيلة قضاعة لم يكن لها علاقة سابقة بالمسلمين فاعتدت على مجموعة من رعايا الدولة الإسلامية. ثم تفاقم الأمر جداً عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام رسالة إلى عظيم بصرى بالأردن يدعوه فيها إلى الإسلام، وحامل الرسالة كان الحارث بن عمير رضي الله عنه، وهو في الطريق اعترض طريقه شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو عامل هرقل على منطقة البلقاء أيضاً في الأردن، وقيد الحارث بن عمير ثم ضرب عنقه. وقتل الرسل جريمة شنيعة؛ لأن الأعراف كانت تقضي بعدم قتل الرسل، وكان هذا تجاوزاً خطيراً جداً من هذه القبائل، وكما ذكرنا أن معظم هذه القبائل كان يدين بالنصرانية ويتبع الدولة الرومانية. بعد هذا الحدث زاد الأمر سوءاً، وبدأت الدولة الرومانية ونصارى الشام يتعقبون كل من أسلم ويقتلونه، حتى وصل الأمر إلى قتل والي معان في الأردن؛ لأنه كان قد أسلم، فقتلوه لإسلامه. إزاء هذه الأوضاع المتردية كان لا بد للدولة الإسلامية من وقفة جادة للدفاع عن هيبة الدولة الإسلامية والثأر لكرامتها. وقفة لتأمين حركة الدعاة المسلمين لهذه المناطق الشمالية من الجزيرة. ووقفة لتأمين خط سير التجار المسل

الإجراءات التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي غزوة مؤتة

الإجراءات التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي غزوة مؤتة قام الرسول صلى الله عليه وسلم بعدة خطوات مهمة لمواجهة قبائل الشمال المتحالفة مع الرومان: أولاً: كون أكبر جيش إسلامي خرج من المدينة حتى تلك اللحظة، وعدد هذا الجيش ثلاثة آلاف مقاتل، فهو أكبر رقم يحارب في التاريخ الإسلامي إلى تلك اللحظة. ثانياً: ولى على الجيش زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وزيد بن حارثة كان قد قضى فترة تدريبية هامة جداً في السنة السادسة من الهجرة، فقد قاد خمس سرايا متتالية، وكان زيد بن حارثة قد جاء إلى هذه المنطقة قبل ذلك، جاء إلى شمال الجزيرة العربية في سرية حسمى سنة ست، وكانت من السرايا الضخمة الكبيرة، فهو أعلم بهذه المنطقة من غيره من الصحابة. ثالثاً: لم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة أميراً واحداً، بل عين ثلاثة من الأمراء، إن قتل واحد تولى الآخر، فقال: (إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، وإن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة)، وواضح من هذه التولية المتتالية للأمراء أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتوقع حرباً ضروساً في هذه المنطقة، حرباً يقتل فيها الأمراء الثلاثة، وهي المرة الأولى والأخيرة في حياته صلى الله عليه وسلم التي يولي فيها ثلاثة من الأمراء على جيش واحد، ولعل ذلك كان بوحي من الله عز وجل. رابعاً: أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجيش البطل الإسلامي الفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولم يكن مر على إسلام خالد إلا ثلاثة أشهر فقط، ولعل حداثة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه هي التي منعت الرسول عليه الصلاة والسلام من تولية خالد على ذلك الجيش؛ لأنه لا يعرف جنود المسلمين ولا يعرف طاقاتهم، كما أنه لم يختبر بعد مع الصف المؤمن، فهذه أول مهمة يختبر فيها خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بعد أن أسلم. ومهمة قيادة ثلاثة آلاف مسلم مهمة كبيرة، تحتاج إلى رجل له تاريخ مأمون مع المسلمين، وعمر خالد في الإسلام ثلاثة أشهر فقط، وعمره في الجاهلية أكثر من عشرين سنة، فلا بد من اختبار. تجهز الجيش الإسلامي بهذه الصورة القوية، ومع أن المهمة صعبة والطريق طويلة جداً، أكثر من ألف كيلو من المدينة المنورة، والطريق في صحراء قاحلة، والخروج كان في حر شديد؛ لأن خروج المسلمين كان في جمادى الأولى سنة ثمان وهذا يوافق أغسطس سنة (629) م، يعني: في شدة الحر. مع كل هذه المصاعب إلا أن معنويات الجيش الإسلامي كانت مرتفعة جداً، وخاصة أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج بنفسه لتوديع الجيش، واستمر يمشي معهم حتى بلغ ثنية الوداع.

مهمة الجيش الإسلامي الخارج إلى مؤتة

مهمة الجيش الإسلامي الخارج إلى مؤتة حرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن تكون مهمة هذا الجيش واضحة تمام الوضوح، فالمسافات بين المدينة وبين الأردن كبيرة جداً، ولم تكن هناك فرصة للاستشارة أو أخذ الرأي، من أجل هذا حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة الجيش في أمرين: الأمر الأول: دعوة هذه القبائل إلى الإسلام كما ذكرنا أكثر من مرة، إسلامهم أحب إلينا من أموالهم، أحب إلينا من غنائمهم، فكان دائماً يقدم الدعوة صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: قتال شرحبيل بن عمرو الغساني ومن عاونه؛ لأنهم قتلوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير رضي الله عنه، ومع أن القتال كان لرد الهيبة والاعتبار، وانتقاماً لكرامة الدولة الإسلامية، وثأراً للحارث بن عمير رضي الله عنه، وتأديباً لـ شرحبيل بن عمرو وقومه، مع كل هذا إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام حرص على ألا تخرج الحرب الإسلامية عن ضوابطها الشرعية، وحرص أن يلتزم المسلمون تماماً بأخلاقهم حتى في أشد حروبهم. هذه صورة رائعة حضارية من أرقى الصور في التاريخ، قال لهم صلى الله عليه وسلم عند خروجهم من المدينة كما روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه، قال لهم: (انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). وفي رواية مسلم زاد: (ولا تمثلوا) أي: بالجثث بعد القتل. هذه هي الحرب في الإسلام، صورة راقية جداً تحتاج إلى تفصيل، لكن لا يتسع المجال لهذا الآن، لكن كل هذه النصائح وجهت لجيش خرج للانتقام لكرامة الأمة الإسلامية. المهم في هذا المقام أن نذكر: أن هذا الجيش الإسلامي لم يكن خارجاً لحرب الدولة الرومانية؛ لأن إسلام الدولة الرومانية كان متوقعاً، أو على الأقل أن تبقى على الحياد؛ وذلك للاستقبال الطيب والحسن الذي قابل به هرقل دحية الكلبي رضي الله عنه، وللقناعة التي أظهرها هرقل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من المتوقع أن تتغير قلوبهم للإسلام، وخاصة أنهم أهل كتاب، ومن النصارى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث هذا الجيش لحرب شرحبيل بن عمرو الغساني الذي قتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيش الإسلامي الذي خرج باتجاه شمال الجزيرة العربية يعتبر من الجيوش الكبيرة في عرف ذلك الزمن، وخاصة أن القبائل العربية لم يكن من عادتها أن تتوحد في حروبها، وليس من المتوقع أن يلقى هذا الجيش الإسلامي جيوشاً أكبر منه بكثير، وهذه الخلفية لا بد أن نضعها في أذهاننا قبل أن نحلل موقعة مؤتة، حتى نعلم أن هذا الجيش لم يلق به إلى التهلكة أبداً، إنما كان بحسابات ذلك العصر من الجيوش القوية الضخمة. وأيضاً من الخلفيات المهمة جداً لهذا الجيش: أنه كان جيشاً أخروياً بمعنى الكلمة، يعني: أن هذا الجيش بكامله كان من المؤمنين الصادقين الراغبين حقيقة في الموت في سبيل الله، المشتاقين حقيقة للشهادة في سبيل الله، الطامعين في الجنة، الخائفين من النار، كان جيشاً رائعاً بمعنى الكلمة. عبر عن ذلك أحد أفراد هذا الجيش عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، لما خرج الجيش من المدينة المنورة بكى هذا القائد الجليل رضي الله عنه بكاءً شديداً، فظن الناس أنه خائف من الموت، فقالوا له: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار. يعني: أنا لست خائفاً من الموت، ولا خائفاً من البعد عنكم، لكن أنا خائف أن يكون مصيري النار، يقول: ولكني سمعت سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، يقول عبد الله بن رواحة: فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود. هذا يعبر عن مدى خشية وتقوى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، مع جهاده وبذله بداية من بيعة العقبة الثانية، فقد كان من الخزرج في بيعة العقبة الثانية، ومروراً بكل المشاهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان من أهل بدر، ومن الثابتين في أحد، ومن أهل الأحزاب، ومن أهل بيعة الرضوان، وهو من الذين عاشوا حياتهم يجاهدون بالسنان واللسان، فسيفه مرفوع في كل المعارك، ولسانه ينزل بالقوارع الشعرية على رءوس أعداء الإسلام، ورأينا قبل هذا أنه كان يقول الشعر بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء في داخل الحرم، فتاريخه طويل جداً، وتاريخه مجيد فعلاً، ومع ذلك يخشى أن يسقط في النار إذا مر على الصراط. فسماعه لهذه الآية العظيمة دفعه إلى أن يقول هذه الكلمة الإيمانية العظيمة: لست أدري كيف لي بالصدور

كثرة عدد الجيش الروماني ومن معه وموقف الجيش الإسلامي من ذلك

كثرة عدد الجيش الروماني ومن معه وموقف الجيش الإسلامي من ذلك وصل الجيش الإسلامي الكبير إلى منطقة معان بالأردن في رحلة طويلة شاقة، ووصل هناك في جمادى الأولى سنة ثمان، وعند وصول الجيش الإسلامي وجد هناك في انتظاره مفاجأة غير متوقعة، وجد أن الدولة الرومانية قد ألقت بثقلها في هذا الصراع، فقد أعدت جيشاً هائلاً عدده مائة ألف مقاتل، وأعد العرب النصارى الموالين للرومان مائة ألف مقاتل أيضاً، فصار مجموع جيوش العدو مائتي ألف مقاتل، هذا رقم مهول لا يتصور، وخاصة أن الجيش الإسلامي ثلاثة آلاف مقاتل فقط، فماذا سيفعل أمام كل هذه الجيوش الجرارة؟ وتجمع الرومان بهذه الأعداد الهائلة أمر عجيب حقاً، ليس العجيب في أن الرومان كثرة، نحن تعودنا على هذه الأرقام في حروب الرومان، لكن العجب أن يجمع الرومان هذا العدد المهول لحرب ثلاثة آلاف مقاتل فقط. ومن الممكن أنهم لم يدركوا عدد المسلمين فأعدوا عدداً يكافئ أي إعداد للمسلمين. أو أنهم أدركوا فعلاً عدد المسلمين وأرادوا استئصال المسلمين تماماً؛ حتى لا تقوم لهم قائمة، لا مجرد هزيمة، بل استئصال. أو لكون هرقل يدرك أنه يحارب نبياً فأراد أن يعد قوة خارقة لعله يهزم هذا الجيش المؤمن. المهم أن الدولة الرومانية جهزت مائة ألف واستعانت بمائة ألف من العرب النصارى؛ لتحارب ثلاثة آلاف مقاتل مسلم، وإذا كان هذا التجمع غريباً من الرومان فهو كذلك أيضاً غريب من العرب؛ لأن العرب لم يكن من عادتهم التجمع والاتحاد، بل كان يحارب بعضهم بعضاً، لم تجمعهم قضية مطلقة من قبل ومع ذلك جمعوا مائة ألف في موقعة واحدة. هذا الموقف له تفسير واحد، وهذا التفسير هو إشارة هرقل لهم بالنهوض معهم؛ لأن الكثير من القبائل والدول العربية لا تتحرك عند داعي القتال إلا إذا أخذت إذناً من القائد الأعظم للدولة الأولى في العالم، عندها يهب الجميع لتنفيذ الأمر كأنهم إلى نصب يوفضون. لقد تجمع في أرض معان مائتا ألف مقاتل غالبهم من النصارى سواء من الرومان أو من العرب ينتظرون قدوم الجيش الإسلامي من المدينة المنورة، وإزاء هذا الوضع الخطير عقد المسلمون مجلساً استشارياً، مثل عادتهم دائماً، وبدءوا في تبادل الرأي، وخرجوا بثلاثة آراء: الرأي الأول: أن يرسل المسلمون رسالة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة يخبرونه بأن الأعداد ضخمة وهائلة، إما أن يمدهم بمدد، وإما أن يأمرهم بقتال، أو يأمرهم بانسحاب، لكن هذا الرأي لم يكن واقعياً؛ لأن المسافة بين معان وبين المدينة لا تقطع إلا في أسبوعين على الأقل ذهاباً فقط، معنى هذا: أن الجيش سينتظر شهراً كاملاً قبل أخذ القرار، وهذا مستحيل، وإن قبل المسلمون بذلك لم تقبل قوات التحالف الرومانية العربية. الرأي الثاني: أن زيد بن حارثة رضي الله عنه قائد الجيوش ينسحب بالجيش ولا يدخل في أي قتال، وقال أصحاب هذا الرأي لـ زيد بن حارثة: قد وطئت البلاد وأخفت أهلها فانصرف، فإنه لا يعدل العافية شيء. فأصحاب هذا الفريق يرون أن هذه الحرب مهلكة ولا داعي لدخولها. الرأي الثالث: الدخول في المعركة دون تردد، ومواجهة هذه الأعداد المهولة في الحرب الفاصلة. وكان صاحب هذا الرأي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، فقد قام وقال في منتهى الوضوح: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة. يعني: ما تخافون منه الموت وهو الذي نريده، وهو الذي خرجنا من أجله. قال: إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة. كان كلامه في منتهى الوضوح، فقد لخص في كلمته القصيرة جداً أساسيات الجهاد في سبيل الله، فالجيش المسلم المؤمن جيش يطلب الشهادة ويحرص عليها، والنصر لا يأتي بعدد ولا عدة، إنما يأتي من عند الله عز وجل، وليس معنى هذا أن يترك المسلمون الإعداد، لا، ولكن يجب أن يفعلوا ما عليهم والله عز وجل بعد ذلك ينصرهم، وفعلاً قام المسلمون وأعدوا ما عليهم في حدود الطاقة، أعدوا جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهذا شيء كبير جداً بالنسبة لهم. ونستنبط من كلام عبد الله بن رواحة أن العدة الرئيسة للمسلمين في القتال هي دين الإسلام، قال: وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. وأيضاً نأخذ من كلامه أن المعركة عند المسلمين لا تخلو من أمرين: إما نصر وإما شهادة، أما الرضا بالهزيمة فليس اقتراحاً مطروحاً عند المسلمين، بل هو مرفوض. ولما قال عبد الله بن رواحة هذه الكلمات قال الناس جميعاً: صدق -والله- ابن رواحة. يعني: اجتمعوا جميعاً على قرار القتال، ولنا مع هذا القرار وقفة. لا شك أن إقدام الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر بهذه الصورة الجماعية لهو خير دليل على أنهم طلاب آخرة وليسوا طلاب دنيا، وأن الصدق والإخلاص والتجرد يملأ قلوبهم جميعاً، وأن شجاعتهم بالغة، وأن قوتهم

احتمالات انتهاء المسلمين إلى خوض غمار الحرب

احتمالات انتهاء المسلمين إلى خوض غمار الحرب يرى المسلمون أن القتال أمر ممكن، وأن النصر أمر محتمل، وأن الوسيلة واقعية جداً لمجابهة الظرف الصعب الذي وضعوا فيه، لكن كيف يكون أمراً واقعياً أن يلتقي ثلاثة آلاف بمائتي ألف؟ تفسير هذا الكلام عندي بثلاث احتمالات: الاحتمال الأول: أن المسلمين لم يحصروا أعداد المقاتلين الرومان والعرب حصراً دقيقاً، وإنما قدروهم مثلاً بخمسة أو عشرة أضعافهم أو أكثر من ذلك بقليل أو أقل من ذلك، فوجدوا أن القتال مع صعوبته ممكن مع هذه الأعداد، وكل معارك المسلمين السابقة كانت بأعداد أقل بكثير من أعداد المشركين، يقول الله عز وجل في كتابه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]. وذكر سبحانه وتعالى أيضاً في سورة الأنفال: أن الجيش المؤمن قادر على مواجهة عشرة أضعافه إن كان قوي الإيمان حقاً، قال سبحانه وتعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65]. نعم نزل التخفيف بعد ذلك وجعل المسلم باثنين من الكفار، لكن من الممكن أن يصل المسلم الواحد إلى عشرة من الكفار، بل قد يزيد على ذلك ويصبح الرجل بألف من الكفار، كما قال الصديق رضي الله عنه في حق القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وفي حق عياض بن غنم رضي الله عنه، وكما قال عمر بن الخطاب في حق عبادة بن الصامت والزبير بن العوام ومسلمة بن مخلد والمقداد بن عمرو قال: إن الواحد منهم بألف. وهذا الجيش الإسلامي في مؤتة من المؤمنين الصادقين، والواحد فيهم يوزن بعشرات بل مئات من الكافرين، من أجل ذلك كان قرار الحرب مقبولاً عند المسلمين، وخاصة أنه من المحتمل أنهم قدروا أعداد النصارى بعشرين أو ثلاثين ألفاً فقط، وليس أكثر من ذلك، وهذا أمر محتمل؛ لأن تقدير هذه الأرقام المهولة قد يكون مستحيلاً في هذه الظروف، وخاصة أنهم في أرض مجهولة للمسلمين لا يعرفون خباياها ولا كمائنها ولا طرقها ولا غير ذلك. إذاً: هذا احتمال، هو أنهم قدروا أعداد الرومان والعرب بأقل من عددها الحقيقي. الاحتمال الثاني: قد تكون هناك مبالغة في أعداد الرومان والعرب، وإنما هم أقل مما ذكر من الأرقام المهولة التي ذكرت في الكتب، يعني: لم يصلوا مائتي ألف، لكن لا شك أنهم كانوا أضعاف أضعاف المسلمين. الاحتمال الثالث وهو مهم جداً: هو أن قادة المسلمين وجدوا أن الانسحاب لن ينجيهم من جيوش التحالف الرومانية العربية، وأنه إن بدأ الجيش الإسلامي في الفرار فقد يحاصر من كل الجهات، وفي هذه الحالة ستكون المعركة عبارة عن مجزرة حقيقية للجيش الإسلامي بكامله، فكان الأفضل الثبات والمقاومة؛ لأن هذا سيعطي دفعة نفسية إيجابية للجيش المسلم في أن يهاجم ويخطط لهزيمة الآخرين بدلاً من أن يفكر في الهرب والدفاع فقط، والعكس سيكون بالنسبة لقوات التحالف الرومانية العربية، فهذه القوات قد تهتز من رؤية أناس يطلبون الموت. وقد يكون الانسحاب في معركة من هذا القبيل نجاة للطرف المسلم، ويؤيد هذا الكلام أن الانسحاب مشروع، ذكره سبحانه وتعالى في كتابه بوضوح كما في سورة الأنفال، قال الله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]. في هذه الآية حدد ربنا سبحانه وتعالى سببين للانسحاب لا يأثم المسلم فيهما: الأول: أن ينسحب بخطة حربية ليعاود الحرب من جديد. الثاني: أن تعود فرقة من الجيش إلى جيشها؛ لكي تستعد بصورة أكبر للقتال، ثم تعاود القتال من جديد، وفئة المسلمين في هذه المعركة كانت في المدينة المنورة، فانسحاب الجيش الإسلامي سواء إلى الأردن أو إلى الجزيرة العربية، أو حتى عودته إلى المدينة المنورة ليس فيه خطأ شرعي، ولذلك كان أخذ الصحابة بهذا الرأي أمراً ممكناً إن وجدوا أنه يفيد المسلمين. وعلى العكس؛ ليس من المقبول شرعاً أن يدخل المسلمون في معركة وهم يعلمون أنهم جميعاً سيستشهدون ويفنى الجيش الإسلامي بكامله، لأن هذا يعد تهوراً وليس إقداماً، ومن هنا نقول: إن الجيش الإسلامي وجد أنه لا أمل في الانسحاب ولا نجاة في الفرار، وأنه يجب عليهم أن يواجهوا هذا الظرف برجولة؛ لكي يخرجوا منه على الأقل بأقل خسائر ممكنة، ومن ثم كان قرار الحرب وعدم الانسحاب. كذلك نضيف أن سمعة الدولة الإسلامية كانت ولا شك ستتأثر سلباً إذا انسحب الجيش الإسلامي من المعركة، بعد أن قطع كل هذا الطريق الطويل مسافة (1000) كيلو، ومن ثم كان قرار الحرب حافظاً لكرامة الدولة الإسلامية. إذاً: أخذ المسلمون قرار الحرب بشورى أو قل بإجماع، وانطلقوا ليختاروا م

مزايا وخصائص اختيار مكان معركة مؤتة

مزايا وخصائص اختيار مكان معركة مؤتة مكان معركة مؤتة عبارة عن سهل منبسط ليس فيه جبال ولا عوائق طبيعية من مياه أو أشجار أو أي شيء، وفيه من المزايا ما ييسر على المسلمين عملية القتال. أولاً: كونه سهلاً منبسطاً يحرم الفريقين من المناورة ومن وضع الكمائن. يعني: لو أتيح للرومان فعل الكمائن والمناورات لكان هذا الفعل مصيبة بالنسبة للجيش الإسلامي. ثانياً: أنه عبارة عن أرض صحراوية، والعرب قد اعتادوا على القتال في الأرض الصحراوية، بخلاف الجيوش الرومانية التي اعتادت على القتال في الأراضي الخضراء في الشام وفي تركيا وفي الأراضي الكثيرة الأشجار. ثالثاً: السهل مفتوح من جنوبه على الصحراء الواسعة، فالرومان لا تجرؤ على التوغل في هذه الصحراء، وبهذا يقدر الجيش الإسلامي أن ينسحب إذا أراد الانسحاب. رابعاً: في جنوب السهل خلف الجيش الإسلامي بعض التلال، فمن الممكن أن تستغل هذه التلال في إخفاء الجيش الإسلامي وراءها إذا أراد الانسحاب ليلاً. خامساً: هذا السهل ليست به أي عوائق طبيعية كما ذكرت، ليس هناك أي نوع من الحماية للجندي إلا أن يحتمي وراء سيفه ودرعه، ومن ثم في هذا المكان المفتوح سيظهر أثر الشجاعة والإقدام والتجرد، وهذا الجانب بلا شك يتفوق فيه الجانب الإسلامي تماماً. الجنود في الجيش الإسلامي يقاتلون على قضية هامة، وعندهم هدف سام جداً، فهم يبحثون عن الموت في سبيل الله، بينما يفتقد جيش الرومان هذا الهدف، فجنود الرومان كالقطيع من الحيوانات لا يدري لماذا يقاتل، ولا يدري ماذا يجني من وراء القتال، وإنما إذا جاء الأمر من القيادة العليا بالقتال فليس عليهم إلا التنفيذ، وإن كان هناك نصر فالذي سيحتفل بالنصر والذي سيسعد به هم القادة والقيصر، وإن كان هناك هزيمة فالجنود هم الذين سيدفعون الثمن من أرواحهم وأبدانهم. هذا كان شأن الجيوش الرومانية وهو شأن كل الجيوش العلمانية في العالم اليوم. أما العرب النصارى المشاركون في المعركة فلم يشاركوا فيها إلا طاعة لـ هرقل لا حباً في القتال، ولا يرغبون في ثواب ولا جنة، منتهى أحلامهم أن يرضى عنهم هرقل، وشتان بين من يبحث عن رضا هرقل وبين من يبحث عن رضا رب العالمين سبحانه وتعالى، بين من يقاتل ليعيش، وبين من يقاتل ليموت. إن اختيار الأرض المنبسطة بهذه الصورة ستجعل اليد العليا للشجاع على الجبان، وللمقدم على المدبر، وهذا كله في صالح المسلمين، واقتربت ساعة الصفر.

معركة مؤتة

معركة مؤتة هي بحق أشرس موقعة في السيرة النبوية، أمواج بشرية هائلة من الرومان ونصارى العرب تنساق إلى أرض مؤتة، ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في واجهة أقوى قوة في العالم آنذاك، وارتفعت صيحات التكبير من المسلمين. وحمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى إشارة البدء لأصحابه واندفع كالسهم رضي الله عنه وأرضاه صوب الجيوش الرومانية، ولم يشهد المسلمون قتالاً مثله قبل ذلك، وارتفع الغبار في أرض المعركة في ثوان معدودات، ولم يعد أحد يسمع إلا أصوات السيوف أو صرخات الألم، لا يتخلل ذلك من الأصوات إلا صيحات تكبير المسلمين، أو بعض الأبيات الشعرية الحماسية التي تدفع المسلمين دفعاً إلى بذل الروح والدماء في سبيل إعلاء كلمة المسلمين، وسالت الدماء غزيرة في أرض مؤتة، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، ورأى الجميع الموت مراراً ومراراً، كانت فعلاً ملحمة بكل المقاييس، وسقط أول شهداء المسلمين البطل الإسلامي العظيم والقائد المجاهد زيد بن حارثة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط مقبلاً غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة جداً، بدأت مع أول أيام نزول الوحي، فهو من أوائل من أسلم على وجه الأرض، وصحب الرسول عليه الصلاة والسلام في كل المواطن، وكان هو الوحيد الذي ذهب معه إلى الطائف، والله كأني أراه وهو يدافع بكل ما أوتي من قوة عن حبيبه صلى الله عليه وسلم، حتى شج رأسه وسالت دماؤه غزيرة رضي الله عنه وأرضاه، هجرة وجهاد ودعوة وعبادة وقيادة وتجرد. رأيناه في العام السادس من الهجرة يقود السرايا تلو السرايا في جرأة عجيبة وثبات ناجح، وكأنه يعد لهذا اليوم العظيم، يوم أن يلقى ربه شهيداً مقبلاً غير مدبر، فهذه أسعد لحظة مرت عليه منذ خلق. وحمل الراية بطل جديد، إنه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا البطل الشاب المجاهد كان عمره أربعين سنة، وكان قد قضى معظم هذه السنوات في الإسلام، أسلم في أوائل أيام الدعوة، وقضى ما يقرب من خمس عشرة سنة في بلاد الحبشة مهاجراً بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ورجع من الحبشة إلى المدينة المنورة في محرم سنة سبع، وعند وصوله وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إلى خيبر فخرج من فوره إلى خيبر ليجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها رغبة حقيقية صادقة في البذل والتضحية. لقد حمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة، وقاتل رضي الله عنه قتالاً لم ير مثله، وأكثر الطعن في الرومان، ثم تكالبوا عليه، وكان يحمل راية المسلمين كما ذكرنا، فقطعوا يمينه رضي الله عنه وأرضاه فحمل الراية بشماله لكي لا تسقط، فقطعوا شماله رضي الله عنه، فاحتضنها بعضديه قبل أن يسقط شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث ألا وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما جاء في البخاري: وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين ما بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره، أي: ليس منها شيء في ظهره. فهو لم يفر ولو للحظة واحدة رضي الله عنه وأرضاه، بل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها بل يطير. روى الحاكم والطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً في الجنة، مضرجة قوادمه بالدماء، يطير في الجنة). وروى البخاري أيضاً: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا حيا ابن جعفر رضي الله عنه قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. رضي الله عنه وأرضاه، فربنا سبحانه وتعالى أبدل جعفر بن أبي طالب جناحاً بدلاً من يديه اللتين قطعتا في سبيل الله عز وجل. إنها حياة جهادية طويلة جداً والمكافأة الجنة. ثم حمل الراية عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات السابقة، وجاهد -كما ذكرنا- بسيفه وبلسانه، وهو الذي كان يحمس المسلمين لأخذ قرار الحرب، وهو الذي كان يتمنى ألا يعود إلى المدينة، بل يقتل شهيداً في أرض الشام، حمل الراية وقاتل قتالاً عظيماً مجيداً حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه. ما تردد أبداً كما أشيع عنه رضي الله عنه، وكيف يتردد من يدفع الناس دفعاً للقتال، كيف يتردد من يحمس الناس على طلب الشهادة؟ كيف يتردد من يثق به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعله على قيادة هذا الجيش الكبير؟ كيف يتردد من شهد له صلى الله عليه وسلم أنه شهيد، ومن دعا له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالثبات؟ وهذا التردد الذي أشيع عنه لم يتفق عليه عامة أهل السير، لم ينقله الكثير من كتاب السيرة، لم ينقله موسى بن عقبة في مغازيه، ولم ينقله ا

خطة خالد بن الوليد في تدبير أمر الجيش في معركة مؤتة

خطة خالد بن الوليد في تدبير أمر الجيش في معركة مؤتة بدأ خالد بن الوليد بتنفيذ خطة بارعة عبقرية للوصول بالجيش إلى بر الأمان، وهذه الخطة لها هدف واضح، الهدف هو إشعار الرومان أن هناك مدداً كبيراً قد جاء للمسلمين؛ حتى يدخل جنود الرومان والعرب المتحالفين معهم الإحباط والخوف والذعر، فهم بصعوبة بالغة صمدوا أمام ثلاثة آلاف مجاهد في اليوم الأول، فكيف إذا جاءهم مدد؟ فماذا عمل خالد بن الوليد حتى يخيف ويرهب الجيش الروماني العربي الذي أمامه؟ أولاً: جعل الخيل أثناء الليل تجري في أرض المعركة، لتثير الغبار الكثير، فيخيل للرومان أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين في الليل. ثانياً: غير من ترتيب الجيش، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة، فلما رأى الرومان هذه الأمور في الصباح، رأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيرت أيقنوا أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين فهبطت معنوياتهم تماماً. ثالثاً: جعل في آخر الجيش على بعد كثير من الجيش على أحد التلال مجموعة من الجنود المسلمين منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم دور إلا إثارة الغبار لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي المسلمين. رابعاً: بدأ خالد بن الوليد في اليوم الثاني من المعركة يتراجع تدريجياً بجيشه إلى عمق الصحراء، فظن الرومان أن خالد بن الوليد يسحبهم ويستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فترددوا في متابعته، ووقفوا على أرض مؤتة يشاهدون انسحاب خالد دون أن يجرءوا على مهاجمته أو على متابعته. وبالفعل نجح مراد خالد بن الوليد وسحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء، ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالماً.

أقوال العلماء في نتائج معركة مؤتة وبيان الراجح منها

أقوال العلماء في نتائج معركة مؤتة وبيان الراجح منها لنا مع هذا الموقف وقفات: هل كانت موقعة مؤتة هزيمة للمسلمين أم كانت نصراً للمسلمين؟ هل كانت مجرد انسحاب ناجح؛ لكونه أفضل النتائج التي يمكن أن نتوقعها في مثل هذه الظروف، أم أنها كانت نصراً جليلاً للمسلمين وهزيمة منكرة للرومان؟ تباينت آراء المحللين القدامى والمحدثين حول هذه المعركة، تباينت تبايناً عظيماً فعلاً، فمنهم من رأى أن المعركة كانت انتصاراً للمسلمين، وممن يرى هذا الرأي موسى بن عقبة والزهري والواقدي، ورجح ذلك البيهقي وابن كثير فهؤلاء جميعاً رأوا أن المسلمين انتصروا انتصاراً جليلاً في موقعة مؤتة. ومن العلماء من عدها هزيمة منكرة للمسلمين كما أشار إلى ذلك ابن سعد في طبقاته. ومنهم من قال: إن كل فئة قد انحازت عن الأخرى، يعني: هناك تعادل بين الكفتين، مال إلى هذا ابن إسحاق في سيرته، وابن القيم في زاد المعاد. والحقيقة أني أميل وبشدة مع الرأي الأول القائل بأن هذا كان انتصاراً حقيقياً للمسلمين، وعندي على هذا الكلام أدلة كثيرة: أولاً: ما جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه يحكي عن معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخبر أصحابه عن نبأ أهل مؤتة قبل أن يعودوا إلى المدينة المنورة، قال صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب. يقول أنس: وعيناه تذرفان) يعني: يبكي صلى الله عليه وسلم على استشهاد الثلاثة، وكانوا جميعاً من أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه)، وكلمة: (حتى فتح الله عليه) هذه لا تحتمل معاني كثيرة، وإنما تحمل معنى النصر والفتح والعلو، فالله عز وجل لا يفتح عليهم بمجرد الانسحاب، لكن الواضح أن المسلمين فتح الله عليهم بالنصر. ثم قرر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه أن ينسحب وأن يكتفي بهذا الانتصار دون محاولة متابعة الجيش الروماني؛ لأن خالد بن الوليد كان واقعياً جداً إلى أبعد درجة، فهو علم أنه لا يستطيع أن يتوغل في أرض الروم بهذا الجيش الإسلامي الصغير، فكان هذا فتحاً من الله عز وجل على المسلمين كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يذكر أنهم انسحبوا فقط دون انتصار لقال كلمة تدل على هذا المعنى، كأن يقول: حتى أنجاهم الله، أو نحو ذلك من الكلمات، وهو صلى الله عليه وسلم أبلغ البشر وأوتي جوامع الكلام، ويستطيع أن يصف بكلمة واحدة الحدث تماماً كما تم في أرض مؤتة: (حتى فتح الله عليه). الدليل الثاني: روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، وكذلك النسائي والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه قبل أن يعود أهل مؤتة إلى المدينة: ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا حتى لقوا العدو فأصيب زيد شهيداً فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيداً فاشهدوا له بالشهادة واستغفروا له، فاستغفر الناس له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى أصيب شهيداً فاستغفروا له) هذه الرواية صحيحة تشهد لـ عبد الله بن رواحة بالثبات وتشهد له بالشهادة. (فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه وقال: اللهم هو سيف من سيوفك فانصره)، يقول عبد الرحمن بن مهدي أحد رواة الحديث وهو شيخ الإمام أحمد بن حنبل: فانتصر به. هذا دعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام لسيف الله المسلول خالد وللجيش الإسلامي بالنصر، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب، وهذا الحديث من معجزاته، فهو يخبر به عن الغيب، ومحال أن يتحقق خلاف ما ذكره صلى الله عليه وسلم للصحابة، فهو ذكره على سبيل الحجة الدامغة لنبوته صلى الله عليه وسلم والحجة الدائمة لإنبائه بالغيب، فحين يدعو فيه بالنصر فلا بد أن يحصل النصر، وهذا صريح في هذه الرواية وهي صحيحة. الدليل الثالث: كم عدد شهداء المسلمين في هذه الموقعة الطاحنة؟ رقم لا يتصوره أحد مطلقاً، إنهم اثنا عشر شهيداً فقط، منهم الأمراء الثلاثة، وفي حرب مع مائتي ألف ولم يقتل ويستشهد سوى اثني عشر رجلاً، دليل دامغ على انتصار المسلمين؛ لأن الجيش المهزوم مستحيل أن يقتل منه غير اثني عشر رجلاً فقط، بينما خسر الرومان أضعاف ذلك، ويكفي مَنْ قتلهم خالد بن الوليد

الطريق إلى مكة

سلسلة السيرة النبوية_الطريق إلى مكة هناك أحداث كثيرة هيأت للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتح مكة، من أهمها اعتداء بني بكر على قبيلة خزاعة المحالفة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاونة قريش لبني بكر، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن اتخذ القرار لفتح مكة؛ اغتناماً لهذه الفرصة السانحة بنقض قريش عهدها بمعاونتها لبني بكر.

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من قبيلة قضاعة التي اعتدت على أصحابه رضي الله عنهم

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من قبيلة قضاعة التي اعتدت على أصحابه رضي الله عنهم أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية: العهد المدني، فترة الفتح والتمكين. حديثنا اليوم عن حدث من أعظم الأحداث في تاريخ الأرض مطلقاً، وهذا الحدث يعتبر لحظة فارقة فرق بين مرحلة ومرحلة أخرى مختلفة تماماً عن المرحلة التي سبقت، وله تداعيات كبيرة جداً، ليس فقط في الجزيرة العربية ولكن في العالم، وليس فقط في زمانه ولكن إلى زماننا الآن. هذا الحدث العظيم الكبير: هو فتح مكة. ولا شك أن هناك أحداثاً كثيرة جداً قادت إلى هذا الفتح العظيم، ومقدمات طويلة، وستكون -إن شاء الله- هذه المقدمات هي موضوع درس اليوم. لكن قبل أن نبدأ في هذه التفصيلات نريد أن نكمل نقطة هامة تحدثنا عنها في الدرس السابق ولم نتناولها بالشرح والتفصيل. هذه النقطة: هي أنه في بداية العام الثامن من الهجرة حدثت مشكلتان كبيرتان للأمة الإسلامية: المشكلة الأولى: هي قتل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه وأرضاه سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم لعظيم بصرى، والذي قتله شرحبيل بن عمرو الغساني. وهذه المشكلة كان من جرائها أن أخرج صلى الله عليه وسلم جيشاً كبيراً، وهو الجيش الذي دخل في معركة مؤتة بقيادة الأمراء الثلاثة: زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة كما فصّلنا في الدرس السابق، وكان من ورائه النصر العظيم الذي تم في موقعة مؤتة، وبذلك تقريباً انتهت مشكلة قتل الحارث بن عمير، واستعادت الأمة الإسلامية هيبتها إلى حد كبير، ذاع صيتها ليس فقط في أرض مؤتة ولكن في الجزيرة بكاملها. المشكلة الثانية: حدثت هذه المشكلة في وقت متزامن مع مقتل الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وهي مشكلة اعتداء قبائل قضاعة على مجموعة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا (15) رجلاً من الصحابة، وقتلوا منهم (14) رجلاً، وعاد رجل واحد منهم إلى المدينة المنورة وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بتفاصيل الخيانة التي قامت بها قضاعة مع صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقف وقفة جادة مع قبيلة قضاعة؛ لكي لا تهتز صورة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية. وبالفعل قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث جيشاً كبيراً إلى مناطق قضاعة، وكان هذا بمجرد عودة الجيش الإسلامي من مؤتة إلى المدينة المنورة، ومؤتة وقعت في جمادى الأولى سنة (8) هـ والرسول عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة سنة (8) هـ بعث الجيش الثاني إلى قبائل قضاعة. والمنطقة التي تعيش فيها قضاعة كان اسمها السلاسل، وهي عبارة عن ماء أو عين أو بئر اسمه السلاسل، وسميت المنطقة بكاملها بذات السلاسل، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة ذات السلاسل.

سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لقيادة الجيش في غزوة ذات السلاسل

سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لقيادة الجيش في غزوة ذات السلاسل من سيختار النبي صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش الهام الذي سيخرج لحرب قبيلة كبيرة قوية وهي قبيلة قضاعة، وعلى مسافة كبيرة من المدينة المنورة شمال الجزيرة العربية، وليس لها مدد، ولها ظروف صعبة كظروف موقعة مؤتة؟ اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش شخصية قد يعجز الكثيرون عن اختيارها، وعندما تأتي لتحلل هذا الاختيار ستجد أنه اختيار في منتهى الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وعمرو بن العاص لم يكن قد مر على إسلامه إلا شهور قليلة جداً، فقد أسلم في صفر سنة (8) هـ، لم يمر على إسلامه سوى ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم اختير ليكون قائداً للجيش الهام في حرب عظيمة للمسلمين. اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لتأليف قلبه؛ لأن عمرو بن العاص شخصية محورية جداً في مكة المكرمة، وانضمامه إلى المعسكر المسلم وإلى جيش المدينة المنورة يعتبر إضافة كبيرة جداً لا بد أن يحافظ عليها المسلمون قدر المستطاع, وعمرو بن العاص له تاريخ طويل جداً في العداء مع المسلمين، من أوائل أيام مكة، ومروراً بسفره إلى الحبشة لإعادة المسلمين المهاجرين من هناك إلى مكة المكرمة، ثم خروجه بعد ذلك في مراحل متعددة من القتال التي دارت مع المسلمين، وعمرو بن العاص في ذلك الوقت شخصية ليست فقط كبيرة في المقام، ولكن أيضاً كبيرة في السن، فقد كان عمره وقت إسلامه (57) سنة، أي: أنها شخصية من كبار قادة قريش ومن دهاة العرب، فلا بد أن يُحفظ له مكانه في داخل الدولة الإسلامية؛ لكي يستمر في المسيرة معها. ورأينا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظّم من قدر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما استلم القيادة في غزوة مؤتة، وسماه سيف الله المسلول، ورُفع قدره جداً في الدولة الإسلامية، ولا شك أن أقدام خالد بن الوليد رضي الله عنه كانت أثبت بعد موقعة مؤتة عنها قبل موقعة مؤتة، وله دور وضع في الدولة الإسلامية، والناس بصفة عامة تنظر إليه على أنه قد حقق نصراً مهيباً، وأصبحت له مكانة جميلة تثبت أقدامه إن شاء الله. كذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، يعطيه قيادة جيش فيحقق انتصاراً فتصبح له مكانة في داخل الدولة الإسلامية، ومن ثم تثبت أقدامه، ليس هذا فقط، فإن هناك شيئاً مهماً جداً يعبر عن مدى عمق النظرة للرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أن أم عمرو بن العاص من قبيلة قضاعة، وذهاب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وأمه من نفس القبيلة يُعطي بعداً هاماً جداً في القتال، فقد يتألف قلوب هؤلاء القوم، وهم عندما يجدون على رأس الجيش الذي أتى أن أمه منهم قد يحدث بينهم حوار ومفاوضات للقبول بفكرة الإسلام، ولا يأخذهم الكبر والعناد والفجور في الخصام، فتزداد الهوة بينهم وبين الإسلام. والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلمون كان دائماً يقرب قلوب الناس للإسلام، وكان إسلام الناس أحب إليه من أموالهم. وأيضاً كون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من قضاعة فمن المؤكد أن عمرو بن العاص قد ذهب إلى قضاعة أكثر من مرة، فهو أعرف بديار قضاعة ومساكن قضاعة، والطرق والدروب التي تؤدي إلى هناك أكثر من بقية الصحابة. فاختياره عسكرياً؛ لأنه عبقرية عسكرية، وقيادة فذة، واختياره دعوياً مهم جداً؛ لأنه سوف يؤلّف قلوب قضاعة أكثر من غيره، وفي نفس الوقت هو أعلم بالطريق من غيره. إذاً: كل هذه الأمور تجعل اختيار عمرو بن العاص لهذه المهمة خاصة في منتهى الحكمة. روى ابن حبان والحاكم وأحمد بسند صحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلغ عمرو بن العاص بهذه المهمة العظيمة فأرسل إليه ثم قال له: (خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني، قال عمرو بن العاص: فأتيته وهو يتوضأ صلى الله عليه وسلم، فصعّد فيّ النظر ثم طأطأ، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلّمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة) أي: أنك ستذهب إلى هذه الموقعة وبإذن الله ستنتصر فيها، وستكون لك غنائم فيكثر مالك، وتقسم أربعة أخماس الغنائم على الجيش، فقال عمرو بن العاص واستمع إلى كلامه رضي الله عنه وأرضاه وهو يقول هذه الكلمات أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان الكلام غير سليم فإن الوحي سوف يخبره بذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل منه هذه الكلمات، قال عمرو: (يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وه

عبقرية عمرو بن العاص في قيادة الجيوش

عبقرية عمرو بن العاص في قيادة الجيوش خرج عمرو بن العاص بالجيش ومن أول لحظات الخروج ظهرت عبقريته رضي الله عنه في الحروب، من أول الطريق قرر أن يسير بالمسلمين ليلاً ويكمن نهاراً، حتى لا ترصده عيون العدو إن كانت على الطريق. وبالفعل وصل جيشه دون أن تدري عيون قضاعة أنه قد جاء إليهم، وبدأ أيضاً بعبقرية واضحة وبحكمة عسكرية لافتة للنظر يبث العيون هنا وهناك، حتى يستطلع أعداد العدو، فوجد أن أعداد العدو كبيرة، وعلم رضي الله عنه وأرضاه أن طاقته هذه الصغيرة ستكون غير قادرة على مواجهة هذه الأعداد الكبيرة من قضاعة، وفي الحقيقة كان عمرو بن العاص في منتهى الواقعية، وما كان يندفع أبداً بجيشه إلا بعد دراسة متأنية، ولم يكن متهوراً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه، وسنجد هذا الكلام كثيراً جداً في فتوح عمرو بن العاص في فلسطين وفي مصر، ما كان يندفع إلا بدراسة حقيقية للواقع الذي هو مقبل عليه. وجد رضي الله عنه أن أعداد قضاعة كبيرة فأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أنني أحتاج إلى مدد، وأمر الجيش الإسلامي ألا يقاتل حتى يأتيه المدد، وبالفعل أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليه (200) من الصحابة من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، على رأس هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة، ومن السابقين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وله تاريخ طويل جداً مع المسلمين، وتحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح عدد كبير جداً من السابقين، في مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكفى بهما، ومعظم المائتين من السابقين، وكلهم على هذا المستوى الراقي جداً، قدم في الخبرة والتاريخ والإسلام وسبق في أشياء كثيرة جداً، فهؤلاء كانوا مدداً لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه. فعندما وصلوا إلى هناك انضم المائتان إلى الثلاثمائة وأصبح الجيش كله (500)، لكن من هو أمير هذا الجيش؟ عندما أرادوا أن يصلوا الفريضة تقدم أبو عبيدة بن الجراح ليؤم الناس، وكان من المعروف أن قائد الجيش هو الذي يؤم الناس، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه اعتبر أنه هو الأمير؛ لأنه جاء على رأس (200) من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم، وفيهم أبو بكر وعمر، فتقدم أبو عبيدة ليؤم الصفوف، ولكن عمرو بن العاص تقدم وقال: إنما قدمت عليّ مدداً لي، وليس لك أن تؤمني وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إليّ مدداً، وعمرو بن العاص لا يزال حديث عهد بالإسلام، لكنه كما ذكرنا كان كبيراً في السن عمره (57) سنة، أي: أنه أكبر من أبي عبيدة بن الجراح بعشر سنوات كاملة تقريباً، وله تاريخ عسكري معروف، ومن فرسان قريش ومن دهاة العرب، وأيضاً أبو عبيدة بن الجراح له مكانة كبيرة جداً عند الصحابة، وتاريخ طويل جداً كما ذكرنا، لكن عمرو بن العاص رأى أنه أحق بالإمارة، ليس لكونه فقط عسكرياً وعبقرياً في إدارة الجيوش وما إلى ذلك؛ ولكن لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وضعه على إمارة الجيش الأصلي، فله حجة، وعادة الصحابة أنهم ما كانوا يتنازعون الإمارة بهذه الصورة، ومن الواضح أنه لا يزال جديداً في الإسلام، فعرض هذا الكلام فقال: المهاجرون، والمهاجرون كانوا يميلون إلى أبي عبيدة بن الجراح، وأبو عبيدة رجل حيي جداً فاستحى أن يتكلم عن نفسه، فتكلم المهاجرون فقالوا: كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه. يعني: إذا كنا سنختلف في الأمير، فيكون عمرو بن العاص أمير الثلاثمائة الأوائل، وأبو عبيدة بن الجراح أمير المائتين الذين أتوا مدداً، لكن لا ينبغي أن يكون للجيش الواحد قائدان. فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان أبو عبيدة لين الطبع جداً، فخاطب عمرو بن العاص وقال له كلمات جميلة جداً تعبّر عن عمق فهم أبي عبيدة بن الجراح لقضية الإمارة في الإسلام، قال له: (لتطمئن يا عمرو! وتعلمن أن آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك)، فأطاع أبو عبيدة وكان عمرو بن العاص يصلي بالصحابة وهم (500) شخص، فيهم أبو عبيدة وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وفيهم الكثير والكثير من المهاجرين والأنصار، وكان الجميع يصلي وراء عمرو بن العاص حديث الإسلام الذي لم يسلم إلا منذ أربعة أشهر. هذه صورة حضارية رائعة في تاريخ المسلمين، وم

إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ملك عمان وأخيه لدعوتهما إلى الإسلام

إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ملك عمان وأخيه لدعوتهما إلى الإسلام بعد غزوة ذات السلاسل ارتفعت ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم جداً بصدق وذكاء وأمانة وقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأرسله صلى الله عليه وسلم إلى مهمة أخرى عظيمة جداً، وهي مهمة السفارة إلى دولة عمان، وكانت عمان دولة مشركة في ذلك الوقت، وكان يحكمها رجل اسمه جيفر وأخوه عباد، والاثنان كانت لهما سيطرة على منطقة واسعة من الأراضي في عمان وما حولها، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إليهما يدعوهما إلى الإسلام وإلى الانضمام إلى الدولة الإسلامية. وبعد حوار طويل مع جيفر وعباد وبحكمة شديدة وذكاء شديد من عمرو بن العاص رضي الله عنه استطاع أن يقنع عباداً وجيفراً بالإسلام وبالفعل أسلما، بل وأسلم شعبهما بالكامل، ودخلت دولة عمان بكاملها في دولة المسلمين، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم فقط بجعل عمرو بن العاص سفيراً منه إلى جيفر وعباد، بل عينه جامعاً للزكاة هناك، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في بلاد عمان، مع تثبيت جيفر وعباد على زعامة البلاد، يعني: وثق الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرو رضي الله عنه، وجعله جامعاً للزكاة من تلك البلاد، ولم يكن من السهل أبداً أن يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بولاية إنسان إلا إذا اطمأن تماماً إلى دينه وإلى كفاءته رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين. فهذه هي قصة عمرو بن العاص في بداية إسلامه. إذاً: كان الوضع الإسلامي في أوائل رجب سنة (8) هـ في غاية الاستقرار، وفي رهبة وهيبة، وفي انتصارات متكررة، وفي صورة جديدة جداً لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية. هذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة، وستبدأ الآن فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي كما ذكرت في أول هذه المحاضرة مقدمات فتح مكة. عندما نأتي لنتكلم عن فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة يعتبر لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحاً، فانتصار المسلمين على أهل خيبر كان فتحاً، وعلى الرومان في مؤتة كان فتحاً، وعلى المشركين في بدر كان فتحاً، فكل هذه كانت فتوحات من رب العالمين، لكن إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، وهو أمر ليس بعده شيء آخر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) يعني: قبل الفتح يمكن للناس أن تهاجر إلى المدينة المنورة، وبعد الفتح انتهت الهجرة، ولكن جهاد ونية، يقول الله سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] أي: أن ما كان قبل الفتح شيء وما كان بعد الفتح شيء، فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر. ما معنى الفتح؟ معناه: التمكين لدين رب العالمين سبحانه وتعالى، ومعناه: النصر والسيادة والعلو في الأرض.

سنن التغيير والنصر والتمكين المستنبطة من فتح مكة

سنن التغيير والنصر والتمكين المستنبطة من فتح مكة أنا أريد أن أستغل هذا الحدث لأتكلم معكم عن بعض سنن التغيير وسنن النصر والتمكين في الأرض، وجميعها سنستخلصها من فتح مكة.

حكمة الله تعالى في تقدير الأمور بأزمانها

حكمة الله تعالى في تقدير الأمور بأزمانها السنَّةُ الأولى: هو أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده، وانظروا مرت (21) سنة من أصل (23) سنة من عمر البعثة بكاملها واللات والعزى ومناة وهبل تعبد من دون الله عز وجل في داخل مكة المكرمة. البعض كان يتمنى ويقول: يا ليت مكة فُتحت مبكراً، والرسول صلى الله عليه وسلم حكم الدولة الإسلامية الواسعة فترة طويلة من الزمان؛ لنرى فعله وحكمه وأثره صلى الله عليه وسلم على العالمين وهو ممكن في الأرض، لكن لو حدث هذا فقد تكون مخالفة للسنة الإلهية، فهذا لا يكون أبداً: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]. فرب العالمين سبحانه كان قادراً أن يفتح مكة من أول لحظات الدعوة، وأن يجعل أهل مكة جميعاً مؤمنين من أول لحظات الدعوة، وعلى الأقل بعد سنة أو سنتين من بناء الدولة في المدينة المنورة، لكن هذا الانتظار الطويل؛ لكي نعلم جميعاً أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده. وهذا الموضوع في الحقيقة يحتاج إلى محاضرة خاصة، إن شاء الله سنفرد له محاضرة بعنوان: استعجال النصر، وسنتكلم فيها عن مشكلة العجلة التي عند المسلمين في رؤية التمكين والسيادة لدين الله عز وجل في الأرض. وتغيير المنكر يحتاج إلى وقت وإلى حكمة ويحتاج إلى تدرج، وهكذا رأينا في السيرة النبوية، وهذه أول سنة من السنن الثوابت.

مجيء التغيير والنصر والتمكين للمسلمين من حيث لا يحتسبون

مجيء التغيير والنصر والتمكين للمسلمين من حيث لا يحتسبون السنة الثانية: يأتي التغيير ويأتي النصر ويأتي التمكين من حيث لا يحتسب المسلمون، أي: أنه لو راود المسلمين حلم أن يفتحوا مكة كيف سيفكّرون في هذا الأمر؟ من المؤكد أنهم سيضعون سيناريو لهذا الأمر، ولو وضع المسلمون ألف سيناريو للتغيير ولفتح مكة سيأتي التغيير بالسيناريو رقم (1001). أي: أن هناك سيناريوهات متوقعة لكي نفتح مكة، مثلاً: أن تخالف قريش عن طريق غزوها المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو تحاول قريش قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تتعدى قريش على قافلة إسلامية، أو تنتهي السنوات العشر سنوات الهدنة فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة! فهناك افتراضات كثيرة جداً، لكن لم يحدث الفتح بأي أمر من هذه الأمور، ولا بأي شيء خطر على ذهن أي مسلم، لكن حصل شيء غريب جداً وهو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى فتم الفتح للمؤمنين، سبحان الله ما علاقة هذا بهذا؟! إذاً: هذا الذي حصل فعلاً في فتح مكة، ولنأتي لنراجع الأحداث: في صلح الحديبية كان من بنود الصلح البند الثالث في الصلح هو: أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين انضمت، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش انضمت، فبعد انتهاء المعاهدة دخلت خزاعة في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وهذا الدخول لهاتين القبيلتين في قضية المعاهدة هو الذي كان سبباً في فتح مكة المكرمة، أي: أن القضية كانت بين المسلمين وبين قريش، فخزاعة وبنو بكر ليس لهما أي دخل في القضية، ومع ذلك دخولهما في الحلف المعاهدة هو الذي سيؤدي للفتح كما سنرى. ودخول خزاعة في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام أمر يحتاج إلى وقفة؛ لأن الله سبحانه وتعالى دفع خزاعة دفعاً للدخول في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وخزاعة قبيلة مشركة، نعم هناك علاقات قديمة حميمة بين خزاعة وبين بني هاشم، لكن كان من المتوقع أن تدخل خزاعة في حلف المشركين من بني هاشم، وليس في حلف المسلمين من بني هاشم؛ لأن خزاعة مشركة دينها كدين قريش، فلماذا تترك بني هاشم المشركة وتتحالف مع بني هاشم المسلمة المتمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذا أمر عجيب فعلاً! وهذا الدخول العجيب لخزاعة مع حلف المسلمين هو الذي سيؤدي بعد ذلك إلى نتائج كبيرة جداً منها فتح مكة. وعندما نراجع قصة القبيلتين اللتين دخلتا في المعاهدة نجد أن قبيلة بني بكر وقبيلة خزاعة كان بينهما ثأر قديم، ولعل هذا الثأر هو الذي دفع بني بكر إلى الدخول في حلف قريش، فعندما دخلت خزاعة في حلف المسلمين دخلت بنو بكر في الحلف المعاكس؛ لتكون ضد خزاعة، مع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش ليست على أفضل ما يكون، بدليل أن قريشاً عندما خرجت من مكة المكرمة لحرب المسلمين في موقعة بدر كانت تخشى من غزو بني بكر لمكة المكرمة، ثم ظهر لهم الشيطان في صورة سراقة بن مالك يقول لهم: إني جار لكم من كنانة، وكنانة تشمل بني بكر، فالقصة معقدة جداً، وأحداث القصة فعلاً لا يمكن أن تفسر إلا أن الله عز وجل أراد لها أن تتم على هذه الصورة. ومع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش معقدة إلا أنها دخلت في حلفها، وخزاعة مع أنها مشركة إلا أنها دخلت في حلف المسلمين، وهذا سيؤدي إلى شيء معين كما سنرى. وبنو بكر التي نتحدث عنها ليست قبيلة بني بكر بن وائل المشهورة؛ لأن بني بكر بن وائل هذه هي قبيلة من قبائل ربيعة، بينما بنو بكر التي نتحدث عنها هي بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهي من مضر. وكان بين بني بكر وبين خزاعة خلاف قديم جداً وثأر طويل، وهناك ضحايا قتلتهم خزاعة من بني بكر، وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة، فأرادت أن تنتقم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة وقتلت منهم رجالاً بعد صلح الحديبية، ومعلوم بعد المعاهدة أن من أغار على خزاعة فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة هذا نقض صريح لمعاهدة صلح الحديبية التي بينها وبين المسلمين. ولو أن بني بكر أغارت على خزاعة قبل الحديبية لما أحدث ذلك أي نفع للمسلمين؛ لأن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى ولا دخل للمسلمين، ولو أن هذا الأمر حدث بعد الحديبية مباشرة لعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو فتحها، ولو ضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف لما مُهّد الطريق للفتح، ولو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر واعتذرت للمسلمين لكان الموقف قابلاً للحل السلمي، ولكنَّ قريشاً أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهور عجيب. ولعل الموقف هذا لو تكرر ألف مرة مع قريش لن تأخذ هذا الرأي، ولن تعمل هذا العمل، لكنها مدفوعة لذلك من رب العالمين سبحانه وتعالى، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]. فهجمت بنو بكر على خزاعة، وخزاعة غير مستعدة للقتال؛ لأن صلح الحديبية فيه هدنة والحرب موضوع

مجيء النصر والتمكين للمسلمين من حيث يكرهون

مجيء النصر والتمكين للمسلمين من حيث يكرهون السنة الثالثة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، بل يأتي من حيث يكرهون. وهذا غريب جداً، لكنه متكرر حتى صار سنة، فـ طالوت رحمه الله ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن جعل الله عز وجل النصر في هذا اللقاء، كذلك كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله عز وجل فيه النصر، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5] فكان يوم الفرقان. وكره المسلمون تحزب الأحزاب حول المدينة قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] لكن كان فيه خير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا). وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: (لم نُعط الدنية في ديننا؟)، وكان فيه الخير كل الخير، وقد رأينا تفصيلات الخير الذي تلا صلح الحديبية. وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم وحبيبهم الحارث بن عمير رضي الله عنه سفير الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عظيم بصرى، ولكن كان من وراء هذا القتل انتصار مؤتة. كذلك في قصتنا الآن كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، لا شك أنهم كرهوه، لا شك أنهم يريدون الهدنة أن تمتد عشر سنوات وأكثر؛ لأنهم رأوا في أقل من السنتين خيرات كثيرة جداً، فكيف إذا امتد الأمر لأكثر من ذلك؟ رأوا أعداد المسلمين تتزايد بكثرة في زمن الهدنة والأمن وغياب الحرب، لكن الآن بعد هذا النقض قد تحدث حرب وقد يحدث اضطراب وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، ويمكن أن تحدث مشاكل لا حصر لها. ونحن نكره القتال الآن، ولا نريد أن يحدث أي حرب في هذا الوقت، ونحب الهدنة، لكن أن يحدث ما نكره قصراً ورغماً عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين من خلال الحدث الذي نكرهه هذا أمر عجب!! لماذا هذه السُّنة؟ لماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ لماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟ لهذه السنة هدف واضح جداً، وهذا الهدف هو أن الله عز وجل لا يريد لنا أن نُفتن بنصرنا، ولا يريد لنا أن نعتقد أن النصر إنما جاء لحسن تدبيرنا، ولدقة خطتنا، ولبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا، وحتى لا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي سبحانه وتعالى، لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل ومن حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله عز وجل، ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت. وهذا ليس معناه أننا لا نخطط أبداً، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقاً، لا بد أن تضع ألف خطة جادة لتحقيق النصر؛ لأن النصر سيأتي بالخطة رقم (1001) كما تقدم، أي: يأتي النصر بالخطة التي لم تخططها. فالألف خطة هذه مطلوبة لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب، ولتكون مستحقاً لرضا رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن ثم تستحق نصر الله عز وجل، لكن النصر يأتي بالخطة التي لم تحسب لها حساباً؛ لكي تعود بالفضل في النهاية لله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] النصر نصر الله عز وجل، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]. كيف سيكون رد المسلمين في حالة رؤيتهم للفتح والنصر؟ وضح لنا سبحانه وتعالى في هذه السورة القصيرة المعجزة سورة النصر أن على المسلمين عند رؤية النصر عمل شيئين: أولاً: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] يعني: سبح بحمد ربك الذي نصرك والذي أيدك بقوته، والذي مكّن لك في الأرض. ثانياً: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] يعني: تأتي بالاستغفار بعد النصر والتمكين، لاحتمال أن يكون قد دخل في روعك أنك قد انتصرت بقدرتك وبقوتك وبتخطيطك وبتدبيرك، تقول: أنا فعلت كذا، أنا خططت، وأنا دبّرت!! فاستغفر من هذا الأمر؛ لأن الله عز وجل هو الذي فعل، وسوف نفهم بعد هذا كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وهو في حالة شديدة من التواضع؛ لئلا يُفهم أنه قد فعل ذلك بقدرته البشرية، لكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين والنصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له سبحانه وتعالى. إذاً: يأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدّعي مدع أنه انتصر بقوته، ولكن يُنسب الفضل والنصر لله عز وجل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].

طول فترة الإعداد وقصر فترة التمكين

طول فترة الإعداد وقصر فترة التمكين السنة الرابعة: وهذه السنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، لكن التدبر في هذه السنة سيثبت إن شاء الله عكس ذلك. فالسنة الرابعة أن فترة الإعداد طويلة جداً للدولة الإسلامية؛ لأجل أن نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، لكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة جداً. فقد كان الإعداد لفتح مكة والتمكين كما في السيرة مدة (21) سنة كاملة، فأول البعثة كان في رمضان قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، والفتح كان في رمضان بعد الهجرة بثمان سنين. وفترة التمكين سنتان ونصف، من فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام حدثت الردة، وانتهى التمكين. فترة الإعداد (21) سنة من أصل (23) سنة، سنتان ونصف، يعني (89%) من فترة السيرة، ولتكن (90%)، وفترة التمكين (10%) فقط. ولتراجع معي قصص التمكين في القرآن الكريم التي سبقت الرسول عليه الصلاة والسلام، لتراجع قصة نوح عليه السلام وفترة الدعوة إلى الله كم ظل يدعو الناس؟ (950) سنة، (1000) سنة إلا (50) عاماً، وفترة التمكين يسيرة جداً وقصيرة جداً. هود وصالح كذلك عليهم السلام جميعاً. وموسى عليه السلام ظل في فترة إعداد طويلة جداً، إعداد له شخصياً، ولبني إسرائيل فترة تعذيب وتشريد واضطهاد طويلة جداً، وبعد ذلك فترة التمكين قصيرة. هذا أمر متكرر جداً سواء قبل الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، راجع قصة صلاح الدين الأيوبي حوالي (80) أو (90) سنة إعداد، وفترة التمكين (15) أو (20) سنة على الأكثر. وبعد موقعة الزلاقة والتمكين الكبير لدولة المرابطين في الأرض، إعداد طويل جداً حوالي (60) سنة ثم التمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان. هذا الكلام يحتاج إلى وقفة، لماذا تستمر فترة التمكين لمدة قصيرة بينما يكون الإعداد طويلاً جداً؟ هذا من أجل سببين رئيسيين: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين، الوضع الاقتصادي جيد، والأوضاع الاجتماعية كذلك تتحسن، فالدنيا كلها تنفتح على المسلمين فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع في زمن التمكين على المال والسلطان. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المسلمين من هذا الأمر، وذكرنا أكثر من مرة هذا الحديث لخطورته وأهميته في تكوين الدولة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم)، بينما في أثناء فترة الإعداد لا توجد دنيا عندها ولا توجد فتنة، لكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعاً، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، والقليل جداً من الأمة الذي لا يقع في هذه الفتنة. إذاً: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين، والتصارع بين المسلمين على المال والسلطان. السبب الثاني: عدد هائل من البشر سيدخل الإسلام لقوته لا اقتناعاً بمبادئه. في زمن التمكين يرى الناس الدولة قوية وممكنة في الأرض، فينضم الجميع إلى هذه الدولة، المقتنع وغير المقتنع بالمبادئ الإسلامية، هذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت، وتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة جداً، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع للتربية كما خضع لها الأولون، وإنما أخذت قسطاً يسيراً جداً من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعاً فيختفي التمكين، وانظر إلى أعداد المسلمين بعد إعداد (19) سنة، فقد كان العدد (1400) مؤمن في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر زاد العدد، وفي فتح مكة بعد أقل من سنتين من الصلح وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف رجل، وبعد فتح مكة بسنة واحدة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، العشرة آلاف الذين أتوا عام الفتح أصبحوا (30000) مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف منهم تقريباً (5000) أو (6000) أسلموا قبل الفتح بشهور وأيام قليلة، وبعد الفتح اجتمع (20000) بعد سنة واحدة، وبعد سنة أخرى من سنة (9) هـ إلى سنة (10) هـ سنرى أن الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وصل عددهم تقريباً مائة وثلاثين ألفاً في بعض التقديرات، يعني: زدنا مائة ألف مسلم في السنة العاشرة من الهجرة النبوية. هذه أعداد ضخمة جداً التحقت بالدولة الإسلامية وهم في محاضن بعيدة جداً عن المدينة المنورة، وليست هناك الطاقة الكاملة الكافية لتربية هؤلاء، فعندما حصلت أزمة وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حصلت ردة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، والردة وقعت عند الذين لم يتربوا، ولا يوجد أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ارتد، بل كلهم ثبت على الإسلام، لكن عموم الناس الذين دخلوا في وقت الفتح ووقت التمكين هؤلاء لم يُعطوا القسط الكافي من التربية، لذلك وقت التمكين عادة ما يكون قصيراً، ووقت الإعداد يكون طويلاً. هل هذا الكلام محبط؟ هل يمكن أن يقول أحد المسلمين بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نمكن إلا فترة قصيرة فقط

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اعتداء بني بكر على خزاعة

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اعتداء بني بكر على خزاعة ماذا يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام إزاء اعتداء بني بكر على قبيلة خزاعة عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء الخزاعي يستغيثان برسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لكي ينجد خزاعة من الأذى والظلم الذي وقع عليها. هنا حدثت أزمة وهي أزمة نقض العهد، وأزمة احتمال الحرب، وأزمة اهتزاز صورة الدولة الإسلامية إذا لم يكن هناك رد فعل مناسب. هذه أزمة كبيرة جداً، ولكن كيف نحول الأزمة إلى فرصة. هذا الكلام يفهمه علماء الإدارة، فعندما تقع عليك مصيبة كبيرة لا يخبرك فقط كيف تخرج من المصيبة، ولكن كيف تحاول أن تستفيد من المصيبة، فتحوّلها إلى مصلحة، وإلى فرصة سانحة تحقق من ورائها فائدة كبرى للمسلمين، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر. فالرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يكسب من هذا الموقف، كيف يحقق نجاحاً من هذه الأزمة الكبيرة؟ كيف يستفيد من الأزمة ويجعل منها وسيلة لرفعة الأمة وسيادة الأمة؟ هل يبعث ألف جواب استنكار أو شجب وندب؟ لن يسمع صوته أحد، فما الذي يعمل؟ هل يذهب إلى هيئة الأمم المتحدة أو هيئة القبائل المتحدة؟! لن تنفع بشيء، بل من الممكن أن تحكم لقريش الدولة الأولى في المنطقة فما هو الحل؟ لا بد أولاً من دراسة واقعية للموقف، نأتي لندرس الواقع الذي يحيط بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما هو حال الجزيرة العربية في ذلك الوقت؟

الوضع السياسي والعسكري للمسلمين

الوضع السياسي والعسكري للمسلمين أولاً: الوضع السياسي والعسكري للمسلمين. لقد كان الوضع السياسي والعسكري للمسلمين بعد مؤتة وذات السلاسل وضعاً ممتازاً فأعداد المسلمين تتزايد، والجيش الإسلامي مدرب تدريباً جيداً جداً، ليس مدرباً في لقاءات وهمية، ولكن في لقاءات حقيقية مع اليهود والمشركين، بل ومع الرومان في مؤتة كما رأينا. فمعنويات الجيش الإسلامي في السماء، والانتصارات المتتالية في كل مكان رفعت معنويات الجيش الإسلامي. سمعة المسلمين طيبة على مستوى الجزيرة بكاملها، بل على مستوى العالم. والدولة الإسلامية لها علاقات قوية جداً مع أكثر من مملكة من ممالك الأرض، فاليمن دولة مسلمة، وعمان دولة مسلمة، والبحرين دولة مسلمة، وهناك علاقات مع الحبشة ومع مصر.

الوضع العسكري لقريش

الوضع العسكري لقريش ثانياً: الوضع العسكري لقريش. كان الوضع العسكري لقريش ضعيفاً، ويزداد ضعفاً مع مرور الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى هذا من سنتين وأكثر، ولا ننسى في صلح الحديبية أنه قال في المفاوضات: (وإن قريشاً قد وهّنتهم الحرب وأضرت بهم)، وبعد الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) يعني: نحن نسير إليهم، فهو صلى الله عليه وسلم يرى أن الدولة الإسلامية في علو واضح، وقريش في هبوط واضح، والوقت الذي مر بعد صلح الحديبية لم يكن في صالح قريش، ورأينا تحول الرجال والنساء من الكفر إلى الإيمان، فهذا إضافة إلى الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت هو نقص في الدولة الكافرة. وأحلاف قريش تكاد تكون محصورة فقط في بني بكر، وعلاقة قريش بهذا الحليف ليست قوية؛ لأنه كان بين قريش وبين بني بكر خلافات من أيام بدر، وهذه العلاقة بين أهل الباطل بين قريش وبين بني بكر أو أي حليف قد تتغير من حال إلى حال أخرى في وقت سريع وعاجل إذا تغيرت المصالح. ولعل قريشاً إذا اتخذت موقفاً عسكرياً معيناً فقد تأتي بنو بكر وتخالف هذا الموقف، وتعتذر لخزاعة وللمسلمين وتفك الحلف بينها وبين قريش، فهذا كله وارد وممكن جداً، ورأته قريش قبل هذا في تاريخها أكثر من مرة، والحلف بينهما حقيقة ليس قوياً، والدليل على أنه عندما فُتحت مكة لم نجد أي مساعدة من أي نوع من بني بكر لقريش ضد المسلمين، مع أن مقتضيات معاهدة الحديبية تلزم بني بكر بالدفاع عن قريش إذا داهمها المسلمون، فما بالك لو كانت بنو بكر هي السبب في المشكلة، فهي التي خانت العهد، وهي التي هجمت على خزاعة، وما بالك لو كانت قريش أعانت بني بكر! فكل هذا كان من المفروض أن يجعل بني بكر تساعد قريشاً في أزمة الفتح، لكن لم نر ذلك وهكذا المعاهدات العلمانية القائمة على غير عقيدة صحيحة. وعلى العكس كان الجيش الإسلامي وحدة مترابطة، يجمعها رباط واحد وهو رباط العقيدة، والرسول عليه الصلاة والسلام يرى هذه العلاقات متينة وقوية. إذاً: كان الموقف العسكري لقريش في أزمة كبيرة جداً؛ فقريش فقدت مجموعة من أعظم قادتها منذ شهور قليلة فقط، وهذا تمهيد رباني للفتح، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان سبباً في انتصار المشركين في أحد، فقد كان قائد الفرسان الفذ الذي له سمعة في الجزيرة بكاملها، فهذا الرجل انضم إلى المعسكر الإسلامي، وليس فقط خسارة على قريش، بل كسبه المسلمون، وصار إضافة هائلة للدولة الإسلامية. وهذا عمرو بن العاص أيضاً من أعظم دهاة العرب فقدت قريش قوته وأُضيفت قوته للمسلمين. وهذا عثمان بن طلحة أيضاً ليس فقط من الفرسان الأشداء، ولكنه من بني عبد الدار، وحامل مفتاح الكعبة فإضافته للدولة الإسلامية إضافة في منتهى القوة، وقد رأينا عائلة عثمان بن طلحة جميعها أُبيدت حول راية المشركين في غزوة أحد تدافع عن راية المشركين، وقبيلة بني عبد الدار لها تاريخ طويل جداً في الدفاع عن حرمات قريش، والآن زعيم هذه العائلة وعميدها عثمان بن طلحة ينضم إلى المسلمين، وليس من البعيد أن جميع بني عبد الدار تنضم إلى المسلمين، فهذا يسبب اهتزازاً واضحاً جداً للصف المشرك. إذاً: الوضع مستقر جداً للدولة الإسلامية، وفي الناحية الأخرى وجود ضعف عند قريش، ومع مرور الوقت يزداد هذا الضعف، وتقل الأحلاف، والجنود يقلون، والقادة يُفقدون ولصالح المسلمين.

تناقص أعداء المسلمين وضعف شوكتهم

تناقص أعداء المسلمين وضعف شوكتهم ثالثاً: تناقص أعداء المسلمين جداً في ذلك الوقت وضعف شوكتهم. رأينا أن اليهود انتهى خطرهم تقريباً بعد فتح خيبر، ورأينا غطفان لم ينته خطرهم فحسب، بل جاءت وفودهم تُعلن الإسلام، وتُعلن انضمامها إلى قوة المسلمين، وغطفان هي التي شاركت منذ سنتين في حصار المدينة المنورة المؤمنة، والآن سوف تشارك في حصار مكة المكرمة المشركة في ذلك الوقت.

الوضع القانوني والشرعي للمسلمين إزاء قريش

الوضع القانوني والشرعي للمسلمين إزاء قريش رابعاً: الوضع القانوني والشرعي للمسلمين. إذا أراد المسلمون فتح مكة فالوضع سليم، ولا ينكر عليهم أحد، فهذه فرصة سانحة لفتح مكة، وقد لا تتكرر بسهولة، ولذلك لا يجب أبداً أن تُضيّع هذه الفرصة، وفتح مكة مطلب هام جداً، ومعاهدة الحديبية كانت تعوق فتح مكة، أما الآن فقد نُقضت المعاهدة، وديار المسلمين وأموالهم في داخل مكة ما زالت منهوبة، وهناك فرصة لاستعادة كل هذه الأمور المنهوبة من المسلمين، كما أن هناك فرصة لتعليم عوام الناس في داخل مكة الإسلام إذا أُزيحت الطغمة الحاكمة من كراسيها في مكة؛ ولهذا نجد عدم تفاعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش لتجنب الحرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قرر أن ينتهز هذه الفرصة الثمينة ويفتح مكة، فهذه حكمة سياسية في منتهى الروعة.

رفع المسلمين للظلم عن المظلومين واجب أخلاقي وقانوني وسياسي

رفع المسلمين للظلم عن المظلومين واجب أخلاقي وقانوني وسياسي خامساً: هناك واجب أخلاقي وقانوني وسياسي على المسلمين أن يقوموا بفتح مكة؛ وذلك لرفع الظلم عن المظلومين، فخزاعة ظُلمت ولا يجب أن تُترك هكذا دون مساعدة، ثم إن هذا الواجب ليس أخلاقياً فقط، بل هو واجب شرعي وقانوني، أي: أنه فرض على المسلمين أن يساعدوا خزاعة؛ لأن هذا التزام إسلامي مؤكد في صلح الحديبية، فكيف يتخلى عنه المسلمون، المسلمون؟ ليس لهم اختيار في ذلك الأمر، ما داموا قد عاهدوا على شيء عليهم أن يفوا بعهودهم، والمعاهدة مع خزاعة على أن ينصروهم إذا انتُهكت حرماتهم، وقد انتُهكت وفي داخل الحرم، فلم لا يتحرك المسلمون؟ لا بد أن يتحركوا؛ لأن المعاهدة تقول: إن الاعتداء على خزاعة هو اعتداء على المسلمين، حتى وإن كانت خزاعة مشركة. إذاً: هناك واجب شرعي قانوني على المسلمين أن يجتهدوا في رد الحق إلى أصحابه، في رد الحق إلى خزاعة، وفي رفع الظلم عنهم. وفي نفس الوقت هذا واجب سياسي هام جداً؛ لأن كرامة الدولة الإسلامية انتهكت أيضاً؛ ولأن هؤلاء الذين قُتلوا حلفاء المسلمين وإن كانوا مشركين، فلا بد لحفظ كرامة الدولة الإسلامية أن تكون الوقفة مناسبة، والرسول عليه الصلاة والسلام رأى أن هذه الوقفة يجب أن تكون فتح مكة. وهنا تضافرت أمور كثيرة جداً تفيد أن الوضع مناسب جداً لفتح مكة. وعندما نعيد هذه الأوراق ونحلل الموقف سنجد الآتي: أولاً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الإسلامية ممتاز ويتقدم. ثانياً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الكافرة في مكة ضعيف ويتأخر. ثالثاً: الأعداء الآخرون للدولة الإسلامية استكانوا اليهود وغطفان وغيرهم. رابعاً: الوضع القانوني إذا أراد المسلمون فتح مكة سليم تماماً. خامساً: هناك واجب أخلاقي وشرعي وسياسي على المسلمين لصالح خزاعة لا بد من القيام به. هذا هو الواقع الذي حلله الرسول عليه الصلاة والسلام في لحظة واحدة، فقال: (نصرت يا عمرو بن سالم) وبدأ التجهيز لفتح مكة المكرمة. إذاً أخذ قرار فتح مكة المكرمة في هذه الظروف سيكون قراراً حكيماً يحقق عدة مصالح دعوية وسياسية وعسكرية وأخلاقية، وغير ذلك، لكن هذا ليس قراراً سهلاً، بل هو من أصعب القرارات؛ لأن مكة ليست كأي بلد، مكة هي عقر دار قريش ولها تاريخ طويل، وقريش ليست بالقبيلة السهلة، هي أعز قبيلة في العرب، والعرب جميعاً يوقّرونها، وقد يغير الكثير من الناس مواقفهم إذا هُددت قريش في عُقر دارها، وبالذات أن عقر دار قريش هو البلد الحرام مكة، وله مكانة هائلة في قلوب جميع العرب. لقد كان القرار جريئاً جداً وقد تكون له تبعات هائلة، وفي نفس الوقت كثرة التفكير والتروي أكثر من اللازم قد تضيع الفرصة، لا بد أن نأخذ قراراً حاسماً، والقرار قد اتخذ فعلاً وبحسم وبقوة، فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة.

وقفة مع قرار الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة

وقفة مع قرار الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة لا بد أن نقف وقفة مع هذا القرار: هذا القرار السريع ليس قراراً متهوراً حاشا لله، فالقرار مدروس وبحكمة، وذكرنا الواقع الذي كان فيه المسلمون والمشركون، لكن نريد أن نلفت الأنظار إلى أمر في غاية الأهمية، ساعد الرسول عليه الصلاة والسلام على اتخاذ القرار، وهذا الشيء نسميه: الجاهزية الدائمة، اجعل هذا شعار حياتك: كن مستعداً، هناك فرص كثيرة جداً تأتي للإنسان، ولكن لا يستغل هذه الفرص؛ لأنه غير جاهز وغير مستعد، فالرسول صلى الله عليه وسلم وشعبه المؤمن كان جاهزاً بصفة مستمرة، وكان الجيش مدرباً ومنظماً وعلى أُهبة الاستعداد دائماً، الشعب مهيأ لقضايا القتال والبذل والتضحية، والزوجات يدفعن أزواجهن للتضحية والجهاد، حتى الأولاد الصغار يعيشون هذا الجو باستمرار، ويتشوقون إلى الجهاد كما يتشوق إليه الكبار. لو فُرض على الناس حرب وهي غير مستعدة نفسياً وقضايا الجهاد غير مطروحة في حياتها لا يمكن أن تجد أحداً سيقف معها، فالشعب المترف المرفه الذي يعيش بالملذات والأغاني والكرة صعب عليه أن يقف موقفاً محترماً في أزمة، فهذه الناس تحتاج إلى تربية، وكان شعب الرسول عليه الصلاة والسلام في جاهزية دائمة؛ ولهذا عندما يأتي ظرف مثل هذا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يستغله، فالوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية كان في تحسن مستمر، والتنمية في كل المجالات على أحسن ما يكون، والبلد تنتج الذي تريده لا تخاف من أحد، والعلاقات الدبلوماسية له كانت مستقرة وكثيرة، والمخابرات الإسلامية كانت هنا وهناك تقوم بدورها على أفضل ما يكون، والحاكم والمحكوم والوزير والغفير والكبير والصغير الرجل والمرأة الكل يشعر بانتماء حقيقي غير مفتعل للبلد وللدين، وليس مجرد أغنية ليس لها أي معنى ولا تطبيق في حياة الناس! وليس مجرد شعار أجوف يقوله هذا أو ذاك! وليس مجرد خطاب سطحي مخادع للمحكومين! لا، الانتماء ليس أنك تذهب لتمثل بلدك في لعب الكرة وتحزن لو دخل هدف على بلدك، الانتماء أن تكون قابلاً لأن تدفع روحك من أجل بلدك ودينك، الانتماء أنك لا تضيع الدقيقة من شغلك في عمل ليس فيه فائدة للبلد والمسلمين، الانتماء أنك تصنع الذي تحتاجه ولا تستورد كل شيء، الانتماء أنك تحب الجيش وليس أن تهرب منه، الانتماء أنك تحافظ على أموال البلد وليس أن تختلسها وتعتبرها مالاً سائباً. الانتماء قصة كبيرة جداً، قصة لا تقاس أبداً في الأستاد أو في السينما، لكن تقاس في ميدان الجهاد وفي المصنع والجامعة، وفي الحقول والمعامل في هذه الأشياء كلها، هذا هو الانتماء. فشعب المدينة كان يعيش قصة الانتماء بطريقة صحيحة؛ ولهذا استطاع أن يقف ويجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم عندما احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الانتماء الحقيقي. وهذه الجاهزية الدائمة من أهم مفاتيح استغلال الفرص السانحة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يأخذ القرار من غير تردد؛ لأنه علم أن شعبه وجيشه معه بجد، وعلاقاته الدبلوماسية على أكمل وجه، وتعتبر السيرة منهجاً عملياً واقعياً للتغيير فعلاً. إذاً: أُخذ قرار فتح مكة، وهو من أخطر القرارات في تاريخ الجزيرة، بل في تاريخ العالم، وسوف نرى آثار هذا الفتح الذي سيشمل تقريباً جميع مساحة الأرض وإلى الآن وإلى يوم القيامة. كان هذا هو الوضع في المدينة المنورة، فكيف كان الوضع في مكة المكرمة؟ كيف تفكر قريش بعد المصيبة التي وقعت عليها؟ وما الذي تعمله بنو بكر مع قريش، وما الذي تعمله القبيلتان مع المسلمين بعد هذا؟ وكيف سيتعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش بعد ذلك لتجنب الحرب؟ وكيف يجهز الرسول عليه الصلاة والسلام جيشه ويخرج به إلى هذا المشوار الصعب؟ فمكة المكرمة تبعد عن المدينة بمقدار (500) كيلو في الصحراء. هذه التفاصيل في غاية الأهمية، وهي عماد بناء الدولة الإسلامية، فينبغي أن تدرس بعناية، وهذا إن شاء الله سيكون موضوع الدرس القادم. أسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فتح مكة

سلسلة السيرة النبوية_فتح مكة يعتبر فتح مكة من أعظم لحظات السيرة النبوية عند النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، فقد كان بمثابة اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرعه ودينه، بعد معاناة الصحابة بمكة قبل الهجرة مدة ثلاث عشرة سنة لاقوا فيها التعذيب والاضطهاد والتشريد والقتل، فهاهم اليوم يدخلون مكة منتصرين مستبشرين بهذا النصر المبين.

مقدمة بين يدي فتح مكة

مقدمة بين يدي فتح مكة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد. فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين. مع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين. في الدرس السابق تحدثنا عن خيانة ونقض بني بكر وقريش للعهد الذي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل عدد من رجال خزاعة المحالفة للدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ومن ثم أخذ صلى الله عليه وسلم القرار بفتح مكة، وتجهيز أكبر عملية عسكرية في تاريخ المسلمين حتى تلك اللحظة. والواقع أن قريشاً بعد أن قامت بهذه الجريمة وساعدت بني بكر على قتل الرجال من خزاعة في داخل الحرم جلست قريش مع نفسها تتشاور في هذه القضية، فهي قضية خطيرة جداً: قضية نقض الصلح مع المسلمين، فزعماء قريش عقدوا مجلساً استشارياً كبيراً واجتمع في هذا المجلس أبو سفيان مع قادة مكة، اجتمع مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وغيرهم من رجال مكة وزعمائها، وبدءوا يفكرون فيما سيفعلونه نتيجة هذا الأمر الذي حدث وهو نقض المعاهدة، وقد كان هناك تصور عند قريش وخاصة عند أبي سفيان عن المسلمين وصل في تلك اللحظة إلى درجة الانبهار، فصلح الحديبية نفسه كانت الغلبة فيه للمسلمين، والقوة والبأس في صالح المسلمين، والتفريط والتنازل في صف قريش، وتحدثنا عن ذلك بالتفصيل، وقريش ما كانت لتسلّم بذلك الأمر لولا أنها رأت قوة المسلمين، وكان هذا منذ سنتين عندما كان عدد المسلمين (1400) فقط في بيعة الرضوان أو في صلح الحديبية، ثم سافر أبو سفيان بعد الصلح إلى غزة للتجارة، وهناك التقى مع هرقل في اللقاء الذي تحدثنا عنه قبل ذلك ودارت بينهما المحاورة العجيبة، وخرج أبو سفيان من هذه المحاورة بتصور هائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ضرب يداً بيد وقال: (لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليخافه ملك بني الأصفر -يعني: هرقل - فما زلت موقناً أنه سيظهر) الشاهد أن أبا سفيان كان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر في يوم من الأيام، ثم إن أبا سفيان ومن معه من أهل قريش شاهدوا الانتصارات الإسلامية المتتالية هنا وهناك، وبالذات في خيبر ثم في مؤتة، وكانت هذه الانتصارات كبيرة جداً وضخمة جداً، ثم أسلمت الدول والقبائل المحيطة بمكة المكرمة، أسلمت اليمن، وأسلمت البحرين، وأسلمت عمان وغير ذلك من القبائل، وكل هذا ترك تصوراً بالرهبة والهلع عند قريش من مواجهة المسلمين، أضف إلى ذلك أن قريشاً بدأت تبحث في الفوائد المتحققة من مساعدتها لبني بكر في الخيانة التي تمت بقتل مجموعة من رجال خزاعة، فلم تجد أي نوع من الفائدة تحققت؛ لأن هذه معركة داخلية بين بني بكر وبين خزاعة، فإعانة قريش لبني بكر على حرب خزاعة يعتبر تهوراً ملحوظاً، بالإضافة إلى هذه الأمور خلفية عمرة القضاء، فقبل أقل من سنة واحدة رضي أهل مكة بمنتهى الضعف أن يدخل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وهو الذي طردوه وعذّبوه وأساءوا إلى سمعته، وحاربوه بكل طاقتهم، وافقوا أن يدخل إلى مكة ومعه (2000) من أتباعه لأداء العمرة، وأخلوا مكة له، وهذا لا شك ترك انطباعاً وتصوراً نفسياً قاسياً عند أهل قريش، ولا ننسى مظاهر القوة التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يظهرها في هذه العمرة، ولا ننسى انبهار قريش بقوة المسلمين وتعليقات قريش عندما رأوا جيش المسلمين وقوة المسلمين، وعمرة القضاء كانت تمهيداً نفسياً إيجابياً للمسلمين، وكانت تمهيداً نفسياً سلبياً للمشركين، وهذا كله من تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى. إذاً: قريش في اجتماعهم أدركوا أن احتمال الحرب وارد، واحتمال غزو مكة مع صعوبة تصور هذا الأمر على الذهن أمر محتمل، وبناء على هذا الاجتماع أخذت قريش قراراً صعباً، بل من أصعب القرارات في تاريخ قريش، وهو الذهاب إلى المدينة المنورة لاستسماح الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتغاضى عن هذا الخطأ، وأن يطيل الهدنة، وهذاً تنازل كبير جداً، وطعن كبير جداً في كرامة قريش، وخاصة أن الذي اختاروه للذهاب هو أبو سفيان شخصياً، أي: زعيم مكة وسيد مكة، ليس مجرد سفير ترسله مكة ولكن زعيم مكة بكاملها وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل مع المسلمين، وله حروب متتالية مع المسلمين، وهاهو أبو سفيان يتنازل عن كبريائه وعن كرامته ويذهب إلى المدينة المنورة؛ ليطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيل الهدنة، وهذا شيء كبير جداً، ولعل هذه هي ولعل

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من أبي سفيان حين جاء إلى المدينة ليطيل مدة الهدنة

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من أبي سفيان حين جاء إلى المدينة ليطيل مدة الهدنة ذهب أبو سفيان إلى المدينة المنورة يحاول قدر المستطاع أن يمنع الرسول عليه الصلاة والسلام من الانتقام لخزاعة والثأر لكرامته وكرامة الأمة الإسلامية، وأن يطيل المدة بأي ثمن. ومن هذا الحدث سنأخذ قاعدة مهمة جداً، وهذا القاعدة ليست فقط في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنها ستظل معنا إلى يوم القيامة وهي: إذا كان عدوك حريصاً على السلام وحريصاً على تجنب الصدام بكل ما أوتي من قوة ويدفعك إليه دفعاً فاعلم أنه ضعيف، أو على الأقل يخشى قوتك فلا تضعف ولا تجبن. فأتى أبو سفيان كي يحاول قدر المستطاع أن يتجنب الصدام، وسنجد الوقفة الإسلامية أمام أبي سفيان، في بداية دخوله إلى المدينة المنورة ذهب إلى ابنته، وبنت أبي سفيان كانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام وهي أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أم المؤمنين، والتقى أبو سفيان مع أم حبيبة رضي الله عنها، وكان هذا اللقاء بعد غياب (16) سنة متصلة، فقد كانت أم حبيبة رضي الله عنها هاجرت إلى الحبشة، وبقيت في الحبشة فترة طويلة من الزمان، ثم تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام وأتت إلى المدينة المنورة، ولم تمر بمكة منذ (16) سنة متصلة، فالعلاقة بينها وبينه منقطعة فترة طويلة، فكان أبو سفيان يظن أن أم حبيبة ستستقبله استقبالاً حافلاً فهو أبوها، ومنذ فترة طويلة من الزمن لم ير أحدهما الآخر، لكن عندما أراد التحدث معها وأراد الجلوس على الفراش، فإذا بها تطوي الفراش وتمنعه من الجلوس، فاستغرب أبو سفيان فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ فقالت السيدة أم حبيبة في صلابة وفي قوة: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال أبو سفيان: يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر، ثم خرج. لنا وقفة مع موقف السيدة أم حبيبة، فقد يقول المحلل لهذا الموقف، إن هذا الموقف فيه نوع من الغلظة غير المقبولة من السيدة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان، والواقع أن في مثل هذه الظروف تكون الغلظة؛ فـ أبو سفيان ليس إنساناً عادياً، بل زعيم مكة، والجميع في المدينة المنورة يعلم أن هناك نقضاً للمعاهدة التي تمت بين المسلمين وبين قريش، وأنه قد جاء إلى المدينة المنورة لكي يطيل المدة، والرسول عليه الصلاة والسلام قد أنبأهم بذلك قبل أن يأتي أبو سفيان في معجزة نبوية ظاهرة، قال صلى الله عليه وسلم: (كأنكم بـ أبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة)، فعرف المسلمون أنه أتى لهذا الغرض، لذلك أرادت أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أن تقف هذه الوقفة الصلبة الجريئة القوية مع أبيها؛ ليعلم أبو سفيان أن المسلمين جميعاً صف واحد، وأنهم جميعاً على قلب رجل واحد، حتى إن ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وقفت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ضد أبيها أبي سفيان، فهذا ترك انطباعاً وتصوراً سلبياً كبيراً جداً عند أبي سفيان، فقد عرف أنه يقف أمام أناس من الصعب أن يحاربهم، وليس هذا السلوك الإسلامي العام مع الرحم المشرك أو الرحم غير المسلم؛ لأن الله عز وجل أمر بمصاحبة الآباء والأمهات المشركين بالمعروف، قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، والذي يؤكد على هذا المعنى ما جاء في البخاري عن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: (قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: أنها جاءت في نفس فترة صلح الحديبية، فالسيدة أسماء سألت الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: (يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صليها)، وهذا هو الأصل في المعاملة، لكن موقف أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان موقف مختلف، كان موقفاً صحيحاً بدليل سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التصرف من السيدة أم حبيبة رضي الله عنها. ثم خرج أبو سفيان من عند السيدة أم حبيبة بهذه الصدمة الكبيرة، واتجه مباشرة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليحاول أن يطيل المدة كما ذكرنا، فتحدث أبو سفيان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر له رغبته، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض أن يرد عليه، حتى مجرد الرد لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس هو التصرف المعتاد من رسو

استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لفتح مكة

استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لفتح مكة أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم استنفاراً عاماً على كل المستويات لكل أهل المدينة المنورة، وإرسال استدعاءات للمسلمين في القبائل المختلفة، وممن أرسل إليهم غطفان، وأرسل إلى بني سليم، وإلى فزارة، وهؤلاء هم الأحزاب الذين حاصروا المدينة منذ ثلاث سنوات، والرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع هذه القبائل على التلاقي عند مر الظهران، ومر الظهران على بعد حوالي (22) كيلو من مكة المكرمة، أي: أن هذه القبائل ستأتي من طرق مختلفة؛ لكي لا تستطيع عيون قريش تقدير عدد الجيش المسلم، وفي نفس الوقت أخرج الرسول عليه الصلاة والسلام سرية على رأسها أبو قتادة رضي الله عنه للتمويه، أرسل هذه السرية إلى اتجاه بعيد عن اتجاه مكة المكرمة؛ ليلفت أنظار القرشيين إلى أنه لا يريد مكة المكرمة، وأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً بالسرية التامة، وبعدم إخبار أي إنسان خارج المدينة المنورة بأمر هذا الغزو لمكة المكرمة، ثم رفع يده إلى السماء ودعا وقال: (اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة) وبدأ الإعداد الضخم للخروج من المدينة المنورة. في ذلك الوقت حدثت قصة لا أريد أن أقف عندها كثيراً؛ لأني سأحيلها إن شاء الله إلى مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين، لكن نمر سريعاً على هذا الحدث، فالحقيقة أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه أخطأ خطأ كبيراً بإرادته بكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش، فهو أرسل إليهم رسالة يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليهم، ولماذا فعل هذا؟ لأن له عائلة بمكة المكرمة وخشي عليها من بطش قريش، وليست له قبيلة كبيرة بمكة تدافع عن أسرته، فهو رجل حليف ليس من أهل مكة الأصليين، وهذا الأمر لا يبرر أبداً له هذا الخطأ الكبير، لكن هذا هو الذي حصل، ونزل الوحي يكشف للرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، واستطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل من يأتي بالرسالة التي أرسلها، وأحبطت هذه المحاولة، وهذا الصحابي الجليل لم يرتكب هذا الخطأ لأنه من المنافقين، بل هي لحظة ضعف خاف فيها على أسرته، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عفا عنه وتجاوز عن هذا الخطأ؛ لسابق تاريخه رضي الله عنه في الإسلام، وكما هو معروف أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام منع عمر من إيذائه وقال له: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلع على قلوب من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، هذا الحدث يحتاج إلى تفصيل، ولكن كما قلنا سنتحدث عنه بالتفصيل في مجموعة أخطاء المؤمنين. خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة وكان هذا الخروج في (10) رمضان سنة (8هـ)، واتجه مباشرة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق بدأت البشريات تتوافد على المسلمين أولاً في طريقه وبمجرد أن خرج من المدينة المنورة لقي العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فقد كان تأخر إسلام العباس رضي الله عنه وأرضاه علامة استفهام كبيرة جداً، حتى إن هناك من قال: إنه قد أسلم أيام بدر، ولم يفسّر تفسيراً واضحاً بقاءه في مكة المكرمة دون هجرة كل هذه السنوات، وهناك من قال: إنه بقي في مكة لنقل الأخبار للرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يقم أحد الأدلة على ذلك، لكن الحمد لله أنه هاجر قبل أن يصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، وذلك أسعد الرسول عليه الصلاة والسلام جداً، وسر سروراً عظيماً برؤية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وانضم العباس إلى قوة المسلمين، وسيكون له دور إيجابي كما سنرى ذلك في فتح مكة المكرمة. ثم أكمل الرسول عليه الصلاة والسلام الطريق وقد زادت قوة المسلمين بـ العباس رضي الله عنه، فوجد رجلين آخرين: أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية، أحدهما ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، والآخر ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذان الرجلان كانا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءا من مكة المكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وتخيل من شدة إيذائهما للرسول عليه الصلاة والسلام رفض عليه الصلاة والسلام أن يقابلهما، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يفرح كثيراً بمن أتى إليه مسلماً، إلا أنه رفض في البداية مقابلتهما من شدة إيذائهما له في فترة الفترة المكية، لولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها وكانت مصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح فتوسطت لهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقابلهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منهما الإسلام بعد أن أعلنا التوبة الكاملة بين يديه صلى الله عليه وسلم.

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم حين شق الصوم على أصحابه بكراع الغميم

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم حين شق الصوم على أصحابه بكراع الغميم أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق، وكما ذكرنا أن هذا الخروج كان في رمضان سنة (8 هـ)، وصام الجيش معظم الطريق حتى وصلوا إلى كراع الغميم، وكراع الغميم تقريباً على بعد (60) كيلو أو أكثر من مكة المكرمة، وفي كراع الغميم جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وكان هذا بعد صلاة العصر، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ دعا صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء ورفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، وهذا في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. نجد في هذا الموقف أن الرسول عليه الصلاة والسلام عقد مقارنة سريعة هامة بين الصوم وبين الجهاد في سبيل الله، فالصوم عبادة عظيمة جداً، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، كذلك الجهاد عبادة عظيمة جداً، وهو ذروة سنام الإسلام، وصرّح الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا يعدله شيء أيضاً كما في البخاري عن أبي هريرة، فهو في هذا الموقف يقارن بين عبادتين عظيمتين، وهذا الموقف كان محيّراً للبعض إلا أن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك دعا بقدح فيه ماء فشرب وهو صائم، مع أن الموقف كان بعد صلاة العصر، ولم يبق إلا قليل ويدخل وقت المغرب، لكن فعل ذلك عليه الصلاة والسلام ليزرع أكثر من معنى في نفوس المسلمين: أولاً: هناك ما يسمى بواجب الوقت، بمعنى أن هناك أشياء لا بد أن تتم الآن، وأشياء أخرى من الممكن أن تؤخر إلى وقت لاحق، فتأخير الصيام لا يضر، لأننا من الممكن أن نقضيه بعد انتهاء فتح مكة، لكن الجهاد الآن لا يؤخر، وخاصة أن الجيش على بعد (60) كيلو من مكة المكرمة. ثانياً: ليس من الممكن أن تأتي بكل أنواع الخير، أو تتجنب كل أنواع الشر، هذه من المثاليات غير الممكنة في الدنيا، لكن المسلم الحكيم يوازن بين العمل الفاضل والعمل المفضول، فيقدم الفاضل ويؤخر المفضول، ولا يكون هذا إلا بترتيب جيد للأولويات، وواقعية في الفكر والأداء، وتوفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى. ثالثاً: أن الإسلام ليس شعائر تعبدية فحسب، ومع ذلك ترى الكثير من المسلمين يقصر التزامه بالإسلام على الصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك من الشعائر، نقول: الإسلام دين جاء ليحكم كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، ونحن رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يؤخر عبادة وشعيرة هامة جداً ليقوم بأمر آخر من الإسلام أيضاً في صالح الأمة ألا وهو الجهاد في سبيل الله، فالجهاد من الإسلام، والسياسة من الإسلام، والتجارة من الإسلام، والمعاملات من الإسلام وهكذا؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام أفطر وأمر الناس بالإفطار وهذا بعد وقت صلاة العصر، بل إن في صحيح مسلم: (أن بعض الصحابة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن بعض الصحابة لم يفطروا مع الناس)، ماذا علّق صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أولئك العصاة أولئك العصاة) مع أنهم لم يرتكبوا ذنباً، لكن هذه المخالفة في ذلك الوقت ستجعل قوتهم ضعيفة لا يستطيعون الجهاد مع المسلمين، فهنا خالفوا واجب الوقت، وخالفوا تقليد الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، فسمّاهم صلى الله عليه وسلم العصاة، مع أنهم يصومون رمضان في رمضان، وهذا يحتاج إلى تدبر عميق وفقه؛ لكي نستطيع فهم الأبعاد التربوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التقاء القبائل عام الفتح بالرسول صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وموقف زعماء مكة منها

التقاء القبائل عام الفتح بالرسول صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وموقف زعماء مكة منها وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مر الظهران، ومر الظهران على بعد (22) كيلو من مكة المكرمة، وهناك التقت الجنود من القبائل المختلفة من قبائل فزارة ومن قبائل بني سليم ومن غطفان ومزينة وجهينة ومن المدينة المنورة من كل مكان، عشرة آلاف جندي، هذه هي الطاقة الإسلامية، وهذا الوضع كنفس الوضع الذي كان في غزوة الأحزاب ولكن بصورة عكسية، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] قبل الفتح بثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو العدد لكن شتان بين الفريقين. أراد الرسول عليه الصلاة والسلام لقريش هزيمة نفسية؛ لكي يدخل مكة بأقل الخسائر الممكنة، فأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في فكرة نبوية عبقرية رائعة أن يشعلوا النيران جميعاً، أي كل فرد منهم يشعل شعلة ويرفعها بيده، فأصبحت عشرة آلاف شعلة من النيران، فالنيران بحد ذاتها مرعبة، فإذا رآها الناس شعروا بالرهبة، وهذه الفكرة كانت مثيرة ومرعبة لأهل قريش، وشاهدوها جميعاً؛ لأن المسافة (22) كيلو بين جيش المسلمين وبين مكة فهي مسافة قريبة يستطيع أهل قريش أن يروا فيه النيران، ومع هذا كان من قريش المراقبين والجواسيس على مقربة من مر الظهران، ورأوا هذه النيران عن قرب، ومن هؤلاء أبو سفيان شخصياً، وتصور مدى الهلع والرعب عند سيد قريش وعند زعيم مكة الذي يدفعه أن يخرج بنفسه ليراقب أحوال المسلمين، وكان معه بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكرنا قبل هذا أن بديل بن ورقاء كان صديقاً شخصياً لـ أبي سفيان ومع أن بديلاً استغاث بالرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنه لم يكن يتوقع أبداً أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش يفتح مكة المكرمة عقر دار قريش، كان كل أحلامه أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيطلب من قريش أن تدفع دية المقتولين من خزاعة، لكن الآن يشاهد جيشاً كبيراً أتى إلى مكة المكرمة. وهنا يأتي كلام العباس رضي الله عنه وأرضاه عن هذا الموقف العجيب، وهذا في الطبراني بسند صحيح عن العباس رضي الله عنه، فـ العباس عندما رأى عشرة آلاف جندي على أبواب مكة المكرمة، ومع ذلك فـ العباس لا يزال حديث الهجرة، بل قد يكون حديث الإسلام، وقريش قبيلة قوية جداً، وإسلامها لا شك أنه أفضل من قتلها، ثم هم الرحم والأهل والعشيرة، فأول ما رأى هذا العدد يقترب من مكة المكرمة قال: وا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فبدأ يبحث عمن يخبر قريشاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد جاء ليخرجوا ليستأمنوه، فهو الآن لا يدل على أسرار الجيش؛ لأن الجيش قد كشف أمره، فقد أشعل عشرة آلاف شعلة حول مكة المكرمة، فليس هناك أي نوع من التخفي، فالآن هو يريد لقريش أن تستأمن لنفسها، فركب بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يبحث عن أي إنسان يصل بخبر إلى مكة المكرمة، فسمع همسات من رجلين يتحدثان فأحدهما كان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكراً، فرد عليه صوت آخر وقال: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب. أي: أن خزاعة جاءت لتنتقم لنفسها من قريش، فقال الأول: خزاعة! والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فسمعهم العباس بن عبد المطلب فعرف الصوت فناداهما، فكان الصوت الأول أبا سفيان والصوت الثاني بديل بن ورقاء الخزاعي، وكما ذكرنا أن بديل بن ورقاء يعيش في داخل مكة المكرمة؛ فهو لا يعرف أحوال خزاعة، وهل خزاعة جاءت بجيش أو غير خزاعة؟ المهم أن العباس رضي الله عنه لما ناداهما فعرف أبو سفيان صوته فقال: أبو الفضل؟ -أي: العباس بن عبد المطلب - فقلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، فقلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وا صباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمنه لك، فوافق أبو سفيان دون تردد؛ لأن موقفه صعب جداً فهو زعيم قريش. فوافق دون تردد وانصاع لنصيحة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وركب خلفه على بغلة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع بديل بن ورقاء إلى مكة المكرمة، وفي ذهابهما إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كانا كلما مرا على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فيقولون: هذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا عم الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أن مرا على نار عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه

قصة إسلام أبي سفيان ودوره في فتح مكة

قصة إسلام أبي سفيان ودوره في فتح مكة لقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام الإسلام على أبي سفيان بمنتهى القوة، فهو يعرض عليه الإسلام لنجاته وإلا فالأصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام في حل من دماء قريش؛ لأنهم خالفوا صلح الحديبية وقتلوا رجالاً من قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، فعرض عليه الإسلام بصيغة فيها ترهيب واضح قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) تهديد واضح، ذهب وقت الإقناع والمحاورة، والآن نحن على أبواب حرب، وأبو سفيان ليس بالرجل السهل فهو من دهاة العرب، واستطاع أن يقوّم الموقف بأسرع وقت وبصورة واقعية، ولذلك تلطّف في الحوار وأجاب بصورة تجمع بين الموافقة وعدم الاقتناع الكامل، فقال أبو سفيان: (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً)، وبعد مدح الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجاوب إجابة مباشرة قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن قال: لو كان هناك آلهة أخرى كاللات أو هبل أو غيرهما لدافعت عنا، فانتقل معه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النقطة الأصعب: وهي الاعتراف بنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام: لأن العرب ما كانوا ينكرون أن الله عز وجل هو الخالق، ولكنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، أما قضية النبوة والرسالة فهذه كانت مرفوضة عندهم تماماً، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟) فـ أبو سفيان حتى هذه اللحظة لم يقتنع بقضية الإيمان، وهو لا يريد في نفس الوقت أن يكذب وهو سيد قريش، وكان كما يقول عن نفسه: وكنت امرأ أتكرم على الكذب، وفي نفس الوقت لا يريد أن يأخذ موقفاً حاداً تكون فيه نهايته، وإنما قال أبو سفيان: (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، هذه والله كان في نفسي منها شيء حتى الآن)، أي: أنه وإلى هذه اللحظة لم يكن مقتنعاً بنبوته صلى الله عليه وسلم، فهو متردد، لا يتصور أبو سفيان أن تنهار مقاومته كلها في لحظة، وهنا تدخل العباس رضي الله عنه ليدرك أبا سفيان فـ العباس مدرك صعوبة الموقف، واحتمال قتل أبي سفيان وغزو مكة وإهلاك قريش احتمال وارد جداً، وعمر بن الخطاب صرّح بذلك في اليوم الذي قبيل هذا اليوم، فقال العباس في منتهى القوة: (ويحك يا أبا سفيان أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك)، وهذا ليس إكراهاً في الدين، بل هو رحمة؛ لأن قتل أبي سفيان في هذا الموقف لا يستنكره أحد؛ فهو يسمى في أعراف الدول: بمجرم الحرب؛ لأنه دبر اغتيالاً جماعياً قبل ذلك لسكان المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، هذا غير فتنة الناس عن دينهم طول سنوات مكة والمدينة، غير نقضه العهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، فقد أصبح حلال الدم، وهذا في عرف الجميع مقبول، وإسلامه يرفع عنه عقوبة مستحقة وله الخيار، فـ أبو سفيان رجل واقعي فقد أدرك خطورة الموقف ولذلك نطق بالشهادتين مباشرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأعلن إسلامه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، والعباس رضي الله عنه صديق قديم لـ أبي سفيان، ويرى الأزمة التي وضع فيها أبو سفيان، ويرى الانهيار الذي تعرض له، ولهذا طلب العباس رضي الله عنه من الرسول عليه الصلاة والسلام طلباً ليخرج أبا سفيان من هذه الأزمة، فقال: (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً)، هنا بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يفكر في الأمر، ومن الواضح أن إسلام أبي سفيان كان إسلام اضطرار، فهو لم يقتنع بعد بالنبوة، ولم يشعر بالانتماء الحقيقي للنظام الجديد، فقد ينتهز أي فرصة للانقلاب على المسلمين، وأبو سفيان عظيم مكة لعدة سنوات، فإن لم ينزله صلى الله عليه وسلم منزله فإن هذا سيؤثر سلباً لا شك على أبي سفيان وعلى أهل مكة جميعاً، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أعطى أبا سفيان شيئاً فهو سوف يستخدمه لصالح الإسلام، وسيكون أبو سفيان من رجاله وولاته بدلاً من أن يكون من أعدائه، وقد يرى ذلك بقية زعماء مكة فيطمعون في شيء من سلطان المسلمين كما أخذ أبو سفيان؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يعطيه شيئاً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا يملك مالاً كثيراً يليق بزعيم مكة، ولا يستطيع أن يعده بإمارة؛ لأنه لم يستوثق بعد من صدق إيمانه؛ لأن الظاهر أنه أسلم مضطراً، وقد يؤذي المسلمين بإمارته سواء على

خطة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية لدخول مكة

خطة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية لدخول مكة عند اقتراب الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بدأ يضع الخطة العسكرية لدخول مكة، فقسّم جيشه إلى أربعة فرق: فرقة على رأسها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذه تدخل من جنوب مكة، وهي فرقة فرسان قوية جداً. الفرقة الثانية: على رأسها الزبير بن العوام رضي الله عنه وتدخل من كداء شمال مكة المكرمة، وهي أيضاً فرقة فرسان. وهاتان الفرقتان تحاصران مكة كأنها بين فكي كماشة. الفرقة الثالثة: هي فرقة من الرجّالة المشاة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. أما الفرقة الرابعة: فهي فرقة الأنصار رضي الله عنهم وعلى رأسها سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وفي هذه الفرقة كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر الفرق الأربع بالالتقاء عند الصفا، كل فرقة تأتي من ناحية وتدخل مكة المكرمة ثم يلتقون جميعاً عند جبل الصفا بالقرب من البيت الحرام. فمعظم الناس في مكة استمعوا لكلام أبي سفيان ودخلوا الأماكن الآمنة، إما أنهم دخلوا المسجد الحرام، أو دخلوا بيوتهم، أو دخلوا دار أبي سفيان، لكن بعض زعماء قريش غير أبي سفيان قرروا القيام بمحاولة يائسة للمقاومة لعلها تنجح مع جمع أوباش قريش، يعني: العبيد والفقراء وعوام الناس، فهؤلاء الزعماء يدفعون بهؤلاء الأوباش إلى قتال الجيش الإسلامي، وكان يرأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وهما من أشهر فرسان قريش، وكانت النتيجة في حسابات زعماء قريش أحد أمرين: إما نصر، وسيكون هذا النصر للسادة، وإما هزيمة فعندها سيسلمون للرسول عليه الصلاة والسلام ما يريده، ولو كانت الهزيمة قاسية وفقد الجيش؛ لأن الجيش هم من الأوباش الذين لا قيمة لهم عندهم، وهكذا هي الجيوش العلمانية، النصر للسادة، والتضحية والبذل للعبيد، أقصى أحلام الجندي المنتصر في الجيوش العلمانية أن يعطى نيشاناً أو عدة عشرات أو مئات من الجنيهات، وعند الهزيمة يضحون بالآلاف والملايين، أما السادة في الجيوش العلمانية فيحتفلون بالنصر ولا يدفعون أثمان الهزائم، وهذا الكلام خلافاً للجيوش الإسلامية تماماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يقاتل مع جنوده كأحدهم تماماً، يعاني كما يعانون ويتعرض للخطر كما يتعرضون، والغنائم في حالة الفوز توزّع على جيش المنتصر، والهزيمة يشترك في دفع ثمنها الجميع. وهذا الأمر يزرع الانتماء في قلوب الجميع بصورة تلقائية طبيعية، فهذا هو الوضع في الجيوش الإسلامية، لكن الوضع في مكة كان غير هذا، فقد كان الوضع في مكة عبارة عن قبول المعظم من الناس بدخول البيوت وتجنب القتال، إلا فرقة من العبيد والفقراء يقودهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وكانت متمركزة عند منطقة تسمى الخندمة في جنوب مكة، وهذه الأخبار تصل الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم أصدر الرسول عليه الصلاة والسلام عدة أوامر، أصدر ثلاثة أوامر رئيسية: الأمر الأول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، فليس الغرض من الفتح هو الانتقام من أهل مكة، رغم كل التاريخ الأسود لكفارها، لكن الغرض هو حكم هذه البلدة الطيبة بالإسلام، وتعليم الناس دين رب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا حكم عام ينطبق على كل الحروب الإسلامية، ورأيناه في جميع الفتوحات الإسلامية. الأمر الثاني: إذا لقيتم أوباش قريش الذين يقاتلون فاحصدوهم حصداً. في مقابل الرحمة في الأمر الأول هناك الحزم والقوة في الأمر الثاني، فلا بد أن يرى أهل الباطل قوة المسلمين وبأسهم، وعندها ستلين قناتهم، وسيسلس قيادهم، وهذا أحفظ لدمائهم ودماء المسلمين. الأمر الثالث: إهدار دم مجموعة من كفار مكة، وهذه المجموعة ارتكبت جرائم شنيعة في حق الدولة الإسلامية، وهي جرائم لا تغتفر، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المشهور بالرحمة والمعروف بالرفق واللين يقول في حقهم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة) وكانوا بضعة عشر رجلاً وامرأة، وكانت هذه دلالة واضحة جداً على جدية الدولة الإسلامية، وعدم قبول الدولة الإسلامية بأي حال من الأحوال أن يسخر أحد منها أو من رموزها، وخاصة أن معظم هؤلاء الذين أُهدر دمهم كانت جريمتهم هي سب الرسول صلى الله عليه وسلم والسخرية منه، والتعريض به والتهكم عليه، ولا يخفى على أحد أن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالطعن في أي قائد؛ لأنه ليس مجرد زعيم للدولة الإسلامية، بل هو ناقل عن رب العزة، ورسول من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالطعن فيه طعن في دين وشرع وقانون وكيان الدولة الإسلامية، وهو ما لا يجب أن ينسى بسهولة؛ ولهذا كان الأمر الصارم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة)، وبعضهم قتل فعلاً وبعضهم تاب، وعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأعلن التوبة الصريحة بين يديه وقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً: فقد كانت هذه هي أوامر الرسول ع

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من إرادة سعد بن عبادة مقاتلة أهل مكة يوم الفتح

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من إرادة سعد بن عبادة مقاتلة أهل مكة يوم الفتح دخلت الجيوش الإسلامية مكة كما خطط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكث معظم أهل مكة في بيوتهم وكانت شوارع مكة في الأغلب خالية من المارة، وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم الأكيدة ألا يحدث قتال، وخاصة في هذا البلد الحرام، فهي أحب البلاد إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، ومع وضوح هذه الرغبة في كلام وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن بعض الصحابة كانت تراودهم أحلام الانتقام ممن أذاقوا المسلمين العذاب ألوانه، من ذلك أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار وقائد كتيبة الأنصار قال في حماسة عند دخوله مكة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، وهذه الكلمات تعبر عن رغبة في القتال، مع أن هذه الكلمات لها خلفية شرعية ولها منطق مقبول إلا أنها لم ترض الرسول صلى الله عليه وسلم، فالخلفية الشرعية أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن مكة قد أحلت له ساعة من نهار) يعني: القتال في ذلك الوقت قتال شرعي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريده فقط عند الاضطرار، وأن الأصل ألا نقاتل، ولكن منطق سعد بن عبادة هذا منطق مفهوم ومقبول، فالمنطق كان يؤيد هذا الأمر في رأي العموم من الناس؛ فمكة الآن محكومة بأهل الكفر وقتالهم واجب، فهؤلاء هم الذين عذّبوا المؤمنين، وهم الذين أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام آذوه وأصحابه قبل ذلك، بل إن سعد بن عبادة قد تعرض لأذى قريش بصورة مباشرة، وارجعوا إلى درس بيعة العقبة الثانية ففي آخر البيعة أمسك المشركون بـ سعد بن عبادة وضربوه ضرباً مبرحاً مع كونه سيد الخزرج، ومن الشخصيات الهامة جداً في الجزيرة العربية، ولا شك أن هذه الحادثة تركت في نفسه أثراً وأراد أن يعاملهم بالمثل فقال مثل هذه الكلمات، ومع كل هذه المبررات إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يريد قتالاً فعلاً، ووصلت إليه كلمة سعد بن عبادة عن طريق أبي سفيان، وأبو سفيان ارتعب عند سماع كلمة سعد بن عبادة هذه، وأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يستوثق من أمر الأمان لأهل مكة، فقال صلى الله عليه وسلم عندما سمع هذه الكلمات: (اليوم يوم المرحمة) يرد على كلمة سعد: اليوم يوم الملحمة، قال عليه الصلاة والسلام: (اليوم يوم المرحمة، هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة) فالرسول صلى الله عليه وسلم صحح المفاهيم ولم يكتف بذلك، لقد خشي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ سعد بن عبادة فرقته من الأنصار بهذه الروح القتالية فيتساهل في أمر القتال، لذلك نزع الراية منه وأعطاها لغيره، لكن بفقه دعوي رائع جداً أراد أن يطيب خاطر سعد بن عبادة ولا يؤثر على نفسيته وخاصة أنه زعيم الخزرج، فأعطى الراية لـ قيس بن سعد بن عبادة، فكان قراراً في منتهى الحكمة وأرضى به كل الأطراف، أرضى سعد بن عبادة وأرضى نفسه صلى الله عليه وسلم بتنفيذ القرار ألا يقاتل إلا من قاتل، وأرضى أبا سفيان الذي اشتكى إليه هذه الكلمة القاسية عليه، وخاصة أنه قد أعطى أماناً لأهل مكة.

موقف الجيش الإسلامي من مقاومة بعض كفار قريش ومكانة الفتح في نفس الرسول وصحابته

موقف الجيش الإسلامي من مقاومة بعض كفار قريش ومكانة الفتح في نفس الرسول وصحابته دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا في جنوب شرق مكة كما ذكرنا عند منطقة اسمها الخندمة، حين تزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش وقاتلوا في هذه المنطقة، والذي دخل من الجنوب من المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد رضي الله عنه صديقاً قديماً وحميماً لـ عكرمة ولـ صفوان إلا أنه كان متجرداً تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديداً رائعاً تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى صارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفار، وهرب صفوان بن أمية وكذلك عكرمة بن أبي جهل هربا من مكة بكاملها، وخمدت المقاومة تماماً في مكة المكرمة، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر صلى الله عليه وسلم ليدخلها آمناً مطمئناً عزيزاً. لعل هذه هي أعظم لحظات السيرة النبوية فهي اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرع الله عز وجل، ثلاث عشرة سنة متصلة في مكة من الألم والتعذيب والاضطهاد، أين أولئك الساخرون من الإسلام؟ أين أولئك المتهكمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين الذين كانوا يقولون: شاعر، أو مجنون؟ أين الزعماء والأسياد والأشراف والقواد؟ أين الجبابرة والطواغيت؟ لا تسمع منهم اليوم إلا همساً. لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام عند دخوله مكة كان يستعرض شريطاً كاملاً للذكريات، ومر على ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يدخل مكة بهذا الدخول العظيم الفاتح، تذكر هنا كانت الطفولة والشباب، وهنا نزل عليه جبريل عليه السلام للمرة الأولى، وهنا كانت خديجة رضي الله عنها، ذكريات (25) سنة كاملة، ذكريات الجهاد والصبر حتى الوفاة. هنا مرت لحظات سعيدة جداً على المسلمين، لحظة يوم أسلم الصديق ويوم أسلم عمر ويوم أسلم عثمان وعلي وحمزة وأبو عبيدة وسعد ذكريات جميلة، هنا دار الأرقم بكل ذكرياته الجميلة أيضاً. وهنا في نفس الوقت الصبر والكفاح والثبات، فمن هنا خرج المهاجرون إلى الحبشة، ومن هنا خرج المهاجرون أيضاً إلى المدينة المنورة، ومن هنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق في هجرة صعبة في مطاردة شرسة، وزعماء الكفر جميعاً قد جندوا أنفسهم لحربه أو لقتله، يلتفت إلى مكة حال خروجه منها ويقول: (والله إنكِ لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت) وبعدها تمر الأيام وتمر السنين، أحداث ساخنة، ومواقف صعبة، جهاد ومشقة، وعناء وكفاح، لكن ما غابت مكة عن الذهن لحظة واحدة، وهنا يتحقق حلم السنين، أصبح الأمل واقعاً، وصار الحلم حقيقة، وهناك أناس كثيرون يظنون أن هذا أمر مستحيل، لكن تبقى الحقيقة الواضحة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] إنه نصر الله وتدبير الله وتوفيق الله، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك تمام الإدراك؛ لذلك لم يدخل مكة دخول المنتصرين المتكبرين، رافعاً رأسه متعالياً على غيره، ناسباً النصر لنفسه، حاشا لله، ولكنه دخل مكة دخول المتواضعين لله عز وجل الخاشعين له، خفض رأسه صلى الله عليه وسلم في تواضع حتى كادت أن تمس ظهر دابته، دخل وهو يتلو سورة النصر، فيذكر نفسه ويذكر المؤمنين حوله ويذكر المؤمنين إلى يوم القيامة، بل ويعلم الناس جميعاً أن النصر من عند الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى إذا قضى شيئاً فلا راد لقضائه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. وصار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة، ليبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة وربانية التشريع، وليرسّخ القاعدة الأصيلة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات الموحدين، وأن يرينا يوماً تفتح فيه بلاد الأرض بالإسلام ويظهر فيه الدين، ويعز الله عز وجل فيه المؤمنين، ويذل فيه المشركين، إنه ولي ذلك والقادر عليه. كما نسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير دائماً. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]

إسلام مكة

سلسلة السيرة النبوية_إسلام مكة كان يوم فتح مكة يوماً مشهوداً، وفيه من الدروس والعبر الكثير، من ذلك: احتواء الموقف، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل بتكسير الأصنام، وتأليف القلوب، والصفح والعفو عن ألد الأعداء وإدخالهم في حظيرة الإسلام بالأخلاق الرفيعة العالية، وغير ذلك من المواقف العظيمة التي فعلها صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة.

الخطوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة مباشرة

الخطوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة مباشرة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني فترة الفتح والتمكين. في الدرس السابق تحدثنا عن لحظة من أهم اللحظات في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل وفي تاريخ الأرض عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً عزيزاً منتصراً صلى الله عليه وسلم، ودخل كما تعلمون في عشرة آلاف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. وكما ذكرنا لم يلق مقاومة تذكر في مكة المكرمة إلا مجموعة واحدة من كفار قريش أرادت المقاومة، فاستطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه مع فرسان معه أن يقضوا على هذه المقاومة في لحظات، ودانت مكة المكرمة لحكم المسلمين بعد أقل من يوم واحد من فتحها، والرسول عليه الصلاة والسلام دخل بموكبه المهيب مخترقاً مكة بكاملها حتى وصل إلى صحن الكعبة.

تكسير الأصنام

تكسير الأصنام أول ما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة أمر بتكسير الأصنام التي حولها داخلها، فقد كان حول الكعبة (360) صنماً غير هبل أعظم آلهتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين بتكسير كل هذه الأصنام وشاركهم في ذلك. وهذا الأمر كان بعد صبر دام (21) سنة كاملة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة مدة (13) سنة متتالية. أي: الفترة المكية، ولم يفكر مرة واحدة في كسر صنم واحد، وطاف في عمرة القضاء قبل الفتح بعام واحد ولم يفكر لحظة واحدة في كسر صنم واحد من هذه الأصنام، وهذه المفارقة وهذه المقارنة بين الموقفين تحتاج منا إلى وقفة. بعد صبر (21) سنة الآن لا يصبر عليه الصلاة والسلام لحظة واحدة، فهو لم يقم الصلاة ولم يكلم الناس ولم يعمل أي شيء قبل أن يكسر الأصنام ويأمر بذلك. عندما نأتي لندرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد أن نأخذ اهتماماً خاصاً بالأعمال التي قام بها صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه إذا بدأ بشيء ما فهذا الأمر مقصود، فكل خطوة من خطواته صلى الله عليه وسلم متابعة بالوحي، وفيها رعاية كاملة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهي تشريع للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم الفتح لا يصبر دقائق على وجود صنم يعبد من دون الله عز وجل، هذا ما أسميه بـ: فقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين، لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام كسر هذه الأصنام في فترة مكة المكرمة لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاستئصل المسلمون بكاملهم من مكة المكرمة. أما الآن وبعد أن صار صلى الله عليه وسلم حاكماً لمكة المكرمة، بل ولأجزاء كبيرة جداً من الجزيرة العربية، وصار في هذه القوة فإنه لا يصبر على وجود مثل هذا المنكر الشنيع من صنم يعبد من دون الله عز وجل، فكسر كل الأصنام، وكسرها وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً). بالإضافة إلى كونه لا يرضى عن وجود هذا المنكر، فتكسيره للأصنام كان خطوة سياسية في منتهى الروعة؛ لأن هذه الخطوة كسرت تماماً كل معنويات أهل مكة، وهذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله لا أقول عشرات السنين بل مئات السنين في داخل مكة المكرمة، أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، فهاهي الآن تكسر هذه الأصنام، وكل مشرك كان يعتقد في داخله أن هذه الأصنام ستصيبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضرر أو بسوء؛ لأنهم فعلوا معها ذلك، ومع ذلك لم يحدث له شيء، وكذلك الجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، فظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين من أنهم كانوا في ضلال مبين كل هذه السنوات السابقة. إذاً: هذه خطوة رائعة وهامة جداً لكسر معنويات كفار قريش، فبعد هذا التكسير لهذه الأصنام خارت قواهم تماماً وفقدوا كل أمل في المقاومة، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص صلى الله عليه وسلم على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة، فأرسل صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لكسر العزى، وهي من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، فذهب خالد بسرية وكسر هذا الصنم الضخم صنم العزى. وأرسل سرية بقيادة سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه لكسر صنم مناة وهو من أشهر أصنام العرب. وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سواع، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب أيضاً. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه كسر هبل في صحن الكعبة، وأرسل خالد بن الوليد لكسر العزى، وسعيد بن زيد لكسر مناة، وعمرو بن العاص لكسر سواع، لكن بقي صنم مشهور جداً من أصنام العرب وهو صنم اللات، وصنم اللات هذا كان موجوداً في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة. لقد كسر الرسول عليه الصلاة والسلام كل الأصنام الكبرى التي استطاع أن يكسرها في ذلك الوقت، سواء في داخل مكة أو في المناطق التي حول مكة. وبذلك كما ذكرنا سقطت كل معنويات قريش، وحطم تماماً كل أمل عندهم للمقاومة. إذاً: هذه كانت أول خطوة عملها الرسول صلى الله عليه وسلم: تكسير الأصنام في الكعبة وما حولها.

أذان بلال يوم الفتح على سطح الكعبة

أذان بلال يوم الفتح على سطح الكعبة الخطوة الثانية كانت هامة جداً، وتضيف معنى مهماً جداً عند قريش في ذلك الوقت؛ ليفقهوا الإسلام على حقيقته، وهي: أن الله عز وجل يعز من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه وعن لونه وعن قبيلته وعن أي شيء، فمن انتمى لهذا الإسلام فهو عزيز ومن لم ينتم إليه فهو ذليل. رأى المشركون من أهل قريش بعيونهم في ذلك اليوم عندما نادى صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وأرضاه، وأمره أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن الأذان للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الفعل، أمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن في الكعبة في عمرة القضاء، والآن يأمر بلالاً أن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق أشرف بقعة في الأرض، فوق الكعبة البيت الحرام؛ ليرفع الأذان لله عز وجل، الله أكبر، الله أكبر إلى آخر الأذان. وبلال رضي الله عنه وأرضاه عندما كان يعذب في مكة قبل الهجرة كان يقول: أحد، أحد، في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذبه، أما الآن فهو يصدح بالتكبير في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يستمع إليه رضي الله عنه وأرضاه. وهذا الأمر كما ذكرنا كان له أشد الأثر على المشركين، ودليل ذلك ما حدث على سبيل المثال من أبي سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام، فهؤلاء الثلاثة كانوا قاعدين في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، فـ أبو سفيان كان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن عتاب بن أسيد كان أحد الشباب في قريش، فقد كان عمره حوالي (20) سنة ما زال مشركاً، والحارث بن هشام أيضاً كان ما زال مشركاً، والحارث بن هشام هذا هو أخو أبي جهل، فهو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة، وأحد زعماء بني مخزوم، فقال عتاب معلقاً على أذان بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق الكعبة: أكرم الله أسيداً -أي: والده أسيد - ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. يعني: أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبي، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي. فجاءهم صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات وقال: (قد علمت الذي قلتم، ثم قال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً، فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله! ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك). كذلك بنو سعيد بن العاص لما رأوا بلالاً يؤذن على الكعبة قالوا: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فرد عليه الحارث بن هشام: دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره. أعتقد أن هذا الكلام قاله بعد أن أسلم رضي الله عنه، ولكن كان هذا في بداية إسلامه. وصار بعض قريش يستهزئ ويقلد صوت بلال غيظاً، فقلده أحد الشباب واسمه أبو محذورة الجمحي، وأبو محذورة كان عمره (16) سنة، وكان صوته جميلاً جداً، كان من أحسن قريش صوتاً، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئاً سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاكتشف طاقة موجودة عند هذا الشاب، فناداه، فمثل هذا الشاب الصغير بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح صلى الله عليه وسلم صدر وناصية هذا الشاب بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة: فامتلأ قلبي إيماناً ويقيناً، فعلمت أنه رسول الله. فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن آمن هذا الشاب علمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، وظل الأذان في أبي محذورة وعقب أبي محذورة بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان. والرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الأذان وضح لقريش أن الله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، هكذا فهم القرشيون في هذا الموقف العظيم. إذاً: الفتح تم كما رأينا بحرب عسكرية وحرب سياسية وحرب معنوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقن كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، الحرب عسكرية أعد إعداداً قوياً جداً للجيش، ووضع خطة محكمة فقد أخفى سيره إلى مكة قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دو

أخلاقه صلى الله عليه وسلم في امتلاك القلوب

أخلاقه صلى الله عليه وسلم في امتلاك القلوب الخطوة الثالثة: وسيلة امتلاك القلوب، فالشعب الذي فتح بلده الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في داخله غيظ كبير جداً من المحتل له، سواء كان هذا المحتل من الشرفاء أو من غير ذلك، وكانت هناك حرب طويلة بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ما في داخلهم؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، فماذا فعل؟ نحن رأينا قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام ألف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان كما ذكرنا زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة في داخل قريش، فهو صلى الله عليه وسلم ألف قلب زعيم أكبر القبائل القرشية في داخل مكة المكرمة. وهذا موقف ثان رائع منه صلى الله عليه وسلم في تأليف قبيلة ثانية كبيرة، وهذا الموقف عندما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة وصلى فيها، ثم خرج ودعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وعثمان بن طلحة أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة شهور، أسلم مع عمرو بن العاص ومع خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية أيضاً وفيها شرف كبير جداً، فهي حاملة مفتاح الكعبة أباً عن جد لعشرات السنين قبل ذلك. فالرسول عليه الصلاة والسلام دعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، فظن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيأخذ منهم مفتاح الكعبة؛ ليعطيه لأحد أقاربه ليعطيه شخصاً من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طلب ذلك صراحة، طلب أن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم من السقاية والحجابة، فيكون عندهم مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرف الدهر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الكلام في منتهى العظمة والحكمة، وحتى تعرف مدى العظمة والحكمة راجع موقفاً من المواقف التي مرت قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل أن يهاجر، ويومها كان عثمان بن طلحة هذا من الكفار، وكان قد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوار وطلب منه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، لكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت رفض، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ)، ومرت الأيام وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة المكرمة وطلب المفتاح، وعثمان بن طلحة دون تردد أتى بالمفتاح، فهو الآن أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح ووضعه في يد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يظن أن الأمر سيصير إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم، وسيعطي المفتاح إلى إنسان غيره، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع المفتاح مرة ثانية في يد عثمان بن طلحة، وقال: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم). وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار بكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوها خالدة تالدة). إذاً: هذا الموقف من أروع المواقف التي استطاع بها الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكسب قلوب بني عبد الدار جميعاً، فبنو عبد الدار رأت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أنزل الناس منازلهم حين أبقى لهم على الفخر الذي كان لهم. وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة. وقبل ذلك كسب قلوب بني أمية، والآن يكسب قلوب بني عبد الدار. لقد كان صلى الله عليه وسلم يسير بخطة محكمة، فقد فعل صلى الله عليه وسلم أمراً من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول حاربت دولة أخرى ولو يوماً واحداً لا عدة سنوات سابقة، لقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صحن الكعبة في يوم فتح مكة ودعا أهل مكة جميعاً أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعاً، وقد كان موقفهم في منتهى الحرج، بعد صراع طويل جداً وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام، ومصادرة للأموال وللديار، وقتل لبعض الأصحاب، وجلد وتعذيب للبعض الآخر وكذا وكذا من الأمور التي نعلمها، وفصلنا فيها كثيراً في الفترة المكية، وفي الحروب المتتالية بين المسلمين وبين المشركين، بعد كل هذا التاريخ الطويل من العناء مع أهل مكة يسألهم صلى الله عليه وسلم سؤالاً واحداً فيقول: (ما تظنون أني فاعل بكم؟)، يعني: ماذا سيكون رد فعلي معكم بسبب ما فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذ

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع زعماء مكة المشركين يوم الفتح

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع زعماء مكة المشركين يوم الفتح لقد بقي من أهل مكة بعض الزعماء وبعض الكبراء لم يسلموا، ففر بعضهم خارج مكة المكرمة، وبعضهم اختفى في بيته، وبعضهم طلب الإجارة من بعض الناس، وهؤلاء الذين هربوا جميعاً كان لهم تاريخ طويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل الذي فر خارج مكة المكرمة واتجه إلى اليمن، وفر صفوان بن أمية بن خلف الجمحي إلى البحر الأحمر؛ ليلقي بنفسه في البحر منتحراً بعد فتح الرسول عليه الصلاة والسلام لمكة المكرمة، وبعد أن فقد كل أمل في أن يكون له موضع أو مكان في مكة المكرمة، وهو من الزعماء. كذلك سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكان له تاريخ طويل مع الرسول عليه الصلاة والسلام. كذلك هند بنت عتبة هناك ناس كثير هربوا من وجه الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وكل واحد منهم له قصة، وكل واحد منهم شاء ربنا سبحانه وتعالى شاء أن يدخل الإسلام في قلبه، ولكن بطريقة جميلة جداً على يد الحبيب صلى الله عليه وسلم مباشرة.

موقفه صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو

موقفه صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو تعالوا بنا نرى قصتهم واحداً واحداً وفيها من العبر ما فيها، فهذا سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وهو من كبار زعماء قريش، ومن كبار زعماء مكة في التاريخ، وكبير جداً في السن، وعنده الكثير من الأولاد، وهؤلاء الأولاد معظمهم من المسلمين وفي جيش المسلمين الفاتح لمكة المكرمة، فهو بعد أن فتحت مكة المكرمة لم يجد له عوناً من الزعماء الذين كانوا معه؛ فكل واحد فر، ففر هو الآخر ودخل بيته، يقول: فانقحمت في بيتي وأغلقت علي بابي، ثم يقول: وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل وابنه كان من جنود الجيش الفاتح كان قد أسلم قبل ذلك بزمن، فقال سهيل: وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جواراً من محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لا آمن من أن أقتل. فـ سهيل بن عمرو ظل يتذكر تاريخه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: تذكرت أثري عند محمد وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته المعاهدة التي تمت في صلح الحديبية، لو تذكرون كان سهيل بن عمرو ممثل قريش وزعيم قريش الذي أرسلته ليتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديبية، فيجد أنه أثر تأثيراً سلبياً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، ويظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يتذكر له هذه المواقف. ثم يقول سهيل بن عمرو: ومع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت معها، فهو يخاف أن يقتل، فذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله هل تؤمن أبي؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم، هو آمن بأمان الله؛ فليظهر)، انظروا إلى هذا التعامل مع أحد كبار زعماء مكة المكرمة، ومدى العظمة في هذا التعامل، بينما عند احتلال أي دولة لدولة ثانية تجد أن الأمراء والوزراء والكبراء في البلد يتتبعون في كل مكان؛ ليقتلوا، أو يسجنوا في السجون فترات طويلة، أو يمثل بهم أو كذا أو كذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي سهيل بن عمرو الأمان، ويقول: (فليظهر). وانظروا إلى ما سيأتي من حوار بعد ذلك بينه وبين سهيل بن عمرو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة. ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين حوله في ذلك الوقت: (من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه)، احذروا أن تروعوا سهيل بن عمرو حين يأتي للتحاور معي، (لا يشد أحدكم النظر إليه، فليخرج، فلعمري إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بناء) فـ سهيل عرف المشكلة التي كانت عنده، والآن هو يريد أن يعود إلى الله عز وجل وإلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فلا يرفع أحد إليه النظر، ولا يتهكم أحد عليه بكلمة، ولا يعلق أحد عليه تعليقاً سلبياً بأي صورة من الصور. إن له عقلاً وشرفاً. هكذا يذكر صلى الله عليه وسلم صفة سهيل بهذا التعظيم والتكريم له، مع أنه من ألد أعدائه قبل ذلك. انظروا إلى الرحمة النبوية وإلى فن امتلاك القلوب وعبد الله بن سهيل عندما استمع إلى هذه الكلمات طار بها إلى أبيه، فلما ذكر له هذه الكلمات قال سهيل: كان والله براً صغيراً وكبيراً، وأتى سهيل بن عمرو وأعلن إسلامه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم. وكما يقول الرواة بعد ذلك: كان سهيل بعد هذا الإسلام كثير الصلاة والصوم والصدقة، وخرج مجاهداً في سبيل الله، وكان أميراً على إحدى فرق المسلمين في موقعة اليرموك. بهذه المعاملة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب الناس، فعلاً هو فن الدعوة إلى الله عز وجل، ليس أبداً تصرف قائد متغطرس احتل دولة من الدول يسوم أهلها العذاب، ولكن هو التصرف الرحيم من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو قدوة لنا أجمعين، ولا يخفى على أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب بني عامر جميعاً بتساهله وتسامحه مع سهيل بن عمرو زعيم بني عامر.

موقفه صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية

موقفه صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية تعالوا نرى موقفه صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية، صفوان بن أمية بن خلف كان أبوه من أشد المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين قتلوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية للإسلام والمسلمين من أبيه، وحارب الرسول عليه الصلاة والسلام بكل طاقته، وكان ممن التف على المسلمين في أحد هو وخالد بن الوليد رضي الله عنه، واشترك اشتراكاً كبيراً في قتل سبعين من شهداء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، واشترك أيضاً في الأحزاب، بل ومن الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة، بل إن صفوان بن أمية قبل ذلك دبر محاولة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كأنه عداء شخصي بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وكما تذكرون هذه المحاولة كانت بينه وبين عمير بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، وذكرناها بعد درس بدر، وفيها تعهد صفوان بن أمية لـ عمير بن وهب أن يتحمل عنه عياله وأن يسدد عنه دينه، في نظير أن يقتل عمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا القصة بتفصيلاتها بعد غزوة بدر، ورأينا كيف أسلم عمير بن وهب في المدينة المنورة، ومرت الأيام وجاء فتح مكة المكرمة وفر صفوان بن أمية لما لم يجد له أي مكان في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يستقبل في أي مكان في الجزيرة العربية، فقرر أن يلقي نفسه في البحر؛ ليموت فيه، فخرج في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، ثم إنه من بعيد رأى أحد الرجال يتتبعه فخاف، وقال لغلامه: ويحك انظر من ترى، قال: هذا عمير بن وهب، وكان عمير بن وهب صديقاً حميماً لـ صفوان بن أمية قبل أن يسلم، فقال صفوان: ما أصنع بـ عمير والله ما جاء إلا يريد قتلي، فهو الآن مسلم قد ظاهر محمداً علي، فقال صفوان بن أمية لما لحقه عمير: يا عمير ما كفاك ما صنعت بي، حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي. فقال عمير: جعلت فداك، أنا ما زلت صديقك، وجئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس إلى آخر الحكاية فـ عمير بن وهب عندما علم أن صفوان بن أمية هرب من مكة المكرمة، تذكر صديقه القديم صفوان بن أمية، فخاف عليه وخشي عليه وأحب له الإسلام، وأحب له أن يدخل فيما دخل فيه عمير رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وطلب لـ صفوان بن أمية الأمان، فقال: (يا رسول الله! سيد قومي خرج هارباً؛ ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه فداك أبي وأمي فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمنته، فخرج عمير بن وهب حتى وصل إلى صفوان بن أمية كما ذكرنا فقال عمير لـ صفوان: إن رسول الله قد أمنك، فخاف صفوان وقال: لا والله لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمنني، فرجع عمير بن وهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، وقال: يا رسول الله! جئت صفوان هارباً يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته، فقال: لا أرجع حتى تأتي بعلامة أعرفها، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: خذ عمامتي)، انظروا إليه صلى الله عليه وسلم يحاول قدر المستطاع أن يأتي بكل إنسان إلى الإسلام: (فأخذ عمير العمامة وذهب إلى صفوان بن أمية وقال له: يا أبا وهب جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبر الناس وأحلم الناس مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، فقال له صفوان: أخاف أن أقتل، قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سيرك شهرين). انظروا كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تعال لو أردت أن تسلم الآن فأسلم، ولك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، وإن أردت أن تأخذ شهرين كاملين لتفكر فيهما فأنت في أمان. فهو أوفى الناس وأبرهم صلى الله عليه وسلم، وقد بعث إليك بعمامته العلامة التي كان يريدها صفوان بن أمية قال عمير بن وهب: تعرفها؟ قال: نعم. فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس أمامه أي طريق آخر، ليس أمامه إلا أن يقبل بهذا الأمان، وهو يعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام دائم الحفظ لوعده وعهده فهو الصادق الأمين، فعاد مع عمير بن وهب إلى مكة المكرمة ودخل في الحرم والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس صلاة العصر، فوقفا سوياً حتى ينتهي الر

موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل

موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل نأتي إلى قصة واحد من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاريخ كله، هذا هو عكرمة بن أبي جهل وليس فقط مشكلة عكرمة أنه ابن أبي جهل وأنه شرب العداوة هذه المدة الطويلة من أبيه أشد أعداء الإسلام مطلقاً وفرعون هذه الأمة، لكن عكرمة استمر وزاد في العداوة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أهدر دمه، وهناك مجموعة من المشركين أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دمهم، وقال: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة)، وكان من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، ولعله علم ذلك فكان ممن قاتل في الخندمة يوم الفتح ضد خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولكنه بعد هزيمته فر من مكة المكرمة، وحاول أن يصل إلى اليمن، وذهب إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق فيها إلى اليمن، وكانت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ابنة عمه قد أسلمت في يوم الفتح على جبل الصفا مع من أسلم من أهل مكة، فذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لتستشفع عنده لـ عكرمة بن أبي جهل أن يؤمنه كما أمن صفوان بن أمية، لكن موقف عكرمة كان مختلفاً، وكما ذكرنا هو مهدر الدم، قالت أم حكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد هرب عكرمة منك إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمنه، فالرسول عليه الصلاة قال: هو آمن) لم يذكر لها أنه مهدر الدم، ولم يذكر لها التاريخ الطويل له في العداء، بل قال: (هو آمن)، فخرجت أم حكيم الزوجة الوفية تبحث عن زوجها ذهبت حتى وصلت إلى عكرمة بن أبي جهل وهو يحاول أن يركب سفينة في ساحل البحر الأحمر متجهاً إلى اليمن، فكان في حوار مع ربان السفينة التي سيركبها، لقد كان ربان السفينة مسلماً، فقال له قبل أن يركب: أخلص، فـ عكرمة بن أبي جهل لا يعرف ما معنى أخلص، قال: أي شيء أقول؟ قال: قل: لا إله إلا الله، فقال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، وهو لا يزال في هذا الحوار مع ربان السفينة إذا بـ أم حكيم رضي الله عنها تأتي في هذه اللحظة، فقالت له: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس لا تهلك نفسك، وتدعوه إلى العودة معها إلى مكة المكرمة، فوقف لها عكرمة بن أبي جهل، فقالت له أم حكيم: إني استأمنت لك محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك، فـ عكرمة بن أبي جهل ضاقت عليه الدنيا كلها، أين يذهب؟ هو يريد أن يذهب الآن إلى اليمن، واليمن بكاملها مسلمة كما ذكرنا قبل ذلك في الدروس السابقة، وغير ذلك من بقاع الأرض تتناقص حوله الآن، فالجميع الآن يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم فماذا يفعل؟ فبمجرد أن قالت له هذه الكلمات أخذ قراراً سريعاً بالعودة معها دون تفكير طويل، وعاد إلى مكة المكرمة وقبل أن يدخل مكة المكرمة إذا بالرسول عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه كلمات جميلة جداً، كما ذكرها قبل ذلك في حق سهيل بن عمرو قالها في حق عكرمة بن أبي جهل قال: (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت). أي أخلاق كريمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو جهل فرعون هذه الأمة ولعنه صلى الله عليه وسلم صراحة قبل ذلك، ودعا عليه، وجاء ذكره في أكثر من موضع في القرآن الكريم باللعن عليه، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ألا يلعنوا هذا الرجل فرعون هذه الأمة أمام عكرمة بن أبي جهل؛ لكي لا يؤذوا مشاعر عكرمة، مع أن عكرمة حتى هذه اللحظة لم يسلم بعد، ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم وثب إليه وما عليه رداء فرحاً به. انظروا إلى أسارير الرسول عليه الصلاة والسلام كيف انبسطت عندما رأى عكرمة بن أبي جهل يعود إليه ويأتي إليه وهو على أبواب الإسلام، هو لم يسلم بعد، ومع ذلك كان هذا الاستقبال الحافل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لواحد من أكبر أعدائه قبل ذلك، وكان من أكبر الذين قاوموه ومنعوه من دخول مكة المكرمة قدر ما يستطيع، فهو الآن يستقبله هذا الاستقبال الحافل. فجلس عكرمة بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (يا محمد! إن هذه أخبرتني أنك أمنتني -يعني: زوجته- فقال صلى الله عليه وسلم: صدقتك فأنت آمن، فقال عكرمة: فإلى ما تدعو يا محمد، قال أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأخذ يعدد عليه أمور الإسلام، حتى عد كل الخصال الحميدة، فقال

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع فضالة بن عمير الليثي

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع فضالة بن عمير الليثي نأتي أيضاً إلى قصة إسلام واحد من أشد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام وهو فضالة بن عمير الليثي، وهذا الرجل من شدة عدائه للرسول عليه الصلاة والسلام أنه قرر أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم الفتح والرسول عليه الصلاة والسلام في وسط الجيش الكبير عشرة آلاف، وإذا قتله فضالة بن عمير فلاشك أنه مقتول، ومع ذلك سيضحي بنفسه ليقتل الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة كراهيته له، بجوار الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يطوف بالبيت، فلما دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يحمل السيف تحت ملابسه، قال له صلى الله عليه وسلم: (أفضاله؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله، فقال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام ضحك وقال: استغفر الله يا فضالة، ثم وضع يده على صدر فضالة فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه)، وأسلم فضالة رضي الله عنه وأرضاه وحسن إسلامه، حتى إنه لما عاد من عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله فمر بامرأة كان يتحدث إليها في الجاهلية، فقالت المرأة له: هلم إلى الحديث، فقال: لا، يأبى عليك الله والإسلام. انظروا تغير (180) درجة، بعد هذا الإسلام أصبح رجلاً آخر غير الرجل الأول. هكذا يصنع الإسلام الرجال والنساء على نهجه، بصورة تكاد تكون مختلفة تمام الاختلاف عن حياته قبل الإسلام.

موقفه صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة

موقفه صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة من الذين نحب أن نقف مع إسلامهم وقفة هامة وطويلة، ليس مع إسلام أحد رجال مكة أو أحد زعماء مكة، ولكن مع إسلام إحدى نساء مكة، إحدى النساء اللاتي حاربت الإسلام طويلاً ولمدة سنوات كثيرة، ولها ذكريات مؤلمة جداً مع المسلمين ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً، سنقف مع إسلام هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان رضي الله عنه. لقد كان هند بنت عتبة موتورة من المسلمين، قتل أبوها عتبة بن ربيعة في بدر، وقتل عمها شيبة بن ربيعة كذلك في بدر، وقتل ابنها حنظلة بن أبي سفيان أيضاً في بدر، وقتل أخوها الوليد بن عتبة بن ربيعة أيضاً في بدر، فتصور أربعة من أقرب الأقرباء إليها قتلوا جميعاً في بدر، وهم جميعاً من سادة قريش. فالحقيقة موقفها كان في غاية الصعوبة، فقد حملت في قلبها كراهية لم يحملها أحد مثلها إلا القليل، وظلت على هذا الأمر سنوات طويلة منذ بدر وإلى فتح مكة، ست سنوات متصلة، وقبل ذلك أيضاً كانت معادية للإسلام، ولكن ظهرت العداوة بشدة بعد مقتل هؤلاء الأربعة في بدر، وخرجت بنفسها مع الجيش الكافر في موقعة أحد، وحمست الجيش قدر ما تستطيع لحرب المسلمين، ولما فر الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تحثو في وجوههم التراب وتدفعهم دفعاً إلى حرب المسلمين، ولم تفر كما فر الرجال، ثم إنه بعد انتصار أهل مكة على المسلمين في نهاية موقعة أحد قامت بفعل شنيع، قامت بالتمثيل بالجثث، وبدأت تمثل بواحدة تلو الأخرى بنفسها، حتى وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فبقرت بطنه رضي الله عنه وأرضاه وأخرجت كبده ولاكت من كبده، يعني: أكلت من كبده قطعة، فما استساغتها فلفظتها، لكن هذا الموقف أثر بشدة في الرسول عليه الصلاة والسلام، وخرجت مع المشركين في غزوة الأحزاب، بل واستمرت في حربها ضد الإسلام حتى اللحظات الأخيرة من فتح مكة، رفضت هند بنت عتبة ما طلبه زوجها من أهل مكة من أن يدخلوا في بيوتهم طلباً لأمان الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعت أهل مكة لقتل زوجها عندما أصر على مهادنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودفعتهم دفعاً إلى القتال، يعني: تاريخ طويل شرس جداً مع المسلمين، ومع ذلك عندما جلس صلى الله عليه وسلم عند جبل الصفا ليبايع الناس على الإسلام جاءت هند بنت عتبة وهي منتقبة متنكرة لا يعرفها صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يبايع النساء في ذلك اليوم مشافهة ما وضع يده في يد امرأة أجنبية قط صلى الله عليه وسلم، وكانت بيعة النساء على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، فبدأت النساء تبايع وقال صلى الله عليه وسلم لهن: (بايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال) يعني: علينا تفصيلات كثيرة بينما الرجال بايعوا بيعة واحدة فقط، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولا تسرقن، فوقفت هند وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بني، فهل علي من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف)، ثم انتبه صلى الله عليه وسلم وعلم أن هذه التي تتكلم معه زوجة أبي سفيان فقال: (وإنك لهند بنت عتبة)، فهو صلى الله عليه وسلم تذكر في تلك اللحظة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وما حدث له من هند بنت عتبة، قالت هند: (نعم، هند بنت عتبة فاعف عما سلف عفا الله عنك)، فهي تعرف تاريخها مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم دائماً يعفو ويصفح، وأكمل البيعة مع النساء، وقال: (ولا يزنين، فقالت هند: يا رسول الله! وهل تزني الحرة؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ولا تقتلن أولادكن، فقالت هند قد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنت وهم أعلم، هل تركت لنا ولداً إلا قتلته يوم بدر -يعني: أنت قتلت آباءهم يوم بدر وتوصينا بأولادهم- فتبسم عليه الصلاة والسلام، وضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى على قفاه)، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدر موقف هند بنت عتبة ومدى صعوبة الإسلام عليها، ومع ذلك هي الآن تسلم عن قناعة، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح، فقال صلى الله عليه وسلم: ولا يعصينني في معروف، فقالت هند: والله ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسن

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من إجارة أم هانئ يوم الفتح لبعض المشركين

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من إجارة أم هانئ يوم الفتح لبعض المشركين نريد أن نذكر بموقف من المواقف الرائعة في فتح مكة لإحدى نساء المسلمين، وهي السيدة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها وأرضاها أخت سيدنا علي بن أبي طالب، لما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام بأعلى مكة ودارت الحرب في أسفل مكة بين مجموعة من المشركين وبين سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هرب رجلان من بني مخزوم ولم يجدا أي ملجأ في ذلك الوقت إلا أن يدخلا عند السيدة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها؛ لأن زوجها هو هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فهم من أقارب زوج السيدة أم هانئ، وطلبا منها أن تجيرهما. فهذا شيء فيه إهانة كبيرة جداً عند العرب، لكن في نفس الوقت هذان الاثنان لم يجدا لهما أي سبيل غير أن يطلبا الإجارة من امرأة، فأجارتهما أم هانئ رضي الله عنها، فما لبث أن دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما الباب رضي الله عنها، وقالت: قد أجرتهما، فسيدنا علي مصر على أن يقتلهما، فقالت: نذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسيدنا علي لما سمع ذلك سكت وذهب معها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعرضت السيدة أم هانئ أمرها عليه وقالت: (يا رسول الله زعم ابن أمي -الذي هو علي بن أبي طالب - أنه قاتل رجلاً أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت). يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بإجارة أم هانئ في اثنين كانا يقاتلان المسلمين، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يجير من أجارت السيدة أم هانئ رضي الله عنها وأرضاها: (قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت). هذه هي قيمة المرأة في الإسلام، وكما ذكرنا أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام تؤمن عكرمة بن أبي جهل مع أنه كان مهدر الدم. وكذلك أم هانئ الآن تؤمن الرجلين بعد أن كانا على مقربة من القتل على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه. قبل ذلك أم سلمة كما ذكرنا في الدرس السابق توسطت عند الرسول عليه الصلاة والسلام ليقبل توبة أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية بعد أن رفض صلى الله عليه وسلم في البداية. إذاً: هذه مكانة عظيمة جداً وراقية جداً للمرأة في الإسلام، ومنذ الأيام الأولى للإسلام.

بعض الأحداث والمواقف التي وقعت بعد فتح مكة

بعض الأحداث والمواقف التي وقعت بعد فتح مكة

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المرأة المخزومية التي سرقت

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المرأة المخزومية التي سرقت إن الأحداث في فتح مكة من الصعب أن تحصى في لقاء واحد؛ لأن الأحداث كثيرة جداً، وكنت أود أن أتكلم فيها، لكن الوقت لا يتسع؛ لذلك سأختار بعض الحوادث القليلة التي أعلق عليها تعليقاً سريعاً، ونسأل الله عز وجل أن يجمع بيننا في اللقاءات الأخرى لنفصل في موقف من أهم المواقف اللافتة للنظر في فتح مكة، وهذا الموقف: هو الموقف من المرأة المخزومية التي سرقت، هذه المرأة سرقت بعد أن فتحت مكة، وكانت من النساء اللاتي أسلمن، فهي من بني مخزوم شريفة من الأشراف، وقبيلة بني مخزوم قبيلة كبيرة جداً، وكما يعلم الجميع أن العلاقة بين بني مخزوم وبني هاشم كانت علاقة حساسة جداً، وكان التنافس بينهما على كل الأمور تقريباً، وكان أبو جهل زعيم بني مخزوم، وكان الموقف حرجاً جداً مع هذه القبيلة بالذات، ويخشى من أن تنقلب على المسلمين انقلاباً قد لا يحمد عقباه، ومع أننا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يحاول قدر المستطاع أن يؤلف قلوب القبائل، فألف قلوب بني أمية، وألف قلوب بني عبد الدار، وألف قلوب بني عامر كما ذكرنا في الدرس، لكن هذا حدث مهم مع بني مخزوم، وقد يفهمه الفاهمون أنه ليس فيه نوع من التأليف لبني مخزوم، لكن نحتاج أن ندرس الموضوع بدقة. فهذه امرأة من أشراف بني مخزوم سرقت، فقرر صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد وهو أن يقطع يدها؛ لأنها سرقت واكتملت أركان جريمة السرقة، وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: أريد أن أتألف قلوب بني مخزوم بالعفو عن هذه المرأة التي سرقت، لكنه أقام عليها الحد مضحياً بما قد يحدث من أحداث دامية في داخل مكة نتيجة تطبيقه لهذا الحد، لأجل أن يرينا معنى مهماً جداً ويزرع فينا معنى لازماً ينبغي أن نفهمه جميعاً فهماً جيداً دقيقاً، ألا وهو: أنه لا يمكن أبداً لأي إنسان مهما كان نسبه ومهما كان شريفاً ومهما كان عظيماً أن يتغاضى عنها أو يعطلها، أو يقوم بأمر من الأمور يمنع من إقامتها في الدولة الإسلامية، حتى لو كانت العواقب وخيمة، وقرر صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر وشاع بين الناس أن المرأة المخزومية ستقطع يدها، فذهب بنو مخزوم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفعوا عنده، لكن لم يستطيعوا أن يكلموه مباشرة، فذهبوا إلى أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما فقد كان يسمى بين الصحابة: الحب بن الحب، كان حب الرسول عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد هو الحب بن الحب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه حباً جماً، ففي أثناء دخوله مكة المكرمة في يوم الفتح أردفه خلفه، من شدة حبه له رضي الله عنه وأرضاه. فذهبوا إلى أسامة وقالوا له: استشفع لهذه المرأة ألا تقطع يدها؛ فهي امرأة عزيزة شريفة من بني مخزوم، فـ أسامة بن زيد رضي الله عنهما أخذ الموضوع بسهولة ويسر وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفع لهذه المرأة في حد من حدود الله، فلما كلمه أسامة، تلون وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب غضباً شديداً، وقال لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله أتشفع في حد من حدود الله؟!) حتى إن أسامة بن زيد رضي الله عنهما لم يجد أي مبرر إلا أن يقول: (يا رسول الله استغفر لي يا رسول الله استغفر لي). فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على السيدة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة بن زيد ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولكنه في آخر اليوم قام وخطب خطبة ليفهم المسلمين هذا المعنى الدقيق؛ ليضع لهم أسس بناء دولة إسلامية، ليوضح لهم أن العدل أساس الملك حقاً، وتطبيقاً واقعياً في حياة المسلمين، قام صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها) هكذا في منتهى الوضوح، فحدود الله سبحانه وتعالى لا يمكن أبداً أن نقترب منها، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، هكذا ينبغي أن نكون مع حدود رب العالمين سبحانه وتعالى. فهو صلى الله عليه وسلم تألف قلوب الناس بأمور مالية وبأمور مادية هذا أمر ممكن، أما أن يتألف قلوب الناس بتعطيل حد من حدود الله فهذا لا يقبل مطلقاً، مهما كان هذا الذي أخطأ عزيزاً أو شريفاً كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، فأي إنسان وقع في حد من حدود الله لابد أن يقام عليه الحد. وهذه الكلمات التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته: (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)، حتى يفهم بني مخزوم أن هذا أمر ليس خاصاً بهم، و

موقفه صلى الله عليه وسلم من خزاعة في قتلها لرجل من هذيل ثأرا لقتيل لها في الجاهلية

موقفه صلى الله عليه وسلم من خزاعة في قتلها لرجل من هذيل ثأراً لقتيل لها في الجاهلية هذا موقف آخر ففي نفس الغزوة غزوة الفتح حدث أمر آخر يثبت به الرسول عليه الصلاة والسلام نفس المعنى في قلوب المسلمين، فبعد مرور يوم واحد من الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه، وهذا الرجل الذي قتل مشرك، وقتلوه برجل قتله في الجاهلية، فغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقام بين الناس خطيباً فخزاعة الآن تأخذ بالثأر لقتيل لها في الجاهلية، وهذا عكس تعاليم الإسلام، وخزاعة تدخل مكة الآن وهي رافعة رأسها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فتح مكة من أجل خزاعة، ومع ذلك لا يغفر لها هذا الذنب، (قام صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال: يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً، وهي لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها، فقولوا: إن الله أحلها لرسوله ولم يحلها لكم، ثم قال: يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله) يعني: بعد هذه الحادثة سيخير أهل القتيل بين أمرين: إن شاءوا أن يقتل الذي قتل صاحبهم، وإن شاءوا أن يأخذوا الدية، فهم بخير النظرين فليختاروا ما شاءوا. إذاً: الحدود نفذت على هذا الملأ الواسع وفي هذه الظروف؛ ليعلم أنه لا تفريط أبداً في حدود الله عز وجل. فهذه كانت من المواقف الهامة جداً في فتح مكة.

موقفه صلى الله عليه وسلم من إقامة وال على مكة بعد الفتح

موقفه صلى الله عليه وسلم من إقامة وال على مكة بعد الفتح كان من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام إذا فتح بلداً أو دخل الإسلام إلى بلد أن يولي عليها أحداً من رجاله، لكن المشكلة أن أبا سفيان كان قبل ذلك زعيم مكة بعد مقتل أبي جهل، ولم يطمئن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد إلى إسلامه حتى يعطيه إمارة مكة، وبالذات أن مكة أعظم مدن العرب على الإطلاق، فهو لا يستطيع أن يعطيها لرجل لم يثق بعد في إسلامه، ونحن علمنا أن في الحوار الذي دار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن فيه أبو سفيان حتى اللحظات الأخيرة مقتنعاً تمام الاقتناع بقضية النبوة، فكيف يتصرف الرسول عليه الصلاة والسلام؟! إذا أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الإمارة لغيره قد يحزن أبو سفيان وينقم على ذلك الأمر ويثور، وقد تثور بنو أمية التي منها أبو سفيان، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن تحدث قلاقل أو اضطرابات في مكة وقد أسلمت بكاملها من لحظات قليلة أو أيام قليلة، فالرسول عليه الصلاة والسلام في لفتة بارعة أعطى إمارة مكة لـ عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وكما ذكرنا أن عتاب بن أسيد كان من شباب مكة، فقد كان عمره حوالي (20) سنة تقريباً، وكان من بني أمية من نفس قبيلة أبي سفيان، فإذا أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام إمارة مكة فسيكون فيه تأليف لقلوب بني أمية، ولن تقف بنو أمية طويلاً عند تنحية أبي سفيان عن إمارة مكة؛ لأن الأمير الجديد منها أيضاً، وعتاب بن أسيد شاب لم يتلوث كثيراً بعقائد المشركين، وليس هناك تاريخ عداء طويل بينه وبين المسلمين فيسهل قياده، وبالفعل فإن عتاب بن أسيد حسن إسلامه جداً، وكان كثير الصلاة والصيام والصدقة، وكان من المقربين جداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، واستطاع فعلاً بحكمة أن يحفظ الأمن والأمان في داخل مكة، فلم نسمع عن أي قلاقل في حياته في فترة حكمه لمكة المكرمة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن عتاب بن أسيد معلوماته عن الإسلام قليلة جداً؛ لأنه لم يسلم إلا منذ أيام قليلة؛ فلذلك ترك معه معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه؛ ليعلم الناس دينهم، لقد ترك معهم بحراً من بحور العلم معاذ بن جبل، فهو إمام العلماء يوم القيامة وأعلم الناس بالحلال والحرام رضي الله عنه، وأهل مكة فيهم الكثير من العقليات والمفكرين والمبدعين، فهم يحتاجون إلى رجل من علماء الأمة ليجادلهم فيما يختلفون فيه، ولا ننسى أن لهم تاريخاً طويلاً جداً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وعندهم شبهات كثيرة قالوها قبل ذلك، وأعلم الناس في الرد عليهم في ذلك الوقت هو معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، بذلك استقر الوضع في داخل مكة المكرمة، ودخل الناس جميعاً في الإسلام بفضل الله عز وجل.

موقف الأنصار رضي الله عنهم بعد فتح مكة وما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم تجاههم

موقف الأنصار رضي الله عنهم بعد فتح مكة وما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم تجاههم يتبقى لنا موقف نحب أن نعلق عليه في ختام هذا الدرس وهو مهم جداً، وهو موقف الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم. رأى الأنصار الأحداث التي تجري في داخل مكة المكرمة وإسلام الجميع، وهؤلاء جميعاً هم أهل وعشيرة ورحم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنهم شاهدوا فرحة وسعادة الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام، وشاهدوا أيضاً استقرار الأوضاع في داخل مكة المكرمة، وإسلام عكرمة بن أبي جهل، وإسلام سهيل بن عمرو، وإسلام فضالة بن عمير، وإسلام قادة مكة بصفة عامة. فالوضع بدأ يستقر جداً في داخل مكة المكرمة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقف على الصفا يدعو الله عز وجل، والأنصار يقفون تحته يفكرون في وضعهم بعد هذا الفتح، قال بعض الأنصار لبعض: أما الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته؛ لأنهم يرون تفاعله صلى الله عليه وسلم مع الأحداث في داخل مكة. قال أبو هريرة راوي الحديث كما عند مسلم: (وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخف عليهم فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي، فلما انقضى الوحي رفع رأسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة في عشيرته، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم) يعني: أنني سوف أعيش معكم حياتي كاملة، وليس معنى أنني تعاطفت مع هذه الأحداث التي تجري في مكة المكرمة، وأنني فرحت بإسلام هؤلاء العشيرة والأهل والرحم أنني سأبقى في مكة وأترككم. وقد ذكرنا في بيعة العقبة الثانية أن الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بيننا وبين القوم حبالاً وإننا قاطعوها) فقد بايعوه صلى الله عليه وسلم على حرب الأحمر والأسود من الناس، وصرحوا بأنه بعد هذه البيعة هل إذا استقرت الأوضاع في مكة سيعود إليها صلى الله عليه وسلم ويتركهم مع اليهود أو غيرهم من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل المحيا محياكم والممات مماتكم، أنا منكم وأنتم مني)، فالرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد على نفس المعنى الآن ويقول: (ما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله)، يعني: مستحيل أن أخالف ما تعاهدت معكم عليه قبل ذلك، (إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم، قال أبو هريرة: فأقبل الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون رضي الله عنهم وأرضاهم ويقولون: والله يا رسول الله! ما قلنا الذي قلنا إلا ضناً بالله ورسوله) يعني: ما قلنا هذه الكلمات إلا لأننا نريد الله ورسوله، نريدك أن تكون معنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله ورسوله ليصدقانكم ويعذرانكم)، قبل منهم صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وقبل منهم هذا الظن الذي ظنوه برسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم رضي الله عنهم وأرضاهم. والأنصار رضي الله عنهم لهم قيمة عالية جداً في ميزان الإسلام، وبذلوا الكثير والكثير رضي الله عنهم، ولم يأخذوا شيئاً لا في الفترة المكية بعد البيعة ولا في الفترة المدنية من أولها حتى هذه اللحظة وإلى آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام شرفهم بكلماته العظيمة، فقال في حقهم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار). إذاً: نحن نعذر الأنصار تماماً في هذا الأمر الذي وقعوا فيه، وعذرهم ربهم سبحانه وتعالى ورسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم. وكل بذل الأنصار قبل الفتح وبعد الفتح له قيمة عالية جداً؛ لأنه كان في وقت الشدة ووقت العناء ووقت المشقة، ولا يمكن أبداً أن يساويه بذل بعد الفتح، بأي صورة من الصور، ومما يؤكد هذا المعنى الأخير هذه القصة التي أختم بها هذا الدرس، وهي عندما جاء مجاشع بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بأخيه مجالد بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين جاء ليعلن إسلامه بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الفتح، فـ مجاشع من الذين أسلموا قبل الفتح ومجالد أخوه من الذين أسلموا بعد الفتح، فجاء بأخيه ليبايع بعد الفتح، وقال: (جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة فقال عليه الصلاة والسلام: ذهب أهل الهجرة بما فيها، فقال: على أي شيء تبايعه، قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد). إذاً: فالأنصار مكانة عظيمة جداً، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَ

يوم حنين

سلسلة السيرة النبوية_يوم حنين كانت غزوة حنين نتاج انتصارات الرسول صلى الله عليه وسلم المتتالية على قبائل العرب، وكان آخر هذه الانتصارات فتح مكة، الأمر الذي أغاظ قبائل هوازن، فأعدت العدة لمقاتلة المسلمين، وكانت الغلبة في أول الغزوة للمشركين، وانهزم المسلمون، ثم عادوا والتفوا حول نبيهم صلى الله عليه وسلم فكانت الغلبة لهم، والعاقبة للمتقين.

بين يدي غزوة حنين

بين يدي غزوة حنين أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين. تحدثنا في الدروس السابقة عن الفتح العظيم فتح مكة، وإسلام معظم أهل مكة، وإضافة قوة هائلة للدولة الإسلامية، قوة مكة، وهي ليست قوة بشرية أو اقتصادية فقط، بل في الأساس قوة دينية واجتماعية وسياسية وأدبية، فحين أصبحت الكعبة المشرفة في يد المسلمين، فإنه لا يخفى أثر ذلك على العرب الذين كانوا يعظمونها جداً حتى في زمان الجاهلية، وعادت إلى المسلمين الكثير والكثير من أملاكهم المسلوبة، ومن جديد توثقت العلاقات بين الأسر التي فرقت الهجرة إلى المدينة وقبلها إلى الحبشة بينها وبين بقية أفرادها في مكة المكرمة، وأصبح للمسلمين وضع متميز ألقى الرهبة في قلوب كل العرب، وبدأت الكثير من القبائل تحسب للمسلمين ألف حساب. ليس من السهل أن تهزم قريش، ليس من السهل أن تفتح مكة، ليس من السهل أن يقبل سدنة الأصنام وكهنة هبل والعزى ومناة أن يدخلوا في الإسلام.

دوافع تجمع قبائل هوازن لمقاتلة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بحنين

دوافع تجمع قبائل هوازن لمقاتلة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بحنين لقد كان فتح مكة فتحاً مجيداً بكل المقاييس، ومع أن هذا الفتح دفع الكثير من أهل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن هناك بعض القوى الأخرى في الجزيرة العربية أخذت موقفاً معادياً جداً من الإسلام ومن الدولة الإسلامية، فقد شعرت وأحست أن هذا النمو اللافت للنظر للدولة الإسلامية معناه اقتلاع القبائل الأخرى خلال زمن قليل، من أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العدة لحرب الدولة الإسلامية، قبل أن يتفاقم الوضع ويصبح خارجاً عن السيطرة، فكان من أخطر القبائل التي أخذت هذا النهج وهذا الأسلوب قبيلة هوازن. يعلم الجميع مدى الروح القبلية عند العرب، ومدى انتماء كل فرد لقبيلته بغض النظر عن الحق أو العدل، وكان هذا من الأمراض الخطيرة التي حاربها الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الرسالة. من أجل أن نفهم قصة هوازن مع المسلمين لا بد أن نرجع قليلاً إلى ذاكرة التاريخ، من أجل أن ندرس جذور هذه القبيلة وعلاقة هذه القبيلة بقريش. ينقسم العرب بصفة عامة إلى قسمين رئيسيين: ينقسمون إلى عدنانيين وقحطانيين، العدنانيون ينقسمون إلى: ربيعة، ومضر، ومضر تنقسم إلى: إلياس وعيلان، وقبيلة قريش تأتي من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن من عيلان أيضاً بعد تفرعات كثيرة، وكلما بعدت الأنساب ازدادت الحزازيات بين القبائل، ويفقد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها. إذا كان يحصل تنافسات وصراعات بين البطون القريبة من بعضها البعض بسبب القبلية، فما بالك لو كانت القبائل بعيدة الأنساب عن بعضها البعض؟ يعني مثلاً: كلنا يعلم ما كان يحدث من صراع بين بني هاشم وبني مخزوم، ومخزوم وقصي كانا أولاد عم مباشرة، ومخزوم هو الذي جاء منه قبيلة بني مخزوم، وقصي الذي جاء منه بنو هاشم بعد ذلك، ومع ذلك كان الصراع شديداً بين القبيلتين، تنافس قبلي، وقد يصل الأمر إلى المنافسة العسكرية الدموية. كذلك كلنا يعلم الصراع بين الأوس والخزرج مع أن الاثنين أولاد حارثة بن ثعلبة من فروع قحطان، لكن داء القبلية كان يعصف بالجزيرة العربية. والرسول عليه الصلاة والسلام من قريش؛ فلهذا القبائل البعيدة عن قريش ستفكر في الإسلام بصورة أكثر تحفظاً من القبائل القريبة من قريش، فهذا أبو جهل لم يرض أن يدخل الإسلام من أجل القبلية، مع أنه قريب من الرسول عليه الصلاة والسلام. عندما نرجع لشجرة الأنساب مع وضع النظرة القبلية هذه سنفهم أحداثاً كثيرة جداً في السيرة، ستجد مثلاً أن القبائل البعيدة جداً عن قريش هي من أواخر القبائل التي أسلمت، ومن أشد القبائل قسوة على المسلمين، فأبعد الفروع عن قريش هي الفروع التي خرجت من قحطان، فهؤلاء لم يسلموا إلا متأخرين مثل: قبائل قضاعة، طي، مذحج، بجيلة ومنهم من كان شديداً جداً على المسلمين مثل: بني لحيان، لكن يشذ عن هذه القاعدة قبائل الأوس والخزرج فقد أسلموا قديماً، ويبدو أن ذلك للجذور اليمنية لهذه القبائل، ثلاث قبائل: الأوس والخزرج وأسلم من قبيلة الأزد اليمنية. وأهل اليمن يتميزون برقة القلب وقوة العاطفة، يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً) رواه البخاري ومسلم. إذاًَ: فروع قحطان كانت من أواخر القبائل إسلاماً، باستثناء الأوس والخزرج وأسلم. أيضاً من الفروع البعيدة جداً عن قريش ربيعة، فربيعة هي الفرع الموازي لمضر، والخلاف بين ربيعة وبين مضر كبير جداً وطويل، فربيعة تأخر إسلامهم جداً، مثل: بني بكر بن وائل، بني تغلب، بني عبد القيس، ومنهم من كان شديد العداء للمسلمين ولم يسلم إلا مضطراً، وسارع بالردة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، وبعضهم حتى قبل وفاته صلى الله عليه وسلم مثل: بني حنيفة. إذاً: تأتي بعد كذا مضر تنقسم إلى قسمين رئيسين: إلياس وعيلان. وعيلان مشهورة في التاريخ بقيس عيلان، فقيس هذا أشهر أبناء عيلان فاشتهرت القبيلة بكاملها بكلمة (قيس عيلان). وقريش كما ذكرنا هي من إلياس؛ من أجل ذلك تجد قبائل عيلان تنافس بشدة قبائل إلياس ومنها قريش. وقبائل عيلان كثيرة جداً، لكن أشهر هذه القبائل ثلاث قبائل، وعندما تسمع أسماء هذه القبائل الثلاث ستفسر لك مواقف كثيرة جداً في السيرة رأيناها ولا زلنا سنراها. فأهم ثلاث قبائل في عيلان هم: غطفان، وبنو سليم، وهوازن، ونحن رأينا مدى المعاناة التي عاناها المسلمون من غطفان على مدار سنوات مختلفة، وكذلك عانوا من بني سليم، وبعد ذلك أسلمت غطفان وأسلم بنو سليم، وكان من الواضح جداً أن إسلامهم كان إسلام المضطر، فهم انبهروا جداً بقوة الإسلام، وشعروا أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين، وقد يجتاحهم المسلمون اجتياحاً مدمراً لذلك آثروا السلامة، آثروا أن يعيشوا تحت كنف الدولة الإسلامية، وجاءت الوفود كما رأينا إلى المدينة المنورة وبايعت على الإسلام بعد انتصار مؤتة وقبيل فتح مكة المكرمة، والإسلام لم

قيام مالك بن عوف بتوحيد قبائل هوازن لمقاتلة المسلمين

قيام مالك بن عوف بتوحيد قبائل هوازن لمقاتلة المسلمين كان من عادة العرب في ذلك الوقت أنهم يعيشون حياة التفرق حتى في بطون القبيلة الواحدة، وما أكثر ما حدثت الحروب -كما ذكرنا- في داخل الفرع الواحد من القبيلة، كما يقولون أحياناً: على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا. وقبيلة هوازن كانت تسير بنفس النمط، ففروعها كثيرة، لكن في زمنها كله ما توحدت في كيان سياسي اقتصادي عسكري واحد، بل عاشت حياة الفرقة كما عاشها بقية العرب قبل الإسلام، وكما يعيشها العرب دائماً كلما بعدوا عن الإسلام، لكن ظهر في قبيلة هوازن في هذه الفترة وهي الفترة التي سبقت فتح مكة مباشرة وأثناء فتح مكة ظهرت شخصية قلبت الموازين في هذه القبيلة الكبيرة وغيرت كل شيء، هذه الشخصية هي شخصية مالك بن عوف النصري من بني نصر من هوازن، وأمثال هذه الشخصية كثير في التاريخ. فمن هو مالك بن عوف هذا؟ مالك بن عوف كان شاباً لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، لكنه كان يملك ملكات قيادية متميزة، عنده علم كبير جداً بالخطط العسكرية وبالفنون القتالية، وكان خطيباً مفوهاً له قدرة كبيرة جداً على التأثير على الناس، وكان يتميز بقدرته الفائقة على الحشد وتجميع الطوائف المختلفة لأداء مهمة معينة، كانت لديه طاقات هائلة، لكن للأسف كل طاقاته هذه كانت موظفة في الشر. بدأ مالك بن عوف يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة، وهذا حدث فريد في تاريخ هوازن، فهذه هي المرة الأولى تقريباً التي تتجمع فيها بطون بني نصر وبني سعد وثقيف تحت راية واحدة، وهذا يدلنا على مدى كفاءة هذا القائد، ومع أنه من بني نصر ومعروف أن ثقيفاً هي أكبر وأعز وأعظم قبيلة من قبائل هوازن ومع ذلك قبلت أن تسير تحت راية مالك بن عوف النصري. لقد جمع مالك بن عوف منهم أكثر من (25. 000) مقاتل، وهذا أكبر رقم تجمع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة، جيش هائل، فهو جمع هذه الأعداد الكبيرة باسم القبيلة: نحن من هوازن ومحمد من قريش، هذا هو المنطق مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى أبداً إلى تجميع القرشيين ضد القبائل العربية الأخرى، بل على العكس كان العدو الأكبر للرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنوات العشرين السابقة قبيلة قريش، وكان جيشه يضم أفراداً من كل قبائل العرب، والجانب الأعظم من جيش فتح مكة لم يكن من القرشيين، كان من أوس وخزرج وأسلم وغفار والأزد ومزينة وجهينة وغطفان وبني سليم وبني تميم وغير ذلك من الفروع القريبة والبعيدة جداً من قريش، وغطفان وبنو سليم هم أكثر قرباً لهوازن كانوا في جيش الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فتح مكة، مع كل ذلك إلا أن المحفز الوحيد الذي استخدمه مالك بن عوف هو قضية القبيلة، وأقنع الناس بما نشأ عليه العرب من أن القبيلة فوق كل شيء وقبل كل شيء، وأن عز القبيلة مقدم على الحق وعلى العدل وعلى القيم وعلى المثل العليا وعلى أي شيء، فنفس فكرة القومية التي ينادي بها الكثيرون في زماننا، أو في الأزمان التي سبقت أو الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، ففكرة القومية أو فكرة الوطنية هي تقديم مصلحة القوم أو الوطن أو العنصر بغض النظر عن الحق، إذا خاض الوطن أو القوم حرباً ظالمة فأنا معه؛ لأن مصلحة الوطن مقدمة على الحق والعدل، هذا منطقهم. إذا رأى البعض أن مصلحة القوم أو الوطن تتعارض مع قانون شرعي أو عرف دولي أو قاعدة أخلاقية يترك القانون الشرعي أو العرف الدولي أو القاعدة الأخلاقية وتقدم مصلحة القوم أو مصلحة الوطن. هذا الكلام لا وزن له عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وليس معنى ذلك أن حب القوم أو الوطن مرفوضة إسلامياً، لا، بل على العكس حب الأهل والعشيرة فضيلة يحض الإسلام عليها، لكن بشرط ألا تكون على حساب الدين والحق والعدل، يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] ماذا يحصل؟ {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. في هذه الآية الجامعة وضح لنا ربنا سبحانه وتعالى أن تقديم الأهل والعشيرة، وهم القوم، وتقديم المساكن وهي الوطن، أن تقديم هذه الأشياء على أمر الدين هو نوع من الفسق، ومن فعله فعليه أن ينتظر العقاب من رب العالمين سبحانه وتعالى، والعقاب مخوف جداً، حتى إن الله سبحانه وتعالى أخفى هذا العقاب ولم يعينه لزيادة الرهبة، قال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] لكن ليس معنى الآية أن حب الآباء والأجداد والعشيرة أو القوم والقبيلة والوطن والتجارة مذموم، حاشا لله، ليس هذا هو المعنى مطلقاً، بل أمرنا الله عز وجل أن نصل آباءنا وأ

النقاط السلبية الموجودة عند مالك بن عوف وتغليط دريد بن الصمة له

النقاط السلبية الموجودة عند مالك بن عوف وتغليط دريد بن الصمة له هناك نقاط سلبية كانت عند مالك بن عوف أولها: أنه يدعو إلى قومية وقبلية بغض النظر عن مواطن الحق والعدل. النقطة السلبية الثانية خطيرة جداً: وهي أنه يستخدم البلاغة وحسن البيان في خداع الناس، فقد كان يوهم الناس بخلاف الواقع ويغرر بهم، فقد وقف مالك بن عوف يخطب في الناس في الشعب ويقول لهم: إن محمداً لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فينصر عليهم. يعني: لو نحن قابلناهم سنرميهم في البحر. فهذا الخطاب من الخداع غير المقبول بالمرة لشعب ساذج حقاً، شعب هوازن يبدو أنه كان شعباً معزولاً عن العالم الخارجي، لا يقرأ ولا يكتب ولا يرى ولا يسمع، وإلا لما صدق مالك بن عوف، أي أقوام أولئك الذين لاقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أغماراً لا علم لهم بالحرب؟ هل قريش التي هزمت منذ أيام في عقر دارها أو قبل ذلك في بدر والأحزاب لا علم لها بالحرب؟ هل غطفان التي اكتسحت في ديارها فأذعنت وأطاعت وسلمت وأسلمت لا علم لها بالحرب؟ هل اليهود في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة بل وفي خيبر لم يكن لهم علم بالحرب؟ بل هل الرومان وأعوان الرومان من نصارى العرب بأعدادهم المهولة وبأسلحتهم المتقدمة وتاريخ طويل في الحروب وخبرة فائقة لم يكن لهم علم بالحرب؟ إن شعباً لا يدرك أحوال الدنيا حوله لجدير أن يضحك عليه، لجدير أن يسخر منه، لجدير أن يهزم ويذل. فـ مالك بن عوف خدعهم بكلامه المعسول وبالخطاب البلاغي، فهو شعب قابل للخداع، فقد قبل هذا الشعب الساذج أن يرى الدنيا بعيون مالك بن عوف، من أجل ذلك لا بد أن يدفع الثمن. النقطة السلبية الثالثة في مالك بن عوف: أنه لم يقم وزناً يذكر لشعبه، فليس عنده أي مانع أنه يضحي بشعبه كله بكل ممتلكاته من أجل تحقيق مجد شخصي له. ماذا عمل مالك بن عوف بشعبه؟ أمر أن تؤخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال وكل ممتلكات شعب هوازن تؤخذ معهم إلى أرض القتال فتوضع في خلف الجيش، لماذا هذا؟ من أجل أن يحفز الجيش على القتال. يقول لهم: لو انهزم جيش هوازن أو فر من أرض القتال سيستولي المسلمون على كل ممتلكات هوازن، فـ مالك بن عوف لم ينظر أبداً إلى احتمالية الهزيمة، وهذا أمر وارد في أي معركة، لكن لا مانع أن يدفع الشعب كله ثمن تحقيق النصر لـ مالك بن عوف، أن الشعب كله من رجال ونساء وأطفال يحقق المجد الشخصي لـ مالك بن عوف. النقطة السلبية الرابعة في قائد هوازن مالك بن عوف: أنه كان ديكتاتوراً لا يستمع لرأي الآخرين ولو كانوا من الخبراء: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]. بعض الخبراء العسكريين في هوازن حاولوا أن يبعدوا هذا القرار عن ذهن مالك بن عوف، قرار أخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال إلى أرض المعركة، لكنه أصر إصراراً عجيباً، فقد ورد في كتب السيرة حوار دار بينه وبين دريد بن الصمة، ودريد بن الصمة أحد المخضرمين عسكرياً في هوازن فقد كان عمره فوق مائة سنة، فتعجب لاصطحاب كل ممتلكات هوازن في أرض القتال فسأل مالكاً عن ذلك، فقال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فغضب دريد غضباً شديداً وقال: راعي ضأن والله، ما لك والحرب. يعني: أنت لا تعدو أن تكون إلا راعياً للغنم لا تصلح للقيادة العسكرية. وبعد ذلك أخبره بوجهة نظره وكانت وجهة نظر صحيحة، قال: هل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: إنك تقاتل رجلاً كريماً قد أوطأ العرب وخافته العجم وأجلى اليهود، يعني: دريد قدر قوة الرسول عليه الصلاة والسلام تقديراً سليماً وقال الرأي الأصوب، لكن مالك بن عوف لم يسمع له، ولم يأخذ بمشورته، ولم يكن يرى غير رأيه فقط، ومع ذلك دريد لم ييئس، بل استمر معه في الحوار وسأله: ما فعلت كعب وكلاب أفضل بطون هوازن عسكرياً وفيهم العدد والعدة؟ قال مالك: لم يشهد منهم أحد، قال دريد وقد ازداد يقيناً برأيه: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب. ثم نصح مالك بن عوف مرات لكن مالك بن عوف رفض بإصرار شديد؛ لأن نفسية الديكتاتور لا تقبل أبداً أي رأي معارض لرأيه ولو على سبيل الاقتراح أو المشورة، فالشورى عنده تصبح طاعنة للكبرياء وللكرامة، ومن ثم فالدكتاتوريون لا يريدون الخير إلا إذا جاء منسوباً لهم. إذاً: هذه كانت نقطة خطيرة جداً أيضاً في مالك بن عوف: أنه كان ديكتاتوراً لا يستمع أبداً للشورى. النقطة السلبية الخامسة في

سلاح اكتشاف رسول الله صلى الله عليه وسلم

سلاح اكتشاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد نقلت المخابرات الإسلامية إلى الرسول عليه الصلاة والسلام الأخبار عن هوازن، أنها تستعد لحرب المسلمين، فقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه ليأتيه بخبر هوازن، وجاء عبد الله بتأكيد الخبر أن هوازن تتجمع من أجل حرب المسلمين، وأنها قد جاءت عن بكرة أبيهم بنسائهم وبنعمهم وشائهم، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) يقين بالنصر.

استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة قبائل هوازن

استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة قبائل هوازن بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في إعداد العدة لهذا الموقف الخطير، وكان إعداده على أعلى مستوى؛ فقد كان على النحو التالي: أولاً: قرر الخروج للقتال في مكان متوسط بين هوازن ومكة، وآثر ألا ينتظر بمكة، وهذا فيه حكمة كبيرة جداً؛ لأنه لو بقي في مكة وغزاها مالك بن عوف بجيشه فقد يتعاون أهل مكة معه؛ لأن أهل مكة حديثو عهد بشرك وجاهلية فقد يتعاونون مع المشركين من هوازن لحرب المسلمين فتصير كارثة، قد تصير الحرب من داخل ومن خارج، لذلك فضل الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخرج بجيشه إلى مكان مكشوف بعيداً عن مكة. ثانياً: قرر أن يخرج بكامل طاقته العسكرية، سيأخذ معه العشرة آلاف مقاتل الذين فتح بهم مكة المكرمة، لأن أعداد هوازن ضخم وكبير. ثالثاً: أخذ معه من داخل مكة المكرمة المسلمين الطلقاء الذين أسلموا عند الفتح. وهذا فيه بعد نظر كبير من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهؤلاء إن تركوا في مكة قد ينقلبون إلى الكفر مرة ثانية، وقد ينفصلون بمكة عن الدولة الإسلامية، وخاصة لو تعرض المسلمون لهزيمة من هوازن؛ وأيضاً خروجهم مع المسلمين فيه دلالة على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقربهم ويثق بهم، وهذا سيثبت أقدامهم أكثر في الإسلام، وأيضاً قد تكون هناك غنائم كثيرة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه كان يقول: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) فلو وزع عليهم هذه الغنائم لكان في ذلك تأليف لقلوبهم، وأضف إلى كل ذلك أن أعدادهم الكبيرة ستوقع الرهبة في قلوب هوازن، ولا شك أن قريشاً لها مكانة في قلوب العرب، فعندما يخرج منها عدد في داخل هذا الجيش فقد يوقع الرهبة في قلوب هوازن، فيكون النصر حليفاً للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام لأجل ذلك كله أخذ معه من مكة (2000) من الطلقاء وأصبح الجيش الإسلامي (12. 000) مقاتل. وهذا أكبر عدد في تاريخ المسلمين في ذلك الوقت. رابعاً: لم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بسلاح الجيش الإسلامي الذي فتح به مكة المكرمة، مع كون هذا السلاح من الأسلحة الجيدة جداً والقوية جداً، بدليل انبهار أبي سفيان عند رؤيته للجيش الإسلامي، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا السلاح ولا بسلاح المسلمين من الطلقاء، وإنما سعى لعقد صفقة عسكرية كبرى لتدعيم الجيش الإسلامي، فذهب بنفسه إلى تجار السلاح في مكة المكرمة، وكان على رأس هؤلاء التجار صفوان بن أمية ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهذان الاثنان لا زالا مشركين. فطلب منهما السلاح على سبيل الاستعارة بالإيجار والضمان، حتى إن صفوان بن أمية سأل الرسول عليه الصلاة والسلام: (أغصباً يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل عارية مضمونة) يعني: أنا أستعيرها بالإيجار وأضمن عند ضياع بعضها أن أعوضك عنها، هذا مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الزعيم المنتصر، وصفوان بن أمية هو أحد القادة المهزومين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عادلاً في كل أموره، لم يكن يستحل مال عدو بأي صورة من الصور، وصفوان كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لمدة أربعة شهور يفكر فيها في أمر الإسلام كما فصلنا قبل ذلك. الشاهد من القصة: أن إعداد الجيش الإسلامي كان على أفضل الصور الممكنة، ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام اصطحب معه في هذه الغزوة بعض المشركين، وكان منهم صفوان بن أمية وكان منهم نوفل بن الحارث تجار السلاح في مكة المكرمة فخرج هؤلاء ليحملوا أسلحتهم للمسلمين. قد يسأل شخص ويقول: لماذا قبل صلى الله عليه وسلم أن يستعين في هذه المعركة بالمشركين ورفض أن يستعين بهم في بدر قبل ذلك، ففي بدر قال لهم: (لا أستعين بمشرك)؟ A أن الظرف مختلف، فالنصر ببدر قد ينسب إلى المشركين لقلة أعداد المسلمين وعدم استقرار دولة المسلمين، أما الآن فلن يدعي أحد أبداً أن نصر المسلمين وعددهم (12. 000) مقاتل كان بسبب الأفراد المشركين المعدودين في الجيش الإسلامي، فمن أجل هذا لم ير الرسول عليه الصلاة والسلام مشكلة أن يأخذ معه بعض المشركين، وهؤلاء المشركون لن يأخذوا من الغنيمة، ولكن سيعطيهم صلى الله عليه وسلم أجراً على عملهم هذا بالاتفاق. خامساً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام اهتم جداً بالحراسة الليلية للجيش الإسلامي؛ لئلا يباغت فجأة، فوضع على الحراسة أنس بن أبي مرثد رضي الله عنه. سادساً: اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام اهتماماً كبيراً جداً بالحالة المعنوية للجيش الإسلامي، فقد بشرهم أن جيوش هوازن ستصبح غنيمة للمسلمين إن شاء الله، ولا ننسى أن المسلمين دخلوا موقعة حنين ومعنوياتهم مرتفعة جداً؛ لأنهم حققوا انتصاراً مهيباً منذ أيام عندما فتحوا مكة المكرمة أعظم المدن وأشرف الأماكن. إذاً: يتبين مما سبق أن إعداد المسلمين لمعركة حنين كان إعد

سبب هزيمة المسلمين في أول غزوة حنين

سبب هزيمة المسلمين في أول غزوة حنين خرج الجيش الإسلامي في (6) من شوال سنة (8) هجرية، ووصل إلى وادي حنين في (10) من شوال سنة (8) هجرية، وفي أثناء الطريق والجيش يسير بهذه الصورة البهية قال بعض المسلمين الجدد من الطلقاء، قالوا كلمة تعبر عن مرض خطير، وسرعان ما انتشرت هذه الكلمة في الجيش بكامله، انتشرت هذه الكلمة كما تنتشر النار في الهشيم، وهذه الكلمة في ظاهرها بسيطة يسيرة لكن كان لها من الأثر ما لم يتخيله المسلمون أبداً. قال المسلمون: لن نغلب اليوم من قلة. كما ذكرنا أن المسلمين كانوا قد فتحوا مكة وهزموا قريشاً بعشرة آلاف فلا شك أنهم سينتصرون في حنين على هوازن بـ (12. 000) مقاتل، هكذا اعتقد المسلمون، بل وصرح المسلمون بألسنتهم بهذا الاعتقاد، وهذا لم يكن أمراً قلبياً، بل خرج على الألسنة. وعندما قال المسلمون هذه الكلمة شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس أن مشكلة ستحصل، وظهر على وجهه الحزن، وأحس أن هناك شيئاً خطيراً سيحدث لهذا الجيش الكبير. حسناً: لماذا كل هذه التداعيات لهذه الكلمة البسيطة اليسيرة؟ الجملة في ظاهرها صحيحة، وتركيبها ومعناها صحيح، بل إن هذه الجملة مستنبطة من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الدارمي والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) فمعنى الحديث: أن الجيش الذي وصل إلى (12. 000) مقاتل لن يهزم بسبب قلة العدد، لكن قد يهزم لأسباب أخرى، قد يهزم لأسباب مادية أو أسباب قلبية، يعني: قد يوجد (12. 000) مقاتل وليس هناك إعداد عسكري، أو ليس هناك قوة سلاح، أو عندهم خلل في الخطة، أو عدم مهارة في القيادة أو غير ذلك من الأمور المادية، فهذه كلها قد تكون سبباً في الهزيمة، لكن هذه الأشياء في جيش المسلمين الخارج إلى حنين كانت على أحسن مستوى، لكن قد يغلب الجيش لأسباب قلبية، وهذا أمر خطير جداً. فهذه الكلمة التي قالها بعض المسلمين تعبر عن مرض قلبي خطير، وهذا المرض هو العجب بالنفس وبالعدد وبالإعداد المادي، وهو الاعتماد على الأسباب ونسيان رب الأسباب، وهو الظن أنني أنا الذي فعلت وليس الله الذي فعل، ولا شك أن الصحابة وغيرهم من الصالحين لو سئلوا سؤالاً مباشراً: هل النصر من عندك أم من عند الله؟ لا شك أن الجميع سيجيب بلا تردد: بل هو من عند الله عز وجل. لكن هذا الشعور الخفي، شعور الإعجاب بالنفس والغرور يتسلل إلى النفس بلطف شديد، لا يشعر به المؤمن إلا وقد تفاقم. والإعجاب بالنفس ليس هو الثقة بالنفس، الثقة بالنفس أمر محمود، أما الإعجاب بالنفس فأمر مذموم، والثقة بالنفس أمر مطلوب؛ لأن الجيش لا ينتصر ولا ينجح بغير الثقة بالنفس، لكن لا يجب أن تزيد الثقة بالنفس حتى تصل إلى درجة التوكل على النفس، وليس التوكل على الله عز وجل. والفارق بين الثقة بالنفس والإعجاب بالنفس شعرة، والموفق من وفقه الله عز وجل. الواضح من النبرة التي عند الصحابة حين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. أنها كلمة تعبر عن ثقة زائدة عن الحد بالنفس، من أجل ذلك غضب الرسول عليه الصلاة والسلام لما سمعها وحزن حزناً ظهر على وجهه صلى الله عليه وسلم، ولو قيلت نفس الجملة على سبيل تبشير المسلمين وطمأنة المسلمين لكانت جملة مناسبة وجميلة ومستحسنة، لكن هذا الكلام لم يحصل، وإنما أُعجب المسلمون بعددهم وتوكلوا على كثرتهم، وهذا هو المرض الذي ذكره سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم في حق هؤلاء، قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]. لا يقولن أحد أبداً: إن هذا المرض كان عند الطلقاء حديثي الإسلام فقط، لا، للأسف انتقل المرض من الطلقاء إلى عامة أفراد الجيش الإسلامي، حتى وصل إلى معظم السابقين، وهذا أمر خطير، وسنرى أثر هذا الكلام بعد قليل. إن الأمراض القلبية كالعجب والكبر وحب الدنيا والحسد أمراض معدية، إن ظهرت في طائفة ولم تعالج جيداً تنتشر كالوباء، من أجل ذلك كان دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان واضحاً أن هذا الدور لم يؤد على الوجه الأكمل في هذه المعركة، فحدث أن هذه الكلمة انتشرت في الجيش كله، وكان لهذه الكلمة الخطيرة أثر على كل الناس، وغريب أن البعض القليل قد يؤثر على الكثير، ومن الخطر جداً أن يخرج ضعيف الإيمان في وسط الجيش المؤمن، لكن لولا ظروف مكة حديثة الإسلام وخطورة انقلاب مكة كما ذكرنا قبل ذلك لكان الأفضل ألا يخرج للقتال متذبذب الإيمان، لكن هذه كانت ظروفاً قهرية اضطر المسلمون فيها إلى اصطحاب الطلقاء، مع أن الله تعالى يقول في الكتاب: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]، لكن غالب الطلقاء لم يكونوا منافقين محترفي النفاق، وإنما

موقف الطلقاء من هزيمة المسلمين في أول غزوة حنين

موقف الطلقاء من هزيمة المسلمين في أول غزوة حنين ماذا كان موقف الطلقاء في هذا الموقف الصعب؟ تباينت مواقف الطلقاء، منهم من صرح بكفره بعد أن كان ظاهره مسلماً مثل: كلدة بن حنبل، لكن بعد ذلك أسلم وله صحبة، فهذا الرجل قال في ذلك الوقت: ألا بطل السحر اليوم. يعني: يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالسحر مع أنه خارج مع المسلمين على أنه مسلم. ومنهم من لم يكتف بالكفر بل حاول قتل الرسول عليه الصلاة والسلام مثل: شيبة بن عثمان وأيضاً هذا أسلم وحسن إسلامه. ومنهم من أظهر الشماتة دون أن يظهر الكفر كـ أبي سفيان زعيم مكة قال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. فقد كان مسروراً بهزيمة المسلمين، فهو لم يثبت على الإسلام، لكن الحمد لله حسن إسلامه بعد ذلك ومنهم من تردد في الأمر فلم يدر أين الحقيقة مثل سهيل بن عمرو. ومن الطلقاء الذين لم يكمل إسلامهم أسبوعين ثلاثة من ثبت على الإسلام ولم يتردد لحظة مثل: عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه. ومما يدل على الفهم الراقي الذي كان عند عكرمة رضي الله عنه وفهمه للإسلام وللنصر وللهزيمة أنه حدث لطيف جداً دار بينه وبين سهيل بن عمرو في أثناء فرار المسلمين يوم حنين، قال عكرمة عندما رأى المسلمين يفرون، قال: هذا بيد الله ليس إلى محمد صلى الله عليه وسلم منه شيء. يعني: ليس هو السبب، أي: أن النصر والهزيمة بيد الله عز وجل، وليس معناه عدم صدق محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال كلمة جميلة جداً لا يقولها إلا من عاش سنوات وسنوات في الإسلام قال: إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غداً. يعني: لو هزم اليوم فلا شك أن النصر سيكون حليفه غداً أو مستقبلاً، أوهذا مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. فـ عكرمة رضي الله عنه لم يسلم إلا منذ أسبوعين أو ثلاثة، وهذا اليقين منه أدهش سهيل بن عمرو قال: والله إن عهدك بخلافه لحديث. يعني: أنت لا تزال من أسبوعين أو ثلاثة كنت تعبد هبل فكيف توقن هذا اليقين؟ قال عكرمة: يا أبا يزيد! إنا كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة، نعبد حجراً لا يضر ولا ينفع. إذاً: تباينت مواقف الناس، فالغالب الأعم من الناس فر من أرض المعركة والقليل هم الذين ثبتوا. ومعركة حنين في تقييمي كانت شديدة الشبه بمعركة أحد، فكلاهما كان مصيبة، وكلاهما كان لمرض قلبي، ففي أحد المرض القلبي كان حب الدنيا، وفي حنين المرض القلبي كان العجب، لكن الفارق بين أحد وحنين أن أحداث الموقعتين تمت بصورة معكوسة، ففي أحد بدأت المعركة بنصر للمسلمين ثم حدثت المصيبة، وفي حنين بدأت المعركة بمصيبة للمسلمين ثم تم النصر لهم.

عوامل رجوع المسلمين وثباتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

عوامل رجوع المسلمين وثباتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تم النصر للمسلمين مع وجود هذه الأزمة الطاحنة؟ كيف خرج المسلمون من هذه الكارثة؟ في مثل هذه الأزمات الهائلة وحين يتخلى الجميع أو المعظم عن المسئولية في عمل من الأعمال الهامة للأمة، سواء كان جهاداً أو غيره من الأعمال، ماذا نعمل في مثل هذه المواقف؟ لقد ضرب لنا الرسول عليه الصلاة والسلام القدوة في ذلك، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقدم لنا منهجاً عملياً واضحاً للخروج من مثل هذه الأزمات، فماذا عمل الرسول عليه الصلاة والسلام؟!

ثبات النبي القائد صلى الله عليه وسلم

ثبات النبي القائد صلى الله عليه وسلم أول نقطة: ضرب القدوة من نفسه، فلم يفر؛ لأنه إذا فر القائد فلا أمل في ثبات الجنود، وإذا تخلى القائد عن المسئولية فلن يحملها أحد. فالرسول عليه الصلاة والسلام ثبت في هذه الموقعة ثباتاً عجيباً، بل إنه لم يكتف بالثبات وعدم الفرار، بل كان يركض بدابته ناحية الكفار، حتى أن العباس رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره صلى الله عليه وسلم كان يمسك بلجام الدابة ليمنعها من التقدم خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام استمر في الدخول وسط جيش الكفار، وكان الجيش يمشي عكس اتجاه الرسول عليه الصلاة والسلام، كله يفر إلى الوراء والرسول صلى الله عليه وسلم متقدم إلى الأمام ويقول وينادي بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، هلموا إلي أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله. لن تجد مثل الرسول عليه الصلاة والسلام مهما قرأت في التاريخ، ومهما قرأت في السير، ومهما قرأت في المعارك لن تجد مثل ذلك الموقف أبداً، إذا فكر القائد في النجاة بنفسه لا شك أن الجنود سيحبطون إحباطاً يمنعهم من أي مقاومة، أما إذا ثبت القائد وتقدم وجاهد وضحى بنفسه فهذه أعظم الدروس التربوية لجيشه ولأمته؛ ولذلك تجد أن الراية تعطى في المعارك لأفضل الناس وأقوى الناس وأشجع الناس؛ لأن الناس تبع لرايتهم وتبع لقائدهم، فإذا هرب الشجاع الذي يحمل الراية فلا شك أن غيره سيهرب وسينهزم، لذلك تجد أن أشد القتال دائماً يدور حول الراية، ليس لمجرد قتل رجل شجاع؛ ولكن لأن سقوط الراية سيؤثر معنوياً على كامل الجيش؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك ذلك تمام الإدراك، فلذلك حرص صلى الله عليه وسلم كل الحرص على عدم التراجع خطوة واحدة، مع كل الخطورة التي قد يتعرض لها، لكن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشه ولأمته أن تراه ثابتاً فتثبت بثباته، وفعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، وألف خطة في الثبات والتضحية لا تساوي موقف الرسول عليه الصلاة والسلام يوم حنين. هذه رسالة لكل المسئولين عن أعمال جماعية للأمة الإسلامية، ثبات القائد يعني ثبات الجنود وتضحية الرئيس تعني تضحية المرءوسين. إذاً: هذه كانت أول نقطة عملها الرسول عليه الصلاة والسلام: ضرب القدوة من نفسه كقائد.

اعتماده صلى الله عليه وسلم على الموثوق بهم من الجنود

اعتماده صلى الله عليه وسلم على الموثوق بهم من الجنود النقطة الثانية: الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود، القائد كفرد لا يستطيع أن يفعل شيئاً بلا جنود، حتى لو ثبت لابد أن يكون في جنود؛ فالزعيم لا يأتي بالنصر إلا إذا كانت معه أمة، لكن يتفاوت الناس في إمكانياتهم، يتفاوت الناس في أخلاقهم، في تربيتهم، في تاريخهم، كذلك يتفاوت الناس في درجة الاعتماد عليهم، فهناك من يعتمد عليه في أمور، وهناك من يعتمد عليه في أمور أخرى، وهناك من لا يعتمد عليه أصلاً. فالقائد المحنك والرئيس الذكي هو الذي يدرك بوضوح إمكانيات من حوله، يعرف الأعمال البسيطة السهلة التي يستطيع الجميع القيام بها، ويعرف الأعمال الصعبة التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، كما يعرف الأعمال شديدة الصعوبة التي لا يفلح في أدائها إلا القليل من الرجال، فكلما ازدادت حكمة القائد أدرك المستوى الدقيق لكل من حوله، وبالتالي لا يكلف أحداً من جنوده فوق ما يطيق، حتى ممكن يحقق نسبة نجاح كبيرة. فتعالوا لننظر كيف طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من يميز الرجال، وأفضل من يقدر إمكانياتهم، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام لم يناد في هذه المعركة على (12. 000) مقاتل الذين معه؛ لأن فيهم أناساً حديثو عهد بالإسلام، ويصعب عليهم أن يثبتوا في هذه المواقف، بل إنه صلى الله عليه وسلم لم يناد على (10000) مقاتل الذين فتح بهم مكة، مع أن الذي دخل الإسلام قبل الفتح له درجة عالية جداً في ميزان الإسلام، ومع ذلك لم يناد عليهم كلهم؛ لأنه يعرف أن منهم من آمنوا رهباً من الدولة الإسلامية أو رغباً في ثرواتها بعد الانتصارات المتتالية مثل: قبائل غطفان وسليم وتميم وغيرهم. فماذا عمل صلى الله عليه وسلم؟ ركز النداء في أولئك الذين يثق بدينهم، ويطمئن لعقيدتهم، ويعلم تماماً أنهم وإن فروا في أول يوم حنين إلا أنهم سيعودون سريعاً إلى حالتهم الأولى من البذل والعطاء والجهاد بمجرد التذكير؛ لأن معدنهم شديد النقاء. فمن هؤلاء الذين وثق فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ إنهم أصحاب الشجرة، أصحاب بيعة الرضوان الذين شهدوا صلح الحديبية، الذين فتحوا خيبر بعد ذلك، الذين قال الله عز وجل في حقهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. فهؤلاء بايعوا قبل ذلك على عدم الفرار. ولا شك أنهم لو تذكروا هذه البيعة -بيعة الرضوان- لعادوا فوراً إلى القتال؛ لأنهم يقيناً لم يبايعوا هذه البيعة نفاقاً ولأنه سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أنه علم ما في قلوبهم، وهؤلاء نزلت عليهم السكينة قبل ذلك وهم على أبواب مكة في سنة (6) هجرية، وكما تعلمون لم يكن معهم إلا سلاح المسافر، ونزول السكينة عليهم في هذا اللقاء في حنين سيحدث إن شاء الله بشرط أن يعودوا. وهؤلاء وإن كانوا (1400) فقط، إلا أن الواحد منهم بمائة والواحد منهم بألف والواحد منهم بأكثر من ألف، فهؤلاء لو ثبتوا فكل الناس بعد ذلك ستثبت لثباتهم، من أجل ذلك ركز الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم. أمر صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره، لم يفر العباس ولا لحظة واحدة، أمره أن ينادي على هؤلاء المبايعين على عدم الفرار، فرفع العباس صوته ونادى بكل ما فيه من قوة: يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب السمرة، يا أصحاب الشجرة هكذا. ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام خص النداء أكثر، فلم يعد ينادي على كل أصحاب الشجرة، فأمر العباس أن ينادي على الأنصار، فخص الأنصار من أصحاب الشجرة، فرفع العباس صوته ونادى: يا أنصار الله، يا أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه خص أكثر وأكثر فنادى على الخزرج: يا بني الخزرج، يا بني الخزرج. ثم إنه خص أكثر وأكثر وأكثر، فنادى على بني حارثة من الخزرج وهم من خير دور الأنصار، كما قال في الحديث عن أبي أسيد الساعدي في البخاري ومسلم. فماذا كان رد فعل أصحاب الشجرة والأنصار والخزرج وبني حارثة؟ نترك العباس رضي الله عنه يصور لنا رد فعل هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين. يقول العباس: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. يعني: عادوا مسرعين كالبقر التي تدافع عن أولاها الصغار، وقال الأنصار في لحظة واحدة وبصورة جماعية وبحماس: يا لبيك، يا لبيك، لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، فجاءوا من كل مكان في أرض الموقعة، مع كل الأزمة التي يعيشها المسلمون إلا أنهم أتوا من كل مكان، حتى إنهم كانوا لا يرون الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة تزاحم الناس، وكان الرجل يجد صعوبة في العودة؛ لأن الدابة التي يركب عليها في عكس الاتجاه، لكن كان يترك الدابة وينزل ويترجل على قدميه حتى يلح

تذكير الصحابة بأن النصر من عند الله عز وجل

تذكير الصحابة بأن النصر من عند الله عز وجل الخطوة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر العائدين بما نسوه، ألم تحدث المصيبة ويحدث الفرار؛ لأنهم أعجبوا بقوتهم وعددهم ولم يذكروا نصر الله عز وجل لهم؟ إذاً: فليتذكر الجميع الآن أن النصر من عند الله عز وجل، فرفع صلى الله عليه وسلم صوته يطمئن المسلمين ويقول: انهزموا ورب محمد، انهزموا ورب الكعبة، ثم رفع يده إلى السماء وابتهل إلى الله في الدعاء وقال في إلحاح: اللهم أنزل نصرك، اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا، اللهم أنزل نصرك. في هذه اللحظات العظيمة عولج المرض الخطير الذي أصيب به المسلمون يوم حنين، وأدركوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الناصر الحقيقي هو الله عز وجل، واستوعبوا بكل ذرة في كيانهم قول الله عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] وانتقلت هذه الآية في لحظات يسيرة وسريعة جداً من المفاهيم النظرية إلى الوقائع العملية. عندما تغير واقع المسلمين بهذه الصورة أذن الله عز وجل للنصر أن ينزل على المسلمين، وكما تعودنا أن ينزل النصر ينزل بصورة لا يتوقعها المسلمون، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل.

وسائل تحقيق النصر للمسلمين في غزوة حنين

وسائل تحقيق النصر للمسلمين في غزوة حنين كانت وسائل تحقيق النصر في حنين عجيبة، كما كانت عجيبة قبل ذلك في بدر والأحزاب وخيبر ومكة وغيرها وغيرها. لقد أنزل سبحانه وتعالى على المؤمنين السكينة، فقاتلوا بثبات وقوة، قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] ما عادوا يرون (25. 000) مقاتل قدامهم، فثبتوا في أرض القتال، وأنزل الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين فولوا مدبرين، متنازلين بسهولة شديدة عما حققوه من نصر، وعن كل تقدم وصلوا إليه، وأنزل الله عز وجل الملائكة، كما قال سبحانه: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26]. في لحظات يسيرة يفر الجيش المشرك من الجيش المسلم، فر أكثر من (25. 000) مقاتل في عدة حسنة وفي مواقع إستراتيجية جيدة وفي حالة معنوية عالية من (12. 000) مجاهد، وتفرقوا هنا وهناك، لا تسأل عن الأسباب المادية، فقط قل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]. يقول أحد الصحابة: فما ثبتوا لنا حلب شاة يعني: مدة قصيرة جداً، انطلقوا في كل اتجاه يفرون، الرعب يملأ قلوبهم، تركوا وراءهم أموالهم وأنعامهم وأكثر نسائهم وأولادهم. ووصف الله عز وجل موقف المشركين بعد عودة المسلمين إلى ربهم سبحانه وتعالى بقول بليغ مختصر معجز، قال سبحانه وتعالى: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26] من العذاب أن تأخذ قرار الفرار من العذاب أن تهرب وأنت الأكثر عدداً وعدة من العذاب أن تتنازل عن حصاد السنين من المال والأنعام في لحظة واحدة هكذا من العذاب أن تتخلى عن زوجتك وأولادك؛ لأن الرعب يملأ قلبك من العذاب أن تشعر أن كل شيء يطاردك حتى الجماد. وهذه حقيقة فهذا عمرو بن سفيان الثقفي كان من المشركين الذين فروا في حنين والحمد لله أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، يقول: فانهزمنا، فخيل إلينا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا. قال: فأعجرت -أي: أسرعت- على فرسي حتى دخلت الطائف. هذا هو العذاب بعينه: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:26] فر الجيش المشرك في ثلاثة اتجاهات، فر جزء إلى أوطاس جانب من وادي حنين، والجزء الثاني فر إلى منطقة نخلة، والجزء الثالث والأساسي فر إلى مدينة الطائف، هرب الجميع بهذه الصورة المخزية المشينة، وهرب معهم قائدهم مالك بن عوف الذي دفعهم إلى هذه المهزلة العسكرية، واندفع المسلمون خلفهم هنا وهناك، وطردوا المشركين في كل مكان، وتوجهت سرية إلى أوطاس، وأخرى إلى نخلة، وتوجه الجيش الرئيسي بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الطائف لحصار هوازن وثقيف في داخل الطائف. وأوقف الرسول عليه الصلاة والسلام توزيع الغنائم الهائلة التي حصلوها حتى يعود من الطائف، وجعل كل هذه الغنائم في وادي اسمه وادي الجعرانة إلى جوار حنين، وكانت هذه أكبر وأعظم غنائم تحصل في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة؛ لأن مالك بن عوف أتى بكل صغيرة وكبيرة في قومه ليجعلها بعد ذلك في أيدي المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله). لقد بلغ السبي من النساء في هذه الموقعة (6000) امرأة، هذا عدد هائل، وتجاوز عدد الإبل (24. 000)، وتجاوز عدد الأغنام (40. 000)، والفضة تزيد على (4. 000) أوقية، يعني: حوالي (150) كيلو جرام من الفضة. هذا نصر هائل، لم يتوقعه ولم يحلم به أحد، فمعركة حنين غريبة جداً، وعجيبة بكل المقاييس، وكان شهداء المسلمين في هذه الموقعة الضروس خمسة شهداء فقط، وقتلى المشركين (70) قتيلاً، ومن يشاهد الأعداد الهائلة المشتركة في هذه الموقعة (12000) مجاهد يحاربون أكثر من (25. 000) يظن أن الضحايا سيكونون بالمئات أو بالآلاف، لكن هذا الكلام لم يحصل. أول المعركة فر المسلمون دون قتال تقريباً، وآخر المعركة فر المشركون دون قتال تقريباً كذلك، وهذه النتائج الهائلة والغنائم العظيمة جاءت دون قتال يذكر، وإنما فر وكر من المسلمين ثم كر وفر من المشركين، هكذا تغيرت الأحداث في دقائق، انقلب النصر للمشركين إلى هزيمة لهم وتحولت الهزيمة للمسلمين إلى نصر لهم، والفارق تغير قلبي لا يراه أحد من البشر، لكن الله عز وجل يراه، فانحراف في الفهم ولو للحظات أدى إلى الفرار، وعودة إلى الفهم الصحيح في لحظات أدى إلى النصر؛ لتبقى الحقيقة واضحة في الذهن وراسخة في أعماق المسلمين: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]. لا يخفى علينا أن حنيناً تتكرر كثيراً في حياتنا، ما أكثر توكلنا على الطبيب الماهر المشهور للدرجة التي تمنعنا أحياناً من رفع الأيدي إلى الله عز وجل لطلب الشفاء من الله الشافي، لا أقصد عدم التداوي، التداوي أمر نبوي، لكن الاعتماد على الطبيب ونسيان رب الطبيب هذا لا يقبل. كثيراً ما نثق بمال الأغنياء من الب

بين حنين والطائف

سلسلة السيرة النبوية_بين حنين والطائف كان فتح مكة ضربة خاطفة دهش لها العرب، وسلمت القبائل المجاورة بالأمر الواقع الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولم تمتنع عن الاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وهي بطون هوازن وثقيف، حيث رأت هذه البطون من نفسها عزاً وأنفة تأبى أن تقابل انتصار المسلمين بالخضوع، فاجتمعت تحت قيادة مالك بن عوف النصري لمقاتلة المسلمين، فكان اللقاء في حنين، وكانت العاقبة للمتقين، والنصر حليف المؤمنين.

أهم الآثار المترتبة من غزوة حنين

أهم الآثار المترتبة من غزوة حنين أعوذ بالله بالسميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين. تحدثنا في الدرس السابق عن يوم حنين العجيب جداً أنه لم يَدُرْ فيه قتال يذكر، ومع ذلك كان له من الآثار ما لا يحصى. من أهم هذه الآثار: أن المسلمين فقهوا جيداً حقيقة النصر في الإسلام، وعلموا تمام العلم أن المسلم الذي يعد العدة دون أن يرتبط بالله عز وجل أن نصره بعيد، وثباته محال. فكان هذا الدرس من أبلغ الدروس التي تعلمها المسلمون في كل حياتهم السابقة.

مطاردة جيش هوازن

مطاردة جيش هوازن رأينا فرار جيش هوازن بكل بطونها أمام جيش المسلمين عندما عاد المسلمون إلى ربهم سبحانه وتعالى، وعندما عادوا إلى الفقه السليم، فرت جيوش هوازن حتى واصلوا فرارهم إلى مدينة الطائف، وفر معهم زعيمهم القومي مالك بن عوف النصري. بعد هذا الأمر أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم معظم الجيش وذهب لحصار مدينة الطائف، وحرب جيش هوازن، واستغلال فرصة انهزام هوازن من أجل مقابلتهم في معركة فاصلة، من أجل ذلك ترك الرسول صلى الله عليه وسلم توزيع غنائم حنين الهائلة حتى ينتهي من قضية هوازن وثقيف، وتستقر الأوضاع. سار الرسول عليه الصلاة والسلام بجيشه الضخم متجهاً إلى الطائف، وسبحان الله المقارنة عجيبة جداً بين هذا المسير المهيب للطائف، وبين مسيره صلى الله عليه وسلم إليها من إحدى عشرة سنة، أيام العهد المكي، من إحدى عشرة سنة كان صلى الله عليه وسلم متجهاً إلى الطائف وهو في أشد حالات الحزن والضيق، وكان ماشياً على قدميه ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة رضي الله عنه، طردته مكة وأخرجته وتنكرت له، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها قد ماتت، وكذلك مات عمه أبو طالب أيضاً، وليس معه في مكة إلا قليل من المؤمنين لا يتجاوزون مائة واحد من الصحابة، وكانوا مشردين في الحبشة، وكان الوضع في غاية المأساة، ولم تخفف الطائف من آلامه، بل عمقت الآلام، فرفضت الدعوة الإسلامية بتكبر، وحاربت الرسول صلى الله عليه وسلم بشدة، واستقبلته استقبال اللئام لا استقبال الكرام، وطردوه وصاحبه زيداً رضي الله عنهم، وقد أمطروهما بوابل من الحجارة والتراب والسباب، حتى ألجئوهما إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة. وأنتم تعلمون الدعاء المشهور الذي دعا به هناك، وهو دعاء يعبر عن درجة الألم والأسى والحزن الشديدة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وغادر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الطائف وعاد متجهاً إلى مكة مهموماً على وجهه في ظروف لا يتحملها عامة البشر، ومع كون حالته النفسية قد وصلت إلى أقصى درجات الألم إلا أنه رفض تدمير هذه القرية الطائف وغيرها من القرى ممن كفر بالله عز وجل، مع أن ملك الجبال عرض عليه هذا الأمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في منتهى التجرد: (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده ولا يشرك به شيئاً). وسبحان الله مرت الأيام، والأيام دول، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وغير الله عز وجل الأحوال، وجاء صلى الله عليه وسلم الآن بعد إحدى عشرة سنة بما لم يتصوره أحد، لا من الطائف ولا من مكة، ولا من أهل الجزيرة بكاملها، جاء صلى الله عليه وسلم الآن عزيزاً منتصراً ممكناً رافعاً رأسه، محاطاً بجيش مؤمن جرار يزلزل الأرض من حوله، يرفع راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أحد عشر عاماً فقط فرقت بين الموقفين. وتحقق ما ذكره صلى الله عليه وسلم لصاحبه زيد بن حارثة رضي الله عنه يوم قال له بيقين بعد عودتهم المحزنة من الطائف: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. وجاء الفرج والمخرج على صورة أعظم بكثير من تصور الجميع، ونصر الله الدين، وأظهر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الطائف كانت تجول في خاطره ذكريات لا حصر لها، يخرج بجيش يقطع الصحراء باتجاه الطائف للمرة الثانية في حياته، فماذا كان يفكر به صلى الله عليه وسلم؟ لعله تذكر صاحبه زيد بن حارثة حبه رضي الله عنه، الآن زيد لا يسير معهم قد سبق زيد إلى الجنة رضي الله عنه وأرضاه، استشهد في مؤتة كما ذكرنا قبل ذلك، لعله تذكر أهل الطائف وهم يرفضون دعوته جميعاً بلا استثناء في تعنت أشد من تعنت أهل مكة. لعله تذكر عبد يا ليل بن عمرو بن عمير الثقفي -هذا الذي انتهت إليه الآن زعامة ثقيف- عندما وقف يسخر من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه يمرط -أي: يمزق- ثياب الكعبة إن كان الله عز وجل قد أرسله. وعبد يا ليل فر فراراً مخزياً من أرض حنين، وذهب ليختبئ في جبن ظاهر في داخل حصون الطائف. لعله تذكر عداس النصراني رضي الله عنه الغلام الصغير الذي آمن، واختفى ذكره من السيرة بعد ذلك، ولا نعلم من حاله شيئاً، لكن الله عز وجل يعلمه. لعله تذكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة صاحبي الحديقة التي لجأ إليها صلى الله عليه وسلم عندما طردوه من الطائف، فالآن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة يرقدان في قليب بدر يعذبان مع قادة الكفر في قبورهم. لعله تذكر وهو يمر من وادي نخلة مجموعة الجن التي آمنت به ف

حصار الطائف

حصار الطائف وصل الجيش العملاق إلى الطائف، وتوقع الجميع معركة هائلة ستقع بين تجمع هوازن وثقيف في حصون الطائف في عقر دارهم وبين جيش المسلمين الضخم، وكما ذكرنا أن عدد قتلى المشركين في موقعة حنين (70) رجلاً فقط، يعني: الجيش بكامله لا زال موجوداً في الطائف (25000) مقاتل أو يزيدون والجيش المسلم (12000) مجاهد، فتوقع الجميع معركة هائلة، لكن رفض المشركون الخروج للحرب، فظلوا في حصونهم دون قتال، وحصون الطائف كانت شديدة المنعة، وإذا قرر أهل ثقيف وهوازن عدم الخروج فسيكون القتال صعباً للغاية. ومع أن عددهم وعدتهم أضعاف المسلمين. ومع أنهم يقاتلون في بلادهم التي خبروها، وهم في ظروف اعتادوا عليها، لكن ألقى الله عز وجل الرهبة في قلوبهم، فما استطاعوا أن يأخذوا قرار الحرب مرة ثانية، بل اكتفوا بفضيحة حنين. ولاشك أن في هذا خزياً كبيراً جداً وصغاراً شنيعاً؛ لأن نساء وأموال وأنعام هوازن في يد المسلمين الآن، ومع ذلك فضلوا ألا يخرجوا لاستخلاص هذه الأنعام والأموال والنساء والأولاد من أيدي المسلمين، هذا خزي كبير جداً وذل ليس بعده ذل، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى أهل الطائف من هوازن وثقيف يرفضون الخروج للقاء الفاصل لم يتنازل صلى الله عليه وسلم بسهولة، بل جمع الجيش الإسلامي وقرر ضرب الحصار على حصون الطائف المنيعة، لعلهم يفقدون الأمل ويخرجون، لكن أول ما فرض الحصار بدأ أهل الطائف بإطلاق السهام والرماح على المسلمين، وكانت حصونهم عالية وكبيرة، واشتد رميهم واستشهد من المسلمين اثنا عشر رجلاً، ولم تكن سهام المسلمين تصل إلى داخل الحصون، وأصبحت المشكلة كبيرة على المسلمين، فأشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد المسلمون عن الحصن حتى لا تصيبهم السهام، وبالفعل عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان بعيد عن حصون الطائف، لكن أيضاً استمر الحصار على مدينة الطائف.

الوسائل التي استخدمها رسول الله لإخراج المشركين من حصون الطائف

الوسائل التي استخدمها رسول الله لإخراج المشركين من حصون الطائف الرسول صلى الله عليه وسلم فكر في خطة لإخراج المشركين من الحصون، فأمر سلمان الفارسي رضي الله عنه بصناعة المنجنيق لقذف حصون الطائف بالحجارة، وأمر بصناعة دبابات خشبية لكي يختبئ تحتها الجنود ليصلوا إلى القلاع وإلى الحصون دون أن تصيبهم السهام، وبالفعل بدءوا في قذف أسوار الطائف بالمنجنيق الذي صنعه سلمان رضي الله عنه، وصار المسلمون تحت الدبابات الخشبية، وبالفعل كسروا جزءاً من السور، وكانوا على وشك الدخول داخل أسوار الطائف لولا أن أهل الطائف فاجئوا المسلمين بإلقاء الحسك الشائك المحمى بالنار، والحسك الشائك هو عبارة عن أشواك حديدية ضخمة أوقدت عليها النار حتى احمرت، فألقوها على المسلمين فصارت مأساة كبيرة، أصيب المسلمون إصابات بالغة، مما دفعت المسلمين إلى العودة من جديد إلى معسكرهم، وما قدروا أن يقتحموا حصن الطائف. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ييئس فقرر أن تحرق حدائق العنب المحيطة بالطائف، وكانت جنات ضخمة فيها مزروعات كثيرة، وأهم هذه المزروعات العنب. فأخذ رسول صلى الله عليه وسلم القرار بحرق هذه الأعناب حتى يدفع أهل الطائف أو يجبرهم على الخروج للقتال، هو لا يحرق هذه الأشجار أو هذه الأعناب بغرض التدمير أبداً، لكن بغرض إجبار أهل الطائف على الخروج للقتال. وبدأ المسلمون بحرق كمية ضخمة من العنب، فنادت ثقيف الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الأسوار وقالت: لم تقطع أموالنا إما أن تأخذها إن ظفرت علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم. يعني: لو غلبتمونا تأخذونها، ولو لم تغلبونا فاتركوها لله وللرحم، فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أدعها لله وللرحم التي بيني وبينكم. ذكرنا فيما مضى أن العلاقة بين ثقيف وقريش سيئة جداً، لكن كانت إحدى جدات الرسول صلى الله عليه وسلم لأمه من ثقيف، كانت الجدة الخامسة للرسول عليه الصلاة والسلام واسمها: هند بنت يربوع الثقفية؛ فلذلك ترك صلى الله عليه وسلم حرق الأعناب وقطعها للرحم التي بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم. ولم يفعل صلى الله عليه وسلم كما تفعل الجيوش الكافرة العلمانية مثل: جيوش فارس والرومان والتتار واليهود، وجيوش العصور الحديثة التي تفسد في الأرض لمجرد الإفساد؛ حتى إن الله سبحانه وتعالى يصفهم في كتابه الكريم بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. يعني: الإفساد عند غرض، أما المسلمون فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا لغاية محددة، فلما لم تحقق وقفوا عن الحرق كما رأينا، إذاً: هذه الوسيلة لم تفلح في إخراج أهل الطائف. الوسيلة الأولى: الضرب بالمنجنيق. الوسيلة الثانية: حرق الأعناب. الوسيلة الثالثة: محاولة تفكيك الصف داخل الحصون، فقد نادى صلى الله عليه وسلم على العبيد في داخل الحصون وقال: (أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر) وكان العبيد كثيرين في المجتمع العربي القديم، وسياسة الإسلام أتت بتحرير العبيد في كل مناسبة ممكنة، فكانت هذه فرصة طيبة لتحرير بعض العبيد من صفوف المشركين، فهؤلاء العبيد في الغالب سيسلمون، وبذلك يستنقذون من ظلمات الكفر، وسيفقد أهل ثقيف طاقة هؤلاء العبيد، وسوف ينقل هؤلاء العبيد الأخبار من داخل الطائف إلى خارجها، فهناك أكثر من فائدة، فقد كان قراراً سياسياً دعوياً عسكرياً بارعاً من الرسول عليه الصلاة والسلام. وبالفعل بدأ يخرج بعض العبيد من داخل الحصون، حتى وصل عددهم إلى ثلاثة وعشرين من العبيد، واكتشفت ثقيف الأمر وشددت الحصار على الأسوار، ومنعت خروج بقية العبيد، واستفاد المسلمون من خروج هؤلاء الثلاثة والعشرين عبداً وأهم استفادة كانت أمرين: وأعظم الأمرين: هو إضافة ثلاثة وعشرين رجلاً إلى أمة الإسلام، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). الأمر الثاني: معرفة بعض المعلومات العسكرية الخطيرة. فقد أخبر هؤلاء العبيد الرسول عليه الصلاة والسلام أن الطعام والشراب الذي في داخل الطائف يكفي للمطاولة والصبر على الحصار سنة على الأقل أو عدة سنوات، فهذه معلومة في غاية الأهمية، فالحصار لن يكون يوماً أو يومين ولا شهراً ولا شهرين، بل عندهم طعام يكفي لسنة أو أكثر، والمسلمون لا يستطيعون أن يبقوا في هذا المكان؛ لأن القوات الإسلامية ليست مجرد فرقة إسلامية من الجيش الإسلامي، وليست مجرد جيش لدولة، بل القوات الإسلامية هي المجتمع المسلم بكامله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك في المدينة المنورة التي هي عاصمة الدولة الإسلامية إلا القليل من الرجال لحراسة النساء والأطفال والديار، وهناك الكثير من القبائل التي دخلها الإسلام حديثاً، فهي تحتاج إلى متابعة مستمرة خوفاً من انقلابها إلى الكفر، والهجوم على المدينة المنورة. وهناك الكثير من القبائل لم تسلم بعد في الجزيرة العربية، وهناك اليهود في خيبر على مقربة من المدينة، وهم على

استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه بعد طول حصار الطائف

استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه بعد طول حصار الطائف استشار الرسول عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه من أصحاب الخبرة العسكرية والرأي السديد، عندما تسمع اسم هذا الصحابي الذي استشاره الرسول عليه الصلاة والسلام سينتابك العجب لا محالة، من هذا الذي استشاره صلى الله عليه وسلم؟ إنه نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه وأرضاه، هذا نوفل بن معاوية الديلي زعيم بني بكر القبيلة التي كانت متحالفة مع قريش بعد صلح الحديبية، وهو الذي قاد قومه لقتل خزاعة، والذي كان سبباً في نقض صلح الحديبية، والذي دخل الحرم المكي ليستمر في عملية قتل رجال خزاعة، والذي رد بالرد الكفري على قومه عندما قالوا له: يا نوفل إلهك إلهك، فقال: يا بني بكر! لا إله لكم اليوم، هذا هو نوفل بن معاوية الذي ارتكب كل هذه الجرائم منذ شهرين أو ثلاثة، والذي كان سبباً في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة المكرمة ثم حنين، ثم الطائف، وسبحان مقلب القلوب ومصرفها سبحانه وتعالى. أسلم نوفل بن معاوية بعد هذا التاريخ الأسود مع المسلمين، أسلم وحسن إسلامه، وانضم إلى الجيش المسلم، وأصبح مستشاراً أميناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن كنا نعجب من تحوله من الكفر إلى الإيمان، ومن الغدر إلى الأمانة، ومن حلفه لقريش إلى دخوله في الإسلام، إن كنا نعجب من كل ذلك فالعجب كل العجب والإبهار كل الإبهار في الدروس التي يعطيها لنا معلم البشرية وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم!. فنحن نرى هذا التوظيف الرائع منه صلى الله عليه وسلم لكل الطاقات التي حوله، وهذا الاستغلال المفيد لكل من دخل في صف المؤمنين، وهذه القيادة المبهرة لكل هذه الأنواع المختلفة من البشر، وهذا الأمر لم يكن حدثاً عارضاً في حياته صلى الله عليه وسلم، لا، بل كان أمراً متكرراً وثابتاً في حياته كلها صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون توليته عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه إمارة معركة ذات السلاسل ولم يمر على إسلامه إلا شهور قليلة، وكذلك تقريبه خالد بن الوليد في كل أموره، حتى قال خالد: فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه! فهذا إحساس صادق من خالد بن الوليد، مع أنه من المؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يستشير أصحابه الآخرين مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير وغيرهم وغيرهم أكثر من استشارته لـ خالد بن الوليد، لكنه كان صلى الله عليه وسلم يشعره دائماً بقيمته وأهميته واحتياجه لرأيه. وكلنا يذكر توليته عتاب بن أسيد رضي الله عنه على مكة المكرمة، ولم يكن قد أسلم إلا منذ أيام، هكذا يكون التعامل مع الرجال، وبالذات الذين يتمتعون بملكات قيادية. والقواد إذا همشوا لا تضيع قواتهم فقط، بل قد يكونون وبالاً على الأمة. فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ قمة الحكمة في التعامل مع الناس، وقمة الحكمة في إنزال الناس منازلهم، وقمة الحكمة في احترام أرائهم واستغلال قدراتهم. ومن هذه السياسة الحكيمة نرى نوفل بن معاوية القائد المحنك يدلي برأيه في قضية تنفع الإسلام والمسلمين، لو كان القائد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعله كان يتتبع قواد الجيش المعادي بالقتل والإبادة والسجن والتعذيب، مثل ما نرى في كل مكان، لكن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، إنها سياسة نبوية ثابتة مستقرة، فماذا قال نوفل بن معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك. يعني: هو يشبه أهل ثقيف بالثعالب، وهذا حقيقي ومشتهر عنهم وسط العرب، حتى قال عنهم عيينة بن حصن: إنهم قوم مناكير. يعني: أصحاب دهاء وفطنة. ورأينا من هذه الفطنة وهذا الدهاء في هذا الحصار الصعب، وهذه المقاومة الشرسة. ثم إنه يؤكد أنهم لا مهرب لهم من هذه الحصون (إن أقمت عليه أخذته) غير أنه يشير إلى شيء في غاية الأهمية، يقول: إن شوكة ثقيف وهوازن قد كسرت ومعنوياتهم هبطت إلى الحضيض، لن تكون لهم قائمة بعد اليوم، فقد طارت فضيحتهم في الآفاق، لذلك قال نوفل في نظرة عميقة وتحليل دقيق: (وإن تركته لم يضرك). يعني: لو صبرت على الحصار، فستصل إلى مرادك وستفتح الحصن، لكن تضييع الوقت في حصارهم قد يكون ضاراً بالجيش الإسلامي أكثر من ضرره بثقيف. فهنا عقد الرسول صلى الله عليه وسلم موازنة بين الأمرين، فوجد أن بقاءه في هذه البلاد أكثر من ذلك سيوقع الدولة الإسلامية في أضرار أكثر من الفوائد المحصلة، فأخذ الرسول عليه الصلاة وال

واقعية الرسول صلى الله عليه وسلم في المواقف

واقعية الرسول صلى الله عليه وسلم في المواقف يعلمنا الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف أموراً مهمة جداً، يعلمنا الواقعية في الحياة، ليس عيباً أن نفشل في أمر من الأمور، وليس بالضرورة أن تكون كل معاركنا وكل مشاريعنا ناجحة، لكن المهم لا نغرق في العمل دون إدراك أن الهدف غير قابل للتحقيق، وليس معنى هذا سرعة اليأس، فالرسول صلى الله عليه وسلم بذل كل ما في الوسع، فقد استخدم كل وسيلة لفتح الحصن، ولكن لم يقدر، فقبل في واقعية أن ينسحب، وفرق كبير جداً بين المثابرة وبين تضييع الوقت، فالمثابرة على أداء عمل أمر مطلوب، لكن لابد أن تكون هناك مؤشرات للنجاح، لابد أن تكون هناك مقاييس تشير إلى أن هذا العمل ممكن التحقيق، ولابد أن تكون الخسائر أقل من الفوائد، من أجل هذا لابد من المتابعة والملاحظة والتقييم المستمر. أما تضييع الوقت فهو الاستمرار في عمل يستحيل تحقيقه بالإمكانيات المتاحة، أو يتسبب في خسائر أكبر من الفوائد. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يحقق الفائدة العظمى حتى وإن حصلت بعض الخسائر. فنحن نلاحظ رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد أذن لهم بالقتال مع علمه أن فتح الحصن صعب جداً، لكن ليعيشوا معه في واقعيته صلى الله عليه وسلم. ولما أيقن الصحابة بعد بصعوبة المهمة، ووافقوا على الرحيل وهم راضون، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفك الحصار ويغادر الطائف وهو يضحك. هذه القيادة الهادئة تبث الأمن والراحة في قلوب الجنود، لا يوجد انفعال ولا عصبية، ولا تحميل الآخرين أخطاء لم يعملوها، ولا حالة غضب، ولا حالة يأس وإحباط، ولا حزن، ولا كلمة (لو)، لو فعلنا كذا لكان كذا أو كذا، بل هدوء أعصاب، ورزانة، وثقة، وقدرة على التكيف في ظل كل الظروف. أنا سعيد بعدم فتح الطائف، قد تستغرب الناس هذا الكلام، لكن الأمر المفرح من وجهين: الأول: لو فتحت الطائف في هذه الظروف الصعبة والقتال الشرس، والمطاردة لهوازن وثقيف، والقتال في داخل الحصون، لقتل منهم ما لا يتصور، ولفقد الإسلام قوة هؤلاء جميعاً؛ لأن هوازن وثقيف أسلموا بعد ذلك، فلو قتلوا لفقد الإسلام قوتهم، ولكان عاقبتهم النار، وهذا أسوأ ولاشك. الثاني: أن هذا الانسحاب دون إتمام المهمة فتح لنا باباً أن نفعل المثل إن تعرضنا لنفس الموقف، لكن لو أصر الرسول عليه الصلاة والسلام على عدم الانسحاب حتى يفتح الحصن، لكان في هذا إحراج كبير جداً للأمة الإسلامية؛ لأنه سيكون لزاماً علينا أن نفعل مثله، لكن بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم ترك الأمر لقادة المسلمين، ولرأي الشورى، إن رأى المسلمون أن الحصار يجدي صبروا كما حدث في فتح خيبر، وإن رأوا أنه أمر غير ممكن أو خسائره كبيرة انسحبوا، كما حدث في الطائف، ولهم في كلتا الحالتين أُسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من مواقفه صلى الله عليه وسلم مع مخالفيه

من مواقفه صلى الله عليه وسلم مع مخالفيه هنا موقف في منتهى الرقي من مواقفه صلى الله عليه وسلم وهو يغادر الطائف، قال له بعض الصحابة: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال في حب وفي أمل: اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم. روى الترمذي وأحمد وقال الترمذي: حسن صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم) ما غابت عنه أبداً رسالته في الحياة، فرسالته أن يصل بدعوته إلى الناس لا أن يقتلهم، ما على الرسول إلا البلاغ، حتى وإن رفض أهل الطائف الإيمان واستكبروا عنه وقاوموا وقاتلوا، فهو ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع مرور السنين تلو السنين ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع ذكريات الطائف في المرة الأولى، ومع واقع الطائف في المرة الثانية، ما زال صلى الله عليه وسلم يرجو إسلامهم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجز الناس عن النار، وهم يقتحمون فيها). وأهل الطائف يدفعون أنفسهم دفعاً إلى النار ويقتحمون فيها، والرسول عليه الصلاة والسلام حريص عليهم أكثر من حرصه على نفسه صلى الله عليه وسلم. كذلك عندما ناداه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين أبى صلى الله عليه وسلم أن يهلك الطائف ومكة المكرمة حتى بعد أن عرض عليه ذلك ملك الجبال. كذلك فعل ذلك أيضاً مع قبيلة دوس لما رفضوا الإسلام قال: (اللهم أهد دوساً، وائت بهم). وفعل ذلك مع قريش بعد أن قتلت (70) من خيار الصحابة في أحد، قال: (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون). فصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ليس رحمة للمسلمين فقط، ولكن رحمة للعالمين لكل البشرية لكل الإنسانية.

قسمة غنائم معركة حنين بالجعرانة

قسمة غنائم معركة حنين بالجعرانة رجع الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أربعين يوماً كاملة، ووصل إلى وادي الجعرانة ليبدأ في مهمة أخرى عظيمة، وهي مهمة تقسيم الغنائم المهولة على الجيش المنتصر. نريد أن نقف وقفة سريعة مع الغنائم، الغنائم خصيصة لهذه الأمة العظيمة الأمة الإسلامية، فهي لم تكن مشروعة للأمم السابقة، روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي. وذكرها منها: وأحلت لي الغنائم)، يعني: هي نعمة من الله عز وجل وحافز قوي للمجاهد، فهي عوض للمجاهد عن تركه للديار وللأعمال وللأسرة وللوطن، ولاشك أن الجيش الذي توزع عليه الغنائم يقاتل بحمية تختلف عن الجيش الذي لا يتجاوز فيه راتب الجنود دراهم معدودة. يقول الشرع الإسلامي: إن أربعة أخماس الغنيمة توزع على أفراد الجيش المقاتل، وخمس الغنيمة المتبقية يذهب للدولة تتصرف فيه حسب المصلحة، لكن في هذا الوقت في زماننا يستكثر القادة الكبار والزعماء هذا العطاء الضخم للجنود، ويحتفظون به للدولة أو لهم، فيسلبون بذلك حق الجنود. ولاشك أن ذلك سيكون له انعكاس كبير على قتال الجنود في المعارك، وعلى أداء الجنود في الحروب.

أقوال العلماء في غنائم حنين وبيان الراجح منها

أقوال العلماء في غنائم حنين وبيان الراجح منها فماذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين الهائلة؟ الفقهاء وكتاب السير اختلفوا فيما فعله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين خاصة؛ أما المعارك السابقة بدءأً من بدر وحتى هذه اللحظة فقد اتفق الجميع على أن أربعة أخماس الغنائم توزع على الجيش وخمس للدولة، إلا أن الأمر بالنسبة لحنين كان موضع خلاف بين الفقهاء. فمنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم. والمؤلفة قلوبهم: هم الذين أسلموا حديثاً سواءً من أهل مكة الطلقاء، أو من الذين أسلموا من الأعراب قبل فتح مكة مباشرة. ومن قال بهذا الرأي: ابن حجر العسقلاني رحمه الله كما في فتح الباري. ومنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم أعطى المؤلفة قلوبهم من الخمس المتبقي المملوك للدولة. وممن قال بهذا الرأي: القرطبي، وأبو عبيد القاسم بن سلام صاحب كتاب الأموال، وابن خلدون، والقاضي عياض وغيرهم. وأنا أميل إلى هذا الرأي الأخير؛ لأن هذا الرأي يتفق مع الشرع والعقل والنقل، وعندي أكثر من دليل على ذلك: الأول: هذه الغنائم ليست ملكاً للرسول عليه الصلاة والسلام ليوزعها بطريقة تخالف التوزعة الشرعية، بل هذه الغنائم ملك للجيش، ولا تؤخذ منه إلا باستئذان خاص، وأيضاً هذا ما حصل. ومن قال: إن هذا أمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام يلزمه الدليل على ذلك، وإلا يصبح من حق أي زعيم أن يقول: إن ظرفي يماثل ظرف يوم حنين، فيأخذ الغنائم كلها لينفقها حسب ما يرى. الدليل الثاني: لو كان هناك تغيير في تقسمة الغنائم لتوقعنا أن يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك أمر خاص بهذه الواقعة، حتى لا يعتقد البعض أن ما فعله في حنين قد نسخ التقسيم السابق للغنائم، خاصة وأن هذه المعركة هي آخر موقعة حربية مع العرب، حتى موقعة تبوك التي لم يحدث فيها قتال، ولم تكن فيها غنائم. الدليل الثالثة: ما رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وكذلك عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لأعرابي عند توزيع غنائم حنين بعد أن أمسك وبرة أو شعرة بين إصبعيه قال: (إنه ليس لي من الفيء شيء، ولا هذه) أي: ولا مقدار هذه الشعرة، (إلا الخمس، والخمس مردود فيكم) فهذا تصريح من الرسول عليه الصلاة والسلام، وقاله بعد توزيع الغنائم، ولا أدري كيف خفي هذا الحديث عمن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم، والحديث أيضاً رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت، وأخرجه كذلك مالك والشافعي، وحسنه ابن حجر في الفتح. فالرسول صلى الله عليه وسلم يصرح أنه لا يملك في يوم حنين إلا الخمس فقط من الغنائم. يبقى هذا الدليل الثالث. الدليل الرابع: لو نظرت إلى من وزع عليهم الغنائم لأدركت أنه من المستحيل أن يكون قد قسم كل هذه الغنائم على المؤلفة قلوبهم، فعدد الذين أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العطاء السخي لا يزيدون في أي كتاب من كتب السيرة على عشرين رجلاً، ولو جمعت الأسماء من الكتب المختلفة قد تصل إلى أربعين أو خمسين رجلاً بالكثير. إذاً: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الناس مائة من الإبل فعطاؤه لأربعين رجلاً سيبلغ أربعة (4000) بعير فقط، مع أنه كان يعطي بعضهم خمسين لا مائة، فسيكون أقل من (4000) أو أقل من (5000) بعير. فهذه (4000) بعير فأين ذلك من (24000) بعير هي غنائم حنين من غير الشياه فقد بلغت (40000) شاة، وغير الفضة (4000) أوقية من الفضة، وغير (6000) من السبي، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أرقاماً كبيرة كمائة بعير أو خمسين بعيراً إلا لهذه المجموعة من المؤلفة قلوبهم فقط. الدليل الخامس: هل كان سيرضى أفراد القبائل من الأعراب ومن قريش إعطاء زعمائهم فقط، أم أنهم لا يرضون أبداً إلا إذا أخذوا ولو شيئاً يسيراً؟ يعني: لو أنا أعطيت لزعيم قبيلة غطفان مائة من الإبل، هل سيرضى (2000) أو (3000) غطفاني دون إعطائهم؟ لاشك أن قلوب الجميع كانت تهفوا إلى الغنيمة، وكل الناس تحتاج إلى تأليف قلوبهم. أنا أرى أن (99%) من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وبعد فتح خيبر يحتاجون إلى تأليف لقلوبهم، ولن يترفع منهم عن هذه الغنيمة إلا القليل، أمثال: خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، والعباس، أمثال هؤلاء الكبار وبعض الأفراد المعدودين. أما الباقي فسيحتاج إلى تأليف، ودليل ذلك أن الرسول عليه السلام عند الهزيمة أول المعركة في حنين لم ينادِ على أولئك الذين أسلموا قبل الفتح؛ لأ

مقدار غنائم حنين

مقدار غنائم حنين نتحدث عن غنائم حنين بالأرقام: كانت غنائم (24000) من الإبل، و (40000) شاة، و (4000) أوقية من الفضة، هذا غير (6000) من السبي. إذاً: أربعة أخماس الغنيمة تساوي (19200) من الإبل، و (32000) شاة، و (3200) أوقية من الفضة، و (4800) من السبي، فهذه الغنائم توزع على (12000). كانوا يقيمون الجمل الواحد بعشر من الشياه، يعني: أن كل واحد من أفراد الجيش سيأخذ إما جملين، وإما عشرين من الشياه. وجاء في بعض الكتب تقول: أن الواحد من (12000) كان يأخذ أربعة جمال أو أربعين شاة، لكن عندما تحسبها ستجد أن هذا غير صحيح، وأن الصحيح أن الواحد كان يأخذ جملين أو عشرين من الشياه، إلا أن تكون عدد الغنائم أكثر من ذلك، لكن الثابت والصحيح أن عدد الغنائم مثل ما ذكرناه: (24000) من الإبل، و (4000) وأربعة آلاف أوقية من الفضة. فتكون هذه التقسيمات إما جملين أو عشرين من الشياه لكل فرد. أما تقسيم الفضة فكل واحد سيأخذ ربع أوقية من الفضة. أما السبي فتقسم بمعرفة الزعيم أو الإمام أو رئيس الدولة، وبما أن السبي (4800) وعدد الجيش (12000) فهناك من سيأخذ وهناك من لا يأخذ، فكان صلى الله عليه وسلم يقرع بين الصحابة رضي الله عنهم أحياناً، وكان يعوضهم بالمال أحياناً، وكان يعطي البعض أحياناً، والبعض الآخر يعطى من الغزو اللاحق بعد ذلك. إذاً: القاعدة التي ستحكم هو التقسيم بالتساوي بالنسبة لأربعة أخماس الغنائم، أما بالنسبة للخمس المتبقي، فهذا المال هو مال الدولة، والرسول عليه الصلاة والسلام كقائد يوجهه في الوجه الأصلح للدولة، قد يشترى به السلاح، قد يفتدى به الأسرى، قد تكون منه الهبات لأهل البأس في الحرب، قد تعطى منه رواتب وأجور، قد يدخل في مشروعات الدولة المختلفة. المهم أن القائد سينفقه في الوجه الأصلح للدولة، فما هو الأصلح للدولة في ذلك الوقت؟ الرسول صلى الله عليه وسلم رجل عمل يعيش أرض الواقع، ويعلم صلى الله عليه وسلم أن في جيشه من الرجال من يقف على شفا حفرة، فمنهم من هو متردد جداً في الإسلام. ومنهم من دخل الإسلام رهباً من قوته، أو رغباً في أمواله. ومنهم من كان سيداً مطاعاً في قومه ليس لأحد في العرب أو في العالم كلمة واحدة عليهم، فأصبح الآن تابعاً له صلى الله عليه وسلم. ومنهم من لو أمر قبيلته بالردة ومحاربة المسلمين لفعلوا ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم كل هذه الأمور ويدركها تماماً، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن هناك من لم يكن مقتنعاً تمام الاقتناع بالإسلام، ولم يكن الإيمان قد تغلغل في قلوبهم، وأن نور الإسلام لم يكن قد محا تماماً ظلمات الكفر التي عاشوا فيها سنوات طويلة.

سبب تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء القبائل والمؤلفة قلوبهم بغنائم حنين

سبب تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء القبائل والمؤلفة قلوبهم بغنائم حنين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن الدولة الإسلامية تقف الآن على بركان خطير، فلو خطر على ذهن كل سيد من سادات العرب، وكل زعيم من زعماء القبائل المختلفة أن يثور وينقلب على الدولة الإسلامية، فإن هذا قد يؤدي إلى دمار شامل للدولة الجديدة؛ الدولة الجديدة لم تستقر بعد بصورة جيدة، وخاصة أن أموال وأملاك الدولة الإسلامية قد اتسعت جداً، وكثر أتباع المسلمين، وليس هناك وقت كاف لتربية كل هؤلاء المسلمين الجدد. فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عرف الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لن يؤمن جانبهم إلا بترضية سخية ومجزية من الدولة الإسلامية، فلو أحسوا أن حالتهم المادية استقرت، وأن أموالهم كثرت، وأن وضعهم الاجتماعي تحسن بعد انتمائهم للدولة الإسلامية، فسيحبون هذه الدولة التي حققت لهم هذا الرخاء، ويحاولون بكل طاقة أن يدعموا هذه الدولة؛ ليستمر وضعهم في التحسن، وهؤلاء أصحاب مادة من البداية إلى أن يحسن إسلامهم بعد ذلك. نعم، الإيمان الذي يكون سببه حب المال إيمان ضعيف، لكن قد يكون هذا في البداية، ثم إذا دخل في محاضن التربية الإسلامية يبدأ الإيمان في الرسوخ تدريجياً حتى يصبح الإيمان أغلى عنده من المال. والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن النظام القبلي المترسخ في الجزيرة العربية منذ قرون يجعل لقائد القبيلة الكلمة العليا المطلقة في قبيلته؛ من أجل ذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يشتري رضا هؤلاء الزعماء واستقرار هؤلاء الزعماء بالمال. فعلاً هؤلاء الزعماء سوف يؤثرون تأثيراً إيجابياً على أتباعهم من القبائل المختلفة، ومن ثم هو يشتري استقرار الدولة الإسلامية، لكن هناك معوق لهذا الأمر، وهذا المعوق يحتاج إلى دراسة. فالذين بذلوا الجهد في معركة حنين، والذين كانوا سبباً مباشراً من أسباب النصر هم قدامى المهاجرين والأنصار، وهؤلاء بفضل الله عز وجل ثابتون في الإسلام دون شك، لا يحتاجون لإغراء بالمال أو بغيره، وتاريخهم معروف جداً، ومواقفهم مشرفة وأياديهم بيضاء عن الإسلام والمسلمين. وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يعطي عطاءً أكبر لأهل البلاء ولمن بذل جهداً زائداً في القتال، وعمل ذلك في أكثر من موقعة قبل حنين. فهو لو أراد أن يكافئهم على جهدهم سيعطيهم من الخمس الذي تمتلكه الدولة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف المحايد، هل يعطي زعماء القبائل الذين أسلموا حديثاً ولم يبذلوا الجهد المطلوب في حنين، ولم يعودوا إلى الصف إلا بعد رؤية الأمور تتجه لصالح المسلمين؟ هل يعطي هؤلاء ليشتري استقرار الدولة الإسلامية، أم يعطي الأنصار والمهاجرين ليكافئهم على جهدهم؟ لقد عقد الرسول عليه الصلاة والسلام مقارنة بين الوضعين، واختار دون تردد الرأي الأول؛ لأن استقرار الدولة الإسلامية هدف تتضاءل إلى جواره الأهداف الأخرى، لو تزعزع هذا الاستقرار فسيدفع الجميع الثمن، سواء من قدامى المسلمين، أو ممن أسلموا حديثاً، الجميع سيعاني من هذا الاضطراب في استقرار الدولة الإسلامية. ولا ننكر أن هناك ضرراً نفسياً ومادياً سيقع على الأنصار والمهاجرين، لكن الضرر الأكبر هو اضطراب الدولة الإسلامية وعدم استقرارها، ولتصديق قاعدة: دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين. رأى الرسول عليه الصلاة والسلام أن شراء زعماء القبائل وسادتهم بالمال مقدم على مكافأة الأنصار والمهاجرين، بل وجد صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع أن يعطي جزءاً لسادة القبائل وجزءاً للأنصار والمهاجرين؛ لأن هذا سيؤدي إلى نقص المعطى لسادة القبائل، وقد يستصغرونه أو يستحقرونه فلا يتحقق المطلوب، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية: هؤلاء الزعماء قد لا يشعرون بشيء من التميز، ومن ثم قد لا يرضون تمام الرضا. وأنا أعلم أن كلامي هذا قد لا يرضي عواطف المستمعين، لكن لاشك أنه يقنع عقول المستمعين، هذا الكلام عليه تطبيقات عملية كثيرة جداً سنراها بعد ذلك في الفتوح وعند مواجهة أحداث الفتنة، وفي مواقف كثيرة، ولاشك أن هذا هو الأفضل والأحكم؛ لأنه في الأساس اختيار نبوي أقره رب العالمين سبحانه وتعالى، ولم ينزل وحي يعارض هذا القرار. ونحن رأينا ممن عاصر هذا الموقف بعض الاستغراب وعدم الفهم، وكان ممن استغربه مؤمنون شديدو الإيمان كالأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، وسنأتي لقصتهم في الدرس القادم إن شاء الله. كذلك استغربه بعض الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، وليسوا من السادة، ووصل استغرابهم إلى درجة غير مقبولة، من هؤلاء أحد الأعراب جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث جاء هذا الرجل وقال في غلظة: (والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله عز وجل فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينسب العدل في هذه القسمة له وحده، إنما قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) وهذا

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان وولديه يزيد ومعاوية من غنائم حنين

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان وولديه يزيد ومعاوية من غنائم حنين تعالوا بنا ننظر ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الخمس مع زعماء مكة وقادة القبائل، مع العلم أن هذا الخمس يمثل رقماً كبيراً جداً من الغنائم، فالخمس كان (4800) من الإبل، و (8000) شاه، و (800) أوقية من الفضة، و (1200) من السبي. فكان أول لقاء مع زعماء مكة وأولهم أبو سفيان زعيم مكة الأول، فقد حكم مكة ست سنوات متصلة بعد مقتل أبي جهل، منذ غزوة بدر حتى فتح مكة، وهو من أصحاب رءوس الأموال الضخمة في مكة، وهو قد حصلت له مواقف مهينة في غضون الشهرين السابقين بدءاً من زيارته للمدينة المنورة كما رأينا قبل ذلك لمحاولة إطالة مدة الحديبية، ومروراً بموقفه في الطريق من المدينة إلى مكة، وكان إيمانه في ظروف قاسية جداً على قلب أي زعيم، وكذلك عند دعوته أهل مكة إلى عدم الدفاع عنها وفتحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون قتال، وانتهاءً بنزع زعامة مكة منه، وإعطاء هذه الزعامة لأحد الأمويين، كان في مثل عمر أولاده وهو عتاب بن أسيد رضي الله عنه. لاشك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقدر كل هذه المعاناة التي يشعر بها أبو سفيان، كما أنه يعلم أنه لن يرضى بقليل من العطاء؛ لأنه من كبار زعماء مكة؛ من أجل هذا أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام عطاء ضخماً. جاء أبو سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في وادي الجعرانة، وحين رأى أبو سفيان الغنائم الهائلة قال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً. يعني: صرت أغنى رجل فينا. فقد كان يلمح بوجود المال الكثير، فتبسم صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم، فلما رأى أبو سفيان أن التلميح غير نافع، قال: أعطني يا رسول الله من هذا المال. هكذا تصريحاً. لا تتعجبوا؛ فهذه كميات هائلة من المال، ولعله إن لم يصرح أن توزع على غيره وعندها سيندم حيث لا ينفع الندم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال زن لـ أبي سفيان أربعين أوقية من فضة، وأعطه مائة من الإبل. بلال الذي كان يباع ويشترى ويعذب هو الآن المقرب من زعيم الدولة، وهو الذي يعطي هذا وذاك من الزعماء السابقين، فكان أبو سفيان ينظر إلى العطايا وهو لا يصدق نفسه، فكل هذه الأغنام، وكل هذه الإبل، وكل هذه الفضة تصبح ملكه، في لحظة واحدة أصبح أبو سفيان يمتلك أربعين أوقية من الفضة. يعني: حوالي كيلو ونصف فضة، ومائة من الإبل، وهذا رقم ضخم هائل، فدية القتيل مائة من الإبل، وهذا هو نفس الرقم الذي رصدته قريش لمن يأتي بالرسول عليه الصلاة والسلام أو الصديق رضي الله عنه حياً أو ميتاً عند الهجرة إلى المدينة، ومع أن هذا رقم مهول إلا أن أبا سفيان وجد نفسه يطلب المزيد قبل أن يفنى هذا المال الغزير، قال أبو سفيان: ابني يزيد يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فقال أبو سفيان: ابني معاوية يا رسول الله، وهذان كانا مسلمين من أبنائه، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فذهل أبو سفيان وقال في صدق -واسمعوا هذا الكلام الذي سيقوله-: إنك الكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً. تشعر بالصدق في كل كلمة من كلماته، ما الذي غيره من رجل يشك في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى رجل مؤمن مادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي ثبته بعد تردد؟ ما الذي أسعده بعد حزن؟ أليست الثلاثمائة من الإبل والمائة والعشرين أوقية من الفضة، وما هذه الأموال إلى جوار هداية إنسان؟ وما هذه الأموال إلى جوار استقرار الدولة الإسلامية؟ وما هذه الأموال إلى جوار تأليف قلوب بني أمية، وما هذه الأموال إلى جوار ثبات أهل مكة على الإيمان. صحيح أن المال حلو خضر، لكن يتصاغر جداً إلى جوار هذه المعاني، فهذه كانت نظرة الرسول عليه الصلاة والسلام، من أجل هذا كان يعطي صلى الله عليه وسلم بلا حساب، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان يعطي وكأن المال لا ينتهي، وانتهت قصة أبي سفيان مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وجاء غيره وغيره وغيره.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام من غنائم حنين مع درس تربوي نبوي

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام من غنائم حنين مع درس تربوي نبوي جاء حكيم بن حزام رضي الله عنه وهو أيضاً من مسلمة الفتح، ودار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام حوار رواه البخاري ومسلم، والذي يروي الحوار هو حكيم بن حزام نفسه، يقول حكيم رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطان) يعني: أعطاه مائة من الإبل، ثم يقول حكيم: (ثم سألته فأعطاني) يعني: أعطاه مائة ثانية، (ثم سألته فأعطاني) يعني: أعطاه مائة ثالثة، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطي حكيم بن حزام درساً تربوياً في منتهى العظمة، قال له: (يا حكيم، إن هذا المال حلوة خضرة) ولم يقل: حلو خضر؛ لأن المقصود هنا الدنيا، كما في الحديث: (إن الدنيا حلوة خضرة). ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بسخاوة نفس) يعني: بغير شره وبغير إلحاح، (بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس) يعني: بطمع وتشوف، (لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى). لما سمع حكيم بن حزام الدرس دخل في قلبه مباشرة، وفقه مراد الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، وأسرع برد المائة الثانية والثالثة وأخذ الأولى فقط، ثم قال في صدق: (يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) يعني: لا آخذ من أحد شيئاً، ولا أنقص أحداً من ماله، فكان صادقاً في قسمه هذا رضي الله عنه، ما كان يأخذ من أحد شيئاً أبداً، حتى إنه كان يرفض العطاء الذي يستحقه من أبي بكر ثم عمر بعد ذلك؛ لأنه أقسم أنه لا يأخذ من أحد شيئاً أبداً. كان هذا درساً نبوياً عظيماً جداً، والمنهج الإسلامي العظيم كيف يبني الناس على صورة أشبه بالملائكة منها بالبشر.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لبقية زعماء القبائل من المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لبقية زعماء القبائل من المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين غدا صلى الله عليه وسلم يوزع على بقية زعماء مكة، أعطى من يعتقد أن في قلبه ضغينة للإسلام وحقد على الدولة الجديد، إما لدوافع قبلية، أو أن أقارب بعضهم قتلوا على يد المسلمين، أو أنهم نزعت زعامتهم الشخصية، فأعطى سهيل بن عمرو رضي الله عنه وهو أحد كبار زعماء مكة، والمفاوض القرشي الشهير في صلح الحديبية، والذي أسلم منذ أيام قليلة فقط في فتح مكة. وأعطى الحارث بن هشام أخا أبي جهل وذلك ليلين قلبه، ويهون عليه مصابه في أخيه زعيم مكة سابقاً أبي جهل، وليتألف قلوب بني مخزوم. وأعطى النضير بن الحارث أخا النضر بن الحارث شيطان قريش المعروف، والذي كان من ألد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي قتل في أعقاب غزوة بدر، أعطاه ليتألف قلبه، ويتألف قلوب بني عبد الدار. وأعطى صلى الله عليه وسلم كثيراً من زعماء مكة ليضمن استقرار الأوضاع في مكة. بعد ذلك بدأ يعطي زعماء القبائل من الأعراب من أجل أن يضمن ولاءهم وانتماءهم للدولة الإسلامية، فقد أعطى عيينة بن حصن زعيم قبيلة بني فزارة، أعطاه مائة من الإبل، وهذا الرجل كان غليظاً جداً سيئ الخلق، اشتراه صلى الله عليه وسلم بالمال في هذا الموقف، فسكن عن إحداث فتنة، وإن كانت أخلاقه لم تتغير كثيراً، فهذا الرجل ارتد بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه عاد وتاب أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وأعطى كذلك زعيم بني تميم: الأقرع بن حابس وأيضاً كان من غلاظ الطباع، وحديث الإسلام، وقبيلته بنو تميم قوية أعطاه مائة من الإبل ليتألف قلبه وقبيلته. وكذلك أعطى العباس بن مرداس زعيم قبيلة سليم، يبدو أنه قدر قيمة العباس أقل مما قدر قيمة عيينة والأقرع فأعطاه خمسين ناقة فقط، ومع أن خمسين ناقة كثيرة جداً إلا أن ذلك لم يعجب العباس بن مرداس فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب المزيد والمساواة مع عيينة والأقرع زعيمي فزارة وتميم، وقال العباس بن مرداس شعراً: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع العبيد الذي هو: الفرس حقه، يعني: يكون نصيبه أصبح هو لين بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع. فـ حصن والد عيينة وحابس والد الأقرع ومرداس والد العباس هذا. وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع يعني: من تضع قدره يا رسول الله اليوم لن يرفع بعد ذلك، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات قال: اقطعوا عني لسانه وزيدوه إلى مائة، فزادوا له في العطاء فزادوه إلى المائة. وتعليق الرسول عليه الصلاة والسلام يشعر أن هؤلاء ما دخلوا في الإسلام إلا رغباً في هذه الأموال أو رهباً من الدولة الإسلامية. وبعد ذلك حسن إسلام العباس بن مرداس وصار من فضلاء الصحابة رضي الله عنه. إذاً: نجحت سياسة إعطاء المال لتأليف القلوب بتثبيت هؤلاء المسلمين الجدد على الإسلام، وبالتالي تثبيت أركان الدولة الإسلامية. روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لصفوان من غنائم حنين مع كونه مشركا في ذلك الوقت

إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لصفوان من غنائم حنين مع كونه مشركاً في ذلك الوقت إن الرسول عليه الصلاة والسلام عند توزيع غنائم حنين أعطى من غنائم حنين بعض المشركين، ومن أشهر من أعطاهم: أحد زعماء مكة الكبار صفوان بن أمية وكان مشركاً. وصفوان هو ابن الزعيم المكي المشهور أمية بن خلف، وأمية بن خلف قتل كافراً في بدر، وصفوان من زعامات مكة الذين اشتركوا في الحروب المتتالية ضد المسلمين، وممن فر من مكة بعد الفتح صفوان بن أمية، والرسول عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كان قد أعطاه مدة أربعة شهور ليفكر في أمر الإسلام، ثم استأجر منه صلى الله عليه وسلم السلاح في غزوة حنين، وخرج صفوان مع الجيش المسلم إلى حنين؛ ليحمل الأسلحة للمسلمين على جماله، وظهرت منه بعض الكلمات توضح ميلاً إلى الإسلام، لما انهزم المسلمون في أول الأمر وهربوا قال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم، فاعترض صفوان على شماتة كلدة وقال: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني -أي: يملكني- رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. وإن كان قال هذا الكلام من ناحية قبلية بحتة إلا أنه عبر عن اختفاء الضغينة الشديدة للرسول عليه الصلاة والسلام من قلبه. ويبدو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أحس منه فرصة إسلام، فأراد أن يجزل له العطاء بصورة أضخم من كل التصور. فـ صفوان بن أمية كان واقفاً يشاهد الناس تأخذ الغنائم، ولكونه من المشركين بقي يشاهد متحسراً، فنادى الرسول عليه الصلاة والسلام صفوان بن أمية وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى زعماء المسلمين من أهل مكة، وبعد أن أعطاه الإبل نظر إلى واد في حنين فيه إبل كثيرة وشياه كثيرة، فظهرت عليه علامات الانبهار من كمية الأنعام، فقال له صلى الله عليه وسلم: أبا وهب يعجبك هذا الشأن؟ يعني: أعجبتك هذه الأغنام وهذه الإبل؟ قال صفوان في صراحة شديدة: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم في سهولة وكأنه يتنازل عن جمل أو جملين: هو لك وما فيه. فذله صفوان بن أمية من هذا التصرف العجيب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يملك صفوان بن أمية نفسه أن قال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. فأسلم صفوان في مكانه. يقول صفوان بن أمية كما روى الإمام مسلم في الصحيح: (والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي) صلى الله عليه وسلم. أي خير أصاب صفوان رضي الله عنه وأرضاه؟ أي خير تحقق لقبيلة بني جمح عندما أسلم زعيمها؟ أي خير حقق لمكة؟ أي خير تحقق للمسلمين عندما أضيفت إليهم قوة الزعيم المكي المشهور صفوان بن أمية والذي حسن إسلامه بعد ذلك، وصار من المجاهدين في سبيل الله؟ كل هذا الخير حصل بمجموعة من الإبل والشياه، فأي قيمة لهذه الإبل والشياه؟ هذه الإبل والشياه إما تؤكل أو تموت، بل الدنيا بكاملها ستفنى، لكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، كم من البشر سيذوق نعيم الجنة ويخلد فيه؛ لأنه أعطي مجموعة من الإبل والشياه؟ أليس هذا فهماً راقياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وحقيقة الغنائم وحقيقة البشر؟! أليس هذا تقديراً صائباً من الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم؟

نتائج تقسيم خمس غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم

نتائج تقسيم خمس غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم هذه هي المقارنة التي عقدها المصطفى صلى الله عليه وسلم الغنائم مقابل الإسلام، الدنيا مقابل الآخرة، فهو صلى الله عليه وسلم هانت عليه الدنيا بكاملها وأعطاها دون تردد؛ لأن الدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يم واسع، والدنيا عنده أهون من جدي أسك ميت. هذا لم يكن كلاماً نظرياً فلسفياً، شاهده الناس جميعاً بعيونهم كان واقعاً في حياته وحياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان هذا الواقع بارزاً في أبهى صوره في قصة غنائم حنين، حيث أعطى ما لم يعط أحد من العالمين، حتى بعدما أعطى هذا العطاء لم يتبق في يده شيء لنفسه صلى الله عليه وسلم، لم يتبق ما يعوض به فقر السنين وتعب العمر، وقد بلغ الستين من عمره، بل تجاوز صلى الله عليه وسلم الستين، لم يحتفظ بشيء لنفسه، بل وزع هنا وهناك على الأعراب، وعلى حديثي الإسلام، حتى إنه لم يبق معه شيء أبداً، وحاصره الأعراب الجفاة يطلبون المال والأنعام حتى اضطروه -وهو الزعيم المنتصر والقائد الأعلى والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم- اضطروه إلى شجرة ونزعوا رداءه، فقال في أدب وفي رفق وفي لين يليق به كنبي، ويجدر به كمعلم صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً)! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً، كان هذا هو فقه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، كان هذا هو قراره صلى الله عليه وسلم بتوزيع خمس الغنائم بالكامل على المؤلفة قلوبهم، وكانت هذه هي تبعات هذا القرار ونتائجه، وكانت هذه هي الصورة في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل استوعب كل الصحابة هذه الصورة؟ هل فهموا جميعاً هذه الأبعاد، وأدركوا هذه النتائج؟ هل اقتنعوا بهذا القرار حيث أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط السابقين شيئاً؟ لا، ليس كل الصحابة اقتنعوا بهذا القرار، نعم هناك من أدرك هذه الأبعاد والنتائج، لكن هناك من لم يستطع أن يدرك هذه الأبعاد النبيلة في فكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لابد لهم من الاستفهام والتساؤل، ومن هؤلاء مثلاً: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد أبدى الاستغراب لهذا الأمر، قال سعد: يا رسول الله، أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري. وجعيل بن سراقة من أهل الصفة من فقراء المسلمين. فأجاب صلى الله عليه وسلم الإجابة التي تفسر وتوضح ما فعله، قال: أما والذي نفس محمد بيده لـ جعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض خير مما يملأ الأرض كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه. رضي الله عنه وأرضاه. هذه الكلمة تعدل عند جعيل مال الأرض كله، ليس معنى أنني أعطيت واحداً ومنعت الآخر أن الأول أفضل من الثاني، بل العكس فقيمة جعيل بن سراقة عند الرسول عليه الصلاة والسلام أغلى من ملء الأرض من مثل عيينة والأقرع مع أن جعيلاً أقل مالاً وأقل سلطة وأقل شهرة وأقل وضعاً اجتماعياً، لكنه أعلى إيماناً وأرسخ قدماً في الإسلام. وجعيل رضي الله عنه وأرضاه فقه ذلك المعنى، وكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده أغلى ليس فقط من غنائم حنين، ولكن أغلى من كل مال الأرض. إذاً: هذا كان استغراب بعض الصحابة مثل: سعد بن أبي وقاص من إعطاء حديثي الإسلام وترك السابقين من المهاجرين والأنصار. لكن هناك استغراب كان أكثر أهمية وأكثر خطورة من مجموعة أخرى من المسلمين، هذه المجموعة كانت الأنصار. ووجه الأهمية ومكمن الخطورة أن هذا الاستغراب والإنكار لم يكن فردياً في الأنصار، إنما كان جماعياً من مجموعة كبيرة من الأنصار، هذا موقف مشهور معروف وفيه دروس لا تحصى، ويحتاج إلى تحليل كبير، وإلى استخراج عبر وعظات وتعلم نهج نبوي راق جداً في إدارة الأمور، وكيف يخرج صلى الله عليه وسلم من الأزمات الطاحنة بأفضل النتائج التي لا تخطر على بال إنسان؟ إنه فقه نبوي حكيم رباني في تربية البشر وفي قيادة العالمين. وبما أن هذا محتاج إلى تفصيل وأشعر أن الوقت قد لا يتسع لهذا التحليل؛ لذلك سنتكلم عنه بالتفصيل وعن غيره من الأحداث إن شاء الله في الدرس القادم. أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إسلام هوازن

سلسلة السيرة النبوية_إسلام هوازن بعد هزيمة هوازن أمام المسلمين في حنين، وبعد تقسيم الغنائم على الجيش وما وقع بسببها من مواقف متباينة، ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك المواقف بحكمة وحنكة، بعد ذلك كله جاء وفد هوازن وأعلن إسلامه، وطالب برد السبي، فقام صلى الله عليه وسلم بخطة رائعة في إرجاع سبي هوازن، فكانت خطة ناجحة بكل المقاييس والمعايير، وانضمت قبيلة هوازن إلى جماعة المسلمين مجاهدة في سبيل الله تعالى، وكل هذا يبين لنا أن دين الإسلام دين رحمة وهداية للناس.

موقف الأنصار من توزيع غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم

موقف الأنصار من توزيع غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين. في الدرس السابق تحدثنا عن توزيع غنائم حنين، وعن تقسيم أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم توزيع الخمس المتبقي على المؤلفة قلوبهم من طلقاء مكة وزعماء مكة وزعماء القبائل العربية المختلفة، وكان كما رأينا توزيعاً سخياً بلغ مائة من الإبل للبعض، وتجاوز هذا الرقم للبعض الآخر، وذكرنا علة ذلك وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد استقرار الدولة الإسلامية، ووازن بين مصلحة هذا الاستقرار، وبين مفسدة حرمان المجاهدين الذين بذلوا الجهد، وكانوا سبباً مباشراً في النصر يوم حنين، فوجد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الموازنة أن استقرار الدولة الإسلامية أثقل، ولذلك أعطى المؤلفة قلوبهم ومنع السابقين، وتفهم كثير من الصحابة هذا الموقف، لكن هذا التفهم لم يكن من الجميع، بل غضبت مجموعة من الصحابة لهذا الفعل، وشعرت هذه المجموعة أنها حرمت ما تستحقه، بينما أعطي من لا يستحق، فهذه المجموعة من الأصحاب هم الأنصار، غضب كثير من الأنصار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم من الخمس المملوك للدولة، مع أنه أعطى بسخاء مجموعة حديثة الإسلام، ما قدمت شيئاً للإسلام، وما خدمت الدولة الإسلامية خدمة تذكر. وقبل أن تأخذوا موقفاً من الأنصار، وقبل أن توجهوا اللوم على الأنصار بأي صورة من صور اللوم، فتعالوا بنا نراجع بعض الحقائق التاريخية الهامة: أولاً: على أكتاف الأنصار قامت الدولة الإسلامية الأولى، قبل ظهور الأنصار في الصورة كان المسلمون متشتتين في الأرض، ناس في مكة وناس في الحبشة وناس في غيرها من القبائل، فجعل الله عز وجل الأنصار سبباً في جمع شمل المسلمين، وفي إقامة الدولة الإسلامية، وذلك عندما استضافوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين في مدينتهم، المدينة المنورة. ثانياً: أخذ الأنصار منذ الأيام الأولى لإسلامهم القرار بمواجهة الأحمر والأسود من الناس، كانوا يعرفون تماماً أن الإسلام يعني: مفارقة العرب قاطبة، يعني: قطع الحبال التي بينهم وبين اليهود، يعني: مواجهة العالم، هكذا كانوا يعرفون، وهكذا أخذوا القرار بمنتهى التشرف القوة. ثالثاً: أن قيمة المال في عيون الأنصار قليل جداً، بل لعله منعدم، فأحياناً قد لا يرون لأنفسهم حقاً في أموالهم الشخصية، فتجدهم يعطون هذه الأموال للآخرين بطيب نفس، قل أن يوجد مثلهم في البشر، ورأينا كيف كانوا يقسمون الأموال بينهم وبين المهاجرين رضي الله عنهم، بغض النظر عن الحالة المادية للأنصاري الذي ينفق، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم، ووصف الأنصار بصفة الإيثار، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، حتى الفقير من الأنصار كان ينفق في سبيل الله ويؤثر غيره على نفسه وهو محتاج. هذه هي نفسية الأنصار بشهادة رب العالمين سبحانه وتعالى. رابعاً: اشترك الأنصار في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا الجانب الأعظم من الجيش في بدء أول مواقع المسلمين، وبدء المسلمين كانوا (313) أو (314) والأنصار كانوا يمثلون ثلثي الجيش تقريباً، (231) من الأنصار، و (83) أو (84) من المهاجرين، واستمر الأمر على ذلك في بقية الغزوات إلا الغزوات المتأخرة التي زاد فيها عدد المسلمين جداً، لكن في الغزوات الأولى كان معظم الجيش من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم. ولديهم من المواقف المشرفة في التاريخ ما لا يحصى، ومن أشهر المواقف موقف أحد، ففي أحد فر بعض المسلمين، وصار إحباط من بعض المسلمين، لكن الثبات كل الثبات كان في جانب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فرأينا في غزوة أحد استشهاد شباب الأنصار حول الرسول صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، كانوا واقفين حوله تسعة، سبعة من الأنصار واثنين من المهاجرين: سعد، وطلحة رضي الله عنهما، مات السبعة كلهم تحت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه صلى الله عليه وسلم، ورأينا أمثلة سعد بن الربيع وحنظلة وأنس بن النضر وعبد الله بن حرام وخيثمة وعمرو بن الجموح وغيرهم. وشهداء أحد كانوا سبعين، وكان فيهم (66) أنصارياً، يعني نسبة (94%)، بذل، تضحية، جهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس. خامساً: أن الأنصار على خلاف

خوف الأنصار من ترك الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة والإقامة بمكة

خوف الأنصار من ترك الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة والإقامة بمكة على الرغم من كل ما ذكرناه، وعلى الرغم من المثل الذي وضحنا به هذه الصورة، فهذا الموقف وهذه الكلمات لم تكن من عامة الأنصار، إنما كانت من بعض شباب الأنصار، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن الذي قال هذا الكلام وأعلن بهذا الاعتراض، فقال فقهاء الأنصار وعلماؤهم وسابقوهم: (أما ذوي رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم) يعني: أن هذا الكلام كان من بعض الشباب، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه كما سيتبين في الأحداث القادمة كان موافقاً على هذا الكلام، مع أنه لم يقله، وهذا الكلام واضح في رواية الإمام أحمد رحمه الله: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد: يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي) يعني: أنني أشعر بما يشعرون به وإن كنت لم أقل مثل ما قالوا. ولا تنسوا أن الأنصار بشر وليسوا ملائكة، والبشر جبلوا على حب المال، فإذا كان هذا المال حلالاً صرفاً فما المانع من طلبه، وخاصة إذا كانوا يشعرون أنهم هم السبب في تلك الثروة، فلماذا لا يأخذون جزءاً منها. ثم إن هناك بعداً آخر مهماً جداً وهو أن الأنصار كانوا يخشون أن يتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش في مكة المكرمة خير بقاع الأرض، وأحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها الآل والعشيرة، وفيها الطفولة والشباب والذكريات، وفيها أعز قبائل العرب قريش، وأهم مركز من مراكز التجارة في الجزيرة العربية، ويأتي لها الناس جميعاً طول السنة من كل مكان، وفيها من المقومات الكثيرة ما يجعل اختيارها كعاصمة جديدة للدولة الإسلامية أمراً مقبولاً جداً ومتوقعاً، فلما حدث توزيع الغنائم بهذه الصورة ثارت الشكوك في قلوب الأنصار، ولا ننسى أن الأنصار قالوا هذا الكلام قبل ذلك منذ أقل من شهرين عندما فتحت مكة، وطمأنهم صلى الله عليه وسلم أنه سيعود معهم إلى المدينة ولن يبقى في مكة المكرمة، وقال: (المحيا محياكم، والممات مماتكم) غير أنهم خافوا أن يكون الظرف قد تغير، والأحداث الجديدة غيرت من الصورة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح له رأي جديد في هذه القضية، وأنه سيعود إلى مكة المكرمة ولن يعود معهم إلى المدينة المنورة، والرسول عليه السلام كان يشعر بأن الأنصار يشعرون بهذا المعنى؛ لأن في الحوار الذي دار بينهم كما سنرى أكد على أنه سيعود معهم إلى المدينة المنورة، فشعر أن الأنصار كانوا خائفين من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ويترك المدينة مع كل المشاكل التي ممكن أن تحصل في المدينة المنورة نتيجة خروج الرسول عليه الصلاة والسلام والجيش الإسلامي الأساس من المدينة. أيضاً ينبغي أن نذكر عظمة سعد بن عبادة رضي الله عنه والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، الذين كانوا صرحاء إلى أبعد درجة، وهذه الصراحة هي التي عالجت الموقف، فلو أخذ الأنصار بمثاليات غير واقعية، وأنكروا وجود مشكلة لتفاقمت هذه المشكلة، وحينها سيكون الحل والعلاج صعباً أو مستحيلاً.

كيفية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في موقفهم من توزيع غنائم حنين

كيفية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في موقفهم من توزيع غنائم حنين تعالوا بنا ننظر كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بوادر هذه الأزمة الخطيرة؟ وإن سريان مثل هذا الشعور في هذه الطائفة المهمة جداً من الجيش قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية، هذه الكوارث بكل وضوح قد تعصف بالدولة الإسلامية. ماذا نفعل إذا كانت هناك بوادر انسلاخ مجموعة من الجنود عن الصف العام للمسلمين؟ فهيا بنا لنرى المنهج النبوي الرفيع في علاج مثل هذا الأمر، هذا العلاج يجمع بشكل فريد فعلاً بين إقناع العقل وإرضاء العاطفة: أولاً: عدم التغافل عن النار التي تحت الرماد، كان الموقف الشرعي والعقلي للرسول صلى الله عليه وسلم في قضية الغنائم سليماً تماماً، وهو الأولى بلا جدال، بدليل أن الوحي لم ينزل بخلاف ذلك، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام حرص على علاج الموقف من البداية، لم يقل مثل ما يقول الكثير من الناس: ما دام أنني على الصواب لا يهمني كلام الناس، لم يقل: ما دام الله سبحانه وتعالى راضياً وعالماً ليس هناك داع إلى أن أسترضي الناس أو أبين لهم الأمر. لم يقل: إن الأنصار مؤمنون شديدو الإيمان، وهذا كلام عارض لن يؤثر في مستقبل الدولة الإسلامية. لم يقل: إن الأيام كفيلة بحل هذه القضايا، بل إنه لم يقل: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وواجب عليهم الطاعة. لم يقل هذا الكلام ولا غيره من الكلام، بل انتقل إلى حل المشكلة بموضوعية، وأخذ الموضوع بمنتهى الجدية، ولم يؤجل الموضوع يوماً واحداً، ولا حتى ساعة واحدة، كان حاسماً تماماً في قراره، سريعاً في حل الأزمة، قال لـ سعد بن عبادة مباشرة: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة). إذاً: الملمح الأول في حل المشكلة: عدم التغافل عن الأزمة وهي ما زالت في بدايتها. ثانياً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن لا ينتشر الأمر بين المسلمين، فقصر الحديث فيه مع أهل المشكلة وهم الأنصار، فهو لم يشأ أن يعلم به عامة الناس؛ لئلا يفتن بعضهم بالشبهة التي أثيرت، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي لا يأخذ الناس موقفاً سلبياً من الأنصار إذا تبين خطأ الأنصار، لكي تظل صورة الأنصار جميلة ومحفوظة عند عامة الناس، ولذلك عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المهاجرين يدخلون إلى الحظيرة التي سيتم فيها اللقاء في البداية تركهم، لكن عندما رآهم يزيدون منع دخول المهاجرين، وسمح بدخول الأنصار فقط، فهو حصر المشكلة في إطار محدود، بل إنه في رواية في البخاري ومسلم عن أنس سألهم تصريحاً قال: (أفيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ابن أخت القوم منهم). الشاهد أن معظم الذين حضروا أو كلهم من الأنصار. ثالثاً: أن وسائل حل مثل هذه المشاكل الضخمة من أبلغ الوسائل، فقد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على لقاء أصحاب المشكلة بنفسه صلى الله عليه وسلم، ليسمع منهم ويسمعوا منه دون واسطة؛ لأن الواسطة قد لا تحمل الكلمات تماماً كما قيلت، وهذا الكلام ليس طعناً في الواسطة أو تقليلاً من إمكانيات الواسطة، أبداً، لكن شعور الجنود عامة بالقرب من قائدهم يحل الكثير جداً من المشاكل التي ممكن أن تحصل. أحياناً الحوار المباشر بين القائد والجنود يخرج بعض القضايا التي يكتمها الجنود عادة، ويفتح باب التحاور، ويناقش الفرعيات، وكل هذا الكلام يساهم في احتواء الأزمة في أولها. رابعاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام علل بوضوح وصراحة التقسيم الذي قسمه للغنائم، وذكر لهم السبب الذي من ورائه أعطى هؤلاء وترك الأنصار، قال لهم: (فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم) يعني: ليس تقديمي لهم؛ لأني أحبهم بصورة أكبر، أو لأني أقدر موقفهم البطولي، أو أداءهم المتميز، بل على العكس أنا وبكل صراحة أعلم أن قلوبهم مترددة، وأن أقدامهم ليست براسخة بعد في الإسلام، ولذلك أعطيهم. فهذه الكلمات جاءت في منتهى الوضوح وبدون تورية حتى تحل المشكلة حلاً جذرياً. خامساً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لفت أنظار الأنصار إلى النظر أيضاً إلى النصف المملوء من الكوب، هذا هو النظر الواقعي، لو كان هناك كوب مملوء إلى النصف، فليس من الصواب أن تنظر إلى نصفه الفارغ، فتكون شديد التشاؤم، وليس من الصواب أيضاً أن تنظر إلى نصفه المملوء فتكون شديد التفاؤل بصورة غير واقعية، لكن الصواب أن تكون متوازناً وترى الأمر على حقيقته، نصف مملوء ونصف فارغ، نعم أنتم لم تأخذوا من هذا المال ومن هذه العطايا السخية، لكن ألم تأخذوا شيئاً؟! هل ألفتم النعمة فنسيتموها؟! ألم يقدم لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قبل ذلك؟! ألم ينفعكم الإسلام؟! ألم تستفيدوا من انضمامكم إلى هذا الكيان الجديد في الدولة الإسلامية؟! انظروا نظرة متوازنة حتى لا تشعروا بالغبن أو الظلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك هذا الكلام عائماً دون توثيق، بل ذكر طرفاً مما حصله الأنصار من الإسلام، ولم يذكر كل النعم، ذكر بعض النعم، وكان

قدوم وفد هوازن مسلما

قدوم وفد هوازن مسلماً بعد انتهاء توزيع الغنائم بكاملها ورضا كل فريق بما أخذ، سواء من الجزء الرئيسي من الغنيمة أو من الخمس الذي وهب للبعض، بعد انتهاء هذا التوزيع حدثت مفاجأة ضخمة غير متوقعة، جاء وفد من قبيلة هوازن أو بالتحديد من بطون بني نصر وبني سعد وكل بطون هوازن الأخرى باستثناء قبيلة ثقيف، جاءوا جميعاً إلى وادي الجعرانة. لماذا جاءوا إلى هذا المكان الآن؟ هل جاءوا للتهديد والوعيد، أم جاءوا للمفاوضات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، أم جاءوا لتحديد موعد جديد للقتال والثأر؟ لم يأتوا لهذا كله، وإنما جاءوا للإسلام، جاء وفد هوازن يعلن إسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الوفد مكوناً من أربعة عشر نفراً، يمثلون بطون هوازن المختلفة باستثناء ثقيف كما قلنا. وجدوا أنفسهم خسروا كل شيء، خسروا نساءهم وأبناءهم وأموالهم وأنعامهم، خسروا حاضرهم وسيخسرون أيضاً مستقبلهم إن هم بقوا على الشرك، ومثلما ذكرنا قبل ذلك أنهم كانوا قد فروا إلى الطائف مع ثقيف، وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان أمامهم بعد فقد كل هذه الممتلكات أن يفقدوا أيضاً ديارهم، ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، كان موقفهم صعباً جداً، ففكروا لو أنهم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يقبل منهم إسلامهم، وقد يعيد إليهم بعض الممتلكات، وواضح جداً أنهم لم يأتوا حباً في الإسلام، لكن معظم الذين يدخلون الإسلام لأجل شيء دنيوي يحبونه بعد فترة من الزمان تقصر أو تطول، فهم في النهاية بعد أن يعيشوا الإسلام سيشعرون بقيمته. جلس وفد هوازن مع الرسول عليه الصلاة والسلام وأعلنوا إسلامهم، ثم قالوا: (يا رسول الله! إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منّ الله عليك) ثم قام خطيبهم زهير بن صرد فقال: (يا رسول الله! إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك - يعني منهم بنو سعد الذين أرضعوا الرسول صلى الله عليه وسلم - ثم أنشد شعراً كان منه: امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر) فماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف مثل هذا؟ الموقف في غاية الحرج، ها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن إسلامها، وكما ذكرنا أنهم ما أتوا حباً في الإسلام، ولكنهم جاءوا لأنهم خسروا كل شيء، ولم يعد أمامهم من سبيل إلا أن يسلموا، فيستردوا شيئاً من ممتلكاتهم، فماذا يحدث إن لم تعد لهم نساؤهم وأموالهم؟ إن ردتهم محتملة جداً، بل هي الأغلب، وهذا هو المتوقع، في نفس الوقت الرسول عليه الصلاة والسلام قسم كل شيء في الغنائم على الجيش، أربعة أخماس الغنائم تقسمت على أفراد الجيش العام، وقسم كذلك الخمس المتبقي على سادة القبائل والزعماء وطلقاء مكة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أعطى هذه العطايا ليتألف قلوب الناس، لو أخذ منهم هذه الأشياء فقد يرتدون عن الإسلام، فماذا يعمل؟ هو يريد إسلام هوازن، وفي نفس الوقت يريد ثبات أهل مكة وزعماء القبائل، كيف الخروج من هذه الأزمة؟

خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في استرجاع سبي هوازن من المسلمين

خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في استرجاع سبي هوازن من المسلمين تعالوا لننظر إلى المنهج الإسلامي الذي رأيناه من حبيبنا صلى الله عليه وسلم لحل مثل هذه المعضلة، فقد تحرك الرسول عليه الصلاة والسلام في ثلاث خطوات رائعة: الخطوة الأولى: حاول أن يصل مع هوازن إلى حل في منتصف الطريق، ليس من الممكن أن يرجع لهم كل شيء، وحاول أن يصل معهم إلى أكبر تنازل ممكن، بحيث يقبلون به مع ثباتهم على الإسلام، فقال لهم صلى الله عليه وسلم في وضوح: (أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟) حتى في رواية البخاري يقول: (أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بهم) يعني: أنا أخرت توزيع الغنائم لعلكم تأتون، لكنكم تأخرتم، وهو بهذا يحاول أن يلطف قلوبهم. وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بوضوح وبتعقل وبواقعية، لا يندفع بعاطفته إلى أمر قد لا يقدر عليه، ونحن لا بد أن نلاحظ أن السبي والأموال ليست أموراً مسروقة أو منهوبة من هوازن، وإنما هي حق للمسلمين، وتطلب هوازن أن يتنازل عنها المسلمون كرماً منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم خيرهم بين السبي أو المال، فماذا كان رد فعل هوازن؟ كانوا واقعيين، قالوا: (يا رسول الله! خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فلترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا) فاختاروا السبي دون الأموال. الخطوة الثانية: إشعار هوازن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً معهم قلباً وقالباً، وأنه متعاطف معهم إلى أقصى درجة، وسوف يضحي هو شخصياً من أجلهم، وسيبذل قصارى جهده لاسترداد السبي من أفراد الجيش الإسلامي، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام وضع نفسه في خندق هوازن، وصار مدافعاً عن قضيتهم، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ثبت أقدامهم بهذا العرض، فقد قال لهم في تجرد: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) يعني: أنا متنازل عما كان في نصيبي من السبي، وبصفتي عميد لعائلة عبد المطلب فسوف أطلب منهم رد السبي الذي أخذوه منكم، لكن في نفس الوقت أنا لا أستطيع أن أجبر بقية أفراد الجيش على رد ما معهم، لكني سأحاول. هنا نجد ما نسميه بواقعية العطاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو لم يعد إلا بما يستطيع، وكان كريماً واسع الكرم صلى الله عليه وسلم، تنازل عن نصيبه وأقنع بني عبد المطلب بالتنازل عن حقوقها، لكنه لم يعط ما لا يملك. الخطوة الثالثة خطوة هائلة مذهلة، لا أعتقد أن لها مثيلاً في تاريخ الأرض: اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع هوازن على القيام بمحاولة لطيفة أمام المسلمين، يقنع فيها أفراد الجيش المسلم بإعادة السبي إلى هوازن. هذه المحاولة من الرسول عليه الصلاة والسلام يبذل فيها هذا الجهد من أجل قبيلة كانت تحاربه منذ شهرين فقط، بل كانت حريصة تمام الحرص على استئصاله وأصحابه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لقنهم ما يقولونه تماماً باللفظ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا للناس: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم). لاحظ العظمة النبوية، هو لم يتنازل عن حقه في السبي وحق بني عبد المطلب بينه وبينهم فقط، بل أراد أن يكون ذلك الأمر في العلن، ليقتدي به بقية المسلمين فيتنازلون عن السبي الذي ملكوه، ثم إنه يعلم وفد هوازن ألفاظاً ترقق من مشاعر المسلمين: (إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله) وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام سيقبل شفاعة المسلمين، وليس من المعقول أن المسلمين لن يقبلوا بشفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد لهم على واقعية الطلب، ينصحهم ألا يطلبوا الأموال والشياة، وإنما يطلبون السبي فقط؛ لكي لا يصعبوا الأمر على المسلمين فتفشل المحاولة، وفوق كل ذلك وعد الرسول عليه الصلاة والسلام وفد هوازن أنه سيسأل بنفسه المسلمين أنهم يرجعون السبي إلى هوازن. ولاحظ مدى الرقي والتوازن والتعامل الحضاري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مع كونه زعيم الأمة الإسلامية ورئيس الدولة والرسول المطاع صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يريد أن يجبر المسلمين على رأي يرى أنه لا يجوز له تأميم ما لا يملك، وأن هذا حق المالكين الآن، وليس له دخل فيه، إنما سيدخل في القضية في صورة شفيع أو وسيط يريد الخير بصدق للطرفين. هل جاء في التاريخ كله شيئاً مثل هذا؟! وعظمة الموقف لم تنته بعد، ما زال هناك فصول في القصة.

موقف المسلمين من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم إرجاع سبي هوازن

موقف المسلمين من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم إرجاع سبي هوازن لما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر بالمسلمين، ثم كما هو متفق عليه مع هوازن، قام وفد هوازن يخاطب المسلمين جميعاً، وكأنهم لم يجلسوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وقالوا مثل ما نصحهم الرسول عليه الصلاة والسلام تماماً، قالوا: (إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، في أبنائنا ونسائنا). فقام صلى الله عليه سلم قابلاً شفاعة المسلمين وقال: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) وكأن هذا الكلام لأول مرة يقوله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قام بما ينبغي عليه تجاه هوازن، وبقي أن يقوم المسلمون برد سبيهم كما فعل صلى الله عليه وسلم وأن يقبلوا بشفاعته كما قبل هو بشفاعتهم، لكن تعالوا لنر رد فعل المسلمين، والحقيقة أن رد المسلمين كان متبايناً، فالبعض وافق والبعض رفض. قام المهاجرون فقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: نعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق الحرية في التصرف فيه، وبالتالي سيرد إلى هوازن سبيهم، وقام الأنصار كذلك وقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دليل على أن المهاجرين والأنصار أخذوا من الغنائم، وإلا ماذا سيعيدون؟ فواضح أنهم أخذوا أربعة أخماس الغنيمة، والآن يعيدون ما أخذوه. فهذا سبي أعيد من قسم هام من أقسام الجيش من المهاجرين والأنصار، لكن تبقى أقسام كبيرة من الجيش وخاصة الأعراب؛ لأنهم غالب الجيش، وهم في الأساس قبائل تميم وفزارة وسليم، فقام الأقرع بن حابس زعيم بني تميم وقال: أما أنا وبنو تميم فلا. وقام عيينة بن حصن زعيم بن فزارة وقال: وأما أنا وبنو فزارة فلا. وقام العباس بن مرداس زعيم بني سليم وقال: وأما أنا وبنو سليم فلا. هذه ثلاث مشاكل كبيرة، فقامت بنو سليم وقالت: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: بنو سليم رفضت كلام زعيمهم العباس بن مرداس وقالت: سنعيد السبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. موقف هذه القبائل الثلاث يحتاج إلى وقفة وتحليل. قبيلة تميم وفزارة رفضتا إعادة السبي إلى هوازن، بينما قبلت قبيلة سليم، فبقيت مشكلتان أمام الرسول عليه الصلاة والسلام: المشكلة الأولى: هي رفض قبيلة فزارة وتميم إعادة السبي، وهذا الموقف قد يؤثر على إسلام هوازن. المشكلة الثانية: الخلاف الذي ظهر بين رأي العباس بن مرداس زعيم قبيلة سليم وبين أفراد القبيلة. أما المشكلة الأولى: وهي مشكلة رفض قبيلتي فزارة وتميم إعادة السبي، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ييئس من ذلك الأمر، لكن النظرة مادية بحتة عند تميم وفزارة، ولذلك دخل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم في مساومة مادية تجارية تناسب طبيعتهم في هذه المرحلة، فكان صلى الله عليه وسلم واقعياً إلى أبعد درجة، لم يلمهم على أنهم لم يقبلوا شفاعته؛ لأن هذا حقهم ورفضوا أن يتنازلوا عنه، وليس هذا أمراً مباشراً منه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان يتنازل عنه من السبي ست فرائض من أول شيء نصيبه). سبحان الله! هل وقع في التاريخ كله موقف مشابه لهذا الموقف؟! أنا والله لا أجد له مثيلاً إلا موقفه صلى الله عليه وسلم من طلقاء مكة. فالرسول عليه الصلاة والسلام سيدفع لهم قيمة ما عندهم من السبي مضاعفاً ست مرات من أول سبي يحصل عليه المسلمين بعد ذلك. والنبي عليه الصلاة والسلام يدافع عن هوازن وكأنها أقرب الأقربين إليه صلى الله عليه وسلم، مع أنها لم تسلم إلا منذ ساعة من الزمان، وقبلها كانت من ألد أعدائه صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه سيغرم الدولة الإسلامية ستة أضعاف قيمة السبي؛ من أجل الحفاظ على عقيدة هؤلاء القوم الجدد، فهو يتفاوض مع جيشه ليعيدوا السبي لهوازن لا يوجه لهم أمراً؛ لأنه يعلم أن ذلك حقهم. وهو صلى الله عليه وسلم يفهم طبيعة النفس البشرية، ويفهم حدود العدل، ويفهم أسس القيادة، ويفهم قواعد الإدارة، ويفهم طرق الحكم، ويفهم فنون التعامل مع الناس بصفة عامة، إنه بلا جدال بحر لا ساحل له، وقدوة لا مثيل لها، من المستحيل أن نحيط بعظمته صلى الله عليه وسلم، ولو قضينا الأعمار في تحليل السيرة النبوية. فماذا فعلت تميم وفزارة إزاء هذا العرض المغري من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لقد قبلت القبيلتان بالكامل إعادة السبي إلى هوازن، ونجح العرض النبوي في الخروج من الأزمة، وعاد كل السبي إلى هوازن، إلا عجوزاً كانت في يد عيينة بن حصن الفزاري رفض أن يرجعها في أول الأمر كيداً لهوازن، ثم أعادها بعد ذلك، وبذلك حلت المشكلة الأولى، وعاد جميع السبي إلى هوازن. المشكلة الثانية: أن هناك تعارضاً بين رأي زعيم القبيلة وبين جمهور الأتباع من القبيلة. هذا السبي حق شخصي لكل فرد، ليس حقاً عاماً للقبيلة، بمعنى أنه لو اعترض فرد أو اثنان أو أكثر من أفراد القبيلة ما جاز هـ

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من مالك بن عوف النصري بعد إسلام قبيلته هوازن

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من مالك بن عوف النصري بعد إسلام قبيلته هوازن بقي في قصة هوازن فصل عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل واستفادة، يحتاج أن نحمله ليس فقط للمسلمين، ولكن إلى أهل الأرض جميعاً لنقول لهم: هذا هو قدوتنا صلى الله عليه وسلم، فأي قدوة تتبعون؟! هذا الفصل العجيب هو أنه صلى الله عليه وسلم اكتشف أن مالك بن عوف النصري الزعيم الشاب قائد هوازن الذي جمع الجموع للحرب، والذي كان يريد أن يستأصل المسلمين، اكتشف أنه ليس مع الوفد المفاوض، وهو زعيم الناس ولم يأت معهم، ولم يسمع عنه كلمة، فسأل عنه، فقالوا له: إنه في الطائف في حصون ثقيف يخشى على نفسه من القتل، فقام صلى الله عليه وسلم في موقف رائع لا يقل عن المواقف الرائعة السابقة فقال: (أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله) يعني: ليس أهله فقط، وإنما أهله وماله، ثم قال: (وأعطيته مائة من الإبل). هل ترون كم هو عظيم صلى الله عليه وسلم؟! لقد كان الهدف الأسمى في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام هداية الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، بغض النظر عن تاريخهم وعن عداوتهم السابقة له وللمسلمين، فهو صلى الله عليه وسلم لم يغب عن ذهنه هذا الهدف, فهو حتى مع مالك بن عوف ما زال يحرص على إسلامه وهدايته. فالرسول صلى الله عليه وسلم قائد محنك حكيم مجرب، يقدر الأمور بحكمة، ويزن الأشخاص بميزان الذهب أو أدق، فـ مالك بن عوف النصري قوة لا يستهان بها، ولا يمكن أبداً أن تتجاهل، فهو رجل استطاع أن يجمع ويحرك أكثر من (25000) ألف مقاتل، واستطاع أن يقنعهم أن يضحوا بكل ثرواتهم من أجل قضية ما، فوجود هذا الرجل خارج الصف أمر خطير فعلاً، وخاصة أنه في ثقيف، وثقيف لم تسلم بعد، وخطر ثقيف لم ينقطع عن المسلمين، ووجود شخصية خطيرة مثل هذه في داخل حصون ثقيف أمر لا تؤمن عواقبه، ثم إن هذا الرجل استطاع تحريك الجموع الكثيرة من أجل قضية قبائلية تافهة بالقياس إلى أهداف القتال في الإسلام. فماذا سيحصل لو انضم هذا القائد الخطير إلى صفوف الجيش المسلم؟ ماذا سيفعل لو أصبح مقاتلاً في سبيل الله بدلاً من أن يكون مقاتلاً في سبيل هوازن؟ لذلك حرص الرسول عليه الصلاة والسلام كل الحرص على إسلامه، وحرص في نفس الوقت على حفظ كرامته، فرفع قيمته فخصه بوضع غير الناس، خصه بإعادة المال له مع الأهل، وليس فقط الأهل، ووعد بإعطائه مائة من الإبل كنوع من تأليف القلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن إسلام هوازن ضربة كبيرة جداً لـ مالك بن عوف، ومع ذلك لم يرد أن يكسر معنوياته، ولم يرد أن يذله وأن يعيره بانضمام جنوده إلى جيش المسلمين، وإنما عرض عليه عرضاً مغرياً جداً، وهو يعلم أن وضع مالك الآن أصبح صعباً للغاية، ومن ثم فتح له باب الرجوع إلى الله، والانضمام إلى دولة الإسلام. هذه هي الحكمة، لو تريد أن تعرف ماذا تعني كلمة حكمة، فادرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. وصل الخبر إلى مالك في الطائف، وكما توقع الرسول عليه الصلاة والسلام كان وضع مالك صعباً جداً شديد الصعوبة، كان يتخوف على نفسه من قبيلة ثقيف، فقد أصبح وضعهم في مأزق خطير، كتب عليهم أن يحصروا في مدينتهم، ومالك هو الذي وضعهم في هذا الموقف الصعب، فأصبح خائفاً منهم، ومالك لم يعد لديه أتباع، فقد أسلمت قبيلته، وأصبح موقفه في غاية الحرج، فجاءت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام منقذة له من أزمة خطيرة، جاءت هذه الدعوة لتخرجه من موقف لا يحسد عليه، وبالفعل لم يتردد مالك بن عوف لحظة ولم يفكر كثيراً، بل أسرع من فوره إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه بين يديه. هل يوجد أحد في الدنيا كان يتوقع نتيجة مثل هذه بعد شهرين من موقعة حنين؟! أرأيتم المنهج الإسلامي في التعامل مع البشر؟! أي قائد غير الرسول عليه الصلاة والسلام ممن لا ينهج نهجه يكون همه الأول بعد النصر البحث عن قواد عدوه، لكي يحكم عليهم بالحبس، أو بالنفي، أو بالقتل، ويضع لهم صوراً على الإنترنت، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على كل البشر بغض النظر عن تاريخهم أو مواقفهم السابقة، فكانت نتيجة موقفه ذلك أن أسلمت هذه الشخصية القيادية الفذة مالك بن عوف، فقوة مالك بن عوف التي تكلمنا عليها قبل ذلك، وقدرته على الحشد سيكون في صالح المسلمين. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن مالك بن عوف إنما أسلم في ظروف صعبة، وقد يكون إسلامه رغبة في المال والأهل والإبل، أو رهبة من ثقيف أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نثبت أقدامه في الإسلام؟ كيف نستفيد من طاقاته وقدراته؟ هل بمائة من الإبل أم أن هناك وسائل أخرى؟ انظروا إلى فعل النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم، قام بخطوتين مبهرتين: الخطوة الأولى: أعاد مالك بن عوف إلى زعامة هوازن. ومثل

غزوة تبوك

سلسلة السيرة النبوية_غزوة تبوك غزوة تبوك اسم لامع في سماء الغزوات التي ربت المؤمنين، ومحصت الصفوف من المنافقين، وأعطت للدولة الإسلامية هيبتها، ووضعتها بحذاء قوة الروم والفرس، فرغم الأزمة الاقتصادية التي كان يعيشها المسلمون، واشتداد الحر، وقرب موسم جني الثمار، إضافة إلى بعد المسافة، أعلن صلى الله عليه وسلم الجهاد وتجهيز الجيش؛ ليضع أهل الإيمان أياديهم البيضاء في يد الرسول صلى الله عليه وسلم لينطلق الجيش مخلفاً آثار فضائح المنافقين وصفات المتخلفين عن الجهاد، مظهراً طبقة عمالقة الإيمان الذين قادوا الأمة بعد نبيها، وعلى أكتافهم حمل الدين، وبسعيهم وبفضل جهودهم انتشر الإسلام.

تحليل للأوضاع السياسية بعد فتح مكة

تحليل للأوضاع السياسية بعد فتح مكة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس الخامس عشر من دروس السيرة النبوة: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين. بعد فتح مكة وانتصار حنين دانت قبائل عربية كثيرة في الجزيرة العربية للمسلمين، ومن أشهر هذه القبائل هوازن، وأصبحت الجزيرة العربية أشبه بدولة إسلامية، لها وضعها وكيانها وهيبتها، ليس فقط في الجزيرة العربية، ولكن حول الجزيرة العربية أيضاً. لا شك أن ذلك لفت أنظار الدول المحيطة بالدولة الإسلامية الجديدة، ومن أهم هذه الدول: الدولة الرومانية العظمى التي تقبع في شمال الجزيرة العربية في الشام وما فوقها، وبالنظر إلى الوضع في نظر الرومان يظهر لنا التحليل الآتي، مع العلم أن الرومان يراقبون الأحداث المتطورة في الدولة الإسلامية الجديدة. الأمر الأول: الدولة الإسلامية تتنامى قواتها بشكل لافت للنظر، فقد تحولت من حركة مضطهدة في مكة المكرمة إلى دويلة صغيرة في المدينة المنورة، ثم إلى دولة عظمى تأخذ مساحة ضخمة في الجزيرة العربية بكاملها، وأنتم تعرفون أن اليمن وعمان والبحرين كانت في نطاق الدولة الإسلامية؛ لذا فالدولة الرومانية ستحصر شرقاً بالدولة الفارسية، وجنوباً بالدولة الإسلامية الجديدة، وهذا الشيء خطير بالنسبة للدولة الرومانية. الأمر الثاني: الرومان يعرفون القوة الذاتية العظيمة في داخل الدولة الإسلامية؛ لأنهم يعرفون أن هذه الدولة تتبع نبياً، ويدينون بدين سماوي صحيح غير محرف، وهرقل أدرك ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان قبل فتح مكة، ولو ترك لهذا الدين العنان فسوف يملك ما تحت أقدام هرقل نفسه، كما قال ذلك في الحوار مع أبي سفيان. كما أن هذا الكلام يفسر لنا رعب الدول الكبرى في العالم الآن وفي كل زمن من أي حركة إسلامية تنمو وإن كانت ضعيفة في بدايتها؛ لأنهم يعرفون أن عندهم القابلية لا لحكم بلاد فقط، ولكن لحكم العالم أجمع، وهذا كان نص كلام هرقل زعيم الدولة الرومانية. إذاً: كان الرومان يعرفون أن الدين الإسلامي فيه ذاتية تجعل العرب أقوياء، وتجعل كل من اتبع هذا الدين قوياً للدرجة التي يستطيع بها أن يبتلع قوى ضخمة عالمياً مثل الدولة الرومانية أو الدولة الفارسية أو غيرها. الأمر الثالث: أن الحدود الرومانية المتاخمة للجزيرة العربية هي: الشام من الشمال، ومصر من الغرب، ولو ترك لهذه الدولة الإسلامية أن تقوى من نفسها، فإنه لا يستبعد أبداً أن تَضُم إليها هاتين المستعمرتين، واعلم أن مصر والشام في ذلك الوقت كانتا تتبعان الرومان، وهذا يعد خسارة كبيرة للرومان، خاصة أن مصر والشام في ذلك الوقت كان فيهما من الخيرات ما لا يعد ولا يحصى، بل كانت تسمى في ذلك الوقت بمخازن الغلال للدولة الرومانية. الأمر الرابع: منطقة الشام ملأى بعملاء الدولة الرومانية خاصة من نصارى الشام، ولو تركوهم للمسلمين فليس من المستبعد أبداً أن يسلموا، لا سيما أنهم أهل كتاب، فـ هرقل نفسه كان يفكر في الإسلام؛ لولا أن بطانة السوء منعته من ذلك، فهؤلاء النصارى في الشام كان من الممكن أن يسلموا -وهذا ما حدث بعد ذلك بالفعل- ومن المؤكد أن هذه خسارة ضخمة أخرى للدولة الرومانية. الأمر الخامس: ذكريات مؤتة، فمؤتة لم يمض عليها إلا سنة تقريباً. وثبات ثلاثة آلاف مقاتل وانتصارهم على مائتي ألف رومي وعربي في هذه الموقعة الشرسة أمر يستحق النظر، ولابد أن يؤخذ بالاعتبار. الأمر السادس: كان من الواضح أن الرسول عليه والسلام جاد في التعامل مع الإمبراطوريات والممالك المحيطة بالدولة الإسلامية، فقد أرسل رسالة دعوة بالإسلام إلى هرقل عظيم الروم، ولم يتردد في مراسلته ودعوته إلى ترك دينه ودين آبائه لاعتناق الدين الإسلامي، والرسالة وإن كانت في لهجتها لطيفة، وأعطت هرقل وضعاً ومكاناً، إلا أنه لا يخفى على أحد التهديد غير المباشر الذي كان فيها، حين قال صلى الله عليه وسلم: (فإن عليك إثم الأريسيين) أي: الأتباع من الفلاحين، فلا يستبعد أبداً أن يسعى الدين الجديد لاكتساب الأتباع الرومانيين المقهورين على طاعة واتباع هرقل وحاشية هرقل. الأمر السابع: أن من طبيعة أهل الأديان الأخرى: أنهم لا يرضون عن دين الإسلام أبداً، كما قال رب العالمين سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، يعني: بعد أن تبين لهم الحق الذي في الإسلام فهم بين أمرين: إما أن يكيدوا للإسلام، وإما أن يدخلوا فيه. فالدولة الرومانية بدون أي مصالح ولا أسباب لن ترضى عن الدولة الإسلامية إلا في حالة واحدة، وذلك عندما تترك الدولة ا

مرجح خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى تبوك

مرجح خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى تبوك تجمعت هذه الجيوش في منطقة البلقاء -وهي الأردن الآن- يريدون دولة الإسلام. كل السيناريو الذي نتكلم عليه الآن، وكل التفكير الذي كان في ذهن الرومانيين وغيرهم كان يتوقعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يخبر به أصحابه رضوان الله عليهم، وكان يعد العدة لذلك، ودليل ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما آلى من نسائه جاء أحد الصحابة وطرق الباب بشدة على عمر بن الخطاب فخرج وهو مفزوع، قال: أجاءت غسان؟! فكان عمر بن الخطاب يتوقع قدوم غسان لغزو المدينة المنورة، وهذا أمر ممكن وقريب الحدوث، ولا شك أن الرسول عليه والسلام كان يجهز الناس لهذا الاحتمال، من أجل ذلك كان أصحاب المدينة المنورة يتوقعون حرباً قوية مع الدولة الرومانية في الفترة القادمة. ومن أجل ذلك أيضاً كانت العيون الإسلامية تراقب بدقة منطقة شمال الجزيرة العربية، ومنطقة الأردن والشام، وبمجرد أن حدث هذا التجمع على بعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة عرفه صلى الله عليه وسلم، وبدأ يأخذ القرار في ضوء هذه المعرفة المبكرة. كان عنده اختيار من اثنين: إما أنه ينتظر الرومان في المدينة المنورة، وإما أن يذهب إليهم في شمال الجزيرة العربية، وانتظار الرومان في المدينة المنورة كان أسهل على المسلمين؛ لأنهم لو انتظروهم ما كانوا ليقطعوا تلك المسافة الضخمة في الصحراء، مع ما تتطلبه من تجهيز المؤن والزاد الذي يكفي مسافة مئات الكيلو مترات، ومن المحتمل أن يهلك الجيش الروماني في الصحراء؛ لأنه غير معتاد على قتال الصحراء؛ فهو يعيش طوال عمره في أماكن خضراء في أوروبا والشام، وفي غيرها من المناطق الباردة، ولم يعايش من قبل أي نوع من التجارب في داخل الصحراء، ومع ذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بجيشه من المدينة المنورة إلى الشام لأمور: أولاً: ليأخذ عنصر المبادأة، فيختار بنفسه مكان وزمان الحرب، بدل أن تفرض عليه. ثانياً: حتى يكون عنده خط دفاع بعد ذلك، فلو أنه غزي في المدنية المنورة فإلى أين يذهب؟ فعقر دار المسلمين المدينة المنورة، ولو سقطت المدينة المنورة سقط الإسلام في الجزيرة العربية، وكلنا يعلم أن معظم العرب لم يدخلوا الإسلام إلا منذ قليل. ثالثاً: ليظهر عزة الإسلام وقوته، وعدم جبنه أو رهبته من القتال، وهذا الثبات والإقدام له أثر ضخم كبير على نفوس الأعداء، سواء كانوا من الرومان أو الفرس أو غيرهم، عندما يجدون الجيوش الإسلامية لا تهاب الموت، وتأتي إلى بلادهم لتحاربهم في ظروف صعبة؛ فإن هذا -ولاشك- يلقي الرهبة في قلوبهم من المسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام نصر بالرعب مسيرة شهر صلى الله عليه وسلم. رابعاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له شعب في شمال الجزيرة العربية، والرسول عليه الصلاة والسلام كزعيم مسئول لا يترك شعبه هكذا دون حماية، ومعلوم أن شمال الجزيرة العربية بعد غزوة مؤتة كان قد دخله الإسلام، وجاءت القبائل تبايع على الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يترك الشعب هكذا بدون حماية، لا يفعل مثلما يفعل كثير من الزعماء بتأمين حدود العاصمة فقط، وترك الشعب بعد ذلك يعاني ويلات العدو، ثم الفرار بعد ذلك من العاصمة إذا ما حوصرت، بل خرج صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس أعظم جيوشه فيه أقرب خاصته ليلقى أعتى قوة في العالم في ذلك الوقت؛ ليحفظ دماء شعبه صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا فقراء بسطاء يعيشون في أطراف الصحراء.

مظاهر العسر في غزوة تبوك

مظاهر العسر في غزوة تبوك إن قرار الخروج إلى تبوك لم يكن سهلاً، بل كان عسيراً بمعنى الكلمة، ولم نأت بهذا اللفظ من عند أنفسنا، بل هذا كلام رب العالمين سبحانه وتعالى لما قال: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]، يصف هذه الموقعة بأنها العسرة، لماذا؟ لأكثر من أمر: أولاً: أن المدينة المنورة في ذلك الوقت كانت تعيش ضائقة اقتصادية، ولم تجن الثمار منذ فترة، وهذا الوقت الذي سيخرج فيه الجيش يعتبر موسم جني الثمار، ولو انتظر الجيش قليلاً لأمكن أن يكون هناك فرصة لإصلاح الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لو انتظرنا فمن المحتمل أن تهجم جيوش الرومان على الدولة الإسلامية، فلا ينبغي الانتظار. إذاً: عندي مشاكل اقتصادية، ولا أستطيع الانتظار لإصلاح هذه المشاكل الاقتصادية مع احتمال الإصلاح إن انتظرنا، ولكن المشاكل ستكون أكبر مع الدولة الرومانية. ثانياً: الحر الشديد. فهذه الغزوة تمت في آخر شهور الصيف، وتخيلوا وضع جيش يخترق الصحراء القاحلة في هذا الجو الشديد الحرارة في الجزيرة العربية، إن الواحد منا يذهب إلى العمرة أو الحج في داخل المدينة، وتكون أموره ميسرة إلى حد كبير، ومع ذلك فإن الحر لا يُحتمل، فما بالك باختراق الصحراء على الجمال أو سيراً على الأقدام؟! كانت المسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (700) كيلو متر، هذا بالقياسات الحديثة في الطرق المستقيمة، أما طرق الصحراء فمن المؤكد أنها كانت أطول من ذلك، طرق ملتفة وملتوية وصعبة. ثالثاً: بعد هذه المسافة الطويلة أنا لن أقابل قبيلة من القبائل، أو فرقة من فرق جيش ضعيف، لا، بل كان الخروج لمحاربة جيش أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت، جيش الدولة الرومانية العظمى، وهذا العدو ما كان العرب يتخيلون حتى لقاءه، فهي دولة ضخمة، ولها تاريخ طويل في الحروب. في هذا الجو الصعب، وفي هذه الظروف الاقتصادية، مع وجود العدو القوي، في كل هذه الظروف يطلب من المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله، كان فعلاً امتحاناً عسيراً، ولماذا يعسر الله عز وجل الامتحان على المسلمين إلى هذه الدرجة؟ لسبب هام جداً، وهو تمييز المؤمن من المنافق. والدعوة الإسلامية في ذلك الوقت وصلت من القوة إلى درجة لم يتخيلها أحد قبل ذلك، فقد كثر أتباعها، واتسعت مساحة الرقعة التي تحكمها، وكثرت الأموال، وأصبحت دولة ذات هيبة وسيادة وتمكين في الجزيرة العربية، كل ذلك جعل الكثير من العرب يسارعون إلى الدخول في الدولة الإسلامية وليسوا منها، يعني: يبطنون الكفر، أو الكراهية للدولة الإسلامية، ولكن يظهرون الإسلام، وهذا ما نسميه: بالنفاق، وكلما زاد تمكين الدولة صعب الله عز وجل الامتحان على المسلمين لإظهار المنافقين، أما الدولة الضعيفة فلا ينافق فيها إلا القليل، لكن الدولة الإسلامية الآن وصلت إلى قمة المجد -حتى هذه اللحظة- في السيرة النبوية، وعدد المسلمين سيصل إلى ثلاثين ألفاً أو أكثر في داخل المدينة المنورة، وهذا عدد هائل بالنسبة للعرب، من أجل ذلك اختلط الحابل بالنابل، واختلط الصادق بالكاذب، والمؤمن بالمنافق، فكان لابد من تمييز، فليكن الامتحان في قوة صعوبته؛ لكيلا ينجح فيه إلا الصادق حقيقة.

أهداف النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى تبوك

أهداف النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى تبوك كيف كانت الدعوة إلى مثل هذا الامتحان الصعب من الخروج إلى القتال في سبيل الله في تبوك في هذه الظروف الصعبة؟ كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد تحقيق هدفين رئيسين من هذا الامتحان: الهدف الأول: أن المؤمنين الصادقين ينجحون في الامتحان، فهو لا يريد لهم الفشل في هذا الامتحان الصعب، نعم هو امتحان صعب، لكن في نفس الوقت كان عنده أمل كبير أن ينجح أكبر عدد من المؤمنين. الهدف الثاني: أن يكشف أوراق المنافقين في داخل المدينة ويعرفهم جميعاً. وإن كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستطيع معرفة المنافقين عن طريق الوحي، لكن لابد أن يتعلم المسلمون الطريقة التي يستطيعون بها اكتشاف المنافقين في داخل الصف؛ لأنه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لن يكون هناك وحي. فماذا صنع النبي عليه الصلاة والسلام لتحقيق هاتين الغايتين؟ قرر صلى الله عليه وسلم القيام بعمل يحقق المصلحتين سوياً، وهو فتح باب الجهاد علنياً، ودعوة الجميع للجهاد في سبيل الله بالمال والنفس على العلن، فكانت دعوة عامة لكل من يستطيع أن يجاهد بماله لتجهيز الجيش الضخم الذي يخرج في تبوك، وهذا حدث غير متكرر في السيرة النبوية؛ لأن هذه الفترة تميزت بوجود عدد كبير من المنافقين في الدولة الإسلامية على خلاف الفترات السابقة. وحدث ما توقعه صلى الله عليه وسلم وتمايز الصف تمايزاً واضحاً، وهذا ما يحدث دائماً عند الأزمات الخطيرة التي تمر بالأمة، فعندما يرى المؤمن إخوانه المؤمنين بدءوا بالدفاع سيدفع معهم، ومن ثم يحاول أنه ينجح في الامتحان، وربما يوفق وينجح إن شاء الله، والمنافق لا يستطيع المشاركة علناً مع الناس؛ لأنه منافق وضعيف وإيمانه مهزوز فيعلن صراحة أنه لا يستطيع أن يجاهد في الصف، وبذلك يتمايز الصف.

طبقات عمالقة الإيمان

طبقات عمالقة الإيمان المسلمون عادة يتكون صفهم من خمس طبقات، هذه الطبقات الخمس تكون متداخلة في أيام الراحة والرخاء، أو في غياب الأزمات، ثم إذا ما حدثت أزمة كبيرة يتمايز الصف وتتميز بداخله الطبقات الخمس بوضوح، وهذا الأمر ليس خاصاً بتبوك، بل هو خاص بكل مراحل التاريخ الإسلامي، وخاص بواقعنا الذي نعيش فيه، وسيظل معنا إلى يوم القيامة، أي مجتمع مسلم في التاريخ كله، خاصة إذا كانت هناك دولة ممكنة فيها خمس طبقات، فما هي هذه الخمس الطبقات؟ الطبقة الأولى: طبقة عمالقة الإيمان، وهي طبقة في غاية الأهمية، الرجل منهم بألف أو يزيد، وعلى أكتاف هؤلاء تقام الأمم، هؤلاء هم الذين يحركون الخير في قلوب العوام، ويقودون حركات التغيير إلى الأصلح والأنفع، ويضحون بأموالهم وأوقاتهم وجهدهم -بل وبأرواحهم- لنفع الآخرين ولنفع الأمة الإسلامية؛ فقد خلصت نفوسهم من حظ نفوسهم فعاشوا لله عز وجل بكل ذرة في كيانهم، هؤلاء هم الصفوة الحقيقية في المجتمع، ليست الصفوة في أصحاب المال ولا السلطة ولا الجاه ولا الشهرة، الصفوة هم: دعاة الخير ومصلحوا الأمم. كانت هذه الطبقة العظيمة -طبقة عمالقة الإيمان- في يوم تبوك، ووجد منهم عدد كبير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان على رأس هؤلاء في ذلك اليوم: عثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة، هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم هموم الأمة بكاملها، تعالوا لنرى ماذا فعل هؤلاء لكي ندخلهم في طائفة عمالقة الإيمان؟

عثمان بن عفان أنموذجا

عثمان بن عفان أنموذجاً أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فكان هذا اليوم يومه؛ ما إن فتح الرسول عليه الصلاة والسلام باب الجهاد بالمال حتى كان أسرع وأسبق الناس إلى الدخول فيه رضي الله عنه، قام في تجرد واضح، وفي تضحية عميقة يقول: علي مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها. يعني: بكامل عدتها. وكنا قد ذكرنا في الدروس الماضية نماذج ممن كان يطلب مائة من الإبل ليثبت على الإسلام، والآن نتكلم على شخص يدفع مائة من الإبل في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة، هذا هو مقياس الدنيا في عين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، في لحظة يدفع بمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. فـ عثمان ليس مكلفاً بدفع كل هذا في إعداد الجيش الإسلامي، لكنه يشعر أن القضية فعلاً قضيته، والهم همه، لا يضيره في ذلك أن قعد آخرون، المهم عنده أن يعمل لله عز وجل، لم ينتظر أن يسبقه أحد أو أن يشجعه أحد، ليست النائحة كالمستأجرة، فهو يعيش القضية، فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان يدفع مائة من الإبل سر سروراً عظيماً صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك على وجهه، وانبسطت أساريره صلى الله عليه وسلم، ثم فتح باب الجهاد من جديد. فيقوم آخر ليبذل من ماله فيحدث العجب، لقد قام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه مرة ثانية يزايد على نفسه هو، فقد دفع في الأولى، وكذلك يدفع في الثانية، لا ينتظر أحداً من المسلمين ليساعده في عملية الإنفاق على جيش العسرة رضي الله عنه وأرضاه، قام وقال: علي مائة أخرى من الإبل بأحلاسها وأقتابها! تفشل كثير من الأمم في الخروج من أزماتها لافتقادها إلى رجل مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. ويرقب الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بسعادة لا تخفى على أحد، إلى الدرجة التي قال فيها كلمة عجيبة جداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، أي: أن الحسنات التي حصلها عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا اليوم لا تضر معها معصية أبداً، وهذا الكلام ليس استنتاجاً، بل هو نص كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ينجو الإنسان طيلة حياته بموقف واحد وقفه لله عز وجل. (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ليست هناك سيئة إن فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه أي سيئة بعد ذلك، لن يكون هناك تأثير على ميزانه يوم القيامة. وليست هذه دعوة لفعل السيئات، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول الكلمة وهو يعرف في حق من يقولها، يقولها في حق عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه وأرضاه. وعثمان بن عفان بعد أن سمع هذه الكلمة العجيبة التي علق بها صلى الله عليه وسلم على فعله العظيم لم يكتف بهذا العطاء، بل قام للمرة الثالثة في بساطة وهو يقول: علي مائة ثالثة من الإبل بأحلاسها وأقتابها، ماذا نرى؟! إنه إنفاق غير طبيعي، لا يرى للدنيا أي حجم في عينه رضي الله عنه وأرضاه. والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الكلام ويقول: (اللهم اغفر لـ عثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أسر وما جهر)، بل إن البعض يصل بنفقة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في ذلك اليوم إلى تسعمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها! ولم يكن عطاؤه من الإبل فقط رضي الله عنه، بل عاد إلى بيته وأتى بألف من الدنانير نثرها في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رفع الرسول عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء وقال: (اللهم ارض عن عثمان؛ فإني عنه راض). سبحان الله! ماذا يساوي هذا؟! إن مال الدنيا بأكمله لا يساوي هذا الدعاء العظيم من الحبيب صلى الله عليه وسلم. لم تكن عظمة عثمان رضي الله عنه وأرضاه فقط في أنه أنفق أو أعطى، لكن العظمة الحقيقية في أنه سبق، لم ينتظر تشجيعاً من أحد، بل هو الذي شجع الآخرين، لم يقل: كل الناس لم يتحركوا، بل هو الذي تقدم وسبق؛ من أجل أن يقلده الناس بعد ذلك. هذا بيت القصيد في بناء الأمم؛ أن يحمل أناس الهم على أكتافهم ويتحركوا به حتى وإن قعدت الأمة بأكملها، كل من أعطى بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه تقليداً لفعله واتباعاً لهديه هو في ميزان حسنات عثمان بن عفان، وهذا أمر يعجز عن حسابه العقل. روى مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء). لماذا يعمل عثمان بن عفان هذا كله وينفق تسعمائة بعير، ويأتي بألف دينار، ويتحمل كل هذه المسئولية وحده رضي الله عنه وأرضاه؟ إن قلبه وعينيه على الجنة: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، يشتري الجنة

أبو بكر أنموذجا

أبو بكر أنموذجاً كان من عمالقة الإيمان أيضاً في ذلك اليوم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من عمالقة الإيمان من أول يوم آمن فيه إلى آخر يوم في حياته رضي الله عنه وأرضاه؛ أتى بأربعة آلاف درهم، لكن قد يقول قائل: هذا المبلغ يعتبر بسيطاً بالنسبة لعدد الإبل التي قدمها عثمان بن عفان رضي الله عنه. أقول: انتبه، فنحن نتكلم على أعظم شخصية في تاريخ الأرض بعد الأنبياء، هذه الأربعة آلاف هي كل ما يملك، فهل يستطيع أحد أن يعمل مثل هذا؟ هل يمكن أن تتخيل ذلك مع نفسك ولو مرة واحدة في حياتك؟ صعب جداً، ويكاد يكون مستحيلاً، مع مراعاة أن أبا بكر الصديق فعل ذلك أكثر من مرة في حياته؛ في بداية الدعوة، وفي وسط الدعوة، وفي الهجرة وفي تجهيز الجيوش بصفة مستمرة حتى وصل إلى هذا الأمر في تبوك، وكان خليفة للمسلمين بعد ذلك، ومات وليس في بيته دينار رضي الله عنه وأرضاه. كل حياته إنفاق في سبيل الله، كل الذي عنده أتى به، أتى بكل ثروته لنصرة الإسلام والمسلمين، من أجل ذلك فـ الصديق درجته مختلفة عن درجة بقية المسلمين، لا لشيء إلا ليقينه العميق فيما عند الله عز وجل، لا لمنصب ولا لعرق ولا لنسب؛ بل لدرجة الإيمان والصدق الذي في قلبه. وقد سأله الرسول عليه الصلاة والسلام سؤالاً واضحاً فقال: (هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فقال -في يقين عجيب-: أبقيت لهم الله ورسوله)، سبحان الله! هل يضيع الله عز وجل من استودعناه إياه؟ هل يترك ربنا سبحانه وتعالى من تركناه له؟ هذا مستحيل، وكلنا يؤمن بذلك، لكن إيمان بعضنا إيمان نظري، ليس له تطبيق في واقع حياتنا، أما أبو بكر فكل معنى آمن به كان له انعكاس مباشر على حياته، وعلى حياة المسلمين، وعلى واقعه وعلى واقع المسلمين. هذا هو الفهم الذي تصلح به الأمم.

عمر بن الخطاب وابن عوف أنموذجا

عمر بن الخطاب وابن عوف أنموذجاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أيضاً من عمالقة الإيمان في ذلك اليوم، فقد أتى بنصف ماله رضي الله عنه، جاهد في سبيل الله بنصف ثروته. وإياك أن تنتقصه بعد أن رأيت فعل أبي بكر رضي الله عنه، فإن عمر بن الخطاب أتى بما لا يستطيع عامة البشر أن يأتوا به، ولولا أنك تقارنه بـ الصديق لما شعرت أبداً بقلة عطائه رضي الله عنه، وإلا فقارن عمر بن الخطاب بغيره من البشر، فمن يستطيع أن يتنازل في موقف واحد عن نصف ممتلكاته في سبيل الله؟! احسبها مع نفسك وكن صادقاً، قرار صعب، لو كان معك عشرة آلاف جنيه، أو مائة ألف جنيه أتستطيع قسمه نصفين: نصف تتبرع به للجيوش الإسلامية، ونصف تبقيه معك؟ هذا صعب، بل لعله مستحيل في حق الكثيرين من أبناء الأمة بدون هؤلاء العمالقة الذين يستطيعون أن يأخذوا مثل هذا القرار. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه فعل نفس الشيء الذي فعله عمر رضي الله عنه وأتى بنصف ماله، ونصف ماله كان مائتي أوقية من الفضة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال له آنذاك: (بارك الله لك فيما أنفقت وفيما أبقيت)، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد بارك الله عز وجل في مال عبد الرحمن بن عوف، فما أفقرته الصدقة التي دفع، ما نقص ماله، ما ضاع أولاده، ما شردت نساؤه، بل قسمت ثروته الذهبية بالفئوس بعد موته، بورك في ماله حياً وميتاً، هذا وعد الله عز وجل، والله عز وجل لا يخلف الميعاد، وهذا الكلام ليس خاصاً بـ عبد الرحمن بن عوف فقط، بل هو لأي إنسان ينفق في سبيل الله. والرسول صلى الله عليه وسلم يقسم في الحديث ويقول: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه. وذكر منها: ما نقص مال عبد من صدقة). والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، هذا وعد الله عز وجل، والمسألة في النهاية مرجعها إلى اليقين.

من صفات طبقة عمالقة الإيمان

من صفات طبقة عمالقة الإيمان هكذا قام هؤلاء العمالقة وغيرهم بمعظم أمر الأمة، لم تكن عظمة هؤلاء -كما ذكرنا- فيما أنفقوه، ولكن كانت العظمة الحقيقية في بذلهم لكل ما في الوسع، كانت عظمتهم في قيامهم لا بدورهم فقط، ولكن بأدوار أولئك الذين لا يستطيعون، أو بأدوار أولئك الذين تخلفوا عن نصرة الدين مع قدرتهم على ذلك، لم يقترح هؤلاء أن تقسم الأعمال على أغنياء الأمة، بل شعروا أنهم معنيون تماماً بهذا الأمر، ولو تقاعس الجميع فليس هذا مبرراً لتقاعسهم، الجيش جيشهم، والنصر أملهم، وعزة الإسلام هدفهم، والله عز وجل غايتهم وهو مطلع عليهم ويرى أعمالهم، وهذا يكفيهم. قد يقول قائل: ألا يصل إلى درجة عمالقة الإيمان إلا أغنياء الأمة فقط الذين يملكون المال الوفير فيقدرون على هذه العطايا السخية؟ والإجابة على العكس تماماً، فليس المهم هو كمية الإنفاق، لكن المهم هو استنفاذ الوسع، وبذل الطاقة، ورب درهم سبق ألف درهم، وقد ينفق منافق نفقة عظيمة مردودة عليه لفساد نيته، وقد ينفق فقير درهماً واحداً فيصل به إلى أجر الأغنياء الذين بذلوا الألوف؛ من أجل ذلك تسابق عمالقة الإيمان من الفقراء لبذل الوسع في يوم تبوك، والوسع قد يكون مكيالاً من التمر، قد يكون دريهمات معدودات، هو جزء قليل في عدة وعتاد جيش ضخم، لكن هذا ما يستطيعونه ويقدرون عليه، فبلغوا بهذا القدر اليسير منازل كبار المنفقين في سبيل الله. كل واحد مهما كانت إمكانياته، ومهما كانت قدراته يستطيع أن يكون من هؤلاء العمالقة، ليس هذا فقط، بل إن المسلم قد لا يملك شيئاً أصلاً ويتمنى في داخله أن لو استطاع أن يشارك أو يساهم أو يجاهد فيعطى أجر الشهداء وأجر المجاهدين وأجر المنفقين في سبيل الله، يريد أن يجاهد بماله، ولكنه معدم لا يملك درهماً ولا ديناراً، يريد أن يجاهد بروحه، ولكنه معتل ومريض ولا يقوى على حمل السلاح، يريد أن يشارك بجسده ولكنه لا يملك راحلة تصل به إلى أرض الجهاد، هؤلاء المعذورون الصادقون في نيتهم لهم من الأجر مثل ما للقادرين المجاهدين بأموالهم وأرواحهم، هذا هو العدل الإلهي فعلاً، يعامل الناس على قدر الوسع، وليس على ما يمتلكون من أموال أعطاها لهم رب العالمين سبحانه وتعالى، أو حرمهم إياها، اسمع إلى هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، وسنن ابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر)، ثم ذكر منهم صلى الله عليه وسلم: (رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه، وفي ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء)، يتمنى أن ينفق فيعطي أجر المنفقين في سبيل الله وليس معه شيء، أي رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى! هؤلاء قال الله عز وجل في حقهم: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91].

البكاءون

البكاءون إن بعض هؤلاء الفقراء المعدمين بلغوا من الصدق في النية والشوق إلى الجهاد بالنفس والمال أن بكوا تأثراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد راحلة يحملهم عليها إلى تبوك، تخيل شخصاً يحرم من الجهاد فيبكي؛ لأنه لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله لا بمال ولا بنفس، لم يقولوا: الحمد لله الذي عافنا من هذا المجهود، ولكن حزنوا حزناً شديداً وصل إلى حد البكاء لحرمانهم من الجهاد، هؤلاء عرفوا في السيرة بالبكائين، وكانوا سبعة، وفيهم نزل قول الله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة:92] انظر التصوير: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] حزن حقيقي صادق، تدبر بإمعان في مقدار الإخلاص والتجرد والتضحية التي كانت في قلوبهم إلى الدرجة التي تصل إلى تخليد ذكراهم في كتاب رب العالمين بقرآن يقرأ ويتعبد به إلى يوم القيامة. كل هذا وهم من الفقراء الذين لا يملكون شيئاً مطلقاً، ولا حتى مكيال تمر، بل إن بعضهم بلغ به الشوق إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى خدمة الإسلام ونصرة الدين درجة لا نتصورها أصلاً. هذا هو علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه أحد البكائين السبعة رضي الله عنهم وأرضاهم، عاد يوماً إلى بيته، وذلك بعدما رده صلى الله عليه وسلم، وصلى في هذه الليلة ما شاء الله له عز وجل أن يصلي، ثم بكى في آخر صلاته ودعائه، وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق -وانتبه فهذه أعجب صدقة في التاريخ- على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض. هذا يريد أن ينفع الجيش المجاهد والأمة الإسلامية بأي شيء، لكن ليس معه أي شيء، ففكر في شيء عجيب يتصدق به ما تصدق به أحد قبله، وما أحسب أن أحداً فعل ذلك بعده، إنه يتصدق من حسناته، هذه المظالم التي ارتكبت في حقه يوماً من الأيام تتحول إلى حسنات في ميزانه يوم القيامة، وهو يريد مساعدة المسلمين بأي شيء، وليس معه، فليساعدهم بالعفو عن ظلمهم إياه ورد حسناتهم إليهم، وما أحسب أن أحداً في العالم بلغ هذه الدرجة من السمو في حب العمل لله، وحب الخدمة للناس والمجتمع والأمة. يا ترى هل كان هناك مردود لأمنية علبة بن زيد رضي الله عنه؟ هذا الرجل ذهب إلى صلاة الصبح مع المسلمين، والتفت الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة إلى الناس وسأل: (أين المتصدق هذه الليلة؟ لم يقم أحد، فقال: أين المتصدق مرة ثانية فليقم، فقام إليه علبة وأسر إليه في أذنه وأخبره بما كان من ليلته بالأمس، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشر؛ فوالذي نفسي بيده كتبت في الزكاة المتقبلة). استحق علبة بن زيد رضي الله عنه برغم فقره الشديد أن يكون من كبار المتصدقين الذين تقبل الله عز وجل منهم صدقاتهم، وأصبح علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه من عمالقة الإيمان الذين يقودون الأمة إلى كل مجد وعز وشرف رضي الله عنه. والرسول عليه الصلاة والسلام من شدة إعجابه بهذه الطائفة العملاقة من المؤمنين والتي لا تملك شيئاً في يدها، هذه الطائفة الباكية ظلت في فكره صلى الله عليه وسلم منذ ذهب إلى تبوك وحتى عاد إلى المدينة المنورة وقال لأصحابه عن أولئك الصادقين الذين ما استطاعوا أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله وهم يتمنونه بصدق، قال: (إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر). هذا الكلام يعطي إشراقة أمل لكل من حيل بينه وبين الجهاد في سبيل الله لأي سبب، لكن يتمنى بصدق، فيصل فعلاً إلى درجة المجاهدين في سبيل الله، ويصبح الجيش المجاهد كلما خطا خطوة في سبيل الله يكتب له الأجر وهو في مدينته مثلما يكون للجيش المجاهد في سبيل الله، بل قد يصل إلى درجة الشهداء في سبيل الله! روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه). هذا هو الإسلام، الإسلام ليس ديناً للأغنياء فقط، كل إنسان يمكن أن يساهم حتى المعدم الفقير الذي لا يجد شيئاً، ويصبح كأعظم الناس نفقة في سبيل الله إذا أخلص نيته لله عز وجل: أنه إن كان معه مال فسينفقه في سبيل الله، رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى. ختاماً: طبقة عمالقة الإيمان هذه لم تكن من الرجال فقط، بل أتت بعض النساء من عمالقة الإيمان بحليهن وبكل ما يملكن لتجهيز الجيش المسلم مع أنهن لسن مكلفات بالجهاد في سبيل الله، ولكن لقوة إيمانهن فهن يعتبرن أنفسهن مسئولات عن قضايا الأمة، ولذلك كن فعلا

طبقة عامة المؤمنين

طبقة عامة المؤمنين الطبقة الثانية: طبقة عموم المؤمنين، وإذا كانت الطبقة السابقة هي طبقة القادة في الخير، فهذه طبقة الأتباع في الخير أيضاً، هؤلاء هم أصحاب الفطرة السليمة، والأخلاق الحميدة، والروح الإسلامية النقية، هؤلاء يستجيبون لنداء الجهاد دون تردد، يتحركون دون تكاسل، يرفعون راية الحق ما دام قد طلب منهم ذلك، هذه هي الطبقة الرئيسية في الأمة المنتصرة الممكنة. هذه الطبقة وإن كانت تأتي خلف طبقة عمالقة الإيمان إلا أنها عماد الدولة، وكيانها الرئيس، وعموم الناس فيهم خير كثير، وأمل كبير، نعم هم ليسوا قادة الناس ومحركيهم، ولكن ليس كل الناس أبا بكر أو عمر، فقادة الناس ماذا يفعلون بغير شعوبهم وجنودهم؟ أي قيمة لقائد متميز إن كان شعبه فاسداً؟ والعكس كذلك، لا قيمة لشعب متميز إن كان قائده فاسداً، لذلك من سنة الله عز وجل أن الحكام يكونون على شاكلة شعوبهم، والشعوب تكون على شاكلة حكامها، الشعب الطيب يحكمه قائد طيب، والشعب الفاسد لا يفرز إلا حاكماً فاسداً. فعامة الناس تولد على الفطرة، تولد على حب الله عز وجل وحب الدين، وهذا الحب مزروع تلقائياً في قلوب عامة الآباء، لكن تأتي عوامل التربية والبيئة التي تغير من طبائع الناس، كما أن الطفل يولد على الفطرة، ثم يتغير حسب تربيته، كذلك الشعوب: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، كذلك الشعوب يستطيع الحاكم الصالح أن يحول شعبه بسهولة إلى شعب صالح طيب؛ لأن عامة الناس في فطرتها الخير، وفي نفوسها سياق طبيعي للفضيلة، لكن المؤثرات الخارجية تخرجهم عن جادة الطريق. ووظيفة الحاكم هي قمع المؤثرات الخارجية الفاسدة التي تسبب انحراف الناس وتغير الفطرة، والقائد الذي لا يستطيع أن يمنع المفاسد والشرور والمعاصي والظلم والبغي هو قائد لا يستحق القيادة، لا ينبغي له أن ينال شرف الإمارة، وعليه أن يترك الأمر لمن يصلح البلاد والعباد، وهناك أمثلة لقادة غيروا شعوبهم في وقت قليل في التاريخ وهي كثيرة جداً، منهم: عمر بن عبد العزيز رحمه الله، صلاح الدين الأيوبي، قطز ألب أرسلان، محمود الغزنوي، يوسف بن تاشفين، عبد الرحمن الداخل، عبد الرحمن الناصر، محمد الفاتح وغيرهم، وغيرهم، وقبل كل هؤلاء معلمهم ومعلمنا وقدوتهم وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الرسول صلى الله عليه وسلم حرك بواعث الخير الموجودة في داخل نفوس الناس، فاستجابت لدعوة الحق وآمنت وتحركت وجاهدت وضحت وسعدت بذلك في الدنيا والآخرة. ثم ليعلم أنه ليس مطلوباً من القائد الصالح أن يجعل شعبه كله من عمالقة الإيمان، ذلك أمر لا يستطيعه، لكن المطلوب منه أن يجعل قلوب العامة من شعبه تميل إلى الحق، وتحب الخير، وتقبله وتتمناه، تطيع الله عز وجل فيما أمر، ومن هؤلاء سيخرج قليل من عمالقة الإيمان، وهؤلاء العمالقة سيحركون الآخرين ويقودونهم، وبذلك تسير البلاد من وضع سيئ إلى وضع حسن، ومن حسن إلى أحسن منه، وهكذا. ومن كلامنا الذي مضى نستطيع أن نستنتج كيف تقوم الأمم وتبنى، فالأمر يبدأ بمرب مخلص يربي مجموعة مختارة على الإيمان والعمل الصالح، يزرع فيهم الفكرة التي من أجلها ستقوم الأمة، ثم يزداد هذا العدد الذي يربيه قائدهم، ولكن يبقون في تعداد القليل بالنسبة لعامة الناس، وهؤلاء هم طبقة عمالقة الإيمان، ثم يأذن رب العالمين بالتمكين لهذا القليل بعد مراحل متعددة من الابتلاء والاختبار، ويأتي التمكين كما رأينا في دروس السيرة بصورة لا يتخيلها عمالقة الإيمان، ومن طريق لا يتوقعونه، فإذا مكنوا في الأرض، فإنهم حينئذ يستطيعون -بفضل الله عز وجل- أن يغيروا معظم العامة من الشر إلى الخير، ومن الفساد إلى الصلاح، وعادة ما يكون هذا التغيير سريعاً، فالجهد كل الجهد والوقت كل الوقت يكون في تربية طبقة عمالقة الإيمان. أما طبقة عامة الشعب فإنها تربى في وقت سريع، وكما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وهكذا تقوم أمة الإسلام: مرب يربي عمالقة إيمان، ثم ابتلاء، ثم تمكين، ثم تربية سريعة لعامة الناس. فإذاً: هاتان طبقتان من أهم الطبقات في الأمة الإسلامية: طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين الصالحين، وفي كلٍّ خير، وهاتان الطبقتان هما اللتان جاءتا في قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10]. الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا هم طبقة عمالقة الإيمان، والذين أنفقوا من بعد الفتح والتمكين وقاتلوا هم طبقة عامة المؤمنين. وعلى الرغم من أن كلتا الطبقتين على خ

طبقة المؤمنين الصادقين القاعدين عن أمر الله مؤقتا

طبقة المؤمنين الصادقين القاعدين عن أمر الله مؤقتاً الطبقة الثالثة في المجتمع المسلم الصالح: وهي طبقة من المؤمنين الصادقين، ولكن من الذين غلبتهم شهواتهم، وانتصر عليهم شيطانهم في لحظة، فأقعدهم عن أمر الله عز وجل مع إيمانهم به، وهؤلاء أحياناً يكونون من طبقة عمالقة الإيمان، لكن كل إنسان يخطئ، كل إنسان يقعد ويفتر. قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، (كل بني آدم) على الإطلاق هكذا، كل الناس يخطئ ويعصي إلا المعصومين فقط من الأنبياء والمرسلين، هؤلاء المخطئون قد يقعدون عن الجهاد في سبيل الله في وقت تعينه، ليس إنكاراً لأهميته، وليس استهزاءاً بالتشريع، ولكنها لحظة من لحظات الضعف البشري المتوقع، وكلما ارتفع مستوى التربية في المجتمع، وكلما حرصت القيادة على أخلاقيات ومبادئ وقيم الأمة، قلت أعداد هذه الطائفة الثالثة. فطائفة المؤمنين القاعدين مؤقتاً، أو طائفة المؤمنين المتخلفين عن الجهاد بدون عذر سائغ، مهما كان مستوى التربية راقياً ومتميزاً، لابد أن توجد هذه الطائفة، ويستحيل أن يوجد مجتمع إسلامي مهما كان بدون هذه الطائفة. لو كان هناك إمكانية لوجود مثل هذا المجتمع الخالي تماماً من معصية بين صفوف المؤمنين لكان هذا المجتمع هو مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يستحيل فعلاً؛ لأن البشر ليسوا ملائكة، ولا يطلب منهم أن يكونوا ملائكة، ولكن يطلب منهم أن يتوبوا بسرعة إذا أذنبوا، وأن يشعروا بغصة في حلوقهم، وألم في قلوبهم عند ارتكاب الذنب، وهذا الكلام يمهد بعد ذلك للتوبة؛ لكون التربية كانت متميزة فعلاً في أيام تبوك، بل باهرة، فإن إعداد هذه الطائفة قلت إلى درجة لا يتصورها إنسان. أتعلمون كم كان عدد المتخلفين من المؤمنين الصادقين؟ تخلف عن الركب ثلاثة فقط، من أصل ثلاثين ألف مجاهد، وهي أقل نسبة تخلف عن الجهاد في العالم كله بين صفوف المؤمنين. هؤلاء الثلاثة هم أيضاً من طبقة عمالقة الإيمان الذين سبقوا بإيمانهم وجهادهم وعملهم الصالح، لكنها كانت هفوة لن تتكرر، ذنب تابوا منه سريعاً، هؤلاء الثلاثة كانوا: كعب بن مالك رضي الله عنه، ومرارة بن الربيع رضي الله عنه، وهلال بن أمية رضي الله عنهم، أقعدهم النظر في أموالهم، والتسويف في أمر الخروج للجهاد، ولا يقول أحد: ليتهم خرجوا لكي تكون نسبة الخروج في الصف المؤمن 100%؛ لأن هذا مستحيل، لو خرج هؤلاء لقعد غيرهم، وهذه رحمة من رب العالمين بنا، ولماذا أقول: رحمة؟ لكي نرى أحداث السيرة بعد مرور مئات السنين وفي الصف المؤمن قدوة لنا في كل موقف، فيمكن أن يحصل في يوم من الأيام أن واحداً فينا يتخلف عن الجهاد لسبب أو لآخر، فتكون عنده فرصة أخرى للرجوع، عنده فرصة أخرى ليتوب، عنده فرصة أخرى ليخدم الإسلام والمسلمين، فلا تكون كارثة نقف أمامها مكتوفي الأيدي. فالسيرة النبوية صيغت بعناية، ورسمت بقدرة إلهية عجيبة؛ ليحدث فيها كل ما يحدث في الأرض وإلى يوم القيامة، ومن ثم نرى تصرف الرسول عليه الصلاة والسلام في كل المواقف، ونستطيع التأسي به صلى الله عليه وسلم، ولتحقق الآية الكريمة الشاملة الجامعة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]. فإذاً: هؤلاء ثلاث طوائف مؤمنة برزت وبوضوح في أزمة تبوك، وهي موجودة بدرجات متفاوتة في أي مجتمع مسلم: طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين الصادقين، وطبقة المؤمنين المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وتقل أو تزيد نسبة كل طبقة حسب طريقة التربية، ومستوى الفهم عند الجيل.

طبقة عامة المنافقين ومردتهم

طبقة عامة المنافقين ومردتهم الطبقات الثلاث السابقة هي طبقات مسلمة مؤمنة، والطبقتان الباقيتان هما طبقتان مسلمتان، ولكن منافقتان، ولابد من وجودهما، ليس هناك دولة مسلمة في الأرض بغير منافقين، مهما بلغت درجة التربية، ومهما ارتفعت درجة تطبيق الشرع، فقد وجدوا في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، ووجدوا بعد أيامه، وهم معنا في زماننا، وسيبقون إلى يوم القيامة، فالمنافقون طبقة خطيرة جداً، لعلها أخطر من طبقة الكافرين ظاهري الكفر؛ لأنها طبقة في ظاهرها أنهم مسلمون يتكلمون بكلام المسلمين، ويتوجهون إلى قبلتهم، ولكنهم يبطنون الكفر بالله والكراهية للإسلام، ويخططون ويدبرون ويكيدون لهدم دعائم الدين. هؤلاء المنافقون ينقسمون إلى طبقتين: الطبقة الأولى: طبقة عامة المنافقين، وهم يقابلون درجة عامة المؤمنين الصادقين، فطبقة عامة المنافقين هم الذين يتأثرون بقول غيرهم، ويسمعون أوامر أسيادهم فيصبحون سوطاً في يد الجلاد، وعصاً في يد الظالم، وقلماً في يد المزور، وهذه طبقة خطيرة وكثيرة. الطبقة الثانية: طبقة مردة المنافقين، وهم الذين يقودون حملات التشكيك في الدين، ويتزعمون فرق المنافقين الضالة التي تضمر الشر كل الشر للإسلام والمسلمين، هؤلاء أخبث فعلاً من الكفار والشياطين؛ لذلك قال الله عز وجل في حقهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]. هم أسفل طبقات المجتمع، وفي أسفل طبقات النار، وهذه الفرقة المنحرفة من البشر موجودة في كل زمان، فإن الله عز وجل لم يشرع لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يصرح بأسمائهم لعامة المؤمنين، لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام سيموت وينقطع الوحي، إذاً: لابد من وجود وسيلة أخرى نعرف بها المنافقين؛ لذا وضح الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة الصفات والعلامات التي يتصف بها هؤلاء؛ لكي يتعرف المؤمنون على المنافقين في كل زمان، ولا يعتمدون على الوحي الذي سينقطع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يوم القيامة.

صفات المنافقين

صفات المنافقين هذه الصفات تمتلئ بها صفحات القرآن الكريم، وتكثر في أحاديث الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم. من صفاتهم: أنهم يعتادون على الكذب في كل صغيرة وكبيرة. ومن صفاتهم: أنهم يستأذنون في عدم المشاركة في كل عمل يخدم الإسلام والمسلمين، يعتذرون عن الجهاد والعمل وقول الحق والدعوة والإصلاح وأي شيء فيه مصلحة. ومن صفاتهم: إثارة الفتن بين صفوف المؤمنين؛ لينشب بينهم الصراع والضغينة. ومن صفاتهم: أنهم يفرحون إذا أصاب المسلمين مصاب أو أذى، ويحزنون إذا حصل لهم خير. من صفاتهم: أنهم يتكاسلون عن الصلوات، فلا يصلون الفجر ولا العشاء في جماعة. ومن صفاتهم: أنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم شديدوا البخل في الإنفاق على أمور الإسلام، مع كونهم كثيري الإنفاق على لهوهم ولعبهم. ومن صفاتهم: أنهم دائمي السخرية من الملتزمين بالدين. ومن صفاتهم: أنهم يتحدثون بغير أدب ولا توقير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن صفاتهم: أنهم يكرهون -وأحياناً يسبون- أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن صفاتهم: أنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وينهون الناس عن كل معروف، ويثبطونهم عن فعل كل خير، ويأمرون الناس بفعل المنكر ويشجعونهم على المعاصي. من صفاتهم: أنهم يخلفون الوعد، وينقضون الميثاق. من صفاتهم: أنهم يفجرون في الخصام والشقاق. ومن صفاتهم: أنهم يخونون الأمانة. ومن صفاتهم أنهم يتحالفون مع أعداء الأمة ضد إخوانهم المسلمين. من صفاتهم: أنهم يتشبهون بالكفار، ويفخرون بذلك، ويستحيون من الانتماء إلى أمة الإسلام والمسلمين. ومن صفاتهم: أنهم يكثرون من الخطب الرنانة التي تحمل معاني عظيمة جداً، وأخلاقاً رفيعة، ولكن لا يفعلون منها شيئاً، يتحدثون عن الأمانة والشرف والإصلاح والحرية والعمل والشورى والجهاد، ولكنهم لا يفعلون من ذلك شيئاً أبداً. ومن صفاتهم: أن ذكر الله عز وجل لا يأتي على ألسنتهم إلا قليلاً. ومن صفاتهم: أنهم لا يحتكمون إلى كتاب الله عز وجل إلا إذا كان سيحكم لهم، فإن كان سيحكم لغيرهم رفضوا حكمه. ومن صفاتهم: أنهم يفرون في المعارك وعند الأزمات، ويظهر عليهم الهلع الشديد والرعب الدفين عند أول احتمال للحرب؛ وذلك لشدة جبنهم وضعف يقينهم. ومن صفاتهم: أنهم يتوقعون دائماً أنهم مقصودون بالحديث عند الحديث عن الأشرار والمنافقين، لعل كلامك عام، ولكنهم يحسبون كل صيحة عليهم. ومن صفاتهم: أنهم دائماً يتهربون من المسئولية، وينسبون الأخطاء إلى غيرهم. ومن صفاتهم: أنهم يمدحون دائماً السلطان، فإن ترك السلطان منصبه انقلبوا بألسنتهم عليه. ومن صفاتهم: تضارب الأقوال؛ لأنهم كثيرو الكذب، فلا يعرفون ماذا قالوا قبل ذلك وبماذا وعدوا. ومن صفاتهم: أنك إذا أعطيتهم صاروا أصدقاءً وأحباباً لك، وإن منعتهم لسبب أو لآخر انقلبوا عليك ونسوا ما فعلته من معروف. ومن صفاتهم: أنهم يقطعون أرحامهم، ولا يحفظون حقاً لوالد ولا لأخ ولا لابن ولا لعشيرة. ومن صفاتهم: أنهم يكثرون من الحلف؛ لأنهم يعرفون أن الناس لا يصدقونهم، فيقسمون بسهولة على الكذب، ويحلفون بالله دون اكتراث، هذه ثلاثون صفة كاملة. أنا أريد منك أن تعود مرة أخرى لتسمعها مرة واثنتين وثلاثاً وتبحث جيداً في نفسك، إياك أن يكون فيك واحدة منهن، إياك أن يكون في قلبك صفة من صفات المنافقين، حتى ولو كانت واحدة من هذه الثلاثين، ويمكن أن تجد أكثر وأكثر عندما تفتح القرآن الكريم، وتغوص بين صفحات السنة المطهرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فمن الممكن أن تجد كثير جداً من الصفات، وإياك أن تكون فيك صفة واحدة من صفات المنافقين، فالواحدة تجر إلى الثانية، ثم يجد الإنسان نفسه في عداد المنافقين، نعوذ بالله من ذلك! هاتان الطبقتان من المنافقين كانوا في منتهى الوضوح عند المسلمين، وهذه الصفات الكثيرة الموجودة في الكتاب والسنة وضحت صورة كل منافق عند المسلمين بشكل أكبر، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرفهم بالوحي، ومع ذلك لم يقم حداً، أو عقوبة على منافق، ليعلمنا أن نعامل الناس على الظاهر، ونترك القلب لله عز وجل، لكن في نفس الوقت عرفنا بصفاتهم؛ لكي نأخذ جانب الحذر في التعامل معهم، لا نثق بوعودهم، ولا نبني أحكاماً على آرائهم، ولا نأمن جانبهم، ولا نصدق تحليلاتهم، الأمر كما قال الله عز وجل في إيجاز معجز: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ماذا نعمل معهم؟ {فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]، جعلهم الله عز وجل (العدو) بالتعريف هكذا بالألف واللام، وكأنه ليس هناك عدو غيرهم، قال: ((هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ))، هذا هو نهجه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المنافقين في كل حياته، يحذر المنافقين، ولكن لا يجري الأحكام إلا على الظاهر.

دور المنافقين في غزوة تبوك

دور المنافقين في غزوة تبوك ماذا فعل المنافقون في أزمة تبوك؟ أولاً: قرروا جميعاً التخلف عن الجهاد سواء بالمال أو بالنفس: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86]. ثانياً: لم يترك هذا التخلف أي ألم في قلوبهم، ولا أي حزن في مظهرهم، بل على العكس، كانوا سعداء بهذه المعصية، ملأ السرور بجريمتهم قلوبهم إلى الدرجة التي قال الله عز وجل في حقهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:81]. ثالثاً: لم يكتفوا بالتخلف ولا بالفرح بهذا التخلف فقط، ولكن بدءوا يثبطون المؤمنين الصادقين عن الخروج، واستخدموا في ذلك دعايات شتى، ووسائل متعددة، وذلك مثل قولهم: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، ومثل قولهم للصحابة: أتحسبون جلاد بني الأصفر -الرومان- كقتال العرب بعضهم بعضاً؟! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال. رابعاً: كان موقفهم من المؤمنين الذين أنفقوا في سبيل الله موقفاً شديد الخبث، وقفوا يطعنون في كل المتمسكين بالدين مهما كان فعلهم، إذا أتى غني من المسلمين بمال قالوا: إنما أنفقه رياء، وإذا أتى فقير بمال قليل بحسب قدرته سخروا منه، وسخروا من قلة عطائه واستهزءوا به. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]؛ فمن أنفق كثيراً سخروا منه، ومن أنفق قليلاً سخروا منه. خامساً: تجاوز فعلهم ذلك، وبدءوا يبحثون عن أدلة شرعية -أو يوهمون الناس أنها شرعية- للتخلف عن الجهاد، ولإثارة الشبهات بين المسلمين، مثلما فعل الجد بن قيس من بني سلمة عندما رفض الخروج إلى تبوك لقتال الروم بزعم أنه يحب النساء، ونساء الروم جميلات، ويخشى أن يفتن بهن، فادعى أنه من ورعه وتقواه وتقويمه للأضرار اختار أخف الضررين، وهو التخلف عن الجهاد؛ ليحمي نفسه من فتنة النساء! وفيه نزل قول الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. وهذا كلام خطير جداً؛ لأن الكثير من المنافقين يستخدمون (قال الله) و (قال الرسول) في ثني المجاهدين في سبيل الله عن جهادهم، ولابد أن ينتبه المؤمنون لهذا الكلام. سادساً: أن منهم من قام بخطة أشد خبثاً من ذلك، وهي أنه قرر الخروج مع الجيش لمسافة ما، ثم يرجع من منتصف الطريق، لعله يسحب معه عند الرجوع عدداً من المسلمين الصادقين، مثلما عمل عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة أحد وكرره مرة أخرى في تبوك. سابعاً: أشد المنافقين شراً قرروا الخروج فعلاً مع المسلمين إلى آخر المطاف لبث الفتنة طوال الرحلة، وللكيد للمسلمين في كل مراحل القتال، والكيد لرسول صلى الله عليه وسل قدر المستطاع. ونلاحظ في الكلام الماضي أن المنافقين كانوا يحاولون الالتزام بالقانون العام في الظاهر، لا يتخلفون عن الجهاد إلا باستئذان؛ لكي يوهموا الجميع أنهم لا يزالون مسلمين منقادين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يأذن لهم بالقعود؛ لأنه مقتنع تمام الاقتناع أنه لن يجاهد إلا من رغب في الجهاد حقيقة، لكن رب العالمين سبحانه وتعالى عاتبه في ذلك، قال سبحانه وتعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]. ولو أنه صلى الله عليه وسلم رفض أن يأذن للمنافقين لقعدوا برغم الرفض، وهنا كانت ستكشف أوراقهم للمسلمين؛ فيعلم المسلمون أمرهم عن بينة. هذا كان وضع المنافقين في أزمة تبوك.

خطر المنافقين على المجتمع

خطر المنافقين على المجتمع مع كل الأضرار التي قلناها إلا أنه يبقى أشد خطر لهم هو تغيير قناعة المسلمين الصادقين بكفرهم، قد يصل الأمر إلى أن يطيع بعض المؤمنين كلام المنافقين ظناً منهم أن هذا هو الصواب، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، اضطراباً وضعفاً وخوراً وجبناً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]. فبعض المؤمنين لا يستمع فقط إلى كلام المنافقين، بل يكثر السماع، كما قال تعالى: (سماعون) أتت الكلمة بصيغة المبالغة لتفيد كثرة السماع، وليس ذلك لضعف يقين، أو لشك في القلب، ولكن لقوة الشبهة ومهارة الصياغة، وحلاوة اللسان، وبلاغة القول قد يقع المؤمنون الصادقون بسبب هذه الشبهات في أخطاء جسيمة، قد يقعون في كبائر عظيمة، ما كانوا يتخيلون أبداً أن يقعوا فيها في يوم من الأيام، لكن أحياناً للقول فعل السحر في الإنسان، من أجل ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (وإن من البيان لسحراً). إذاً: فقصة المنافقين في الدولة الإسلامية قصة خطيرة فعلاً، فآثارهم جسيمة على المجتمع المسلم، ومع ذلك لا يصح أن يحزن المؤمن إذا شاهد كثرة المنافقين في زمن من الأزمان، إذا شاهد تبجحهم وظهورهم في وسائل الدعاية والإعلان، والكلام بشكل فاضح معلن، فمثل هذه المواقف تحمل خيراً عظيماً، فهي تكشف أوراقهم، وتظهر نياتهم المختفية في صدورهم، فيحذرهم المسلمون. من هذا الخير أيضاً: أن ظهورهم بكثافة دليل على قوة الأمة الإسلامية، دليل على صلابة الأمة الإسلامية، الدولة الضعيفة -كما ذكرنا قبل ذلك- لا تُنَاَفق، ولكنهم ينافقون الدولة القوية، إذا رأيت هناك كثرة في المنافقين، فاعلم أن الإسلام بخير، واعلم أن قوته قد بلغت حداً يدفع الآخرين إلى نفاق المسلمين، هكذا كان الوضع في غزوة تبوك؛ تميز الصف بوضوح إلى هذه الطبقات الخمس التي يتألف منها أي مجتمع مسلم في أي زمان وفي أي مكان، ولكن بنسب متفاوتة مثلما قلنا. طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين، وطبقة المؤمنين المتخلفين عن الجهاد بصفة مؤقتة، طبقة عامة المنافقين، وأخيراً: طبقة مردة المنافقين. وبرغم كل معوقات المنافقين إلا أن الجيش العملاق بفضل الله تجهز، وكان تعداده ثلاثون ألف مقاتل مسلم، وهو أكبر جيش إسلامي حتى هذه اللحظة، وخرج هذا الجيش بالفعل إلى تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة. ترى ماذا فعل هذا الجيش العملاق في طريقه من المدينة المنورة إلى تبوك؟ وماذا فعل الرومان هناك في أرض تبوك؟ وما هي الآثار العظيمة التي تحققت من وراء هذه الغزوة العظيمة غزوة العسرة، أو غزوة تبوك؟ هذا ما سنعرفه -إن شاء الله- وغيره في الدرس القادم. وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].

ما بعد تبوك

سلسلة السيرة النبوية_ما بعد تبوك كان لغزوة تبوك أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد أخذت قبائل العرب في التوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الغزوة، فمنهم من وفد لإعلان إسلامه إما اقتناعاً، وإما رهباً، وإما رغباً، ومن آثار هذه الغزوة ظهور حقيقة المنافقين ظهوراً جلياً، مع أمر الله عز وجل بالتشديد عليهم والتضييق، وهناك آثار أخرى كثيرة يجدها من تأمل في واقع المسلمين بعد هذه الغزوة المباركة غزوة تبوك.

ملخص ما حدث في غزوة تبوك

ملخص ما حدث في غزوة تبوك أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس السادس عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين. في الدرس السابق تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي مر بها المجتمع المسلم في المدينة المنورة في السنة التاسعة من الهجرة، عندما علم صلى الله عليه وسلم بتجمع الرومان في البلقاء في الشام، فقرر الخروج إليهم في ظروف صعبة جداً، من الضائقة الاقتصادية الشديدة، والمسافة البعيدة، والحر الشديد، والعدو الرهيب، في هذه الأزمة الطاحنة برزت بوضوح الطبقات الخمس لأي مجتمع مسلم ممكن في الأرض، وكما ذكرنا في الدرس السابق فهذه الطبقات الخمس موجودة بصفة دائمة في أي دولة إسلامية ممكنة في الأرض، غير أنها تبرز بوضوح عند الأزمات الشديدة كأزمة تبوك مثلاً، هذه الطبقات الخمس: هي طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، وطبقة المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وطبقة عموم المنافقين، وأخيراً طبقة مردة المنافقين، وأنا أحب أن أؤكد على معنى هام جداً هو أن هذه الطبقات الخمس وإن كانت موجودة دائماً إلا أنها تتفاوت في الحجم بحسب طريقة التربية وقوة التربية، ولأن التربية الإسلامية ما شاء الله كانت على أعلى درجات التربية وأبهى الصور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد في طبقة المنافقين بشقيها سواء كان عموم المنافقين أو مردة المنافقين، لم نجد في غزوة تبوك أكثر من ثمانين منافقاً، أو أكثر من ثمانين بقليل، وهذه نتيجة الجهد الطويل والعظيم من المربي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. وذكرنا في الدرس السابق أن الجهد العظيم الذي قام به المؤمنون من طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، ساعد على تجهيز الجيش الإسلامي الكبير الذي خرج إلى تبوك في رجب سنة (9) هجرية، وكان عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف مقاتل، وذكرنا أن نسبة التخلف كانت يسيرة جداً لا تتجاوز واحداً من عشرة آلاف، تصور ثلاثة من أصل ثلاثين ألف مقاتل، وبرغم كل المعوقات التي حاول المنافقون أن يضعوها إلا أن الجيش العملاق خرج بالفعل بفضل الله عز وجل. ترك الرسول عليه الصلاة والسلام على إمارة المدينة المنورة محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وترك على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبدأ الجيش المناضل في رحلة طويلة جداً شاقة جداً وفي صبر جميل، صبر على الجوع، وصبر على التعب، وصبر على الحر، وكان الزاد قليلاً جداً، حتى إن الرجلين والثلاثة كانوا يقسمون التمرة بينهم، وكان يتعاقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكانوا يدخرون الماء لندرته، حتى كانوا ينحرون الإبل ليشربوا الماء الذي تدخره الإبل بطونها، إنه ابتلاء كبير جداً، ويبتلى المرء على قدر دينه. وكأن هذا الابتلاء ليس كافياً، فيأتي ابتلاء جديد؛ لاختبار الطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما وصل المسلمون إلى منطقة الحجر، منطقة الحجر هي الآن موجودة في شمال السعودية، وهي المنطقة التي كانت بها ديار ثمود قوم صالح عليه السلام، وقوم صالح كما تعرفون أهلكوا في هذه المنطقة لما كفروا بربنا سبحانه وتعالى، في هذه المنطقة أبيار للماء، ورأى المسلمون أبيار الماء وأسرعوا إليها قبل استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم، وملئوا الأوعية بالماء وعجنوا العجين بهذا الماء؛ ليصنعوا خبزاً يشبعهم بعد طول جوع، فلما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر أمرهم بأمر شاق جداً على نفوسهم قال لهم: (لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً)؛ لأن هذا الماء غير مبارك، فهو ماء الذين ظلموا، والأمر مباشر وصريح بعدم الشرب منه، وليس على المسلمين إلا الطاعة. قد يأتي من يجادل ويقول: إن هذا الماء ليس له علاقة بشاربه فيشرب منه البر والفاجر، ويشرب منه المؤمن والكافر، ونحن في حاجة للماء والطريق صعب. وقد يأتي مجادل آخر ويقول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرب من ماء مكة وغيرها ولا يسأل أهو ماء كفار أم ماء مسلمين؟ كل هذه الحجج والشبهات قد تثار، لكن الغرض كان واضحاً؛ وهو الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وليست الأوامر يتضح لنا فيها الحكمة، بل إن بعض الأوامر قد يخفي الله عز وجل حكمتها عنا ليختبر مدى طاعتنا له، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] ونجح المسلمون الصادقون في الاختبار ولم

الرجوع إلى المدينة بعد غزوة تبوك

الرجوع إلى المدينة بعد غزوة تبوك

إحباط محاولة المنافقين قتل الرسول صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك

إحباط محاولة المنافقين قتل الرسول صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك قرر الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذه الغزوة قرر العودة إلى المدينة المنورة، وعاد في شهر رمضان في سنة (9) هـ، وفي أثناء العودة كانت هناك محاولة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين عند منطقة العقبة، ولكن كان بصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، ودافعا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام دفاعاً شديداً، وهرب المنافقون دون أن يتبين الصحابيان الجليلان ملامح المنافقين؛ وذلك لأن المنافقين كانوا ملثمين، ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام عرف بعد ذلك عن طريق الوحي أسماء المنافقين الذين قاموا بمحاولة القتل، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم عليهم حداً، ولم يأمر قبائلهم بالإتيان بهم، وذلك لأمور: أولاً: حتى لا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. ثانياً: أنه لا يملك بينة على أنهم هم الذين حاولوا قتله. والبينة المقصودة هنا هي البينة الشرعية، وليست البينة عن طريق الوحي، يعني: كدليل محسوس أو قرينة أو شهادة شهود، كل ذلك ليعلمنا ألا نقيم حداً أو حكماً على أحد إلا ببينة، مع أنه متأكد تمام التأكد من أسمائهم عن طريق الوحي، لكن هذا هو العدل، ولا أعتقد أن هناك مستوىً من العدل في أي دولة من دول العالم أرقى من هذا المستوى الذي رأينا في موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم نرى في الأرض زعيماً يعلم علماً يقينياً أن هناك مجموعة دبروا محاولة لاغتياله ثم هو يتجاوز عنهم ولا يؤذيهم بأي صورة من صور الإيذاء؛ لأنه لا يملك أدلة قوية تدينهم أو تثبت الجريمة عليهم.

تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من تبوك إلى المدينة مع المخلفين

تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من تبوك إلى المدينة مع المخلفين وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسلام، ولا بد لنا من وقفة، أين القتال الضروس الذي تخيله المسلمون يوم خرجوا؟ أين الفتنة الرهيبة التي توقعها الخارجون في سبيل الله؟ أين الامتحان الدقيق الذي سيختبر فيه الصادق والكاذب والمؤمن والمنافق؟ ألم نقل قبل ذلك: إن تبوك امتحان عسير للمسلمين! وتم الامتحان فعلاً، لكن تم في المدينة المنورة على بعد (700) كيلو متر من المكان المتوقع للامتحان، لم يكن الامتحان في تبوك كما توقع الجميع، لكن الامتحان كان في المدينة المنورة قبل الخروج إلى تبوك، الامتحان كان عبارة عن القدرة على أخذ قرار الجهاد، من تغلب على نفسه وعلى ظروفه وعلى شهواته وعلى المعوقات التي في حياته، وعلى شياطينه وعلى أقوال المرجفين، من تغلب على كل ذلك وأخذ قرار الجهاد نجح يوم أخذ هذا القرار، حتى وإن لم يحدث بعد ذلك جهاد، ومن فشل في الاختبار فهو الذي هزم داخلياً، فلم يستطع أن يأخذ هذا القرار، ولم يستطع أن يخرج من أزمته النفسية، ولم يستطع أن يتجاوز جبنه المقعد، قد تكون نجاتك في قرار تأخذه، فإن أخذته كفاك الله عز وجل ما كنت تتوقع من مصائب وإيذاء وألم، قال تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]،ونسأل الله عز وجل الثبات عند الفتن. لما وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وعرف الناس الآثار الحميدة والنتائج العظيمة لهذه الغزوة المباركة جاء إليه كل من تخلف عن الجهاد بغير عذر ليعتذر منه، وكان المعتذرون فريقين في الأساس: الفريق الأول: فريق المؤمنين الصادقين الذين تخلفوا عن الجهاد بغير عذر، ووقع التخلف منهم كهفوة عابرة أو خطأ غير متكرر، وهؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا ولم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام اعتذارهم حتى نزل فيهم وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى. ونزل بعد ذلك الوحي بمقاطعة هؤلاء الثلاثة عقاباً لهم، وتحذيراً لكل المسلمين أن يقعوا في مثل خطئهم وتحدث القرآن الكريم عن هؤلاء الثلاثة، وهم: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وكانت المقاطعة هذه لمدة خمسين ليلة كاملة، ثم تاب الله عز وجل بعد ذلك عليهم وأوقفت المقاطعة. هذه قصة فيها دروس وعبر كثيرة جداً، وسوف يتم الحديث عنها بالتفصيل بإذن الله في مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين. الفريق الثاني: كان فريق المنافقين سواء من أهل المدينة أو من الأعراب حول المدينة، وهؤلاء جاءوا يحلفون أنهم كانوا معذورين، ويعدون أنهم سيخرجون بعد ذلك مع المسلمين في أي قتال قادم، وهؤلاء قيل منهم صلى الله عليه وسلم الاعتذار، وأجرى أمورهم على الظاهر، ولم يقم عليهم أي تعزير من أي نوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه ليس فيهم أمل، فقلوبهم فاسدة، وأعينهم لا تبصر، لذلك فإن التعزيز لا ولن يأتي بنتيجة معهم، فلا داعي له، وقد يستغرب بعض الناس ويقول: لماذا أقام الرسول عليه الصلاة والسلام التعزيز أو العقاب على المؤمنين الصادقين ولم يقمه على المنافقين؟ نقول: المنافقون لم يعترفوا بالذنب، وقالوا: عندنا أعذار، فقبل منهم ذلك صلى الله عليه وسلم، أما المؤمنون الصادقون فقد اعترفوا بذنبهم، وقالوا: لقد أخطأنا، فكان لا بد من عقاب، والعقاب لم يكن من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن أنزله رب العالمين سبحانه وتعالى.

حال المنافقين بعد غزوة تبوك

حال المنافقين بعد غزوة تبوك كانت غزوة تبوك ضربة قاصمة للمنافقين، اضطروا جميعاً إلى كشف أوراقهم، وعلم المسلمون كل من كان منافقاً ويخفي ذلك، بل بعد تبوك تلقى المنافقون ضربتين من نوع آخر، وهاتان الضربتان حجمتا إلى حد كبير من قوة المنافقين داخل المدينة المنورة. أما الضربة الأولى: فكانت هدم مسجد الضرار، ومسجد الضرار هو الذي بناه المنافقون لتشتيت المسلمين؛ ولبث أفكارهم الهدامة وفتنتهم الخطيرة في المدينة، وقد نزل الوحي يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بهدم هذا البناء الفاسد، مع كونه في الظاهر مسجداً، فأمر صلى الله عليه وسلم فرقة من الصحابة بهدم المسجد وتحريقه، فكانت ضربة مباشرة للمنافقين. أما الضربة الثانية القاصمة: فكانت موت زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، والذي تولى كبر الفتنة بشتى أنواعها من بعد بدر وإلى غزوة تبوك، مات الرجل على نفاقه، ورفض الدعوى الكريمة التي وجهها له صلى الله عليه وسلم ليحسن إسلامه، بعد هذه الرحلة الطويلة من الصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل، وأصر عبد الله بن أبي بن سلول على معتقده الفاسد، ومع ذلك عامله صلى الله عليه وسلم بمنتهى الرفق والرحمة؛ وذلك ليتألف قومه، وليخفف عن ابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وكان من صالحي الصحابة رضي الله عنه، فاستغفر صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن أبي بن سلول بعد موته، وأعطاه قميصه ليكفن فيه، بل وصلى عليه على الرغم من معارضة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لذلك، وقد نزل القرآن بعد ذلك موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه، قال الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، وبموت عبد الله بن أبي بن سلول انحسرت حركة النفاق جداً في المدينة المنورة، بل وفي الجزيرة العربية، ولم نسمع لهم صوتاً يذكر في العام العاشر من الهجرة.

أثر غزوة تبوك

أثر غزوة تبوك بعد غزوة تبوك حصل انتصار كبير للمسلمين، وحصل انحسار كبير لحركة النفاق، ولا شك أن العرب في كل الجزيرة العربية كانوا يراقبون الأحداث، وقد علموا أنه لا طاقة لهم أبداً بحرب المسلمين، فها هي قريش قد سلمت وأسلمت وفتحت أبواب مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هي كذلك هوازن قد دخلت في الإسلام، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جيشاً قوامه (30000) مقاتل لمواجهة أعتى قوة في الأرض -وهي الدولة الرومانية- للمرة الثانية في غضون سنة ونصف. فهذا ما لا يتصوره العرب في أحلامهم فضلاً عن أن يكون واقعاً يرونه رأي العين؛ من أجل هذا بعد عودة الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك أخذت القبائل العربية قراراً شبه جماعي بالقدوم إلى المدينة المنورة للتواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعض هذه القبائل ليعلن الإسلام مقتنعاً به ومحباً له، وجاء بعضهم مسلماً؛ لكونه يرهب الدولة الإسلامية، أو يرجو ودها، ومنهم من جاء ليتفاوض ويطلب لنفسه شيئاً، ومنهم من جاء ليعقد عهداً ويظل على دينه. إذاً: جاء الجميع ولم يستطع أحد منهم أن يتجاهل القوة الإسلامية الجديدة، وبدأت الوفود الكثيرة في التوافد على المدينة المنورة في أواخر العام التاسع من الهجرة، وأثناء العام العاشر أيضاً، ولذلك عرف العام التاسع الهجري بعام الوفود؛ لكثرة الوفود التي أتت فيه بعد تبوك. كان عدد هذه الوفود على الأقل ستين وفداً، ووصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مائة وفد، ولن نستطيع أن نقف في هذه المجموعة على تفاصيل مقابلة الرسول عليه الصلاة والسلام لكل وفد من هذه الوفود، مع أنه فيها من الفوائد والعظات ما لا يقدر بثمن، ونحتاج إلى تفريغ جهد خاص ودراسات متأنية؛ لنقف على الدروس العظيمة التي نستخرجها من حوارات الرسول عليه الصلاة والسلام مع هذه الوفود الكثيرة.

وفد ثقيف

وفد ثقيف لكن في هذه المحاضرة أريد التعليق على ثلاثة وفود في غاية الأهمية: أول هذه الوفود قدوماً بعد تبوك، وأهم هذه الوفود من ناحية الأثر كان وفد ثقيف، فثقيف كانت لها ذكريات سيئة جداً في نفوس المسلمين؛ أولاً: ردت الرسول عليه الصلاة والسلام في العام العاشر من البعثة، وكان الرد رداً يخلو من كل أدب أو مروءة أو أخلاق، وفعلت معه ما لم تفعله الكثير من قبائل العرب. ثانياً: أن ثقيفاً اشتركت مع هوازن في حرب المسلمين في غزوة حنين، وبعد هزيمتها رجعت إلى الحصون في الطائف وفشل المسلمون في فتح الحصون، وعادوا دون نتيجة بعد حصار أكثر من شهر. ثالثاً: قتلت ثقيف زعيمها عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه بعد إسلامه، في قصة طويلة مؤثرة ليس المجال يسمح بتفصيلاتها، لكنها تركت أثراً سلبياً حزيناً في نفوس المسلمين، ومع كل هذه الصدمات إلا أن ثقيفاً أتت بعد تبوك لتعلن إسلامها في المدينة المنورة.

سبب إسلام ثقيف

سبب إسلام ثقيف لماذا أسلمت ثقيف؟ لم تفكر ثقيف في الإسلام حتى هذه اللحظة اقتناعاً به أو حباً له، لكن فكرت في أحوالها التي وصلت إليها، فكيف كان وضع ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة؟ أولاً: أسلمت معظم القبائل العربية الكبرى ومنها فروع قيس عيلان الكبرى مثل: غطفان وسليم وهوازن، ولم يبق من هوازن إلا فرع ثقيف فقط، ولن يكون لثقيف قدرة على حرب العرب كافة. ثانياً: أن مالك بن عوف النصري كان يقوم بحصار الطائف هو وقبيلته هوازن بعد أن أسلم وأسلمت القبيلة، فضيق ذلك عليهم بشدة. ثالثاً: بدأ الوضع الاقتصادي في الطائف في التردي نتيجة هذا الحصار، وفقدت الطائف مكانتها التجارية؛ لأنها أصبحت مكاناً غير آمن، ولا يطمئن إليه عامة تجار العرب. رابعاً: فقدت ثقيف أحد زعمائها المعدودين وهو عروة بن مسعود الثقفي، وليس من المستبعد أن تفقد رجالها واحداً تلو الآخر. هذه الأسباب دفعت ثقيفاً إلى التفكير الجاد في أمر الإسلام، وقررت ثقيف أن ترسل وفداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مكوناً من ستة أشخاص، على رأسهم عبد ياليل بن مسعود؛ لكي يعلنوا إسلامهم وإسلام ثقيف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب الوفد إلى المدينة المنورة والتقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. والأيام دول، فهاهي الأوضاع تتبدل، وهاهم الزعماء الآن يتبادلون الكراسي، قبل اثني عشرة سنة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، وكان عبد ياليل هذا من أشد الناس على الرسول عليه الصلاة والسلام في الطائف، وكان على رأس الطائف، وهاهو الآن يأتي إلى المدينة يطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقبل إسلامه وإسلام ثقيف، فاستقبل الرسول عليه الصلاة والسلام وفد ثقيف استقبالاً طيباً، يليق بنبي كريم، لم يذكرهم أبداً بما فعلوه قبل ذلك معه في زيارتيه للطائف، وضرب لهم خيمة في المسجد؛ لكي يشاهدوا أحوال المسلمين ويسمعوا خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتعلموا ما هو الإسلام، فكانوا يجلسون في المسجد بضعة أيام ثم يذهبون إلى رحالهم ما بين حين وآخر، فهم تركوا الرحال خارج المدينة المنورة، وكانوا قد تركوا عند رحالهم أصغرهم سناً، واسمه عثمان بن أبي العاص، كان عمره أقل من عشرين سنة، وكانوا إذا ذهبوا إليه لفترة القيلولة تركهم عثمان بن أبي العاص وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليتعلم على يديه بإخلاص، وكان إذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نائماً ذهب إلى الصديق رضي الله عنه فيتعلم منه، حتى أعجب به صلى الله عليه وسلم إعجاباً جماً، ورأى فيه خيراً كثيراً.

إسلام وفد ثقيف

إسلام وفد ثقيف بعد عدة أيام استمع وفد ثقيف إلى الإسلام، ورأى أحوال المسلمين، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسلموا، لكن كان عندهم بعض الشروط يريدونها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الشروط توضح أنهم لم يريدوا الإسلام حباً فيه، ولكن جاءوا رهباً منه ورغباً في المصالح من ورائه. قال زعيمهم عبد ياليل بن مسعود: أفريت الزنا، فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه؟ يعني: هم يريدون أن يستحلوا الزنا، مع علمهم أن من تعاليم الإسلام تحريم الزنا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام هو عليكم حرام؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]. يعني: هذا حد من حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يتنازل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أن إسلام ثقيف إضافة ضخمة جداً للدولة الإسلامية، لكن لا يمكن أبداً أن يفرط الرسول صلى الله عليه وسلم في أي أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى. فقال عبد ياليل: أفريت الربا؛ فإنه أموالنا كلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: لكم رءوس أموالكم، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]. أيضاً رفض تحليل الربا. فقال زعيمهم: أفريت الخمر؛ فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منه؟ يعني: يريدون أن يحلوا أي شيء من المحرمات التي في الإسلام، فهذا يدل على أنهم لم يسلموا رغباً في الإسلام، لكن ظروف الجزيرة العربية في ذلك الوقت دفعتهم إلى هذا الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد حرمها. وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]. هذه أمور ثلاثة حاولوا أن يحذفوها من الإسلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً تمام الوضوح، وكان حازماً تمام الحزم، لا مساومة في الدين، ولا التقاء في منتصف الطريق إذا كان الأمر يخص العقيدة والحلال والحرام، ولم يسع إلى تأليف قلوبهم عن طريق حذف أو تبديل في الشريعة. قام وفد ثقيف للتشاور، سنعمل فقال بعضهم لبعض: ويحكم إنا نخاف -إن خالفناه- يوماً كيوم مكة. يعني: لو رفضوا أن يأخذوا الإسلام كاملاً دون حذف ولا تبديل فقد يغزوهم في يوم من الأيام، ويحدث لهم ما حدث لأهل مكة، فأتوا الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: نعم لك ما سألت، ثم قالوا: أرأيت الربة؟ لا زالت هناك محاولات أخرى لحذف بعض الأمور من الدين الإسلامي، قالوا: أريت الربة ماذا نصنع فيها؟ الربة هي اللات وهي الصنم المعبود في الطائف، وكانت من أعظم أصنام العرب، والجميع كان يقسم بها ويهدي إليها ويذبح عندها ويعتقد فيها، فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام إجابة حاسمة لا مجاملة فيها، قال: اهدموها. ففزع أهل ثقيف وقالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلنا. فكان عمر بن الخطاب حاضراً هذه المفاوضات فقال: ويحك يا عبد ياليل إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، فرد عليه عبد ياليل وقال: إنا لم نأتك يا عمر. يعني: ليس هذا من شأنك. لكن لم يجد أهل ثقيف بداً من هدم اللات، وأصر الرسول عليه الصلاة والسلام على هدمها، لكنهم بدءوا يسامون على توقيت هدم اللات، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدع اللات ثلاث سنين قبل أن يهدمها، فأبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سنتين، فأبى، فقالوا: سنة، فأبى، فقالوا: شهراً واحداً، فأبى صلى الله عليه وسلم، فأسقط في أيدهم، وقالوا في يأس: تولى أنت هدمها، أما نحن لا نهدمها أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها. وقبل أن يقوموا طلبوا طلباً أخير وهو أن يعفيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة يعني: مفهوم الدين عندهم غير واضح، وهذا نتيجة أن الأصنام لا تشرع منهجاً ولا تضع قانوناً، فكان عليهم أن يضعوا قوانينهم بأنفسهم، وهو الشيء الذي يسمونه الآن: القوانين الوضعية، لذلك جاءت أسئلة ثقيف مضحكة طفولية؛ لغياب مفهوم الدين الصحيح من أذهانهم، فهم كانوا يفهمون أن الدين مجرد قرابين وذبح ومجرد عبادة للات دون التدخل في حياتهم، لكن الدين الصحيح حقيقة كما أراده الله عز وجل، هو ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، فكل دقيقة وصغيرة وكبيرة في الحياة يدخل فيها الدين وله فيها رأي، وهو ما لم تفقهه ثقيف في هذه اللحظة. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض الإعفاء من الصلاة، وقال لهم: (لا خير في دين لا صلاة فيه)، وبهذا أقر وفد ثقيف بكل ما أمر به صلى الله عليه وسلم، وقرروا العودة إلى الطائف على أن

تأمير الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص على الطائف

تأمير الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص على الطائف هذا موقف لا بد أن نعلق عليه لأهميته، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمَّر على هذا الوفد وعلى ثقيف بكاملها عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه مع أنه أصغر القوم؛ وذلك لشدة حرصه على التعلم، وحسن فهمه ودقة نظرته، وكفاءته القيادية. فالرسول عليه الصلاة والسلام تعامل مع قضية الطائف تماماً كما تعامل مع قضية مكة، ولى شاباً لم يتلوث فكره كثيراً بالأفكار الوثنية القديمة، وعزل عبد ياليل صاحب التاريخ الطويل في الصد عن سبيل الله؛ ولأنه قد وضح من خلال الحوار أنه غير مقتنع تمام الاقتناع بتشريعات الإسلام، ومن ثم قد ينحرف بثقيف عن الفهم الصحيح للإسلام؛ من أجل هذا عزله وولى عثمان بن أبي العاص تماماً كما عزل أبا سفيان وولى عتاب بن أسيد رضي الله عنه الشاب الصغير على إمارة مكة. وهذا يوضح لنا قيمة الشباب في الإسلام، وإمكانيات الشباب الهائلة التي كان يقدرها صلى الله عليه وسلم. أيضاً تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع ثقيف كما تعامل مع شعب مكة فقد عفا عنهم أجمعين برغم التاريخ السيئ الذي مر به المسلمون مع الطائف، ليثبت لنا وللجميع أن منهج العفو هو منهج أصيل في الإسلام، ولم يكن حدثاً عابراً خاصاً بمكة المكرمة.

هدم صنم اللات بالطائف

هدم صنم اللات بالطائف عاد وفد ثقيف إلى الطائف، وبعد محاورات وجدال مع ثقيف قبلت ثقيف بالإسلام، وبعدها بقليل جاءت السرية الإسلامية المكلفة بهدم صنم اللات، وكان على رأسها ثلاثة من أبطال المسلمين، كل واحد منهم له دلالة خاصة جداً. البطل الأول: خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول وأعظم القواد للجيش الإسلامي؛ ولأن المهمة شديدة الخطورة تحتاج إلى رجل كفء لا يهاب الموت، ودخول الطائف وهدم صنم اللات أمر غير مأمون مطلقاً؛ لذلك لا بد أن يكون هناك أحد صناديد الإسلام على رأس هذه السرية. البطل الثاني: المغيرة بن شعبة الثقفي وهو من ثقيف، وأهل الطائف أدرى بشعابها، وسيقف البطن الذي ينتمي إليه المغيرة بن شعبة الثقفي من قبيلة ثقيف، وهو بطن بني معتب سيقف في حراسة المسلمين وهم يهدمون الصنم؛ لكي لا يتهور أحد ويقتل المغيرة بن شعبة، كما حدث قبل ذلك مع عروة بن مسعود الثقفي، يعني: هناك أخذ بالأسباب لحماية الوفد قدر المستطاع. البطل الثالث: أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه، وكان قد حسن إسلامه، وأصبح قوة أدبية وسياسية كبيرة جداً في الدولة الإسلامية، وفي هذا إشارة واضحة جداً لكل العرب أن يذهب زعيم الوثنية السابق في الجزيرة العربية أبو سفيان بعد أن أسلم لهدم صنم الطائف، بعد أن هدمت أصنام مكة وغيرها قبل ذلك. ودخلت السرية الإسلامية الطائف، واجتمع أهل الطائف جميعاً لرؤية ما سيحدث لصنمهم، وهناك أناس كثيرون كانوا يظنون أن الربة (اللات) ستنتقم لنفسها، فهم ما زالوا إلى الآن في شك من الإسلام واعتقاد في اللات، وما هي إلا لحظات حتى سقطت اللات تحت معاول أبطال المسلمين، وتجلت الحقيقة التي غابت عن عيون وأذهان أهل الطائف عشرات بل مئات السنين، وأدركوا أنه قد آن الأوان للانتقال من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان. إذاً: إسلام الطائف كان جائزة كبيرة جداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صبر سنوات طويلة جداً، وأوذي من الطائف أشد الإيذاء، ومع ذلك ظلت رسالته نقية، والعاقبة للمتقين. ومرت الأيام والسنوات وذهب الألم وبقي الأجر إن شاء الله، وأثمر جهدُ السنين إسلامَ مدينة عظيمة ثابتة على الإسلام وهي الطائف. وبعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ارتدت جزيرة العرب إلا ثلاث مدن فقط في الجزيرة العربية، كان منها الطائف، لتحقق الأمنية الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ما أعظمها من أمنية، وما أسعده من نصر تحقق ورآه صلى الله عليه وسلم بعينيه، وما أجملها من نهاية لقصة إسلام مدينة الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: كان هذا هو الوفد الأول الذي جاء إلى المدينة المنورة بعد عودة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة من تبوك.

وفد بني سعد بن بكر من هوازن

وفد بني سعد بن بكر من هوازن الوفد الثاني في غاية الأهمية أيضاً، مع أن الذي جاء فيه رجل واحد فقط، ومع أنه مكون من رجل واحد إلا نفعه كان عظيماً جداً، ويؤكد على هذا المعنى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من هذا الوافد. وهذا الوافد كان وافد بني سعد بن بكر من هوازن، ومعظم قبيلة بني سعد أسلمت بعد موقعة حنين، لكن بقيت منها بعض البطون، كان منها هذا البطن الذي جاء منه هذا الوافد، وهذا الوافد كان أعرابياً فيه شيء من الغلظة والجفاء، إلا أنه كان ذكياً جداً، كان عاقلاً، وكان إيجابياً على مستوى عال من الفهم وحسن التصرف. وقصة هذا الوافد جاءت في صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وأبي داود. وحاولت أن أجمع لكم قدر المستطاع تفاصيل القصة من هنا وهناك لتكمل الفائدة: جاء هذا الرجل إلى المدينة المنورة والرسول عليه الصلاة والسلام جالس وسط أصحابه، فقال: أيكم محمد؟ هكذا باسمه، يقول أنس بن مالك: وكان النبي صلى الله عليه وسلم متكأ بين ظهرانيهم. انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائد المهاب والزعيم المنتصر، والذي دانت له كل القبائل، وواجه الرومان، يجلس بين أصحابه في تواضع، بحيث إن الغريب لا يميزه من بين عامة الأصحاب والجنود والأتباع. لا نرى مثل هذه المواقف إلا في أمة الإسلام. نحن لا نعرف من هو هذا الرجل، ولا الصحابة أنفسهم يعرفونه، قال الرجل: (يا ابن عبد المطلب! قال صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك -يعني: لا تغضب مني، فهو يتكلم بحدة وبشدة- فقال صلى الله عليه وسلم في تواضع جم: سل عما بدا لك، قال الرجل: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فمن خلق السماء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن خلق الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، تؤخذ من أغنيائنا فتقسم في فقرائنا، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدقك. قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال صلى الله عليه وسلم: صدق. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. قال أنس: ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، ثم ولى، فقال صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة). هذه الفروض إن قام بها الرجل دون نقص فإنها طريق إلى الجنة، أما النوافل فهي ترفع من درجات العبد في الجنة، أو تجبر كسر الفروض المنقوصة، وهذا هو يسر الإسلام، وهذا هو جمال الإسلام. فذهب ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه إلى قومه بهذه المعلومات التي يعرفها عامة المسلمين رجالاً ونساءً بل وأطفالاً، فماذا فعل؟ لقد عاد ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى قومه، فاجتمع حوله الناس فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام! اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه. فماذا كانت النتيجة؟ يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً. تصوروا بهذه المعلومات اليسيرة القليلة غيّر ضمام من واقع قبيلة بكاملها، وهدى الله عز وجل به أقواماً، فهم جميعاً في ميزان حسناته، والدال على الخير كفاعله. هذا الذي فعله ضمام يمنع أياً منا من أن يعتذر؛ بأنه غير مؤهل للدعوة، ولا يمتلك العلم الكافي، ولا نقول لك: أفتِ الناس بما لا تعلم، لكن ما تعلمه وتظنه قليلاً هو بالنسبة لغيرك كثير كثير، ولنا في

وفد نصارى نجران

وفد نصارى نجران الوفد الثالث: هو وفد نصارى نجران، نجران بلد كبيرة في جنوب الجزيرة العربية، وكان أهل نجران يدينون بالنصرانية، فأرسلوا وفداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الوفد كان فيه أربعة عشر وافداً، وتقول بعض الروايات: إن الوفد وصل إلى ستين رجلاً. وصل هذا الوفد بهيئة منظمة جداً، وفي صورة منمقة وصلت حد المبالغة، فقد لبسوا الثياب الحريرية وتحلوا بالذهب، والرسول عليه الصلاة والسلام يحرم هذه الأمور على الرجال، فكره صلى الله عليه وسلم أن يتكلم معهم وهم بهذه الصورة، وأجلهم يوماً، فجاءوا في اليوم الثاني وهم يلبسون لبس الرهبان، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في الحوار معهم، وهذا الوفد لم يكن من نيته ولا من همه أن يسلم أو يفكر في الإسلام، وإنما أتى ليناظر الرسول عليه الصلاة والسلام ويجادله من ناحية، وأتى ليبهره ويبهر المسلمين من ناحية أخرى؛ لهذا فالحوار معهم كان على صورة مختلفة كثيراً عن الحوار مع الوفود الأخرى. فقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم الإسلام، ولكنهم رفضوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، هذه الكلمة صحيحة لو كانوا متبعين لكتبهم الأصيلة دون تبديل ولا تحريف، وفي هذه الكتب غير المحرفة بشارة برسولنا صلى الله عليه وسلم، وعلامات واضحة لنبوته، وأدلة دامغة على صدقه، لذلك فعلماء اليهودية والنصرانية يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرفون علاماته، ويوقنون بصدقه وبوجوب اتباعه، من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197]، لكن منعهم الكبر والمصالح والدنيا والهوى والحسد، وأشياء كثيرة جداً منعتهم من الإسلام. من أجل هذا أنكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كلمة (كنا مسلمين قبلكم)، وذكر لهم أنهم يحرفون دينهم في أمور كثيرة، وهذا التحريف يتنافى مع الإسلام، والإسلام معناه: أن يسلم الإنسان نفسه تماماً لله عز وجل، ويسلم نفسه لتشريعات الله عز وجل وقوانينه، ولا يسلم نفسه لأهوائه الشخصية أو مصالحه الخاصة. قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (يمنعكم من الإسلام ثلاثة: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولداً)، هذه أمور ثلاثة حرفتموها في الإنجيل، ولن تسلموا فيها لله رب العالمين، ولا يستقيم أن تطلقوا على أنفسكم مسلمين قبل أن تتركوا هذا الاعتقاد الفاسد، وللأسف هذا اعتقاد جازم عند معظم النصارى، وهو يمنعهم من التفكير في الإسلام. وهناك أمر غريب جداً كنت دائماً استقربه ولم أفهمه إلا بعدما قرأت حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع وفد نصارى نجران، وهو أنه عند نزول المسيح عليه السلام قبل يوم القيامة يجعل من مهمته أن يصحح هذه الأمور التي ألصقت بدينه ولم تكن فيه. انظروا إلى الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). وكما ذكرنا أن وفد نجران لم يكن يريد الإسلام، من أجل ذلك كثر الجدال بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وكثر إلقاء الشبهات والرد عليها، وكان مما قالوه: (ما لك تشتم صاحبنا؟ -يقصدون عيسى عليه السلام- وتقول: إنه عبد لله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول). هذا ليس انتقاصاً أبداً من عيسى عليه السلام، بل العبودية لله تشريف، وهو رسول من أولي العزم من الرسل، وهو كلمة الله ألقاها إلى مريم عليها السلام، والتي نكرمها ونجلها، وننفي عنها أي شبهة سوء، فنقول: إنها مريم العذراء البتول، لكن النصارى يبالغون في تكريم المسيح عليه السلام حتى خرجوا به عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، فقالوا: هو الله، وقالوا: هو ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة، وكلها مبالغات غير مقبولة، إنها عقيدة فاسدة دفعهم إليها الحب والتقديس الزائد عن الحد المطلوب، من أجل هذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام حريصاً عند موته على إبراز هذا المعنى؛ حتى لا يتجاوز المسلمون الحب المفروض له إلى الحب الذي يقود إلى ضلال وكفر، فيخرجون بطبيعة الرسول إلى غيرها، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت يقول: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، رواه البخاري ومسلم. ولكون النصارى في وفد نجران لا يتنازلون عن هذا الاعتقاد الفاسد، فإنهم غضبوا من وصف عيسى عليه السلام بالبشرية والعبودية وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأرنا مثله؟ فأنزل الله عز وجل الحجة الدامغة، حيث ضرب لهم مثلاً يوضح حقيقة عيسى عليه السلام، قال الله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَ

حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس

حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس في آخر السنة التاسعة من الهجرة أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام وفداً من المسلمين للحج، وأمر على الناس أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والسبب في أنه صلى الله عليه وسلم لم يذهب بنفسه: أن الحج في تلك السنة كان مفتوحاً للمسلمين والمشركين سوياً، وأُخبر عليه الصلاة والسلام أن المشركين يحضرون ويطوفون بالبيت عراة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. وخرج وفد الحج إلى مكة المكرمة بقيادة الصديق رضي الله عنه، وبعد خروج الوفد سبحان الله! نزل صدر سورة براءة ببعض التشريعات الهامة جداً في تعامل المسلمين مع المشركين، فيها إعلان مصيري بالنسبة لكل مشرك في الجزيرة العربية؛ من أجل هذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يحمل هذه الآيات وينطلق بها إلى مكة المكرمة؛ ليقرأها على أسماع المشركين في الجزيرة العربية، يقول سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:1 - 5]. تستمر الآيات على هذا النسق تحمل تشريعات تلو التشريعات في بيان في غاية الأهمية. وبعد قراءة هذه الآيات كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ينادي في الناس بأمور أربعة: كان يقول: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك. هذه الآيات تحتاج إلى تفصيل كبير وتعليقات كثيرة، لكن بإيجاز: هذا إعلان مباشر للمشركين أنه بعد انقضاء الأجل المضروب في الآيات، فإن الحرب معلنة عليهم بوضوح وقوة، وليس أمامهم إلا خيار من اثنين: إما القتال ومواجهة المسلمين، وإما الإسلام. إذاً: المقصود بهذه الآيات هم مشركو الجزيرة العربية، فقد كانت الحرب بينهم وبين المسلمين معلنة ومستمرة لأكثر من عشرين سنة متصلة، فقد اجتمعوا جميعاً على حرب المسلمين، قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، وعلة قتال المشركين كافة أنهم يقاتلون المسلمين كافة، ومن هنا فإنه لا يجوز للمسلم أن يقاتل من لم يقاتله إلا بعلة واضحة، كسلب أو نهب أو اغتصاب لحقوق المسلمين، أو بسبب منعهم للمسلمين من نشر دينهم وإيصاله إلى غيرهم، وبدون هذه الأمور يصبح قتال المشركين غير جائز، ومن ثم فقتال مشركي العالم جميعاً ليس منطقياً، وإنما يقاتل المسلمون بعض مشركي العالم الذين قاموا بما ذكرناه من أمور. وواقع المسلمين بعد نزول هذه الآيات وفي زمن الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يصدق هذا الأمر، فالمسلمون في فتوحاتهم لم يقاتلوا كل المشركين الذين قابلوهم، وإنما كانوا يقاتلون من قاتلهم من جيوش البلاد المفتوحة، وكانوا يتركون بقية المشركين على دينهم إلى أن يختاروا هم بإرادتهم الإسلام إن أرادوا ذلك. هذا واقع رأيناه بأنفسنا في كل الفتوحات الإسلامية، وما وجدنا رجلاً واحداً -فيما أعلم- قتل فقط لكونه مشركاً، وعلى هذا يحمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، يحمل على قتال مشركي العرب. ولا تعارض بين هذه الأحكام الخاصة بمشركي العرب والآية الكريمة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]؛ فقوله: (لا إكراه في الدين) عام في كل البشر إلا هؤلاء المشركين من العرب، ليس لأنهم العرب، ولكن لكونهم محاربين للرسول عليه الصلاة والسلام ولدولته، وهذه الحرب كما ذكرنا معلنة منذ قديم. والأصل في الأمور أن الحرب ما زالت مستمرة، وقد أعلن المسلمون أنهم سيستمرون في الحرب مع مشركي العرب، ولن يتم إيقاف الحرب حت

الوداع

سلسلة السيرة النبوية_الوداع تمت أعمال الدعوة وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد، وشعر صلى الله عليه وسلم أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، وشاء الله أن يري رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب ثلاثة وعشرين عاماً، فاجتمع بأفراد قبائل العرب وممثليها في حجة الوداع، ليأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، وليشهدوا له أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة.

حجة الوداع

حجة الوداع أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فمع الدرس السابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين. في الدرس السابق تعرفنا على النتائج العظيمة لغزوة تبوك ورأينا قدوم الوفود الكثيرة إلى المدينة المنورة لتعلن إسلامها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاب، ولكل قصة خاتمة، وكثيراً ما نرى أن عمر الإنسان ينتهي دون أن يرى حلمه يتحقق، أو دون أن يشاهد خطة تنجح، لكن من سعادة الإنسان حقاً أن يطيل الله عز وجل في عمره حتى يرى ثمار عمله، ونتيجة جهده، فيسعد لذلك أيما سعد، ويشعر أن تعب السنين لم يذهب هباء منثوراً، نعم، لا يشترط للإنسان المخلص أن يرى نتيجة كده وتعبه، ولكن لا شك أنها نعمة من الله عز وجل ومنة عظيمة لا تقدر بثمن. وقد عاش الرسول عليه الصلاة والسلام حتى رأى الجزيرة العربية بكاملها تقريباً تدخل في الإسلام، وتقر به، بعد حرب ضروس، بعد مقاومة عنيفة شديدة، ها قد دخل الناس في دين الله أفواجاً، ها قد مكن للإسلام وارتفعت راية التوحيد في كل مكان، ها قد عادت الكعبة المشرفة إلى حقيقتها، صارت كما كانت أيام إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوحد فيها الله عز وجل، ولا يشرك به أحد أبداً. لا أستطيع وصف سعادة الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام بكل هذا الخير. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يسعد إذا رأى رجلاً واحداً يؤمن، كان يقول: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم). فها هو الآن لا يرى رجلاً ولا رجالاً يؤمنون، بل يرى الجموع الغفيرة والقبائل العظيمة والبلاد الكثيرة تدخل في دين الله أفواجاً. فهذا التمكين يحمل معنى آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم المسلمين وهو أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشرفت على الانتهاء، ومهمة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت البلاغ، وها قد تحققت مهمته على الوجه الأكمل، ووصلت رسالته بيضاء نقية إلى كل الجزيرة العربية، بل وتجاوزت ذلك إلى ممالك العالم القديم، ووصلت الدعوة إلى فارس والروم ومصر واليمن والبحرين وعمان وغيرها، واكتملت كل بنود الشرع الحكيم. وإذا كان قد حدث ذلك فمعناه: أن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاربت هي الأخرى على الانتهاء. ومع كل الألم الذي يصاحب النفس عند تصور ذلك، إلا أن الواقع يخبر أن لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاباً، ولكل قصة خاتمة. ففي أواخر العام العاشر من الهجرة كان واضحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصحابته أن أجل الحبيب صلى الله عليه وسلم قد اقترب، ومن رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى أنه مهد لهذا الموت بأحداث ومواقف وبعبارات كثيرة؛ وذلك ليهون على المسلمين مصابهم الفادح، ففتح مكة وإسلام هوازن وثقيف وقدوم الوفود تلو الوفود على المدينة المنورة كل ذلك علامة من علامات اقتراب الأجل، وأن المهمة قاربت على الانتهاء. كذلك في شهر رمضان من السنة العاشرة من الهجرة اعتكف صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً بدلاً من عشرة أيام كان معتاداً عليها، كل هذا كان تمهيداً لأمته أنه سيعتزلها ويبتعد عنها مدة أطول من المدة المعتادة، سيأتي وقت يبعد عنها بجسده تماماً، وإن كان سيظل بروحه وسنته وأقواله وأفعاله وتوجيهاته معهم إلى يوم القيامة. وفي شهر رمضان أيضاً راجعه جبريل عليه السلام القرآن مرتين، بدلاً من مرة واحدة. وفي شهر شوال توفي ابنه إبراهيم عليه السلام، ومع أن البعض كان يتمنى أن لو بقي شيء من عقبه صلى الله عليه وسلم ليذكرنا به، لكن هذه حكمة ورحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى، فنحن رأينا مغالاة الشيعة في أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ما بالك لو عاش له ولد، وكان له عقب ينتهي نسبهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لا شك أنها كانت ستتحول إلى فتنة عصمنا الله منها، ولله الحمد والمنة. أيضاً في هذه الأيام بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه إلى اليمن، وقال له: يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري. هذه إشارات في منتهى الوضوح إلى أن أجله صلى الله عليه وسلم قد اقترب. وفي شهر ذي القعدة من نفس السنة العاشرة بدأ صلى الله عليه وسلم في الاستعداد للقيام بالحج، للمرة الأولى والأخيرة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي الحجة التي عرفت في التاريخ بحجة الوداع. ودعا إليها القبائل المختلفة من كل أنحاء الجزيرة العربية، وتجاوز المسلمون الذين حضروا هذه الحجة مائة ألف مسلم، وذكر بعض الرواة أن عدد المسلمين في هذه الحجة كان يزيد على (14000) من المس

وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبه في حجة الوداع

وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبه في حجة الوداع كانت حجة الوداع من أهم المعسكرات الإيمانية التي عاشها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام لعدة أيام، ومن أسعد اللحظات، فقد علمهم وأدبهم وأرشدهم ووضح لهم الطريق وبين لهم المعالم فيها، فهذه الحجة لم تكن مجرد أداء لفريضة، بل وضعت فيها وبوضوح القواعد التي عليها تبنى الأمة الإسلامية، والأمور التي بها تحافظ الأمة الممكنة على تمكينها في الأرض. وخطب الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة ثلاث خطب، في ثلاثة مواضع مختلفة، في هذه الخطب بصر صلى الله عليه وسلم الأمة التي كتب الله عز وجل لها التمكين بما يحفظ لها هذا التمكين ويقويه، وهذه الحجة العظيمة، تحتاج إلى دراسة خاصة، وإلى تفريغ جهد ووقت، لعل في هذه المحاضرات لا يتسع الوقت لتحليل حجة الوداع، وسنفرد إن شاء الله لها محاضرة خاصة أو محاضرتين، نتحدث فيهما عن الدروس المستفادة والقواعد الهامة المستنبطة من هذه الحجة العظيمة. لكن في هذا الدرس سنمر سريعاً على بعض الوصايا التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يوجهها إلى أمته. الوصية الأولى: دستور المسلمين هو الكتاب والسنة، والاعتصام بهما يحمي من الضلال ويحفظ الأمة، ويقود إلى الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي). الوصية الثانية: الوحدة بين المسلمين على أساس الدين والعقيدة، لا على أساس العرق والعنصر، يقول صلى الله عليه وسلم: (تعلمون أن كل مسلم أخ للمسلم). ويقول: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى). الوصية الثالثة: العدل، والعدل المطلق، فلا تقوم أمة ولا تستمر وهي ظالمة، مع وصية خاصة بالنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً). الوصية الرابعة: التحذير من الذنوب، والتنبيه على أن ما يحتقره العبد من الذنوب قد يؤدي إلى هلكته، والتحذير من الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به، فاحذروه على دينكم). الوصية الخامسة: أن الاقتصاد الإسلامي ليس فيه مشروعية للربا، يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن ربا الجاهلية موضوع). وفي رواية يقول: (قضى الله أنه لا ربا). هكذا وضع ربا الجاهلية جميعها. الوصية السادسة: البلاغ، مهمة هذه الأمة البلاغ، وأن تحمل رسالة رب العالمين سبحانه وتعالى إلى العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع). وأكثر صلى الله عليه وسلم من قوله: (ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد). إذاً: مهمة الأمة الإسلامية: أن تحمل الرسالة إلى كل العالم. الوصية السابعة: تأصيل مبدأ التيسير في الدين، وأن الشريعة كلها يسر، فقد أكثر صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة من قوله: (لا حرج، لا حرج، افعل ولا حرج، افعل ولا حرج). وليت المسلمين يفقهون طبيعة هذا الدين، إن طبيعة هذا الدين هي اليسر: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه). الوصية الثامنة: السمع والطاعة لأمير المسلمين ما دام يحكم بكتاب الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل). الوصية التاسعة: أن الشرع يطبق على الحاكم كما يطبق المحكومين، ليس هناك استثناء أمام القانون قال صلى الله عليه وسلم (ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب). ابن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عن الربا: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله). إذاً: تطبق الشريعة على الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهو زعيم هذه الأمة، وعلى عموم الشعب بكامله ليس هناك استثناء. الوصية العاشرة: على الدولة الصالحة أن تأخذ بيد شعبها إلى الجنة، وليس فقط أن توفر لهم سبل المعاش المريح، والحياة الرغيدة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت). الدولة العلمانية لا تنظر مطلقاً إلى هذه النقطة، فليذهب الشعب إلى الجحيم إن أراد ذلك، المهم عندها قيم في الدنيا، لكن الدولة الإسلامية لا تنظر للشعب هذه النظرة الآنية السطحية التافهة، وإنما وظيفتها الأولى أن تسعى حثيثاً لهداية الناس إلى رب دين العالمين سبحانه وتعالى، ومن أدوارها أن تدعو شعبها بل وتدعو العالم كله إلى دخول الجنة، فتلك عشر كاملة. لا شك أن كل وصية من هذه الوصايا تحت

رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وتجهيزه جيش أسامة

رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وتجهيزه جيش أسامة بعد هذه الحجة رجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، ومكث فيها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وفي شهر صفر بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في إعداد بعث حربي جديد للشام، لقتال الرومان؛ لأن الرومان قتلوا والي معان عندما أسلم، فكان لا بد من رد حاسم، وهذا هو الإعداد الثالث لمجابهة الدولة الرومانية العظمى: الأول: كان في مؤتة، والثاني: كان في تبوك، والثالث: بعث جيش أسامة بن زيد هذا. وأمر صلى الله عليه وسلم على هذا البعث أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما، فالرسول صلى الله عليه وسلم يلفت أنظارنا بهذا الفعل إلى أمرين مهمين: الأول: ليس من المهم من هو القائد، ولا نسب القائد، ولا عمر القائد، المهم هو كفاءة القائد، وأنه يحتكم في كل أموره إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. والقائد في هذه المعركة أسامة بن زيد هو ابن مولى كان يباع ويشترى، وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه. وفي نفس الوقت كان عمره ثماني عشرة سنة، أو حتى لم يبلغ الثامنة عشرة سنة، ومع ذلك يتولى قيادة هذا الجيش العظيم. الأمر الثاني: أن طاقات الشباب هائلة، والرسول عليه الصلاة والسلام بأي حال من الأحوال لا يضيع جيشه، ولا يخاطر بمصير أمته بزعامة لا تتصف بكفاءة، وبخاصة أن الصراع القادم سيكون مع أعتى قوة في الأرض في زمانهم، ولو لم يكن صلى الله عليه وسلم موقناً تمام اليقين أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أهل لهذه المهمة لما ولاه، لا سيما أنه كان تحت إمرة أسامة مجموعة فذة من القادة العسكريين، ومن السابقين، ويكفي أن من جنود أسامة رضي الله عنهم في هذه المعركة عمر رضي الله عنه. وهذا الفعل يبين لنا قيمة وإمكانيات الشباب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجهز الجيش الهام، وخرج من المدينة المنورة في اتجاه الشام في أواخر شهر صفر سنة إحدى عشرة للهجرة، لكن بعد خروجه مسافة خمسة أميال من المدينة المنورة سمع الجيش بمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتظروا في مكانهم، لم يكملوا الطريق؛ حتى يطمئنوا على صحة الحبيب صلى الله عليه وسلم.

إلى الرفيق الأعلى

إلى الرفيق الأعلى بدأ مرض الرسول عليه الصلاة والسلام الذي كان في نهايته الوفاة، ويصعب على النفس أن تتصور موت الرسول صلى الله عليه وسلم، فسبحان الله الذي ثبت أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الفاجعة. ونحن بعد مرور أكثر من (1400) سنة على موت الرسول عليه الصلاة والسلام لا نستطيع أن نتمالك أنفسنا عند سماع أو قراءة قصة وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد كانت بلا مبالغة أكبر مصيبة، وأعظم كارثة في تاريخ الأرض منذ خلقها الله عز وجل وإلى يوم القيامة. ومع كون وفاة الأنبياء بصفة عامة مصيبة كبيرة على أقوامهم، إلا أن مصيبة وفاة الرسول عليه الصلاة السلام كانت أعظم وأجل، ليس فقط لكونه صلى الله عليه وسلم أعظم الأنبياء أو سيد المرسلين وإن كان كذلك صلى الله عليه وسلم، لكن كانت المصيبة الكبرى هي انقطاع الوحي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انقطاعاً أبدياً إلى يوم القيامة؛ لأنه لا يوجد نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى مدار ثلاثة وعشرين سنة كاملة تعود الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على نزول الوحي من السماء في كل لحظة، وفي كل ظرف وفي كل أزمة. رحلة طويلة من الأحداث الساخنة والصاخبة والمعقدة كان الوحي فيها دليلاً للمسلمين وهادياً لهم، ومبصراً لعقولهم، ومطمئناً لأفئدتهم. فما أعجب الحياة في ظل الوحي! ولا شك أن البشر جميعاً يخطئون، والمؤمن الصادق يعتذر سريعاً عن خطئه ويتوب من قريب، لكن أحياناً تختلط الحقائق مع الأباطيل، فيتوه الصواب بين طرق الخطأ المتشعبة، فتجد الإنسان المسلم يأخذ أحياناً قراراً يحسبه سليماً صحيحاً شرعياً، بينما يكون الحق في خلاف ذلك، يحدث هذا مراراً وتكراراً معنا ومع الناس جميعاً، حتى إننا لا ندري أكنا على حق أم اخترنا الباطل؟ لكن في أيام الوحي كان الوضع مختلفاً عن وضعنا، كان إذا أخطأ الصحابة نزل الوحي يبين لهم الخطأ، ويبصرهم بالطريق، ويوضح الحق من الباطل، فيعلم الصحابة علماً يقينياً حدود الحق وحدود الباطل، حتى عندما كان صلى الله عليه وسلم يختار رأياً خلاف الأولى، كان الوحي ينزل بالتصويب وبترتيب الأوليات، وبتوضيح الفروق الدقيقة جداً بين الصحيح والأصح، وبين الفاضل والمفضول، كانت حياة عجيبة. نعم، ترك الله عز وجل لنا منهجاً قيماً عظيماً نعرف به الحلال من الحرام ونرتب به الأوليات ترتيباً شرعياً سليماً، لكن ليس ذلك كما كان أيام الوحي. وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من حبهم لأبنائهم وإخوانهم وأزواجهم، بل أكثر من أنفسهم، وكلنا نعلم قصة امرأة بني دينار وذكرناها في غزوة أحد، عندما علمت باستشهاد أبيها وأخيها وزوجها في موقعة أحد، فقالت في لهفة: (ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير كما تحبين، قالت: أرونيه، فلما رأته سالماً قالت: كل مصيبة بعدك جلل) يعني: صغيرة يسيرة؛ لذلك كانت مصيبة موت الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من كل المصائب التي حدثت في الأرض منذ خلقت وإلى يوم القيامة.

طلائع التوديع

طلائع التوديع كيف كانت الأيام الأخيرة في حياته صلى الله عليه وسلم؟ لقد حرص صلى الله عليه وسلم في أيامه الأخيرة على توديع الجميع، حتى إنه لم يودع الأحياء فقط، بل ودع الأموات أيضاً، فقد خرج صلى الله عليه وسلم في أوائل شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إلى أحد فصلى على الشهداء هناك وودعهم، ومن ثم رجع إلى المدينة المنورة، وصعد المنبر وأوصى الناس كما روى البخاري عن عقبة بن عامر قال: (إني فرطكم - يعني: أنا سابقكم إلى الله عز وجل-، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها). وصايا من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أمته في آخر حياته. وفي أواخره شهر صفر، خرج صلى الله عليه وسلم إلى البقيع حيث يدفن الموتى من أهل المدينة المنورة هو وأبو مويهبة وهو مولى للرسول عليه الصلاة والسلام، روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده والدارمي في سننه عن أبي مويهبة: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه من جوف الليل ذات ليلة فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، يقول أبو مويهبة رضي الله عنه: فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس). يعني: ما أنتم فيه الآن أفضل مما يعيش فيه الناس، ومما هم قادمون عليه. ثم قال: (لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى، يقول أبو مويهبة رضي الله عنه: ثم أقبل علي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة، فقال أبو مويهبة: قلت: بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت ربي عز وجل، ثم استغفر لأهل البقيع وبشرهم بقوله: إنا بكم للاحقون، ثم انصرف إلى بيته صلى الله عليه وسلم).

بداية مرضه صلى الله عليه وسلم

بداية مرضه صلى الله عليه وسلم في اليوم التاسع والعشرين من صفر شهد الرسول صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، وعند رجوعه من البقيع بدأ المرض الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم، وكان قبل أسبوعين تماماً من وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد أصابه صداع شديد في رأسه، وارتفعت درجة حرارته جداً، حتى ربط عصابة على رأسه، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يشعرون بالحرارة من فوق العصابة. كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم في منتهى الشدة، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تشعر هي الأخرى بصداع في رأسها، فقالت: (وا رأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنا وا رأساه). ولعلها المرة الأولى في حياته صلى الله عليه وسلم التي لا يلتفت فيها إلى مرض السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لشدة مرضه هو صلى الله عليه وسلم، ومع مرور الوقت اشتد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كعادته ينتقل كل يوم من بيت زوجة إلى بيت أخرى، بحسب دورهن، لكنه مع اشتداد المرض عليه أصبح من الصعب عليه فعلاً أن ينتقل بين الحجرات، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يستقر في بيت إحداهن إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستقر في بيت أحب زوجاته إلى قلبه، السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، لكنه استحيا صلى الله عليه وسلم أن يطلب ذلك من زوجاته؛ لئلا يكسر نفوسهن، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ حتى جاء يوم عائشة فسكن صلى الله عليه وسلم). ففهمن أمهات المؤمنين رضي الله عنه، ومن أدبهن وحبهن له أذن له بالبقاء حيث يحب، فبقي صلى الله عليه وسلم في بيت السيدة عائشة من يوم خمسة من شهر ربيع الأول إلى آخر حياته صلى الله عليه وسلم يعني: بقي: أسبوعاً كاملاً.

الأسبوع الأخير

الأسبوع الأخير في هذا الأسبوع كان لا يقوى صلى الله عليه وسلم على المسير، فكان يتحامل على الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكانت قدماه تخط في الأرض لا يقوى على المشي، وكان صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه، وقضى هذا الأسبوع الأخير كما ذكرنا كله في بيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها. وكان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يتكلم في هذا الأسبوع إلا بصعوبة شديدة، حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رجلاً اشتد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أنه دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فيقول عبد الله: فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله إنك لتوعك وعكاً شديداً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أجل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئات كما تحط الشجرة ورقها).

قبل الوفاة بخمسة أيام

قبل الوفاة بخمسة أيام في يوم الأربعاء سبعة ربيع أول سنة إحدى عشرة هجرية قبل الوفاة بخمسة أيام ارتفعت درجة حرارة الرسول صلى الله عليه وسلم جداً، واشتد ألم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أغمي عليه أكثر من مرة، فلما أفاق في إحدى المرات أراد أن يخرج إلى المسلمين حتى يوصيهم، فما استطاع أن يتحرك صلى الله عليه وسلم. فقال لأهله: (هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب عليه الماء، حتى طفق يقول صلى الله عليه وسلم: حسبكم حسبكم، وشعر عند ذلك صلى الله عليه وسلم بخفة، فدخل المسجد وهو معصوب الرأس، وصعد المنبر والناس مجتمعون حوله فقال: لعنة على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). هذه إشارة شديدة الوضوح باقتراب أجله صلى الله عليه وسلم. ثم إنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه للقصاص، فقال: (من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه). يقول ذلك صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يظلم في حياته قط، بل كان دائم التنازل عن حقه، وما غضب لنفسه قط صلى الله عليه وسلم. يقول ذلك وهو الذي كان يحب الرفق في كل شيء، وهو الذي لم يتلفظ بفحش ولا سوء، ولا طعن حتى في أشد مواقف حياته صعوبة صلى الله عليه وسلم. ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بالأنصار، فقال: (أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي). يعني: خاصتي وموضع سري: (وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم). ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كلاماً مؤثراً غاية التأثير، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن عبداً خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده، يقول أبو سعيد رضي الله عنه: فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فتعجب الصحابة رضي الله عنهم من بكاء الصديق رضي الله عنه، قال أبو سعيد الخدري: فعجبنا له، قال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ -يقصدون أبا بكر الصديق - يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا). لم يدرك الصحابة في هذه الساعة ولم يتصوروا أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو العبد المقصود بالتخيير، ولكن الصديق رضي الله عنه بما له من حس مرهف وعلم واسع أدرك ذلك الأمر فبكى رضي الله عنه وقال: (فديناك بآبائنا وأمهاتنا، يقول أبو سعيد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، ثم قال: لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر). فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من هذه الوصايا المؤثرة في ذلك اليوم دخل بيته.

قبل الوفاة بأربعة أيام

قبل الوفاة بأربعة أيام في يوم الخميس الثامن من ربيع أول يعني: قبل الوفاة بأربعة أيام حدث موقف هام، روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما اشتد به الوجع قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده -وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- فـ عمر رضي الله عنه أشفق على الرسول عليه والسلام، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله)، يعني: عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يرى أنه لا داعي لإرهاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة، وقد حفظ الله عز وجل لهم القرآن، لكن بعض الصحابة اعترضوا على ذلك، وأرادوا أن يكتب لهم الرسول عليه الصلاة والسلام الكتاب الذي يريد، فاختلف أهل البيت واختصموا وكثر اللغط، وارتفع الصوت، فلما حدث ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني). من الواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يرى أن كتابة هذا الذي يريد كتابته أمر واجب ضروري، إنما هو أمر اختياري تقديري؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد هذا أربعة أيام ولم يطلب الكتاب مرة أخرى ليكتب، ولو كان ضرورياً لأمر به صلى الله عليه وسلم، لكن على الرغم من أن كتابة الكتاب لم تكن أمراً حتمياً، إلا أنه كان لغرض الإيضاح، وكان فيه خير ما، لكن منع المسلمون هذا الخير؛ بسبب اختلافهم وكثرة لغطهم. والاختلاف دوماً يمنع كثيراً من الخير. ضحى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخير الذي كانوا سيحصلونه في سبيل أن يمنع عنهم التنازع؛ ولأن وحدتهم كانت مقدمة عنده على ما دونها من مصالح. وفي نفس هذا اليوم ثمانية ربيع أول سنة إحدى عشرة هجرية أوصى صلى الله عليه وسلم بثلاث وصايا: قال صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب). والوصية الثانية: (وأجيزوا الوفد، بنحو ما كنت أجيزهم به). يعني: أعطوا الوفد جائزة كما كنت أعطيهم، يعني: أقروهم وأحسنوا ضيافتهم. أما الوصية الثالثة: فنسيها أحد رواة الحديث، واختلف العلماء في تحديدها، فبعضهم قال: القرآن، وبعضهم قال: تجهيز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وبعضهم قال: الصلاة. وكان صلى الله عليه وسلم حتى ذلك اليوم وبرغم مرضه يصلي بالناس كل الصلوات، فصلى بهم ذلك اليوم الصبح والظهر والعصر، وبعد ذلك صلى بهم المغرب وقرأ في المغرب بـ (المرسلات عرفاً) ثم عاد إلى بيته صلى الله عليه وسلم وقد ثقل عليه المرض جداً، وأغمى عليه أكثر من مرة، ثم أفاق فقال: (أصلى الناس؟ قال الصحابة: لا، هم ينتظرونك، فقال صلى الله عليه وسلم ضعوا لي ماء في المخضب). مكان يغتسل فيه صلى الله عليه وسلم، أراد الاغتسال لتخفيف درجة الحرارة حتى يقوم لتأدية صلاة العشاء، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، ثم أفاق، فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله، هم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله، هم ينتظرونك، فقال للمرة الثالثة: ضعوا لي ماء في المخضب فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه للمرة الثالثة، ثم أفاق: فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله). أرأيتم الحرص على صلاة الجماعة، والحرص على الذهاب إلى المسجد مع هذا المرض الثقيل وهذا الإغماء المتكرر؟! يا حسرتاه على أقوام أصحاء يتخلفون عن صلاة العشاء وغيرها من صلوات الجماعة، والمساجد على بعد خطوات معدودات من بيوتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! بعد هذه المحاولات المضنية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك أنه لن يستطيع الخروج لصلاة الجماعة، وللمرة الأولى في حياته صلى الله عليه وسلم -ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها- لم يستطع أن يتحرك، لكنه مع ذلك كان حريصاً على أمته حتى في أشد حالات مرضه صلى الله عليه وسلم، فما زال يردد: (أصلى الناس؟ أصلى الناس؟). تقول عائشة رضي الله عنها: (والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة) في هذا الوقت قرر صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنه واحد من المسلمين لإمامة المسلمين في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فخافت السيدة عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها لو وقف مكان الرسول عليه والسلام، فقالت: (إن أبا بكر رجل أسيف -وفي رواية-: رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء) فلما أصر صلى الله عليه وسلم على اختيار أبي بكر لهذا الأمر أعادت عليه عائشة رضي الله عنها ومن معها من أمهات المؤمنين الاقتراح بتغيير أبي بكر

قبل الوفاة بثلاثة أيام

قبل الوفاة بثلاثة أيام في يوم الجمعة، صلى أبو بكر جميع الصلوات بالمسلمين وخطب بهم الجمعة في ذلك اليوم أيضاً، ولم يستطع صلى الله عليه وسلم الحركة مطلقاً في ذلك اليوم، وكان مما أوصى به في ذلك اليوم ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل). في يوم السبت العاشر من ربيع أول صلى أبو بكر جميع الصلوات بالناس، لكن في أثناء صلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس شعر صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فقرر ألا يضيع الفرصة، فحاول أن يصلي مع الجماعة مرة ثانية، فخرج يهادى بين رجلين: العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى وصلا به إلى الصف الأول، فكان أبو بكر يؤم الناس في ذلك الوقت، فلما أحس أبو بكر بقدوم الرسول عليه والسلام، أراد أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنب أبي بكر الصديق رضي الله عنه من ناحية اليسار، يعني: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في موضع الإمام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً لا يستطيع القيام، وأبو بكر يصلي بصلاته، ويرفع صوته فيصلي الناس بصلاة أبي بكر. مجهود هائل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يفوت صلاة واحدة مع الجماعة وهو يستطيع، مع أنه قد وصل إلى هذه الحالة التي وصفنا من التعب والمرض والإغماء.

قبل يوم من وفاته صلى الله عليه وسلم

قبل يوم من وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الأحد الحادي عشر من شهر ربيع أول، يعني: قبل الوفاة بيوم واحد صلى أبو بكر بالمسلمين كل الصلوات، وتخلص صلى الله عليه وسلم من كل بقايا الدنيا التي عنده على بساطتها وقلتها، فأعتق ما تبقى من غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، ولم يترك في بيته عند موته من الطعام إلا القليل. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني). يقول أنس رضي الله عنه: (ما أمسى عند آل محمد صلى الله عليه وسلم صاع بر ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة) يعني: كل بيوته صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها الطعام الذي يكفيهم.

آخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم

آخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم جاء يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول إحدى عشرة هجرية، وهو اليوم الذي شهد أعظم مصيبة في تاريخ البشرية. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه صلى الله عليه وسلم يوم أن هاجر من مكة إلى المدينة، وما رأيت يوماً كان أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم). وشتان بين بداية هذا اليوم وبين نهايته، فأول هذا اليوم صلى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه صلاة الصبح بالناس، وكانت هذه الصلاة هي السابعة عشرة التي يصليها أبو بكر بالناس في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم. يقول أنس رضي الله عنه: (كان أبو بكر يصلي بنا في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة رضي الله عنها ينظر إلينا، ونظر إلى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ثم تبسم يضحك صلى الله عليه وسلم) سعيد برؤيتهم وهم يصلون مجتمعين وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه. يقول أنس (فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر). لم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يصلي معهم، ولم يأت عليه في الدنيا صلاة أخرى صلى الله عليه وسلم، لما ارتفع الضحى من ذلك اليوم دعا صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها، ثم أسر في أذنها أمراً فبكت بكاءً شديداً رضي الله عنها وأرضاها، قال لها: (لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري؛ فإني نعم السلف أنا لك، فلما رأى صلى الله عليه وسلم بكاءها قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، فضحكت رضي الله عنها وأرضاها)، وفي رواية: (أنه بشرها بأنها أول أهل بيته لحوقاً به صلى الله عليه وسلم). لكن السيدة فاطمة رضي الله عنها كانت تشاهد الألم والمعاناة التي يشعر بها الحبيب صلى الله عليه وسلم فدفعها ذلك إلى أن تقول: (وا كرب أبتاه فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم). وصدق صلى الله عليه وسلم كيف يشعر بالكرب من رأى مقعده من الجنة وهو حي على وجه الأرض؟! فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يمرض: (إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير). أي: يخير بين الموت، وبين البقاء في الدنيا. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (لما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف) يعني: نظر إلى السقف وكأنه يرى مقعده من الجنة، وكأنه يعرض عليه التخيير في هذه اللحظة، ثم قال: (اللهم الرفيق الأعلى). فاختار لقاء الله عز وجل، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح). يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان أخبرهم بالتخيير. واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن ينصح أمته حتى آخر أنفاسه صلى الله عليه وسلم، فكانت عامة وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه). يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بحاجتين في غاية الأهمية، الأولى: الصلاة، ثم كذلك يوصي بالرقيق والعبيد مما ملكت أيمانكم، ويجمع بينهما، لكي يؤكد على وجوب الإحسان إلى الرقيق. يروي البخاري أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقول: (إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري). السحر هو الصدر أو الرئة، والنحر هو الرقبة. يعني: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسند رأسه على صدر ورقبة السيدة عائشة رضي الله عنها، ثم تكمل عائشة رضي الله عنها وتقول: (وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: للرسول عليه الصلاة والسلام، لم يستطيع من صلابة السواك الجاف أن يحركه بين أسنانه صلى الله عليه وسلم فقالت السيدة ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته. فأمره- وفي رواية-: أنه

تفاقم الأحزان على الصحابة

تفاقم الأحزان على الصحابة أظلمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله عليه السلام قد نورها يوم دخلها، فتحولت من يثرب إلى المدينة المنورة، والآن أظلمت نفس المدينة يوم مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان موته فتنة حقيقة للأمة الإسلامية. لقد اضطرب المسلمون اضطراباً شديداً حتى ذهل بعضهم ولم يستطع التفكير، وقعد بعضهم ولم يستطع القيام، وسكت بعضهم ولم يستطع الكلام، وأنكر بعضهم ولم يستطع التصديق.

موقف عمر من خبر موته صلى الله عليه وسلم

موقف عمر من خبر موته صلى الله عليه وسلم روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، فقام عمر رضي الله عنه وأرضاه، يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم). كان يعتقد تماماً بعدم موته، حتى إنه يقول في رواية أخرى: (والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك). أي: أنني كنت لا أعتقد إلا أنه لم يمت فعلاً، ثم قال عمر رضي الله عنه: (وليبعثنه الله عز وجل فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات). ويقول في رواية: (إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات). كان هذا موقف عمر رضي الله عنه وأرضاه، وما أدراك من هو عمر. يقول صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن أصحابه ويصف أصحابه قال: (وأشدهم في أمر الله عمر). هذه هو أثر المصيبة على أشد الصحابة في أمر الله عز وجل. انظروا إلى موقف عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ لتعلموا عظم أثر المصيبة على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

موقف أبي بكر الصديق من خبر موته صلى الله عليه وسلم

موقف أبي بكر الصديق من خبر موته صلى الله عليه وسلم ظل المسلمون على هذه الحال يتمنون صدق كلام عمر رضي الله عنه، حتى جاء الصديق رضي الله عنه، ودخل مسرعاً إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، بيت ابنته عائشة رضي الله عنها، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه قد غطوا وجهه، فكشف عن وجهه، فلما أدرك الحقيقة المرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، بكى الصديق رضي الله عنه وأرضاه بكاء مراً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالنسبة لـ أبي بكر كل شيء، لم يكن رسولاً فقط بالنسبة له، لكن كان صاحباً وموطن سر، ومبشراً ومطمئناً، وزوجاً لابنته، ورئيساً لدولته، وهادياً لطريقه، كان كل شيء، ومع كل ذلك أنزل الله عز وجل علي الصديق ثباتاً عجيباً، لو لم يكن له من المواقف في الإسلام إلا هذا الموقف لكان كافياً على عظمته رضي الله عنه وأرضاه. فأكب الصديق رضي الله عنه وأرضاه على حبيبه صلى الله عليه وسلم فقبله في جبهته، ثم قال وهو يضع يده على صدغي الرسول عليه الصلاة والسلام: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه، ثم تماسك قائلاً بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله عز وجل الموتتين أبداً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ثم أسرع رضي الله عنه وأرضاه خارجاً إلى الناس، فوجد عمر يقول ما يقول، ويقسم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات، فقال: أيها الحالف على رسلك، وفي رواية قال: اجلس يا عمر، لكن عمر لم يكن يسمع شيئاً، فتركه أبو بكر الصديق رضي الله عنه واتجه إلى الناس، فأقبل الناس عليه وتركوا عمر. فخطب فيهم خطبته المشهورة الموفقة، التي تعتبر على قصرها من أهم الخطب في تاريخ البشرية، ثبت الله عز وجل بها أمة كادت أن تضل، وأوشكت أن تفتن. قال رضي الله عنه وأرضاه في حزم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ينبه الصديق بفقه عميق على حقيقة الأمر، ويضعه في حجمه الطبيعي، فبرغم عظم المصيبة إلا أنها لا يجب أبداً أن تخرج المسلمين عن شعورهم وعن حكمتهم وعن إيمانهم، فحقيقة الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وحقيقة الأمر أن البشر جميعاً يموتون، وحقيقة الأمر أننا ما عبدناه لحظة واحدة، ولكننا جميعاً عبدنا معه رب العالمين سبحانه وتعالى، والله حي لا يموت، فلا داعي للاختلاط، ولا داعي للفتنة، ولا داعي للاضطراب، وما حدث أمر متوقع، وربنا حي لا يموت، وهو الذي سيجزينا على صبرنا ويعاقبنا على جزعنا. ثم قرأ الصديق رضي الله عنه وأرضاه في توثيق عجيب آية من سورة آل عمران، تبصر المسلمين بالحقيقة كاملة، وتعرفهم تماماً بما يجب عليهم تجاه هذا الأمر. قرأ الصديق رضي الله عنه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله عز وجل أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها. في هذه اللحظة أدرك الناس حقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. أخرجت هذه الآية الكريمة المسلمين من أوهام الأحلام إلى حقيقة الموت، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت، حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. يعني: عمر العملاق رضي الله عنه وأرضاه لم يتحمل المصيبة، فسقط مغشياً عليه، وارتفع البكاء في كل أنحاء المدينة. قال أبو ذؤيب الهذلي رضي الله عنه: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه؟ ماذا حصل؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأثرت المصيبة تأثيراً شديداً على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تقول: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن حداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري، فوضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم) يعني: أضرب صدري ووجهي مع النساء. مصيبة كبيرة أخرجت معظم الحكماء عن حكمتهم، لكن الحمد لله الذي من على هذه الأمة بـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فثبت الله عز وجل به الأمة بكاملها، وبدأت الأمة في أخذ خطوات عملية للخروج

ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمام المسلمين أمران في غاية الأهمية، لا بد من حسمهما بسرعة، وهما: من يلي أمور المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فهذه دولة كبرى الآن لا بد لها من زعامة، وبرغم فداحة المصاب إلا أن واقعية الصحابة حتمت عليهم أن يختاروا من بينهم من يحكمهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وبعد مشاورات ومداولات اختاروا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ثاني اثنين، والصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم الصحابة وأتقى الصحابة وأفقه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. وقد فصلنا كثيراً هذا الأمر عندما تكلمنا عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في مجموعة المحاضرات الخاصة به. أما الأمر الثاني فهو قضية تغسيل وتكفين ودفن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي قضية حساسة جداً ومحيرة، ومن القضايا الأولى التي سيأخذ فيها الصحابة رضي الله عنهم قراراً في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم. هناك من الأحكام الفقهية ما قد يكون خاصاً به صلى الله عليه وسلم، وهناك ما قد يكون عاماً على عموم المسلمين، أما الغسل لجسده الشريف فقد احتار الصحابة في أمره، قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عز وجل عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ورأسه على صدره، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء من فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم. وهذا حديث صحيح رواه أبو داود وأحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجة والبيهقي وغيرهم. وقام بعملية الغسل مجموعة من الصحابة معظمهم من آل البيت، كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يغسله، وأسامة بن زيد وشقران مولى الرسول عليه الصلاة والسلام يصبان الماء، والعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وولداه قثم والفضل يقلبونه، وأوس بن خولي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يسنده على صدره، ثم بعد ذلك كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية من كتان يعني من قطن، ليس فيها قميص ولا عمامة. كان هذا الغسل والتكفين في صباح يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول، وكان الصحابة في هذا اليوم مشغولين بقضية الاستخلاف. وبعد الغسل والتكفين وضعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على فراشه، ثم بدءوا في الصلاة عليه، ودخل الناس أرسالاً، يعني: كانوا يدخلون عشرة عشرة، صلى عليه أولاً أهل البيت، أهل بيته صلى الله عليه وسلم وعشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم بقية الرجال في المدينة، ثم دخلت النساء فصلت عليه، ثم بعد ذلك الصبيان، حتى صلى عليه جميع من بالمدينة من المؤمنين. ثم كانت بعد ذلك قضية الدفن، واختلف الصحابة في مكان الدفن وفي كيفيته، أما مكان الدفن فقد قال بعضهم: يدفن في مسجده، وقال آخرون: يدفن مع أصحابه في البقيع فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض). فقرروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها. أما في كيفية الدفن فقد اختلفوا أيضاً في الدفن هل يشق له في قبره أم يلحد؟ على أن يلحدوا له، فجاء أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه ورفع فراش الرسول عليه الصلاة والسلام وحفر تحت الفراش، وأصلح اللحد الذي سيدفن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ليلة الأربعاء بدأ الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في إنزال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره. ونزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن عباس، وشقران مولى الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، وقيل: نزل معهم عبد الله بن عوف وقيل: أوس بن خولي. وبعد أن وضع صلى الله عليه وسلم في قبره أهالوا عليه التراب، لتغلق أهم صفحة من صفحات التاريخ البشرية، لم يصدق الصحابة أنفسهم من كونهم يعيشون في الحياة بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كونهم يمشون على الأرض وهو يرقد تحتها صلى الله عليه وسلم. يقول أنس بن مالك: (ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا). القلوب وكأنها ليست القلوب، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمدها بنور وهدى وأمان وراحة واطمئنان، أما الآن فقلوبنا ليست هي القلوب التي كانت يوم كان

خاتمة السيرة

سلسلة السيرة النبوية_خاتمة السيرة بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أمة متفرقة فجمع شملها، وأنار ظلمتها، وأقام معوجها، وعاش حاكماً وقائداً بين أصحابه كواحد منهم، لم يفضل نفسه عليهم بطعام ولا شراب ولا بسكن ولا بمال، وتحمل من الأذى والجوع والحصار أكثر منهم، وكان في ذلك يبني دولته رويداً رويداً على أسس عقدية متينة، ولم يأبه بكل من حاربه من قريب وبعيد، وجعل من دولته مثلاً يحتذي به كل من أراد أن يشيد دولة وينشئ مجتمعاً؛ لذا كان حقاً علينا اتباعه وطاعته وحبه والسير على منواله والدعوة إلى دينه.

مراحل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام

مراحل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فمع المحاضرة الثامنة عشرة من محاضرات السيرة النبوية، وهي -في الحقيقة- المحاضرة الأخيرة من هذه المجموعة: مجموعة الفتح والتمكين، وإنه لمن الصعب على النفس أن نتحدث عن خاتمة للسيرة، فإن أنفسنا قد تعلقت تعلقاً كبيراً بالحديث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فحديثنا عنه كان أسعد حديث، وتدبرنا لسيرته كان أجمل تدبر، واستفادتنا منها كانت أقصى استفادة، لكن لا بد من تعليق ختامي على هذه السيرة العظيمة، وعزاؤنا أن هذا لن يكون -إن شاء الله- آخر حديثنا عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، بل ستتوالى بعد ذلك دراسات ودراسات تتناول جوانب شتى من حياته صلى الله عليه وسلم. إن سيرته كانت مثالاً يحتذى به في كل شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، مثالاً واضح المعالم للمجتمعات الصغيرة والكبيرة لبناء الأمم، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني الذي أوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد ومبدأ واحد، وأن يقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها. بعث صلى الله عليه وسلم في أمة مفرقة مشتتة، فشا فيها الظلم، وتعددت فيها صور الباطل، وكثرت فيها الآثام والشرور، وتمكن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أناة عجيبة وصبر رائع يغير الأوضاع، يعدل من المسار، يقوم المعوج، يوضح الطريق، يكمل الأخلاق، ما ترك معروفاً إلا وأمر به، ولا منكراً إلا ونهى عنه، مع العلم أن طريقه لم يكن سهلاً، بل كان مليئاً بالصعاب والأشواك، فقد عارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته وقاومه أهله، ومع هذا ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة صلى الله عليه وسلم. مر صلى الله عليه وسلم في بنائه لأمته بمراحل محددة لا بد أن تمر بها كل أمة لكي تبنى، وكان له سنة ثابتة في كل مرحلة.

مرحلة الإعداد

مرحلة الإعداد المرحلة الأولى التي مر بها صلى الله عليه وسلم أسميها: مرحلة الإعداد، هذه المرحلة بدأت منذ نزول الوحي، واستمرت حوالي خمس عشرة سنة من حياته صلى الله عليه وسلم، وهي فترة بقائه في مكة وسنتين من المدينة المنورة إلى قبيل موقعة بدر. في هذه الفترة بدأ صلى الله عليه وسلم بانتقاء الأفراد الصالحين لحمل الأمانة الثقيلة، ونجح صلى الله عليه وسلم في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين الإسلامي، ليس فقط إلى أهل مكة أو إلى العرب، بل إلى العالم أجمع. كان بناءً صعباً شاقاً، كان بناءً للإنسان من جديد حرص فيه صلى الله عليه وسلم على توجيه نيات وقلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، خلصت قلوبهم لله عز وجل، عظموا قدره، أحبوا جنته، خافوا من ناره؛ فتحركت كل ذرة في كيانهم له سبحانه وتعالى، أصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له سبحانه وتعالى، وأن يرضى عنهم، وأن يقبل منهم، وأن يغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب، وهانت عليهم كل المشكلات، صغرت في أعينهم جبابرة الأرض ومن ثم حملوا رسالة الإسلام العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بهذه الرسالة إلى آفاق الأرض وإلى كل العالمين. واعلموا أنه بدون جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يستحيل بناء الأمة الإسلامية. هذه كانت أول خطوة: إعداد الطائفة التي تحمل على أكتافها الأمة الإسلامية. لم يتركه أهل مكة يفعل هذا دون مقاومة أو صد، بل حاربوه هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم بكل طريقة، عذبوهم، قهروهم، بطشوا بهم، وقتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة مرة ثم الثانية، ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد في العدد وازدياد في الإيمان، اضطر المشركون أن يحصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنين كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشعب أشد قوة وأعظم بأساً. مات نصيره من أعمامه أبو طالب، وماتت زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها؛ فاشتد إيذاء قومه له أكثر من ذي قبل، حتى خرج إلى الطائف يبحث عن النصرة فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، ثم عاد مرة ثانية إلى مكة صلى الله عليه وسلم يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، يخاطب كل وافد على مكة في حج أو في غيره ليشرح له رسالة ربه سبحانه وتعالى، فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته بكل إصرار، حتى شاء الله عز وجل له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب -المدينة المنورة- فآمنوا به وصدقوه وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إلى الإسلام في المدينة المنورة، فآمن معهم آخرون وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير فما تركوا بيتاً ولا شارعاً ولا حديقة ولا مجتمعاً إلا وعرفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشاراً باهراًً، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعين من الرجال وامرأتان، جاءوا ليبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بيعة العقبة الثانية ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله، وما هي إلا أشهر قليلة بعد تلك البيعة حتى ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة التي صارت بعد ذلك معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى، وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وعرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي أن تبنى الدول. بنى صلى الله عليه وسلم دولته بشمول عجيب، بناها بتوازن لافت للنظر، استكمل كل جوانب دولته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وقبل ذلك العقائدية، وصارت دولته مضرباً للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة والسمو والأخلاق، ومع صغر حجم دولته وقلة إمكاناتها المادية لم يتركه أعداؤهم من المشركين من أهل قريش أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب ومع اليهود على حربه والكيد له صلى الله عليه وسلم، لكنه قاومهم بحكمة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا، وظل في كل ذلك محافظاً على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله عز وجل للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل، أذن الله عز وجل أن يحدث هذا الصدام فدخل المسلمون بسببه في مرحلة جديدة. كانت غزوة بدر الكبرى أو يوم الفرقان، وحدث فيها ما لا يتخيله عامة البشر، فقد انتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله عز وجل، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة ودخلوا في الإسلام إما اقتناعاً به وإما نفاقاً له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر

مرحلة وضوح الرؤية

مرحلة وضوح الرؤية بعد غزوة بدر دخل المسلمون في مرحلة جديدة هامة أسميها: مرحلة زمن وضوح الرؤية، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات والابتلاءات والمعارك، فقد وقعت غزوة بني قينقاع بعد أقل من شهر من غزوة بدر، وحدثت مفاصلة مع اليهود مع شدة احتياج المسلمين في ذلك الوقت لمال وسلاح اليهود، لكن المؤمن الصادق لم يكترث بهذا، بينما ظهر ولاء المنافقين لليهود، ثم كانت مصيبة أحد ومأساة بئر معونة وحادثة ماء الرجيع، فكان لهذه الأزمات المتتالية أبلغ الأثر في تمييز الصف. هذه المصائب لم يخترها الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي السنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ومع هذه الفترة العصيبة كانت الانتصارات التي تبشر المؤمنين، فقد كان الانتصار المهيب على بني قينقاع وعلى بني النضير وغير ذلك من بعض الانتصارات التي رأيناها في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله عز وجل أن يحدث التمحيص الكبير والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وعرف ذلك في السيرة بغزوة الأحزاب أو غزوة الخندق. هذه كانت واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية إن لم تكن أشدها على الإطلاق، وبفضل الله ثبت المسلمون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر بعد أن كشفت لهم تماماً أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين بعد هذه الغزوة، حتى قال صلى الله عليه وسلم بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن دخول مرحلة جديدة، قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، نحن نسير إليهم. ثم كتب الله عز وجل النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة، وهي القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة بعد بني قينقاع وبني النضير، وبذلك أمنت المدينة من شر يهود في الداخل، ولم يبق من اليهود إلا التجمع الكبير خارج المدينة وهو تجمع خيبر، وكان العام السادس الذي تلا غزوة الأحزاب عاماً عسكرياً بحتاً انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة، وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه رب العالمين سبحانه وتعالى فتحاً مبيناً، ألا وهو صلح الحديبية، والذي اعترفت فيه قريش وللمرة الأولى بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح، وأعقب ذلك تحركات سياسية وعسكرية ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة في ذلك الوقت. وراسل صلى الله عليه وسلم ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مؤتة، وأسلم الكثير من عظماء وفرسان العرب حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله عز وجل إلى الله ورسوله، وآمن أهل مكة بعد رحلة طويلة من الصد عن الإيمان. وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصاراً باهراً على قبيلتي هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة بعد هزة وانكسارة أولى بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون في هذه الغزوة ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام، وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقرت عين الحبيب صلى الله عليه وسلم برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم وينقذون من النار. وتخلل هذا الإقبال على دين الإسلام دعوة جريئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية دون تردد ولا وجل، فأنزل الله عز وجل عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في كل ربوع الجزيرة، بل وفي أطرافها وما حولها. ثم ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهر إيمانية رائعة حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجاً لجهود مضنية، ولتضحيات سخية، واطمأن صلى الله عليه وسلم على اجتماع أمته وعلى فقهها في دينها، وكمل الدين وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ومن ثم انتهت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل بعد ذلك إلى حياة لا تعب فيها ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر. حياة حافلة يظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها، إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرح

السمات العامة للسيرة النبوية

السمات العامة للسيرة النبوية بعد هذا العرض السريع لهذه السيرة العظيمة سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا بد لنا من وقفة أو وقفات معها نستخرج منها بعض السمات العظيمة -لا كل السمات- التي تظهر في عموم البعث النبوي لا في موقف عابر وليس في حدث معين، سمات عامة تصاحب كل مواقف السيرة من أولها إلى آخرها، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً.

شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الباهرة العظيمة

شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الباهرة العظيمة أول سمة نلاحظها في السيرة النبوية هي: الشخصية الباهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها فعلاً شخصية باهرة، هذه الشخصية ظلت محافظة على هذا الإبهار منذ الميلاد وإلى الممات، وهذا أمر في منتهى العجب لا يفسر إلا بكون هذا الرجل صلى الله عليه وسلم رسولاً من رب العالمين سبحانه وتعالى، معصوماً من الآثام والشرور، لا أثر للشيطان عليه من قريب ولا بعيد، لا سبيل إلى غوايته بصورة من الصور صلى الله عليه وسلم، هذه أعظم شخصية في تاريخ الخلق، ليس فقط في السابقين، ولكن إلى يوم القيامة، وليس فقط في عموم البشر بل في الأنبياء والمرسلين. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولاً فقط، بل كان حاكماً وقائداً وزعيماً، ومع هذا عاش مع أصحابه وأتباعه كواحد منهم، ما فضل نفسه عليهم بطعام ولا بشراب ولا بسكن ولا بمال، تحمل معهم الأذى في كل موضع، وجاع معهم كما يجوعون بل أكثر، وتعب معهم كما يتعبون بل أشد، وحوصر معهم وهاجر وقاتل، بل كان أقربهم للعدو، ما فر يوماً في حياته لا في أحد ولا في حنين ولا في غيرهما، لم يزده كثرة الأذى إلا صبراً، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلماً، ما غضب لذاته قط صلى الله عليه وسلم، وما انتقم لنفسه أبداً، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل فينتقم حينئذ لله. كان كريماً واسع الكرم، جاءت له الدنيا راغمة فأنفقها كلها في سبيل الله، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، مع كونه في ذلك الوقت كان يرأس دولة تشمل الجزيرة العربية بكاملها، لم يورث درهماً ولا ديناراً، ولا عرف عنه قط أنه خص نفسه بشيء دون أصحابه وأتباعه، كان كثير المخالطة لشعبه، لم ينعزل عنهم أبداً، كان يجالس الفقراء ويرحم المساكين وتسير به الأمة في شوارع المدينة لحاجتها أينما شاءت، وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز، ويخطب الجمع، ويعطي الدروس، ويزور أصحابه في بيوتهم ويزورونه في بيته صلى الله عليه وسلم، وهو في كل ذلك دائم الابتسام، منبسط الأسارير، متهلل الوجه صلى الله عليه وسلم. كان رحيماً بأمته تمام الرحمة، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، كان كثير العفو حتى عمن ظلمه وبالغ في ظلمه، كان واصلاً للرحم حتى لمن قطع رحمه وبالغ في القطع. لم تكن عظمته صلى الله عليه وسلم في معاملاته مع الناس أو في أخلاقه الكريمة فقط، ولكنه كان سياسياً بارعاً، وقائداً حكيماً، وخطيباً مفوهاً لا تفوت عليه صغيرة ولا كبيرة، أوتي جوامع الكلم، يتكلم بالكلمات القليلة فيمكث العلماء والحكماء الأعوام والقرون يستخرجون المعاني الهائلة منها، يحاور كأفضل ما تكون المحاورة، ويفاوض فما يتنازل أو يزل أو يظلم أو يغضب، يستعين بأصحابه ويشاورهم مع رجاحة عقله عنهم، وارتفاع منزلته فوقهم، ما يسفه رأياً ولا ينتقص أحداً، الحكمة ضالته أينما وجدها أخذها ما دامت في حدود الشرع. كانت حياته كلها على هذه الصورة البهية النقية، حتى انبهر به أعداؤه قبل أصحابه، وحتى عظمه وبجله وقدره من سمع عنه ولم يره، بل الذين لم يعاصروه أصلاً، بل حتى من هم من غير المسلمين. يقول بسمارك زعيم ألمانيا المشهور في القرن التاسع عشر: إني أدعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدوة ممتازة، وليس في الإمكان إيجاد قدوة كمحمد ثانياً. صلى الله عليه وسلم. برناردشو الأديب البريطاني المشهور كان يقول: لو كان محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بيننا الآن لحل مشاكل العالم كلها وهو يشرب كوباً من القهوة. يقول لامارتين الشاعر الفرنسي المتميز: من ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟ - صلى الله عليه وسلم- ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان. ويقول تولستوي الأديب الروسي المشهور: أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضاً آخر الأنبياء. ويقول جوته الشاعر الألماني الشهير: بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم. هذا هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، تعرفنا في هذه السلسلة على طرف ضئيل جداً من شخصيته العظيمة، ولن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نحيط بعظمته؛ لأن محاولة الإحاطة بعظمته تدخل فعلاً في باب المستحيل، هي هذه السمة الأولى البارزة من خلال دراسة السيرة النبوية.

عظمة جيل الصحابة

عظمة جيل الصحابة السمة الثانية في السيرة النبوية هي: روعة وعظمة ورقي الجيل الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. الصحابة هم خير البشر بعد الأنبياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) إلى آخر الحديث. لقد اختار الله عز وجل الصحابة لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم تماماً كما اختار نبيه صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ، فكان لا بد من وجود جيل صالح ورع حكيم دقيق لينقل بأمانة وبدقة ما قاله أو فعله أو أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظهر لنا منذ أول لحظات هذه السيرة وحتى خاتمتها أن هذا الجيل كان جيلاً أميناً مضحياً مجاهداً متجرداً لله عز وجل، حريصاً على كل خير، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، باذلاً الوسع كل الوسع لنصرة الله ورسوله ودين الإسلام. رأينا في هذه المحاضرات مواقف مشرفة لا تحصى في كل المواقف، في مكة والمدينة، في بدر وأحد والأحزاب والحديبية ومكة وتبوك وغيرها وغيرها، وليس فقط في الغزوات أو المعارك ولكن في كل مواقف السيرة، وليس معنى هذا أنهم جيل بلا أخطاء أو أنهم معصومون من الزلل، ولكن كما يقولون: أخطاؤهم تذوب في بحار حسناتهم، كما أنهم بفضل الله كانوا سريعي التوبة من ذنوبهم، سريعي الأوبة إلى الله عز وجل، وفوق ذلك لم يتهم واحد منهم بالكذب أو الخيانة أو التضليل. هؤلاء هم صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، والذين وصفهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

السنة مصدر أساسي للتشريع

السنة مصدر أساسي للتشريع السمة الثالثة: السنة مصدر أساسي للتشريع: ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السنة النبوية مصدر رئيس لا غنى عنه أبداً من مصادر التشريع في الإسلام، والسنة التي أقصدها هنا هي منهجه صلى الله عليه وسلم في الحياة، هي كل قول أو فعل صدر منه، كل تقرير أقره صلى الله عليه وسلم، ليس القرآن وحده هو المصدر التشريعي الوحيد كما يدعي بعض المنكرين للسنة، بل رأينا بوضوح في السيرة النبوية من خلال هذه الدراسة: أن حياته صلى الله عليه وسلم كانت تشريعاً كاملاً للأمة، كانت تفسيراً جلياً لآيات القرآن الكريم، كانت تفصيلاً لما أجمل في القرآن، كانت بسطاً لما اختصر في القرآن، بل كانت أحياناً مشرعة لأحكام لم تأت أصلاً في القرآن، رأينا ذلك في غزوة خيبر عندما حرم الرسول صلى الله عليه وسلم الحمر الإنسية. رأينا بوضوح في السيرة النبوية أن قصة الرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مجرد قصة لعابد يصلي ويصوم ويقوم ويقرأ القرآن، لكن حياته كانت تشريعاً كاملاً متكاملاً، قام فيها صلى الله عليه وسلم بتوضيح موقف الشرع من كل قضية من قضايا الحياة. هذا ما يجعلنا نقول وبصدق: إن الاستغناء عن السنة يعني الاستغناء عن الدين، والطعن في حجية السنة هو الطعن في الإسلام ذاته، ودراسة السيرة أكبر دليل على الموضوع.

شمولية الإسلام

شمولية الإسلام السمة الرابعة: شمولية الإسلام: الإسلام ليس كما يعتقده الكثيرون صيام وصلاة؛ إذ ليس موطن تطبيق الإسلام المسجد فقط، ولكن الإسلام دين يحكم كل دقائق الحياة، كما يتضح من اسمه، فالإسلام هو إسلام كامل لله رب العالمين، ويظهر معنى الإسلام الذي نقصده في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] فالعبادة والحياة والممات كلها لله عز وجل، وليس معنى هذا أن التشريع جمود يمنع من مواكبة تغيرات الزمان، لكن التشريع فيه مرونة كبيرة جداً تجعله صالحاً لكل ظرف، قابلاً للتطبيق في الجزيرة العربية وفي غيرها من بقاع العالم المختلفة، قابلاً للتطبيق في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام وفي الأزمان التي لحقته وفي زماننا وإلى يوم القيامة. واجه الرسول عليه الصلاة والسلام ظروفاً متباينة تماماً في مراحل حياته المختلفة، ومع ذلك كان هناك قانون لكل فترة حسب الظروف والمتغيرات، وكان هذا القانون من الشمول بحيث إنه غطى كل جوانب الحياة الإيمانية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والعسكرية وغير ذلك من الجوانب، استوعب القانون الإسلامي معاملات الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في فترة مكة، فترة الاضطهاد والتعذيب والتنكيل، كما أنه استوعب معاملات الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في المدينة المنورة في كل مراحلها، سواء في فترة الإعداد، أو في فترة الصدام مع العدو، أو في فترة التمكين والعلو في الجزيرة، في فترة دعوة العالم، في كل هذه الفترات استوعب القانون الإسلامي كل المتغيرات والظروف. ما يجعلنا نجزم بشمول المنهج الإسلامي، وأنه منهج بلا ثغرات مطلقاً، وكيف يكون به ثغرات وهو منهج رب العالمين سبحانه وتعالى؟! كيف يصل المخلوق إلى ما هو أبدع وأروع مما صنعه الخالق؟! هذا مستحيل، هذا هو منهجنا منهج الإسلام، وكان هذا واضحاً تمام الوضوح في دراسة السيرة النبوية.

الوسطية في منهج النبي صلى الله عليه وسلم

الوسطية في منهج النبي صلى الله عليه وسلم السمة الخامسة البارزة في السيرة النبوية هي: الوسطية في منهجه صلى الله عليه وسلم: ولا بد أن نتحدث عن الوسطية بعد حديثنا عن الشمول؛ فالذي يدرس السيرة النبوية ويتجول بين صفحاتها يدرك تماماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع قضايا حياته المختلفة بتوازن رائع، فليس معنى أنه كان يجد قرة عينه في الصلاة أن يهمل بيته، بل كان يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين يبالغون في العبادة إلى درجة إهمال شئون حياتهم الأخرى، يأمرهم أن يقللوا من العبادة، وأن يأخذوا من وقت الصلاة والصيام ويعطوا زوجاتهم وأولادهم، نعم كان يحب الإنفاق في سبيل الله ويحض عليه، لكنه ما كان يترك أصحابه ينفقون كل أموالهم في سبيل الله دون أن يتركوا شيئاً لأولادهم، بل أمرهم أن يتركوا ورثتهم أغنياء، ولم يقبل منهم صلى الله عليه وسلم إنفاق المال كله في سبيل إلا في ظروف معينة، ومن أفراد بأعيانهم كـ الصديق رضي الله عنه في قصة الهجرة وتبوك. وليس معنى أنه كان يحب الموت في سبيل الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: (لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل) ليس معنى هذا أن يلقي بنفسه في المهالك دون اكتراث أبداً، بل رأيناه صلى الله عليه وسلم يلبس درعين من حديد، ويضع الخطة المناسبة للمعركة، ويرسل العيون، ويأخذ بجوانب الحيطة والحذر، ويؤمن ظهره، ويحمي جيوشه وشعبه، هكذا رأيناه في دروس السيرة النبوية صلى الله عليه وسلم. حياة متوازنة راقية لا إفراط ولا تفريط، لا تشدد وتطرف، وكذلك لا تسيب وتنازل، حياة متوازنة عبر عنها ربنا سبحانه وتعالى بقوله وهو يصف هذه الأمة العظيمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].

البعد الأخلاقي للتشريعات الإسلامية

البعد الأخلاقي للتشريعات الإسلامية السمة السادسة، وقد رأيناها واضحة في السيرة النبوية: البعد الأخلاقي العظيم في كل التشريعات الإسلامية، قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وهو يصف بعثته صلى الله عليه وسلم، ويقصرها صلى الله عليه وسلم على إتمام مكارم الأخلاق، يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). عند النظر إلى كل شعائر الإسلام تجد أنها في المقام الأول تسمو بالأخلاق، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصوم ينهى عن قول الزور والشقاق والعراك والتشاحن، الصدقة تطهر النفس وتوطد العلاقات الطيبة في المجتمع، وهكذا في كل التشريعات. في أحداث السيرة النبوية رأينا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هذا الجانب الأخلاقي في كل مواقفه وفي كل معاملاته صلى الله عليه وسلم. يكفي فقط أن نذكر مجالين يتعجب الكثير في زماننا الآن من ارتباط الأخلاق بهما: أما المجال الأول فهو: المجال السياسي، ألف الناس في زماننا الآن وقبل ذلك تصوير السياسة على أنها خبث وكيد وخيانة وغدر ونفاق وعنف، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أثبت لنا عكس ذلك تماماً، رأيناه في مكة وفي المدينة يحاور ويفاوض، ولكنه ما كذب ولا غدر ولا خان صلى الله عليه وسلم، بل إنه لم تخرج منه كلمة سوء واحدة يندم عليها صلى الله عليه وسلم، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً حتى مع أعتى الأعداء، بل كان واسع الصدر صلى الله عليه وسلم، كان مبتسماً هادئاً حيياً، كان خلوقاً صلى الله عليه وسلم في سياسته الداخلية مع شعبه وحكومته وأعوانه وأنصاره بل ومع معارضيه، بل حتى المنافقين معلومي النفاق بالوحي كان يحسن صحبتهم ويعفو عن سبابهم أو قطيعتهم صلى الله عليه وسلم. وكان خلوقاً كذلك في سياسته الخارجية مع رسل وأمراء وملوك العالم، حتى من حاربه منهم فإنه لم يخرج أبداً عن حدود اللياقة والأدب وحسن الخلق صلى الله عليه وسلم، وراجع -إذا أحببت- محاوراته صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة أمثال عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ووفود قريش المتتالية. أيضاً انظر إلى مباحثاته صلى الله عليه وسلم مع بني عامر وبني شيبان وغيرهما، وراجع بيعتي العقبة الأولى والثانية، راجع المعاهدات والمحاورات مع اليهود ومع مشركي المدينة، راجع صلح الحديبية، راجع استقباله صلى الله عليه وسلم للوفود المختلفة على مدار السنوات المتعاقبة، راجع الرسائل إلى ملوك العالم، والخطب السياسية والمكاتبات إلى العمال والأمراء، ولا نبالغ إذا قلنا: إن علينا أن نراجع حياته بكاملها لأنه ما خلت لحظة من لحظات حياته، ولا مرحلة من المراحل التي مر بها في سياسته من أخلاق رفيعة وخلال حميدة في كل المواقف. هذه كانت أخلاقه في الجانب السياسي من حياته صلى الله عليه وسلم، والكلام يستغربه سياسيو العصر الحديث ومحللو العالم ومفكروه، لكن هذا واقع رأيناه في السيرة النبوية. المجال الآخر -وهو صعب أن تجد زعيماً من زعماء العالم إلا من رحم الله عز وجل- يفلح في التحلي بالأخلاق في الجانب العسكري والواقع أن الضوابط الأخلاقية التي وضعها صلى الله عليه وسلم في حروبه من المستحيل فعلاً الإلمام بها في هذه العجالة، فهي تحتاج إلى بحث مفصل ودراسة متأنية، ويكفي أن نذكر أنه كان دائماً يجعل الحروب آخر الحلول، لم يكن أبداً -كما يشاع عنه في بعض الكتابات أو الرسوم- متعطشاً للدماء كما نرى الكثير الآن من قادة وعسكري العالم، لكن كان كثير العفو صلى الله عليه وسلم عن عدوه في حالة تسليم العدو ورضوخه، وراجعوا فتح مكة، راجعوا موقعة حنين وغيرهما، وكان يحرم صلى الله عليه وسلم الخيانة في الحرب، أو نقض العهود، أو الهجوم دون إنذار، وكان يحرم قتل النساء والأطفال وكبار السن ورجال الدين غير المحاربين، وكان يكرم الأسرى ويوصي بهم، وكان يحرم قطع النخيل والأشجار إلا بضرورة عسكرية، وكان لا يهدم الديار ولا يخرب الأراضي صلى الله عليه وسلم، كان لا يعيث في الأرض فساداً بما اعتدنا أن نراه في الحروب غير الإسلامية سواء في القديم أو الحديث، دعوة الإسلام دعوة أخلاق في المقام الأول، والذي يدرس أحداث السيرة سيجد أن هذه السمة بارزة لا تخفى على أي محلل، ولن يجهلها أي منصف، وصدق الله عز وجل عندما وصف حبيبنا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] إذاً: هذه هي السمة السادسة من السمات البارزة في السيرة النبوية.

أبدية الحرب والصراع بين الكفر والإيمان في الحياة

أبدية الحرب والصراع بين الكفر والإيمان في الحياة السمة السابعة: أن الحرب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر حرب أبدية يستحيل أن تخلو منها فترة من فترات الحياة، فالحق من وظيفته أن يقاوم الباطل، وكذلك الباطل لن يرضى أبداً أن يبقى الحق في الأرض دون مقاومة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك ذلك جيداً، وكان يجاهد الكفار بطرق مختلفة حسب المرحلة، فأحياناً يجاهد باللسان والقرآن، وأحياناً بالسلاح والسنان، قد تختلف الوسيلة ولكنه في كل الأحوال يجاهد صلى الله عليه وسلم، أحياناً يختلف العدو حسب المرحلة، لكن دائماً هناك عدو، تارة يكون الأعداء من قريش، وتارة من مشركي المدينة، وتارة من المنافقين، وتارة من الأعراب، وتارة من اليهود، وتارة من النصارى، وتارة من المجوس، يتنوع أعداء الأمة حسب المكان والزمان، لكن يغلب على صفة كل الحروب أنها حرب عقائدية تدور في محورها الرئيس حول قضية الدين، يدخل فيها أحياناً عوامل أخرى مثل الاقتصاد أو بعض الأمور الاجتماعية أو حب السلطة، لكن يظل العامل الرئيس في المعركة هو الدين، في هذا المعنى قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وهذا أمر رأيناه في كل مراحل السير، طالما أن المسلمين مستمسكون بدينهم ستظل الحرب دائرة بينهم وبين أعدائهم. كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا الصراع ليس صراعاً شخصياً معه صلى الله عليه وسلم، إنما هو صراع عقائدي سيستمر مع أصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة، لذا كان من آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى حرب الرومان، وأوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وجعل الجهاد صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، ولن يأتي زمان أبداً على الأرض يختفي فيه الشر وينتهي الباطل، أو يرضى فيه أهل الباطل عن أهل الحق فتكون حالة من الحوار فقط دون قتال. وقد وعد الله عز وجل الشيطان بالبقاء إلى يوم يبعثون، وسيظل للشيطان محاولات ومحاولات لإضلال الخلق، ولن يقبل المؤمن الصادق بهذا الإفساد في الأرض، وستبقى أيضاً محاولات الإصلاح مستمرة إلى يوم القيامة، ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة. هذا ما رأيناه في السيرة ورأيناه بعد ذلك بعد أحداث السيرة، ونراه في زماننا هذا، وسيبقى إلى يوم القيامة، سنة من سنن رب العالمين: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].

بث الأمل في المسلمين

بث الأمل في المسلمين السمة الثامنة من السمات البارزة في السيرة النبوية هي: سمة الأمل الذي كان يبثه صلى الله عليه وسلم في المسلمين في كل المواقف وبلا استثناء. إن المؤمن لا يقنط أبداً من رحمة الله عز وجل، ولا يقنط أبداً من فضله وكرمه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]. لذا فإن المؤمن مع رؤيته للظروف القاسية التي تمر بها الأمة الإسلامية لا يتأثر مطلقاً بذلك، ويعلم دائماً أن الميزان في صالحه ما دام الله عز وجل معه، من هذا المنطلق يمكننا فهم الروح المتفائلة التي كان يتصف بها المجتمع المسلم في كل مراحل السيرة النبوية حتى في أشد هذه المراحل ظلاماً، رأينا ذلك في كل سنوات مكة الصعبة، بل رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر سراقة بن مالك بسواري كسرى وهو مطارد في هجرته من مكة إلى المدينة، ورأيناه يبشر بنصر المسلمين في بدر مع كون المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ورأيناه يطمئن المسلمين بعد مصيبة أحد أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، ورأيناه يبشر المؤمنين ليس بفك الحصار عن المدينة أيام الأحزاب فقط، ولكن أيضاً بفتح فارس والشام واليمن، منهج حياة كامل رأيناه بارزاً في السيرة النبوية في كل المراحل. لم يكن هذا التبشير فقط في المواطن الصعبة أو في مواقف الأزمات، بل كان سياسة عامة انتهجها صلى الله عليه وسلم في كل أحاديثه وخطبه وحواراته وتعليقاته صلى الله عليه وسلم. يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة مما يجعل هذه البشرى وهذا الأمل منهجاً واضحاً من مناهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء أمته.

سعادة المسلمين بالمنهج الإسلامي

سعادة المسلمين بالمنهج الإسلامي السمة التاسعة من السمات البارزة في حياته صلى الله عليه وسلم هي: سعادة المسلمين بمنهجهم الإسلامي حتى في أشد حالات التعب والمعاناة. ولعلنا نفسر سبب السعادة بعد بدر والأحزاب وفتح مكة وغير ذلك من الانتصارات والإنجازات، لكن قد يتساءل أحد ممن يدرسون السيرة فيقول: هل هناك سعادة في تعذيب أهل مكة للمؤمنين؟ هل هناك سعادة في مصيبة أحد؟ هل هناك سعادة في أزمة حنين؟ الحق: أنه ليس هناك فترة من فترات السيرة النبوية إلا وتلحظ فيها لوناً من ألوان السعادة، حتى ولو كان الظاهر حزناً وألماً؛ فالمسلم الصادق يعاني ويتألم وهو يعلم أن العاقبة للمتقين، وأنه سيأتي يوم يمكن الله عز وجل فيه للإسلام ويعز فيه الدين، وهذا الأمل يبعث في نفسه الراحة والسعادة والاطمئنان، إضافة إلى سعادة المؤمن بعدم خصامه مع الكون والأرض والمخلوقات، فالكل يعبد الله عز وجل في تناسق جميل، وانسجام طبيعي. أما الكافر فهو يعيش في تناقض مع نفسه ومع الكون، الكون كله يشهد بكل ذرة فيه بعظمة الخالق ووحدانيته وحكمته، والكافر لا يقر بذلك، فأي تعاسة تكون في نفسه؟ وأي سعادة يعيش فيها المؤمن بتوافقه مع الكون في عبادة رب العالمين سبحانه وتعالى؟! والمسلم فوق ذلك ينتظر جنة في الآخرة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويعلم يقيناً أنه سيعوض يوم القيامة عن كل ظلم وقع عليه، وعن كل ألم تحمله، وعن كل هم أو غم عاش فيه، هذا التعويض المنتظر يخفف عليه كثيراً من ألمه ونصبه، حتى رأينا من يفقد حياته، ومع ذلك يقول كلمات تعبر عن منتهى السعادة، مثل حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه وهو يطعن بالحربة في ظهره فتخرج من صدره وهو يقول: فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة. سبحان الله! هذه أيضاً سعادة. وأمثلة ذلك كثيرة في السيرة النبوية، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن في باطن كل ألم سعادة؛ لأن المسلم يستشعر وقت وقوع الألم أنه قد كفر عنه جانب من خطاياه، ورفع قدره بدرجة معينة في الجنة، فانتظار المؤمن للجنة وحب المؤمن للجنة يجعله يقبل الألم، بل ويرضى به، وهذا نوع من أنواع السعادة لا تجده إلا عند المؤمنين حقيقة. كانت هذه السمة التاسعة من سمات السيرة النبوية: السعادة في كل مواقف السيرة حتى وإن كانت مواقف مؤلمة.

وضوح مهمة البلاغ في الدعوة

وضوح مهمة البلاغ في الدعوة السمة العاشرة والأخيرة هي: وضوح مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم مهمة الداعية من بعده، هذه المهمة كانت من أول يوم في البعثة إلى آخر يوم في حياته صلى الله عليه وسلم واضحة تماماً، ألا وهي البلاغ، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]. فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم ما يريد من أول أيام الدعوة، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تبليغ كل من يعرف ومن لا يعرف، واختلفت وسائل البلاغ في كل مرحلة، لكن البلاغ كان سمة عامة في كل مراحل السيرة، في أول أيام الدعوة كان البلاغ سراً وعن طريق الانتقال، واستمر ذلك ثلاث سنوات كاملة، ثم أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر على الناس، وبلغ أهل مكة جميعاً، وناداهم قبيلة قبيلة ورهطاً رهطاً، وصدوه عن دعوته وقاوموه، لكنه ما قصر صلى الله عليه وسلم في البلاغ أبداً، بل كان يذهب إليهم في اجتماعاتهم وبيوتهم، وكان لا يترك زائراً يدخل مكة إلا وحدثه عن الإسلام وبلغه إياه، وكان لا يترك وفداً أتى للحج إلا وشرح له الرسالة الإسلامية وبشره وأنذره، وكان يجد إعراضاً كثيراً وسخرية مرة، ومع ذلك ما توانى لحظة عن إيصال رسالته للناس صلى الله عليه وسلم. وفي فترة المدينة المنورة اجتهد في نشر دعوته وتبليغ الناس، ليس فقط في المدينة ولكن في كل أرجاء الجزيرة، ووصل الأمر في السنة السابعة من الهجرة إلى مكاتبة زعماء وملوك العالم لتبليغهم دعوة الإسلام، كانت المهمة واضحة تمام الوضوح في ذهنه صلى الله عليه وسلم، إنه البلاغ مهمة الرسل، ومهمة أتباعهم الذين يسيرون في طريقهم. الرسول عليه الصلاة والسلام كان متفانياً في أداء هذه المهمة النبيلة إلى درجة أنه كان يحزن حزناً شديداً يكاد يهلكه عندما لا يهتدي إنسان بكلمات القرآن، مع أن مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام هي البلاغ فقط وليست الهداية، إلى الدرجة التي رفق الله عز وجل به وأنزل آيات في مواطن عدة من القرآن الكريم تنهاه عن الحزن الشديد، قال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] وأمثال ذلك كثير في القرآن الكريم. إذاً: على المسلم الفاهم الواعي أن يلتقط هذه المهمة النبيلة ليجعلها مهمة حياته، لا يرضى أبداً بأقل منها رسالة، لا يرضى أبداً بأبسط منها قضية، هذه هي قضية المسلم في حياته بكاملها، وهذا ما فهمناه بوضوح من خلال السيرة النبوية. كانت هذه السمة العاشرة من السمات البارزة في السيرة النبوية، فتلك عشرة كاملة.

سمات أخرى في السيرة النبوية

سمات أخرى في السيرة النبوية هل هذا كل شيء أردنا أن نذكره عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ لا، فالبعض يتعجب من الحديث عن السيرة النبوية في ست وأربعين محاضرة متتالية، شملت الفترة المكية والمدنية، ويظن أن هذا يعتبر كثيراً، ولكني أقول: إن هذه بداية وليست نهاية؛ لأن السيرة النبوية فيها جوانب هائلة من المستحيل أن نحيط بها في مئات المحاضرات، ونحن أتينا على بعض الجوانب في هذه السيرة النبوية من حياته صلى الله عليه وسلم فقط. هناك جوانب أخرى كثيرة من جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى تفريغ وقت، وإلى بذل جهد لكي تدرس وتفهم؛ لذا سنحاول إعداد بعض المحاضرات الخاصة بحبيبنا صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: سنتكلم عن الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام والدولة الشاملة، والرسول عليه الصلاة والسلام وحل مشكلات العالم، والرسول عليه الصلاة والسلام وفقه المعاملات، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، والجانب الأخلاقي في التشريعات الإسلامية المختلفة، والرسول عليه الصلاة والسلام وفن امتلاك القلوب، والرسول عليه الصلاة والسلام وما تميز به عن عموم المسلمين، وخصائص حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعجزات الرسول عليه الصلاة والسلام سواء كانت القرآن الكريم أو المعجزات الحسية التي رآها معاصروه، أو الإنباء بالغيب، أو الإسراء والمعراج، إلى أشياء كثيرة جداً نحتاج أن نفصل فيها في حياة حبيبنا صلى الله عليه وسلم. بالإضافة إلى جوانب كثيرة متعلقة بخصائص حياته صلى الله عليه وسلم، مثل فن الإدارة، فن القيادة، فن التغيير، فن الخطابة، فن تربية الأطفال، وغير ذلك من فنون إبداعية تحتاج إلى تفصيل ودراسة وتعمق. هذه بعض البحوث التي سنعملها إن شاء الله في الفترات القادمة، وهي مجرد فصول من كتاب ضخم كبير يستحيل إتمامه أبداً، وسيظل الدعاة والعلماء ينهلون من هذا النبع الصافي إلى يوم القيامة.

واجباتنا تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم

واجباتنا تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم هناك وقفة مهمة بعد دراسة هذه السيرة الرائعة: لا بد أن يظهر علينا في سلوكنا وحياتنا -بل وفي اعتقادنا- أثر لهذه الدراسة، لا بد أن هناك أمانة علقت في رقابنا، لا بد أن هناك واجباً حمل علينا. في إيجاز شديد: يجب على كل مؤمن ومؤمنة بعد قراءة هذه السيرة أن يقوم بالأمور التالية، وهي واجبات في غاية الأهمية: أولاً: أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه قضية مصيرية فعلاً، وهي علامة من علامات اكتمال الإيمان، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). والذي يعرف السيرة ولا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان مجنون لا عقل له، أو منافق لا إيمان في قلبه، أو عاصٍ غمرت المعاصي قلبه، أو متكبر ينكر الحق وهو يستيقنه، كل مواقف السيرة بلا استثناء تدفع دفعاً إلى حب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وإلى تقديم حبه على أي حب آخر، وهذا من أهم أهداف دراسة السيرة النبوية. ثانياً: أن تعرفه صلى الله عليه وسلم بأن تدرس تفاصيل سيرته، فنحن تكلمنا في ست وأربعين محاضرة عن لقطات سريعة من حياته صلى الله عليه وسلم، وما أكثر ما كتب عنه وما سيكتب، وسيرته لا تنتهي عجائبها صلى الله عليه وسلم، ما أكثر من تكلم عنه صلى الله عليه وسلم من الدعاة والعلماء ومن المسلمين ومن غير المسلمين، نحتاج أن نجعل لأنفسنا يومياً ورداً ثابتاً نعرف فيه شيئاً عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، هذا الواجب الثاني: أن نعرفه صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: أن نعرف به الآخرين ممن لا يعرفونه، أو يعرفونه بصورة مشوهة مغايرة للحقيقة، وأن نحبب فيه خلق الله عز وجل، وأكثر من أوصيك بهم أولادك وأطفال المسلمين، فهؤلاء إن تربوا على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلوا إلى كل نجاح في الدنيا والآخرة، ووصلت بهم الأمة إلى أعلى الدرجات. رابعاً: أن تتبعه وتقلده صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة في حياتك. فنحن استمعنا إلى السيرة، وعرفنا منهجه صلى الله عليه وسلم، واطلعنا على سلوكه وأخلاقه، وأدركنا جهاده وصبره وكفاحه، نريد أن نسقط كل موقف من مواقفه صلى الله عليه وسلم على واقع حياتنا، نريد أن نطبق كل سنة من سننه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. واعلم أن علامة الحب الرئيسة هي الاتباع، وأن حباً بلا اتباع يعني غروراً وبطراً وجهلاً وحماقة. خامساً: أن تصدقه في كل ما قاله أو أخبر عنه صلى الله عليه وسلم. اقبل كل ما قاله صلى الله عليه وسلم دون تردد، صدق أحاديثه دون ريب، اعلم أنك قد تفتن بعقلك فترد حديثاً صحيحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو طريق الهاوية، ومنحدر الهلاك فلا تلقين أبداً بنفسك فيه. سادساً: أن تدافع عنه الحملات الشرسة التي تحاول النيل منه صلى الله عليه وسلم، وهي حملات لا تنتهي. رأينا في السيرة النبوية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً يدافعون بالغالي والثمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأينا الرجل يتمنى أن يقتل ولا يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة في قدمه، رأينا الأطفال يقاتلون الفرسان، والنساء يحملن السيوف، ورأينا الأموال تنفق، والجهود تبذل حتى يتم الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو المنهج الذي نريد أن نسير عليه في حياتنا كلها: أن ندافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ذرة في حياتنا، بكل أموالنا، بكل جهدنا، بكل فكرنا، بكل حياتنا. سابعاً: أن نشتاق إليه صلى الله عليه وسلم. والذي هو مشتاق فعلاً لإنسان يتمنى أن يقابله، وهذا في الدنيا يكون في عمرة أو حج إن كنا مستطيعين لذلك نذهب ونزوره في مسجده صلى الله عليه وسلم ونسلم عليه في قبره، وسيرد عليك السلام حتماً كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف، لكن الأهم من ذلك والأعظم: أن نشتاق إلى لقائه عند حوضه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولا يكون ذلك إلا بإيمان عميق، وبعمل صالح، وباتباع دقيق لسنته صلى الله عليه وسلم، وإلا قال لنا يوم القيامة: سحقاً، سحقاً. ونسأل الله عز وجل أن يسقينا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً. ثامناً: أن تحب آل بيته صلى الله عليه وسلم. هذا أمر هام جداً وعظيم، وللأسف فالكثير من المسلمين لا يظهر ذلك خوفاً من التشبه بمغالاة الشيعة في أمر أهل البيت، لكن الصواب أن يقف المسلم موقف الاعتدال الذي أراده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو قد أوصى بآل بيته وبحبهم، وفي نفس الوقت ربط هذه المحبة بطاعتهم لله عز وجل وعدم مخالفتهم له، هذا هو الميزان الأمثل في التعامل. يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه في صحيح مسلم: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) قالها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم، كل هذا لا يتعارض مع وجوب اتباع

اعتذار

اعتذار في النهاية بعد أن عشنا هذه اللحظات السعيدة في ظلال السيرة النبوية أحب أن أختم هذه اللحظات برسالة أوجهها بكل ذرة في كياني إلى حبيبي وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقول له: عذراً يا رسول الله، عذراً إن كنا نجهل الكثير والكثير من حياتك، فسيرتك الإحاطة بها أمر مستحيل، لكن عزاؤنا أننا نحاول ونحاول ونقرأ ونبحث ونجمع ونحفظ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، عذراً -يا رسول الله- إن كنا قد قصرنا في الكثير من سننك، فليس هذا -أبداً- تقليلاً من شأنها أو إهمالاً لقدرها، فإنا -والله- نعلم أن الخير كل الخير فيها، وأن الرحمة كل الرحمة في باطنها، ونعدك أن نأتي منها ما استطعنا كما أمرتنا، وأن ندرب أنفسنا وأزواجنا وأولادنا وإخواننا وكل أهلنا ومن وصلنا إليه من أتباعك وأحبابك، ندرب كل هؤلاء على تطبيقها واتباعها والتحلي بها. عذراً -يا رسول الله- إن كانت تمر علينا أيام فلا نذكر طرفاً من سيرتك، ولا موقفاً من مواقفك، ولا حديثاً من أحاديثك، فإنا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- قد شغلتنا أموالنا وأهلونا عن تذكر كلماتك العاطرة، وتوجيهاتك الحكيمة، ليس هذا -والله- نفاقاً ولا جحوداً، ولكن تقصير نرجو له تداركاً إن شاء الله، وخطأ نرجو له إصلاحاً، فنحن -والله- نحبك، بل نحب الثرى الذي مشيت عليه، والديار التي سكنت فيها، والبلاد التي عشت فيها، ولا نصبر على فراقك والبعد عنك، وأملنا أن نلقاك على الحوض إن شاء الله. عذراً -يا رسول الله- إن جهل عليك بعض الجاهلين من أبناء أمتك فتطاولوا عليك باعتراض، أو تهجموا عليك بشبهة، فهذا الجهل منهم لا يقلل إلا من شأنهم هم، ولا يحط إلا من قدرهم هم، وحلمك -كما نعلم- أوسع من جهلهم، وعلمك أشمل من علمهم، وما جرأهم عليك إلا سوء تربيتهم، وفساد مناهجهم، وجريهم وراء كل غربي، وفتنتهم بشركائهم من الجن والإنس، وسوف يعلمون في يوم قريب من السعيد ومن الشقي، ومن الذي يرحب به ويسقى من حوضك، ومن الذي يقال له: سحقاً سحقاً. عذراً -يا رسول الله- إن كانت أمتك الآن ليست على الصورة التي تحب، وليست في المكان الذي تريد؛ فهذه تراكمات سنين وأخطاء أجيال، لكن عزاؤنا أننا عدنا بفضل الله إلى جادة الطريق، فقامت الصحوة الإيمانية، وازدهرت الدعوة الإسلامية، وحرص الكثير من أبناء أمتك على تدارك ما فاتهم واللحاق بركب الصالحين، ولا نشك أبداً أن هذا طريق العزة لهذه الأمة، فنحن -إن شاء الله- فيه سائرون صابرون مجاهدون، وبشارتك معنا أنه لا تزال طائفة من أمتك ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، نسأل الله أن نكون منهم. وختاماً: نسأل الله عز وجل أن يشفعك فينا، وأن ييسر لنا أن نشرب من حوضك يوم القيامة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يجعلنا ممن يدخلون الجنة معك، ويرفعون إلى صحبتك، فقد بشرتنا بأن المرء يحشر مع من أحب، ونحن -والله- نحبك ونحب أصحابك وإن لم نعمل بأعمالكم. نسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، وأن يرفع لنا درجاتنا، وأن يجعلنا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، اللهم صل على محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، اللهم جازه عنا وعن المسلمين وعن العالمين خير الجزاء، وصل اللهم عليه في الأولين، وصل اللهم عليه في الآخرين، وصل اللهم عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، آمين، آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1