السيرة النبوية بين الآثار المروية والآيات القرآنية

الدبيسي، محمد بن مصطفى

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعد .. ليس الغرض من دراسة السيرة النبوية مجرد الوقوف على الوقائع التاريخية، أو سرد طرف من القصص والأحداث، شأنها شأن الاطلاع على سيرة أحد الخلفاء في الأزمنة الغابرة. إن الغرض من السيرة أن يتصور المسلم الحقيقة الإسلامية متجسدة مجموعة في حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فليست سيرته إلا تطبيق الوحى المنزل من السماء لهداية البشر في شؤنهم كافة وبالتالى يتضح لنا: 1 - أن اختيار الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذه المهمة العظمى، إنما هو اختيار للمثل الأعلى لكل شأن من شؤن الحياة الفاضلة التى أرادها الله تعالى لسعادة البشر، ومما لا شك فيه حينئذ أن الانسان إذا أراد البحث عن مثل أعلى في كل ناحية يطلبها من نواحى حياته، الروحية والمادية، النفسية والبدنية فإنه سيجد ذلك بشكل تام الوضوح متناسب الاركان وفي أعلى الكمالات في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي ذلك يمن الله تعالى على الناس فيقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. 2 - إن تأمل ما سبق يدل دلالة واضحة على صدق نبوته، وصحة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ دراسة سيرته تبين بجلاء أن ذلك المثل الأعلى فعلاً وقولاً ظاهراً وباطناً هو الرسول محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

وأن وفاء سيرته بهذا المثل الأعلى بكل هذه التفصيلات، الدقيقة لحياته لم تكن لأحد من قبل ممن أوتوا النبوة، فضلاً عن أدعيائها من قبل ومن بعد. 3 - إن فهم شيء عن شخصية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه النظرة لابد أن يكون من منظور النبوة لا من أي منظور آخر، إذ لن يفسر كثيراً، بل كل أحواله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا كونه موصولاً بالسماء مؤيداً بالوحى. 4 - دراسة سيره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزاد الذى به يفهم القرآن الكريم وتتجلى معانيه تجلية حقيقية كصورة صادقة لمقصود الشارع، فيكون لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذج حى عن طرائق التربية والتعليم والنصح ولإرشاد كل ذلك هداية للافراد والجماعات ليكونوا أعضاء فعالين ناجحين في المجتمع الصالح، فسيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقدم لنا نموذج الشاب المستقيم في سلوكه، والنموذج الرائع للداعية إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الباذل منتهى الطاقة في سبيل ابلاغ سالتة، ولرئيس الدولة الذى يسوى الأمور بعدل ورحمة وحذق الدقيق بين الحقوق والواجبات في أسرته، وللقائد الحربى والسياسى المحنك الصادق والمتعبد المتبتل في دقة وعدل، والمعاشر لأهله وصحبه بحسن العشرة والمصاحبه. (¬1) أهمية البحث: علاوة على ما تقدم من أهمية السيرة النبوية، جاءت هذه الرسالة لتضيف أهمية سيرته في القرآن الكريم، لأنه كان خلقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن (¬2)، فكان بحث السيرة في القرآن مما يضيف جديداً للبحث العلمى في هذا الباب من ناحيتين: ¬

(¬1) د. البوطى، فقه السيرة (18). (¬2) رواه مسلم (746)، مطولاً من حديث قتاده - رضي الله عنه -.

الأولى: المقارنة بين ما نزل من القرآن ووقع في السيرة النبوية وهو طراز جديد من الكتابة يبين مراد القرآن الكريم من القصص والعبر المأخوذة منه والحكم والفهم عن الله والتحذير وغيره مما جاء به القرآن الكريم ليفيد المسلمين مطلوب الهداية من سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليميز للمؤمنين المتقين مراد الله وحكمته وموعظته وشرعه إلى آخر ما أشرنا إلى شيء منه مع المقارنة بقصص الانبياء السابقين وشيء من سيرتهم ليحذر المشركين من سوء عاقبة ما هم فيه، ويبشر المؤمنين بنصر الله إلى كثير مما دق أو جل مما جاء في القرآن الكريم. الثانية: المقارنة بين ما جاء في القرآن عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن الأنبياء عليهم السلام مما يوضح أم مشكاة النبوة واحدة، ويبرهن على ما ادخر الله من فضل لهذه الأمة، وعلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد ولد آدم ولا فخر. وإن ما نزل بالمسلمين اليوم - وعلى رأسه - مهاجمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعناً في دينه ورسالته استمرار الغزو الفكرى لبلاد الإسلام، ليعطى أهمية أخرى للرد على المستشرقين الذين أسسوا فكرهم على هذا السوء وذلك البهتان، وكان اختيار الأستاذ الدكتور المشرف لمونتجمرى وات للرد عليه من أصوب الاختيارات وأدقها، لأن وات يتقمص المذهب المؤدب المتسربل بالعلمية والحياد والنزاهة، وهو أخطرهم جميعاً فهو محصلة السابقين، وأسوة المتأخرين لذلك كان الرد عليه وإظهار حقيقته، في الحقيقة رد على الأولين منهم والآخرين فكان مما شمله هذا البحث هو الرد على وات وإظهار وجه السيرة الناصع مما أثاره عليه وات من غبار ومن ورائه طابور المستشرقين جمعياً. وكانت محبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشرف الانتماء إلى دينه القويم من وراء ذلك كله هي الأهمية الحادية على وضع هذه اللبنة فخاراً بالدفاع عنه، وإن كان دفاع أمثالنا وعدمه سواء فمن نحن لندفع عمن كان بفضله سبحانه سبب الدفع عنا، وسبب سعادتنا في الدنيا والأخرة.

منهجى في البحث: أحاطت بالبحث مناهج عدة: أولها: منهج كتابة السيرة. وقد اعتمدت منهج المحدثين إذ هو أدقها في تصحيح الوقائع وتضعيفها بما لم يصل إليه منهج آخر، وما ورد من وقائع وأحداث تاريخية في غير العقيدة والتشريع أخذت بها على طريقة المؤرخين غير متشدد فيها. الثاني: منهج التفسير. وكان أهمها وهو المنهج الذى وضعت لبنتة الأولى في رسالة الماجستير، وهو منهج التفسير الموضوعى فهو المحيط المتتبع للموضوع في القرآن الكريم كما بينت ذلك نظرياً وتطبيقياً مما يلم بالموضوع ويظهر جماليات النصوص وعلو بلاغتها المؤدى في كثير إلى بيان حد الإعجاز علاوة على المقارنة والدراسة النصية والتحليلية. وكذلك التفسير بالمأثور لإثبات هذه القائع والسير، مع التفسير بالرأى الصحيح عامة. الثالث: المنهج المقارن. وقد خصصت منه ما يتعلق بالموضوع الواحد بمقارنة النصوص الواردة فيه. الرابع: المنهج النقدى المنبنى على دراسة النص في ذاته ثم مقارنته ببقية النصوص، وقد استخدمت ذلك مع وات وغيره لتصحيح الصحيح وإظهاره وتزيين الباطل ودحضه. لقد كان لتعدد منهج البحث بهذه الطريقة صعوبة الإحاطة بجزء ولو يسير في كتابة السيرة، ولكن لما ذكرنا من أهمية البحث، كانت محاولة الباحث القيام بهذا الجزء لإيضاح السيرة بهذه الطريقة، لعلها تكون لبنة متواضعة يرجى البناء عليها لتكون السيرة هي الموسوعة الشاملة لكل ما يتعلق بأحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخلاقه ومعاملاته وصفاته وهدايته لأمته.

إن هذا لأمل نرجو للمخلصين القيام به، وقد وقف البحث في أبوابه عند حدود ولم يستكملها نظرا للطول الشديد مع الاختصار لو استكمل شيئاً من ذلك، وهو مما يؤسف له ويحزن عليه، ولعل الله أن يبارك في الجهد والعمر لتكملة ما يمكن إكماله من هذا البحث. قسمت البحث إلى مدخل وثلاثة أبواب وخاتمة: الباب الأول: سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القرآن الكريم ويشتمل على ثلاثة فصول: - الفصل الأول: ثناء الله تعالى عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - الفصل الثاني: حقوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - الفصل الثالث: عصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الباب الثاني: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة ويشتمل على ثلاثة فصول: - الفصل الأول: من المولد إلى البعثة. - الفصل الثاني: البشارات بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إرهاصاً بنبوته. - الفصل الثالث: بدء الوحى. الباب الثالث: العهد المدنى. - الفصل الأول: أسس بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في المدينة. - الفصل الثاني: غزوة بدر الكبرى.

وكان من فضل الله علىَّ التوفيق لأن يكون المشرف على الرسالة الأستاذ الدكتور/ عفت الشرقاوى، وهو من هو علماً وخلقاً خاصة، فكان الراعى لهذا البحث حتى خرج في ثوبه هذا، مع التكريم بوقته وجهده، ولم يبخل علىَّ بحسن توجيه ودقة ترتيب وزيادة مهمة تفيد البحث وتجعل له قيمة من الناحية العلمية، مع سعة صدره وصبره على فيما أنا فيه من أمراض وعلل، فالله يتولى جزاءه وحسن مثوبته على ما قدم من علم وبذل من جهد. وفي النهاية ذلك جهد المقل، وبضاعتى المزجاة في خدمة الدين والذب عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أرجو أن تكون في محل القبول عند الله قبل الناس، وأن يعفو عنى في تقصيرى وما بدر منى. الباحث

الباب الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

الباب الأول سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القرآن الكريم

تمهيد يقدم الباحث في هذا الجزء من الرسالة دراسة ما يتعلق بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القرآن الكريم، فهو أصدق وصف له عليه الصلاة والسلام وأدقه وأجمله وأشمله، ثم إنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه خاصة أنه نزل على قوم شاهدوا تلك الأوصاف، وعاينوا تلك الأخلاق وعاشروا صاحب هذه السمات، وكان لهم مع عداوتهم له أن يردوا ذلك، أو يشككوا فيه إذ كان ذلك أسهل في رد الدعوة وإبطالها من القتال والقتل، وما ورد عن هؤلاء حينما كانوا أعداء كفرة إلا التسليم بتلك الصفات، والإذعان لهذه الأخلاق، وذلك صريح الإعلان بتصديق القرآن، والتسليم له بهذه الأوصاف، وسنشير بإذن الله تعالى إلى تفصيل تلك الآيات، تفسيرها وما يتعلق بذلك. وطريقتنا في البحث - كما قدمنا - هو عرض النصوص، ودراستها دراسة نصية ومقارنتها ببعضها، واستخلاص النتائج، مع التحليل وإظهار جمالياتها، بلاغةً ولغةً، مع مراعاة المكى والمدنى منها، والترتيب التاريخى لها، وكلها ترد على المستشرقين أصحاب الادعاءات الكاذبة من مثل العلمية، والإنصاف، والحياد، حيث لم تصمد هذه الدعاوى أمام أي نقد نزيها كان أم غير نزية للأسف، فليس ثَمَّ إلا التعصب. وباستقراء آيات القرآن الكريم، والاستعانة بكلام العلماء في تتبع ما جاء في القرآن الكريم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجدناه ينقسم إلى أقسام كثيرة، اخترنا منها ثلاثة أقسام تدل على ما وراءها وتوفي بالغرض، وتغطي جوانب الموضوع، وتركنا الباقى - مع أهميته - اختصاراً، وهي:

الأول: في ثناء الله تعالى عليه، وإظهار عظيم قدره عند ربه وما خصه به من كرامته في الدارين (¬1)، مع تكميل المحاسن له خَلْقاً وخُلُقاً، وما أظهره عليه من الكرامات، وشَرَّفَه به من الخصائص. الثاني: حقوقه التي فرضها الله على عباده من لزوم الإيمان به ومحبته ووجوب طاعته واتباع سنته، وتوقيره وبرِّه، وتعظيم أمره، والصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثالث: عصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمور الدينية، وما يجوز أن يطرأ عليه من الأعراض البشرية، مع العرض والرد لما يوهم مخالفة ذلك للقرآن الكريم. ¬

(¬1) ومما ورد في ذلك: مواساته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتخفيف عنه، وتولى الدفاع عن شخصه الكريم، وتصبيره، وحمله على أحاسن الأخلاق.

الفصل الأول ثناء الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم

الفصل الأول ثناء الله تعالى عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المبحث الأول {وإنك لعلى خلق عظيم}

المبحث الأول {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ونبدأ بدراسة القسم الأول، وأول آية تصادفنا فيه من ثناء الله تعالى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتبين رفيع منزلته، وعلو قدره، هي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. وقدمنا بها الكلام لأنها نزلت في أول ما نزل من القرآن الكريم إذ هي قد نزلت بعد قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} حيث قررنا من قبل أننا سنراعي الترتيب الزمني في ذلك؛ لأن الدراسة بالأصالة في سيرته، وتلك كالمقدمة بالتعريف لصاحب السيرة عليه الصلاة والسلام. وعلى أية حال ننظر في الآية الكريمة لنحللها، ونبدأ بها هذا القسم. وأول ما يلاحظه الباحث في هذه الآية الكريمة أنَّ الله - سبحانه وتعالى - اصطفى سيدنا محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتَحَمُّل الرسالة والنبوة وهو في غاية الخُلُق وأعلاه، بل وهو على عظيم الخُلُق وأجَلِّه، وهو دليل على حيازة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للكمالات النفسية كافة قبل البعثة، مما يدلّ على عناية الله تعالى المتقدمة بنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومبعوثه إلى الخلق، وهو ما يميز ويوضح لعموم الخلق صدق النبوة وصحَّة الرسالة، إذ كيف يتأتى لأحدٍ من العرب لا يزيد عليهم في شيء، بل هو ابن بيئتهم بثقافتها، وعلمها وغيره، أن يكون على هذه الحال الذي لم يبلغ شأوه أحد، ولن يبلغه أحد، بل إن الفارق بين شأوه وبين جميع الناس كالفارق بين السماء والأرض.

والعجيب أنَّه لم يمار أحد ممن عادوه وقاتلوه في هذه الأخلاق، وكانوا يناشدونه بتلك الأخلاق العالية أن يعفو عنهم، وقد لقَّبوه بالصادق الأمين (¬1). وما كانت هذه الأخلاق، وهذه العناية لتوحد إلا لأننا في معرض أخطر أمر، وهو أمر النبوة والرسالة، إذ ما كان لأحدٍ أن يردَّها أو يدفعها، أو يشكك فيه فيقضي على الرسالة في مهدها بتكذيب الله أن يكون ذلك رسوله. وأمر آخر، وهو أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو القدوة لهؤلاء المدعوين إلى الله تعالى، وكذلك الدعاة إليه، فكيف يكون فيه ما يشينه ويردّ دعوته بإظهار النقص والعيب فيها، إن ذلك قدح في المرسل سبحانه - وهذا ما يستحيل صدوره. وقد رأينا التحدي في دعوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى آخر لحظة من حياته الشريفة والعجز عن مواجهته، فكيف يكون في أول دعوته ما يبطلها؟ وقد بُدئ وصفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بداية البعثة بهذا الوصف بالذات؛ لأنه الدليل إلى ما بعده من الأوصاف، وهو البرهان الساطع على صدق ما سيلقيه عليهم بعد ذلك من توحيد، وعبادات ومعاملات وغيره، وعلى أن ذلك حق لا مرية فيه، صحيح لا شية فيه؛ لأن الناقل له، المبلغ به هو صاحب الخلق العظيم في هذه الحياة الدنيا، فكيف يقول كذباً، أو يتقول على الله تعالى ما لم يقله؟ وذلك يدل على صحة كل ما صدر عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويؤيده قوله فيما نزل بعد ذلك في سورة النجم: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] كما سنبينه في حينه إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) وردت تسميته بالأمين في حديث تحكيمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحجر الأسود، قالوا: "هذا الأمين رضينا، هذا محمد" (ابن هشام 1/ 197). وورد تسميته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصادق في حديث إسلام حمزة رضي الله عنه الذي رواه ابن أسماء "أشهد أنك الصادق" (السيرة النبوية لابن كثير 1/ 446)، وفي غير ذلك.

وثمة أمر آخر وهو أنَّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء ليدعو الناس جميعًا إلى التزام أحاسن الأخلاق، والاتصاف بها، كما قال: (إِنَّمَا بُعِتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأخلاق). (¬1) وبالتالي لابد أن يكون أعلى الناس جميعًا خُلُقاً، لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، وإن كان مثلهم فلأي شيءٍ يدعوهم؟ ولذا وجدناه من أول بعثته أعظم الناس خُلُقًا، فلما وصفه ربُّه بذلك من حين ابتعثه، كان ذلك متسقًا تمام الاتساق مع دعوة الله تعالى الناس إلى توحيده ومعرفته، وعبادته، وإلى كل جميل من الأقوال، والأفعال في الظاهر والباطن. وللأستاذ سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن" (¬2) كلام جميل نذكره ملخصًا، يقول: ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}. وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربِّ الوجود، وهي شهادة من الله، وفي ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}، ومدلول الخلق العظيم هو ما عند الله مما لا يبلغ مداه أحد من العالمين. ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبرز من نواحٍ شتى: تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعالي، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله. ¬

(¬1) الحديث صحيح رواه البخاري "في الأدب المفرد" (273)، وابن سعد " في الطبقات" (1/ 192) والحاكم (2/ 613)، وأحمد (2/ 318)، عن أبي هريرة مرفوعًا. (¬2) انظر سيد قطب "في ظلال القرآن" دار الشروق الطبعة العاشرة 1401 هـ - 1981 م. تفسير سورة القلم (7/ 290).

وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتلقيها وهو يعلم مَنْ ربَّه هذا، قائل هذه الكلمة؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التى يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين. إن إطاقة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتلقى هذه الكلمة من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - مع أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل. ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روى عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر، أعظم بصدورها عن العلى الكبير، وأعلم بتلقى محمد لها وهو يعلم من هو العلى الكبير، وبقائه بعدها راسخاً ثابتاً مطمئناً، لا يتَكَبَّر على العباد، ولا ينفتح، ولا يتعاظم. لقد كان - وهو بشر - يُثني على أحد أصحابه، فيهتز كيان صاحبه هذا من وقع هذا الثناء العظيم، وهو بشر ويعلم أصحابه أنه بشر، فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله، وهو يعلم من هو الله، ثم يتماسك ويصطبر ويتلقى ويسير إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير. وما كان إلا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى فيكون كفؤاً لها كما يكون صورة حية منها. إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يُثني عليه الله هذا الثناء فتطيقه شخصيته، ثم يتلقى بعد ذلك عتاب ربه له بذات التماسك، وذات الطمأنينة، ويعلن ذلك كما يعلن تلك لا يكتم من هذه شيئًا، ولا تلك، وهو في كلتا الحالتين النبي الكريم، والعبد الطائع والمُبَلِّغ الأمين.

إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأُفُق من العظمة، هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان، إنه محمد - وحده - الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام. والله أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم، وأعلن في الأخرى أنه - جلَّ شأنه، وتقدست ذاته وصفاته، يصلي عليه هو وملائكته: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، وهو - جلَّ شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدًا من عباده ذلك الفضل العظيم. انتهى تلخيصا لكلام المؤلف. (¬1) وأما عند تحليل الآية الكريمة: فأول ما يطالعه الباحث في ذلك هو العطف (¬2)، وهو عطف جملة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} على قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وهو جواب القسم، أي إنَّ قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ ....} مُقسَم عليه من الله جلَّ وعلا - وإن كان سبحانه لا يحتاج لقسمٍ لإثبات كلامه - وإنَّما ذلك لتبيين أهمية المُقسَم عليه وصدقه، وعلو شأنه، وأنه مفروغ منه، ولا يتطرق إليه الاحتمال، أو يمسُّه الشك. والقَسَم هنا يجري على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى بما شاء من عظيم خلقه الدالة على آثار صفاته وجلاله. ¬

(¬1) انظر سيد قطب "في ظلال القرآن" تفسير سورة القلم (7/ 290). (¬2) انظر محي الدين الدرويش "إعراب القرآن الكريم" (164/ 10) الطبعة الخامسة دار ابن كثير 1417 هـ 1997 م.

والقلم هو الوارد في قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 4 - 5]، لأنه الظاهر الذي يقتضيه حال أهل الكتاب، وعند من يعرف الكتابة من العرب، وهو المناسب لقوله تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، وقد أقسم به لشرفه بأنه يكتب به القرآن، وكُتِبَت به الكتب المقدسة، وتُكْتَب به كتب التربية والأخلاق والعلوم، وكل ذلك له حظ شرف عند الله تعالى. (¬1) هذا على التعريف المرجح في تعريف القلم، وقيل أيضًا ما يُكَنَّى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة، والتي ستكون (¬2). وأما قوله تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] فالمقسم به الثاني، فالآيات فيها أمران مقسم بهما؛ وهما القلم وما يسطرون، والمقسم عليه ثلاثة، وهي نفي الجنون عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإثبات الأجر والثواب له، والثالث كونه على خلق عظيم. ونعود إلى قوله تعالى: {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، ومعناه السطور المكتوبة بالقلم، فإذا كانت {مَا} موصولة صار المعنى: أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية والمعنى: وسطرهم الكتابة سطورًا. ويجوز أن يكون القسم بالأقلام التي يكتب بها الوحي وبالمكتوب والموحى به، ويكون القسم حينئذ بالقرآن نفسه على أن القرآن ما هو بكلام مجنون، وذلك كقوله تعالى: ¬

(¬1) ومن فوائد هذا القسم أنَّ هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنَّه سيكون مكتوبًا مقروءًا بين المسلمين، ولهذا كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر أصحابه بكتابة هذا الوحي. وتعريف القلم هنا للجنس. انظر التحرير والتنوير (20/ 60)، للطاهر بن عاشور. (¬2) انظر السابق.

{وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 2 - 3] فهو قسم بالقرآن على القرآن، وهو من بديع القسم، إذ القرآن هو الدليل والمدلول عليه في نفس الوقت، وهو قضية سنعود إلى توضيحها إن شاء الله في حينها. وضمير {يَسْطُرُونَ} راجع إلى غير مذكور، وهو معلوم للسامعين، فكأنه قال: ن والقلم المكتوب، أي والمسطور، وهو نظير قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} [الطور: 2 - 3]، لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون، والمقصود هو المكتوب، فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول، ومن فسر التفسير الثاني للقلم جعل ضمير {يَسْطُرُونَ} عائدًا إلى الملائكة في كتاباتهم ما يلقي إليهم من الله تعالى لتنفيذه، بضبط الكاتب بغير زيادة ولا نقصان. كل ما سبق يبين ويوضح قيمة الآتي من الكلام، وعظمة معناه، واستقراره وثبوته؛ لأنه لا خُلْف لكلام الله تعالى، فضلاً عن قَسَمِه، ومن ثَمَّ أطلنا شيئًا ما لنبرز تلك الدرجة العليا التي تظهر نبوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدقها، ومدى صحة الرسالة وأنها وحيٌ من الله تعالى، ولا يمكن أن يكون إلا ذلك. (¬1) وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أنَّ باعث الطاعنين على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واللامزين له بالجنون، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب، فكان هذا من أقوى التحدي لهم ¬

(¬1) لأنَّ هذا الكلام إما أن يكون مصدره محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو المكذبين من الكفار وأهل الكتاب وأهل الأرض جميعًا، أو أن يكون مصدرًا آخر. ولا يمكن أن يكون بالعقل هو كلام الكفار، وكذلك لا يمكن أن يكون من كلام محمد، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يزيد في علمه عن علوم بيئته، وكذا في لغته وثقافته، وبدراسة هذا الكلام نجده مبايناً لكلامه، وأعلى في بلاغته وبيانه وعلومه عن بيئته بما لا مجال للمقارنة فيه حتى سجد له أساطين اللغة حينئذ. (علاوة على أن دراسة النص لها موضع آخر) فكان هذا الكلام كلام قوة عليا عليمة محيطة أعلى من كل شيء، ولا يحيط بها شيء، فَدُلُّونَا على قادر عليم، ادعى أنَّ هذا كلامه، غير الله جلَّ وعلا.

على صدق النبوة، وبرهانًا ساطعًا على الرسالة، لأن ما رموه بسببه من الجنون هو ذاته ما أقسم به دليلاً لصدقه، وحجة لمدَّعاه. إنَّ الأدلة المقطوعة على هذا النحو لهي إعجاز في نفسها وتعجيز للخصم بحيث لا يستطيع ردًا ولا دحضًا. ونأتي إلى جواب القسم لنحلل آياته، ولنرى فيه قيمة المقسم عليه، وما فيه من إثبات الكمالات للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونفي النقص عنه، وذلك في الدنيا، مع عظيم الأجر والثواب في الآخرة. والمقسم عليه ثلاثة كما ذكرنا آنفاً: أولها: نفي الجنون عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمقصود من نفي الجنون إثبات النبوة للنبي - عليه الصلاة والسلام - لأنَّ المشركين قصدوا بإلحاق الجنون به وإثباته له نفي النبوة عنه، فلما أقسم المولى سبحانه على نفي الجنون فذلك إنما كان لإثبات ما قصد المشركون نفيه، فثبتت له النبوة. وكان ذلك تسليةً أيضًا من الله تعالى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لئلا يحزنه هذا القول، وتسرية عنه لما لاقاه من أذى بحمله دعوة الحق، إذ كان يظن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه بدعوتهم إلى هذا الخير سيسرعون لتصديقه، وتأييده، والإيمان به، خاصة وأنه غير متهم عندهم، بل هو الصادق الأمين لديهم من قبل ومن بعد. وأما رميهم له بالجنون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو ما ذكره القرآن الكريم عنهم في نفس السورة حيث شافهوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به فيقول القرآن الكريم: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)} [القلم: 51]. وقد أكدوا قولهم هذا بحرف {وَإِنْ} ولام الابتداء {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)} فأُجيب على قولهم بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه أولاً، وجيء بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ثانيًا، وثالثًا بالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة

الاسمية على ثبات الخبر وهكذا كل ما ورد فيه نفى صفه الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)} وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه (¬1). وقد أكد القرآن أن نفي الجنون عنه أنه بسبب نعمة الله تعالى عليه، أو لتلبسه بنعمة الله جلَّ وعلا، فكيف يكون مجنوناً من هو محاط بنعمة الله متدثراً بها، فهى عليه كاللباس مشتملاً بها. وهو ما يدل في محاجة المشركين على أنّ هذه النعم كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة، والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، فوجودها تنافي الجنون وحصوله، وقد نبه الله تعالى على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له إنه لمجنون (¬2). يقول العلامة أبو السعود في "إرشاد العقل السليم" في ذكر قوله: {رَبِّكَ} حيث أظهر وصف الربوبية، وأضافها إلى النبي - عليه السلام والصلاة - أنه يدل على عظمة قيمة ¬

(¬1) انظر الطاهر ابن عاشور " التحرير والتنوير" (29/ 62)، الدار التونسية للنشر، بغير سنة الطبع، والزلة التى يشير إليها للزمخشرى في تفسيره لسورة التكوير حيث استدل بهذه الآية على علو مقام جبريل - عليه السلام - على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا من عقائد المعتزلة ودسائسها. (¬2) انظر الفخر الرازي " التفسير الكبير" (15/ 648)، وأبا حيان "البحر المحيط" (10/ 235) دار الفكر 1412 هـ 1992 م، وابن عطية "المحرر الوجيز" (5/ 236)، وقد ذكر بعض المفسرين كأبي السعود أن النعمة هي النبوة والرياسة العامة وهذه يجادل فيها المشركون وينكرونها، وأما ما ذكرنا فهو المناسب لرد الجنون المزعوم. انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (5/ 752) طبعة دار الفكر، والألوسي "روح المعاني" (16/ 41) المكتبة التجارية.

هذه النعمة، وعلى تشريف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه الإضافة، وهذا نص كلامه: "والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه، والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه، ويبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءها، والمراد تنزيهه عليه الصلاة والسلام عما كانوا ينسبونه إليه حسدًا وعداوة، ومكابرة، مع جزمهم بأنه عليه الصلاة والسلام في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الناهية من حصانة العقل ورزانة الرأي" (¬1). بعد أن نَزَّه الله تعالى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن قول المشركين ودفع عنه بهتان أعدائه، وثَبَّته على دعوته، وصبَّره وسلاه، وبَيَّن نعمته عليه، وعظيم درجته عنده، أعقب ذلك كله بإكرامه بأجر غير ممنون، وهو الجواب الثاني للقسم الذي ذكرنا، وهو أنه أقسم له - سبحانه - بأن له أجرًا غير ممنون، وما يقسم إلا على عظيم، وهو ذلك الأجر الذي بشره به، وهو أجر عام يشمل أجر الدنيا، وأجر الآخرة جراء ما لقيه من أذى المشركين، وأن دعوته وتحمله وصبره سوف يرى نتيجته وعاقبته بعينه في الدنيا، ويوم يقوم الناس لرب العالمين، وذلك ما حدث من عناية الله به في الدنيا ونصره على أولئك المكذبين ¬

(¬1) العلامة أبو السعود "إرشاد العقل السليم" (5/ 752). وللعلماء والمفسرين أخذ ورد طويل في التوجيه الإعرابي لهذه الجملة (يراجع للتوسع بما ذكرنا من المصادر) وحاصله في قوله {بنعمة ربك} أنه - جعله الزمخشري في الكشاف - حالاً من الضمير الذي في مجنون المنفي، وتبعه عليه معظم المفسرين، ويكون التقدير، انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك. والباء للملابسة أو السببية وقد اعترض أبو حيان كلام الزمخشري، وبين وجه الاعتراض. يراجع ذلك كله في "إعراب القرآن" لمحي الدين الدرويش، و "روح المعاني" للألوسي (16/ 41)، و"والتحرير والتنوير" للطاهر بن عاشور (29/ 62)، "والبحر المحيط" لأبي حيان (10/ 235) وغيرها. قدم هذا فيما سبق.

والمستهزئين وغيرهم، ورفع رايته في الأرض، والتمكين لدين الله تعالى، مع ثواب الآخرة الدائم الذي لا ينقطع ولا يبيد. وقد أكد هذا الثواب بـ {إِنَّ}، وبلام الابتداء وبتقديم المجرور في قوله {لَكَ}، وهو برهان جسامة هذا الأجر، وضخامته ووصوله إلى مرتبة لم يصل إليها أحد، دليل ذلك قوله {لَكَ} التي تفيد الاختصاص، بمعنى أنَّ هذا الأجر لك لا لغيرك، لم يحزه غيرك كائنًا من كان، فيدل ذلك على علو مرتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولما صح ووقع ذلك في الدنيا كان عنوانًا من عناوين صحة النبوة، وصدق الرسالة، فمن من المرسلين أو غيرهم رفعت رابته وانتشر دينه، ودام قوله، واستمرت تعاليمه على نحو ما كان له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ما حدث من مجابهة وحروب لم يعلمها على الحقيقة والتفصيل إلا الله جلَّ شأنه. ودلَّ كذلك أنه سيد ولد آدم يوم القيامة إذ هو أعلاهم وأعظمهم، فهو أعلاهم منزلة، صاحب الوسيلة التي لا تنبغي إلا لأحد من خلق الله، هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيمة هذا الأجر وبقاؤه يوضحه قوله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} لا منَّ فيه: أي لا أذى فيه من المعطي للمعطَى له، من تعديده عليه، أو افتخاره به، وذكره له كما قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] ويجوز أن يكون {مَمْنُونٍ} غير مقطوع عنه، وهو الثواب المتزايد كل يوم، أو الأجر الأبدي الذي لا يفنى، فكانت كلمة {مَمْنُونٍ} لها من الإيجاز بجمع هذين المعنيين ما ليس لقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 108] في سورة هود، وهو هنا مناسب لتكريم (¬1) النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولتبيان أعظم ما له من الثواب عند الله تعالى، فهو لا يصل إليه أحد فضلاً عن أن يدانيه، إذ هو له خاصة لا يشركه فيه غيره، ولا أذى ¬

(¬1) انظر ابن عاشور "التحرير والتنوير" (29/ 63).

فيه، مع تزايده وأبديته فكان ذلك تأنيسًا وتثبيتًا لقلب الرسول مع البشرى والوعد الجميل بما لا مزيد عليه. وبعد أن آنس نفس رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الوعد، جاء المقسم عليه الثالث، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] فسفَّه رأي أعدائه بقولهم مجنون، ودفعه بما يذهبه ويبطله مما يعلمه قومه، فحقق أنه متلبس بخلق عظيم، وذلك ضد الجنون، وقد أكد بمؤكدين بحرف {إِنَّ} وبلام الابتداء أي أنه كلام لا يدع مجالاً لشك أو تردد، وكأنه يؤكد الواقع الذي لا يمارون فيه، ولا يكذبون به (¬1). والخلق: طباع النفس وعاداتها وسجاياها، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذ لم يُتْبع ينعت. والعظيم: الرفيع القدر، وهو مستعار من ضخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة. و {عَلَى} للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]، ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]. والخلق العظيم هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق، وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان، لذلك فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن، فلاجتماع مكارم ¬

(¬1) وقد يقول قائل: بل قد ورد قول المنكرين له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه ساحر كذاب وغيرها، والرد أنه يكفي أن القرآن الكريم ذكر بنفسه هذه الافتراءات ولم يخف شيئًا منها؛ لأنه لا يأبه بها إذ لا يخشى شيئًا من ذكرها، مما يدل على أنها على غير الحقيقة، وأنها مما لا يخيف الواثق من نفسه، فضلاً عن أن تهزه أو تزلزله. ثم إن القرآن الكريم قد جابههم بالرد فلم ينكروه كقوله تعالى: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.

الأخلاق إذاً في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو أحسن الخلق معاملة للناس على مختلف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة. ولاجتماع هذه الأخلاق فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأينا السيدة عائشة - رضي الله عنها - تقول: كان خلق نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن (¬1)، أي هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن مكارم الأخلاق، ويشمل كذلك ما وصف به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نحو قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وغير ذلك من آيات القرآن الكريم. وأيضًا ما أخذ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (¬2) فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم. وإذا كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو صاحب الخلق العظيم، وأن الخلق العظيم هذا هو أدب الوحي الذي نزل عليه، فإن ذلك يدل على أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو المظهر الأكبر لهذا الخلق، ومن ثم أمره الله تعالى أن يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 163] حيث صار بعد أمر ربه بقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] أول وأعظم المتبعين لها والمتخلقين بأخلاقها. والأمر المهم الآخر في هذا الكلام أن الشريعة هذه أيضًا متمكنة تمام التمكن من عظيم الأخلاق، مرتبطة به أشد الارتباط، فكانت هي الأخرى المظهر الأجلّ الأعظم ¬

(¬1) رواه مسلم [صلاة المسافر] (139) عن قتادة - رضي الله عنه -. (¬2) سبق تخريجه (6).

لمكارم الأخلاق وفضائلها، وبهذا يزداد وضوحاً معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] فهو متمكن من الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية (¬1). ويؤكد سيد قطب أن تلك الأخلاق مربوطة بالسماء وليس العرف أو المصلحة إذ ذاك في الأرض هو الذي يحددها أو ينشئها فيقول: "لقد لخص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسالته في هذا الهدف النبيل، وهو أنَّه بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ومن ثمَّ كانت سيرته الشخصية مثالاً حيَّا، وصفحة نقية وصورة رفيعة، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] " فيُمجِّد بهذا الثناء نبيه، كما يُمجِّد به العنصر الأخلاقي في منهجه، ويشد به الأرض إلى السماء، ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يُحب ويَرضى من الخلق القويم. هذا الاعتبار هو الاعتبار الفذّ في أخلاقية الإسلام، فهي لم تنبع من البيئة، ولا اعتبارات أرضية إطلاقًا ولا تستمد، ولا تعتمد على ما كان قائمًا من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات، إنما تُستمد من السماء، وتعتمد على السماء، تُستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا وكي يصبحوا أهلاً لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض، وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى بجوار الله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 55]. وهذه الأخلاق ليست فضائل مفردة: صدق، وأمانة، وعدل ... إنما هي منهج متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشريعة التنظيمية، وتقوم عليه فكرة الحياة كلها ¬

(¬1) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (15/ 649)، أبا حيان "البحر المحيط" (10/ 236)، الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (29/ 64).

واتجاهاتها جميعاً، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة.» (¬1) تعريف الأخلاق عند الفلاسفة: وتجدر الإشارة هنا إلى ذكر شيء مما قاله الحكماء والفلاسفة من المسلمين ومن غيرهم في تعريف الأخلاق، لنرى مدى ارتباط هذه الأخلاق ارتباطاً وثيقاً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومدى تحققها فيه إلى أقصى غاية ممكنة، وبالتالي من حيث شعروا أو لم يشعروا، نرى مدى بناء هذه الشريعة على تلك الأخلاق وتأسيسها عليها، وفي ذات الوقت يكون ردًا على هؤلاء المستشرقين الذين عاثوا فساداً في دين الإسلام، وأخلاق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نقل أسعد الحمراني عن "معجم لاروس" بأن الأخلاق: "هي علم تحديد معايير وقواعد السلوك، أو هي علم التعرف على الحقوق والواجبات" (¬2). وذكر الحمراني أيضاً أن علم الأخلاق: "هو جملة القواعد والأسس التي يعرف بواسطتها الإنسان معيار الخير في سلوك ما، أو مدى الفساد والشر المتمثل في سلوك آخر (¬3). وإن كان هذا هو تعريف الأخلاق عند الغربيين، فإن تعريف المحدثين والقدماء مما يبين جوانب الموضوع، ويوضح ملامحه، حتى إذا جئنا لتعريف الحكماء والفلاسفة والعلماء المسلمين للأخلاق اكتملت الصورة، وحينئذ نطبق هذه الصورة المكتملة للتعريف على ¬

(¬1) انظر سيد قطب "في ظلال القرآن" (6/ 365). (¬2) انظر اسعد الحمراني "الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة" (15) حيث نقل هذا التعريف عن "معجم لاروس" الصادر في باريس 1931 م. (¬3) المصدر السابق.

رسالة الإسلام، وعلى رسولها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لنرى بموضوعية كيف تمثلت هذه الأخلاق فيهما على أتم وجه، وأحسن سيرة، ونلج المقصود مباشرة فنقول: أمَّا الأخلاق عند الغربيين المحدثين فتعرف بأنها: "تصور وتقييم ما ينبغي أن يكون عليه السلوك، متمشية في ذلك مع مثل أعلى أو مبدأ أساسي تخضع له التصرفات الإنسانية، ويكون مؤازراً للجانب الخَيِّر في الطبيعة البشرية" (¬1). ويلاحظ الباحث أن تعريفات الأخلاق عند الغربيين لا تفرق بين الحديث والقديم، حيث يبين ذلك كلام ابن مسكويه بدون قصد منه للتفريق بين التعريفات، فيحدد الأخلاق مبيناً وجهة نظر القدماء، أي فلاسفة اليونان بأنها: "علمٌ يعرف به حال النفس من حيث ماهيتها، وطبيعتها، وعلة وجودها، وفائدتها، ما هي وظيفتها التي تؤديها، وما الفائدة من وجودها، وعن سجاياها، وعن أميالها، وما ينقلها بسبب التعاليم إلى الحالة الفطرية، وذكر أن هذا أول علم تأسس منذ بدء الخليقة" (¬2). ونختار تعريف الجرجاني حيث هو من اعتنى بالتعريفات، ليبين تعريف الأخلاق عند علماء المسلمين المتقدمين، وهو ما درج عليه متأخروهم من المهتمين منهم بالأخلاق والتفسير فيقول: " الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة يصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر منها الأفعال الحسنة، كانت الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقاً سيئاً، وإنما قلنا هيئة راسخة؛ لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال ¬

(¬1) حسن الشرقاوي "نحو الثقافة الإسلامية" (1/ 238)، القاهرة دار المعارف 1979 م. (¬2) انظر ابن مسكويه "تهذيب الأخلاق"، وانظر "موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (1/ 180) جدة دار الوسيلة الطبعة الأولى 1418 هـ 1998 م.

خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه" (¬1). إن المتأمل فيما سبق من التعريفات لا يجد مشقة أو صعوبة في أن يقرر بكل أمانة أن تلك الصفات لم تتحقق لأحد متكاملة على هذا النسق في غير محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ لا يحتاج لروية وتدبر، أو أعمال فكر إذا كان مشتغلاً بالتاريخ فقط أن يقول إنَّ تلك الأخلاق كانت في أسمى صورها، والتي هي باقية ما بقي ناس يعلمون عن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو سأل المنصف نفسه من الذي ادعى، أو إدُعِيَ له على مدار التاريخ الإنساني كله أنه يتمتع بتلك الأخلاق، واتصف بأعلى كمالاتها، وما تزال آثارها باقية بل مكتملة كما كانت فيه، بلغت كما نقلت عنه، وتمثلها أتباعه، ويحاولون إلى اليوم، لم تجد مؤرخاً، ولا عالماً، ولا عاقلاً محايداً، منصفاً، أو غير منصف إلا أن يقول: ما ذكر ذلك إلا عن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن ذكر غيره في ميدان من ميادين هذه الأخلاق، فما ذكرت كل الأخلاق وأعلاها إلا له. لا نحتاج إلى تنزيل معاني هذه التعريفات - كما أسلفنا - على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خاصة وهي تعريفات قاصرة مليئة بالثغرات والمآخذ، إذ الواقع والسير قد كفتننا مؤنه ذلك، وإنما نقف عند تعريفات العلماء المسلمين، إذ هم قد زادوا على هذه التعريفات أموراً تسد خللها، وتكمل النقص فيها، وبالتالي تجعل هذه التعريفات أجمع وأمنع من تعريفات الغربيين، وبناء عليه، فإذا كانت هذه التعريفات الشاملة قد جمعت لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن باب الأولى، قد أحاطت أخلاقه بتعريفات أولئك، ولا بأس حينئذ أن نذكر تعريفاً للأخلاق عند المسلمين، يقول مقداد يالجين معرفاً الأخلاق في نظر الإسلام بقوله: "هي عبارة عن مجموعة المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان، وتحديد ¬

(¬1) عبد القاهر الجرجاني "التعريفات" (104)، وكذلك الفخر الرازي "التفسير الكبير" (15/ 649 - 650)، وانظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (29/ 63).

علاقته بغيره على نحو تحقيق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه." (¬1) يظهر هذا التعريف شمول الأخلاق في نظر الإسلام، وكذلك كونها في منظور متكامل بين مصدرها، وطبيعتها ومغزاها الاجتماعي وغايتها، وهو ما يجعل النظام الإسلامي متميزاً بهذين الطابعين: الأول: طابع إلهى من حيث أنها مراد الله، إذ أنه يجب أن يتبع الإنسان في هذه الحياة، أوامر لله ومراده في خلقه، لذلك جاء الوحي بصورة هذا النظام. الثاني: طابع إنساني من حيث يتضمن المبادئ العامة في بعض نواحيه، وللإنسان دوره في تحديد واجباته الخاصة، والتعرف على طبيعة مظاهر السلوك الإنساني المعبرة عن القيم، لذا تعد الأخلاق روح الإسلام، حيث يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (البر حسن الخلق) (¬2). ولا بأس هنا أن نذكر أحد علماء المسلمين الذين ربطوا الأخلاق بقضية الإيمان، وما ينبثق عنه، وهو ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم الحراني الذي سلك مسلكاً في تحديد مفهوم الأخلاق يعتبر جديداً إلى حد ما في الفكر الإسلامي، كما بين ذلك صاحب " النظرية الخلقية عند ابن تيمية" حيث يقول ما ملخصه: إن ابن تيمية كان أوفى، وأكمل وأكثر نضجاً ممن سبقه من علماء المسلمين، أو غيرهم في هذا المضمار، وذلك لأن التصور النظري للأخلاق لدى هؤلاء جميعاً فيه من الثغرات، وعليه من المآخذ ما يجعل من هذا التصور فكرة ناقصة، بل عاجزة عن تحقيق الكمال الإنساني، فعند ابن تيمية نرى الارتباط الوثيق بين مفهوم الأخلاق، ومفهوم الإيمان الذي حدده الإسلام، وما ينبثق عنه من نظام في ¬

(¬1) انظر مقداد يالجين "التربية الأخلاقية الإسلامية" رسالة دكتوراه منشورة، الطبعة الأولى القاهرة، مكتبة الخانجي 1977 م، (75)، وانظر "نضرة النعيم" (1/ 66)، جده دار الوسيلة الطبعة الأولى سنة 1418 هـ. (¬2) المصدر السابق، والحديث رواه مسلم (4633).

العبادة، يكمن في التصور الخلقي الصحيح، ففي الإيمان وطرائقه وآفاقه تستطيع النفس أن تجد حاجتها المادية والروحية معاً، وليس ثَمَّة طريق يبلغ الإنسان إلى كماله المنشود، وصلاحه المرجو، وبالتالي سعادته المأمولة غير طريق الإيمان (¬1). ويكفي منهج علماء المسلمين، من سلكه منهم بتحقيق أكثر، وتحديد أدق كابن تيمية ومن تبعه، أن يرجع إليه الأوربيون اليوم بعد أن تشردوا في صحراء المادة القاحلة، التي تصوروا فيها سعادتهم، فإذا هي سراب، وقد عادوا إلى إدخال الإيمان كعنصر فعال في تحديد الأخلاق الموصلة للسعادة التي اتضح لهم أنها مبنية على الإشباع الروحي والسلام النفسي الذي تظهر آثاره في الأخلاق المحمودة مع البشر كافة، والتي بها يشعر المرء بقيمة لهذه الحياة التي أصبح لها غايات وأهداف محمودة. إننا بتغير الأخلاق إلى ذلك نغير جميع أنماط السلوك الإنساني، وقد رأينا كيف غيرت دعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكارم الأخلاق هؤلاء العرب في أقصر فترة إلى أعظم أنماط ووسائل السلوك الإنساني على مرَّ التاريخ. الأركان الأساسية للأخلاق: ما سبق يدفعنا - بعد أن علمنا تحقق هذا العلو الأخلاقي في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنَّه كان الأنموذج الفخم لدعوته - إلى أن نحدد الأركان الأساسية للأخلاق، وشيئاً من تفصيلاتها لنرى مدى انطباقها على شخص الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام - فيتضح بذلك شيء من قيمة الرسول والرسالة، وصحة نسبه هذا الوحي لله تعالى. ¬

(¬1) انظر محمد عبد الله عفيفي "النظرة الخلقية عن ابن تيمية" مطابع الفرزدق التجارية، الرياض طبعة 1408 هـ 1988 م، (58 - 59)، والكلام في تبيين خصائص مسلك ابن تيمية والمقارنة بغيره ... إلخ موجود في الدراسة.

يقول الإمام ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" ما ملخصه: وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفَّة، والشجاعة، والعدل. وأخذ يفصِّل كيف جمعت كل منها جملة من مكارم الأخلاق التي بمجموعها تكتمل صورة الأخلاق الحسنة في صاحب الرسالة، لتكون عنواناً وتفصيلاً لهذه الرسالة بحيث لا يبقى عقلاً ولا واقعاً إلا التسليم بكونها من عند الله تعالى. وإنَّ من الإنصاف العلمي أن نعرض من حين إلى آخر على مدار الرسالة لما اعترض به المعترضون، أو شكك به المرتابون من المستشرقين، ومن لفَّ لفَّهم لتلك الأغراض الخبيثة من محاربة الإسلام - العدو الرئيسي الذي اتخذوه لهم في هذه الأيام - ولنرى أتصمد أمام النقد العلمي النزيه، أم لا، من وجهة نظر هذه الرسالة، وإن كنَّا سنختصر ذلك اختصاراً؛ لئلا نخرج عن مقصود البحث، وسيكون ذلك فيما سنعرض له فقط من بعض مواقفهم التي تدل على سائر المواقف، مع الإعراض التام عما تتميز به هذه الكتابات من التطاول والتسافه، وقلّة الحياء والأدب (¬1)، إذا ذلك بضاعة الجهلة التي تظهر عند فقد الحجة ¬

(¬1) يقول كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام): «إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكاً ذريعاً، بل هو مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولى يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظة من الخمول والكسل إلا ليدفعة إلى سفك الدماء والإدمان». ويقول إيضاً: «أعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين والحكم على الباقيين بالأشغال الشاقة وتدمير الكعبة ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر». انظر عبد الودود يوسف: قادة الغرب يقولون، دار السلام للطباعة والنشر طبعة 1994 (42). يقول الفيلسوف الأمريكى فرنسيس فوكوياما في كتابة «نهاية التاريخ» أن الإسلام أصبح خطراً كبيراً على الممارسات الليبرالية وأن هناك تشابهاً بين الأصولية الإسلامية والنازية الأوروبية وأن الإسلام هو سبب في تخلف المسلمين وأنه وراء فشل المسلمين في التفوق علمياً أو إقتصادياً أو صناعياً. انظر رجب البنا «الغرب والإسلام» دار المعارف طبعة 1997 (237 - 238).

والبرهان، وسيكون البحث مع مدعي الحياء والأدب منهم، وإن اعتقد الباحث أنهم لا يفرقون عن غيرهم شيئاً، إلا أنهم صاغوا ما يريدون من أبحاث الظلمات بطريقة حاولوا فيها إلباسها ثوب العلم مع البعد عن طريقة الشتم والسب والقذف. نعود إلى كلام ابن القيم حيث يقول: فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة. والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل الظاهر والباطن، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، البخل والكذب، والغِيبَة والنميمة. والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، وبكبحها بلجامها عن الترف والبطش، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه. والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحَة، وعلى خلق الشجاعة الذي هو التوسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. فمنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة.

ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب (¬1)، وكيف رأينا أنَّ الرسالة وصاحبها - عليه الصلاة والسلام - أبعد شيء عن هذه الأخلاق، وأشد نهياً عن الإتصاف بها، وأكثر العالمين حملاً لهم على مجاهدة أنفسهم على تركها، فجعل الدين كله خُلُقاً، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، ودليل ذلك وبرهانه من كلامه هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن البرِّ والإِثم فقال: (البُّر حسن الخلق، والإِثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطَّلع عليه الناس) (¬2). فقابل البَّر بالإِثم، وأخبر أنَّ البر حسن الخلق، والإثم حواز الصدور، وهذا يدلُّ على أنَّ حسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، ولهذا قابله بالإِثم. وإنَّ مما يؤكد ذلك في نظر صاحب الشريعة قوله عليه الصلاة والسلام: (إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (¬3) فجعل حسن الخلق درجة المتقين الصائمين القائمين، وليس ثَمَّ درجة أعلى من ذلك إذ هي أعظم صفات المدح، وأعلى درجة الإيمان، ولذا قال: (إنَّ من أكمل المؤمنين إيماناً: أحسنهم خُلُقاً) (¬4). ولقد تمثلت هذه الصفات جميعها فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكر أبعد الناس منه، وكذلك أقرب الناس إليه، حيث قالت السيدة عائشة رضي الله عنها لمَّا سُئلت عن خلقه عليه الصلاة ¬

(¬1) انظر محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية "مدارج السالكين" دار إحياء الكتب العربية (1/ 230)، عطية محمد سالم تكمله "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" للشنقيطي محمد الأمين (8/ 427). (¬2) رواه مسلم (2553)، ورواه أحمد أيضًا (4/ 182)، والترمذي (2389). من حديث النواس بن سمعان. (¬3) رواه أبو داود (4798) من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها. (¬4) رواه الترمذي (1162) مطولاً واللفظ له وقال حيث حسن صحيح، ورواه أحمد (2/ 250، 472).

والسلام: (كان خلقه القرآن) (¬1)، أي خلقه آداب الشرع التي أمر بها جميعها، إذ لا يمكن أن يأمر الله بأي شيء، إلا ويكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول المسارعين إلى تنفيذه لقوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]، وحديث أنس - رضي الله عنه - خادمه بعد حديث زوجه، يبين لنا ذلك، فعلى طول خدمته للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتغير عليه قطّ، ولا بدا له منه شيء من ذلك، خاصةً مع من يخدمه؛ لأنه لابد من أفعال يقع بها الضجر والتأفف، أو تؤدي إلى المعاتبة أو المعاقبة، ولكن شيئاً من ذلك كله لم يقع لأنس - رضي الله عنه - مع النبي عليه الصلاة والسلام، يقول أنس: (كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس خُلُقاً) وقال: (ما مَسَستُ ديباجاً ولا حريراً أليَن من كفِّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا شممت رائحة قطّ أطيب من رائحة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولقد خدمت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر سنين، فما قال لي قط: أُفّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا) (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (746) مطولاً من حديث قتادة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (3768)، ومسلم (2309) بعضه، والترمذي (2015).

المبحث الثاني {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}

المبحث الثاني {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وتمشيًا مع سياق القواعد الموضوعة لهذا البحث، نذكر آية أخرى جمع الله فيها للنبي عليه الصلاة والسلام مكارم الأخلاق، وهي قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] لنُحللها حتى يتضح كيف أمره الله بهذا؟ بعد أن مدحه بأنه على خُلُقٍ عظيم، ونلاحظ ما يلي: أنَّ هذه الآية في سورة الأعراف، وهي السابعة والثلاثون في ترتيب النزول، ومعنى أنَّ الله تعالى يأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هذه المدة بذلك مع أن تلك أخلاقه، وأنه أثنى عليه بها أن يكون ذلك خطاباً لأُمَّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو المناسب للسياق القرآني حيث جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200]. وكما بَيَّنَّا في عصمته لا يمكن أن يكون ذلك في حَقَّه - عليه الصلاة والسلام - والاحتمال الآخر أن يكون الخطاب له في جزئه الأول، وهو خذ العفو ... ، وكذلك يكون مُوَجَّهًا للمؤمنين، ولا يمتنع أن يكون في الثاني للمؤمنين أيضاً، وحينئذ يكون المراد من هذا التوجيه القرآني الكريم لهذه الصيغة، هو التأكيد مرة أخرى على مكارم الأخلاق، وتثبيت المؤمنين فيما لا قوة من الأذى على مارَبَّاهم عليه من حسن الخلق، لأن ذلك دليل أنه لأمر ما مهم، قد ندبهم لذلك مرة أخرى، وأمرهم به. ويوضح هذا الأمر أن المشركين قد وصلت إساءتهم إلى الحد الذي يمكن أن يخرج

المؤمنين عن حد المسامحة، والإعراض عن الجاهلين، أو العفو عمن ظلمهم، مما يدل على أن قلوبهم قد ملئت غيظاً من هؤلاء المجرمين لدرجة انتظار الانتقام منهم، بدلاً من الصفح، وتمني الهداية لهم، وهي روح الإسلام العظيم. أخلاق جبلى وكسبي: وإذا كان قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] كانت في أول ما نزل من القرآن الكريم جاء هذا السؤال، وهو: هل الأخلاق جِبِلِّيِّة أو كَسبِيِّة؟ خاصة وأننا ادّعينا في أول الكلام أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما نزل عليه الوحي إلا وهو في عظيم الأخلاق وأعلاها، وهو ما يؤيده الواقع كما ذكرنا. والإجابة العامة: هي أن الأخلاق منها ما يكون جِبِلِّياً قد طبع عليه المرء، ومنها ما يكون كَسبِياً يقع له بالتخلق والتكلف، حتى يصير له سجية وملكة، وله أمثلة عدة، وأقوال كثيرة وردت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها ما قاله - عليه الصلاة والسلام - لأشج عبد القيس - رضي الله عنه -: (إنَّ فيك لخُلُقين يحبهما الله: الحلم، والأناة. فقال: أخُلُقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ فقال: بل جبلك الله عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله) (¬1). وهذا يدل على أن الأخلاق منها: ما يطبع المرء عليه، وقد رأينا الواقع مليء بتلك الصور، وقد رأينا الشجاع الثابت بطبعه، والكريم، والحليم، وغيرهما، والعكس كذلك كأصحاب الأخلاق المذمومة كالبخل، والجبن، وغيرهما. ¬

(¬1) أخرجه مسلم (17) في الإيمان: باب المر بالإيمان بالله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشرائع الدين، أم الجملة الأخيرة: (خلقين تخلقت ...) فقد أخرجها أحمد (4/ 205، 206)، البخاري في الأدب المفرد (584) وسندها صحيح، انظر زاد الميعاد (3/ 605 - 609).

ومنها: ما هو مكتسب، يكتسبه الإنسان بالتكلف، ورياضة النفس ومجاهدتها، وقد ورد في هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتَّحَلَم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقه) (¬1). وهذا يوضح أن من الأخلاق ما يكتسب بالتدرب عليها، وممارستها مع المجاهدة على مدافعة ضدها عند ورود أسبابها، فالحلم يحاول المرء أن يتخلق به، ويظهر مدى التزامه بهذا الخلق عند ورود سبب الضد من معاملات وأقوال وتصرفات تخرج الإنسان عما يحاول أن يكون عليه من الحلم، فيضبط حينئذ جهله، ويكظم غيظه، ويجاهد نفسه على الثبات فيما عرض له من امتحان حلمه، وهكذا بقية الأخلاق، وهذا باب طويل في رياضة النفس، ترى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاول شيئاً من ذلك؟ الواقع يأبى إلا أن يقول لا، لقد كانت تلك الأخلاق سجية فيه، لقد تعرض لامتحانات الأخلاق كافة، فما سمعنا له هنة فيها عَيَّرَه بها قومه، وامتنعوا من وصفه بسببها بأنه صاحب الخلق القويم، أو تذرعوا بها لئلا يدخلوا الإسلام. ومع ذلك من حسن تواضعه، وهضمه لنفسه، التي لا ينطق بها إلا العظماء وجدناه يدعو ربَّه - سبحانه وتعالى - بأن يرزقه ويهبه، ويعينه، ويوفقه لأحسن الأخلاق، وقد ذكر ذلك ليكون تعليماً للمؤمنين، وتنبيهاً لهم على الثبات على أحسن الأخلاق بدوام الدعاء لله تعالى أن يهديهم إليها، ويوفقهم لها، فيقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها ¬

(¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (9/ 127) عن أبي هريرة مرفوعًا.

إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) (¬1). ولابد من إضافة هنا تبين مصدرية الأخلاق، وتوضح ما سبق، وهي أنَّ الأخلاق لا يمكن أن تكون نتاج عقل، حتى نقول إن الرسول أنتج هذه الأخلاق بعقله، لأن العقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكماً قِيَمِياً عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي. إنَّ محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلاني لا يستطيع أن يتحرك أبعد مما يسمى بالأخلاق الاجتماعية، أو قواعد السلوك اللازمة للمحافظة على جماعة معينة، وهي في واقع الأمر نوع من النظام الاجتماعي (¬2). ويؤكد هذه الفكرة الدكتور محمد الله دراز لقوله: "فإذا ما قيل لنا، إننا نحن الذين نشرع لأنفسنا، بوصفنا أعضاء في عالم عقلي، وجب علينا أن نتفق على ذلك الاستقلال الذي خص به العقل." ماذا تعني في الواقع هذه المقولة: " العقل يمنح نفسه قانونه؟ هل هو مبدع العقل والقانون، أو أنه يتلقاه مُعدًّا على أنه جزء من كيانه كما يفرضه على الإرادة، ذلك لأنه إذا كان العقل مبدع القانون فإنه يصبح السيد المطلق، فيبقى عليه، أو يبطله تبعاً لمشيئته، فإذا لم يستطع ذلك فلأنه قانون سبق في وضعه وجود العقل، وأن صانع العقل قد طبعه فيه، ¬

(¬1) جزء من حديث رواه مسلم (771) صلاة المسافرين: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (760) في الصلاة: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء. (¬2) انظر علي عزت بيجوفيتش: "الإسلام بين الشرق والغرب"، ترجمة محمد يوسف عدس ط 1، الكويت، مجلة النور، مؤسسة بافاريا للنشر والإعلان والخدمات 1414 هـ 1994 م، ص186.

كفكرة فطرية، لا يمكن الفكاك عنها" (¬1). مما سلف من القول يتضح لنا أن الأخلاق منها ما هو كسبي، ومنها ما هو جبِلِّي طبعي، وإن الكسبي إنما هو لأخلاق معلومة ظاهرة في الواقع يحاول الإنسان أن يتخلق بها بالتدرب عليها، ورياضة النفس بها، وبالتالي لا يمكن أن تكون نتاجاً للعقل، إذ العقل قد وجد، وهذه الأخلاق متقررة في الواقع وموجودة. فإذا طبقنا هذا الكلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه لا مناص من أن نقول إن أخلاقه كلها جبلِّية، لأنه أتى قومه بدعوته، وليس هناك مغمز واحد يغمز، أو غمز عليه في أخلاقه باتفاق المخالف والموافق ساعتها، وإلى الآن، ثانيًا أتاهم يدعوهم إلى مكارم الأخلاق، وقد فاقهم في أخلاقه بما لا طاقة لهم به، بمعنى أن الفارق بين أخلاقه وأخلاقهم كان في الدرجة العليا التي يستطيع بها أن يدعوهم إليها، وأن يرشدهم إليها إذ كيف يدعوهم وهو مثلهم، بقى هذا الفارق الأخلاقي العظيم كما هو، بل زاد، فلو كانت الأخلاق من مفرزات العقل الإنساني فلم اختص بها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والعقول متقاربة في البيئة العلمية والثقافية والاجتماعية الواحدة. وقد يأتي هذا الإعتراض - كاعتراضات المستشرقين - إنه كان يتحنث في غار حراء حتى ادّعى النبوة، وهي تلك التأملات التي قادته إلى ما ادّعى! ونقرر كما ينبغي أن يقرر العقلاء بإنصاف، هل كان يتحنث ليتعلم الأخلاق؟ لم يقلها أحد، ولا رماه بها أحد ولا يستطيع، لأنه ليس من عادة العرب أن يكون كذلك. وكيف يكون شهراً في العام لعدّة أعوام سبباً لهذا العلو الأخلاقي، والسمو العقلي؟ وكيف ولِمَ لم ¬

(¬1) محمد عبد الله دراز، "دستور الأخلاق في القرآن"، ص35، وانظر "موسوعة نضرة النعيم" (1/ 65 - 66).

يَقُم مناهضو الدعوة، أو بعضهم لمثل ذلك ليجنبوا قومهم، أنفسهم تلك المواجهات الدامية؟ أو الادعاء على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونبذه بذلك؛ ليظهروا كذبه فيما ادعى؟ إنَّ معاملة الرسول لقومه، وللناس كافة من أول يوم بهذا الخلق الحسن إلى آخر يومٍ في حياته لَيدل دلالة قاطعة على أنَّه ليس له من أمره شيء، وأن الموجه له لا علاقة له بنفسه، ولا من داخله، ولا لهدف آخر يسعى إليه، بل هو شيء فوق طاقته لا يستطيع له رداً ولا دفعاً، إنما هو يُنفذ أوامر هذه القوة الخارجة العليا، ليس غير، لا ينتظر من وراء ذلك إلا رضا هذا الإله عنه، لا يلوي على غير ذلك، ولا يخشى أحداً ولا ينتظر جزاءً أو شكوراً من أحد، فضلاً عن أي غرض مادي أوحسي آخر، وهو يلهج بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس: 16]، وقد جاءت آيات كثيرة في هذا السبيل، وكذلك في سياق أنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وإلا لما عرَّض نفسه لذلك كله بغير أية أغراض حصلها في الدنيا، كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50]، وكقوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} [يونس: 49]. وإذا انتهينا من هذه النقطة، فلابد من الإشارة إلى أمر مهم من فهم أخلاقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو: مع أن الله جَبَلَه على عظيم الأخلاق، وأنه ما بعث لدعوة الحق إلا وهو كذلك، فإن أخلاقه بعد البعثة كانت في ارتفاع وعلو دائم، إذ لا يوصف شيء بالثبات في الدنيا، وفي ذلك نقدم بما يقول سيد قطب: ما أن أخلاقية الإسلام لا تستمد ولا تعتمد على اعتبارات أرضية من العرف أوالمصلحة أوغيرها، إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء، تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق، وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود؛ إنما

هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد، ومن كل قيد (¬1). ويزيد ابن رجب الحنبلي في كتابه "لطائف المعارف" هذا الأمر توضيحاً وتفصيلاً فيقول من كلام طويل له: ولما كان الله - عز وجل - قد جَبَلَ نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أكمل الأخلاق وأشرفها، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (¬2) فدل هذا على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة. وكان مثالاً لهذه الأوصاف، هو جوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان جوده يتمثل بجميع أنواع الجود، من ذلك العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، ومن إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم. ولم يزل على هذه الخصال منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة - رضي الله عنها - في أول مبعثه: «والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق» (¬3). ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثه وتضاعفت أضعافاً كثيرة. وفي الصحيحين عن أنس، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحسن الناس، وأشجع الناس، ¬

(¬1) انظر سيد قطب، "في ظلال القرآن" (6/ 3657). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أخرجه البخاري في بدء الوحي (3)، ومسلم (160) في الإيمان: باب بدء الوحي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وأجود الناس» (¬1)، وفي صحيح مسلم (¬2) عنه، قال: «ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» (¬3). وإننا إذ نذكر مثلاً قليلاً لهذه الأخلاق، لنبين ما كان عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من علو الأخلاق التي بعث بها، مجبولاً عليها، حتى شهد بها أعداؤه شهادة من لم ير، ولم يسمع بمثلها فيمن ذكر بالسؤدد والشرف، فقد ذكر عن صفوان بن أمية، وهو من هو فضلاً وشرفاً وقيادة لقومه في معاداة النبي وحربه سنين طويلة، أعطاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين وادياً مملوءاً إبلاً ونَعَماً، فقال صفوان: "أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي. (¬4) " ولمثل ما سبق، ويزيد عليه، يقول ابن رجب: وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار. ترى لو كان له غرض من تلك الأغراض الاستشراقية المفتراة، فما الذي كان يحمله على ذلك، وقد عرض عليه الكفار، الملك والمال، وشهوات الدنيا ولذاتها من النساء وغيره، فلم يعبأ بها، حتى ولو كانت الشمس والقمر عن يمينه وشماله، ما تراجع قيد شعرة ¬

(¬1) أخرجه البخاري مطولاً رقم (2857) في الجهاد: باب اسم الفرس والحمار، ومسلم رقم (2307) في الفضائل: باب شجاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... وتقدمه للحرب. (¬2) رقم (2312) في الفضائل: باب ما سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئًا قط فقال: لا. (¬3) انظر ابن رجب، زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن أحمد "لطائف المعارف"، ت 795 هـ حققه ياسين السواس، دار ابن كثير دمشق، ط 1413 هـ 1992 م (305 - 308). (¬4) انظر السابق.

عن ذلك؛ لأنه ليس له ذلك، عدم الوقوع دليل الصدق. جاءته ابنته فاطمة عليها السلام تشتكي ما تلقى من خدمة البيت وتسأله خادماً يعينها يكفيها ذلك، فقال لها: (لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع.) وأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها (¬1). ويستكمل ابن رجب كلامه بقوله: وكان جوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضاً، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة. (¬2) وهو ما يؤكد الذي ذهبنا إليه. ذكر ابن إسحاق في سيرته عن وهب ابن كَيْسَان عن عبيد بن عمير، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجاور في حراء من كل سنة شهراً، يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج إلى حِرَاءَ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل من الله - عز وجل -. ثم كان جوده في رمضان - بعد الرسالة - أضعاف ما كان قبل ذلك؛ فإنه كان يلتقي هو وجبريل - عليه السلام -، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق. ومن ثم كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا الكتاب له خُلُقاً بحيث يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه، ويمتنع عما نهى عنه؛ فلهذا كان يتضاعف جوده ¬

(¬1) أخرجه البخاري (215/ 6)، وأهل الصفة فقراء الإسلام لا يأوون على بيت ولا مال. (¬2) انظر ابن رجب الحنبلي "لطائف المعارف" (308 - 309).

وإفضاله في هذا الشهر؛ لقرب عهده بمخالطة جبريل - عليه السلام -، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم، الذي يحث على المكارم والجود. (¬1) وهكذا كل الأخلاق التي اتصف بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت في الغاية من السمو، وإذا بها تتضاعف إلى أعلى وأسمى من ذلك بعد بعثته المشرفة؛ لأنها تستمد من صفات الله التي لا يحدها قيد ولا حد. وممن ذكر ذلك من المحققين، وإن لم يقصد إليه ولكنه يوضح الفكرة التي نحن بصددها العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره للآية الكريمة {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}، ونحن نذكر ما قاله مختصراً، يقول: أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين من عظتهم، وإقامة الحجة عليهم، وبعثهم على التأمل في دلائل الوحدانية، وصدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما جاء به من الهدى، مع تبيين ضلال المشركين، وفضح فساد معتقدهم، وكيف سجل مكابرتهم وعنادهم، والتعجب من ركوبهم لرؤوسهم، ونأيهم بجانبهم، وكيف أصموا أسماعهم، وأغمضوا أبصارهم عما دعوا إلى سماعه، كل ذلك تكلمت به السورة، وسارت به آياتها ونظرت في نفس الوقت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم، وكفروا نعمة الله فحل بهم من أصناف العذاب ما ذكرته السورة الكريمة، وأنه إنذار لهؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك، وقد أعلنت السورة باليأس من ارعوائهم، وانتظار ما سيحل بهم بأيدي المؤمنين، وبتثبيت الرسول والمؤمنين، وتبشيرهم والثناء عليهم بما هم عليه من الهدى، مسلاة لهم وتنويهاً بفضلهم، كان من شأن، ذلك أن يثير في أنفس المؤمنين كراهية أهل الشرك كراهة تحفزهم ¬

(¬1) المصدر السابق.

للانتقام منهم، ومجافاتهم، والإعراض عن دعائهم إلى الخير، لا جرم شرع في استئناف غرض جديد، يكون ختاماً لهذا الخوض البديع، وهو غرض أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم، وأن يسعوهم من عفوهم، والدأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله خذ العفو ... الآية (¬1). والمتأمل لهذا الأمر بمكارم الأخلاق ليدل المرة بعد المرة على أخلاقية هذا الدين، وأن قضية الخلق الحسن هي محور دعوته، وأن الثبات على هذه الأخلاق تحت مختلف الظروف من أهم مهماته وأقوى مقوماته. إن التمسك بهذه الأخلاق في تلك الظروف الشاقة، والأحوال العصيبة تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على أن الموجه لهذه الدعوة هو الله تعالى، وبالتالي يدلل ويشهد لصحة الرسالة، إنها أخلاق تخالف معهود البشر كافة، إذ لم يكن في تاريخ البشرية وإلى اليوم والغد من عامل أعداءه الذين دعاهم إلى السمو الروحي والأخلاقي والنفسي بمعرفة الله، فواجهوه بالبطش وأشد التنكيل تلك المعاملة الحسنة، التي تخالف جبلة النفوس، وما كان عليه الواقع، إذ كل الناس ينتظرون من كل قلوبهم لمن آذاهم - إذا لم يتمكنوا منهم - أياماً سوداً يشمتون بهم فيها، ويُسرون لما وقع عليهم إبانها، وأما إذا قدروا على الانتقام فالتاريخ يحدثنا بوقائع يندى لها جبين البشرية خجلاً وأسفاً، في القديم والحديث قد وقعت على أيدي هؤلاء الناقمين المنتقمين، تفيض حقداً وغلاً وظلماً وعدواناً وشططاً إلى آخر ما يذكر المعجم من ألفاظ في هذا الصدد، وتاريخ الروم والفرس ويهود طافح بمثل ذلك في القديم، وتاريخ أوربا الحديث أشد ابتلاء بتلك الأحداث الدامية فيما بين الأوربيين أنفسهم، أو فيما بينهم وبين الشعوب التي استعمروها مما يثير الإشمئزاز والتقزز من مدعي الرقي ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (225 - 226/ 9).

والتمدن. كل ذلك بغير الإسلام الذي منع فيما منع الشماتة بالأعداء، حتى الشماتة منعها فما بالك بما هو أشد؟ إن هذه التعاليم ما كان ليتبعها أحد إلا أن يكون مستسلماً للقوة التي لا تقهر متبعاً لأوامر الإله الحق - سبحانه وتعالى -، مصدقاً بما جاءه به النبي من ربه، قد امتلأ قلبه واستولى عليه ذلك الإيمان بصدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحبته بحيث يوطن نفسه مهما كانت الملمات والخطوب على اتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، إن تلك منزلة لم يبلغها أحد من البشر إلا ذلك الرسول المؤيد بالوحي الإلهي من السماء. إن في ذلك رداً بليغاً على أولئك المستشرقين في ادعاءاتهم الباطلة حول الإسلام ورسوله (¬1). ونعود إلى تحليل الآية .. فقوله {خُذِ} مستعمل هنا مجازاً، حيث استعير بالتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها، فكأنه يمكن أن يتلبس بالعفو أو بضده، أو بالعدل أو غير ذلك فأمره القرآن الكريم أن يأخذ العفو من بين ذلك وأن يكون ذلك اختياره، فيكون معنى {خُذِ الْعَفْوَ}: عَامِل به واجعله وصفاً ولا تتلبس بغيره (¬2). والعفو: هو الصفح عن ذنب المذنب، وعدم مؤاخذته به، كقوله تعالى: {فَاعْفُوا ¬

(¬1) له بقية كلام. (¬2) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (226/ 9)، وقد ذكر أن استعارة الأخذ للعفو من مبتكرات القرآن، ولذا كان البيت خذي عفوي لأبي الأسود الدؤلي، ونسبته للشعراء الجاهليين غير صحيحة.

وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]. والمراد بالعفو عنه ما يعم ويشمل العفو عن المشركين، وعدم مؤاخذتهم بجفائهم وإساءتهم للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وللمؤمنين. وقد عمَّت الآية صورة العفو كلها لأن التعريف في العفو تعريف للجنس فهو مفيد للاستغراق، فهو يستغرق العفو، كل العفو ومعناه أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يعفو عموماً ويصفح، ولا يؤاخذ بالجفاء وسوء الخلق، ولا يعاقب ويقابل بمثل الصنيع الواقع عليه أو على المؤمنين. وأسبق من يتبادر إلى الذهن العفو عنه في هذه الآية هم المشركون (¬1). وقوله {بِالْعُرْفِ} فالعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال، وهو الفعل الذي تعرفه النفوس، ولا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض في ضده، وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة (¬2): فلا النُّكْر معروفٌ ولا العُرفُ ضائِعُ والمعروف مجاز في المقبول المرضي به، لأن الشيء إذا كان معروفاً كان مألوفاً مرضياً به، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول، وفي الشرائع، وهو الحق والصلاح. وذلك ما يدلنا على أمر هذه الشريعة الرشيدة، إذا يتأكد في كل فترة من فترات دعوتها عنوانها الأصلي من كونها دعوة الحق والخير والصلاح والعفو لإبقاء المؤمنين بها على طريق ¬

(¬1) وقد أورد المفسرون هنا قصة عيينة بن حصن مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... . (¬2) انظر الطاهر بن عاشور «التحرير والتنوير» (226/ 9).

جادتها، لا تثنيهم المحن ولا يحولهم عنها ما يلاقون من أذى ليخرجهم عن رسالتهم الحقة. فكانت شريعة الأخلاق العالية في كل مراحلها حتى تنتهي الدنيا. ويدخل في الأمر بالعرف الإتسام به، والتخلق بخلقه؛ لأن شأن الآمر بشيء أن يكون متصفاً بمثله، وإلا فقد تعرض للاستخفاف، وعلى أن الآمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود (¬1): يا أيها الرَّجُلُ المعلمُ غَيرَه ... هَلاَّ لنفسِكَ كان ذا التعليمُ وجاء العرف معرفاً ليفيد الاستغراق أيضاً، ليكون شاملاً لكل معروف، فما من معروف من خير وصلاح إلا ودعت إليه هذه الشريعة، ونادى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وندب الناس كافة إليه، لأن حذف مفعول الأمر يفيد عموم المأمورين، وهكذا تكون دعوته الخالدة موجهة للعالمين، فأفادت هذه الكلمة شمولها كل عرف، شمولها لكل أحد، وبالتالي خلودها وبقاءها وصلاحيتها لكل زمان. وإن شمولها لكل أحد يدخل فيه المشركون دخولاً أولياً، لأنهم سبب الأمر بهذا العموم، وإن إعراضهم لا يصدنك عن إعادة إرشادهم (¬2)، والدأب في سبيل هديتهم، وتلك ميزة أخرى من مميزات دعوة الحق، ورسالة السماء. "والإعراض" مشتق من العارض، وهو الخد، ومعناه إدارة الوجه عن النظر للشيء، وهو هنا مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد، فشبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به، لأن شأن العلم به أن تترتب عليه ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور «التحرير والتنوير» (9/ 227). (¬2) انظر السابق.

المؤاخذة. "والجهل" هنا ضد الحلم والرشد، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم؛ لأن التعريف فيه الاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك، إذ هو أشد السفاهة. وهذه الآية أوقفت المرء كثيراً عن الرد على المستشرقين إذ هم بهذه الحالة من رد الحق من معانديهم وسفهائهم توجب الإعراض عنه، وكذلك من مدعي العلمية والحياد؛ لأن الإنصاف يحمل على اتباع الإسلام، فأين اتباعهم للإسلام الذي لابد أن يقودهم إليه تفكيرهم الحر، ونزاهتهم في البحث! إن الإعراض عنهم بالترك والإهمال، والتهوين من شأن ما يجهلون به من الأقوال والأفعال، وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلا إلى الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد لهو الأولى. على أن جمعاً من المفكرين اليوم يميلون إلى تفنيد هذه الآراء لأولئك المستشرقين إظهاراً لصورة الإسلام الصحيح، ورداً للظلم والافتراء الواقع عليه، وعلى المسلمين، ودعوة لدين الإسلام بتبيين جمال الإسلام وعظمته، وببيان عظمة رسوله وفخامته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي وجهة لها ما يؤيدها أيضاً من الشرع، ويساندها من الواقع. وننوه في آخر الآية بكلام للطاهر بن عاشور حاصله أن الآية حوت مكارم الأخلاق فيقول: وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق؛ لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفواً عن اعتداء فتدخل في {خُذِ الْعَفْوَ}، أو فعل خير واتساماً بفضيلة فتدخل في {وَأْمُرْ

بِالْعُرْفِ}، وهذا معنى قول جعفر بن محمد: "في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها" (¬1). ومع الكلام عن أخلاق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخلاقيات الإسلام يثور السؤال، وماذا عن الجهاد في الإسلام؟ مع تشعبات كثيرة تنبثق منه، أو تحيط به، خاصة من المستشرقين (¬2) المجاهرين بالعداوة، والسوء من القول. وشهرة ما قالوا، وما يقولون غنيٌ عن تسويد الصفحات به. ونواصل السير مع الترتيب الزمني لنزول القرآن الكريم، لنستكشف به مواضع ثناء الله تعالى على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليوضح تكامل هذا الثناء من عدمه، بما يدل على صدق الرسول وصحة الرسالة - أي فيما ادعاه من الوحي، ومدى تطابق هذا المدح مع الواقع الذي كان فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن ذلك لم يتخلف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن لقي الله تعالى، بل على العكس، كان في ازدياد مما جبله الله عليه من كل خلق كريم إلى آخر أنفاسه الطاهرة في هذه الحياة، ثم نقارن كما هي العادة النصوص، ونبين ترابطها؛ ليظهر التناسق والاكتمال فيها. هذا الواقع الذي لم يدفعه أحد بدليل يُنظر فيه فضلاً عن أن يناقش، مما يعري - وهي عارية أصلاً - تلك الافتراءات عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬3) ¬

(¬1) انظر السابق. (¬2) ذكرت من قبل أن ليس فيهم منصف، بل هم رأس حربة الحروب الصلبية، والغزو العسكرى والفكرى لبلاد الإسلام، فكل كلامهم، أو كلام كلهم محل ريبة وتحفظ وشك وسوء الظن. (¬3) أي في كلام المستشرقين وأذنابهم.

المبحث الثالث {والضحى}

المبحث الثالث {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} ووصلنا إلى مدحه في سورة الضحى، وهو السورة الحادية عشرة في ترتيب السيوطي، أي من السور المتقدمة جداً في النزول، فننظر فيها ونحللها، ثم نقارنها بما سبق من ثناء وتكريم من الله تعالى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنلاحظ: أولاً: تُشْعِرُ السورة الكريمة بأنه قد حدث تأخير للوحي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لدرجة أن أرجف الكفار بذلك، وأن شيطان محمد قد ودعه وقلاه، وانتهى أمر النبوة المزعومة، وفرحوا بذلك. ويبدو من السياق أنه كان فرحاً مشوباً بالحذر، لأن القرآن لم يشر إلى ابتهاجهم بذلك، بل أغفل ذكر قولهم وحالهم وقتئذ، لأن المتصور أيامها أن يقال إن محمداً صادق، وما جربنا عليه كذباً، ولكنها أماني النفس وتطلعاتها، ركوباً لموجة العناد والإستكبار، مع الإصرار على دين الآباء والأجداد. ثانياً: ذكر المفسرون والمؤرخون والمحدثون كالبخاري ومسلم (¬1) وغيرهم، أن جبريل تأخر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلتين أو ثلاثاً مرض فيها - اشتكى - كما تقول الروايات، فجاءته أم ¬

(¬1) رواه البخاري (4950) عن جندب، ومسلم (1797) كذلك، وانظر ابن كثير "تفسير القرآن الكريم" (511/ 4)، وابن هشام "السيرة النبوية" (156/ 1) طبعة التوفيقية.

جميل امرأة أبي لهب فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قَرِبك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله - عز وجل -: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى: 1 - 2]. إن تأخر الوحي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلتين أو ثلاثاً ينبغي في مثل هذه الأحوال أن يكون أمراً عاديَّاً، لا يتوقف أمامه ليكون مصدر تكذيب، إذ سرعان في عادة البشر، فضلاً عن الوحي أن يأتي تكذيب من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكون صاحبه في موقف سيء يدل في نهاية المطاف على عدم استخدام العقل، أو البصر بنتائج تصرفه، ومثل هذا لا يُحكِم العلم والإنصاف والحيدة والموضوعية، إنما يندفع وراء ما يعتمل في نفسه، ويكون تصرفه رد فعل لما يتمنى ويهوى أن يكون، وذلك صنيع المستشرقين في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأسلافهم وقدوتهم في ذلك أم لهب على جهلها وغيها، ولعلها كانت أفضل منهم في قولها: إني لأرجو ... وقد ذكرنا هذه القصة الصحيحة لنبين أمراً في غاية الأهمية، هو أن أحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كافة كانت معلومة لقريش، مسلمها وكافرها، رجالها ونسائها، لا يغيب عنهم من أحواله وأقواله شيء، إلى الدرجة التي حملت هذه المرأة على ما فعلت، وأنه ما كان يخفي شيئاً ويظهر آخر، أو يكتم من أمر رسالته وأخلاقه وحياته بعضاً ويبدي بعضاً، بل كان بادي الصفحة معهم، ومع كل أحد، واضحاً كل الوضوح، لا لبس في منطقه وقوله، ولا تحير في فهم كل مواقفه وأعماله، وإن التبس على بعضهم فهم شيء سارع بالبيان المبين. ويبين هذا الموقف من جهة أخرى علامة فاصلة بين النبوة، وبين كون هذا الدين من عند محمد، وهو أن يتغيب أو يفتر عن الوحي إلى درجة أن يقال شيطانه قلاه وتركه، وما كان عليه وهو مدعي النبوة إلا أن يواصل الإرسال الكاذب، ولكنه يقف في شجاعة

ليعلنها أنه ليس له من الأمر شيء (¬1)، واثقاً في ربه، مطمئناً لما هو عليه، متحملاً كل التبعات المترتبة على ثباته، صامداً للتحديات كافة التي تواجهه، يعلن ضمن ما يعلن أن دينه سيعلو وسينتصر في وقت لا تواجه مثل فيه هذه التنبؤات في أقل أحوالها إلا بالسخرية والإستهزاء والإستخفاف، وإذا بالتاريخ يذكر وقوع ما تنبأ به حرفاً حرفاً. أما تحليل الآيات - ونذكر ما يتعلق فيها بمدحه والثناء عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ألمحنا آنفاً مما نزل في أوائل بعثته المشرفة - فنلاحظ: الأولى: القسم، وقد أشرنا إلى معناه في سورة القلم، وإن دلنا هنا على أمر زائد - مطرد معنا في كل السور التي افتتحت بالقسم - هو كثرة الأقسام في السور المكية، على عكس السور المدنية، فلم تفتتح سورة واحدة منها بقسم، وكأن القسم كان مطلوباً في بداية البعثة، خاصة وأن المقسم به كان من خلق الله العظيم الذي يظهر وحدانية الله تعالى وقدرته، وأنه ليس لأحد من البشر تصريف في هذه المخلوقات إلا له وحده، فيكون ذلك باعثاً على التأمل في الآيات الكونية، داعياً إلى الإيمان بخالقها الذي يدعو محمد إلى توحيده، وقد وجدنا الكثرة الكاثرة كذلك من آيات الدعوة إلى النظر في الكون والإنسان وبقية المخلوقات آيات مكية، ليستدل بها على الإله الواحد سبحانه، ولتأكيد قضايا الإيمان، وترسيخها في أذهان وقلوب الناس آنئذ، وإن القسم في مثل هذا الأحوال لينبهنا إلى أن القرآن الكريم استخدم كل الأساليب التي تبين صدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنها تأكيد أقواله ¬

(¬1) وقد أكدت آيات كثيرة هذا المعنى منها {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} [ص: 70]، وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]، وقوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]، وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]، وهي كلها سور مكية.

وتقريراته بالقسم الذي كان له أهميته عند العرب في تصديق المتكلم. ويوضح القسم بتلك المخلوقات بجلاء أنه ليس كلام محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنه ما كان له أن يقسم بغير الله كما أمر هو نفسه، إذ هو شرك (¬1)، فالذي يقسم بتلك المخلوقات والظواهر هو خالقها سبحانه، لأنه لم يدع أحد أنه خلقها، أو أنه خالق مع الله لشيء منها، أو لغيرها، وهو شيء واضح تمام الوضوح أنه منفصل عن عقل محمد ونفسيته، علاوة على أنه يدعو في بيئة يشترك مع من فيها في عامة علومهم وثقافتهم. الثانية: تؤكد لنا القصة أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس له من الأمر شيء، فلا هو يعجل نزول الوحي، ولا يؤخره، ولا يد له فيما ينزل أو لا ينزل، ساءه شيء من ذلك أو سَرَّه، أسعفه في المواقف التي يظن لزوم الوحي فيه، أو بطأ عنه، وما كان موقف كهذا الذي نحن بصدده، ليحتمل تأخير الوحي ليضع الرسول في موقف مؤلم بهذه الطريقة، بل ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لينتظر أن يقع ذلك له، ولكنه في النهاية الوحي الذي لا يخضع لرؤية محمد، إنه تنزيل من حكيم حميد له الكون وهو خالقه ومدبره بتمام الحكمة والعلم المحيط، وما محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا مبلغ عن ربه يقول له: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]، وإن محمداً لو كان ذلك إليه لكان من السهل عليه أن يخترع وحياً، أو أن ينسج موقفاً وقصة تناسب حل المشكلة التي وقع فيها، بل إن الواقع والعقل ليمنع ابتداء من الوقوع في ذلك، فضلاً عن أن يرويها بكل صدق وأمانة، على أعدائه، ليروجوها ليسوا مسيئين إليه فحسب، وإنما لمرسله سبحانه في المقام الأول. ¬

(¬1) الحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه أحمد (69، 87، 125/ 2)، والترمذي (1535)، وصححه الحاكم بلفظ: (فقد كفر) ... (18/ 1).

وهكذا - من بداية نزول الوحي - والقرآن يؤكد قضايا صحة الرسالة، يما لا يدع مجالاً لمنصف، أو لمن له أدنى عقل على صدق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما ادعى من الوحي؛ لأنهم لم يكونوا يكذبونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بينهم في غير ذلك حتى جاءهم بالوحي المبارك. وتحمل الآيات التصريح والتلميح في الرد على المستشرقين، الذين جاءوا بعد سنين طويلة ليخترعوا أموراً لم تكن (¬1)، ومواقف لم تحدث، ناهيك عن الأخلاق المفتراه ليلصقوها بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ذلك رداً موضوعياً عليهم، إن كل شيء في حياته معلوم، إنه لا علاقة له بما ينزل عليه إلا التبليغ، والله هو الحكم بعد ذلك. كان الأولى بهذه المواقف هؤلاء الكفرة أعدى أعدائه ليشيعوها وينفروا الناس بها عن دعوته، فلم لم يكن ذلك، دل على عدم الوقوع، ولكن ماذا تقول لمنصفين استبدلوا الأحذية بالعقول، وحكموها في التاريخ، واخترعوا له أحداثاً وفسروها بتلك الفعال. الثالثة: يبدو في اختيار القَسَم بالضحى والليل إشارة إلى إشراق نور التوحيد، وانتهاء ظَلْماء الشرك، وأنه ما فتر الوحي ليقف وينتهي، بل ليعاود انبلاجه وظهوره، وليزداد سناؤه وضياؤه حتى يعم العالمين بأبهى مما كان ضوءاً، وأقوى إشراقاً، والآيات في السياق تشير إلى ذلك في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5] وإن رضاءه - كما ذكرنا - في رضا الله، ورضا لله في علو دينه، وظهور بنيانه، وتمكين شرعه، هداية للناس إلى طريقه القويم. ¬

(¬1) انظر «وات»، «محمد في المدينة» (121) حيث اخترع أن آيه اقرأ تذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل ورقة بن نوفل عليه وأن هناك قرأناً قبلها وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان على صله متتابعة بورقة قبل الوحى وأن الأفكار الإسلامية قد اختلطت إلى حد كبير - على حسب تعبيره - بأفكار ورقة، وهو مستشرق معاصر بريطانى الأصل، تركزت اهتماماته الأساسية في مجال السيرة النبوية، عمل عميداً لقسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا.

يشير إلى ذلك ابن القيم فيقول: عن قوله: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى: 1 - 2] إقسام منه - سبحانه وتعالى - على إنعامه على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد. وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، فتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل للمقسم عليه، وهو نور الوحي؛ الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمداً ربُّه. فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه. وأيضاً فإن فالق ظلمة الليل عن ضوء النهار هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة فهذان للحس، وهذان للعقل. ثم يشير إلى معنى مهم، وهو أن لا يليق بحكمته سبحانه أن يترك عباده في ظلمة الليل يعيشون، لا نهار له يقيمون فيه معايشهم، وتستقيم بضوئه وشمسه دنياهم، فكذلك لا يليق أن يتركهم في ظلمة الجهل والغي، بل يهديهم بنور الوحي والنبو إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه. (¬1) الرابعة: قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3] جواب القسم، وهو إبطال لمقالتي المشركين في قول بعضهم ودعه ربه، وفي قول آخرين قلاه ربه تهكماً به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يدل على بقاء مكانته عند ربه، وحظوته لديه، إذ من ودعك قد بالغ في تركك، فما الظن بالقلى وهو البغض والشنآن له؛ أي ما خلاك وأهملك وتركك ولا قطعك وأبغضك منذ اصطفاك ¬

(¬1) انظر ابن القيم "بدائع التفسير" (255/ 5)، و"التبيان في أقسام القرآن" (52 - 53).

ورفعك. (¬1) إذ التوديع: تحية من يريد السفر، واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة، حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة لإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً. وهذا نفي لأن يكون اتصاله بالله قد قطع؛ بقطع الله الوحي عنه (¬2)؛ ولذلك وجدنا هذا البر العظيم من الله تعالى به عندما أضاف لفظ الربوبية إلى ضمير المخاطب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَمَا قَلَى} ليبين عنايته به، وولايته له، وفيه من اللطف به ما لا يخفى، فكأنه قيل: ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك سبل الكمال اللائقة بك (¬3). ونلاحظ في قوله: {وَمَا قَلَى} حذف المفعول، وذلك لئلا يواجه عليه الصلاة والسلام بنسبة القلى، لو قال ما قلاك، لطفاً به وشفقة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه احتمال آخر، وهو أنه لنفي صدوره عنه - عز وجل - بالنسبة إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأحد من أصحابه، ومن أحبه إلى يوم القيامة، وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (المرء مع من أحب). (¬4) ويأتي بعد نفي التوديع والقِلى قوله تعالى: {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} [الضحى: 4] ¬

(¬1) انظر ملا علي القاري "شرح الشفا" (82، 84/ 1). (¬2) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (395، 396/ 30). (¬3) الألوسي "روح المعاني" (280، 281/ 16)، انظر كذلك القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" (64/ 20)، برهان الدين البقاعي "نظم الدور" (453/ 8)، وغيرها. (¬4) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (468/ 16)، والألوسي "روح المعاني" (281، 282/ 16)، وأبا السعود "إرشاد العقل السليم" (878، 879/ 5)، أما الحديث فقد رواه البخاري رقم (6168) عن عبد الله بن مسعود، ورواه مسلم (2640) عن عبد الله أيضًا.

وهو من عطف الجمل كلام مبتدأ به، إذ لما نفي القلى بُشر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا والآخرة. يقول الطاهر بن عاشور (¬1) ما حاصله: والتعريف في {وَلَلْآخِرَةُ} و {الْأُولَى} يؤذن بالعموم الذي يشمل استمرار الخير كله للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومنه استمرار الوحي. وتعبير الآخرة غلب في اصطلاح القرآن الكريم على الحياة الآخرة والدار الآخرة، كما غلب لفظ الدنيا على حياة الناس هذه التي قبل انخرام هذا العالم، ومقصودنا من ذكر ذلك، ما أكرم الله به نبيه، وأثنى عليه به من أن المراد من كلا اللفظين كلا معنييه وهما: المعنى الأول: أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة؛ تبشيراً له بالخيرات الأبدية. المعنى الثاني: الإيماء إلى أن عودة الوحي عليه هذه المرة خير مما سبق، وتكفل الله تعالى له بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد. ثم يشير إلى الأمرين معاً فيقول: فاللام في {وَلَلْآخِرَةُ} و {الْأُولَى} لام الجنس، أي كل آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى. والكلام يشير إلى معاني ثناء الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصريحاً واستنباطاً من الكلام الكريم إلا أن السياق يقتضينا أن نلمح إلى أن حمل الكلام على الدنيا أولى وإن كان العموم كما قال يشمل الآخرة؛ وذلك لما يأتي: أولاً: أن المشركين مخاطبين بالقرآن، وهم لا يؤمنون بالآخرة كما هو معلوم من ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (397/ 30).

حجاجهم للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان مواجهتهم بما سيرونه في الدنيا أولى من أن يقال سترون في الآخرة مصداق ذلك. ثانياً: أن الفاء في {فَتَرْضَى} في قوله تعالى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] للتعقيب، مما يفيد تأييد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المباشر بهذه البشريات، وذلك أقرب أن يكون في الدنيا، مع التصديق بوقوع ذلك في الآخرة بلا شك. ثالثاً: كان في قوله تعالى: {وَالضُّحَى (1)} فقد ذكرنا أن ذلك يشير إلى أن نزول الوحي عليه هذه المرة يشبه الإشراق وانبلاج النور وفشوه، ومجيء الصبح المضيء للكون، وذلك في الدنيا. وعلى أية حال فقد جمع له ربه سبحانه الخير في العاجل والآجل، وبشره بوقوع ذلك ليراه المكذبون على أعينهم في حياتهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة. وتستمر المعاني الجميلة تتدفق من الآية تبين رفعة مكانته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك ما نراه في قوله: {لَكَ} حيث اللام هنا هي لام الاختصاص، أي خير مختص بك (¬1)، وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهو ثناء بالغ عليه، وفي ذاته، فكل شيء متعلق بذاته المشرفة في ازدياد من الخير، وكذلك دينه، وفي أمته أيضاً، أي هو في نفس الوقت وعد لا يتخلف من الله - جل وعلا - بأن ينشر دين الإسلام، وأن يمكن أمته من الخيرات التي يأملها النبي ¬

(¬1) قال الألوسي: "والاختصاص الذي تقتضيه اللام قيل: إضافي على معنى اختصاصه - عليه الصلاة والسلام - بخيرية الآخرة دون من ... آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين، كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعد له - عليه الصلاة والسلام - خير من المعد لغيره على الإطلاق، ويكفي في ذلك اختصاص المقام لمحمود به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن اختصاص اللام ليس قصريًا كما ... قرر في موضعه". روح المعاني (285/ 16).

- صلوات الله وسلامه عليه - لهم، وقد تحقق ذلك، فقد ورد أنه عُرِض عليه ما سيفتح الله على أمته من بعده فَسَرَّهُ ذلك (¬1)، فكان عطاء الله له، وفضله عليه عظيماً، فجاءت الآية التالية لتجلي هذا العطاء، وتبرز ذلك الفضل من الله - جل وعلا - للنبي - عليه الصلاة والسلام - حيث تبين قيمة الفضل درجة المتفضل عليه، وذلك في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، والواو للعطف على جملة القسم، وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع، كما سنعود إليه في سورة الليل في قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 23]. ونلاحظ على معانى الآية ما يلي: - حذف المفعول الثاني لـ {يُعْطِيكَ} يشعر بعموم العطاء له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أي أنه سيعطيه كل ما يرجوه من خير، فأفادت الجملة هنا تعميم العطاء، كما أفادت التي قبلها عموم الأزمنة، وهذا الخير لنفسه ولا يكمل إلا بخير أمته ودينه - عليه الصلاة والسلام - (¬2) فهو عطاء من كل شيء في كل الأزمنة، وقد جمعت الآية بين حرف التوكيد، وهو لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والتأخير في سوف ليدل على أن العطاء كائن لا محالة (¬3)، وإن تراخى لحكمة فزاد هذا العطاء، علاوة على أنه مستمر لا ينقطع، كونه لا محالة في وقوعه. وما يُعبر بهذه التعبيرات البليغة إلا لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدرجة العليا من الثناء والرفعة، وفي المكانة التي لم نسمع بمثلها لأحد. ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (197، 198/ 30). (¬2) انظر السابق. (¬3) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (473/ 16)، والبيضاوي "أنوار التنزيل" (502/ 5)، وأبا السعود "إرشاد العقل السليم" (879/ 5).

- وترتفع وتيرة الفضل، وحسن العطاء، ليجيء التعبير بفاء التعقيب في {فَتَرْضَى} لتفيد كون هذا العطاء عاجل النفع، بحيث يحصل به رضا المعطَى، فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص (¬1). - رأينا قوله: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} بإضافة رب دون اسم "الله" العلم إلى ضميره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما يؤذن به لفظ الرب من الرأفة واللطف، وللتوسل بإضافته إلى ضمير المخاطب، وهو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للإشعار بعنايته برسوله، وتشريفه بإضافة "رب" إلى ضميره. أما هذا العطاء الذي وعد الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به فقد خاض المفسرون والمؤرخون وغيرهم فيه، وما اجتمعوا إلا على أن عطاء الله هذا لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تحقق كاملاً، ووقع مصداقاً لما أخبر به، أقر بذلك الكافرون والمسلمون. فما هذا الذي أعطيه - صلوات الله وسلامه عليه - لقد أعطى عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله - عز وجل - في الدنيا من كمال النفس، وعلوم الأولين والآخرين، وظهور أمره بالظفر والنصر على أعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية، وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، علاوة على ما ادخر له في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو - جل جلاله -. ونأتي في نهاية الكلام على هذه الآيات من السورة التي تختص بما نحن بصدده من الثناء على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مقارنتها بما سبق من الآيات التي تثني على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمدحه، لتتضح بقية جوانب هذا البحث، ذلك الترتيب الزمني الذي تسلم كل سلسلة فيه إلى ما يليها في ¬

(¬1) انظرالطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (398/ 30).

تناسق بديع، يجعل من المقارنة هنا مجالاً لاستنباط معانٍ جديدة ومهمة في إبراز جدية البحث وجدته. فنقارن ما نزل في سورة القلم الذي سبق ذكره بما في سورة الضحى التي وقفنا عندها آنفاً، وأول ما يتبدى من المقارنة هو أن أول ما نزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الثناء، ذلك الثناء العظيم في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] في سورة القلم، فإذا ما قارنَّاه بقول في سورة الضحى بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3] نرى التناسب الذى ينبنى بعضه على بعض، فلا يعقل أن يقال له إنك أعلى صاحب خلق وأعظمه، ثم يقال له: لقد ودعك ربك وأبغضك، فكانت الأولى دليلاً على بعد الثانية عقلاً وواقعاً.

الفصل الثاني حقوقه صلى الله عليه وسلم

الفصل الثاني حقوقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المبحث الأول {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}

المبحث الأول {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وإذا كنا قد اختصرنا الثناء عليه، فقد آن الأوان لذكر حقوقه أو واجبات المؤمنين تجاهه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن الواجبات التي تجب له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتي أناطها الله تعالى بالمؤمنين للنبي صلوات الله وسلامه عليه الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حقوق تبين عظيم قدره عند الله تعالى، وقد أُمر بها المؤمنون في الآيات المتأخرة النازلة في سورة الأحزاب بعد الهجرة بزمن غير قصير، وهذا يوضح ردًا آخر على ما كنا بصدده في سورة الضحى من البغض والقلى، إذ كيف يتأتى بعد البغض الأمر من الله تعالى بالصلاة عليه، تعبيرًا عن رفع درجته وعلو منزلته وبعد مكانته، وأنه في ازدياد من معاني التشريف والتبجيل، حتى وصلت إلى هذه الدرجة، وأعلى منها فيما بعد، وإن كانت الآيات الأولى في التشريع تشير بوضوح إلى أن درجته عظمى من بداية البعثة، كما ثبت في آية {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [سورة القلم: 4]. وكيف يخبر الله تعالى الخبر الصادق بأنه وملائكته يصلون على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهناك أدنى شائبة تشوب فعله، أو قوله، أو أخلاقه في الظاهر أو الباطن. والآية الواردة في ذلك هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. ونحلل الآية لنرى ما تحوي من معان تستوقفنا، تمس مسًا رقيقًا شغاف القلب بما له

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المنزلة السابقة، وتنبه العقل إلى تصحيح تلك المفاهيم عن قيمة هذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومرتبته السامية عند الله على جميع البشرية، وهي مفاهيم في حاجة إلى تصحيح عند المسلمين قبل غيرهم، إظهارًا لمكانته المشرفة، والتي تفانى المؤمنون الأول في بذل نفوسهم فداء لها من قبل أن يفرض عليهم شيء وما ذلك إلا لمحبتهم له، وتقديمه على أولادهم وأنفسهم وأموالهم. ونعود إلى تحليل الآية ونلاحظ: أولاً: أن مقصود الآية هو جملة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} وأن ما قبلها توطئة وتمهيد لها؛ لأن الله لما حَذَّر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام (¬1) أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه، بل حظهم أكبر من ذلك وهو أن يصلوا عليه ويسلموا، وذلك هو إكرامهم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بينهم وبين ربهم، فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة فحوى الخطاب (¬2). ثانيًا: أن الآية بينت دوام صلاة الله وملائكته على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وثباتها وقتًا بعد وقت، وقراءتنا للآية الآن وقراءتها إلى أن تقوم الساعة دليل على استمرار هذا التشريف العظيم الذي ينبغي التدقيق في فهمه من الآية، وذلك أن الجملة الاسمية دالة على الدوام والاستمرار، وصدر الآية جملة اسمية، وأن الجملة الفعلية تفيد التجدد، وعجز الآية جملة فعلية، فأفادت الآية الأمرين معًا، فيكون مفادها استمرار الصلاة وتجددها وقتًا فوقتًا، وتقوى ذلك وتأكد تأكيدًا لا مرية فيه بـ {إِنَّ} وذلك للاعتناء بشأن الخبر، وهذا لم يحدث ¬

(¬1) في قوله: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا". (¬2) انظر ابن عاشور "التحرير والتنوير" (97/ 22).

لأحد من قبل من الأنبياء والمرسلين أن يخبر الله تعالى بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، أن الله وملائكته يصلون عليه! وهذا من التشريف العظيم الذي لم يعهد له نظير. ثالثًا: وقيل {وَمَلَائِكَتَهُ} ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظيم قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى لفظ الجلالة، وذلك مستلزم لتعظيمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث إن العظيم لا يصدر منه إلا العظيم، ثم فيه التنبيه على كثرتهم، وأن الصلاة من هذا الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين، وهذا أبلغ تعظيم وأبهاه وأشمله وأكمله وأزكاه. (¬1) رابعًا: أن الآية عبر فيها بالنبي، ولم يقل على محمد كما وقع لغيره من الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم كقوله لآدم: {يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، و {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} [هود: 48]، ولما ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الخليل ذكر الخليل باسمه وذكر رسول الله بلقبه فقال: {إِن أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68]، وهذه فضيلة عظيمة قد نوه العلماء بذكرها وشرفها وجعلها من المراتب العلية. والألف واللام في لفظ النبي يحتمل أن تكون للعهد فقد تقدم ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قبل، ولكن الأولى أن تكون للغلبة كالمدينة والكتاب لما أشعر به اللفظ من الفضل والمزية فكأنه هو المعروف الحقيق به المقدم على سائر الأنبياء. (¬2) خامسًا: أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} مع قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

(¬1) انظر السخاوي "القول البديع" (35 - 36)، والألوسي "روح المعاني" (108/ 12)، وابن عاشور "التحرير والتنوير" (97/ 22). (¬2) انظر شمس الدين السخاوي "القول البديع" (37)، الألوسي "روح المعاني" (108/ 22).

آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} إخبار من الله لعباده بمنزلة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده في الملأ الأعلى إذ يثني عليه، والملائكة المقربون يصلون عليه، ثم أمر أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا، فأهل السماء ومؤمنو الأرض مجمعون على الصلاة عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا من جليل الشرف ورفيع الدرجة التي له والتي لم تكتمل لغيره عليه الصلاة والسلام، والتي لم يصل إليها سواه، يقول الإمام السخاوي: وغاية مطلوب الأولين والآخرين صلاة واحدة من الله تعالى، وأنى لهم بذلك، بل لو قيل للعاقل أيهما أحب إليك أن تكون أعمال جميع الخلائق في صحيفتك أو صلاة من الله تعالى عليك لما اختار غير الصلاة من الله تعالى، فما ظنك بمن يصلي عليه ربنا سبحانه وجميع ملائكته على الدوام والاستمرار فكيف يحسن بالمؤمن أن لا يكثر من الصلاة عليه، أو يغفل عن ذلك. قاله الفكهاني. (¬1) سادسًا: يأتي السؤال مستكملين به معنى الآية فهمًا وتحليلاً، ليوضح ما أشرنا إليه من تشريف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرجته العالية وهو ما معنى الصلاة على النبي؟ سواء كانت من الله تعالى أو من ملائكته أومن المؤمنين، وكذا التسليم وعلاقته بالصلاة؟ أما معنى الصلاة لغة فقد ذكر الأصبهاني في "المفردات" (¬2) أن كثيرًا من أهل اللغة قالوا إنها: الدعاء والتبريك والتمجيد، وهو يجمع ما ذكره العلماء والمفسرون من كونها الدعاء والثناء والرحمة (¬3)، وإظهار الشرف وتعظيم الشأن (¬4)، وإشاعة الذكر الجميل له (¬5). ¬

(¬1) شمس الدين السخاوي "القول البديع" (35 - 36). (¬2) الحسين بن محمد الأصبهاني "المفردات في غريب القرآن". (¬3) انظر الألوسي "روح المعاني" (109/ 22)، ابن جرير الطبرى، جامع البيان في تفسير القرآن (20/ 320). (¬4) ذكره البيضاوي عبد الله بن عمر "أنوار التنزتيل وأسرار التأويل" (385/ 4). (¬5) انظر الحسين بن مسعود البغوي "معالم التنزيل" (360/ 1).

وهذا كله قد اجتمع للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدارين، في الأولى والآخرة يقول الإمام الألوسي: واختلفوا في معنى الصلاة من الله تعالى وملائكته عليهم السلام على نبيه على أقوال، فقيل: هي منه - عز وجل - ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه، ورواه البخاري عن أبي العالية وغيره عن الربيع بن أنس، وجرى عليه الحليمي في شعب الإيمان، وتعظيمه إياه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء العمل بشريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وإجزال أجره ومثوبته، وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كافة المقربين الشهود، وتفسيرها بذلك لا ينافي عطف غيره عليه كالآل والأصحاب عليه؟ لأن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به. (¬1) والمعنى الثاني لصلاة الله تعالى على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الرحمة كما ذهب إليه جمع من أهل العلم (¬2)، وبتدقيق النظر في هذا الاختيار الأول وجدناه الأصوب حيث رأينا بالفعل فروقًا كثيرة بين الصلاة والرحمة - كما ذهب إلى ذلك جمع من المحققين - مما يشي بتقوية القول الأول، وحسن دليله ورجحانه، ونذكر بعض الأدلة على أن الصلاة ليست الرحمة فمنها: الأول: أن الله تعالى فرق بين الصلاة والرحمة كما في قوله - سبحانه وتعالى -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 157] حيث عطف الرحمة على الصلاة، فاقتضى ذلك تغايرهما، وهذا أصل العطف. ¬

(¬1) الألوسي "روح المعاني" (109/ 22). (¬2) السابق، وقد ذكر الإمام ابن القيم أنه قد ذهب إلى هذا القول الضحاك والمبرد وهو القول المعروف عند كثير من المتأخرين، وأضاف الألوسي ابن الأعرابي، وهو اختيار الماوردي.

الثاني: أن رحمته سبحانه وسعت كل شيء، أما صلاته فهي خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، فليست الصلاة إذن مرادفة للرحمة، لكن الرحمة ثمرة من ثمرات الصلاة، ولازم من لوازمها، وهذا كثيرًا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن، وألفاظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث تفسر اللفظة بلازمها وجزء معناها، كتفسير الريب بالشك، والشك جزء مسمى الريب، وتفسير المغفرة بالستر، ونظائر ذلك كثيرة. الثالث: أن الصلاة لا تعرف في اللغة الأصلية بمعنى الرحمة أصلاً، والمعروف عند العرب من معناها إنما هو الدعاء والتبريك والثناء، قال الشاعر: وإن ذُكِرَت صَلَّى عليها وزَمزَمَا أي: بَرَّك عليها ومدحها، ولا تعرف العرب قَطُّ "صلى عليه" بمعنى الرحمة؛ فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف في اللغة. الرابع: أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة، كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربه: "إن رحمتي سبقت غضبي" (¬1). وقوله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]. وقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها" (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (325/ 13) في التوحيد: باب قول الله "ويحذركم الله نفسه"، ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) أخرجه البخاري (360، 361/ 10)، ومسلم (2754) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

فمواضع استعمال الرحمة في حق الله تعالى، وفي حق العباد لا يحسن استعمال الصلاة في أكثرها، ومن ثم لا يصح تفسير الصلاة بالرحمة. وضَّحت هذه الأدلة كما هو مبين إذاً أن القول الأول هو الذي يصار إليه ويعتمد في التفسير عليه، ولا ندعي أنه القول الأوحد، إذ ذهب بعض أهل العلم لما رأوا وتحققوا من كون هذا التفسير هو الأقرب إلى روح المعنى، والأوفق بظاهر النص إلى أن يوفقوا بينهما (¬1)، يجعل الصلاة هنا الرحمة لكنها رحمة خاصة لائقة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي هذا يقول ابن حجر الهيتمي ما ملخصه: وأن مآل هذا القول والذي قبله إلى شيء واحد، والتخالف بينهما إنما هو في اللفظ فقط؛ إذ لا يسع أحد أن يقول: إن صلاة الله على نبيه أو رحمته له بمعنى صلاته على بقية المؤمنين أو رحمته لهم؛ لأن القدر اللائق به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك أرفع مما يليق بغيره، فالرحمة وإن شملت الأمرين لكنها بالنسبة للأنبياء أجل وأرفع، وهذا الأجل الأرفع فيه من الخصوص ما ليس في مطلق الرحمة فخص باسم الصلاة، وخص اسمها باستعماله في الأنبياء تمييزًا له ولهم، وتنويهًا لشرفه وشرفهم. ويستكمل ابن حجر القول بأنه رأى "عياضًا القاضي" صرح بما ذكره نقلاً عن أبي بكر القشيري حيث يقول: الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشريف له وزيادة تكرمة وعلى من دون النبي رحمة، وبهذا التقرير يظهر الفرق بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين سائر المؤمنين في أن الله وملائكته يصلون على النبي، مع قوله قبله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ}. ومن المعلوم أن القدر الذي يليق به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك أرفع مما يليق بغيره، والإجماع منعقد ¬

(¬1) انظر على سبيل المثال ابن حجر الهيتمي "الدر المنضود" (25)، الألوسي "روح المعاني" (109 - 110/ 22) وغيرهما.

على أن في هذه الآية من تعظيم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتنويه به ما ليس في غيرها. انتهى ملخصًا. (¬1) وهذا ما أشار إليه بعضهم بقوله: صلاة الله على خلقه خاصة وعامة، فهي على أنبياءه الثناء والتعظيم، وعلى غيرهم الرحمة فهي التي وسعت كل شيء. (¬2) ذكرنا فيما سبق من حقوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة والسلام - عليه حيًا وميتًا؛ وأن ذلك لتحصيل جزيل الثواب وعظيم الأجر، وكان هذا الحق سيرة أصحابه الكرام - حيًا وميتًا، وكذلك ديدن المؤمنين المتقين إلى يوم القيامة، وكان هذا الحق أثرًا من آثار محبته التي هي من محبة الله تعالى وقد شاع بين المؤمنين بسببه حينئذ تعظيم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحترامه في ندائه وخطابه وجميع معاملات المؤمنين معه من قبل، ولكن كان لابد من توثيق هذه الحقوق والآداب، والتأكيد عليها، ليقوم بها الموجود وليعلمها من لم يعايشها، والمؤمنون من بعد، وكان ما ارتكبه جفاة الأعراب من وفد بني تميم من نداء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء الحجرات سبب نزول هذه الآيات تحمل بيان تلك الآداب في سورة تسمت بذلك - سورة الحجرات - لتكون منشور تلك الأخلاق السامية إلى يوم الدين، وكانت هذه السورة من أواخر ما نزل إذ نزلت سنة تسع للهجرة، قرب ختام البعثة المحمدية لتكون دليلاً على علو درجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن دنو لحوقه بالرفيق الأعلى لا يمنع من نزول قرآن يتلى، ويتردد على مسامع الخلق يؤكد صحة النبوة وصدق الرسالة في تبيين الرب سبحانه لحقوق نبيه وخلودها، وإظهارًا لسمو منزلته، ورفعة مكانته، إذ لا يمكن أن تكون تلك التوجيهات لمن هم في عالم ¬

(¬1) ابن حجر الهيتمي "الدر المنضود" (25 - 27). (¬2) ابن قيم الجوزية "جلاء الأفهام" (157) ط 2 دار العروبة تحقيق عبد القادر وشعيب الأرناؤوط 1407 هـ / 1987 م.

الغيب إلا برهانًا على أنها من حكيم خبير، هو عالم الغيب والشهادة. ونبدأ بعد هذا التقديم في تحليل تلك الآيات الكريمات لتوضيح ما احتوت عليه من حقوق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

المبحث الثاني {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}

المبحث الثاني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أما الآية الأولى فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} [الحجرات: 1]. ونلاحظ ما يلي: - افتتاح الآية الكريمة بالنداء، للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق؛ لأن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، وهذا يدل على إجلال الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلو منزلته عنده إذ أحاط أوامره للمؤمنين عند إظهار حقوق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه الآداب فما بالك بالآداب معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقد أمر الله تعالى المؤمنين بالقيام بحقوقه في صورة لم تك لأحد من العالمين، وهذا منتهى الفخر، وغاية الشرف. - ووصف المخاطبين بوصف الإيمان؛ لتنشيطهم للمسارعة إلى الامتثال لهذا النهي، لأن وصفهم بالإيمان يؤذن بأنه داع للمحافظة على هذا الخطاب ووازع من الإخلال به، وأن ما يحملهم على المبادرة لذلك علامة إيمانهم، ومن ثم كان دليلاً على المحافظة والمسارعة للقيام بحقوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه كلما ازداد الإيمان، زاد التفاني في القيام بهذه الحقوق والمثابرة على التخلق بها في معاملتهم معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه أعظم الدليل على أنه ما نقص حق القيام بواجباته إلا من نقص الإيمان، ولذا وجب على المؤمنين في هذه الأيام تفقد إيمانهم فيما يتعلق بالرسول

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ يخشى عليهم في هذه المحن أن يذهب إيمانهم لعدم المبالاة بحقوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وله مزيد اتضاح عند قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2]. أما قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا} فقد جمع كل التقديم المناسب في حقه، إذ له ثلاثة معان: الأول: لا تقدموا بمعنى لا تفعلوا التقديم كقولنا: فلان يعطي ويمنع، أي يفعل الإعطاء والمنع، ويكون ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل (¬1) فيكونون منهيين أبدًا عن فعل التقديم كائنًا ما كان بين يديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خاصة وأن التقدم حقيقته المشي قبل الغير. الثاني: لا تقدموا أمرًا من الأمور، ويكون حذف المفعول للتعميم أي لا تقدموا أي أمر من قول أو فعل حتى تعلموا فيه حكم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكأن المؤمنين مرتبطون برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينفكون عنه في كل أحوالهم بخصوص الشرع وعمومه لأن ذلك هو فوزهم في الأولى والآخرة، لأنه كما بين بعد بأنه تقوى الله تعالى. الثالث: بمعنى التقدم، ومنه مقدمة الجيش، وهو مضارع قَدم القاصر لا مفعول له فكان بهذا الأدب قد جمع له المولى سبحانه ما ينبغي له من أدب المؤمنين كافة معه، وقصر عليه وحده هذه الآداب كافة، لأنه عُلِم من حال البشر أن ذلك لم يكن إلا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وللأنبياء من بعده، وحسبك بذلك شرفًا وعلو قدر، يوحي هذا العلو من الشرف بأنه لا يعطيه إلا مالك الملك - سبحانه وتعالى -، إذ لو كان وهب هذه المنازل السابقة لبشر لكان أولى أن يلصقوها بأنفسهم، ويدعوها لذواتهم، ومع ذلك لا تلبث أن تفنى أو تنسى بمضي أصحابها، ولكن انظر إلى بقائها مع رحيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير سلطان يفرضها أو حاكم يجبر الناس عليها، وما ذلك إلا لكونها الرسالة الصادقة، والنبوة الموحى بها من الله - جل جلاله -. ¬

(¬1) تفسير أبى السعود (إرشاد العقل السليم) طبعة دار الفكر (5/ 607).

ويبين هذا قوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وإن المؤمنين لم يعرفوا مراد الله إلا من جهة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويكون المعنى: لا تقدموا بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما ذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن التقديم بين يديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هو تقديم بين يدي الله تعالى، وتهجين هذا الفعل واستقباحه وهو أن تفعل بين يدي المعظم ما تقدم به فعلك أو قولك. ويكون المقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفسه، ويحصل معنى آخر وهو الأمر باتباع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل أمر من أمور المؤمن، ولا ينفرد عنه، وهو ما يبرهن عليه التركيب، إذ هو تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلاً دون إذن من الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحال من يتقدم مماشيه في مشيه ويتركه خلفه، ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق، فهو أدب إذا باق إلى نهاية الدنيا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا بأس من ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات أولاً: لنبرهن به على ما كان عليه أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التنافس على اتباع تعاليمه والتأدب بأحسن الأدب معه ليكون في ذلك قدوة للمصدقين بنبوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمنين به، وعلامة بارزة على أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك طاعة لله - سبحانه وتعالى -، عندما صدقوا بنبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأيقنوا بصحة الوحي وصدقه إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ما يدل على أنه رسول الله حقًا. ثانيًا: لنمهد به للأدب الثاني وهو عدم رفع الصوت عنده وهذا السبب لنزول الآية له شقان: الأول: المتعلق بالأعراب من بني تميم الذين نزلت الآيات لترشدهم مع التوبيخ إلى أصول الأدب مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثاني: وهو المتعلق بالخيرين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وسنقتصر على ما رواه البخاري في صحيحه؛ لأنه أيا ما كان السبب فهو يدور حول أدب التعامل مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتحذير الشديد من مخالفة ذلك، روى البخاري بسنده إلى ابن

الزبير - رضي الله عنه - قال: "قدم ركب من بني تميم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال أبو بكر: أمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي (أو إلى خلافي)، قال عمر: ما أردت خلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 1، 2]. جعلت هذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله، والجهر بالقول، وندائه من وراء الحجرات؛ لأن من خصه الله تعالى بهذه الحظوة والمرتبة العالية من جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت عنده. ومن ثم جعلت هذه الآية في صدر السورة مقدمة على توبيخ وفد من بني تميم حين نادوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء الحجرات حيث ذلك من قبيل رفع الصوت عنده، وإن مماراة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كانت في نفس قصة بني تميم فكانت الآية تمهيدًا لقوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} (¬1) وباستكمال تحليل الآية الكريمة نصل إلى ختامها في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}. أما العطف في قوله {وَاتَّقُوا} فهو تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليدل ¬

(¬1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (607/ 5)، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (217/ 26)، والفخر الرازي "التفسير الكبير" كل ذلك بتصريف.

على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تقوى الله وحده، وأن ضده ليس من التقوى، ليرد ذلك قول مدعي التقوى اليوم، وأنها في القلب يريدون بذلك هدم الإسلام بالتحلل من اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتزام تعاليمه والاقتداء به، فيه الرد إذًا عليهم بأن ما فيه (هم) مضاد للتقوى، وهم ليسوا منها في شيء. وكانت جملة {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والأمر بتقوى الله (¬1)، وهي كناية عن التحذير من المخالفة لكون الله تعالى سميعاً بما يقولون عليماً بما يدبرون من مخالفته ليرعوي ولينزجروا بذلك، ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر. وجاء الأدب الثاني الذي انتظمته الآيات الكريمات، وهو عدم رفع أصواتهم فوق صوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} وذلك في مجلسه وحضرته إذا كلم بعضكم بعضًا. وقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان الصحابة عنوان هذا الاحترام والأخذ بأحكامه، فما كان يفد أحد من البادية على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا نبهوه على هذا الأدب. قال صفوان بن عسال - رضي الله عنه - في حديثه الطويل -: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، إذ ناداه أعرابى بصوت له جهورى: يا محمد فأجابه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحواً من صوته: هاؤم! فقلنا له: ويحك! اُتغضض من صوتك، فإنك عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد نهيت عن هذا ... . (¬2) ¬

(¬1) التحرير والتنوير (ابن عاشور) الدار الجماهيرية، المجلد (25 - 26/ 219). (¬2) رواه الترمذى (3458)، وقال هذا حديث حسن صحيح، وقد أقتصرنا على موضع الشاهد.

ونعود إلى تحليل الآية: - الآية في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد النهي عن التجاوز في القول والفعل، كأنه تفصيل لشيء من مفردات النهي الأول وضرب المثل له. - وإعادة النداء مع قرب العهد بالنداء الأول للمبالغة في إيقاظ المؤمنين وتنبيههم، مع إظهار الاهتمام بهذا الغرض الجديد، والإشعار باستقلال كل من الكلامين لأنه كان يمكن أن يكون السياق: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا ترفعوا أصواتكم ... ولكن حتى لا ينغمر الغرض الثاني في الأول، إذا هذا الثاني من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتي تدل بدلالة الفحوى على ما هو آكد من المعاملات مع النبي صلوات الله وسلامه عليه من باب الأولى، لذلك أفرد بالتنبيه مرة أخرى (¬1). - وحقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألا يرفع عنده الصوت حيًا ولا ميتًا، فكان عمر - رضي الله عنه - يزجر من يرفع صوته عند مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تأدبًا بهذا الأدب، وسلوكًا لهذا الواجب وكذا لا يرفع الصوت على سنته ميتًا، فما دام قد تحقق من كون الأمر سنة من سنته فمن واجب التأدب أن يقول قول المؤمنين المتقين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285]. (¬2) - والرفع مستعار لجهر الصوت جهرًا يتجاوز معتاد الكلام، وهو إما من تشبيه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشد بلوغًا إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار، أو من تشبيه إلقاء الكلام بجهر قوي بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة، فالأول على سبيل الاستعارة المكنية والثاني على طريقة الاستعارة التبعية. ¬

(¬1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم"، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (219/ 26). (¬2) انظر ابن القيم "بدائع التفسير"، ... وغيره.

ويكون قوله {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ترشيح لاستعارة {لَا تَرْفَعُوا}، وهو فوق مجازي ويكون موقع قوله: {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} موقع الحال من أصواتكم، أي متجاوزة صوت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات إذ ذلك جهر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا شك أنه نهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر فيها بالجهر، كالأذان وتكبير العيد، وما أذن فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذنًا خاصًا كإذنه للعباس يوم حنين (¬1) وهذا يدل على علو مكانة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ يأمر المولى - سبحانه وتعالى - عباده بمراعاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحسن معاملته إلى درجة ألا يرفع أحد صوته عنده، فما بال المؤمنين المتقين بغير ذلك من الآداب، قد جمعت له كل وسائل الأدب إذاً على أكمل الوجوه واتمها ظاهرًا وباطنًا، حيًا وميتًا، مرتبة عظيمة تلك التي أنبأنا الله تعالى عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبلغها أحد من الخلق طرًا، والمقارنة بين ما أمر الله به، وبين ما وصلنا إليه في معاملتنا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما يدعو إلى الأسى والحزن، والخوف من عقاب أليم ينزل لا يبقي ولا يذر، كما أكد سبحانه بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]، وإن نظرة لما هبطنا إليه في سلم العلو والحضارة ليخبرنا بالبون الشاسع بيننا وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان الاقتداء به سببًا للعلو والمجد وانتشار الهداية والنور ورفع راية الحق والعدل، والرحمة والمساواة، والسمو المادي والأخلاقي الذي لم يعهد مثله من قبل. إن ما سبق من الكلام في الأدب الثاني مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان بعدم رفع الصوت في مجلسه وحضرته، وبالتالي يأتي الأدب الواجب المتعلق بمكالمته ومشافهته إذ هذا لصيق الصلة بذلك، حيث كانت مجالسه مجالس الهداية والتعليم والإرشاد والرحمة ونزول السكينة وغيرها من سبل الرشاد مما يستدعي أن يخاطبه الصحابة رضوان الله عليهم سؤالاً ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"، (220/ 26).

واستفهامًا واستفتاءً واسترشادًا، هل ترك الله جل وعلا لهم مخاطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأي قول أو بأي هيئة بغير أن يبين لهم السلوك الواجب في ذلك تعظيمًا لأبهة النبوة وإظهارًا لعظم المكانة وتبجيلاً له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليعلموا بخطابه أنهم يخاطبون المهيب العظيم المتدثر بالنبوة والذي تقديره وإعزازه من تقدير مرسِله وتوقيره - سبحانه وتعالى -؟ نعم بين لهم ذلك وأوضح لهم في نفس الوقت جزاء المخالفة لذلك وعاقبته المخزية في الأولى والآخرة هذه بداية حروف الأدب الواردة في القرآن الكريم: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2]. بين هذا الجزء من الآية شقين من الكلام؛ الأول حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والثاني العقاب المترتب على المخالفة والتقصير في هذا الحق. لما عطف هذا النهي - عن الجهر - على الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دل على أنه جهر آخر للتغاير بين مقتضى قوله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ومقتضى قوله: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} خاصة وقد تعدى الفعل {تَجْهَرُوا} باللام في قوله {لَهُ}، فدلت اللام هنا على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته، وزاده وضوحًا التشبيه في قوله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}. (¬1) ومعنى الكلام المعظم: ولا تجهروا له بالقول إذا كلمتموه كالجهر الجاري فيما بينكم، بل اجعلوا صوتكم أخفض من صوته عليه الصلاة والسلام، وليس غض الصوت فقط هو المطلوب وإنما ما يدل عليه من الأدب في المحادثة كالتعهد في مخاطبته اللين القريب من الهمس، كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم، محافظة على مراعاة أبهة النبوة وجلالة ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (221 - 222/ 26).

مقدارها. وهذا ما يدلنا عليه تأكيد سابق في سورة النور لتوضيح هذا الأدب وهو في قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} حيث إن الآية ذكر لها المفسرون تفسيرين ما يعنينا هنا هو: اعتبار إضافة {دُعَاءَ} إلى {الرَّسُولِ} من إضافة المصدر إلى مفعوله، المقدر الفاعل ضمير المخاطبين، والتقدير: لا تجعلوا دعاءكم الرسول، فالمعنى نهيهم أن يدعوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يدعو بعضهم بعضًا، وقدر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمسلمين، حيث الخطاب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا}، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ}، ليكون حثًا على تلقي هذه الجملة بنشاط فهم، فنهاهم أن يدعوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - عند مناداته كما يدعو بعضهم بعضًا في اللفظ أو في الهيئة؛ فأما في اللفظ فبأن لا يقولوا: يا محمد، أو يا ابن عبد المطلب، ولكن يا رسول الله، أو يا نبي الله، وأما في الهيئة فبأن لا يدعوه من وراء الحجرات، وأن لا يلحوا في دعائه إذا لم يخرج إليهم كما جاء في السورة التي معنا نتكلم فيها عن آداب مخاطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي سورة الحجرات. لأن كل هذه الأخلاق من الجلافة التي لا تليق بعظمة قدر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهذا أدب المسلمين، وسد لأبواب الأذى عن المنافقين. (¬1) بيد أنه لا يسعنا مع ما وصلت إليه أحوال المسلمين اليوم إلا أن نشير إلى ما كان عليه أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاستجابة لهذه التوجيهات والعمل بمقتضاها مسارعة لرضا الله تعالى، وتعظيمًا لأوامره، والتي تظهر أول ما تظهر في محبتهم لرسوله وتعظيمهم له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كان أول المسارعين إلى ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ونذكرهما بالذات أولاً لكونهما خاصة الخاصة عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولورود ذكرهما في أسباب نزول الآيات التي ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (309 - 310/ 18).

نحن بصددها. أما ما ورد عن أبي بكر - رضي الله عنه - فعن أبي هريرة: أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية: «والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله». (¬1) وزاد أنه - رضي الله عنه - كان يرسل إلى الوفود إذا قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يعلمهم كيف يسلمون، ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما عمر - رضي الله عنه - ففي صحيح البخاري: قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هذه الآية حتى يستفهمه. (¬2) وكان على هذا الأدب أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام حيث كان يأتي الأعرابي فيرفع صوته بحضرته فيعلمونه ويرشدونه بقولهم اخفض صوتك إنك عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬3) مضى على تلك الأخلاق الحسنة الأجيال الفاضلة التي علت ودانت لها الدنيا، حتى ظهرت هذه الأخلاق الآثمة من الكفرة ومدعي الإسلام، تتنقص الرسول وتسيء إليه، وترفع صوتها فوق صوته، بل ترد قوله، وتمجد قول غيره وتعظمه وتنعق به، وتسير وراءه، وهنا مكمن الخطر، وموضع الزلل، وهو الشق الثاني في الآية الكريمة، الذي يبين عاقبة ¬

(¬1) رواه الحاكم (3720) وقال على شرط مسلم ووافقه الذهبي (501/ 2)، والبزار (45)، (110)، والبيهقي (1520) (197/ 2)، انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (220/ 26)، وأبا السعود "إرشاد العقل السليم" (608/ 5). (¬2) البخاري (4845)، (6872)، والترمذي (3209)، وأحمد (15773)، (15746)، وإرشاد العقل السليم، والتحرير والتنوير (المصدران السابقان). (¬3) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (92/ 3).

الجهر له كالجهر لغيره بمعتاد القول، فكيف بما هو أشنع وأسوأ، وهو ما جلاه قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)}. وهذا العقاب الشديد معناه أن التقصير في هذا الأدب مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤدي إلى الكفر الذي تحبط به الأعمال، ومعنى كلام الله تعالى: أن الجهر بالقول له يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم، ويكون التقدير عند البصريين لا تجهروا له بالقول خشية أن تحبط أعمالكم، وتقدير الكوفيين بتقدير {لَا} النافية فيكون أن لا تحبط أعمالكم. (¬1) والحَبَط: تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها واعتلت أو ربما هللت، وقد جاء في الحديث ما يدل عليه في قوله: (وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطًا أو يلم)، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] (¬2). ومما سبق يتضح شيء من المقصود من القيام بسلوك واجب الأدب، وحسن المعاملة التي تحقق بها الصحابة رضوان الله عليهم، خشية أن يحل عليهم عذاب الله أو تصيبهم الفتنة من الوقوع فيما يحرجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيغضب له الرب، فيعد لهم هذا السيئ من العذاب، ومن ثم جاء التحذير من الله لمن بعدهم إلى أن تقوم الساعة أن يقعوا في ذلك أو أن يتساهلوا فيه ويستمرئوه وأنهم إذا وقع منهم ذلك مهما كانت لهم من أعمال صالحة - يظنون - فإنها لن تجديهم نفعًا، بل هي هباء قد ذهب منثورًا، وهو حال الذين يزعمون اليوم أنهم مسلمون صادقون، فكيف بحال من يبطن الكفر ويدعي الإسلام، إن مآل إليه حال المسلمين اليوم ¬

(¬1) المفردات حَبِطَ، انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (221/ 26). (¬2) الحديث البخاري (1379).

ليدلنا على صحة الرسالة، وصدق النبوة إذ أخبر القرآن بذلك، وليس الكلام في إحباط الأعمال من شأن البشر، وما كان ليقال، ويخبر به إلا من لدن حكيم خبير، حيث لما ظهرت ما حذر منه من أسباب تؤدي إليه. إن ظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال، لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون ذلك الحبط إلا في حالة الكفر، لأن من الأعمال الإيمان، فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم، يأتي على عظيم من صالحاته، أو يفضي به إلى الكفر. قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" أي يكون ذلك سببًا إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقري حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحبط الأعمال. يقول الإمام ابن عاشور في "التحرير والتنوير" تعقيبًا على كلام ابن عطية: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعود النفس بالاسترسال فيه، فلا تزال تزداد منه، وينقص توقير الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النفس، وتتولى من سيء إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر، وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} لأن المتنقل من سيء إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملي من السوء بحكم التعود بالشيء قليلاً حتى تغمره المعاصي، وربما كان آخرها الكفر حين تضري النفس بالإقبال على ذلك. (¬1) على عكس ذلك كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشعرون بالمخالفة اليسيرة ويستعظمونها، ويحزنون لوقوعها منهم حتى ولو بغير قصد وعمد؛ خوفًا من أن يتنزل عليهم غضبه، أو يحل عليهم عذابه، لذلك عظم الله قدرهم، ورفع منزلتهم وأثابهم أجزل ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (221 - 222/ 26).

المثوبة في الدنيا والآخرة، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، هذا ثابت بن قيس بن شماس - خطيب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان في أذنه وقر وكان جهوري الصوت، لما نزلت هذه الآية افتقده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبر بشأنه فدعاه فسأله، فقال يا رسول الله: أنزلت عليك هذه الآية وأنا رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة» (¬1) وهكذا كانوا في عموم حالهم مع ربهم ورسولهم وقرآنهم ودينهم اعتقادًا وأخلاقًا وسلوكًا ودعوة. تصديقًا لمثل ذلك، جاءت الآية التالية لما سبق تبين عظيم البشريات وأجمل العواقب لمن كان في سلوكه على مثل هذا النهج الحسن فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} [الحجرات: 3]. ونحلل هذه الآية الكريمة نختم بها بعد الترهيب المخوف السابق، بالترغيب المُطَمئِن للنفس، الباعث فيها لروح الرجاء الدافع بالمرء إلى أقصى درجات المحبة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لتتفجر منه أقوى طاقات الاتباع والسلوك والاقتداء والتأدب معه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع بذل النفس والمال، وهجرة الأهل والوطن لنصرته والذود عنه. إن أول ما يصادفنا في الآية هو: - افتتاحها بحرف التأكيد، فالكلام استئناف بياني لأن التحذير في قوله تعالى {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} يثير في النفس سؤالاً عن جزاء من حاله ضد هذه الحال المخزي الذي حبط عمله. ¬

(¬1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (608/ 5)، وحديث ثابت - رضي الله عنه - عند أبي يعلي (3846)، والطبراني (1305) وهو حديث حسن.

- فجاء هذا الاستئناف بالتأكيد ب {أَنْ} للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم. - وتفيد الجملة تعليل النهيين {لَا تَرْفَعُوا} و {وَلَا تَجْهَرُوا} بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهما، وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} مع ما في اسم الإشارة من البعد الدال على بعد مكانتهم وعلوها، والتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخير المذكور بعد اسم الإشارة، لجل ما ذكر من وصفهم قبله. (¬1) - والغض حقيقته: خفض العين، أي لا يحدق بها إلى الشخص، وهو هنا مستعار لخفض الصوت والميل به إلى الإسرار، والامتحان: الاختبار والتجربة، وهو افتعال من محنة، إذا اختبره. - واللام في قوله {لِلتَّقْوَى} لام العلة، أو لام الاختصاص، ويكون التقدير على الأولى: امتحن الله قلوبهم لأجل التقوى، لتكون فيها التقوى، فيكونون أتقياء، يقال: امتُحِنَ فلان للشيء الفلاني كما يقال: جُرِّب للشيء، ودُرِّبَ للنهوض بالأمر، أي فهو مضطلع به، فيكون قد ضَرَبَ قلوبهم بضروب المحن، والتكاليف الشاقة لأجل التقوى، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها، وكل ذلك موافق لما عليه المتقون المحمودون في علاقتهم بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل زمان ومكان، صابرين على تكاليف التقوى يقومون بها بخالص المحبة متقبلين لنتائجها، لأن كل ذلك في رضا الله، ووقوع ذلك منهم يدل عليه جواز أن يجعل الامتحان كناية على تمكن التقوى من قلوبهم، وثباتهم عليها، بحيث لا يكونون في ¬

(¬1) انظر لما سبق أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (608 - 609/ 5)، الرازي "التفسير الكبير"، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (222 - 223/ 26).

حالٍ ما غير متقين، وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم وفي هذه المعاني درس المسلمين اليوم. - ويجوز أن يجعل فعل {امْتَحَنَ} مجازًا مرسلاً عن العلم، أي علم الله أنهم متقون، وعليه تكون اللام من قوله {لِلتَّقْوَى} متعلقة بمحذوف حال من قلوب، أي كائنة للتقوى، فاللام للاختصاص وهو القول الثاني. - أو هو سبحانه علم كون هذه القلوب مفعمة بالمحبة لرسوله تستحق ذلك بفضله، فأخلصها للتقوى كامتحان الذهب لتمييز إبريزه من خبثه، وهذا من فضل الله تعالى ومنته على أولئك المستجيبين لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، ويكون فيه فوزهم في الآخرة، ورفع رايتهم في الدنيا. - وجملة "لهم مغفرة وأجر عظيم" جعلت جزاء للغاضين أصواتهم، الملتزمين بالشرع المؤدب مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في مقابل عقاب أولئك المنحرفين عنه المتعاملين معه على هذا الحال النكد، فهؤلاء لم يغفر لهم؛ لأنهم كفروا بذلك الفعل، وذلك شرع الله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)} [محمد: 34] وبالتالي حبط عملهم فلم يستفيدوا منه بشيء على عكس أولئك المؤمنين المتقين، حيث غفر لهم ما يمكن أن يفلت منهم من تقصير بمقتضى البشرية، وأثيبوا على عملهم الصالح، وخص منه سلوك الأدب مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأجر العظيم مبالغة في تقدير عملهم هذا وتنويهًا برفعة قدره، وعلو شأنه. - والجملة {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} للمفسرين فيها إعرابان، الأول: أنها خبر إن، وذهب الزمخشري إلى أن خبر أن هو اسم الإشارة مع خبره، وجعل جملة {لَهُمْ} مستأنفة. فعلى القول الأول فإن {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} هو المقصود من هذا الاستئناف، وما بينهما

اعتراض للتنويه بشأنه. وفي القول الثاني نختم بكلام الزمخشري ذاته حيث يقول في "الكشاف": (وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسمًا لـ {إِنَّ} المؤكدة وتصيير خبرها من مبتدأ وخبر معرفتين معًا، والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهمًا أمره؛ ناظرة في لدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعل الذين وقروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقدر شرف منزلته.) (¬1) وهذا الوعد والثناء يشملان ابتداء أبا بكر وعمر إذ كان كلاهما يكلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كأخي السرار (¬2)، والباقي كل حسب سلوك واجب الأدب معه ولا تعليق بعد هذا الكلام إلا بالأسى والحزن مرة أخرى لما وصل إليه حالنا، وما ينبغي للمؤمنين فيه من معاودة الكرة بالرجوع إن كانوا صادقين إلى محبته وسنته وتعظيم قدره، ورفع راية شريعته، ليعود إليهم مجدهم، {إِن اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. ¬

(¬1) الزمخشري محمود جار الله "الكشاف" (6/ 364). (¬2) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (6/ 223).

الفصل الثالث عصمته صلى الله عليه وسلم

الفصل الثالث عصمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

المبحث الأول معنى العصمة

المبحث الأول معنى العصمة والعصمة مما اختص الله تعالى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، كذلك الأنبياء من قبله، ونقصد بالعصمة: أن الله جل وعلا حفظه من المعاصي والسيئات صغيرها وكبيرها بعد البعثة، وحفظه أيضًا مما يكون سببًا للشين أو التنقص قبل البعثة، ألا يقع منه قبل البعثة ما يكون سببًا لازدرائه أو الوقوع في عرضه بأن يقال له بعد البعثة قد كنت تفعل هذا الذي تنهانا عنه الآن، وكذلك من كل ما يكون منفرًا من قبول الدعوة عند أصحاب الطباع السليمة. إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابد أن يكون متميزًا عمن يدعوهم إلى الله تعالى، فهو يدعوهم إلى مكارم الأخلاق وأحاسن الصفات، وصحيح الاعتقادات وجميل العبادات، فهو أسوتهم إذن في ذلك وقدوتهم في أقواله وأفعاله وأخلاقه، فلا يجوز أن يكون كذلك ويصدر عنه ما يخالف قوله أو فعله، مما يسقطه من أعينهم أو يقلل قيمته وشأنه في نظرهم، فيكون حائلاً عن وصول دعوة الحق إلى الناس، وصادًا لهم عنها، بدلاً من أن يكون هاديًا لهم فيها معينًا لهم عليها، وهذا قادح في مرسله - سبحانه وتعالى - حاشا له - إن ذلك يناقض هدف الدعوة ومقصودها. وقد أخذنا أنفسنا في أول الفصل بأن يكون الكلام على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما نزل به القرآن الكريم أي - رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القرآن - ترجمة أمينة له لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لما ذكرناه هناك من أسباب، فكذلك القول في العصمة.

وسوف نعالج موضوع عصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريقة مختلفة عن طريقة التقرير العادية للقضايا، بطريقة تعتمد على قراءة النصوص القرآنية كلها الواردة في الموضوع، والربط بينها لنخرج بنتيجة نطبقها من باب الأولى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اخترنا قصة يوسف - عليه السلام - لنقرأ نصوصها، وندرسها، ونقارن بينها وبين بقية النصوص، ثم نستخلص منها النتيجة التي تؤدي إليها، وحينها ندلل بها على عصمة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب الأولى بمقارنتها بما ورد فيها وفي غيرها من النصوص التي تشير إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

المبحث الثاني عصمة الأنبياء

المبحث الثاني عصمة الأنبياء (قصة سيدنا يوسف عليه السلام) وقد اختار الباحث قصة يوسف - عليه السلام - بعينها لكونها مما ثار حوله الأخذ والرد، والقبول والرفض، وأثيرت حوله الشبهات بين معارض للعصمة، وبين مدافع عنها، وبين مفصل فيها، ما يقبل وما يرد. والقصة مع ذلك غنية بالمواقف والمشاهد والمعاني، التي تصلح لدراسة النصوص ومقارنتها، وهذه هي الآيات التي تصور القصة نسوقها ونحللها مع بقية الآيات الكريمات التي لم نسقها. يقول الله - عز وجل -: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)} [يوسف: 22 - 30] إلى آخر الآيات التي سنتعرض لها بمشيئة الله.

أطلت في نقل تلك الآيات وإن اقتصرت عليها لتكون بداية دراسة حديث العصمة للأنبياء خاصة رسولنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي من منهجنا الجديد في البحث، وهو ذكر الأنبياء وما حدث لهم مع المقارنة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونبدأ بقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي لما بلغ يوسف - عليه السلام - منتهى اشتداد جسمه وقوته - أي ما بين الثلاثين والأربعين - آتيناه حكمًا وعلمًا وتنكيرهما للتفخيم من شأنهما أي حكمًا وعلمًا فخمًا لا يقادر قدرهما إلا الله، والحكم هو العليم المؤيد بالعمل، أو حكمًا بين الناس أو النبوة، وكل ذلك متحقق فيه - عليه السلام -، وكذلك العلم هو التفقه العالي في الدين (¬1)، ويحسن هنا أن نشير إلى قول آخر للإمام الفخر الرازي في المسألة الثالثة - في تفسير الحكم والعلم أقوال: القول الأول: أن الحكم والحكمة أصلها حبس النفس عن هواها، ومنعها مما يشينها، فالمراد من الحكم الحكمة العملية، والمراد من العلم الحكمة النظرية، وإنما قدم الحكمة العملية هنا على النظرية، لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية، ثم يترقون على الحكمة النظرية ... وهي طريقة يوسف - عليه السلام -، لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات، فلهذا السبب قال: {آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}. (¬2) وكذلك هذا القول يبين مدى ما وصل إليه يوسف - عليه السلام - من الحكمة والعلم الحافظين له عما يشين النفس، أو يعرضها للتهمة، أو يجعلها غرضًا لسهام النقد أو التنقص، ¬

(¬1) أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (92/ 3). (¬2) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (20/ 9). الناشر دار الغد العربي ط الأولى 1492 هـ - 1992 م، ويقول العلامة الطاهر بن عاشور: "والحكم والحكمة مترادفان، وهو: علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح، واجتناب ضده" التحري والتنوير (248/ 12).

ويدل لهذا القول وما سبقه قوله تعالى: "وكذلك نجزي المحسنين" وفيها معانٍ: الأول: وصف يوسف - عليه السلام - بالإحسان، وإذ هو نبي فلابد أن يكون في الدرجة العالية من الإحسان، لأن تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له، وتنبيه على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسنًا في أعماله، متقيًا في عنفوان أمره. الثاني: أن ذلك الإحسان جزاء على ما كان من يوسف في تحمل الشدائد والأحزان، والثبات على طاعة الله ومرضاته، واجتناب مساخطه وما يغضبه - سبحانه وتعالى -: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقد رأينا ذلك سجنه وشدته من نظرة السجناء معه عند طلبهم منه أن يؤول لهم الرؤيا بقولهم: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}، وهي شهادة من الكفرة له، بدون سابق معرفة إلا مطالعة محياه الطاهر عليه السلام. الثالث: {كَذَلِكَ} الكاف للتشبيه، أي ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي كل من يحسن في عمله، حيث اسم الإشارة للبعيد دليل على بعد منزلة هذا الجزاء وعظمها. (¬1) وذلك كله يوضح في ضمن ما سيذكر أن سيدنا يوسف - عليه السلام - كان في المنزلة الرفيعة من حفظ النفس ومرضاة الرب، وأن جزاء الله له محيط به يحفظه بحفظه، ويكلؤه بكلاءته. وذلك كله قبل ذكر مراودة امرأة العزيز له. ولقد ذكرت سورة يوسف في الآيات المبكرة منها أن يوسف - عليه السلام - في محل اجتباء الله له واصطفائه إياه، من حيث قص رؤياه وهو غلام صغير على أبيه يعقوب عليهما السلام، وذلك في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ¬

(¬1) انظر الزمخشرى "الكشاف" (157/ 3)، البيضاوى "أنوار التنزيل" (140/ 3)، أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (92/ 3).

آَلِيَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} [يوسف: 6]. وهذه الآية الكريمة تشتمل على محاسن من المعاني التي تشترك مع غيرها فيما بعد لتكون الصورة المشرقة عن عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعصمة الأنبياء عليهم السلام. وأول ذلك: العناية الربانية بهؤلاء المصطفين الأخيار من صغرهم، وذلك في قوله تعالى .... وكذلك فالواو عاطفة لهذا الكلام على قوله: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ} إعلامًا ليوسف - عليه السلام - بعلو قدره ومستقبل كماله، كي يزداد تمليًا من سمو الأخلاق، فيتسع صدره لاحتمال إخوته، صفحًا عن غيرتهم وحسدهم، وليكون كلام الأب نصحًا خالصًا تنفي عنه البغضاء ونحوها، وهي حكمة نبوية عظيمة، وطب روحاني ناجح، وقد آتى ذلك ثمرة كما هو يتضح من نهاية القصة في تعامل يوسف - عليه السلام - مع إخوته. والكاف للتشبيه، وهو ما يلفت النظر ويثير الانتباه، أي مثل هذا الاصطفاء الذي دلت عليه الرؤيا من العناية الربانية به يجتبيك ربك في المستقبل، والتشبيه هنا تشبيه تعليل لأنه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتحاد العلة. وموقع الجار المجرور موقع المفعول المطلق لـ "يجتبيك" المبين لنوع الاجتباء ووجهه. والاجتباء: هو الاختيار والاصطفاء، ومعنى ذلك أن الله قد اجتباه واختاره واصطفاه في صغره، وهو حال الأنبياء قبل البعثة؛ ليرشدنا ذلك إلى تحليل أحوالهم على هذا المنوال بعد البعثة. ثانى ذلك: أن هذا الاجتباء والاصطفاء قبل البعثة، وتلك العناية الربانية دليل رفعة شأن في المستقبل وذلك يؤذن بنبوته، وإنما علم يعقوب - عليه السلام - أن رفعة يوسف - عليه السلام - في مستقبله رفعة إلهية لأنه علم أن نعم الله تعالى متناسبة فلما كان ما ابتدأه به من النعم اجتباء وكمالاً نفسيًا تعين أن يكون ما يلحق بها من نوعها.

ثالثه: أن هذا الاجتباء يتبعه لا شك ارتقاء نفسي من الواردات الإلهية إلى أن يصل إلى النبوة لأنه ذكر بعد ذلك: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} فهو في تدرج في هذه النعم إلى تمامها، وتمامها هو إعطاؤه أفضل النعم، وهي نعمة النبوة، مما يدل عند الكلام على مراودة امرأة العزيز أن يوسف - عليه السلام - في الترقي إلى الكمال، قد وصل منتهاه، هذا تحليل وسياق الآيات والواقع ليكون الباحث على ذكر من ذلك حال بحثه في آيات العصمة، ليرد مخالفها بهذا التحليل القاطع. ويمكن أن يكون إتمام النعمة كذلك بضميمة الملك إلى النبوة والرسالة، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي. ولذلك كان المعنى في قوله تعالى: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} إن كان المراد من إتمام النعمة النبوة فالتشبيه تام، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فهو إتمام النعمة على الإطلاق فقد تمت كل النعم عليه - عليه السلام - فأنى يقع بعد ذلك فيما يتنزه عنه غيره ممن لم يصل إلى شيء من تلك النعم، وهو يمكن أن يعيش وأن يموت ولا يقع في شيء من تلك الرذائل. رابع ذلك: وهو جملة: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، ولها تعلق كبير بما نحن بصدده إذ هي تذييل بتمجيد هذا النعم، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته، فعلمه هو علمه بهذه النفوس التي تصلح لهذه الفضائل، لأنه خلقها لقبول ذلك، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة، وذلك تعريض بالثناء على يوسف - عليه السلام - لعلم الله تعالى بكونه من هذه النفوس الصالحة التي يصلح لهذه النعم الكاملة وحكمته التي اقتضت وضع هذه النعم موضعها المناسب. نعود إلى بداية الآيات التي بدأنا بها لنستكمل تحليلها، وهي من قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}. لما بلغ يوسف - عليه السلام - أشدة آتاه ربه سبحانه وتعالى العلم والحكمة، ووصل إلى أعلى

درجات الرقى الدينى والأخلاقى؛ بتمام تلك النعم عليه، وبدأ فصل جديد هو مراودة امرأة العزيز له عن نفسه. ويبدأ هذا المقطع بمراودة امرأة العزيز ليوسف - عليه السلام -، وقد أُوتي العلم والحكمة، وبلغ عنفوان الشباب والقوة، وهو في بيتها، وغلقت الأبواب، وننظر في هذه الآيات نظرة تحليلية دقيقة فاحصة لنرى ما يأتي: أولاً: إن قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} رجوع إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، فكان قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} استطراد اعتراض بين الأمر بإكرام مثواه وبين المراودة جيء به أنموذجًا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه - عليه السلام - من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة، وعاقبة حميدة، وأنه - عليه السلام - محسن في جميع أعماله، لم يصدر عنه في حالتي السراء والضراء، ما يخل بنزاهته (¬1)، إذ كيف يكون ذلك وملخص القصة في بدايتها التمكين والإنجاء، وبل التمكين البالغ المستفاد من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا} لأننا لو أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [سورة البقرة: 143]، كان التمكين المستفاد منه {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} تنويهًا بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه، بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا يشبه بنفسه بنحو قول النابغة: والسفاهة كاسمها فيكون الكاف في محل نصب على المفعول المطلق. والتقدير: مكنا ليوسف تمكينًا كذلك التمكين، وإن أجرينا اسم الإشارة على ما يحتمله اللفظ كان الحاصل هو المذكور ¬

(¬1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (92/ 3).

آنفًا، وهو ما يفيده من الإنجاء العجيب له قبل ذلك من كيد إخوته، ومن إخراجه من الجب، أي مكنَّا ليوسف تمكينًا من صنعنا مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من {مَكَّنَّا}، والتمكين هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه؛ لأنه بحلوله - عليه السلام - محل العناية من عزيز مصر قد خُطَّ له مستقبل تمكينه في الأرض على الوجه الأتم الذي أشير له بقوله تعالى بعد ذلك: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}. وعطف على {وَكَذَلِكَ} قوله تعالى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وهي علة كذلك لهذا التمكين؛ لأن الله تعالى لما قدر في سابق علمه أن يجعل يوسف - عليه السلام - عالمًا بتأويل الرؤيا، وأن يجعله نبيًا أنجاه من الهلاك، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله تعالى (¬1)، ثم بعد هذه العناية، وتحقيق ذلك التمكين، وذلك العلم وتلك الحكمة، يأتي هذا المجتبى بأمور الخيانة ومخالفة الرب، والوقوع فيما تنزه عن الوقوع فيه من ليسوا بهذه العناية من البشر العاديين وهذا ما يأباه السياق وينعى على عقول أصحابه، ويدفع أفكارهم. ثانيًا: قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ونلاحظ تقديم المراودة على تغليق الأبواب، والتهيؤ له، وطلب المبادرة منه؛ لأن المراودة هي المقصودة من إحكام إغلاق الأبواب والتهيؤ، والمراودة: مفاعلة مستعملة في تكرير المحاولة معه - عليه السلام - من راد يرود، إذا جاء وذهب فشبه حال المحاول أحدًا على فعل شيء مكررًا ذلك بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه، وكأنها أخذت تراوده، وتحاول معه. ¬

(¬1) انظر العلامة الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (246/ 12).

يقول العلامة ان عاشور: و {عَنْ} للمجاوزة، أي راودته مباعدة له عن نفسه، أي بأن يجعل نفسه لها. والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، قاله ابن عطية، أي فالنفس أريد بها عفافها وتمكينها منه لما تريد والتعبير عن امرأة العزيز بطريق الموصولية في قوله تعالى: {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} لقصد ما تؤذن به الصلة من تقرير عصمة يوسف - عليه السلام - لأن كونه في بيتها من شأنه أن يطوَّعه لمرادها. {هَيْتَ لَكَ}: اسم فعل أمر بمعنى بَادرْ، واللام في {لَكَ} لزيادة البيان بالمقصود بالخطاب أي بادر أنت، وهِئْتُ لك أنت، كما في قولهم سقيا لك. أشارت هذه العبارات إلى عصمة يوسف - عليه السلام - كما سبق من معنى السياق، وكذلك لم يكن منه بعد ذلك كله إلا أن قال {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)} وذلك ما نحلله في ثالثًا. ثالثًا: قال معاذ الله: أي أعوذ عوذًا بالله، وهو مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله، أي أعتصم بالله مما تحاولين، مما تدعينني إليه، وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله للخلاص منه (¬1)، لأنه شيء في حد ذاته في غاية القبح والسوء، وأنه ممتنع عنه أشد الامتناع، وعلل ذلك الامتناع والاستعصام بتعليلين: الأول: بقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}، وهذا من الكلام الموجه توجيهًا بليغًا حكي به كلام يوسف - عليه السلام - إما لأن يوسف - عليه السلام - أتى بمثل هذا التركيب في لغة القِبط، وإما لأنه أتى بتركيبين لعُذرين لامتناعه فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه، وأيا ما كان فالكلام ¬

(¬1) انظر العلامة أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (93، 94/ 3).

تعليل لامتناعه، وتعريض بها في خيانة عهدها (¬1)، وفيه عبرة عظيمة من العفاف والتقوى وعصمة الأنبياء، إذ يذكر هذه الموعظة في هذا الموقف الصعب، والمزلة الدحضة، مع الاعتصام بالله واللجوء إليه. وكان هذا التعليل ببعض الأسباب الخارجية - بعد أن ذكرها بقبح الزنا وسوئه في ذاته - مما عسى أن يكون مؤثرًا عندها وداعيًا لها إلى اعتباره، والضمير للشأن كأنه قال إن الشأن الخطير هذا وهو ربي. على احتمال إنه خالقه، أو أنه العزيز، فإن كان العزيز هو المراد فالمعنى إن الشأن الخطير هذا وهو ربي العزيز أحسن مثواي حيث أمركِ بإكرامي فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه، وإن قيل إن الضمير راجع إلى الله - عز وجل - فالمعنى أن الحال هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة، وفيه تحذير لها من عقاب الله تعالى. وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه لا يدخل تحت الوقوع أصلاً (¬2)، هذا تركيب وسياق ومعنى الكلام في اللغة فكيف يمكن أن يقع منه شيء بعد ذلك سبحانك هذا بهتان مبين. الثاني: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وهو التعليل الثاني لإبائه وامتناعه واعتصامه، وضمير {إِنَّ} ضمير الشأن وهو يفيد أهمية الجملة المجعولة خبرًا عنه؛ لأنها موعظة جامعة، وأشار إلى أن إجابتها لما راودته ظلم، لأن فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان على أنها كبيرة، وظلم سيده الذي آمنه على بيته، وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجة وأحصنها. ¬

(¬1) انظر العلامة ابن عاشور "التحرير والتنوير" (251، 252/ 12). (¬2) انظر المرجع السابق.

وصلنا إلى نهاية هذا المشهد الذي جسد إباء يوسف - عليه السلام - واعتصامه بالله ووعظ المرأة بكون ذلك سوءًا وقبيحًا وظلمًا وخيانة لله ولزوجها، وأنه لا يفلح أصحابه في الدنيا والآخرة، مما كان بيانًا واضحًا منه - عليه السلام - باستحالة وقوع ذلك منه، هذا موقفه - عليه السلام - فما موقف المرأة؟ كأنها لم تسمع من ذلك شيئًا مما يدل على سيطرة الشهوة عليها، وتغييب العقل والمنطق والأخلاق، والذي بدا فيما أقدمت عليه حيث قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} عزمت على الفعل عزمًا محققًا، أكده القرآن الكريم بـ {وَلَقَدْ} ولام القسم، وجملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا، والمقصود من ذكر همها به تبيين ثبات يوسف - عليه السلام - على موقفه، وتمهيد إلى ذكر انتفاء همه لبيان الفارق بين الحالين بين حالة من سيطرت عليها الشهوة، ومن حكم عقله ودينه وخلقه وخوفه من ربه، واستبشاعه للخيانة والجرم، مع تعوذه والتجائه إلى الله من الوقوع في شيء من ذلك. وجملة: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوفة على جملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} كلها، وليست معطوفة على جملة {هَمَّتْ} والتي هي جواب القسم المدلول عليه باللام؛ لأنه لما أُردفت جملة {وَهَمَّ بِهَا} بجملة شرط {لَوْلَا} المتمحض لكون من أحوال يوسف - عليه السلام - وحده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها، والتقدير ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها فلم يقع من يوسف هم أصلاً بهذا المعنى اللغوي الصحيح (¬1). ومع ذلك فإن الهم الذي لم يقع أصلاً سواء قدمنا جواب {لَوْلَا} على شرطه، أم لم نقدمه فإن السياق واللغة وبقية الأدلة التي ذكرها القرآن تبين لنا أن هم يوسف - عليه السلام - ليس ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور (252، 253/ 12)، انظر رده على الطبري، وكذا رد الزمخشري وأبي السعود وغيرهم على من قال بأقوال لا تتلاءم مع السياق واللغة والعصمة للأنبياء.

كهم امرأة العزيز وذلك لما يأتي: أولاً: السياق السابق ذكرنا فيه كيف أن الله تعالى مكن ليوسف - عليه السلام - واتاه العلم والحكمة وبين فضله ومرتبته وظهر ذلك جليًا في رده على مراودة المرأة والذي ملخصه أنه مستعصم بالله، وأنه يستحيل أن يقع منه ذلك أصلاً، وحذر المرأة ووعظها، وذكرها بمغبة ذلك وسوئه، هل يعقل بعد ذلك أن تهمَّ به فيهم وهو المجتبى الذي يُذكرها بذلك، أن يقع في الخيانة وأن يهمَّ بالسوء، بعد أن يقول هذا حرام لا يجوز اتقى الله، هذه خيانة وظلم ولا يفلح أهله إنني أخاف الله ثم إذا به يقول هيا إليَّ أيتها المرأة، أين العقل إذًا أو الفهم أو الواقع، هل تقول له بادر فيقول لها لبيك! عجيب. ثانيًا: إن الهم في اللغة له معانٍ أُخر جاء بعضها في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5]، وقوله تعالى: {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13]، وجاء في الحديث: «أن رجلاً من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ به عمر - رضي الله عنه - ...». (¬1) وعليه فلا شك أن هذا الهم الذي لم يقع أصلاً لابد يكون مخالفًا لهمَّ المرأة التي أغلقت عقلها وأقفلت قلبها على الشهوة فلم تر ولم تحس إلا من خلالها، والذي يقبله السياق أنه هم بها ليدفعها عن نفسه لما بدأت في مقدمات السوء، أو هم بها زجرًا وهو مقبول مع السياق، فالسياق دل على الموعظة بالرفق، والتبيين للخطأ والخيانة بالوجوه اللطيفة فإذا استمر الطاغي في طغيانه، والمعتدي في اعتدائه لابد أن ينتقل المنكر إلى درجة أعلى من الوعظ والتذكير ليدفع عن نفسه السوء كالزجر أو الدفع أو الضرب، خاصة وأن الباغي بدأ يأخذ في خطوات سوء أشد، وهذه وظيفة الأنبياء من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ¬

(¬1) زاد الميسر (2/ 169)، ابن الجوزى (2/ 169).

إذن ما فائدة البرهان الذي رآه يوسف - عليه السلام -، فلم يقع به هم أصلاً؟ هذا البرهان هو ما وقع في علم الله السابق من شهادة الشاهد بقطع القميص، فلعله لو دفعها لانقطع ثوبه من أمام فكان هو المتهم والمدان في هذه القضية، لذلك رأيناه يترك هذا الدفع، ويجري هاربًا، وهو متسق تمام الاتساق مع الواقع، وقرائن الأحوال، وبيان ذلك أيضًا لأنه لم يهم بها كما ذكرنا، وهو يتلاءم مع الهرب لا مع غيره مما ذكر الجهال، إذ قالوا قعد منها مقعده الذي ذكروا، فليس هذا همَّاً، بل انتقل من الهمَّ إلى الفعل، وهو لا تناسب منه مع الهرب الذي أكده السياق مع ترك الهم، فخالفوا بذلك السياق نفسه. ثالثًا: لا يعقل أن يكون هم من أوتي العلم والحكمة والاصطفاء، كهم امرأة تريد أن تقضي شهوتها بأي سبيل بالترغيب والترهيب، والسجن والتعذيب، إن ذلك إهدار للعقل، ومساواة للشهوة بالحكمة، وللجهل بالعلم، وللخيانة والغدر بالوفاء والأمانة، ولم يعد هناك ميزان يتبين به الصلاح والفساد، ولا الهدى والضلال، واختلت الأمور، واختلفت الأحوال. ومن معاني ذلك أنه لو قيل إن الأستاذ المحترم الذي لم يؤثر عليه خيانة ولا سوء خلق يراود تلميذته عن نفسها، أو إن الطبيب الفلاني الماجد المؤدب صاحب التاريخ الناصع يراود مريضته، لن يكون الرد، لا، لا يمكن ذلك، ولا يحدث، ويصعب تصديقه، وسيكون الرد هذا عادياً. تكملة الآية مما يؤكد ما نحن بصدده، نشير إليه سريعًا لأننا سنعود إليه، وهو قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} فأشار القرآن بهذه الألفاظ إلى أنه صرف السوء والفحشاء عنه، ولو كان هو المتلبس بالسوء والفحشاء لكان التعبير كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء - الزنا والمقدمات - ثم ختم ذلك بالثناء عليه والمدح له {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي الذين لا يهمون بالسوء والفحشاء سبحانك هذا بهتان عظيم، بل هو من المخلصين الذين لا سبيل لمثل هذه الادعاءات إليه،

بل هم أعظم وأجل. وهذا يرد على قول من خالف هذا، ويطعن فيه كائنًا من كان، ومن أجل ذلك قال الإمام الرازي: القول الثاني: إن يوسف - عليه السلام - كان بريئًا عن العمل الباطل والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول وعنه نذب ... ثم قال بعد ذلك تعليل: إلا أن نزيد هاهنا وجوهًا نقتصر على أحدها وهو: الوجه الأول: أن الزنا من منكرات الكبائر، والخيانة في معرض الأمانة أيضًا من منكرات الذنوب، وأيضًا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد من منكرات الذنوب، .... وأيضًا الصبي إذا تربى في حجر إنسان، وبقى مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكمال قوته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم من منكرات الأعمال. إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف - عليه السلام - كانت موصوفة بهذا الجهات الأربع، ومثل هذا المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى، وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة؟! (¬1) وزاد "العلامة أبو السعود" في تعليقه على الأقوال الشنيعة المنسوبة لسيدنا يوسف ¬

(¬1) الفخر الرازي "التفسير الكبير" (25، 26/ 9).

- عليه السلام -: "إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان، وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها" (¬1). ونثنى عنان الكلام إلى وجهة أخرى، لنحرر بها بقية الكلام الموصل إلى تلك النتيجة من عصمة يوسف لنردفها بما يتعلق بعصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونبين بها بقية الأدلة على ذلك، بتحليل بقية الآيات ومقارنتها ببعضها، لتستنير بذلك الصورة كاملة أو تضيء كافة جوانبها بما لا يدع مجالاً للشك في عصمة الأنبياء، ومقدمهم في ذلك سيدنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي تحمل في ظاهرها ومطاويها الردود الجازمة على المستشرقين، حيث قررت أن أضرب صفحًا عن ذكر كلامهم، لعدم موضوعيته ولعدم حيدته، مع شدة تهافته، إلا ما كان جديرًا بالنظر فنشير إليه في حينه. نبدأ هذه الأدلة بكلام الإمام الرازي رحمه الله حيث يقول: القول الرابع: أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف - عليه السلام - من المعصية. واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف - عليه السلام -، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة، والشهود، ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضًا عن المعصية (¬2). أما بيان أن يوسف - عليه السلام - ادَّعى البراءة عن الذنب فهو فيما يلي: أولاً: قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} والمراودة قبل الهم، فهو تبرئه لنفسه في هذا المقام عن المراودة، وعن الهم من باب الأولى، أي هي راودتني، أنا لم أراودها، أنا لم أفعل شيئًا، أنا نصحتها لم ترتدع، أنا جريت منها كما ترون عندما همت بي، ولو كان هناك أدنى تعلق يتعلق ¬

(¬1) العلامة أبو السعود "إرشاد العقل السليم" (95، 96/ 3). (¬2) انظر الفخر الرازي "مفاتيح الغيب" (26 - 28/ 9).

به العزيز ليلصق التهمة بيوسف - عليه السلام - لتعلق به درء للتهمة عن عرضه، وللخيانة عن أهله، ولكنه قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}، خاصة وعلامة الخيانة بادية عليها من تزينها وتهيئها بأعظم الزينة، وكيف يؤذيها وهو يجري عنها، وقد قُدَّ قميصه، ولم تسبق عليه - عليه السلام - أي أمارة من أمارات عبيد السوء. ثانيًا: قوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} وهذا استئناف بياني، لأن ما حُكِيَ قبله من مقام الشدة على يوسف - عليه السلام - من شأنه أن يسأل سامعه عن حال تلقي يوسف - عليه السلام - لكلام امرأة العزيز بسجنه وصغاره إذا لم يفعل ما تأمره، وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم، ويحتمل أن جهر به في ملأهن تأييسًا لهن من أن يفعل ما تأمره به. ولا يحتمل هذا النص من يوسف - عليه السلام - سواء كان مناجاة لربه، أو مواجهة لهن إلا أن يكون بريئًا من أي شين قبل هذه المناجاة، إذ كيف يناجي ربه الذي هو شاهده ومطلع عليه، وناظر إليه بما يعلم خلاقه منه. أي تجرؤ هذا، ويؤكد ذلك أنه واجه النسوة بتقديم السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة؛ لأن ذلك مما يكرهه الله تعالى ويحرمه، فكيف يكون قد صدر منه شيء قبل ذلك يمكن أن يُعَيَّرَ به، أو أن يقال هلمَّ قد هممت من قبل أيها الناسك الشريف!؟ وهنا ملحوظة أخرى في النص، وهي إسناد فعل {يَدْعُونَنِي} إلى نون النسوة، على ضمير جمع الإناث مع أن التي دعته امرأة واحدة! وكأن ذلك لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء، أو أن النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمالأن على لوم يوسف - عليه السلام - وتحريضه على إجابة سيدته وتحذيره من وعيدها بالسجن، وهذا مما يدل على ما كان فيه من الشدة والمقاساة - عليه السلام - ومدى تحفظه وصيانته وعفافه من قبل، وهذا يسلمنا إلى الثالث. ثالثًا: من إظهار يوسف - عليه السلام - لبراءته، وهو قوله تعالى: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ

إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}. ومعنى أصب، أي: أمل، يعني يناجي ربه بقوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} يعني أميل إليهن، فدل على أن الميل مع كل أسبابه لم يحدث، ويدعو ربه أن يصرف عنه هذا الكيد الشديد، وفكيف يكون قد وقع منه هم، والميل نفسه لم يحدث إلى وقت مناجاته تلك؟ وهذه الجملة من المناجاة خبر مستعمل في التخوف. والوقع التجاء إلى الله تعالى، وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحول والقوة والخشية من تقلب القلب، ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام التي قدم السجن عليها، فالخبر مستعمل في الدعاء، ولذلك فرع عنه جملة {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} (¬1). وكذلك مما يدل على إبراء (تبرئه) يوسف - عليه السلام - لنفسه أنه لو وقع منه شيء من ذلك لبادر - عليه السلام - بالتوبة والاستغفار، ولأن الأنبياء إذا صدر منه شيء على خلاف مراد الله اجتهادًا منهم مثلاً - لأننا نقول بعصمتهم جميعًا بهذه الأدلة التي نسوق - استعظموا ذلك، وبادروا إلى الله تعالى بإظهار الندامة والتوبة وطلب المغفرة والتواضع حتى كأن ما حدث ذنب عظيم، كما حدث في قصة آدم - عليه السلام - في أكله من الشجرة لأنه لم يأكل منها مخالفة لله تعالى، وإنما اجتهاد منه ليكون من الخالدين عند الله تعالى، أو ليكون ملكًا مقربًا لديه، ومع ذلك جاء عنه وزوجه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}. أما في قصة يوسف فلم يحدث من ذلك شيء أصلاً، فدل على أنه لم يقع منه هذا لا خطأ ولا اجتهادًا فضلاً عن الذنب والمعصية، بل على العكس جاءت كلماته التي حكاها القرآن الكريم عنه - عليه السلام - لتدل بوضوح على هذا المعنى، وذلك في قوله لإخوته بعد أن ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (266/ 12).

عرفوه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، ولذا كان ردهم - وهو رد كل مخطئ خاطئ -: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}. وما بلغ المنزلة التي هو فيها بالذنب والمراودة، ولكن بلغها وحصلها بالتقوى والصبر، وإنها لأعظم تقوى، وإنه لأعظم صبر، ولسنا في مجال الكلام على التقوى والصبر. هناك دليل آخر على تبرئة يوسف - عليه السلام - فإن كان ما سبق براهين تبرئته بالنطق والسكوت، فهذا البرهان يمكن أن نسميه بالفعل لتجتمع له - عليه السلام - كل أدلة وبراهين البراءة وهو في قوله لما أرسل إليه الملك ليأخذه من السجن، أبى ورفض حتى يتحقق الملك بنفسه من الواقعة، مَن البريء ومَن المتهم، وذلك في قوله تعالى عن يوسف لرسول الملك: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}. فلو كان - عليه السلام - قد صدر منه ذنب وفحش، أو كان متهمًا لاستحال عرفًا وعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة، وألا يخرج من السجن إلا بعد النظر فيها، وتبيين الخاطئ من البريء، وإلا لو كان فعل ذلك لكان قد أقدم على فضح نفسه، وتجديد عيوبه التي صارت خفية مندسة، والعاقل لا يفعل ذلك، وهب أنه قد وقع الشك لبعضهم في عصمته إلا أنه لا شك بما سمعنا أنه كان عاقلاً، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه، وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه (¬1). أما بيان المرأة تبرئته - عليه السلام - فهو: أولاً: اعترافها للنسوة بذلك حيث قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} فقد باحت لهن بأنها هي التي راودته فعلاً؛ لأنها رأت منهن الافتتان به فعلمت أنهن قد عذرنها، ¬

(¬1) انظر الفخر الرازي، التفسير الكبير (9/ 98).

فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} حسبما سمعتن وقلتن، فاستعصم وهي للمبالغة في عصم نفسه، أي اعتصم اعتصام معصوم، جاعلاً المراودة خطيئة عصم نفسه منها، بل دل هذا البناء كذلك، وهو استعصم وهو بناء مبالغة على الامتناع الشديد والتحفظ البليغ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها مثل استمسك واستجمع الرأي، وفي ذلك برهان نير على أنه لم يصدر عنه - عليه السلام - شيء مخل باستعصامه من الهم وغيره بقوله: {مَعَاذَ اللَّهِ} ويدل على ذلك أيضًا ترتيب كلامها بأنها اعترفت لهن أولاً بما كُنَّ يسمعنه من مراودتها له، وأكدته بقولها: {وَلَقَدْ} بالقسم ولام التوكيد إظهارًا لابتهاجها بذلك، ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون الإعراض، ولم يمل إليها قط، وزادت أيضًا أنها مستمرة على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب بل قالت: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (¬1). ثانيًا: قولها: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}. الآن: ظرف للزمان الحاضر، وحصص: أي ثبت واستقر، والحق: هو براءة يوسف - عليه السلام - مما رمته به، وإنما ثبت الآن؛ لأنه كان محل قيل وقال فزال ذلك باعترافها بما وقع، وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص، أي الآن لا قبله للدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان زمن باطل وهو زمن تهمة يوسف - عليه السلام -. والتعبير بالماضي في حصحص، مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الآن فهو لتقريب زمن الوقوع من الماضي، أو لأن الحق ثابت من قبل في براءة يوسف - عليه السلام - من المراودة (¬2)، وكل ذلك يدل على انتفاء أي تعلق لاتهام يوسف - عليه السلام - بأي أمر مشين. ¬

(¬1) انظر أبا السعود" إرشاد العقل السليم" (103/ 3)، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (266/ 12). (¬2) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (291/ 12).

وأما قولها: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فهو دليل بليغ على صدق يوسف - عليه السلام - وطهارته ونزاهته، فقد أكدت ذلك بـ {إِنَّ} واللام والجملة الاسمية (¬1) لتبرهن على صدقه في أنه لم يراودها، ولم يصدر منه من ذلك لا قليل ولا كثير لا ميل ولا هم وأنها هي التي راودته، {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} هو صادق، وقد عبرت بقولها: {لَمِنَ الصَّادِقِينَ} لأنها أبلغ من لو قيل هو صادق، كذلك تختم القضية بالنسبة لها بهذه البراءة المؤكدة بكل هذه المؤكدات البليغة التي لا راد لها، ولا ناقض. أما بيان تبرئة زوج المرأة ليوسف - عليه السلام - فهو قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 28 - 29]. فقوله إنه من كيدكن من كلام العزيز بعد أن استبان له براءة يوسف - عليه السلام - من الاعتداء على المرأة وإلا كان الكلام مختلفًا، وكان اللوم وما فوقه متوجهًا إلى يوسف - عليه السلام - فيه شهادة من العزيز أكدت براءة يوسف - عليه السلام - بدليل قوله بعد ذلك مخاطبًا الاثنين معًا {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} بأن يكف عن الخوض في هذا الموضوع لئلا ينتشر وتظهر الفضيحة، وعطف على ذلك خطابه لزوجه: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} فقد أثبت لها الذنب والسوء، بما ينفيه عن يوسف - عليه السلام - وطلب منها الاستغفار عن ذلك، بما يدل على انتفاء أي هفوة في حق يوسف - عليه السلام - خاصة وهو ينتظر أن يكون يوسف هو المخطئ ليحفظ عرضه وزوجه عن قالة السوء والفضيحة بها. وهذا الأسلوب من مخاطبة المرأة بأن ما دبرته من كيد النساء ثم توجيه الخطاب إلى يوسف - عليه السلام - ثم عودة الخطاب إلى المرأة يسمى بالإقبال، أو الالتفات للمعنى اللغوي عند ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير (292/ 12).

الالتفات البلاغي، وهو عزيز في كلام البليغ (¬1)، فالقرآن الكريم يبين بهذا الأسلوب البلاغي العزيز تبرئه يوسف والالتفات إلى المرأة باللوم والتقريع، وطلب الاستغفار، ونسبة المكر والكيد إليها، على أبلغ كلام وأحسنه. أما بيان الشاهد في القضية فقد دل على براءة يوسف أيضًا. وقد أوردناه هنا بعد بيان العزيز لكونهما في نفس الوقت، وكذلك لبناء العزيز حكمه ببراءة يوسف على كلام الشاهد، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [يوسف: 26 - 28]. هذا الشاهد بسياق القرآن رجل من أهل المرأة كان بصحبة زوجها العزيز، وسمي قوله شهادة لأنه يؤول على إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف - عليه السلام - على سيدته أو دحضه، وقوله: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إلى آخره، لما لم يكن له به سابق علم دل على أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص؛ تحاول أ، تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه، ولولا ذلك ما خطر على بال الشاهد أن تمزيقًا وقع، وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص؟ والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلاً على صدقها، فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف - عليه السلام - (¬2). وهذا برهان لا ريب فيه على أن صدق يوسف - عليه السلام - ونزاهته لم يكن من ترتيب أحد إلا الله - سبحانه وتعالى - فما دُعوا إلى جلسة ومحاكمة وشهادة، واستعداد لتقديم البينات والمرافعات، بل ¬

(¬1) انظر العلامة ابن عاشور "التحرير والتنوير" (258، 259/ 12). (¬2) انظر العلام ابن عاشور "التحرير والتنوير" (257/ 12).

كان ما أراد الله بحكمته في توها ولحظتها، مع قيام كافة جوانب القضية واضحة جلية، لا تحتاج لغير الحكم بالحق، وكان من تمام توفيق يوسف - عليه السلام - وحفظ الله له، أن جاء القميص شاهدًا له، من حيث أريد أن يكون الشاهد عليه، لو حاول البشر أن يرتبوا محكمة وشهادة وواقعة على هذا النحو لما تمكنوا، إلا محاكاة وتمثيلاً لها. أما بيان تبرئة النسوة ليوسف - عليه السلام - فكما يلي: أولاً: وهو قول النسوة لما رأين يوسف - عليه السلام - وهن متكئات، وقد أمرته امرأة العزيز بأن يخرج عليهن وقطعن أيديهن: {حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} على إعمال {مَا} بمعنى ليس في لغة أهل الحجاز، تنزيهًا لله سبحانه عن صفات النقص والعجز، وتعجبًا من قدرته على هذا الصنع البديع، ونفيًا للبشرية عنه؛ لما شاهدن فيه من الجمال العبقري الذي لم يعهد مثاله في البشر، وقصر ذلك على الملك بقولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} بناء على ما ركز في العقول من أن لا حي أحسن من الملك، كما ركب فيها أن لا كائن أقبح من الشيطان، فوصفهن بأنه ملك لا شك يدل على مفارقة الشيطان، وهو وصف كريم يدل على جميل الصفات، وأحاسن الشيم، التي تدل على أن مثله ليس أهلاً لسوء الشيطان، ولا الأعمال اللائقة بالشيطان وهذه تبرئه واضحة لم يتمالكن أنفسهن عنها حيث خرجن عن الأفعال الاختيارية بتقطيع أيديهن عند رؤيته، وقولهن ذلك. ثانيًا: قول النسوة عن إحضار الملك لهن وسؤاله إياهن {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}، و {حَاشَ لِلَّهِ} مبالغة في النفي والتنزيه، والمقصود: التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة، وجملة {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} كما يقول الأصوليون نكرة في سياق النفي فتعم كل سوء أي ما علمنا عليه أي سوء، ومن للتبعيض، ومعناه كائنًا ما كان السوء ولو صغيرًا، وهو يدل على أنه لم تقع منه كذلك أي مراودة، لأن

الحالتين منه أو منهن من أحوال السوء، والجملة جامعة لنفي ذلك كله، وقد أشرنا إلى ذلك بنفي العلم وهو كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء، ونفي دعوته إياهن إليه؛ لأن ذلك لو وقع لكان معلومًا عندهن، وفي ذلك أبلغ الأدلة على تبرئة النسوة ليوسف - عليه السلام - بعدم العلم، وعدم الوقوع. وأما شهادة الله تعالى ببراءة يوسف - عليه السلام - فمن أوجه: الأول: في قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}. الكاف منصوب المحل، وذلك إشارة على التثبيت اللازم له، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه، لنصرف عنه السوء على الإطلاق فيدخل فيه الهم، وخيانة السيد، وكافة وأنواع السوء كافة لكون السوء هنا معرفًا فيشمل كل سوء، وكذلك الفحشاء لأنها مفرطة في القبح، وقول الله تعالى ذلك آية بينة، وحجة قاطعة على أنه - عليه السلام - لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجه إليها قط، وإلا لقيل لنصرفه عن السوء والفحشاء، وعما يتوجه إليه من السوء وغيره من الخارج فصرفه الله تعالى عنه بما فيه - عليه السلام - من موجبات العفة والعصمة، ولذلك عقب بقول: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ليعلل ذلك الصرف عنه، فهو تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق. وقد قرئ المخلصين بصيغة المفعول وصيغة الفاعل، فأما صيغة المفعول فهم الذين أخلصهم واصطفاهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها، وصيغة الفاعل وهم اللذين أخلصوا دينهم لله - سبحانه وتعالى -، وعلى كلا المعنيين فهو - عليه السلام - منتظم في سلكهم داخل في زمرتهم، والتعبير بالجملة الاسمية والتأكيد دليل على كونه كذلك من أول أمره، لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك، فانحسم بذلك مادة احتمال صدور الهم بالسوء منه - عليه السلام -

بالكلية (¬1). الثاني: أن قوله - سبحانه وتعالى -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ثناء ومدح من الله تعالى ليوسف - عليه السلام - سواء في اجتباء الله واصطفائه السابق له، أو في إخلاص يوسف - عليه السلام - لربه جل وعلا، ولا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة فيها كل الصفات السيئة التي أشرنا إليها من قبل، ثم يمدحه ويثني عليه بأنه من المصطفين الأخيار، أو الذين أخلصوا دينهم لله تعالى (¬2) فدل ذلك على أن يوسف لم يصدر منه شيء. الثالث: في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} ونركز على المراد من الكلام الذي يؤيد ما نقول وهو في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} وذلك بعد قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} وهذا السياق يدل على أن يوسف - عليه السلام - كان مستعصمًا طاهرًا منزهًا، وزادت عليه الضغوط من كل الجوانب وبكافة الأساليب فلجأ إلى الله تعالى ليصرف عنه ذلك الكيد، وهو علم من سنة الله تعالى معه من قبل صرف السوء والفحشاء عنه، فاستجاب له ربه، والفاء للتعقيب، ودل على أن قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي} دعاء بطلب ذلك، ترى استجابة الله له بهذه السرعة بعد وقوعه في الهم والمراودة، وغير ذلك، أن ذلك دليل من الله تعالى على تبرئة يوسف - عليه السلام - بسرعة إجابته، وصرف الكيد والمكر، وتلك الشدائد عنه، وزيادة تثبيت قلبه في مواقف الزلزلة تلك، وما يكون ذلك الصرف والإجابة إلا لطاهر يريد العصمة، لا متلوث قد وقع في الذنب، إذ الواقع في ذلك يصرف عن السوء والفحشاء، لا تصرف عنه ¬

(¬1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (96/ 3). (¬2) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (26/ 9).

الفحشاء والمكيدة بإيقاعه في ذلك، والتعبير بالكيد يدل عليه إذ هو محاولة المخاتلة بيوسف لإيقاعه، لا أنه تحقق وذلك ظاهر بتأمل السياق ومقارنته وتحليله. وثمة شيء آخر تبينه الآية الكريمة وهو تلك الصلة بين يوسف - عليه السلام - وربه جل وعلا، إذ تدل على قلب موصول بالله تعالى، بينه وبين ربه عمار، يدعوه ويتضرع إليه، فيسارع إلى إجابته، بل ويدعوه بما يدل على كمال ثقته في ربه، ووفور إقباله عليه ومحبته له: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} من ذا الذي يقول لله تعالى: وإلا تصرف عني كذا وكذا أقع في كذا، وكذا فيستجيب له، إلا وقلبه مفعم باليقين التام في الإجابة بأن ينجيه مما وقع فيه، ترى تلك قلوب العصاة المذنبين، إن أقصى أملهم أن يغفر لهم، ويتوب عليهم، أم هي قلوب العارفين بالله الذين هم في الدرجة العالية من توحيده وطاعته، وكذلك في إضافة الرب لضمير يوسف {لَهُ رَبُّهُ} دليل عناية الرب بمربوبه، ورعايته له جل وعلا، وإظهار شأنه في انتسابه إلى الله تعالى بمعنى الربوبية. الرابع: وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} [يوسف: 56 - 57]، والكاف هنا منصوبة بالتمكين، وذلك: إشارة إلى ما تقدم يعني ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا به على يوسف في تقريبنا إياه من قلب الملك، وإنجائنا إياه من غم السجن نمكن له في الأرض، أي نقدره على ما يريد، وان ينزل منها أي منزل أحب لا يدافعه أحد ولا ينازعه منازع، والمقصد من ذلك أن الله مكن ليوسف - عليه السلام - في الأرض، وما كان هذا التمكين الجاري على سنة الله في كونه إلا لأنه كما أفاد السياق من المحسنين، وأن الله لا يضيع في الدنيا أجرهم، وهذا أكبر دليل على أن يوسف كان وما زال حين تبوأ هذا المركز من الله تعالى محسنًا، ولو صدق على يوسف - عليه السلام - بأنه وقع في شيء مما ذكره الجهال لكان ذلك تكذيبًا لله في حكمه على يوسف - عليه السلام - بالإحسان وهو عين الكفر بالله، ولكان ذلك

شهادة على الله تعالى - حاشا لله - أنه يمكن للعصاة له ويمدحهم بذلك، وأنه يكافئهم على مخالفته بالتمكين لهم في الأرض. ويزيد على ذلك ما أعده له في الآخرة في قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} وهذا يدل على أمرين: الأول: أن يوسف - عليه السلام - وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا، إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل. الثاني: أن المراد من الآية كذلك شرح حال يوسف - عليه السلام - فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وليس ها هنا زمان سابق ليوسف - عليه السلام - يحتاج إلى بيان أنه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال فيه تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} هذا شهادة من الله تعالى أنه كان في ذلك الوقت من المتقين، فأنى يكون ذلك الهم وغيره منه. وتضاف هذه إلى شهادة الله له بأنه من المحسنين ومن المخلصين (¬1)، فثبتت براءة الله تعالى له، بهذه الشهادات الإحسان والإخلاص والتقوى، وماذا بعد؟ وهناك وجوه كثيرة أخرى في تحليل الآيات نكتفي بهذا القدر منها لتبيين المطلوب. وأما بيان أن إبليس أقر بطهارة يوسف - عليه السلام - وبراءته فهو في قوله تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ويوسف - عليه السلام - قد مدحه الله تعالى بقوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فكان هذا إقرار من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريق الهدى. ¬

(¬1) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (90، 91/ 9).

يقول الإمام الرازي (¬1) عن ذلك: وعند هذا نقول للجهال الذين نسبوا إلى يوسف - عليه السلام - هذه القضية إن كان من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله على طهارته، وإن كان من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، ولعلهم يقولون: كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه في السفاهة، كما قال الخوارزمي: وكنتُ امرءًا من جُندِ إبليسَ فارْتَقَى ... بيَ الدهرُ حتى صارَ إبليسُ من جُندي فلو ماتَ قَبْلي كنتُ أُحسنُ بَعْدَهُ ... طرائقَ فسقٍ ليس يُحسنها بَعْدي وإذ قدمنا بهذه المقدمة لتكون بين يدينا في التدليل على عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك لتكون الأصل الثابت، والأساس الراسخ المتين في اعتقاد عصمة الأنبياء، وعلو منزلتهم بهذه القواطع من النصوص القرآنية، التي تقوم عليها هذه الدارسة، وندخل منها إلى إثبات عصمة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب الأولى، وكذلك بدراسة وتحليل ومقارنة بقية الآيات النازلة في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع رد كل ما أثير من شبهات إلى هذه النصوص الراسخة لتتضح الصورة كاملة في هذه القضية، وتظهر بها الجديد من منهج البحث، وهو المقارنة بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين الأنبياء السابقين. ونبدأ ببيان عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الذنوب كافةً، صغيرها وكبيرها، بعد البعثة وقبل البعثة، وكذلك عن ما يمكن أن يقع قبل البعثة فيكون مشينًا بعد البعثة، وذلك من حيث انتهى الكلام السابق وهو أن إبليس قد أقر بطهارة يوسف - عليه السلام - وعليه فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس للشيطان عليه سبيل البتة، فإذا كان إبليس فيما حكي القرآن الكريم عنه يقول: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلى الأنبياء درجة، بل ¬

(¬1) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير" (90، 91/ 9).

أرفعهم درجات، كما في قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ....} [البقرة: 253] فكان هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا التقسيم للآية ممن رفع الدرجات، وقصة الإسراء والمعراج في القرآن نفسه تبين أن أحدًا منهم عليهم الصلاة والسلام لم يصل إلى درجته، علاوة على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل أولي العزم، ويوسف - عليه السلام - ليس من أولي العزم أصلاً، فكان ذلك دليلاً على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من يوسف - عليه السلام - والأنبياء كافة ألا يكون للشيطان عليه أدنى سبيل، وأولو العزم من الرسل المذكورون في القرآن الكريم جمعتهم الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)} [الأحزاب: 7] ودل سياق الآية لتقديم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذكر على تقديمه في المرتبة، بدليل الترتيب الزمني بعد ذلك لبقية النبيين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ونبادر فنقول إن الدراسة والأدلة التي أدت إلى تقديمه وتفضيله عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام - ليس تنقيصاً لأحدهم عياذاً بالله - ولكنها تقرير لذلك الواقع الذي أدى إليه البحث، وقاد إليه الدليل (¬1) بإعطاء كل منهم ما أعطاه الله تعالى من الفضل، مع استوائهم جميعاً في العصمة محل البحث. وفي سياق إيراد ما يشابه ذلك الآيات نرى قوله تعالى عن إبليس: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}، وهذا تأكيد جديد بقوله لأحملنهم جميعاً على الغَواية إلا عبادك الذين أخلصتهم لعبادتك وطاعتك، وطهرتهم من الشوائب فلا يعملُ فيهم كيدي، أو هم (بفتح اللام) الذين أخلصوا نفوسهم وعبادتهم ¬

(¬1) لذلك قال: "لا تخيروا بين الأنبياء ... "، رواه البخاري (2235)، ومسلم (4378)، وأبوداود (4048)، كلهم عن أبى سعيد رضى الله عنه.

وتوحيدهم لله تعالى (¬1)، ورسول الله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أول المصطفين الأخيار، والمجتبين الأبرار، وهو أتقاهم لله تعالى، وأشدهم إخلاصًا لهم، ولا شك أنه أول السالمين من كيده وإغوائه (¬2)، وهذا ما ينقلنا إلى ما ذكر المولى سبحانه عن عباده، وعن حفظه لهم من كيد الشيطان حيث قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] أي أن عبادي ليس لك عليهم تصرف ولا تسلط، وهم المشار إليهم سابقًا بالمخلصين، وقد أكدت حقيقة الجملة (إنَّ والجملة الاسمية)، ونفي السلطان بالتنكير ليفيد أنه ليس له عليهم أي سلطان، صغيرًا كان أو كبيرًا. وتصدير الجملة بعبادي يشمل أول ما يشمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه أعلى العباد مقامًا في العبودية، حيث جاء التشريف بذلك من ربه - سبحانه وتعالى - في كافة الأحوال التي تبين فخامة منزلته، فذكر بذلك في الإسراء فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وفي مقام التحدي لإثبات النبوة بإعجاز القرآن الكريم فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وفي مقام الدعوة إلى توحيد الرب - سبحانه وتعالى -: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} [الجن: 19] وفي إنزال الفرقان عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] فرأينا هذه الآيات الكريمات علاوة على تشريفه بمقام العبودية لله تعالى، تشير إليه بأعظم الإضافات وأكملها إلى الله تعالى مثل بعبده، وعبدنا، وعبد الله، وما تعنيه تلك الإضافات وتنوعها باختصاصه بذلك وعلو درجته في عبودية الله تعالى، مما يوضح لنا أن تلك الدرجة أعلى الدرجات التي لا سبيل للشيطان على صاحبها، مما يؤكد ¬

(¬1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم (228/ 3). (¬2) وقد ورد في حديث ابن مسعود رضى الله عنه الذى رواه مسلم (5034) قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (... إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرنى إلا بخير).

عصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أي غواية من غواية الشيطان. مع ملاحظة أخرى في الآية في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)}، وهي أن الغواية وقعت باختيارهم حيث اتبعوا الشيطان بمحض إرادتهم، وذلك لا يقع للأنبياء - عليهم السلام - أن يختاروا اتباع الشيطان؛ إذ ينافي ذلك عبوديتهم لله تعالى، وخلع عبودية ما سواه ويزيد في إيضاح ما سبق من آيات تبين عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كيد الشيطان وتسلطه، قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99] وذلك بعد قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} فقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تعليل للأمر بالاستعاذة، لأنها تمنع من تسلط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلط على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وجملة {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} صفة ثانية للموصول، وقدم المجرور على الفعل للقصر، أي لا يتوكلون إلا على ربهم، وجعل فعلها مضارعًا لإفادة تجدد التوكل واستمراره، وعطف الجملة دون إعادة اسم الموصول للإشارة إلى أن الوصفين كصلة واحدة لموصول واحد، لأن المقصود اجتماع الصلتين، فنفي سلطان الشيطان مشروط إذًا بالأمرين: الإيمان والتوكل، ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}. ويكون المعنى: أن الإيمان مبدأ أصيل لدفع سلطان الشيطان في نفس المؤمن، فإذا انضم إليه التوكل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكل. ولا حاجة بنا أن نقرر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم المؤمنين إيمانًا، بل لا يتم إيمان أحد بالله إلا بالإيمان بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكل توكل في المؤمنين إنما هو من جراء تعليمه قولاً وفعلاً، وكما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)} [الأحزاب: 48] وفي الحديث: «عبدي

ورسولي سميته المتوكل» (¬1) وآيات القرآن الكريم مليئة بالكلام على التوكل والمتوكلين, الذي يؤكد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو معلمهم التوكل كما علمهم الإيمان وغيره من أمور الدين اعتقادًا وعملاً وسلوكاً. وإذا أشرنا إلى ما يوضح عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من كيد الشيطان وتسلطه, نأتي إلى ما يتعلق بوسوسة النفس, أو بأمرها الإنسان بالسوء, ترى ينطبق على الإنسان المؤمن الكامل فضلاً عن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أن توسوس له نفسه بما يخالف الشرع, ويوقع في غضب الرب - سبحانه وتعالى - , أو في التقصير في حقوقه, لنرجع إلى قصة يوسف - عليه السلام - ننظر فيها ما يتعلق بالنفس، ومدى حملها الإنسان على المخالفة، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53]. ظاهر ترتيب الكلام أنه من كلام امرأة العزيز (¬2)، مضت في بقية إقرارها فقالت: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها عن يوسف - عليه السلام -: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب ادعاء بالبراءة العامة فقالت: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}، فالواو استئنافية، والجملة ابتدائية، وجملة: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} تعليل لجملة {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب؛ لأن النفس كثيرة الأمر بالسوء، ثم ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور (278، 279/ 14)، والحديث رواه البخاري (1981) عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما. (¬2) انظر العلامة بن عاشور "التحرير والتنوير" (5/ 13)، والاحتمال الثاني في الآية - وقد ذكره جمع من المفسرين منهم ابن عاشور نفسه - أنه من كلام يوسف في قوله "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" وهذا لا يستقيم مع ما قدمنا من أن العزيز في وقتها قال ليوسف: "أعرض عن هذا" وقال لزوجه: "واستغفري لذنبك" فأين عدم علمه بخيانة يوسف، بل هو متأكد من خطأ زوجه أمام يوسف، وبراءة يوسف في نفس الآن، وكان يوسف عليه السلام في السجن والنسوة في حضرة الملك، فكيف يصح؟!.

استثنت فقالت: {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} وهو استثناء من عموم الأزمان، أي أزمان وقوع السوء بناءً على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كل الأوقات إلا وقت رحمة الله عبده، وهو مقصودنا من ذلك كله لنبين عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أمر النفس بالسوء، فإذا كان لا يعصم من اتباع وسوسة النفس في الوقوع في السوء والهم به إلا رحمة الله بعبده في بعض الأزمان، فكيف يقع من نفس الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أو وسوسة بسوء، وهو نفسه الرحمة المهداة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107] فقصر إرساله على الرحمة للجن والإنس كافة، والآية دليل في غاية الوضوح والنصاعة، ليست على كونه مرحومًا في بعض الأوقات لتتحقق له بذلك العصمة فيها، بل هو الرحمة نفسها في كل الأوقات، ليس لنفسه، بل للعالمين، ليوضح القرآن الكريم بذلك درجة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي لم يصل إليها أحد لتكون شاهدًا على عصمته من النفس بعد اتضاح عصمته من الشيطان، فلا الشيطان ولا النفس إذاً لهما عليه سبيل. ومما يزيد هذا الدليل وضوحًا قوله تعالى في وصف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61]، ليجمع البحث ما قيل في كونه رحمة من جميع نواحيها، فكلها حق، ولكن يبقى المعنى الظاهر أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رحمة عامة، ورحمة للمؤمنين خاصة، فأنى تكون لصاحب هذه الرحمة للمؤمنين في باطنه شيء يأمر بالسوء، وهذا السوء لا يقع في أوقات الرحمة، وكيف يرحم المؤمنين، وله أوقات لا رحمة فيها، أوقات الأمر بالسوء، والله يقول عنه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128] وهي عامة لكل المؤمنين شاملة لكل الأوقات والأحوال، حيث لقنه ربه أن يقول: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} فحياته ومماته وعبادته وتوحيده لله وحده لا شريك له من نفس ولا شيطان ولا هوى، ولا غيره. ولنا عود لهذه الآية. من جهة أخرى فقد ذكر القرآن الكريم أن هناك نفسين أخريين، هما النفس اللوامة،

والنفس المطمئنة، والمطمئنة قال الله تعالى فيها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30] ونحن نروم الاختصار فنشير في تحليل الآية ومقارنتها إلى موضع البحث فقط، فالنفس المطمئنة الراضية المرضية موجودة في المؤمنين، وأول المؤمنين هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأولى والآخرة، وهو أعلاهم درجة، فأعلى النفوس المطمئنة إذن وأجودها وأكرمها على الله نفس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي الآية دليل آخر: أن النفس المطمئنة يقال لها: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)}، وأشرف عباده وأسماهم منزلة - كما ذكرنا من قبل - هو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالنفوس المطمئنة تدخل في زمرته صلوات الله وسلامه عليه، وتشرف بالانضواء تحت رايته، فكان هذا برهاناً - على أقل تقدير - على خروج نفس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حد النفس الأمارة والنفس اللوامة، ووصوله إلى أكمل درجات النفوس المطمئنة، وأما صفة النفس المطمئنة المذكورة في الآية فهي الساكنة الهادئة - لأنها اسم فاعل من الاطمئنان - غير مضطربة ولا منزعجة، وهذا يجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد، ولا اضطراب بال، ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة والاطمئنان مجاز كذلك في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح، حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا، ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخايل السعادة والرضا نحوهم، ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء، وقد فسر الاطمئنان بيقين وجود الله ووحدانيته، وفسر باليقين بوعد الله، وبالإخلاص في العمل ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة (¬1). ومما سبق تتضح مرتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنيفة السامقة. ¬

(¬1) انظر العلامة الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (342 - 343/ 30).

ومما ينبغي الوقوف عنده من الآيات التي ذكرها القرآن الكريم، والتي تؤكد عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من المخالفات والمعاصي كافة، وكررها القرآن في أكثر من موضع؛ لينوه بفضله وعلو مرتبته - عليه الصلاة والسلام - والتي تبين من تغاير السياق التي سيقت فيه تعدد جوانب العصمة، واكتمالها في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبالتالي تضيف إلى ما سبق تأكيدات مهمة بشأن عناية الله به، تصديقاً للرسالة، وتأييداً للنبوة التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الآيات ثلاث آيات: الأولى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} [الأنعام: 15 - 16] الثانية: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15] الثالثة: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} [الزمر: 13] وقبلها قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} [الزمر: 11 - 12] وبعدها: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} [الزمر: 14]. والمتأمل لهذه الآيات الكريمات يلاحظ ما يلي: - أن قوله {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} مصدر في موضعين من المواضع الثلاثة، والموضع الثالث محتمل لها، وهذا التلقين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الله تعالى يدل على عنايته بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحفظه له، ورده عنه، وتثبيته إياه في تلك المواقف العصيبة، لم يترك له أن يرد هو، بل علمه الرد الذي لا مدفع له، في الوقت الذي يمدحه، ويثني عليه بهذا التلقين، وهو من الإيجاز والإعجاز القرآني العالي، إذ تجمع هذه الجملة العديد من المعاني التي لا تحصل بغيرها، وإن

حصلت من البلغاء فبأضعاف هذه الجملة، مع عدم تأدية كل المعاني التي تحتويها. - إن كلمة {قُلْ} هنا تنفي نسبة الوحي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع رفع الاحتشام عنه - عليه الصلاة والسلام - في تزكية نفسه، مع تأكيد المعنى الذي سيقت لأجله، بالتكرار له إلى يوم القيامة وهو - مثلاً - كما في الآية الأولى يرفض الشرك امتثالاً لأمر الله - جل جلاله - وإن أتباعه المؤمنين مطالبون أيضًا بهذا القول، معلنون به، غير راجعين عنه أو مداهنين فيه. - وقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} أي بمحالفة أمره ونهيه أي عصيان كان، ويدخل فيه ما ذكر في السياق دخولاً أوليًا، وهذا بيان من الله تعالى بحال نبيه المعظم، وهو كمال اجتنابه - عليه الصلاة والسلام - عن المعاصي على الإطلاق (¬1)، إذ لا معنى لخوفه العظيم هذا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع الوقوع في أي معصية كانت؛ لأن قدر الخوف على قدر العذاب، وبمقدار ما يخاف المرء يمتنع عن الأسباب المفضية لهذا العذاب المهول، وتلك تدل على العصمة الكاملة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2)، والآية رد واضح جلي على من يخالف هذا المعتقد، وتوضيح بليغ لما تُوهمه بعض الآيات القرآنية (¬3) بخلاف هذا الرأي السديد، وبالتالي تحمل هذه الآيات على ما يليق بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما يوافق آيات العصمة؛ جمعًا بين الآيات الكريمات كلها في هذا الصدد. - وفي العدول عن لفظ الجلالة إلى قوله {رَبِّي} في الآية إيماء إلى أن عصيانه أمر قبيح، لأنه ربه الذي يربيه، ويقوم على شؤونه فكيف يعصيه (¬4). ¬

(¬1) انظر العلامة أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (131/ 2). (¬2) لأن وجود الخوف حينئذ يكون مانعًا من أي معصية بغير تفريق بين صغيرة وكبيرة. (¬3) سنذكرها إن شاء الله بعد تقرير آيات العصمة. (¬4) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم"، والعلامة ابن عاشور "التحرير والتنوير" (161/ 6).

- وتوضيحًا لعذاب العصيان، وهو ما يدل على شدة الامتناع من المخالفة أضيف العذاب إلى {يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهويلاً له، إذ في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق، وانهزام آخر، والهزيمة تعني التنكيل بهم، وإكثار القتل والأسر فيهم، وإسامتهم سوء العذاب، فذكر {يَوْمٍ} يثير الخيال من مخاوف مألوفة لديهم، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} (¬1)، ولم يقل عذاب الظلة، وبهذا الاعتبار حسن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب. - ما سبق من المعاني لتلك الكلمات القليلة المضيئة، يظهر بجلاء هذا العلو، وتلك الدرجة المُنيفة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي يقطع العقل بحصولها له. وتمضي ألفاظ الآية الكريمة في توضيح جانب آخر يدل على عصمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتكتمل جوانب الصورة وذلك قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} فقوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة لـ {عَذَابَ}، ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء، أي من وفقه الله لتجنب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدر الله له الرحمة، ويسر له أسبابها، وبالتأمل يتضح أن المقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} كأنه قال أرجو إن أطعت أن يرحمني ربي، لأن من صرف عنه العذاب فقد ثبتت له الرحمة، فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي، وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول، وهذا ضرب من الكناية، وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه مفردًا من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم. (¬2) ¬

(¬1) انظر الطاهر ابن عاشور "التحرير والتنوير" (161/ 6). (¬2) انظر الطاهر ابن عاشور "التحرير والتنوير" (158/ 6).

ولما كان رجاؤه الرحمة بطاعته دل على عصمته؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول المرحومين، وأعظمهم تحصيلاً لرحمة الله سواء بعنايته في الدنيا؛ بالوحي له، واختصاصه به، أم في كونه أول المسلمين، كما أمرته الآية السابقة أن يقول بذلك، وهي قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، أو بكونه هو الرحمة نفسها كما مر معنا في قضية يوسف عليه السلام. وقوله: {وَذَلِكَ (¬1) الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} تعقيبًا على صرف العذاب، دليل أن من صرف عن العذاب، أو صرف عنه العذاب على حسب عود الضمير فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] ومعلوم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدرجة العليا من النعيم في الفردوس الأعلى، ليس ممن يصرف عنه العذاب، بل هو صاحب الوسيلة (¬2) التي ليست لأحد من الخلق إلا هو - عليه الصلاة والسلام - فكان ذلك برهان كونه المنزه الأول عما يشوب هذه المنزلة من المعصية، أو يخدش تلك الدرجة من الرحمة بالمخالفة، ويؤيد ذلك أن في الآية تعريضًا بأنهم عصاة، مستحقون لعذاب يوم عظيم أولئك المخالفون للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف يقع منه هو أدنى مخالفة أو معصية. ما زالت الآيات الثلاث تبوح بشيء من معانيها، تجود بها: من ذلك شمولها للتوحيد والعبادة، والخوف من المعصية، مع التأكيد على دلائل الوحدانية التي لا يمكن معها إلا التسليم للرب عقلاً وسمعًا، وتكون المخالفة ساعتها أقبح القبائح، خاصة إذا اقترنت هذه الآيات بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول ذلك، مبلغًا إياه عن ربه. ¬

(¬1) وذلك فيه من معنى البعد ما يؤذن بعلو درجته، وبعد مكانه في الفضل. (¬2) إشارة إلى حديث الوسيلة الذى رواه مسلم (577).

في الآيات نرى ذلك بأوضح صورة، حيث يقول جل وعلا: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] ثم يقول: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} فجاءت هذه الآية الثانية، لتبين بدلالة السمع - وهو الوحي - بعد الأولى التي تحوم حول الدلالة بدلالة العقل، الأمر باتباع دين الإسلام، بل وأن يعلن النبي بناء على أمر ربه أنه أول من أسلم، وهي الكناية التي خاطب العرب بها، إذ هم يعلمون أنه أول من التزم دينه الذي يدعو إليه، ومن ثم كان المعنى المكنى عنه هنا هو كونه الأقوى والأمكن في الإسلام، لأن الأول في كل شيء هو الأحرص على الشيء، والأعلق به، فالأولية تستلزم الحرص والقوة في العمل، كما حكي الله عن موسى - عليه السلام - قوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} [الأعراف: 143] فإن كونه أولهم معلوماً، وإنما أراد: إني الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيمانًا، وفي الحديث: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة» (¬1). وعليه فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الأول إسلامًا وإيمانًا وإحسانًا، في الدنيا والآخرة، وبأمر الله أن يقول ذلك، وفي نفس الآن فإن في الآية تأييسًا للمشركين من اتباع دينهم، أو الرجوع إلى دين آبائهم، والذي من معناه التمسك بتوحيد ربه، والالتزام بعبادته، وترك عصيانه، وهو ما يبين في الآيات الأولى المعنى الذي تدور عليه الآيات كافة من كونه في توحيده لربه، والتزامه بعبادته، والاتصاف بأعلى الصفات هو الأول في ذلك. ونربط ما سبق من سورة الأنعام بما نزل في سورة الزمر، نظرًا لأن الزمر متأخرة النزول عن الأنعام، وهي من قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم، وهذا اللفظ لمسلم (855).

أَكُونَأَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} [الزمر: 11 - 13]. (¬1) ونلاحظ في ربط الآيتين قبل الخوض في شيء من التفسير ما يلي: أولاً: أن سورة الأنعام ذكرت قوله: {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)}، أما في سورة الزمر فجاء قوله: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} وتعني في الأنعام عندما عبرت بالفعل أن ذلك يفيد التكرار والدوام منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أي كلما تكرر أمر من الله له، أو نهي فإنه يكون المبادر للاستسلام وللامتثال ومن ناحية أخرى يكون هو الأقوى والأكمل في الامتثال والخضوع، أما آية الزمر، وهي المعبرة بالجملة الاسمية {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} فدلت على كون الاستسلام والقوة فيه والحرص عليه سجية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهيئة راسخة لا ينفك عنها ولا يتحول، وأنه - عليه الصلاة والسلام - يتقبل تلك الأوامر والنواهي ويسارع إليها بسماحة ويسر، بغير مشقة على النفس ولا عنت، وبغير ملل أو ضجر أو استثقال، مهما كلفته تلك الأوامر والنواهي، وقد رأينا تلك القدوة في أصحابه رضوان الله عليهم عندما تركوا أهلهم وأوطانهم وديارهم وأموالهم في سبيل الله تعالى، وما كانوا ليفعلوا ذلك إلا ولهم أسوة فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذه تدل على عصمته، لأنه كلما أُمر بأمر امتثل، وكلما نهي انتهى (¬2). ثانيًا: أن الآيات هنا زادت الإخلاص لله تعالى في عبادته، حيث يتناسب ذلك مع السياق، إذ في الأنعام قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)}، وهو علاوة على أن أمره بأن يكون أول من أسلم فهو تأييس للمشركين من طلبهم العودة إلى دينهم، أما هنا فهو الأمر بالعبادة ولا تكون مقبولة إلا بالإخلاص لله تعالى فيها، ¬

(¬1) حيث الأنعام في ترتيب السيوطي (54)، والزمر (58)، وكذا في بقية المصاحف، فإن الزمر متأخرة مع اختلاف في رقمها. (¬2) فلم يكن ثم مجال للمخالفة على الإطلاق، وذلك واضح من أمر الله له بالثناء على نفسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بثناء الله عليه، فأنى تأتي المخالفة المؤكد عدم خطورها بباله فضلاً عن وقوعها، وذلك بقوله: "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم".

فجاء الأمر على هذا النحو فزاد السياق هنا بزيادة هذه الألفاظ معان أخرى تشير إلى ما ذكرنا منها كونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مأمورًا بأن يكون أول من أسلم في كل أموره في توحيده في عبادته في إخلاصه، في أعماله الباطنة، وفي أعماله الظاهرة، وهذا ما بينته سورة الأنعام شاملاً قبل ذلك في أواخر آياتها بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163]، وهذا واضح تمام الوضوح في البرهنة على عصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا من كان أول من أسلم، وكانت صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله، حتى مماته فمتى يكون للشيطان وأنى يكون له عليه أدنى سبيل أو سلطان، فمتى يعصى ربه؟! ذكر الفخر الرازي، وهو بصدد تفسير هذه الآيات معنى شبيهًا فقال: «في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} التنبيه على كونه رسولاً من عند الله واجب الطاعة، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ.» (¬1) ثالثًا: ذهب جمع من المفسرين بأن الأمر بعبادة الله تعالى مخلصًا فيها؛ إنما هو علة ليكون أول المسلمين، فمتعلق {أُمِرْتُ} محذوف لدلالة قوله: {أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)}، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد بالغ أشد المبالغة في العبادة من قبل نزول هذه الآيات عليه - كما في سورة طه - وهي متقدمة على كل هذه السور التي فيها الأمر بأن يكون أول المسلمين (¬2) حتى واساه ربه بقوله: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)} [طه: 2] كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وقد علمنا من سورة المزمل والمدثر اجتهاد النبي عبادة ودعوة من أول يوم بعثه ¬

(¬1) الفخر الرازي "التفسير الكبير" (403/ 13). (¬2) ترتيبها عند السيوطي مثلاً (44) فهي متقدمة على الأنعام ويونس والزمر اللاتي معنا.

الله تعالى فيه. وهذا يبين الأسوة الحسنة للمؤمنين المتقين من وجهين: الأول: إذا كان النبي في هذا المقام العالي، وأمر بذلك فمن باب الأولى أن يكون المؤمنون سالكين سبيل الاجتهاد كذلك. الثاني: وهو خوفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المعصية الواحدة لهول العذاب - كما تدل عليه الآيات - فكيف الحال بباقي الخلق المؤمنين فمن دونهم من المشركين. ولذلك رأينا تكرير قوله {وَأُمِرْتُ} تنويهًا بشأن المأمور به الثاني، وإظهارًا لأهميته، حيث عطف على {أُمِرْتُ} الأول، وليس ذلك تكريرًا محضًا لسببين: الأول: أن أمرت الأول لبيان المأمور، وذكر الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله بضميمة قيد التعليل. الثاني: أن قوله في الأول: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} أن العبادة لها ركنان عمل القلب، وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف فقدم على عمل الجوارح، وهو قوله {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)}، وأما قوله {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} فمن معاني الإسلام الأعمال الظاهرة كالصلاة وبقية الأركان كما في حديث جبريل - عليه السلام - فكان أمرت الأول بعمل القلب، والثاني بعمل الجوارح قلا تكرار إذن. وكل ذلك يدلنا على اكتمال ما به يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نهاية العصمة، حيث أشارت الآيات إلى أمرين عظيمين: الأول: يشاركه فيه غيره، وهو أن يعبد الله مخلصًا له الدين.

الثاني: يختص به، وهو أن يعبده كذلك ليكون أولَ المسلمين. فأمره يبلغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصًا له الدين، والتي لم يبق معها فكر في معصية أو مخالفة فضلاً عن الهم والوقوع، فجعل وجوده متمحضًا للإخلاص على أي حال كان كما في الآية التي أشرنا إليها: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163] (¬1) وتبقى معنا الآية الثالثة وهي: آية سورة يونس، لننظر فيها إذ هي تغطي زاوية أخرى في سياق العصمة، لتكتمل بذلك جوانب الموضوع من حفظ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الجانب المتعلق بالقرآن الكريم، وتبليغه كما هو، وأنه ليس له أن يقدم فيه أو يؤخر، فضلاً عن أن يزيد أو ينقص، أو يبدل، أو يغير، وما كان له ذلك، وهذا الموضع هو قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15]. ونلاحظ في الآية ما يلي: أولاً: أن سورة يونس في ترتيب النزول قبل سورتي الأنعام والزمر (¬2) وذلك موافق للسياق العام لدعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبعد تقرير أن القرآن الكريم من عند الله، تأتي الأوامر بالتوحيد، والعبادة وغيرها، وساعتها يؤمر النبي بقوله: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ}، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ}، وغير ذلك من الآيات التي تنبني في محاجتها للمشركين، بل ¬

(¬1) انظر لما سبق الفخر الرازي، "التفسير الكبير" (403/ 13)، وانظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم" (461/ 2)، الألوسي "روح المعاني" (368 - 370/ 13)، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (357/ 24)، وغيرهم كأبي حيان "البحر المحيط" (454/ 4). (¬2) هي السورة رقم (50) في ترتيب السيوطي، انظر عزة دروزة (155/ 1).

وللعالمين على صحة رسالته، وصدق نبوته، إذ أثبت قبل ذلك بالتحدي الذي لم يرد لم يبق إلا العمل والتمسك به، والدعوة إليه. ثانيًا: إن المشركين طلبوا تغيير هذا القرآن، أو تبديله، وكان من اليسير عليه لو كان ذلك بيديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يفعل ذلك بدلاً من هذا العناء والشقاء، ولكنه رد عليهم ردًا واضحًا لا لبس فيه، وواجههم مواجهة لا مواربة فيها، حاسمة قاطعة لا رجوع عنها، بل لا انثناء لها بأمور هي أركان دعوته وأساسها، وأنه لا يمكن له تحت أي سبب أو ضغط أن يحيد عنها، ولا قيد أنملة، هذه الأمور هي: الأول: قوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} ليستنبطوا ما يريد أن يؤكده لهم وهو، أن هذا القرآن ليس من عنده، إذ اقتراحهم أن يغيره أو يبدله له معنى صريح هو، الإتيان بقرآن آخر، ومعنى كنائي التزامي وهو، أنه غير منزل من عند الله - عز وجل -، فكان تلقين الله إياه يحمل الردين معًا، ويثبت في ذات الوقت، وكل وقت أن ذلك لم يحدث، ويتلى إلى أن تقوم الساعة أنه ليس من تلقاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويبين هذا الكلام معنى دقيقًا أنه لم يكن له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبدل ولا حرف واحد من هذا القرآن، أو يغيره، أو يحذفه، أحب أو كره، تحت أي ظرف من الظروف، أو حدث من الأحداث، مما يبين على صحة القرآن جملة وتفصيلاً، وأنه منزل من عند الله كما بلغه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثاني: من أمور رد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الآية قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى} فهو مبلغ عن الله تعالى ما يوحِي إليه به، شاءوا أم أبوا، آمنوا أو كفروا، لن يغير ذلك من موقفه شيئًا، وهو منتظر في ذلك حكم الله بينه وبين العالمين، وهو ما يدل على عصمته في تبليغ كلام الله، أوامره ونواهيه، توحيده وعبادته، سلمه وحربه، حياته ومماته، لا يستطيع، وما كان له أن يقول حرفًا واحدًا من عنده لأنه يدخل في التبديل، وذلك أبلغ ما يكون في إظهار عصمته،

وهي علامة باقية إلى يوم القيامة، وبعد مماته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما استطاعت الدنيا - كما أخبر أن تغير مما قال شيئًا - ومن ادعى القول فضح به وظهر كذبه. والكلام يشير إلى عصمته بإشارة أخرى، وهو في جملة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى} حيث هي تعليل لجملة {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} أي ما أتبع إلا الوحي، وليس لي تصرف بتغيير (¬1)، واتباع الوحي: تبليغ الحاصل به وعدم تجاوزه في الاقتفاء، أي عملاً وتبليغًا، إذ الاتباع مجاز في عدم التصرف، بجامع مشابهة ذلك للاتباع الذي هو عدم تجاوز الاقتفاء في المشي. وإن دل ذلك دل بوضوح على أنه في التزامه أوامر الله وتبليغها لا يتزحزح فيها قيد شعرة عما يوحى إليه، وما كان، وبالتالي لن يكون، وهي العصمة الكاملة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباعه التام والكامل والدائم للوحي المنزل عليه والذي لا حول له فيه ولا تصرف، ومن ثم قال في الآية التالية: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس: 16] (¬2). الثالث: وهو في قوله جل وعلا: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} وهي واقعة في موضع التعليل لقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وهي قاطعة لأطماع المشركين، ولكل أحد يروم محادة الإسلام، سواء بتغيير هذا القرآن أم تبديله أم العودة إلى دين المشركين كما طلبوا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أم بمهادنتهم بترك الاستهانة بآلهتهم، أم بعصيان الله تعالى أي ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (118 - 119/ 11). (¬2) وجملة "من تلقاء نفسي" ليس معناه أنه يجوز أن يبدل من تلقاء الله تعالى التبديل الذي يرومونه، ودل السياق أن الإتيان بقرآن آخر بمعنى إبطال هذا القرآن وتعويضه بغيره، وأن تبديله بمعنى تغيير معاني وحقائق ما اشتمل عليه ممتنع. انظر لذلك الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (118 - 119/ 11).

معصية كانت لأن ذلك مؤداه إلى عذاب لا قبل لأحد به، فهو مانع أي العذاب لمن كان في مقام الرسول القدوة أن يخالف أي مخالفة أو أدنى مخالفة كانت لذلك الوحي، مما يؤكد بما لا شية فيه عدم وقوع ذلك منه، وهو الصادق الأمين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سماه المشركون أنفسهم، وتلك هي العصمة الكاملة.

الباب الثاني الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

الباب الثاني الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مكة

الفصل الأول من المولد إلى البعثة

الفصل الأول من المولد إلى البعثة

تمهيد

تمهيد وهذا أوان البحث في سيرته العطرة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد اعتمدت على النقد التاريخي الذي سبق إليه المسلمون في تمحيص صحة الأخبار ونقدها، مع مقارنة تلك الأخبار بالوارد في القرآن الكريم، مع الدراسة النصية والتحليلية لهذين المصدرين، لاستنباط ما تشير إليه النصوص في كلٍّ، مع الاتكاء على التفسير الموضوعي لآيات القرآن الكريم فيما يعد جديدًا - في ظني - لبحث السيرة، مع إضافة جديد آخر كرر بعد ذلك وهو دراسة ما حدث للأنبياء من قبل، وما وقع لهم ليكون دليلاً صادقًا فيما يمكن أن يقع للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه. ركزت على نقد "مونتجمري وات" (¬1) - في النقد التاريخي، وبينت خطأه وخطله لتكون إضافة تتسم بالجدة، ليكتمل بذلك هذا التصور لرسالة حديثة في بحث السيرة، حاولت أن تلم بعناصر البحث كافة - ما وسعها الجهد - وتوفرت لها الطاقة. وقد اختار الباحث هذا (العنوان) لهذا المبحث، لكون كثير من الكاتبين في السيرة من مسلمين ومستشرقين، جعلوه عنوان هذا الجزء من حياته، وما شمل من سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليكون متناسبًا أو موافقًا لهم، خاصة مع المستشرقين منهم، في الرد عليهم وتبيين الحق فيما انتهوا إليه، مما يخالف ما انتهيت إليه، معتمدًا على التحليل التاريخي الذي زعموا، ليظهر بذلك عدم الإنصاف وضعف الأمانة العلمية فيما وصلوا إليه، أو بتحري الدقة - كما سيتضح - فيما أرادوا أن يصلوا إليه. ¬

(¬1) تم ترجمته في الباب الأول.

وإن هذا الفصل كسابقه يأخذ التنزل التاريخي للقرآن الكريم في الاعتبار وذلك أدعى لمواءمة هذا التدرج في السيرة من المولد إلى البعثة ... وليوضح تلك العلامات البارزة وغير البارزة في سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يقولون. من الجدير أن أقول - بحق هنا -: إنني لم أمتثل لعقدة الخواجة التي روج لها في بلاد الإسلام ذيول المستشرقين والمستغربين في دراسة السيرة وغيرها من علوم الإسلام، ولكنني ملت إلى الحق والإنصاف - واضعًا نصب عيني البحث ما وصل إليه المسلمون من صحيح الأخبار، آخذًا بها، ضاربًا عرض الحائط بما يخالفها مما لا وجه له من كلام المستشرقين خاصة إذا كان يظهر العلم والأمانة، ويبطن التعصب الذميم، والتحامل الفج، مع سوء التوجيه للأخبار والمواقف، والتطاول وعدم الأدب مع القرآن الكريم والرسول المعظم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مع نقد هذا الكلام وهذه الآراء في نفس الوقت نقدًا نزيهًا، يرمي إلى تبيين الصواب ودحض الخطأ والباطل. ثمة عنصر جديد آخر قد أضيف إلى البحث، وهو الاستدلال بما وقع للأنبياء وأتباعهم على كون مثله يمكن أن يحدث للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، إذ إن الله قد أمره بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، كما سنبين ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى، علاوة على أن قصصهم كان عبرة لأولي الألباب، وبالتالي فمن باب الأولى أن تكون سيرته العطرة كذلك، ومن ثم كان إثبات أن مثل هذه الأحداث قد وقعت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مما لا جدال فيه، ودليله كما يبدو إجمالاً الآن، وتفصيلاً بعد ذلك في غاية القوة. وفيه كذلك رد من القرآن الكريم نفسه على نفاة تلك الوقائع أو الاعتراض تاريخيًا أو غيره على صحة هذه الأحداث. ونبدأ بعرض السيرة النبوية، مع ما ذكرنا:

المبحث الأول نسبه صلى الله عليه وسلم

المبحث الأول نسبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما نسبه الذي يسوقه علماء النسب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو: "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان". وأما أمه فهي: "آمنة بنت وهب" من بني زهرة، ويلتقي نسبها مع نسب أبيه في كلاب بن مرة. وقد أجمع النسابون على نسبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عدنان - وإن لم ينقل على طريقة نقد المحدثين المسلمين للروايات التاريخية وغيرها حديث صحيح بكامل نسبه (¬1) ولكن صحت أحاديث ببعضها. على أن اهتمام العرب في تلك الفترة الشديد بمعرفة أنسابها، يؤكد أن سلسلة نسبه إلى عدنان موثقة، لكونها معلومة بالضرورة في ذلك العصر، خاصة وأن علماء النسب والأخبار متفقون عليها، ولم يخرج أحد منهم أو من غيرهم يتكلم ولو في واحد من نسبه ¬

(¬1) سوف نعتمد على نقد الروايات على طريقة المحدثين المسلمين، إذ هي بعد بحث في نظرنا أقوى وأصح ما يعتمد عليه من قواعد في تصحيح وتزييف أي نقل كان حيث لم يسبقهم إلى ذلك أحد، ولم يدانيهم في الوصول إليه أحد.

بإثبات أو حذف، ومثل ذلك توثيق لا يحتاج معه لغيره. أما نسبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عدنان إلى آدم - عليه السلام - فمختلف فيه، وليس فيه ما يعتمد عليه، وأما ما لا خلاف عليه أن عدنان من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. (¬1) ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصطفى نسبًا وزمنًا ونبوة، فالنبوة قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وأما اصطفاء النسب فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح:» إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم «(¬2). ولم يستطع أبو سفيان بن حرب إلا أن يعترف مع عداوته له بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أعلى وأطهر أهل الأرض نسبًا وأشرفهم قبيلة، وذلك أمام هرقل لما سأله عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب فقال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها «(¬3). ¬

(¬1) انظر لما سبق صحيح البخاري (238/ 4)، ود. أكرم ضياء العمري "السيرة النبوية الصحيحة"، مكتبة أضواء البيان (90) ط 5، 1424 هـ - 2003 م، "السيرة النبوية" مهدي رزق الله (105) ط 1، 1412 هـ - 1992 م وغيرها. (¬2) مسلم (2276) كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. (¬3) صحيح البخاري بدء الوحي (31/ 1).

المبحث الثاني مولده صلى الله عليه وسلم

المبحث الثاني مولده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ولد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفيل حيث حاول أبرهة الحبشي أن يهدم الكعبة عندما بنى كنيسة باليمن ليحجها العرب بدلاً منها، وكان ذلك عام 570 م أو 571 م (¬1)، وقد ولد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، أو التاسع على رأي بعض الدراسات الحديثة (¬2)، وهذا أمر مجمع عليه (¬3) إذ حادثة الفيل مذكورة في القرآن الكريم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 1 - 5]. لا تكاد الروايات التاريخية تخرج عن الوصف القرآني إلا في تحديد جزئيات يسيرة رواها بعض صغار السن من الصحابة عمن عاصر تلك الفترة كابن عباس وعبيد بن عمير من الصحابة وغيرهما، فقد رأت السيدة عائشة رضي الله عنها قائد الفيل وسائسه أعميين يستطعمان الناس بمكة (¬4). ¬

(¬1) جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (443/ 9). (¬2) الباحث محمود باشا الفلكي فيما ذكره الخضري في محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية (62/ 1)، كتاب محمود باشا: "نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام" (28 - 35)، ط بيروت. (¬3) تاريخ خليفة وكل كتب السيرة تذكر مولده عند حادث الفيل؟!. (¬4) ابن هشام "السيرة" (75/ 1)، خليفة، "التاريخ" بسند حسن.

ذهب بروكلمان إلى التشكيك في مولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث ذكره أنه قبل عام الفيل بعشر سنوات محيلاً ذلك على الأب هنري لامانس، حيث وصف "وات" نفسه هذا الهنري بشدة التطرف في تناول السيرة، وكتاباته وغيره تثير الغثيان (¬1)، وما ذلك منه إلا لسلب دعوى النبوة عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث لا يكون سنه عند الرسالة أربعين عامًا، والرسل تبعث في سن الأربعين؛ مما يدل على عدم صحة النبوة، هكذا بغير بينة ولا برهان يغير هذا المؤلف التاريخ ويخترع روايات لا أصل لها، ليصل بها إلى ضلاله كل ذلك باسم العلم (¬2) وقد صح بما لا شك فيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدع بالدعوة عند سن الأربعين، ولم يخالف في ذلك أحد من العالمين حتى جاء لامانس فاخترع هذا الكذب على الله وعلى التاريخ وعلى الناس (¬3). ولد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتيمًا، فقد مات والده وأمه حامل به، وهو المشهود الذي تقطع به الآية القرآنية الكريمة: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6)} [الضحى: 6] وهو أبلغ اليتم وأعلى مراتبه (¬4)، وبذا شاء الله تعالى أن ينشأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذلك ليتربى بعيدًا عن أبيه وأمه وجده، وأن يقضي معظم طفولته في بادية بني سعد مسترضعًا فيهم لإبعاد الريبة، وإيهام الناس أن نبوته إنما هي توجيه وإرشاد آبائه حيث مكانة جده العالية في مكة حينئذ. وإنما يتمه كذلك أسوة في كل زمان ومكان ليعرفوا أن اليتم ليس بلاء يمنع صاحبه من الوصول إلى أعلى المراتب دنيا وأخرى، ولنفرض أن عبد الله أباه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقى حيًا! فماذا عسى كان ¬

(¬1) "وات"، "محمد في مكة" (44)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة عبد الرحمن الشيخ، وحسين عيسى، مراجعة د. أحمد شلبي. (¬2) بروكلمان، "تاريخ الشعوب الإسلامية المعرب" هامش (32). (¬3) انظر ابن سعد: "الطبقات الكبرى" طبعة الطبري (202/ 2)، ابن حزم: "جوامع السيرة"، تحقيق إحسان عباس وناصر الدين الأسد (5)، وابن القيم "زاد المعاد" ط الرسالة (1/ 84)، ابن سيد الناس، "عيون الأثر"، مجلد 1، (110)، وغير ذلك. (¬4) انظر ابن كثير "السيرة النبوية" (260/ 1).

يفعل لابنه؟ هل كان يمكن أن يهب له النبوة لو كانت كسبًا فكيف وهي اصطفاء؟ نعم الأب عنصر من عناصر شتى تؤثر في الطفل، وتحفر له في الحياة مجراه. (¬1) وكان من عجيب الشأن أن سمي محمدًا حيث وردت روايات ضعيفة عن أمه وجده أنهما اللذان سمياه محمدًا، ولكن عموم سنة العرب مغنيًا عن النقل، حيث قيام عبد المطلب بابن ابنه اليتيم، وسروره به، سلوى عن عبد الله بن عبد المطلب مما لا يحتاج إلى إثبات، خاصة وأن تسميته محمدًا أعظم وأشهر شيء في تاريخ الإنسانية إلى زوال الدنيا، وختنه وعمل له وليمة على عادة القوم، لم تصح بذلك روايات نعم مع أنه ثابت مشهور مما يحتاج معه إلى نظر وتأمل في إثبات التاريخ مع منهجنا الذي سرنا عليه في التدقيق وإخضاع السيرة للنقد الحديثى إن ذلك يحل مشاكل كثيرة في نقد الرواية، وإثبات التاريخ والسيرة وغيرها بذلك (¬2). إرهاصات مولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وهي إرادة الله تعالى في الأمور العظام التي يقضيها شرعًا وقدرًا أن يُوَطِّئَ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها، وتدل عليها، وسنضرب لها أمثلة تبينها وتوضحها إن شاء الله تعالى (¬3). أولى هذه الأمور العظام في الدنيا والآخرة هي ولادته عليه الصلاة والسلام وقد تناول كتَّاب السيرة من مسلمين ومستشرقين هذه الإرهاصات وغيرها كلٌ بحسب منهجه في ¬

(¬1) انظر مهدي رزق الله "السيرة النبوية" (109)، وكذلك محمد الغزالي "فقه السيرة" (59). (¬2) نقد الروايات، ضعفها مع اشتهار الوقوع، فهل للواقع، والشهرة، وموافقة عادات القوم وغيرها لها تأثير في تصحيح وقوع الحادثة بغض النظر عن السند؟!. (¬3) انظر ابن القيم، زاد المعاد، (309/ 3)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، طبعة الرسالة.

معالجة السيرة، لأن المصادر مثلاً هي التي تشكل الرؤية المعرفية للباحث، مع قيمة البحث، أو بالاعتقاد المسبق فيما يكتب حيث يصل بنتيجة بحثه إلى ما يصبو إليه مما كان يعتقد، أو بنظرته وآرائه المكونة ابتداء، مع يقينه بصحة الموضوع في الجملة، والأخير هذا فعل المسلمين من المدرسة العقلية، كـ"محمد الغزالي" في"فقه السيرة"، حيث تحمل من عوامل التهافت والسقوط أكثر مما تحمل من عوامل العقل والإقناع والثبات، وسنبين ذلك في هذا المبحث وغيره، أما الأولون فيمثلهم المستشرقون، إذ ناقشوا وكتبوا بمنهج آخر لا يمت إلى إثبات الوحي بصلة، ونفي علاقة السماء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما حوّل البحث إلى بحث مادي علماني وإن ادعوا التوحيد، وظهر بالتالي أن مقصود بحثهم هو الطعن في محمد والإسلام، وتجريده من صفات المرسلين ودعوة النبيين، ونسف النبوة عنه، والتشكيك في كل ما يدور حول ذلك، لابسين في ذلك سرابيل العلمية والإنصاف، وأمثلهم في هذا السوء هو "وات" الذي يسمي قول وبحث إخوانه من المستشرقين بالغثيان وشدة التطرف فجاء ليقول قولهم ويصل بنا إلى نتائجهم، ولكن بدون غثيان يذكر، أو شدة يلحظها غير المدقق والمحقق. وباقي الكاتبين المسلمين فمدرستان: الأولى: قبلت كل ما جاء في كتب المتقدمين من هذه الإرهاصات ودافعت عنها وبعضهم رد على المستشرقين في إثبات ذلك (¬1)، وقد جمعوا ما صح وما لم يصح من الروايات والآثار، حيث هالهم سوء صنيع هؤلاء، ومخالفتهم للعقل والواقع، وتشكيكهم فيما ارتضوا هم أنفسهم من مصادر السيرة الإسلامية حيث لا يملكون في بحثهم سواها، مع اختراعهم في آخر الزمان لأحداث لم تقع وبنوا عليها للأسف ما أرادوا التوصل إليه من نتائج. ¬

(¬1) منهم عبد الله محمد الأمين في أطروحته للماجستير "الاستشراق في السيرة النبوية".

الثانية: وهي مدرسة جد حديثة تقوم على تمحيص الروايات، وقبول الصحيح، ورد الضعيف مهما كان مساعدًا في إثبات قضايا التاريخ والسيرة، إظهارًا للحق وإنصافًا للحقيقة، حتى وإن تهلل لها المستشرقون، لأن اعتقادهم في صحة منهجهم، وإثباته بالصحيح من القول ينتهي بهم إلى نزاهة النتيجة وقوة برهانها، وهي مغايرة تمامًا لنتيجة المستشرقين لأن هذه منبنية على التضليل مع الترصد وسبق الإصرار وغير ذلك، بل هي نتيجة معدة سلفًا بخلاف تلك. قبل بداية البحث في هذه النقطة نذكر بما زدناه جديدًا في الرسالة من المقارنة مع القرآن الكريم لندلل على صحة ما نود الوصول إليه، وكان التأمل في هذه النقطة بالذات مثار عجب الباحث، إذ كانت وحدها كافية في إثبات إرهاصات المولد النبوي الشريف، بأكثر مما ادعى أصحاب المدرسة الأولى نفسها التي جمعت الغث والسمين، وبالتالي ردت على أصحاب المدرسة العقلية من المسلمين، ومتبوعيهم من المستشرقين (نسميها بالحق مدرسة الادعاء العقلي) وسيكون القرآن الكريم عمدتنا في السيرة مع ما صح من نقد الروايات بعد ذلك في هذه الرسالة بفضل الله تعالى، إذ هو الدليل والمدلول عليه. ونبدأ بما روي عند ولادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما بعدها من إرهاصات، نذكرها بترتيبها الزمني بعد ذلك كما التزمنا، وكما هو يتناسب مع كُتَّاب السيرة. لقد رويت قصص وأخبار حول صفة حمل أمه به، وأنها لم تر أخف ولا أيسر منه، وأنها رأت بشارة بجليل مقامه، وأُمرت بتسميته محمدًا، كما وردت أخبار ذكروها تفيد أنه "وقع حين ولادته معتمدًا على يديه، رافعًا رأسه إلى السماء"، وأنه ولد مختونًا، أو ختنه جبريل - عليه السلام -. ورويت روايات حول هواتف الجان في ليلة مولده، وتبشيرها به، وارتجاس إيوان

كسرى وسقوط أربع عشر شرفة من شرفاته، وخمود نيران المجوس، وغيض بحيرة ساوة. وهذه هي الأخبار الضعيفة والموضوعة مع الخلاف في صحة بعضها. أما ما احتف بمولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صحيح الأخبار وحسنها، فمنها قوله هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، رأت أمي حين حملت بي كأن نورًا خرج منها أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام». وإخبار يهود بليلة مولده وكذلك قصة الفيل توطئة وإرهاصًا لظهوره، حيث دفع الله تعالى نصارى الحبشة عن الكعبة دون حول من العرب المشركين تعظيمًا لبيته (¬1). بقى النظر وتحليل هذه الأخبار .. ذهب أصحاب المدرسة الإسلامية الأولى إلى ورود وصحة بعض هذه الروايات، خاصة بسبب وقوع الاجتهاد في التصحيح والتضعيف مع أصحاب المدرسة الإسلامية الثانية، مما جعلهم يحتجون بهذه الروايات على المستشرقين، خاصة وأن المستشرقين يعتمدون نفس المصادر، ومن ثم تجاهل "وات": أولاً: هذه الأخبار كلها، وليس له من دوافع إلا أنه لا يمكن أن ينكر مصادره التي يتكأ عليها في أبحاثه. ثانيًا: أنه أعتمد المنهج الانتقائي فما يشعر من بعيد أنه يؤيد دعواه - ولو كان غير صحيح - يذكره ويبني عليه قصصه الكوميدية والتراجيدية، كتفسير آيات سورة النجم، وما ينكر دعواه ويغلق قضيته إما أن يتعامى عنه أو يشكك في صحته، ومن هذا تلك الإرهاصات عند ولادته الشريفة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه بإثباتها يثبت ما سعى حثيثًا في كل أبحاثه، بل ¬

(¬1) ابن القيم، "زاد المعاد" (76/ 1)، القسطلاني، "شرح المواهب اللدنية" (130/ 1).

بطول حياته وعرضها أن يدحضه، وهي دعوى نبوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. كان رد أصحاب المدرسة الأولى مع ذلك قويًا (¬1). أما أصحاب مدرسة التدقيق في قبول الروايات فيكفيهم ذلك الصحيح، وإن كانوا يعتقدون بوقوع إرهاصات عمومًا تمهيدًا لمجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن تلك سنة الله تعالى في إرسال رسله، ثم هم يؤمنون بمحمد نبيًا ورسولاً بما لا يحتاج معه إلى تأكيد. ومعركتنا العقلية والعلمية إذاً والتي سنطيل القول فيها، هي مع العقلانيين - زعموا - ومتبوعيهم من المستشرقين لتبين الأساس الحق لهذه القضايا عمومًا. زعم الشيخ محمد الغزالي، وهو مؤمن بالرسالة والوحي الإلهي لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن محمدًا ولد بمكة ولادة معتادة، لم يقع فيها ما يستدعي العجب أو يستلفت النظر. وقال أيضاً: (وقد روى البعض أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة ... إلخ). (وهذا تعبير غلط عن فكرة صحيحة، فإن ميلاد محمد كان حقًا إيذانًا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه). (ورسالته أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي). (ومحمد غنى عن هذا كله، فإن نصيبه الضخم من الواقع المشرف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها). (¬2) ¬

(¬1) عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية"، (60). (¬2) انظر محمد الغزالي، "فقه السيرة"، (58 - 59).

وهذا الملخص هو اعتقاد الشيخ في هذه القضايا وأشباهها، مع زيادة تعبيرات طفيفة لدوافع ذلك هنا أو هناك، وكل ذلك لا يزيد عن كونه التأثر بعقدة الخواجة بل هو كلامه خاصة عند تفسيره الإنشائي بأسلوبه الخطابي لعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أطلعه عليه سبحانه من الغيب، وبما أيده به من معجزات. ونحن نرد عليه ردًا لمن تبع من المستشرقين دفاعًا عن السنة، وبالتالي عن الإسلام وإن كان لا يحتاج دفاعًا خاصة من أمثالنا، إذ هو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد يرى بعض في ذلك إظهارًا للتلبيس في ثوب العقل، والتضليل في سربال العلم، وإن كان هو لا يقصد ذلك، وقد وجدنا مغبة ذلك وعاقبته في مسلمين بكل سهولة يدفعون الدين، ويردون السنة بدعوى مخالفتها للعقل، وإن فلانًا قد قال، ورد ذلك، وإن ذلك مخالف للعقل، ولا يمكن أن يأتي الإسلام بهذا أو أن يأمر بذاك ... إلى آخره مما صار الدين معه متعلقًا بعقول الناس وأصبح التشريع أصولاً وفروعًا موكولاً إليها، لا إلى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما سهل الغزو الفكري لأهل الكفر، وصارت التبعة والعمالة الفكرية لهم فيما ذهبوا إليه، حيث وفر ذلك عليهم الغزو العسكري، وإن كان فقد سبقه الاستسلام الفكري والخواء الروحي، حيث دمرت حصون المسلمين من الداخل. نعود لنناقش الشيخ من كلامه هو أولاً، ثم نبين كيف عالج القرآن الكريم هذه القضايا. يقول الكلام في الإرهاصات تعبير غلط عن فكرة صحيحة، فإن ميلاد محمد كان حقًا إيذانًا بزوال الظلم ... وهذا كلام متهافت مغالط للواقع للأسف، فبحثنا هل حدثت إرهاصات عند مولده أو لا؟ ولم نقل هل كان مولده إيذانًا بزوال الظلم ... أم لا؟ لأن هذا رجم بالغيب ادعيته

وأنت المنكر لعلم الغيب للرسول فضلاً عن غيره. ثانيًا: من الذي أدرى الموجودين أيامها أن هذا المولود الذي ولد ولادة عادية سيزول الظلم على يديه، ومن كان يستطيع أن يدعي ذلك إلا ضاربو الودع الذين يمقتهم الشيخ، أي بعد أن زال الظلم بدينه ودعوته وجهاده في سنين طويلة تجيء لتقول كان مولده كذا، تراك لو كنت موجودًا حال مولده كنت ستقول بأن هذا الآتي إلى العالم سيدك معالم الظلم، على أحسن الأحوال ستجد من يردك تكذيبًا لك. ثم يواصل مسلسل الإنشاء بأن رسالته أخطر ثورة ... وهي ألفاظ غريبة على الحس الإسلامي نفسه بعد ذلك، وهو كلام في غير محله، يراد به كلامٌ في محله ولو قلنا بقولك لكان أصحاب الإرهاصات أقوم قيلاً، لأنهم لو قالوا هذا المولود الذي صاحبته هذه الإرهاصات سيكون له شأن، لكان لهم دليل على قولهم يوم لم يكن لقولك شبهة دليل. وتستحكم عقدة الخواجة بقوله محمد غني عن هذا كله، فإن نصيبه الضخم من الواقع المشرف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها. إن النصيب الضخم له من الواقع المشرف هنا أشبه بكلام "وات" عندما أراد أن ينفي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أرسل لكسرى وقيصر للدخول في الإسلام فيقول: (إن مثل هذا الحكيم والسياسي الداهية لا يمكن أن يدعو قيصر الروم والإمبراطور الفارسي للدخول في الإسلام) (¬1). وهو يحاول بذلك هدم فكرة عالمية الدعوة. هذه المقولة تُشعر أيضًا بعدم دخول النبوة واصطفائها في حسابه وإن البشر العاديين يمكن أن يكون لهم نصيب ضخم ... إذاً ما الفارق؟! ¬

(¬1) انظر عبد الله النعيم "الاستشراق في السيرة" (45).

ثم نعود فنسأل متى عرفت هذا النصيب الضخم ومن الذي أدراك به، وبحثنا هل حدث ذلك عند ميلاده أم لا؟ إن الذين نقلوا لك هذا النصيب الضخم هم في مجملهم من نقلوا هذه الإرهاصات فلماذا التحكم؟ وما التحكم إلا بالهوى المغلف بالعقل المدعوم بعقدة الخواجة. ونعود إلى القرآن الكريم لنبين أن الإرهاصات العظيمة مع مولد عظماء الدنيا والآخرة هي إرادة الله تعالى المتبعة، وأن ذلك واقع لا خلاف عليه، وما يمكن ليقع ذلك في خلقه سبحانه عبثًا لا حكمة فيه أو لا معنى له، وإن ذلك الواقع الذي ذكره القرآن الكريم مع بعضهم لا شك وقع مع سيدهم وسيد البشر سيدنا محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونذكر اثنين من رسل الله وقع في ميلادهم شيء من عظيم الإرهاص، عيسى وموسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ندلل بهما على ذلك. ونبدأ بعيسى - عليه السلام - لقرب عهده من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكثرة المنتسبين إليه اليوم ولنرد من خلاله على "وات" حيث يدعي هنا التوحيد، حتى إذا جاء لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انقلب التوحيد إلى مادية وعلمانية، وهي إحدى أسس "وات" (¬1) وغيره في التعامل مع السيرة، ونحن نغفل من بحثنا من اتسموا بالوقاحة والتدني الخلقي. أوائل الآيات التي نشير إليها هي في سورة مريم لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي ¬

(¬1) وهي تعامل "وات" المادي والعلماني مع السيرة، بعد أن أشرنا إلى الهدم والبناء وإلى التشكيك.

إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)} [مريم: 16 - 34]. ونحن فقط نقرأ النص نتلمس فيه مواضع الإرهاص، مع المقارنة عند الضرورة ببقية النصوص، إذ ليس المقصود تفسير هذه الآيات إلا ما يتعلق بالسيرة ولولا إقرار هذا الأساس الثابت في فهم سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن لهذه القصة بنا تعلق. إن أول ما يصادفنا في الآيات الكريمات هو تمثل الملك - روح القدس - المعبر عنه بروحنا (¬1) بشرًا وفيها أن الله جل وعلا يمكن أن يرسل لامرأة فضلاً عن رجل يوحي إليه بملك، وأن يكون الملك هو جبريل ويأتي في صورة الإنسان السوي، يخاطب فيها الإنس جهارًا بما شاء من أمر الله، أو أن يوقع بهم مراد الله تعالى، وفي حق مريم يقول: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)}، أفلا يُعد مجيء جبريل على هذا النحو إرهاصًا يبشر بعيسى وإيذانًا بحلوله هذا العالم، حيث يؤكده أنه جاء ليهبها الغلام الزكي - عليه السلام -، فهو توطئة لمجيء السيد المسيح وقد هالها عليها السلام وكبر عليها أن تلد لغير زوج وهي من هي شرفًا وطهرًا وقنوتًا لله تعالى، وكان رد جبريل - عليه السلام - الذي يجب أن يصفع به في وجه العلمانيين والماديين والعقلانيين، (كذلك قال ربك هو علي هين)، فمثل هذه الإرهاصات وغيرها يعد بعيدًا في نظرهم العقلي القاصر سهل على أمر الله، لا راد لقوله ولا معقب لحكمه، إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون. ¬

(¬1) التحريم: 12.

وأن ما يقع فهو الدليل بين يدي الآية العظيمة التي ستملأ الدنيا بعد ذلك: {وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا}، بين يدي النبأ العظيم الذي له حكمته، والفعل المبين الذي يدل به الرب على رسالته ونبوته - عليه السلام -، وهو أمر قد قضى رحمة بالحكمة لا عبث فيه ولا لهو به. ثم بعد ذلك يظهر من يرفع عقيدته ليقول لقد كانت ولادة محمد ولادة معتادة، ليس فيها وفيها، لا تفرق عن أي ولادة، وكأنه لو قال صاحبت ولادته مجيء جبريل، وحدث وحدث سيكفر بالله، ويمرغ بكرامة العقل التراب، ماذا تساوي تلك الإرهاصات في قوة الله وقدرته وعلمه وحكمته حتى يجادل فيها، وتنفي معانيها، إنها كانت لحكمة كما أراد الله الأولى معرفتها، بدلاً من التشكك في قوته التي لا تقهر، وعلمه الذي أحاط بكل شيء، وما هي إلا عقدة الخواجة والتبعية. ونذكر هنا ما لا يصح بعد ذلك أن يغيب عن الذهن، بل يثبت في ذكر الباحث وغيره ويكون منه دائمًا على ذكر، ما وقع في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مثل ذلك، وأنه ليس خارجًا عن علم الله تعالى وقوته وحكمته وقدرته، وتمام رحمته، ومثاله الذي سيصادفنا توًا هو شق صدره الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ديار بني بكر عندما كان عند مرضعته حليمة السعدية وغير ذلك من المرات التي حدث له فيها ذلك. ترى بعدما حدث مع مريم - عليها السلام - يمكن أن ننكر شيئًا من ذلك؟! بل أكثر منه وأعظم، وإن حدوث ذلك من المعتاد في أفعال الله تعالى، وأن الصحيح مقابلته بالتسليم، وفهم غايته وسمو وجاهته ووجهته، لا أن يتبع فيه الباحث وغيره المبشرين الذين كل همهم نفي الوحي وإلغاء النبوة ووصم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما لا يعقل رفعًا لثقة المسلمين عن دينهم، ورمي الصادق الأمين بالكذب.

فكانت القاعدة أن ما ثبت صحيحًا عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجب تلقيه بالقبول والإذعان، فكل ما حدث له إذاً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن لقي الله تعالى لا يخرج عن أمر الله وقدرته وحكمته ورحمته إلى آخر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، مما يعد التشكيك فيه أو الرد له، إنما هو رد لما هو آت عن الله جل وعلا وتشكيك فيه. نعم تحتاج أمور الشريعة إلى مهرة في الكتاب والسنة ومقاصد الشرع ليكون زمام العلم والفهم والتوجيه والإرشاد بأيديهم بعيدًا عن عبث العابثين والأدعياء الجاهلين ليظهروا نور الشريعة المشرق وبعدها عن أي اضطراب وتناقض. نستكمل نظر بقية آيات قصة عيسى - عليه السلام - إجلاء لبعض العبر التالية لما ذكرنا، بقول الحق تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي ...}. إن مناداة هذا المولود لأمه لحظة ولادته بما يثبت قلبها، ويذهب حزنها، ويقويها على ما ستواجه من قومها في شرفها وسمعتها، أليس هذا إرهاصًا بأن لهذا المولود شأنًا، يواجه به الدنيا، مستندًا لخالقه، هذا المولود الذي ليس لها فيه أي اختيار إلا البكاء لمنع مجيئه، وإلا كونها المبتلاة بحمله ليس إلا، والتي تتمنى من كل قلبها حال المخاض أن تموت ولا تراه. أي عقل يدعي عدم إرهاص ذلك الأمر، وأنه إيذان بحدث جليل يملأ الدنيا ويكون علامة من علاماتها البارزة والشاغلة إلى يوم القيامة، إن الآيات تصحبنا مع المولود ليواصل كلامه لأمه بأنه سيتصدى هو لما يعترضها من متوقع المحن، وسيتكفل بالتوضيح والشرح والرد، إظهارًا لمن هو، ليس دفاعًا عن أمه، كأنها لا تحتاج إلى دفع ومناقشة، وإنما تصوم هي عن الكلام لينطق هو، تعرض هي عن من يقابلها من القوم ويتصدر هو، {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} ... {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} ... {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ} ... {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا

كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)}. {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} ... {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} ... ، ونلتقط كلامه من آخره، إذ لم يبرئ أمه من شيء، بل كان قوله وبرًا بوالدتي يحمل أعظم معاني التبرئة فإذا به لم يشر إلى براءة أمه مع التقديس لها، والرحمة بها، إن هذا المعجز في كل شيء بار بوالدته، وهذا دليل براءتها، إذا لو كانت متهمة لنطق بإتهامها كما نطق في غيره، لأن الملهم والحامل والقاضي له بذلك هو الله ليس من نفسه أن يتكلم بما شاء، بل بما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجريه على لسانه، لأن الله ما يقول إلا الحق وما يسكت عن باطل فضلاً عن أن يقره، أو يقف بجواره، إن ما أجري على لسانه وبدنه وحاله وقلبه هو فعل الله ومراده إلى أن رفعه إليه، إنه ما كان يتكلم أو يفعل إلا ما يمليه عليه ربه، ما ينطق عن هوى، ودليله أنه ما كان ليتكلم حين تكلم في المهد إلا بكلام الله، فلما صار نبيًا هل كان يتكلم أو يمر أو يجري على قلبه ولسانه غير مراد الله؟ لا يمكن، وما كان. تلك حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من باب الأولى إنه جاء ليبلغ كلمة الله تعالى، فما كان ليقول غيرها، وما كانت عناية الله إلا أن ترعاه، صبيًا وليدًا تدل عليه، وتشير إليه، وشابًا كهلاً، ورسولاً نبيًا إلى أن يلقى ربه، ليس له من نفسه، ولا من كلامه وفعله حظ أو نصيب؛ إذ كل ذلك توجيه الله سبحانه له، لذا يقول: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50]. فمفتاح شخصية الرسول إذاً أنه يقول عن الله ويجاهد لتتحقق كلمة الله، ويأخذ أهبته، ويستعد بكل سبب من الأسباب المشروعة للتبليغ عن الله لا يبالي بشيء ولا يروعه شيء ولا يوقفه شيء، لأن مصدر كل ذلك هو الله جل وعلا، فلا يمكن أن يزيد على قوله أو ينقص أو يخفي، أو أن يعصي في شيء، نحن نؤمن به إذاً لأنه مصطفى من الله تعالى الاصطفاء الذي يرهص له، ويلازمه، ولأن كلمة الله هي المقولة على لسانه.

وذلك ما قاله عيسى - عليه السلام - في المهد. إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا. ومن ثم صح أن إتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إتباع لله، وبيعته بيعة لله، وطاعته طاعة لله، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} [الفتح: 10]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، إن مفتاح شخصيته هو النبوة التي ثبتت له بلا مرية ولا شك وكل شيء يقع منه يفسر بحساب النبوة، لا بتدابير البشر وحدها، وإلا ما الفارق بين من يوحى إليه وهو مرتبط بأمر السماء، وبين سائر البشر: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]. فإذا صح عندنا بالواقع والعقل وغيرهما أنه نبي تغيرت الحسابات، وتبدلت الموازين، وصرنا إلى حال جديد، وسرنا في طريق آخر له قيمه وأخلاقه واعتقاداته ومعاملاته وبدأنا في دفع ضريبة هذا التمسك بذلك الطريق. إذا نظرنا إلى كلمات أخرى تفسر النبوة في قصة عيسى - عليه السلام - رأيناه يقول: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} وهو يجلي هذه البركة التي سمعنا عنها في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويصدقها، إن قصة رضاعه في ديار بني بكر وما حدث بمجيئه من خصب بعد الجدب، وري بعد الظمأ، وشبع بعد الجوع، وطيب عيش بعد اللأواء والجهد حتى كان البدو يقولون لأولادهم ارعوا في المكان الذي ترعى فيه حليمة، من عظم ما رأوا من البركة، ليدلنا على كلمات الله التي نطق بها عيسى - عليه السلام -، وتحققت في موصولي الأرض بالسماء من أنبياء الله تعالى وخاتمهم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إن حلول بركته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي ينفي لها "وات" وأمثاله القصة من أولها أو يشكك فيها ليس إلا لنفي النبوة، ومع ذلك فقد صرحت بها كلمات الله التي فاه بها عيسى - عليه السلام - عن الله جل وعلا في المهد بما لا يمكن تكذيبه أو دفعه أو تأويله.

ومن ثم إذا صادفنا شيء صحيح من ذلك في سيرته - وهو كثير - فدليل صدقه موجود في قصة عيسى - عليه السلام -، وأصل وجوده عمن بيده ملكوت كل شيء سبحانه، ولا يكبر عليه شيء. وتواصل الآيات حديثها بهذا القول الجامع: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} [مريم: 33] إنَّ أهم اللحظات التي تمر على المرء هي لحظة ولادته، ولحظة موته، ولحظة بعثه فإن وفق ونجا ختمت له بخاتمة السعادة في الآخرة، وكان في دنياه على رعاية الله وحفظه وعنايته، فما أحرى الأنبياء أن يحوزوا في ذلك الدرجة الأعلى، ومن ثم كان قوله: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} إلى آخره تنويه بكرامته عند الله، أجراه الله على لسانه ليعلموا أنه محل العناية من ربه وجيء بالسلام معرفًا باللام على الجنس مبالغة في تعلق السلام به، حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه. وإن كان يجوز جعل اللام للعهد أي سلام إليه، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته، ومن هذا القبيل السلام على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]. ومؤذن كلامه بالتعريض بما سيقوله اليهود طعنًا فيه وشتمًا له في أحواله الثلاثة إذ قالوا: ولد من زنا، وقالوا: مات مصلوبًا، وقالوا: يحشر مع الملاحدة والكفرة لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة. (¬1) نكتفي من قصة عيسى - عليه السلام - بهذا المقدار الذي يبين قضية النبوة والاصطفاء، وعناية الله تعالى ورعايته لمن يجتبيهم، وإظهار الإرهاصات بين يدي مجيئهم إلى الدنيا، وتجلى كلام ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، (101/ 16)، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

الله تعالى على لسانهم وأفعالهم، وإلى آخر ما ذكرنا لنعود إلى سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نوضح جوانبها على المنهج الذي أخذنا به أنفسنا في تلك الرسالة.

المبحث الثالث رضاعته صلى الله عليه وسلم

المبحث الثالث رضاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت عادة الحضر من العرب أن يسترضعوا أبناءهم في البدو؛ رغبة في تقوية أبدانهم وبعدًا بهم عن أمراض المدن، وتعويدًا لهم على الاعتماد على النفس منذ الصغر، وتقويماً وحفظًا لألسنتهم من مفسدات اللغة (¬1). صح أن ثويبة - مولاة أبي لهب - أرضعته (¬2)، وثبت أن عمه حمزة بن عبد المطلب أخوه من الرضاعة (¬3). خبر إرضاع حليمة السعدية له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشتهر عند أهل المغازي والسير أن ممن أرضعنه حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وكانت أخذته عند ولادته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بادية قومها في ديار بني سعد فأقام معها نحو أربع سنين ثم ردته إلى أمه. ولقد تفرد ابن إسحاق برواية خبر الإرضاع الطويل، وذكر فيه تلك الأحداث التي وقعت لحليمة، منذ أن أخذت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإرضاعه، وما حدث حينها من بركات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ¬

(¬1) انظر مهدي رزق الله، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، (115 - 116). (¬2) صحيح البخاري، فتح الباري، (140/ 9). (¬3) صحيح البخاري، فتح الباري، (140/ 9)، وصحيح مسلم بشرح النووي، (23، 24/ 10).

التي حلت عليها في تلك السنة الشهباء، وما عاشوا فيه من بركاته إلى أن ردته إلى أمه. وبركاته الحالة عليهم بغض النظر عن صحة هذه الرواية بالذات ليست مما ينكره الواقع والعقل والشرع، فقد ذكرنا في قصة عيسى - عليه السلام - الشرع الذي لم ينكره الواقع، ولم يدفعه العقل في قوله عليه الصلاة والسلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] فتلك بركات السيد الجليل عيسى - عليه السلام - فما بالك ببركات النبي الخاتم الذي بشر به عيسى نفسه عليهم صلوات الله وسلامه، وعليه يمكن أن نقول بظهور تلك البركات، فخلال حياته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رعاية حليمة السعدية وقعت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إرهاصات دلت على تلك البركات، وعلى عناية الله به، وحفظه إياه، حيث درَّ ثديها باللبن بمجرد حلول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، فارتوى هو وابنها الذي كانت تحمله بعد أن كان يبكي من الجوع لجفاف ثدي أمه، ولا ينام هو وأهله، وامتلأ ضرع راحلتها باللبن بعد أن كان يابسًا، فشبعت هي وزوجها، وسبقت راحلتها الركب بعد أن كانت عجفاء تسير في مؤخرة الركبان، وحيثما حلَّت أغنام حليمة تجد مرعى خصبًا، ولا تجد أغنام غيرها شيئًا، وكان ينمو نموًا سريعًا لا يشبه نمو الغلمان، وكل ذلك كما أشرنا شيءٌ يسير في قدرة الله، ووقوعه لأصفيائه من البشر. نعود إلى حديث حليمة، فقد ذكر المحدثون المحققون أن الحديث ضعيف السند مع أنه خبر مستفيض في كتب السيرة، قديمها وحديثها. (¬1) وأقدم من أورده من كتَّاب السيرة ابن إسحاق (ت151 هـ) (¬2)، وقال فيه الإمام الذهبي: "هذا حديث جيد الإسناد" (¬3)، وقال الحافظ بن كثير: "وهذا الحديث قد روي من ¬

(¬1) أكرم العمري، "صحيح السيرة"، (102/ 1) وغيرها. (¬2) ابن هشام "السيرة" (149 - 153/ 1)، وابن حبان "موارد الظمآن" (512، 513)، وأبو نعيم "دلائل النبوة" (193 - 196/ 1) وغيرها. (¬3) السيرة النبوية (8).

طرف آخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي" (¬1)، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر شهرته كذلك (¬2). وهذا مما احتج به (محمد بن رزق بن طرهوني) (¬3)، مع ما اختطه لنفسه بالاجتهاد في تصحيح وتضعيف روايات السيرة، وبه يتأيد قول من ذهب إلى صحة إرهاصات مولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي تُنبأ عما سيكون لهذا المولود العظيم من شأن يمت إلى أسباب السماء بأعظم صلة، ممن ردوا على المستشرقين ومن تبعهم من المسلمين، وبذا يكون لهؤلاء المؤيدين لهذه الإرهاصات سلف من الحفَّاظ والمحققين يدعم موقفهم، ويقوي استدلالهم، ومنهم من هو من المراجع والمصادر للسيرة كتابة ونقدًا. ثم نورد هنا سؤالاً هو: ما المفسدة في إثبات هذه الوقائع التاريخية على المنهج العلمي المزعوم من المستشرقين؟ خاصة وهي ثابتة، مما يؤكد عدم التزامهم ما وضعوا من منهج بالذات فيما يتعلق بسيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والإسلام، لا من قريب ولا من بعيد من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يوجد ما يعتمد عليه هؤلاء المستشرقون سواها، إذ ليس لهم مصادر عاشرت الأحداث، وعايشتها، ولا لهم كُتَّاب كتبوا في السيرة في إبانها حتى يحمل قولهم محمل العلم والجد، بل كل ما هنالك أن ناسًا جاءوا بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، وبكل وقاحة قالوا هذا حدث وهذا لم يحدث، وهذا لا يمكن أن يحدث تاريخيًا (¬4)، وإن صح، قالوا: وهذا إن صحت الرواية فله معنى آخر، لدوافع ونوازع اخترعوها ملفقة لا علاقة لها بالبحث العلمي، ولا تمت إلى الواقع بأدنى صلة، بل تخالفه وتصادمه، ثم قالوا هذا هو المنهج التاريخي. ¬

(¬1) ابن كثير "السيرة النبوية" (228/ 1). (¬2) ابن عبد البر "الاستيعاب مع الإصابة" (261/ 12)، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (102). (¬3) محمد بن رزق بن طرهوني، صحيح السيرة النبوية المسماة بـ "السيرة الذهبية" (332/ 1)، الطبعة الأولى 1410 هـ. (¬4) وهذا ما ذكره "وات" سواء في رؤية جبريل، أو قضية الوحي أوغيرها.

وبناءً على منهجهم في فهم دوافع الكاتب ونوازعه، نقول: فما هي نوازع "وات" في ذلك؟ والمطالع لذلك يرى أظهر دافعين لذلك هما نزع صفة النبوة الإلهية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والثاني أن ما في الإسلام من مبادئ لها قيمة فهي مقتبسة من اليهودية والنصرانية، وكل ذلك لدافع أكبر وأعظم، وهو كيفية هزيمة المسلمين فكريًا إذ لم يستطيعوا هزيمتهم عسكريًا، مع تحصين بني جلدتهم ضد الإسلام، وتشويه صورته من أوله إلى آخره في أعينهم اعتقادًا وسلوكًا، وأنه تلفيقات من اليهودية والنصرانية، مع محاربة المسلمين في عقيدتهم وعبادتهم بمحو الصورة الصحيحة للإسلام ونبيه في عقولهم وواقعهم، وما كانوا كذلك إلا لكونهم رأس حربة التبشير والاستعمار، حيث كانت كل دوائر الاستشراق تعمل بتدبير وترتيب الاستعمار والتبشير في دوائر مخابراتهم، وتراجمهم حافلة طافحة بتأكيد ذلك، وبالتالي كانت كلها تصب في تيار محاربة الإسلام وإخراج أهله منه؛ ليتم لهم احتلال أرضه ونهب ثرواته بدون مقاومة عسكرية، وما استتب لهم ذلك إلا بقيام أركانهم التي شيدوها بمن تسموا بأسماء إسلامية ليقوموا بهذا الدور خير قيام نيابة عن هؤلاء المستشرقين. ونحن إذ نذكر ذلك هنا إنما ذلك لتأكيد المعنى الذي لا ينبغي أن يغيب أبدًا عن ذهن المسلمين في التعامل مع ما يأتي من كتابة في البحث، ومع جميع ما كتب ويكتب من كلام المستشرقين، وصنائعهم في ديار المسلمين، ومن قلدهم من حسني النية؛ يحسبون أن في اتباعهم التطور والتقدم، إن المتفحص المنصف للواقع يرى إننا ما تأخرت حضارتنا وانهارت قيمنا إلا باتباع هؤلاء المجرمين، والعاقل يقول متى أراد عدوك المتربص بك خيرًا؟! والواقع خير شاهد على هذا التدهور. نعود إلى السؤال الذي طرحناه، وهو ما الضرر من إثبات هذه الإرهاصات على المنهج المزعوم، والإجابة إن إثباتها لا مفر من أن يثبت به نبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتنهدم قضيتهم كلها

من أولها، وحينئذ إما أن يسلم "وات" وغيره ويدعو قومه إلى الإسلام (¬1)، وإما أن يلتزم الصمت، ولكنه التزم الطريق الثالث، طريق كفار مكة في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وما كان ليختار هذا الطريق ظلمًا إلا من وراء دافع أقوى، وهو محاربة الإسلام، الذي ذكرناه آنفًا. وقد يقال إن بحثه العلمي قد أداه إلى ذلك، والرد أن يقال كما أشرنا إلى بعضه إنه ليس بحثًا ولا شيئًا، إنه قد جهز وأعد نتيجة المسمى بحثًا أعدها سلفًا، ثم سعى بكل طريق ليثبتها، إن مراده من البحث أن يقدم للمسيحيين في الغرب المادة التاريخية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تكوين الرأي اللاهوتي إذ إن موقفه ماض به بقوله: "فإن على المسيحيين أن يتخذوا من محمد - عليه الصلاة والسلام - موقفًا لابد أن يكون قائمًا على أسس دينية لاهوتية" (¬2). هذا هو "وات" هل تراه قدم لبني وطنه ودينه ما جعلهم يعظمون محمدًا ويؤمنون به أو ينصفونه فقط؟! إذن فهل يعتبر أحد أن ذلك الضلال الذي شربه بنو دينه بحثًا؟ وهل أسلم أحد؟ أو نظر نظرة إنصاف بعد أن قرأ كلام "وات" عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أم ازداد غلوًا وثبتت أقدامه على الضلال، وعلى النظرة السيئة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي لا تمت إلى الله بصلة. ¬

(¬1) كبعض الأوربيين من أمثال رينيه. (¬2) "وات"، محمد في مكة، (40)، ترجمة د. عبد الرحمن الشيخ وحسين عيسى، الهيئة المصرية للكتاب.

المبحث الرابع منهج «وات» وغيره في تعامله مع السيرة

المبحث الرابع منهج «وات» وغيره في تعامله مع السيرة تكملة للكلام مع بعض الإطالة والتوضيح، يحسن أن نذكر منهج "وات" وغيره في تعامله مع السيرة لأنها كانت جل اهتمامه؛ حتى تتكامل أركان هذا الجزء من البحث (¬1)، وحتى إذا جاء لها موضع من البحث نذكر بها، لا نكررها، ونسوقها على ترتيب آخر غير ما ذكره الكاتبون في ذلك مركزين على ما ذهب إليه "وات". المنهج الأول: هو منهج التأثر والتأثير: والذي ذهب بمقتضاه من يدعي العلمية والإنصاف إلى تفريغ سيرة الرسول والإسلام كله من الوحي الإلهي، وذلك بإحالته إلى عناصر خارجية كاليهودية والمسيحية بل والفارسية والبوذية، فقد أرجع "وات" الإسلام إلى أفكار (ورقة بن نوفل)، حيث بلا شك تحدث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع ورقة المسيحي، إلى آخر هذا الهذيان الذي يغني فساده عن إفساده، حيث يدعي وقوف (ورقة وخديجة) خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشد أزره مما اعتراه من الخوف، ثم يزعم أن لقاءات متتابعة قد تمت بينه وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبين تأثره (بورقة) ونقله لما كان يدرسه من ¬

(¬1) ذكر ذلك عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة، (36)، وقد نقل مثله عن د. عبد العظيم الديب، المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي، (99 - 100)، وتبعهم د. طارق عبد الحميد، شبهات المنصِّرين، رسالة دكتوراه، (64)، مركز التنوير الإسلامي، ذي الحجة 1426، يناير 2006.

الإنجيل والكتاب الأول لمحمد ... - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1)، وهذه النظرية تحتاج أن يكون قد نزل قرآن كما يزعم قبل سورة {اقْرَأْ} فهو بهذا الخلط، والتجني على التاريخ، وحشود سوء القصد، وسوء الفهم وسلسلة الجنايات على الواقع وتغييره، يجهز خشبة مسرح الضلال للوصول إلى النهاية التعيسة التي رسمها أولاً ضاربًا عرض الحائط بالعقل وعقول القارئين وبالمنهج العلمي، فإذا كان محمد يا سيد "الوات" قد تعلم وقعد (لورقة) فما الذي حمله على الخوف والرجوع بعد ذلك لورقة - متخوفًا أن يكون قد أصيب بأذى - إذا كان قد علَّمه ذلك من قبل وشجعه، وكلمة الناموس التي ذكرها ورقة وكانت محل فلسفة من "وات" لا علاقة لها بالمنهج التاريخي، كيف لم تُذكر في الوحي ولو لمرة واحدة في سياق التأثر المزعوم؟ ومتى استكمل (ورقة) الطريق مع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمه وقد مات مباشرة بعد ذلك، ولم يدرك يومه لينصره نصرًا مؤزرًا، ترى "ورقة" كان سينصر محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليهودية والمسيحية، أم بالناموس الذي جاء "وات" ليعطيه معانى غريبة متأخرة من اللغة اليونانية، وهي لا خلاف بين الكفرة المستشرقين قبل المسلمين أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعرفها من قبل ولا من بعد. ثم إن ورقة قد مات مسلمًا (¬2)، وذلك في المصادر التي لا يملك "وات" سواها فإذا به يخترع تاريخًا لا أصل له، ويبني عليه استنباطات الإفك، ثم يأتي سؤال من الأسئلة التي لا حصر لها تحاصر "وات"، وهو لماذا لم يدع (ورقة) ذلك لنفسه؟ وهو الشيخ الكبير الذي له قيمة في قومه، ومتميز بما يعتقده الحق، ويكون لدعوته أثر في مكة، إن المصادر التي تحت أيدينا، وقد ازدادت آلاف المرات عن مصادر "وات" لم تذكر واحدًا فقط دعاه (ورقة) ¬

(¬1) Muhammad at Mecca p. 51 - 52 - الطبعة المترجمة (119 - 112) د. عبد الرحمن الشيخ وحسين عيسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2002. (¬2) أحمد، الفتح الربانى (2/ 104)، وحسن الساعاتى إسناده، ابن كثير عن أبى يعلى وحسنه في البداية (3/ 10)، والحاكم في المستدرك وصححة ووافقة الذهبى من حديث عائشة (2/ 409).

للنصرانية، وإن ما ذكره "وات" من تشابه بين بعض أحكام اليهودية والمسيحية، لم يقرها القرآن الكريم إلا بعد استقرار الشرع في المدينة المنورة فأنى لورقة وقد مات مبكرًا جدًا بعد البعثة أن يوحي بها لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو يعلمه إياها، إنه ضلال وخطل ومغالطة، وقل ما شئت من وصف في هذا كلام، نختصر هذا الكلام لنستأنف ما بعده (¬1). المنهج الثاني: المنهج العلماني أو التاريخي: وهو ما اتبعه المستشرقون ومدعو التوحيد منهم كـ "وات" في عدم إمكان وقوع الظواهر الدينية التي لا تخضع لقوانين الأجسام المادية المعروفة، إذ يقول: " إن العديد من القصص ذات الطابع الديني يكاد يكون من المتيقن أنها ليست حقيقية من وجهة نظر المؤرخ العلماني الواقعية" (¬2) من تلك القصص - كما يلفظ سوءًا - إرهاصات النبوة وشق الصدر، ورؤية جبريل، والوحي الإلهي، وكثير سنذكره في حينه مع الرد عليه إن شاء الله تعالى. المنهج الثالث: المنهج المادي (الاقتصادى): هو العامل الحاسم في الإيمان، أو لابد من اعتبار هذا العامل (¬3)، حيث يعزو "وات" ظهور الإسلام بأن ذلك كان ردًا على مرض العصر الذي سببه التطور الذي انتقل بالعرب من حياة بدوية إلى اقتصاد حضري (¬4)، وأن القبائل الممثلة في العقبة الأولى كانت مؤلفة من البروليتاريا (¬5)، وأن الطمع في الغنيمة جاء بالكثيرين إلى المدينة. ¬

(¬1) عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية، (38 - 39)، د. طارق عبد الحميد، شبهات المنصِّرين، (64 - 65). (¬2) عبد الله النعيم، الاستشراق، (39 - 40). (¬3) جعفر شيخ إدريس، منهج "مونتجمري وات" في دراسة نبوة محمد، (236)!. (¬4) "وات"، محمد في المدينة (398). (¬5) "وات"، محمد في المدينة (268).

كان هناك مرض إذن يشمل العرب، حيث تطوروا إلى اقتصاد حضري، يعني افتراض مرض، وهو مرض العصر أيامها، وأن البدو قد أصابهم التطور، والنظر الفاحص يضحك الثكلى من هذا الكلام، العرب أصابهم التطور إلى اقتصاد حضري قبل مجيء الإسلام فدخلوا في الإسلام، وأن التطور قد شمل هؤلاء البدو مع أنهم لا يزالون بدوًا إلى وقت "وات" هذا، إلا أن يكون قد أصابهم التدهور بعد دخولهم الإسلام فعادوا بدوًا كما كانوا، في أي المصادر ذكر هذا الوباء العصري قبل مجيء "وات" لقد اخترع على أسلوب وأمراض القرن العشرين هذه المسميات لواقع لم يره، بل قد ألفه تأليفًا، وإلا ما هذه البروليتاريا التي يسم بها أصحاب العقبة الأولى الذين آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونشروا الإسلام في المدينة، أين ما كان يطلب هؤلاء "البلاشفة" البروليتاريا (أقصد هداة الإسلام وحملة مشاعل الهداية)؟، إنهم على خلاف ما يذكر حملوا أنفسهم وأموالهم على أكفهم يبذلون كل شيء في سبيل هذا الدين، وهؤلاء الكثر الذين جاءوا المدينة طمعًا في الغنيمة، تركوا أولادهم وأزواجهم وأموالهم وأوطانهم، ومنهم من حمل ماله معه، خلفوا ذلك كله وراء ظهورهم في مجتمع العزوة فيه والبأس والمنعة لتلك العوامل، أين الطمع في ذهابهم إلى مجتمع لا يجدون فيه ما يأكلونه ليقيم أودهم، ولم يكونوا يعلمون على مذهبك العلماني أو غيره، أن هناك غزوة تسمى "بدرًا" سيحصلون فيها شيئًا من متاع الدنيا، حتى ولو علموا فقد كان مرادهم وتشوفهم إلى اليوم وغد وإلى يوم القيامة أن يحصلوا إحدى الحسنيين النصر لدين الله والتمكين له، أو الموت دونه، وقد علم القاصي والداني حبهم للشهادة والمسابقة إلى الموت مما أدهش معه المستشرقين بله العالمين. وإذا كان لنا أن نضرب مثلاً فهذا (مصعب بن عمير) (¬1) أنهد شباب مكة هاجر إلى المدينة تاركًا ذلك الغنى، وتلك الرفاهية، ومات شهيدًا في أحد لم يجدوا ما يكفنونه به، ¬

(¬1) الإستيعاب (1/ 463)، سير أعلام النبلاء (1/ 146).

وكثير كانوا كذلك، فأين هجرتهم فضلاً عن إسلامهم للعوامل الاقتصادية، أهذا هو المنهج يا "وات" وقد علمت وذكرت، والكاذب ينسى ما يقول، أن القرآن الكريم كان في بداية ما نزل يحث على النفقة، وعدم كنز المال إلى آخر ما سطرت شمالك، فكيف يعلم قوم بذلك ثم هم يسلمون ويهاجرون لخلافه، والإسلام يطلب منهم المسارعة إلى الخير، وكثرة البذل، وبيع النفس والمال لله تعالى، لقد قالوا بعد فتح خيبر سنة ست للهجرة قبل نهاية الدعوة لم نشبع من التمر حتى فتحت خيبر (¬1). وهذا المنهج في تفسير وقائع التاريخ - وهو هَمُّ المستشرقين - يفرغ الإسلام من جانبه الروحي، من الإيمان بالله، وتقديم ما عند الله من ثواب على تحصيل الدنيا الزائلة، والإيمان بالآخرة، والتصديق بالوحي، وبموعود الله لهم، إنها إذن من أخبث الأفكار ألا يكون وراء الدنيا دار للجزاء والحساب، وأنه ليس ثم إلا الدنيا واللهث وراء شهواتها، وإنكار كامل للوحي. أما المنهج التالي الذي استخدمه المستشرقون فهو .. المنهج الرابع: منهج البناء والهدم: وهو أن يمدح المستشرق الإسلام ونبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جانب من جوانبه إذا ما كان القارىء مسلماً أو يعرف الإسلام حتى يظن به الاقتناع والنزاهة والموضوعية في أحكامه، ولكنه سرعان ما يهدم ما بناه؛ حتى يعمي على القارئ ليستسلم لكتاباته، ويثق فيها وذلك واضح في كتابات "وات" الذي جعل كثيرًا يظنون به الإنصاف والموضوعية والعلمية، فمثلاً عندما أراد أن يهدم عالمية الدعوة، وأن يثلم ثلمة في الإسلام، مدح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليكون طريقًا لذلك حيث ¬

(¬1) البخاري (13/ 136).

لم يجد ما يرد به ردًا علميًا على إرسال الرسل إلى الملوك والحكام يدعوهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدعاية الإسلام فيقول: "لا يمكن قبول هذه القصة كما هي، لأن محمداً كان رجل دولة حكيماً، بعيد النظر، ولم يفقد عقله، بعد النجاح الذى حققه في صلح الحديبية، ودعوته هؤلاء الأمراء في هذا الوقت تُسىء إليه أكثر مما تفيده (¬1) "، فهو يصف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه الأوصاف، حتى يقول القائل ها هو ذا "وات" ونظرته إلى الإسلام والرسول فلماذا تهاجمونه، ولكن سرعان ما تتضح لهم الحقيقة لكلام المدح هذا، في نفس الوقت يحمل التكذيب لهذه الوقائع من الرسول، والتي لا مرية فيها، ولا شك في فعل النبي لها، وهكذا بطول كتبه وعرضها، ما رأينا كلامًا فيه مدح إلا وهو مقدمة الذم تتبعها حشود التضليل والتكذيب. ننتقل سريعًا لتكملة الحديث والبحث في بقية المنهج، فيصادفنا المنهج الخامس: منهج النفي والتشكيك والافتراض واعتماد الضعيف الشاذ: وقد أسرف المستشرقون في استخدام هذا المنهج بكل بجاحة، مع أنه علم وتاريخ، ولا علاقة لهم به، ولا يد لهم في صنعه، ولا قدرة لهم بأدوات بحثه وتمحيصه، لكن ما يجب أن يأخذوا به هو صحيح هذا التاريخ، ودراسته في بيئته، ووقته وزمانه، وأخلاقه وعاداته، فإذا بهم قد أتوا بتاريخ جديد قد افتروه من ضعيف شاذ وتعاملوا معه بعقلية مجافية ومخالفة لعقليته، في بيئة غير بيئته، في زمن بعد زمنه بقرون متطاولة، وما خالف ذلك نفوه ولو كان صحيحًا، فيأخذون من تاريخ الإسلام ما يوافقهم، ويردون تاريخًا لا يناسب قضيتهم وما يريدون أن يصلوا إليه، وإن حالت بينهم وقائع أخرى تشككوا فيها فكثر التشكك حتى صار مبدأ في تعاملهم مع الإسلام، فإن لم يجدوا ما يسعفهم افترضوا تاريخًا من عند ¬

(¬1) محمد في المدينة (520 - 521).

أنفسهم، وبنوا عليه آراءهم الفاسدة، ولمزوا وغمزوا وأنكروا ما هو صحيح واقع، انظر إلى "وات" في صفحة واحدة) (¬1) (" يصعب تصديق ذلك" و"إذا أمكن قبول هذه الرواية" و"مما يدعو إلى الشك" و"من الممكن أو يبدو" ومن العبارات أيضًا التي استخدمها "وات" "لو صدقنا الرواية) (¬2) (" و"الرواية موضوعة) (¬3) (" وبعد ذلك يصل إلى ما يريد من نتيجة حيث يقول "لا شيء يثبت أمام النقد والتخمين اللذين مررنا بهما (¬4) " و"ولا يمكن الاطمئنان إلى التفاصيل) (¬5) (" هذا "وات"، وهذا منهجه، إمام العلميين المستشرقين!!، فهذا في التشكيك فماذا بقي من شيء يبحث أو ينقد وأما اعتماد الضعيف فيكفينا اعتماده الآيات الإبليسية في قصة الغرانيق مع الشعور بعلمه أنه يعلم ذلك. المنهج السادس: المنهج الاسقاطي: وملخصه أن ينسب المرء في اللاشعور عيوبه ونقائصه وذنوبه أو مخاوفه إلى غيره، كالأشخاص والأشياء وسوء الطالع وغيرها، وهو صلة لا شعورية، لكنها عند المستشرقين على سبيل التعمد وسبق الإصرار والترصد، ولا يمكن عقلاً أو واقعًا أن تفصلهم عن شعورهم واعتقادهم وبيئتهم حال بحثهم، ولكن أن يتعمدوا ذلك فهو موضع المساءلة والاتهام الذي لم يخل منه أحد منهم، هذا ما يعتمده "وات" من مناهج في تعامله مع سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والإسلام ككل وسوف نبين إن شاء الله تعالى مواضع كثيرة تؤكد ذلك، وتبرهن عليه أكثر مما ذكرنا. ¬

(¬1) Muhammad at Medina p. 22. (¬2) Muhammad at Medina p. 20. (¬3) Muhammad at Medina p. 54. (¬4) Muhammad at Medina p99. (¬5) Muhammad at Medina p. 13.

نعود إلى المقصود الأصلي وهو سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .. ذكرنا ما قدمنا من مناهج المستشرقين ليكون توطئة للكلام على ما يأتي من تعاملهم مع السيرة، وإن كان استطرادًا إلا أنه لا بد منه طالما قرر في البحث الرد عليهم، خاصة وأن تلك المناهج لصيقة الصلة بما سيأتي مباشرة من سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كحادث شق الصدر، ورحلته إلى الشام وغير ذلك.

المبحث الخامس حادثه شق الصدر

المبحث الخامس حادثه شق الصدر ونبدأ بحادث شق الصدر تكملة للسياق الذي سرنا عليه فنبدأ بذكر ما وقع في بادية بني سعد حيث كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسترضعًا، وإن كنا قد ذكرنا في بحث الثناء عليه من قبل شرح قوله سبحانه {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} (لم أجد هذا الشرح) وخضنا فيه شيئًا ما يليق بجلال الحدث، مع جلالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ثم نقتصر هنا على السنة الشريفة الواردة في هذا المقام في تلك السني الأولى من عمره الشريف مع ما يحيط بها مما يجب ويلزم البحث فيه، ويتوافق مع منهجنا الجديد الذي أسسنا عليه بحثنا في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأشرنا إليه من قبل. (¬1) وقعت للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بادية بني سعد حادثة شق الصدر (¬2)، وسنذكرها بنصها هنا، وإن كان "وات" قد ذكر نص ابن إسحاق بأطول من ذلك لحاجة في نفسه سنشير إليها إن شاء الله تعالى أما نص ابن كثير فيقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا، ولم نأخذ معنا زادًا، فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال: نعم! فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم ¬

(¬1) عند تفسير سورة الشرح بالفصل الأول. (¬2) كما جاء صريحًا في رواية أبي نعيم عند ابن كثير، البداية والنهاية (292/ 2)، وقال عنه الإمام الذهبي في سيرته، (48) "وهو صحيح"، مهدي رزق الله، السيرة النبوية، (116 - 117).

استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفًا من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر عليَّ بعضهم، فقال لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني، وفرقت فرقًا شديدًا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت أعذك بالله، فرحلت بعيرًا لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا أمي، فقالت أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت فلم يرعها، وقالت: "إني رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام (¬1) ". وروى مسلم قصة الشق باختصار عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - بما نصه: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه جبريل - عليه السلام - وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عنه قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله بطست من ماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني مرضعته) فقالوا إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره» (¬2). وقد تكرر شق الصدر كما سنشير فيما بعد عند الكلام على قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} إن شاء الله تعالى. ونذكر قبل الخوض في بحث المسألة حكمة شق الصدر، فشق الصدر لا ريب إرهاص مبكر للنبوة؛ لأنه تطهير من حظ الشيطان، وتهيئة للعصمة وإعداد لها وللوحي من صغره؛ ¬

(¬1) ابن كثير، السيرة النبوية (1/ 229). (¬2) مسلم، الصحيح (147/ 1)، وابن كثير، البداية والنهاية، ()، والبيهقي، دلائل النبوة، (136/ 1).

فيعتصم من الشر وعبادة غير الله تعالى، والاستعداد للتلقي عن السماء مصدر الطهارة، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد، ومحبة الرب سبحانه، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك، فلم يرتكب إثمًا ولم يسجد لصنم، رغم شيوع ذلك في قومه، ومن ثم لم نجد أمرًا واحدًا عَيَّره به الكفرة بأنه كان يعمله مثلهم من قبل أن يقول ما قال، وقد كانت هذه التهيئة كما نطقت الأحاديث بوسائل مادية؛ ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به، وتصديقهم برسالته، واتخذت هذا الشكل المادي الحسي كذلك؛ ليكون الإعلان الإلهي بذلك بين أبصار الناس وأسماعهم، وقد أشارت القصة إلى تعهد الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مزالق الطبع الإنساني، ووساوس الشيطان، وهي الحصانة التي تبين القصة إضفاء الله لها على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬1) وذلك ليعلم المؤمنون على الأقل شيئًا عن قيمته وقدره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكيف هيئه سبحانه لدعوته ولسياسة البشر دينًا ودنيا لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا إنما ينفذ أمر الله وينتظر في الآخرة ثوابه - سبحانه وتعالى -. ونضيف إلى كلام السُنَّة الشريفة هذا ما ذكر علم شُرَّاح البخاري الإمام "ابن حجر" حيث يقول في تعليقه قولاً موجزًا يحمل ردًا علميًا عميقًا: "إن جميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيءٌ من ذلك" (¬2) ومعنى كلامه: أن قدرة الله تعالى صالحة لئن يحدث بها ذلك، والموحدون قبل غيرهم يعلمون أن كونًا هو خالقه، لا يستحيل عليه فيه شيء، ومن ثم فهذه الأمور لا تقع تحت ¬

(¬1) انظر البوطي، فقه السيرة، صـ52، ومهدي رزق الله، السيرة النبوية، (118 - 119)، وأكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة، (104/ 1). (¬2) ابن حجر، فتح الباري (3887).

الاستحالة، فلا يتعرض أحد لصرفها عن حقيقتها بظاهر لفظها، وكأن أتباع المدرسة العقلية المدعاة من المسلمين لا يفقهون أو يعلمون ما وقعوا فيه من إنكار القدرة لله تعالى برد الروايات، أو تأويلها تأويلاً ممجوجًا، والخنوع لقدواتهم الجهلة من المستشرقين، فيما يخالف الشرع الإسلامي، بل ويحاربه، ويكذبون أو يردون كلام العلماء المسلمين الأثبات، فانظر إلى ما أداهم إليه هذا الفكر المنحرف إما بقصد، أو بغير قصد.

المبحث السادس ألم نشرح لك صدرك .. التعليق على «وات»

المبحث السادس ألم نشرح لك صدرك .. التعليق على «وات» وإذا كانت سورة الضحى من أوائل ما نزل في سياق ثناء الله تعالى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي سياق ما ذكرنا من معان يحملها هذا الثناء، فقد نزل الوحي بعد سورة الضحى بسورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} تالية لها مباشرة في التنزيل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث عدت الثانية عشر في (ترتيب السيوطي) (¬1) بذكر الفاتحة، وهي تحمل أيضًا - علاوة على ما سنذكره في السيرة - تحمل ثناء بالغًا من الله تعالى على رسوله يدل على صحة الرسالة وصدق النبوة مع المعاني المهمة التي تضبط الدعوة، وتشرح الصدر، وتثبت الأقدام في تلك المرحلة الصعبة في مكة المكرمة. وثناء الله تعالى عليه هو ما يهمنا ذكره الآن؛ لأنه مقامه، ولربطه بسورة الضحى إذ إن مضمون ألم نشرح شبيه بأنه حجة على مضمون سورة الضحى، تثبيتًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتذكيره سالف عنايته سبحانه به، وإنارة سبيل الحق، وترفيع الدرجة؛ ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته، ما كان ليقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض علمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمًا لا شية فيه ولا ريب، أظهر كذلك بهذا التقرير عناية الله تعالى بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولطفه به، وإزالة الغم والحرج عنه، وتيسير ما عسر عليه، وتشريف قدره لينفس عنه، وكل ذلك يحمل بين طياته حجة لا تدفع أو تدفع، وبرهانًا لا يخبو على أن القرآن من الله جل وعلا، وأنه رسوله الصادق الأمين. ¬

(¬1) محمد عزة دروزة، "سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (153/ 1) طبعة ثانية 1384 هـ - 1965 م عيسى الحلبي وشركاه.

ونشرع في المقصود من السورة مما يتعلق بثناء الله تعالى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تحليلاً وتفسيرًا. إن أول ما يصادفنا لنلقي عليه ضوء التحليل هو قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}. - فالاستفهام تقريري على النفي، والمقصود التقرير على إثبات المنفي وهو شرح الصدر، ثم إن ثبوت شرح الصدر بالاستفهام للإيذان بأن ثبوته من الظهور، بحيث لا يقدر أحد على أن يجيب عنه بغير بلى، فخطاب الله تعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه تذكير إذن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمر يعرفه حق المعرفة، يحمل منة عظمى من الله جل وعلا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسنعود إلى هذا الأمر بعد قليل إن شاء الله تعالى. - ولكن لماذا يقرره ربه سبحانه بأنه قد شرح صدره؟ المتبادر من الفهم أن يقال لِمَ يضيق صدره؟ ألم نشرحه؟ وكأنه قد وقع له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أسباب ضيق الصدر ما جعل المولى سبحانه يذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه المنة، وتلك الفضيلة التي وسمه بها من قبل، لتحمله على سعة الصدر، والتحمل وكظم الغيظ، ولا بد أن ذلك الضيق حصل له من شدة أذى قوم يريد صلاحهم، وإنقاذهم من النار، ورفع شأنهم بين الأمم في الأولى والآخرة فقابلوه بذلك الإيذاء الشديد مما سطرته صادقة كتب السيرة والتواريخ، إذاً نحن أمام أمر الله المستفاد من هذه الجملة، وهو طالما قد شرح لك صدرك، فدم على دعوتك العظيمة نشيطًا واسع الصدر، غير ضائق ولا عابئ بأذاهم، غير ذي أسف ولا كمد (¬1)، وقد نزل عليه مثل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد هذه الآيات كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)} [الحجر: 97، 98]. - نلاحظ في الآية الكريمة - كما ذكرنا - أن شرح الصدر لا يمكن إنكاره، ولا يُرَدُّ على الاستفهام إلا ببلى، فهل هذا الجواب من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده، أو من كل من يسمع ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، "التحرير والتنوير"، (408/ 30)، وكذلك أبا السعود، "إرشاد العقل السليم"، (881/ 5)، الألوسي، "روح المعاني" (297/ 30).

ساعتئذ هذا الاستفهام! لا يمكن الجواب في حق الرسول صلوات الله عليه إلا بنعم، لا خلاف فيها على أي معنى كان هذا الشرح، وإنما الأخذ والرد على الحاضرين من قريش وأهل مكة المعاندين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والذين ذكَّر الله تعالى نبيه بقرآن يتلو عليهم فيه هذا الاستفهام الإنكاري، وفي شيء يتعلق بهم؛ وهو شدة إيذائهم له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل علموا هذا الشرح ومعناه هل وهم مسلمون به؟ هذا يجرنا إلى ما وعدنا به آنفا من تبيين معنى شرح الصدر الذي امتن الله به سبحانه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لنستطيع أن نجيب على هذا السؤال فأقول: ذكر العلماء أن الصدر المقصود به الإحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك حيث هو محل أحوال النفس ومخزن سرائرها من العلوم والإدراكات والملكات والإرادات وغيرها، فعبر بشرحه عن توسيع دائرة تصرفاتها، وذلك بأمرين بتأييدها بالقوة القدسية، والثاني: تحليتها بالكمالات الأنسية. (¬1) وكلا الأمرين مشاهد في أحوال البشر، فكان شرح الصدر كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية؛ لأنه لما قرره سبحانه على شرح صدره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكأنه أعطاه ما تطلع إليه نفسه من كل ما يشرح الصدر، فقيل له ألم نعطك ذلك؟ وإن مما تهفو إليه نفسه في مثل هذا الحال هو الكمالات النفسية العلية، وإعلامه برضى الله تعالى عنه، وبشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر والرفعة (¬2). هذا هو المعنى الأول لشرح الصدر، وقد فسره به ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال شرح قلبه بالإسلام، وعن الحسن، شرح صدره أن مُلِئَ علمًا وحكمًا، وقال سهل بن عبد الله التستري: شرح صدره بنور الرسالة، وعلى هذا المعنى أو هذا الوجه حمل شرح الصدر ¬

(¬1) انظر أبا السعود، "إرشاد العقل السليم" (881/ 5)، روح المعاني، (298/ 30). (¬2) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (408/ 30).

كثير من المفسرين، ونسبه ابن عطية للجمهور. الشرح الثاني: وهو جواز أن يجعل الشرح شرحًا بدنيًا، إذ لما كان الامتنان عظيمًا من الله تعالى على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا مانع أن يشمل الشرح المعنوي والمادي معًا ليكتمل له الفضل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي قرره الله سبحانه عليه، والشرح البدني ابتداء ليس فيه غرابة هذه الأيام حتى يقع تحت طائلة الإنكار، إذ أطباء البشر يقومون به، وإن كان ابتداء وانتهاء ليس ثم شيء خارج عن قدرة الله وقوته. ونلخص هذا الشرح ونبدأ بالإمام الترمذي - لأن الإمام الترمذي هو من ذكر شق الصدر في تفسير الآية - حيث أخرج حديث شق الصدر في تفسير هذه السورة (¬1)، فتكون الآية إشارة إلى مرويات في شق صدره شقًا قدسيًا، وهو المروى مطولاً في السيرة والمسانيد (¬2)، وفي الصحيحين أنه كان يقظة وهو ظاهر ما في البخاري (¬3)، وفي صحيح مسلم (¬4) أنه يقظة وبمرأى من غلمان أترابه، وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - راوى الحديث: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره، وفي بعض الروايات أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بين النائم واليقظان (¬5). - والروايات مختلفة في زمان ومكان شق صدره الشريف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع اتفاقها أنه كان بمكة. - وإن اختلاف الروايات حمل بعض أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع (¬6). ¬

(¬1) الترمذى، السنن، باب (ومن سورة ألم نشرح) وقال حديث حسن صحيح (3357). (¬2) أحمد، المسند (16990 - 20211 - 13555)، ابن كثير، السيرة النبوية (1/ 229). (¬3) البخاري، الصحيح (3887)، باب المعراج. (¬4) مسلم، الصحيح (236). (¬5) البخاري، الصحيح (3207)، باب ذكر الملائكة صلوات الله عليهم، الصحيح (238)، باب الإسراء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬6) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (30/ 409).

- وفي الصحيح عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه كان عند المعراج به إلى السماء (¬1). - ووقع له - عليه الصلاة والسلام - أيضًا عند مجيء جبريل - عليه السلام - بالوحي في غار حراء، وممن روى ذلك الطيالسي والحارث في مسنديهما، وكذا أبو نعيم ولفظه؛ أن جبريل وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآيات. - يقول العلامة الألوسي بعد تفسيره للآية: "نعم حمل الشرح في الآية على ذلك الشق ضعيف عند المحققين". (¬2) ونقول نعم حمل الآية عليه بخصوصه لا غير ضعيف، أما أن يدخل في عموم المنة بشرح صدره الشريف فلا مانع أن يكون الرب جل وعلا قد جمع له - كما جمع له من قبل الأخلاق الكاملة - كافة كل شرح يكون سبب علوه ورفعته، وسبب صبره وتحمله، واستمراره في دعوته، ومن ثم بعد أن ذكر العلامة ابن عاشور مثل كلام العلامة الألوسي رحمهما الله، عقب بما يدل على أن الآية تفيده فقال رحمه الله: " وليس في شيء من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية، وإذ قد كان هذا الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مرادًا، وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في الأحكام، وعليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته، وهو الباطن الحاوي للقلب." (¬3) - وعلى أي حال فإن كلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم في غاية العظمة لنفس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إما مباشرة، وإما باعتبار مغزاه كما لا يخفى. (¬4) - وقد أيد سياق الآية الكريمة باستخدام الجار والمجرور في قوله تعالى: {لَكَ} ما سبق من ثناء، حيث اللام في قوله {لَكَ} للتعليل، وهو يفيد تكريمًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الله جل وعلا فعل ذلك لأجله، ومن وجهة أخرى يفيد زيادة الجار والمجرور، وتوسيطه بين الفعل ¬

(¬1) البخاري، الصحيح (349، 3342)، مسلم، الصحيح (237). (¬2) الألوسي، "روح المعاني" (301/ 30). (¬3) العلامة ابن عاشور "التحرير والتنوير" (409/ 3). (¬4) السابق.

ومفعوله بأن الشرح من أول الأمر من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه، مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه الشريف، مع استخدام طريقة الإبهام للتشويق، فإنه لما ذكر فعل {نَشْرَحْ} علم السامع أن ثم مشروحًا، فلما وقع قوله {لَكَ} قوي الإبهام فازداد التشويق، لأن {لَكَ} يفيد معنى شيئًا لأجلك، فلما وقع بعده قوله {صَدْرَكَ} تعين المشروح المترقب، فتمكن في الذهن تمام التمكن، وعلم منه كل تلك الأفضال (¬1). - وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة للإيذان بعظمة ذلك الشرح وجلالة قدره ليظهر ما أشرنا إليه من قبل من دلالة الشرح على شيء عظيم بالغ العظمة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - نخلص مما سبق إلى وقوع شرح صدر عظيم لا يقادر قدره إلا الله للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وأن هذا الشرح لصدره الشريف لا خلاف بين العلماء جميعًا أنه وقع معنويًا، وأنه وقع حسيًا عدة مرات، وإنما الخلاف بينهم في كون السورة تدل على الشرح البدني بالذات أو لا؟ فذهب المحققون منهم إلى ضعف ذلك، وذهب البعض إلى أنها تدل عليه، ومن ذهب إلى أن الشرح البدني معجزة خارقة للعادة - وهي كذلك - أكد على أن الآية تدل عليه، ونعود إلى السؤال المفترض أولاً، وهو هل المستمعون من قريش يجيبون ببلى عندما يقرع أسماعهم لأول مرة هذا الاستفهام الإنكاري {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} أم لا؟ فالإجابة أنه على القول الأول بأن الشرح هو المعنوي نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نقول نعم! وذلك لما كانوا يطلقونه عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حميد الصفات قبل البعثة حتى لقبوه بالأمين، وقد ازدادت أمام أعينهم تلك الصفات بعد البعثة خاصة ما يتعلق بشرح الصدر ككظم الغيظ، وتحمل الأذى، والعفو، وعدم مقابلة السيئة بالسيئة مما لا يحصى وقائعه، ¬

(¬1) انظر أبا السعود، "إرشاد العقل السليم" (881/ 5)، الألوسي، "روح المعاني" (301/ 30)، الطاهر بن عاشور، "التحرير والتنوير" (409 - 410/ 30)، برهان الدين البقاعي، "نظم الدرر" (460/ 8).

ولا يمكن إنكاره أو دفعه. (¬1) أما الشرح البدني .. فما وقع منه إلى وقت نزول الآية كان قبل البعثة، وأن يصل إلى علم أهل مكة فهذا أمر غير مستغرب ولا مستبعد؛ في مجتمع صغير على هذا النحو، وقد ذكرنا شيئًا من هذا في سورة الضحى، حيث تأخر الوحي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا بهذا الأمر قد بلغ لكل أحد ساعتها. فشيوع هذا الأمر بين أهل مكة حال طبيعي من أحوال البشر في نشر وانتشار مثل هذا الخبر، وإنما النقاش الآن في عدم الاهتمام الكافي به، وما يكون ذلك إلا لأنه خبر لا ينبني عليه ما يهم الناس وقتها، ولا هو مؤثر في حيز اهتمامهم وانشغالهم، أما وقد جاء خبر النبوة الصعب، فمن السهل التذكير بما كان مما له علاقة بما هم فيه من أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والرسالة، وهم يذكرون ذلك جيدًا لعدم دفعهم إياه، أو تكذيبهم به، التكذيب المتعلق فعلاً بعدم الوقوع، ليس الشغب والجحود والمكابرة. فالقرآن الكريم خاطبهم إذن بأخبار وأحداث يعلمونها، وإلا فإن الكذب في خبر واحد في مثل هذا إنما ينسف الرسالة من أصلها، ويدلل على اختلاقها وأنها ليست من عند الله، وما كان المشركون حينئذ في حاجة لردها بالحديد والنار حيث اختاروا هذا الطريق. ¬

(¬1) أخرج أبو يعلى في مسنده (15/ 146)، وابن حبان في صحيحة (27/ 181)، وأبو نعيم في الدلائل (1/ 181)، وذكره الحافظ في الفتح (11/ 175)، من حديث عمرو بن العاص قال «ما رأيت قريشاً أرادوا قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا يوم أئتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلى عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبى معيط فجعل رداءه في عنقة، ثم جذبه حتى وجب لركبتة، وتضايح الناس، وظنوا أنه مقتول، قال: وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ورائه وهو يقول: أيقتلون رجلاً أن يقول ربى الله؟ ثم إنصرفوا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما قضى صلاتة مر بهم وهم جلوس في ظل الكعبة فقال: «يا معشر قريش، أما والذى نفس بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذبح» وأشار بيدة إلى حقلة، قال له أبو جهل «يا محمد ما كنت جهولاً» وفي روايه «إنصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً» قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنت منهم».

- والنبوة لها إرهاصات تسبقها تؤكد صدقها، يدلل عليها الواقع، والحوادث التاريخية، وسير الأنبياء، باستقراء ذلك كله، واطراده فيما جاء التاريخ به من وقائع صحت نسبتها إلى أولئك الذين ادعوا صلتهم بالسماء، وارتباطهم بالوحي، وإن ذلك من إرهاصاتها التي رأى المشركون غيرها في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كالغمامة التي رأوها تظلله وخبر بحيرى الراهب (¬1) وغير ذلك، مما جعل يَقِر في وجدانهم مثل هذه الأمور الخارقة للعادة التي حدثت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتي ذكرنا أنها من عناية الله تعالى قبل البعثة بمن سيكون رسوله إلى العالمين. ويمكن أن نصل بافتراضنا إلى أبعد من ذلك، وهو أن الشرح وَقِفَ علمه على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن هذا ثناء بينه سبحانه وبين عبده لم يطلع عليه أحد، ليكن ذلك، ولكن يأتي السؤال ألم يواجه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك الناس جميعًا مخبرًا بهذا الخبر في جملة ما أنبأهم به، وكان داخلاً هذا الشرح في جملة ما تحدى به البشر إلى يومنا، وإلى قيام الساعة؟ لم ينكر ذلك معاصروه، ولا قاموا في وجهه جاحدين له، معترضين عليه، بين مكذب راد عليه ومصفق مستهزئِ به، بل سلموا ذلك الأمر يوم كانوا كفرة محاربين، وآمنوا وازدادوا تسليمًا بعد ذلك. لقد أطلت شيئًا ما في هذا الموضوع؛ للنظر الموضوعي المجرد لقضية النبوة، إذ كل ¬

(¬1) اخرج الترمذى (12/ 68)، والحاكم في المستدرك (10/ 8)، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن أبى بكر بن أبى موسى عن أبيه قال «خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين فقال له أشياخ من قريش ما علمك فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبى وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاماً فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه».

ذلك يدلل عليها، وأن شيئًا من ذلك كله لا يمكن نسبته إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما كان ذلك ليكون إلا من خارج محمد عليه الصلاة والسلام، وبقوةٍ قوى البشر بجانبها لا شيء، قوة من بيده الخلق والأمر، والملك والملكوت، بما لا يستطيع عاقل منصف عنده شيء من علم، أو تقدير للحقيقة إلا أن يسلم بنبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهذا قطرة مما يرد به على "مونتجمري وات" وأذنابه ممن يدعون الحياد أو البحث العلمي، الذين ينفون هذه الروايات (¬1) وليس الإطالة الآن إلا لهذا الرد على ذلك الهجر وتلك الترهات، من براق القول الخادع، الذي لا يحمل تحته إلا عكسه مع سوء القصد، وفساد النية. والآن نستكمل البحث مع "وات". ونبدأ بالقول بملحوظات نسوقها إتمامًا لما سبق - الملحوظة الأولى: وهي أن "وات" قد بيض كتابه لذكر حديث ابن إسحاق بطوله، وبمنهج "وات" نفسه ما الدافع وراء ذلك؟ - وهو المختصر لمثله - بل للقرآن الكريم حيث يذكر في كثير من الآيات رقم السورة والآية فقط لا يذكر منطوقها، وله دافع وراء ذلك، وهو التلبيس على قرائه، وحذف ما يريد إخفاءه، وتقطيع أوصال النصوص وبترها؛ لينتقي منها ما يظن أنه حجته، أما هنا فأراد أن يطلع القارئ الأوروبي، المادي العلماني على مثل هذا الكلام، قائلاً بلسان حاله هذا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا دينه، ليقرر هذا القارئ من أول وهله رده للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وللإسلام، ومن ناحية أخرى يتحصن هذا القارئ أمام استخدام العقل في فهم الإسلام، ¬

(¬1) محمد في مكة (33 - 34).

بتصيير هذه القصة حجر عثرة أمام تفكيره وفي كل مناقشاته، إذ يصبح سؤاله دائمًا ألم تذكر روايات الإسلام كذا وكذا عن محمد، وهذا من خبث مقصده ودوافعه في كتاباته عن الإسلام ونبيه - عليه الصلاة والسلام - والرد سهل كما أشرنا لمن يعقل. - الملحوظة الثانية: أنه لم يقف به التعصب والانحياز السيئ عند هذا الحد، إنه قطع الطريق تمامًا على القارئ أو الباحث أن يفكر في كلامه مجرد تفكير فضلاً عن البحث أو التمحيص وذلك بأمرين مُلِئا غشًا وخداعًا وتدليسًا وكل ما يُستحى من ذكره. الأمر الأول: بنفي صحة الروايات بحجة أنها غير حقيقية عند المؤرخ العلماني حيث يقول: "لا شك أنها غير حقيقية عند المؤرخ الذي لا يؤمن بالغيب" (¬1)، وهذا كلام في منتهى السقوط والتهافت لهذه الأسباب: 1 - أن صحة الروايات وعدمها ليست لغير المتخصصين في علم الرواية، إذ كيف يتكلم من لا يحسن فيما لا يحسن، إنه حينئذ يتكلم بالكذب، أي بالظن والتخمين - وهو أكذب الحديث - وهو علم خاص بالمسلمين لم تتكلم فيه ولم تبحثه أي أُمَّة غيرهم؛ حيث به حفظ الدين وكلام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالثقة عن الثقة إلى أن يؤدي آخر ثقة ما سمعه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما هو، واضعين نصب أعينهم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كذب علىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار (¬2)» فلا يقبلون أي رواية، خاصة رواية الكذابين وهذا العلم لا حظَّ لغير المسلمين فيه؛ لأن سلسلة الإسناد - حدثنا فلان حدثنا فلان إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعتمد الإسلام والإيمان بنبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، و"وات" يعلم ذلك جيدًا وأنه لا يزيد عن كونه مؤرخًا، ¬

(¬1) محمد في مكة (33 - 34). (¬2) البخاري، الصحيح (1/ 106)، باب: إثم من كذب على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

لا علاقة له من قريب أو بعيد بالروايات وصحتها، وكل عمله أن يأخذ الرواية ليرى دوافعها وما تنطوي عليها، لا ليردها ما دام نص العلماء على أنها رويت بطريق صحيح، والذي لا يعرفه هو وأمثاله فضلاً عن أن يجيده، وهو لا يشك أنه لا يمت لذلك العلم بصلة، وتلك آراؤه وهذه كتبه لا ترى في أي منها كلمة واحدة نقلاً في هذا العلم. 2 - ثم ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي كيف تأخذ هنا بقول المؤرخين العلمانيين، وأنت تتدعي التوحيد (¬1)، لا شك لأنك لو لم تنقل رد العلمانيين ما كان عندك من رد تدفع به تلك الإرهاصة من إرهاصات النبوة ولكنت سلَّمت فيها بنبوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهدمت حينئذ دعاويك كافة في ذلك، أو على الأقل سلمت بأمر من أمور السماء المؤيد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالتالي فلا التوحيد المزعوم اتبعت، ولا الإنصاف والحياد التزمت، فكيف تقبل منك أدنى كلمة؟ قد تقول أنا رددت الرواية تاريخيًا، قلنا أخذت برأي العلمانيين يا أيها الموحد؛ لأنه ليس لك إلا منهجهم لرد الرواية، إذ ليس لك منهج آخر ترد به الرواية صحيحة كانت أو ضعيفة. 3 - اتبع "وات" منهج الانتقاء تأريخًا ورواية، كما ذكرنا في عناصر منهجه فهو يأخذ من المناهج والروايات ما يؤيد قوله، حتى لو كان مخالفًا لما اختطه لنفسه، وهو أن يكتب كموحد، ويأخذ الروايات الضعيفة والمردودة، ويترك الصحيحة مادامت تؤيد ما ذهب إليه، كل ذلك حدث هنا كما ترى، معرضًا عن الحق والنزاهة العلمية، وإلتزام الحياد، واضعًا تحت قدميه كل ذلك. الأمر الثاني: الذي قطع به طريق البحث، وهو التشكيك واللمز، مع قلب الحقائق التاريخية الثابتة، وتغيير الزمن الذي وقعت فيه، وهذا من عجيب البحث. ¬

(¬1) محمد في مكة (40).

يقول "وات" عن الروايات التي نحن بصددها عندما قرر أنها ليست حقيقية عند المؤرخ العلماني قال: "لأنها تحاول وصف وقائع يمكن نسبتها لفترات لاحقة من حياة محمد، لكن المؤكد أن هذه الروايات تعبر عن شيء بالنسبة للمسلمين المؤمنين، وبالتالي فهي حقيقية بالنسبة له، ومناسبة لإطالة حياة نبيهم" (¬1). وانظر إلى التشكيك، والإفك وقلب الزمان. المصادر التي ليس له سواها في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تذكر لشق الصدر وغيره زمن الرضاع والصبا، ثم يأتي "وات" فيقول هذه يمكن أن تكون بعد أن أصبح نبيًا، أي غير تاريخ الواقعة حوالي أربعين عامًا هكذا؛ حتى يستطيع بذلك التشكيك والتضليل، علاوة على اللمز في أنها تطيل حياة نبيهم، وكأنهم كانوا يسمرون بها في مجالسهم ليس لهم غيرها لتطيل هذه الحياة، مع ذكره أن محمدًا في المدينة انشغل انشغالاً شديدًا بإعداد هؤلاء لما يود أن يقوم به (¬2). هذه رواية شق الصدر للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقفنا فيها طويلاً شيئًا ما حيث ذكرنا ما ورد فيها نقلاً وصحة ذلك عقلاً، وأخذنا ورددنا ممجوج الآراء السمجة التي رأينا، وأما غيرها من الآراء فهي لا تعدو هذيانًا، جعلت "وات" نفسه الناصح الأمين للمستشرقين يصفها بالغثيان وشدة التطرف (¬3) لأنها لا تحمل آراء بقدر ما تحمل سخائم القلوب المريضة التي ظهرت على الألسنة القبيحة بنفس نتن تلك القلوب، وهو يعلمهم كيف يردون بإلباس ¬

(¬1) محمد في مكة (33 - 34) الطبعة الإنجليزية، عبد الرحمن الشيخ، وآخر (94). (¬2) محمد في المدينة (4) تعريب شعبان بركات، منشورات المكتبة العصرية – صيدا – بيروت. (¬3) محمد في مكة (82)، حيث وصف كلام المستشرقين في العلاقة بين المصادر اليهودية والمسيحية وتعاليم الإسلام، أما شدة التطرف فقد وصف بها آراء "لامانس" نفس المصدر، (44)، وهي أوصاف هينة من "وات" لا تعبر عن الحقيقة أو شيء منها عند هؤلاء الكتاب المستشرقين الذين يشكلون جزءًا هامًا من مراجعه المعتمدة.

هذه السخائم والنقائص ثوب العلم والحياد؛ ليصلوا إلى مطلوبهم بغير ظاهر الشتم والقبائح والمنكر. قصة بحيرى الراهب: وننتقل إلى الحادثة الثانية التي نفاها "وات" مع قصة شق الصدر في قرن واحد متعللاً بأن العلمانيين المؤرخين لا يقبلونها، وقد أورد متنها من إبن إسحاق مع سياق شق الصدر ومن ثم كان ردنا فيها عليه واحدًا، وإن كنا سنزيد شيئًا قليلاً هنا. وأفردناها هنا لاتصال سيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه. كانت كفالة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما ولد يتيمًا لجده عبد المطلب، تحت رعاية أمه آمنة بنت وهب (¬1). وكانت وفاة والده عبد الله بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، عندما أرسله والده عبد المطلب إليها ليشتري منها تمرًا (¬2). وكانت حادثة شق الصدر السبب في إعادة حليمة السعدية للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمه لأنها خافت عليه، ورغبت في إنهاء مسؤليتها عنه، مع حبها له، وتعلقها به، وببقائه عندها (¬3). ظل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رعاية أمه – آمنة – وكفالة جده عبد المطلب بعد إرجاع حليمة له من حضانتها في بادية بني سعد. ¬

(¬1) محمد بن رزق بن طرهوني، صحيح السيرة (السيرة الذهبية)، حواشي، 13، 141، وغيرها. (¬2) ابن عبد البر، الاستيعاب (14/ 1)، وروى ابن إسحاقعن شيخه الواقدي قصة أخرى. (¬3) مسند أحمد (184، 185/ 4)، وسند الدارمي (8، 9/ 1)، ومستدرك الحاكم (616/ 2) ويؤيده مرسل الزهري في مصنف عبد الرزاق (317، 318/ 5).

وعندما بلغ من العمر ست سنين توفيت والدته آمنة بـ"الأبواء" (¬1)، وهي راجعة به إلى مكة بعد زيارته لأخوال أبيه في المدينة المنورة، بني عدي بن النجار. وحملته مولاته حاضنته أم أيمن إلى جده عبد المطلب بمكة فأحاطه بعنايته وبلغت به شفقته عليه، ومحبته له مبلغًا عظيمًا حتى إن عبد المطلب أرسل محمدًا في طلب إبلٍ له، ولم يبعثه في حاجة إلا أنجح فيها، وقد أبطأ عليه، فجعل عبد المطلب يطوف بالبيت وهو يرتجز: يا رب رد راكبي محمدًا يا رب رده واصطنع عندي يدًا فلم يلبث أن جاء محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والإبل، فاعتنقه، وقال: يا بني لقد جزعت عليك جزعًا، لم أجزعه على شيء قط، والله لا أبعثك في حاجة أبدًا، ولا تفارقني بعد هذا أبدًا. توفي هذا الجد الشفوق عبد المطلب وللنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانى سنوات، فأوصى به جده إلى عمه أبي طالب أخي أبيه. وكان أبو طالب قبل البعثة وبعدها شديد العناية بابن أخيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان لا ينام إلا ومحمد إلى جنبه، ولا يخرج إلا معه، وقد صح ذلك في رحلته إلى الشام ومقابلته لبحيرة الراهب، وظل يحوطه بعنايته إلى أن توفي قبل الهجرة بثلاث سنين. وكان في صباه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرعى الغنم، وقد ثبت أنه عمل في رعيها لأهل مكة مقابل ¬

(¬1) الأبواء: قرية نت أعمال الفُروع من المدينة بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً، معجم البلدان (1/ 79)، معجم البلدان (1/ 44)، باب الهمزة والباء وما يليها وانظر طرهوني، صحيح السيرة، (157/ 1)، وحواشيه في تصحيح هذه الروايات وتحسينها.

قراريط (¬1)، وقال في ذلك عليه الصلاة والسلام: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» وكان يرعى غنم أبي طالب، وكان في ذلك يساعده لكثرة عياله، ومراعاة لحاله. وإن من أبرز الحِكَمِ في رعي الغنم كما قال ابن حجر (¬2): "قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسابق، وعلموا اختلاف طباعها، وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المجاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأُمَّة ... " ثم قال: "وفي ذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك بعد أن علم كونه أكرم الخلق على الله ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنته عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء". وقد تجلى في ذلك إحساسه الدقيق، مع ذوقه العالي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ إنه ما إن أنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل عليه ليرفع شيئًا من مؤنة الإنفاق على عمه، وقد اقتضت حكمة الله أن نفهم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بجهده وعرقه وأن قيمة الإنسان فيما يقدمه لمجتمعه من نفع قدر طاقته. وأصحاب الدعوات لا قيمة لهم إذا كان كسبهم من عطايا الناس وصدقاتهم، بل يجب ألا يكون لأحد عليه منة تمنعه من القيام بدعوته والصدع بكلمة الحق (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري (فتح الباري 141/ 4، 438/ 6)، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 - 6/ 14، وقد ذكر ابن حجر أن للعلماء قولين في معنى قراريط، أولهما: القيراط جزء من الدينار أو الدرهم، وثانيهما: أن قراريط اسم موضع بمكة. (¬2) ابن حجر، الفتح، (5453)، مهدي رزق الله، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، (124). (¬3) البوطي، فقه السيرة، (54 - 55).

بناء على ما تقدم جاءت قصة بحيرى .. فمن محبة أبي طالب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وظهور هذه الصفات النبيلة فيه، اصطحبه أبو طالب في سفرة تجارية له إلى الشام، وكان ثمَّ راهب يدعى بحيرى في طريقهم، فلما حلوا رحالهم نزل إليهم، وكان قبل ذلك لا يكلمهم ولا يلتفت إليهم، وصنع لهم طعامًا، وأخبرهم أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو سيد العالمين، وأشار إلى الغمامة التي تظله، وفيء الشجرة الذي مال عليه، ونظر خاتم النبوة بين كتفه الشريف، وعرفه بأوصافه المبشر بها عنه في كتبهم، وأمر وليه أبا طالب أن يرجع به خوفًا من يهود ومن الروم (¬1). ونميل للحق مع من ذهبوا لتصحيح هذا الحديث من العلماء نظرًا للردود العلمية التي فيها مقنع كاف بذلك، وردود - حسب نقد الروايات الشديدة عند علماء المسلمين – قوية على حجج أولئك الذاهبين إلى إنكار الرواية من العلماء. والآن نعرج على بعض الآيات القرآنية – كما هو منهجنا في هذه الدراسة – ثم نعود إلى مناقشة "وات"، وهذه الآيات هي دراسة شيء ما جاء في القرآن الكريم يؤيد هذه الجزئية، ¬

(¬1) _ اختلف العلماء في هذا الحديث قديمًا وحديثًا، فقد حسنه الترمذي وصححه الحاكم (616/ 2)، والألباني في حاشية فقه السيرة للغزالي (68)، ودفاع عن الحديث النبوي (62 - 72)، قال "وإسناده صحيح كما قال ابن الجزري"، ومحمد الصادق عرجون، محمد رسول الله، (169 - 171/ 1)، وشعيب وعبد القادر الأرناؤوط على حاشية زاد المعاد (76/ 1)، وابن القيم صاحب الزاد (76/ 1)، وابن حجر، وقال: "رجاله ثقات، وليس فيه سوى هذه النقطة – أي ذكر أبي بكر وبلال – فيحتمل أن تكون مدرجة فيه منقطعة من حديث آخر وهمًا من أحد رواته" نقلاً عن شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (196/ 1). وأنكر هذا الحديث الإمام الذهبي وغيره وقال: "وهو حديث منكر جدًا" تاريخ الإسلام السيرة، (57)، وترى مما سبق الإطالة فيه مدى النزاهة والحياد والعلمية في النقد، وليست لكونها تثبت نبوة النبي مثلاً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصححونها، أو لأنها مما يرد به على النصارى فيدافع عنها، ولم يكن قول أحدهم إذ عرض عليه أن يقول دعها نرد بها عليهم وإنما كان قولهم هو موضوع، لأنهم يراعون بعلمهم وجه الله تعالى، وكما لا يكذبون عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يكذبون له، وإنما رائدهم ما صح عنه فيسلمون به، خلافًا لهؤلاء المستشرقين في افتراء الأقاويل، وتصحيح الأباطيل ليصلوا إلى النتيجة المحسومة عندهم سلفًا.

ويكمل صورة السيرة، لتكون قرآنًا وسنة، مع مسح رأى المستشرقين الذين أرادوا تشويهها. وسنقتصر هنا على آيتين كريمتين تؤيدان القصة، ومن ناحية لو لم تكن القصة موجودة لكانتا مع غيرهما من الآيات التي أرجأنا ذكرها لمكان آت كفيلة بتوضيح أو رسم هذا الجانب من سيرته المشرفة كسيرة قرآنية، نسوق الآيتين أولاً ثم ننظر في تحليلهما ودلالتيهما: الأولى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] الثانية: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)} [الأنعام: 20] بالنظر في تحليل وتفسير الآيتين رأيناهما يستدلان على أن المقصود بهما هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن من وجهين لا كما يبدو من أول وهلة؛ ففي الآية الأولى الضمير المنصوب في {يَعْرِفُونَهُ} عائد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما علم من الكلام السابق، وتكرر خطابه فيه من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143]، وقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ}، وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً}، وقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 144]. فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صدقه، أو يعرفونه بصفاته وأخلاقه وزمانه ومبعثه ومهاجره إلى آخره معرفة لا تقبل اللبس كما يعرفون أبناءهم معرفة جلية متحققة، وأن معرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم، كمعرفة الأبناء بسبب تعلق الآباء بهم، فيكون التملي من رؤيتهم كثيرًا فتتمكن معرفتهم تمام التمكن. وهؤلاء الذين آتاهم الله الكتاب {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} هم أحبار اليهود والنصارى

الذين أوتوا علم التوراة والإنجيل كبحيرى هذا وغيره. وقوله تعالى: "وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون"، وهم معظم الذين أوتوا الكتاب، ثم بقي فريق آخر يعلمون الحق ويعلنون به، وهم الذين آمنوا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اليهود قبل عبد الله بن سلام الحبر اليهودي الذي أسلم، وتميم الداري النصراني الذي أسلم أيضًا. ودلت الآية على أنه لا يعبأ ولا يلتفت لهؤلاء الذين لا يعلمون الحق فضلاً عن أن يكتموه إذ لم يدخلوا في قوله: "الذين آتيناهم الكتاب" [الأنعام: 20]، ولا يشملهم قوله: "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم". أما الآية الثانية: فالضمير في قوله: "يعرفونه" عائد إلى القرآن الكريم؛ إذ لم يسبق ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو المخاطب، بل جرى ذكر القرآن الكريم في قوله تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ" في قوله تعالى: "قل الله شهيدٌ بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن" [الأنعام: 19]. وقد جاءت جملة: "الذين آتيناهم الكتاب" مستأنفة، انتقل بها أسلوب الكلام من مخاطبة الله تعالى المشركين على لسان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى إخبار عام كسائر أخبار القرآن الكريم، وهذا الانتقال ليثبت استشهادًا جديدًا على صدق القرآن الكريم وهو الآية المعجزة العامة الدائمة المتضمن صدق من جاء به وهو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذلك بعد شهادة الله في قوله: "قل الله شهيد بيني وبينكم". وقد كان المشركون يقدرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم، وربما اتبع بعض المشركين دين أهل الكتاب كورقة بن نوفل إلى أن بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكانت شهادتهم عند المشركين موثوقاً بها إذا أدوها ولم يكتموها.

وفي الآية بالتالي تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس وفي ذلك دعوة لإسلامهم، ولذا ختمت الآية بقوله تعالى: "الذين خسروا أنفسهم" من المشركين، ويصح أن تكون بدلاً من "الذين آتيناهم الكتاب" الخسران المبين بعدم إسلامهم، فكلاهما هالك برد الحق أو كتمه بعد شهادة الله، وشهادة الأحبار والعلماء من أهل الكتاب. وإن من دواعي إسلامهم الأكيدة أنهم يعرفون هذا الكتاب، وأنه الحق من ربهم، ومن حقه وما تضمنه صدق رسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدق ما جاء به حيث بشَّرت كتبهم به أيضًا وبصفاته وغير ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرفونه معرفة أبنائهم، معرفة التحقق والجزم، إذ لا يضل المرء عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه، وأنه هو ابنه المعروف (¬1)، وما ينكر ولده حينئذ إلا جحدًا وعنادًا وغيرهما، وهو في قرارة نفسه يعلم أنه ابنه بلا شك. بهذا العرض الموجز للآيتين الكريمتين وهما قليل من كثير يتبين كيف وضح القرآن الكريم تمام التوضيح صورة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكتب السابقة وجلاها على أبهى سيرة وأحسنها ليقطع العذر وليقيم الحجة. وكانت الآيتان الكريمتان مما توافق فيه قصة السيرة – قصة "بحيرى" الراهب - مع القرآن الكريم، فثبتت قرآنًا وسُنَّة. ونلاحظ أن الرواية كانت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبلغ من العمر اثني عشر سنة، ولم يكن ثَمَّ نبوة ولا وحي ولا قرآن، فعندما يأتي القرآن بمثل ما أتى به ذلك القصص فلا شك أن ذلك القصص صحيح، وجاء القرآن الكريم ليؤكده ويثبت وقوعه. ¬

(¬1) انظر لما سبق بتصرف كبير الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير" (39 - 40/ 2)، (170 - 172/ 7).

نعود لنناقش "وات" حيث ذكرنا قوله بعدم صحة القصة، مع قصة شق الصدر تاريخيًا، وأنه احتج بالعلمانيين في إنكار ما يود إنكاره وتضطره نتيجة البحث المسبقة إلى نفيه، وقد نفاه هنا بما لا يعتقده حيث يدعي أنه يكتب كموحد، ومعنى ذلك أنه إذا لم يسعفه التوحيد، أسعفه الكفر! للأسف! فكلاهما حق عندما ينظر إلى الإسلام، وكما وعدنا سنزيد ردًا قليلاً هنا حيث رددنا هنالك عقب قصة شق الصدر ردًا مطولاً، أما ما نزيده هنا: فأوله: أن إنكار "وات" للقصة فإنه لما تحمله من مضامين دينية، إذ هي اعتراف مسيحي بنبوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حبر من أحبارهم، أو راهب من رهبانهم انتهى إليه علم النصارى، وهو ما سعى "وات" في كل كتاباته لنفي نبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل حاول كذلك في كل كتاباته أن يثبت التأثير المسيحي اليهودي على تعاليم الإسلام، وأنه ليس إلا خليطًا منها متوائماً مع البيئة العربية كما أشرنا من قبل (¬1). الملحوظة الثانية: وهي قضية "وات" أيضًا، وهي التأثير اليهودي - المسيحي على تعاليم الإسلام، فقد ذكر بعض المستشرقين هذه الأضحوكة، وهي أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الرحلة تلقى علم التوراة من بحيرى في هذا اللقاء العابر، ومأدبة العمل هذه، وهو في سن الثانية عشر على الأكثر، بعد أن تأكد بحيرى أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو سيد العالمين، ورحمة الله للعالمين، كيف لغلام في الثانية عشر من عمره أن يتلقى علم التوراة، ويكون له أثره عليه وعلى تعاليم دينه في ساعة من الزمان، وهم يأكلون، ليس هناك إذن أسوأ من الاستخفاف بالعقل وقلب الحقائق بسبب التعصب الأعمى. ¬

(¬1) انظر عبد الله النعيم "الاستشراق في السيرة النبوية" (61 - 62).

ذكرت القصة أن الراهب لم يبق محمدًا معهم إلا حال تعرفه على أوصافه، وأنه النبي المبعوث، ثم ناشد عمه أبا طالب أن يرده سريعًا إلى مكة؛ خشية من إيذاء اليهود والروم له، فلم يبقه في الركب معهم حتى نقول جلس عنده أو قابل غيره بل أمر برجوعه توًا إلى مكة، وأين قوله «هذا رحمة الله للعالمين»، «وهذا سيد العالمين»، وبعد ذلك يجلس ليعلمه التوراة، أبعد أن علم نبوته، يقول له هيا لأعلمك ما لن يعلمه الله لك؟! أو ما سوف يعلمه الله لك بعد سنين متطاولة، هذه عجائب المخلوقات ولولا أن هذا الكلام قد قيل ما سودنا به تلك الأسطر. ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه الفترة – تنزلاً معهم – هؤلاء المتعصبين – لا يعرف القراءة ولا الكتابة فكيف تعلم؟ وإن عرفها لم تكن الكتب السابقة قد ترجمت للعربية، فإنها لم يترجمها أصحابها إلا قريبًا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بقرون طويلة، الكلام كثير في الرد عليهم وأما مقصودهم ففي النهاية هو رد أصول الإسلام إلى التوراة، فأين ذلك في تعاليمه؟ وهل حارب اليهود وأجلاهم عن المدينة، وأبقى تعاليمهم في كتابه وسيرته، إلا إذا كان مؤدى تلك التعاليم أن هؤلاء قوم لا بد أن يقاتلوا، وأن يجلوا عن المدينة، وعن جزيرة العرب، وأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وأنهم قوم بهت وسوء، لا عهد لهم ولا ذمة، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما أخفت صدورهم أكبر، وودوا لو تكفرون، كانت فرية إذن أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تأثر بهؤلاء، والعجب أن يأتي مدعو العلم والمنهجية ليرددوها بكل برود تقليدًا لأخلاق أسلافهم تلك، وما استحيوا أن يرددوا كذبًا ممجوجًا يعلمونه، ولكنهم استخفوا بعقول مريضة، أو عقول ممسوحة، أو عقول لا تفكير فيها ولا نظر لها، كل ذلك ليحموا بني جلدتهم ويحصنوهم ضد الإسلام ويعموا على أبصارهم وعقولهم حتى لا ترى النور، مع تشكيك المسلمين في دينهم. (¬1) ¬

(¬1) وات، محمد في مكة (40).

المبحث السابع حفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

المبحث السابع حفظ الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل البعثة إن رجوعًا إلى حادث شق الصدر، وما سبقه من إرهاصات عند مولده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما تبعه من وقائع خارجة عن العادة حدثت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خاصة في سفره إلى الشام ليدل دلالة قاطعة على عناية الله به، ورعايته إياه، وأنه كما قيل لموسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] وقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] فهو إذًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع على عين الله تعالى، لنفسه وما يريده له، وما يأمره به ويطلبه منه، ومن ثم كان منطقيًا أن نراه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محفوظًا عن رجس الجاهلية وأقوال الكفرة، وأفعالهم وصفاتهم، خاصة ما يكون منها متعلقًا بعبادتهم أو معبوداتهم، وكذلك مما يؤكد عليه في هذا المقام أنه كان معصوما قبل البعثة بما يشين بعد البعثة، وهذا يوافق العقل. وعليه نشير إلى أمور وقعت له في سيرته المشرفة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نستدل بها ونعلق عليها تدل على هذه الصيانة من الله تعالى، وكيف أنه لم يصدر من المشركين مع شدة الأذى، وتلمسهم أي صغيرة ينفذون بها إلى شينه، لم يصدر منهم ما يعيرونه به، أو يلمزونه به، بل على العكس كان يحظى في تلك الأخلاق بكامل الاحترام قبل البعثة وبعدها، إلا ما كان منهم قبل إيمان من آمن من مجابهة الرسالة والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. من هذه الأمور التي عصم منها وهي تشير إلى ما وراءها، فنبدأ بها لذلك.

الأمر الأول: وهو أن الله عصمه من سماع ومشاهدة الأعراس، والسمر واللهو كما يلهو أمثاله في صباه أيام كان يرعى الغنم في مكة. (¬1) الأمر الثاني: ثبت أنه نهي عن رفع إزاره وهو رجل عند نقله الحجارة مع عمه العباس عند تجديد قريش لبناء الكعبة، فقد اقترح عليه العباس - رضي الله عنه - أن يرفع إزاره، ويجعله على رقبته ليقيه أثر الحجارة، مادام بعيدًا عن الناس فلما فعل خر مغشيًا عليه، فلما أفاق طلب أن يشدوا عليه إزاره (¬2) والعري لم يكن مستنكرًا إذ كان هناك من يطوف بالبيت عريانًا، وقد استمر ذلك حتى منعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فتح مكة في حجة الصديق سنة تسع للهجرة، حيث أمر الصديق بإبلاغ الناس ألا يحج بعد هذا العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان (¬3). وقد علق شارح البخاري الحافظ بن حجر على هذا الحديث بقوله: "وفي الحديث أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مصونًا عما يستقبح قبل البعثة وبعدها". (¬4) وبالنظر في الأمرين يتجلى بوضوح ما كان من تربية الله له، وبحفظه من تلك القبائح التي تُعد في نظر المعاصر لها من الأمور العادية، بل والناظر لها الآن، وهذا يدلنا على حفظه لما هو أكبر منها، فإذا كان محفوظًا في الصغير فمن باب الأولى أن يكون محفوظاً في الكبير. ¬

(¬1) اختلف العلماء في تصحيح هذا الخبر، فصححه الحاكم في المستدرك (254/ 4)، والذهبي وغيرهما، وضعفه الإمام بن كثير في البداية والنهاية (287/ 2)، وكذا الشيخ الألباني في تخريجه لفقه السيرة لمحمد الغزالي (72)، وقال الحافظ بن حجر: إسناده حسن متصل ورجاله ثقات، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (229/ 9) رواه البزار وإسناده ثقات كما ذكر ذلك محققًا دلائل النبوة لأبي نعيم (186/ 1). (¬2) البخاري (351)، ومسلم (515) من حديث جابر رضي الله عنه. (¬3) البخاري (1517) ومسلم (2401) عن أبى هريرة رضى الله عنه. (¬4) ابن حجر، "فتح الباري" (475/ 1).

فوجدنا مكانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأدبية في المجتمع القرشي لا يدانيها مكانة سموًا وعلوًا تدل على ما وصل إليه توفيق الله له، وحفظ الله إياه، ومن ذلك اختلافهم في وضع الحجر الأسود عند تجديد بناء الكعبة، إذ انتهوا بالرضا بتحكيم أول داخل من باب بني شيبة، فإذا هو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: «أتاكم الأمين» (¬1)، أما ما كان من عبادة قريش ووثنيتها، فكان يفيض عن عرفة في الحج، كما ذكره جبير بن مطعم حين رآه واقفًا بعرفة فقال: هذا والله من الحمس فما شأنه ها هنا؟!! (¬2) علي حين تفيض الحمس، وهم قريش من مزدلفة، وكان يستمسك بإرث إبراهيم وإسماعيل في حجهم وبيوعهم ونكاحهم (¬3) وهذا من توفيق الله له قبل البعثة أما أصنامهم فلم يمس صنمًا فضلاً عن الطواف به، أو السجود له والاعتكاف عنده، فيذكر مولاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - أنه كان يطوف مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي قبل البعثة بالبيت العتيق، فلمس زيد بعض الأصنام فنهاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، ثم عاد زيد لمسها ليتأكد من الأمر، فنهاه ثانية فانتهى حتى كانت البعثة، وقد حلف زيد بن حارثة بأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما مس منها صنما حتى أكرمه الله بالوحي (¬4). وكذلك ما كان يأكل ما ذبح على النصب، حيث التقى بزيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد الحنفاء الذين تركوا دين قريش بأسفل مكة، وقدمت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفرة فخشي أن يكون مما ذبح على النصب فأبى أن يأكل، ولم يكن يعلم ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد بين شراح الحديث أنه ما كان يأكل ما يذبح على النصب (¬5)، وهذا قليل من كثير في سيرته وأخلاقه ومعاملاته قبل البعثة مما يبين الإعداد الإلهي له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتحمل هذا العبء ¬

(¬1) أحمد، "المسند" (425/ 3)، والحاكم، "المستدرك" (458/ 3). (¬2) البخاري (1553)، ومسلم (2142). (¬3) البيهقي، "دلائل النبوة" (37/ 2). (¬4) الطبراني، "المعجم الكبير" (88/ 5)، والبيهقي، "دلائل النبوة" (34/ 2) والحاكم في المستدرك وحسنه الذهبي في السيرة النبوية من تاريخ الإسلام راجع د. أكرم العمري، "السيرة النبوية الصحيحة" (117/ 1). (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 142/ 7، 630/ 9).

الضخم من تبليغ رسالة الله تعالى، والقيام بمشاقها. وكان منطقيًا كما رأينا أن تتم العناية به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصيانة له على أحسن حال وأتم وجه، وكان متسقًا ومتوافقًا تمام الاتساق والتوافق في كل هذه الأخلاق الحسنة وغيرها مع الإرادة الربانية التي اختارته؛ إذ ما سمعنا عن مثل ذلك لغيره، لو كانت الأمور بالتدريب والمجاهدة ورياضات النفوس، أو بالثقافة التي يدعيها "وات" لكان لغيره خاصةً الحنفاء ومن تنصر كورقة اليد الطولى إذ كان يقرأ ويكتب من الكتاب العبراني ما شاء الله له، وعلى علم بحال قومه وزاد بعلمه بأحوال النصارى واليهود من حرف منهم وزاغ، ومن بقى على الدين الأول، فلا مرد لذلك، ولا مرجع له إذن إلا اتصال الأرض بالسماء لإعداد هذا النبي المنتظر. وإن بيئة تساوى الجميع فيها مع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم تكن بالعالية كالملأ المكي، ولا المتدنية كالمقابل لهم، لم تكن لتخرج هذا الشخص العظيم الذي علا الجميع بغير محاولة منه بما هم مشتركون فيه. إن ذلك دليل خارج عن نطاق البشر، ويستدل به ويبرهن على نبوة ذلك الأمين الصادق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

المبحث الثامن زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة رضى الله عنها .. التعليق على «وات»

المبحث الثامن زواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خديجة رضى الله عنها .. التعليق على «وات» وكان زواجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خديجة بنت خويلد بن أسد أحد العلامات البارزة في رعاية الله تعالى له، وإظهار فضله وشرفه، وإعداده لهذه المهمة النبيلة، إذ كان هذا الزواج بعرض من خديجة نفسها، وذلك لما بلغها من صدق حديثه، وعظيم أمانته، وحسن أخلاقه حيث قد انتشر ذلك وذاع عنه في مكة مما يدل على أنه لم يبلغه آخر في نفس ظروفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تابعت ذلك بالتأكد والتحري بنفسها، وهي من هي حزمًا وشرفًا، فقد كانت في أوسط قريش نسبًا وأعلاهم فضلاً وأكثرهم مالاً، ولقد نودي عليها بالعفيفة الطاهرة، وكانت امرأة لبيبة حرص رجال كثير من علية قومها على الزواج منها. كانت خديجة تضارب في مالها الكثير، وتنتقي من الرجال أشرافهم وأمناءهم ليتجروا لها فيه نظير معلوم من المال، فما أن سمعت بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بعثت إليه، وعرضت عليه أن يخرج متاجرًا في مالها إلى الشام، مع إضعاف الأجر له عن غيره فوافق، وخرج مع غلام لها يدعى ميسرة، ولقد رأى من الآيات التي جرت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمعجزات ما حكاه لسيدته خديجة، فرغبت في الزواج منه. (¬1) وأن يكون لهذا الزواج أسبابه الوجيهة القوية لهو منطق الأشياء، وواقع الأمر وطبائع ¬

(¬1) الطبراني في الأوسط،، وقال الهيثمي في المجمع (256/ 8) وإسناده حسن.

الناس، وعاداتهم من قديم، مما يؤكد أقرب الأسباب المذكورة التي لم يجادل فيها أحد بما يثبت بما لا يدع مجالاً للقول أو منفذًا للشك أن أخلاقه وسيرته كانت مشتهرة بين القوم، وتناقلها الإخباريون كلهم والرواة، ولم يردها أحد، أو يجادل ويشكك في وجودها حينئذ أحد (¬1). وقد خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خديجة من أبيها خويلد بن أسد (¬2) فزوجه منها، وذهب ابن إسحاق إلى أن خديجة كانت في الثامنة والعشرين من العمر، وذهب الواقدي (¬3) إلى أنها كانت في الأربعين، وأن الذي تولى زواجها هو عمها عمرو بن أسد لأن أباها قد هلك قبل يوم الفجار، وهي الحرب بين قريش وحلفائها من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى، ولكن الراجح أن أباها هو الذي ولى نكاحها، لأن الأحاديث في ذلك أقوى، ويعتضد بعضها ببعض. (¬4) تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخديجة، وسكن في بيتها، وولدت له أولاده جميعًا، ذكرين القاسم - وبه يكنى - وعبد الله الملقب (بالطيب والطاهر) وأربع بنات هن زينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية وهذا يرجح رواية ابن إسحاق في أنها كانت في الثامنة والعشرين من ¬

(¬1) ابن اسحاق، وابن هشام، "السيرة النبوية" (121 - 122/ 1). (¬2) الزهري، "المغازي النبوية" (24)، وابن إسحاق، السيرة النبوية لابن هشام، (122/ 1). (¬3) ابن سعد، الطبقات (132 - 133/ 1)، الطبري (282/ 2)، ووافقه على ذلك السهيلي، "الروض الأنف" (213/ 1) وابن سيد الناس، "عيون الأثر" (50/ 1)، وابن عبد البر، "الاستيعاب" (280/ 4)، والشامي، "سبل الهدى والرشاد" (224/ 2)، وانظر د. مهدي رزق الله، "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (134 - 135)، وأيد ابن حجر أن أباها زوّجها "فتح الباري" (134/ 7)، وانظر د. أكرم العمري، "السيرة النبوية الصحيحة" (113/ 1)، وذهب محمد بن رزق بن طرهوني، "صحيح السيرة النبوية" (السيرة الذهبية) إلى صحة تزويج أبيها إياها، وهو سكران (215 - 216/ 1). (¬4) د. مهدي رزق الله، "السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية" (135).

عمرها، إذ الغالب أن المرأة تبلغ سن اليأس من الإنجاب قبل الخمسين. (¬1) فأما القاسم وعبد الله فماتا قبل الإسلام، وأدركت البنات الإسلام فأسلمن وهاجرن مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (¬2) توفيت خديجة قبل هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة بثلاث سنوات (¬3)، وذلك قبل حادثة الإسراء والمعراج، في نفس البيت، ولم يتركه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بعد الهجرة حيث أخذه عقيل بن أبي طالب فيما أخذ (¬4). كانت خديجة رضي الله عنها أول من تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يتزوج عليها حتى ماتت وإن كانت هي قد تزوجت قبله مرتين، فكانت ثيبًا وأكبر سنًا منه مما يدل على عدم اهتمام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يهتم به أقرانه من متعة الجسد، وإلا لابتغى من هي أصغر منه سنًا، وبكرًا تلائمه ولكنه رغب في خديجة رضي الله عنها التي كانت تلقب بالعفيفة الطاهرة، وظل هذا الزواج قائمًا حتى ناهز هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخمسين من عمره الشريف، مما يدل دلالة قاطعة على أن التعدد ما كان بعد ذلك لدوافع الشهوة والمتع الزائلة، ولو شاء لوجد الكثير دون خروج عن عادة وقيم ومألوف القوم حينئذ. إن الثابت في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة والسيرة تؤكد المكانة التي حلتها خديجة من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل البعثة وبعدها إلى يوم القيامة، وعلى تلك الدرجة العالية لها عند ¬

(¬1) د. أكرم العمري، "السيرة النبوية الصحيحة" (113/ 1). (¬2) ابن حجر، "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (291/ 14)، ابن كثير، "البداية والنهاية" (318 - 319/ 2)، ابن إسحاق، ابن هشام، "السيرة النبوية" (122 - 123/ 1). (¬3) ابن هشام، "السيرة النبوية" (46 - 47/ 2). (¬4) الفاكهي، "أخبار مكة" (7/ 4).

ربها، وعلى فضلها في دين الإسلام وفي عنق المسلمين. حيث ورد منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثناء الضخم عليها، والوفاء الجميل عند ورود ذكرها، أو مرور شيء من سيرتها، أو عند رؤية أحد من صدائقها وخليلاتها، مع إظهار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحبتها، وتأثره عند ذكرها بعد وفاتها، وإشهار حسن موقفها منه ووقوفها وراءه تؤمن به، وتشد أزره، حتى قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة" (¬1) مما يؤكد في الإسلام تلك الأخلاق الحسنة من جهة، ومن جهة أخرى أن النساء شقائق الرجال، وفيهن من وصلت إلى هذه الدرجة العالية الرفيعة، مما يجعلها القدوة والأسوة لنساء المسلمين اللاتي يبتغين رضا الله، ويردن رفعة أوطانهن، وبالتالي فإن في التصفح لسيرتها وسيرة بقية المسلمات القانتات لزادًا عظيمًا تتزوده المرأة المسلمة في هجير المادة اللافح الذي نعيشه اليوم. نعود لتعليق "وات" على هذا المبحث .. ولولا أن ذلك من منهج هذا البحث لما أعدنا النظر فيه، ولا الالتفات إليه، إذ هو مسخ من العقل، وتناقض من القول، وتلاعب بالألفاظ، فهو يستغفل القارئ، ويوهمه - يخبره - بالشيء ونقيضه، وللأسف هو قول طويل، ونقله والتعليق عليه ثقيل على النفس، ولأن فساده يغني عن إفساده، لأن عواره ظاهر لمن عنده مسكة من العقل، ولكن ننقل بعضه حجة وبرهانًا على ذلك السوء البالغ المسمى بحثًا ومنهجًا تاريخيًا وغيره من مهول ¬

(¬1) البخاري، الصحيح (3815)، مسلم (2430)، وانظر في فضل السيدة خديجة رضي الله عنها، البخاري أيضًا "الفتح" (3818 - 3823 / ح)، ومسلم بشرح النووي (202/ 15)، والبداية والنهاية لابن كثير (318 - 320/ 2) ومن تلك الأحاديث أيضًا ما رواه أبو هريرة قال: " أتى جبريل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه =إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب البخاري (3821) ومسلم (2432).

القول الذي ليس تحته شيء، وإنما هو جعجعة يدخل بها في روع من أمامه. يقول (¬1): من وجهة نظر المجتمع المكي، كان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد وضع قدمه على أول درجة - على الأقل - من درجات النجاح الدنيوي. وربما لم تكن خديجة - رضي الله عنها - من الثروة كما يقال عنها أحيانًا. ولكننا نستطيع أن نفترض أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أصبح لديه رأس مال يكفيه للحصول على نصيب متوسط من الأعمال التجارية. وأول ما يفجعنا به " وات " من التهويل الذي لا علاقة له بالبحث - لأنه لا يستند إلى الواقع - هو قوله: من وجهة نظر المجتمع المكي؛ هكذا بكل سهولة! ينظر جميع المكيون على أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذه الزيجة، قد وضع قدمه على أول درجات النجاح الدنيوي! .. ترى من الذي أخبر "وات" بذلك؟! في أي كتاب، أم من أي مصدر استقى "وات" هذه المعلومة؟! دعك من هذا، بل من أي دليل استنبط "وات" هذه النتيجة؟! تراه كان يعيش بينهم؟!، أم أجرى هذا الاستطلاع في مكة؟!، أم أجراه أحد الموثقين وأخبر به "وات" خفية لم يطلع عليه غيرهما؟! ... وهل هذا الاستطلاع شمل المكيين كافة في مجتمعهم كما يزعم؟! ... كل ذلك - للأسف - لم يكن؛ بل هو من تأليف "وات" للتاريخ، وبنى عليه هذا التهويل. ثم إليك هذا الرد، وهو أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما وضع قدمه على أولى درجات النجاح كما يدعي "وات" إلا لأنه سيستحوذ - لأنه لم يستحوذ بعد - على مال خديجة - رضي الله عنها -، والسؤال منذ متى كانت البيئة والطبيعة العربية، تسمح للزوج بأن يحوز مال امرأته إليه، بل إن الحياء والشهامة تأبى إلى اليوم أن يأخذ الرجل شيئًا يخص زوجته أو يطمع فيه، ومنذ ¬

(¬1) "وات"، محمد في مكة (100)، ترجمة د. عبد الرحمن الشيخ وآخر.

متى أيضًا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينتظر مال خديجة أو ينظر إليه. وردًا آخر رده "وات" على نفسه، وهو من عجائبه أو قل سخائمه، وهو قوله بعد إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتحنث في غار حراء هربًا من حر مكة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تكن له القدرة المالية التي تتيح له الذهاب إلى الطائف (¬1). أي ليصطاف كما يصطاف ميسورو مكة في الصيف (سنعود إلى التحنث في غار حراء مرة أخرى إن شاء الله) وإنما هذا رد سريع على هذا الإفك، كيف نوافق على هذا التناقض أو نوقفه. ثم تزداد حدة التناقض بقوله ربما لم تكن خديجة من الثروة كما يقال عنها أحيانًا، فإذا لم تكن كذلك، فمن أين وضع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدمه على الأقل على أولى درجات النجاح الدنيوي كما تدعي، وانظر إلى الأسلوب العلمي الفذ الذي يلاحقنا به، ويلاحق القرَّاء والباحثين، حيث لا يملك عند محاولة تفريغ السيرة من مضمونها ووحيها وكمالها وجلالها وجمالها إلا العجز الذي يسميه البحث التاريخي، فلا تخلو جملة، وصفحاتها من قوله، «وربما»، «ومن المحتمل»، «ويمكن»، «ولعله»، ولو «افترضنا»، «ولا يمكن» فهل ربما ومن المحتمل ولا يمكن وغيرها، هل هذا بحث، أو هو تشويش وشغب على الحقائق يلويها بعيدًا عن الواقع الحق لها لتصل إلى بغيته لا إلى نتيجة البحث. وهذا اللفظة التي وضعها في الجملة، وهي وقوله أحيانًا، أي كما يقال أحيانًا عن خديجة إنها ثرية ولها ثروة تجعلها من أصحاب التجارات إلى الشام وغيرها، فهذا ليٌّ صريح لعنق الحقيقة ورد كاذب للواقع، بل كان يقال عنها دائمًا إنها من أصحاب الثروات وإنها غنية وإنها تستأجر التجار ليتاجروا لها في مالها، ولم تسمع أن ذلك يقال أحيانًا، إنما كان ذلك ¬

(¬1) "وات"، "محمد في مكة" (109)، هذه ترجمة شعبان بركات، أما ترجمة المصرية العامة للكتاب التي ننقل غالبًا منها فهي قول "وات"، وربما كان ذلك وسيلة للهروب من حرارة مكة في موسم متعب لمن كانوا لا يستطيعون الذهاب إلى الطائف.

دائمًا فقلبها بقدرة باحث ضال إلى أحيانًا يقال عنها إنها صاحبة ثروة، وهذا تغيير للتاريخ وقلب لحقائقه لم ينطق به لسان معاصر لها ولا من أتى بعد ذلك، وليس له وجود إلا في عقل "وات" الآسن وسنبينه من كلامه الآتي إن شاء الله حيث صدَّره بجملة لا قيمة لها في البحث، وهي ربما لم تكن، كيف يزيف الواقع ويُمسح بكلمة ربما، ثم يزداد إيغالاً في التضليل بقوله أحيانا، مع أنه الدائم، يقف الباحث المتجرد حائرًا في وصف هذا الهراء الضال. ونواصل على مضض التعليق على بقية كلام مستر "وات"!، يقول: ولا يعنى عدم وجود أخبار عن أنه سافر إلى الشام مرة ثانية أنه لم يذهب. وهذا هو التناقض الممل، والتزييف المتعمد، والجمل التي لا صلة بها بالبحث بل باستغفال القارئ. إذ ما معنى هذا الخبط؟ لا يعني عدم وجود أخبار بالسفر أنه لم يسافر، فيرجع بنا: أولا: إلى ربما ومن المحتمل ... إلى آخر ألفاظه. ثانيًا: إن من قال إنه سافر، لم يقل على أقل تقدير إنه سافر مرة أخرى فمن أخبرنا بالسفر أخبرنا بعدمه بعد ذلك فمن أين لك هذا؟ ثالثًا: كفانا "وات" مؤونة الرد عليه لأن الاضطراب عادة المتناقضين فقال في السطر التالي مباشرة: مع الوضع في الاعتبار أنه من الممكن دائمًا أن يكلف آخرين بالإشراف على تجارته، فلما وضعنا أيها المستشرق في اعتبارنا أنه دائمًا من الممكن أن يكلف آخرين بما ذكرت أنتج لنا هذا الوضع أنه لم يسافر أبدًا بعد ذلك، لأن هذا ما يعنيه كلمة دائمًا التي ذكرتها.

وما زال "وات" مصممًا على أن يكون عنوان فضح المستشرقين أمثاله بكلامه الذي لا ندري له وصفًا فيقول: كذلك يجب أن نتذكر دائمًا احتمال أن التجار قد استبعدوه من مجالسهم، ومن معظم العمليات المربحة. ومع ذلك فمن المحتمل أنه لم يستبعد تمامًا، لأنه كان قادرًا على أن يزوج ابنته زينب لأحد أفراد عشيرة عبد شمس، وهو ابن أخت خديجة، والتي لاشك في أنه كان لها دور بارز في هذه الزيجة، كما أن خطبة ابنتيه الأخريين لابني أبى لهب، الذي ربما كان ينظر إليه على أنه الزعيم التالي لبنى هاشم، تدل على أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينظر إليه أيضًا على أنه أكثر شباب بني هاشم رجاء (¬1). ونبدأ بمقدمة كلامه التي عللها بالباقي من القول، حيث أوجب علينا دائما أن نتذكر احتمال أن التجار قد استبعدوه من مجالسهم ومن معظم العمليات المربحة. وكذلك من المحتمل أنه لم يستبعد تمامًا. ونحن معه في هذه الاحتمالات لنصل إلى الاحتمال الحق، فنقول له: يا مستر "وات" قد تذكرنا دائمًا أنه مستبعد، ثم ذكرتنا بالثاني أنه غير مستبعد تمامًا قد أمرتنا أن نتذكر دائمًا أنه مستبعد، فليس ثم استثناء للاستبعاد فلا يمكن أن نقول بعد دائمًا هذه إنه غير مستبعد تمامًا، فلم أمرتنا أيها الفهامة بذلك الاستبعاد الدائم التذكر فإذا به غير دائم ولا تام، فأي الاحتمالين تريدنا أن نتذكر إلا أن تقصد الاحتمال الثالث وهو أنه مستبعد وغير مستبعد. ولا نجد في هذا الكلام إلا الكوميديا التراجيدية ل "وات" المضحكة المبكية في آن واحد ثم نحن نذكرك بأن الاستبعاد وعدمه غير ثابت تاريخيًا، ولا هو واقع التجار أيامئذ، فلم نسمع أن التجار وقفوا لأحد أخذ تجارته إلى الشام أو غيرها فوقفوا له قائلين ارجع أيها ¬

(¬1) " وات"، محمد في مكة (100)، ترجمة عبد الرحمن الشيخ وآخر .. الهيئة المصرية العامة للكتاب2002.

المستبعد، وها هي ذي خديجة كانت ترسل التجار ليتاجروا ويضاربوا لها في كل الأسواق المعلومة في ذلك الزمن شامية كانت أو يمانية أو غيرها. ووصولاً إلى الاحتمال الحق الذي قامت عليه الحجة، وأيده البرهان، وسيكون من كلام "وات" نفسه للنزاهة العلمية، ونبدأ فنقول إن الاحتمال الأول قد زيفه "وات" نفسه فبعد أن أمرنا أن نتذكر دائمًا أنه مستبعد، أنبأنا أنه ليس مستبعدًا تمامًا فمحا كلامه، فلم يعد التذكر الدائم للاستبعاد حقًا بل هو باطل منقوص مشكوك فيه، وكذلك الاحتمال الثالث أن نتذكر دائمًا أنه مستبعد وغير مستبعد تمامًا فهذا كوميديا تراجيديا، فلم يبق إلا الاحتمال الثاني وهو أنه غير مستبعد، وهو الحق، وقد أقام "وات" نفسه البرهان والحجة على أنه لم يستبعد بهذه الوجوه التي ذكرها بنفسه. الأول: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قادرًا على أن يزوج ابنته لأحد أفراد قبيلة عبد شمس، وكأنه يريد أن يقول إن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد وصل إلى درجة من الغنى يصاهره بها أحد أفراد هذه القبيلة الغنية من التجار الأثرياء. فكيف يناسبهم وهم مستبعدوه؟ الثاني: يقول أن لخديجة دورًا بارزًا في هذه الزيجة لأنه ابن أختها، فكأنها هي الأخرى من الأثرياء اللاتي يتدخلن فتكون لهم الكلمة، ويمضي قولهم، وبالتالي يعود ذلك في هذا الحين على موقف سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه بلا أدنى شك رجل هذا الموقف. الثالث: أن أبا لهب المفترض كما يذكر "وات" أن يكون زعيم بني هاشم، خطب ابنتين من بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابنيه، وما ذلك إلا لموقفه الحالي ومستقبله الواعد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني هاشم، ثم يريدنا "وات" بعد أن هدم كلامه بكلامه، وأظهر دجله وحيفه وظلمه، وعدم نزاهته وأمانته فيما يسميه بحثًا، أن نتذكر دائمًا أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مستبعدًا كما يدعي

ويفترض، نعم صحيح، ولكن في تاريخه الذي نسجه من وحى شياطينه. والجزء الأخير الذي لابد من ذكره في زواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خديجة، كما ذكره "وات"، هو قوله: فإن لدينا الكثير من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن خديجة رضي الله عنها قد أدركت بعضًا من قدرات محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الروحية، وأنها انجذبت إليها. ونقول: بعيدًا عن قدراته الروحية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهذه آيات أخرى ذكرنا شيئًا منها نقلاً عن كُتَّاب السيرة، ومصادرها، وسنذكر غيضًا من فيض في الباقي من البحث إن شاء الله .. ولكن العجيب أن "وات" يتكلم عن القدرات الروحية التي نفاها فيما سقنا من قصص في شق الصدر وإظلال الغمامة، وحديث بحيرى الراهب، وأنه بعد لم يكن قد بدأ التحنث والتعبد في غار حراء حتى نقول قد حصل شيئًا روحيًا من تلك الخلوات والرياضات النفسية والتأملات الروحية والأفكار العقلية، فما الذي قلب عقله فجأة ليثبت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدرات روحية جاذبة، خاصةً أنه لا يؤمن بالوحي للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما بمخزون اللبيدو الذي ادعاه، ولم يذكرنا كعادته بالاحتمالات التي حصل بها هذه القدرات الروحية في تلك المرحلة المبكرة من سني عمره الشريف - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يبين لنا بربما ومن الممكن ويحتمل وغيرها كيف راقبت خديجة هذه القدرات الروحية، كيف تتبعت محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفرًا وحضرًا في دروب مكة وأنديتها حتى اكتشفت الروحية هذه ورأتها فيه وتيقنت أنها روحية حتى اطمأنت إليها فطلبت الزواج منه، ومنذ متى سمعنا في البيئة العربية بهذه القدرات الروحية التي تنجذب إليها النساء وكما يذكر "وات" التاجرات في القرن السادس الميلادي، وهل كانت النساء التاجرات العربيات يبحثن عن أصحاب القدرات الروحية للزواج منهم أو هو منهج الإسقاط حيث تسقط ما علمته في القرن العشرين على بيئة القرن السادس التي لا علاقة لها به ثم ما هي القدرات الروحية وعلاماتها التي ظهرت على سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذه المرحلة، وكان عند خديجة سابق علم بهذه

المبحث التاسع مشاركته في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود

العلامات، وأخذت تبحث عنها حتى تميزتها في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). ألم تطبق من قبل ومن بعد المنهج المادي على مثل هذه الأحداث التي تريد نفيها، وبها تنفى نبوة الرسول، وكمالها وجلالها وجلال رسالة الرب سبحانه وتعالى، فتأتى هنا وتثبتها وما تريد إلا أن تخفي من طرف خبيث صفاته وأخلاقه وشيمه وكمالاته التي لا توجد في مثله حتى حملت خديجة على طلب الزواج منه فتخفيها بأمور روحية أنت تنفيها من أصلها، ثم بعد ذلك تعاود الكرة لتنفى هذه أيضا مرة أخرى كما طمستها من قبل فيتم لك الأمران لا أخلاق، ولا نبوة، وإنما هو مشروع عربي إصلاحي، الدين عنصر من عناصره، وهو ديدنك في كتاباتك كافة، إن المرء ليضرب كفًا بكف لمثل هذا، وأعجب منه أن يصدقه أحد للأسف ظانًا منه أنه وأمثاله من منصفي المستشرقين، بل إن الاستشراق لم يصنع أو يولد للإنصاف بل لمحاربة الإسلام، فأنى ينصفون، ومدّعو الإنصاف والحياد والعلمية منهم أخبثهم وأمعنهم تضليلاً وأشدهم فسادًا وإفسادًا في الدين والعقل والفكر، لم تغز أراضى الإسلام إلا بهم، ولكنها لم تغز بالشتّامين الوقحين منهم لأن ذلك منهم حاجز يحجب عنهم قبول الناس لكلامهم. المبحث التاسع مشاركته في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود وهذا المبحث من سيرته المشرفة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسوقه لأمرين: الأول: هو ارتضاء قريش كلها لتحكيمه ورأيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل البعثة وقد كانوا يسمونه الأمين مع ذكر أمانة الرسل في القرآن الكريم، ومقارنة ذلك بحال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو منهجنا في عرض السيرة ومقارنتها. ¬

(¬1) جمهره الأمثال لأبى هلال العسكرى (1/ 205).

الثاني: توضيح مشاركة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل مكة، وحضوره في قضاياها حضورًا بناء يؤكد إيجابيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التعامل مع من حوله من أهل مكة كافة، حتى وصل إلى هذه الدرجة العالية في فصله في قضاياهم، والتحمل معهم لما ينزل بهم وهي نقطة الانطلاق في الرد على "وات" ومن لف لفه من المستشرقين، من تعتيمهم على هذه الفترة من حياته الشريفة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محتجين بما ورد في سورة الضحى، بطمس الواقع وليِّ الحقائق. وبداية الحديث التي اخترناها في بناء الكعبة موغلة في القدم إلى إبراهيم - عليه السلام - لربط الوقائع واتصال الأحداث. وهي كما ذكر أصحاب السير والمحدثون (¬1) أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم - عليه السلام - ببناء الكعبة، وعرض - عليه السلام - الأمر على ولده إسماعيل - عليه السلام - الذي نشأ في هذا الموضع حيث تركه رضيعًا مع أمه في هذا المكان حتى حفر لهم جبريل زمزم بعد أن كادوا يهلكون من العطش، وشب إسماعيل في جُرهم التي نزلت بجوارهم لما رأوا الماء وتزوج منهم، وكان إبراهيم - عليه السلام - يطالع تركته تلك بين الحين والآخر حتى أمره الله سبحانه في هذه المرة ببناء بيته، ورفع قواعده وعرفه مكان البيت كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، وساعده إسماعيل عليهما السلام في ذلك، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، وكان يبني ساقًا كل يوم، حتى إذا بلغ مكان الحجر، قال لابنه: ابغني حجرًا، فالتمس حجرًا حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال له ابنه: من أين لك هذا؟ قال جاء به من لم يتكل على بنائك، جاء ¬

(¬1) البيهقي، "دلائل النبوة" (55/ 2)، والطبري في تفسيره (69 - 71/ 3)، والحاكم في المستدرك (9/ 273)، باب ذكر إبراهيم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه الأزرقي في تاريخ مكة (24 - 25/ 1).

به جبريل - عليه السلام - من السماء حتى أتمه. وروى البيهقي أيضًا أنه عندما انهدم البيت بنته العمالقة، وعندما انهدم للمرة الثانية بنته جرهم، وعندما انهدم للمرة الثالثة بنته قريش ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل شاب ... (¬1)، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود إلى مكانه اختصموا فيه، فقالوا نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أكد ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السير أن قريشًا اختلفت في وضع الحجر الأسود في مكانه، قالوا: اجعلوا بينكم حكمًا، فقالوا أول رجل يطلع من الفج، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا أتاكم الأمين، فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فرفعوا نواحيه، فوضعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكانه المطلوب، هذا علاوة على ما كان منه في نقل الحجارة مع العباس في بناء الكعبة إذ شاركهم بأعظم جهد ممكن وأخلصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى أن جاء دور الحجر الأسود كما في القصة الآنفة الذكر ولولا حكمة الله وهداية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا الحل، بعد اختيارهم وارتضائهم لقضائه بينهم لسفكت الدماء، فقد روي أنهم اختلفوا إلى حد أن قرَّب بنو عبد الدار جفنة مملؤة دمًا، ثم تعاهدوا هم وبنو عدي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا دون أن يردها إلى الوفاق رأي أو تدبير، حتى كان خمود نار الفتنة على يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬2). ونعود إلى ما دعانا إلى ذكر هذا المبحث، وهما الأمران اللذان ذكرنا في البداية: والأول: هو ارتضاء قريش عن بكرة أبيها لتحكيمه ممثلة في رؤساء بطونها وقبائلها، والعمل بما رأى، لكونه كان الأمين عندهم. ¬

(¬1) البيهقي، "دلائل النبوة" (56 - 57/ 2)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (458/ 1) وصححه وأقره الذهبي. (¬2) انظر ابن اسحاق، ابن هشام، "السيرة النبوية" (126 - 127/ 1)، تحقيق محمد فهمي السرجاني وخيري سعيد ط المكتبة التوفيقية.

أما كونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محل رضا هؤلاء الكفار آنئذ فهو دليل على كونه قد ساهم في أعمال كثيرة، وقام فيها بالأداء العالي، ولم يقصر فيما أسند إليه، بل بلغ فيه الدرجة القصوى التي تدل على أعلى درجات الأمانة؛ لأن الدرجة العادية كانت - لا شك - لكثير من قريش، ولم يطلق على واحد منهم هذه التسمية، بدليل أنه لو طلع آخر غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وارتضوا حكمه فرضًا، فإنهم لن يقولوا جاءكم الأمين. أما أمانة الرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في القرآن الكريم، فقد صرح بها في غير لبس على لسان الرسل عليهم السلام أنفسهم، فقد جاء في ذكر سيدنا نوح - عليه السلام - قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 105 - 107] وكذلك في حق هود وصالح ولوط وشعيب وموسى (¬1) عليهم السلام ونستدل بها على أمانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه نذكر اثنين لأهميتهما: الأول: أن سياق القرآن الكريم يدل على أن الله تعالى أمر المرسلين بأن يذكروا وينبهوا أقوامهم بأنهم أمناء في قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 125]، أما الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يوجه إليه ذلك الأمر، بل الكفار هم المخاطبون له ابتداء بالأمانة، ومن ثم لم نجد في القرآن الكريم قوله للرسول: إني لكم رسول أمين، لأنهم هم من أطلقوه عليه فلم يكن بحاجة إلى تذكيرهم به فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك أعلى درجة بتوفيق الله ورعايته سبحانه. والوجه الثاني: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد ولد آدم، فكان بالبرهان أعظمهم أمانة وأعلاهم خلقًا. ¬

(¬1) في قصص الرسل السابقين في سورة الشعراء، أما موسى - عليه السلام - ففى سورة الدخان {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)}.

فدل هذان الوجهان فقط على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظم الرسل وأعلاهم على الإطلاق أمانة، وبالتالي سيد الدنيا والآخرة في ذلك وغيره. وهذا الكلام غصة في حلق المستشرقين قبل غيرهم بالبرهان العقلي والدليل المادي الواقع الذي لا ينكره أولو الألباب من غير تعصب ولا هوى. وأمانة الرسل يراد بها أمران: الأول: أمانتهم بين أقوامهم قبل تبليغهم الرسالة، وهي دليل على الصدق. الثاني: الأمانة يحتمل أن يراد بها أنه أمين من جانب الله على الأمة التي أرسل إليها، إذ لا يرسل الرب من ليس أمينًا عنده ليبلغ أمانته سبحانه إلى الناس. ويَجمُل أن نشير إلى حاصل كلام الطاهر بن عاشور في تفسيره لتلك الآيات حيث يقول: وجملة: "إني لكم رسول أمين" تعليل للإنكار أو التحضيض وهو في قوله: {أَلَا تَتَّقُونَ} فإن {أَلَا} هنا للإنكار أو التحضيض على الإيمان، أي كيف تستمرون على الشرك، وقد نهيتكم عنه وأنا رسول لكم أمين عندكم. وكان نوح موسومًا بالأمانة لا يتهم في قومه، كما كان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلقب الأمين في قريش. قال النابغة: فألفيت الأمانة لم تخنها .. ... كذلك كان نوح لا يخون وتأكيده بحرف التأكيد {إِنِّي} مع عدم سبق إنكارهم أمانته؛ لأنه توقع حدوث الإنكار، فاستدل عليهم بتجربة أمانته قبل تبليغ الرسالة، إذ أن الأمانة دليل على صدقه فيما بلغهم من رسالة الله، كما قال هرقل لأبي سفيان - قبل إسلامه -: فهل كنتم تتهمونه

بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ - يعني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال أبو سفيان: قلت: لا! ... إلى أن قال هرقل: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا! فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (¬1). فكانت حكاية نوح تسلية للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما حدث من قومه، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يكذبونه كما ذكر القرآن الكريم تثبيتًا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذهابًا للحزن عنه حيث قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، ويحتمل أن يراد به أمين من جانب الله تعالى على الأمة التي أرسل إليها، والتأكيد أيضًا لتوقع الإنكار منهم (¬2)، تلك الأمانة التي تدلنا على صدق الرسول في الوحي وغيره مما أخبر به، هي رد قاطع على "وات" في هذيانه من بدايته إلى نهايته. الأمر الثاني: الذي سقنا بسببه هذا المبحث، وهو مشاركته أهل مكة حتى وصل إلى هذه الدرجة بينهم. أشرنا في الأمر الأول إلى أن ارتضاءهم لرأيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتنفيذهم له لم يكن من فراغ، أو انكفاء على الذات، أو مقاطعة أو انشغال عن أحداث المجتمع، بل جاء إسهام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القضايا الكبرى وغيرها التي عاشتها مكة آنذاك مغطيًا شتى مساحات العمل البشري، عاملاً في كل اتجاه، حتى قالت له خديجة - رضي الله عنها - «والله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتَصْدُقُ الحديث، وتحمل الكلَّ، وتَكسِبُ المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» (¬3) فكان يبني كل هذه النشاطات عبر شخصية قادرة على التصدي ¬

(¬1) رواه البخاري (6)، كتاب بدء الوحي. (¬2) انظر العلامة بن عاشور، "التحرير والتنوير" (158 - 159/ 19). (¬3) البخاري، (4572).

لكل مشكلة، والإسهام الايجابي الفعال الذي من شأنه أن يعيد حقًا، أو يقيم عدلاً، أو يواسي ويقف ويعين إلى آخر ما ذكرت خديجة عن إسهاماته الفذة غير المعهودة في تلك البيئة حتى لقبوه بذلك، وأودعوه أماناتهم، وهم يخالفونه في الدين، فقد ترك علي بن أبي طالب في الهجرة ليرد للكفار أماناتهم التي استودعوه إياها إذ لم يكن مثله أحد يمكن الثقة فيه مع مخالفتهم له. وكان عمله في بناء الكعبة، وإيقاف نزيف الدم المنتظر، ووأد الفتنة أحد الأنشطة التي قام بها. نأتي لتعليق "وات" على هذه الجزئية لنناقشه فيها: و"وات " كما دللنا بالمواضع التي ذكرنا من قبل لم يترك شيئَا من حقائق السيرة إلا حاول بكل ما أوتي أن يلويها ويغيرها، ويذهب بها بعيدًا عن سياقها، ويدمر معانيها، وما لم يستطع أخفاها كأن لم تكن، ولم يقرأها كأن على بصره كما على قلبه غشاوة، ونبرهن على قليل من فيضه بهذه الجزئية، فهو لم ير في الفترة من زواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخديجة - رضي الله عنها - إلى أن أتاه الوحي إلا ثلاث آيات من سورة الضحى، وتلخيص كلام "وات"، وهو نفس كلام "بروكلمان" (¬1) أنه لا يصح في هذه الفترة من معلومات نستدل بها عليها، إلا ما حدث فيما بعد، مثال ذلك آيات في سورة الضحى، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} ويقول وستأتي إشارات أخرى عن هذه السنين المجهولة في سياق الحديث. ¬

(¬1) ولد بمدينة روستوك بألمانيا، درس الآرامية والسريانية والعربية والحبشية، درس على يد نولدكه ومارتن فيلبى، ظهرت الطبعة الأولى من كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»، عام 1939 م، والطبعة الإنكليزية 1947 م، له العديد من الدراسات خاصة في مجال التحقيق.

فقل لي بربك بأي شيء يوصف هذا الكلام، لم ير "وات" في هذه السنين المجهولة إلا يتمه وضلاله وفقره، أكثر من خمسة عشر عامًا. ويقال، كيف يكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد تزوج ويطلق عليه يتيم، هذا هزل وتنكيت في مقام الجد والبحث، ثم نعيد ما قال في الوصف الثالث، وهو فقره كيف يكون فقيرًا بعد الزواج كما يدعي أن هذه الآيات هي التي توضح تلك الفترة من عمره الشريف، وهو القائل قبل قليل في الصفحة السابقة، إنه بزواجه قد وضع قدمه على أول درجة على الأقل من درجات النجاح الدنيوي. (¬1) ثم أنّى له الضّلال، وقد ذكر أنه بزواجهِ بخديجة، بدأ الانتظام في التردد على ورقة بن نوفل وظهرت آثار التعاليم المسيحية على اتجاهه فيما بعد (¬2)، إلا أن يكون هذا التأثير المسيحي الذي يهلِّل له هو ذلك الضَّلال الذي ظنَّ وقوعه فيه في هذه الفترة، وكيف يشجعه ورقة، وتشد خديجة من أزرهِ ليثبت على هذا الضَّلال. ثم ننظر من وجهة أخرى تكشف جانبًا غريبًا من تفكير "وات" ومنهجه وهي أنه بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان يخبرنا بهذا البحث أقصد الهذيان، ولم يأخذ بقول من عاشروه ونقلوا سيرته، وتتبعوا أخباره، وهو يعتمد كتبهم وينقل منها، ألم يتكلم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشيء خمس عشرة سنة، ولم يبع ولم يشتر ولم يعاشر، ولم يشارك في شيء حتى سمي بالأمين، ترى هذا الوصف يوسم به في يوم وليلة، أم أنه نتيجة احتكاكات طويلة، ومعاشرات ومعاملات ومصادقات، وإعطاء وأخذ ورد ومواقف كلامية ونفسية، وعلاقات اجتماعية واقتصادية، حتى يقال ذلكم الأمين الذي ليس مثله أحد. ¬

(¬1) "وات"، "محمد في مكة" (100)، ترجمة د. عبد الرحمن الشيخ وآخر. (¬2) 51 - 52 Ibid pp انظر عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة" (65).

إن لقب الأمين علامة على مشاركته، وعلامة كذلك على المدى الذي أوصلته إليه هذه الإسهامات والأخلاق فيها، وإلى أي علو وصل سموه الخُلُقي والسلوكي، قد يقال إن المسلمين في ترجمتهم له وكَتبِهم لسيرته هم من أطلقوه، والرد إن "وات" يعلم قبل غيره أن من أطلق هذا الوصف هم الكفرة المناوئون له. وقد أشرنا إلى أن هذا الوصف إنما هو من تربية الله للمصطَفينَ من عباده، وإلا كيف ذكر عن الأنبياء السابقين، وأشار أهل الجاهلية إليه كما ذكره النابغة في شعره عن نوح - عليه السلام - والقرآن الكريم كتاب هداية عقيدة وشريعة ليس كل اعتنائه منصبًّا على ذكر تفاصيل حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحظة بلحظة لا يعقل هذا له وإنما يترجم بقدر العون على الدعوة بعد التصديق بالرسالة والإيمان بالوحي إذ هو الوسيلة لتلك الأهداف، ومن ثم يشير إلى رؤوس القضايا والملامح العامة والتي تدل على ما تحتها وما وراءها دلالة باهرة لتلك الوسيلة مع الإسهاب في الهدف والغاية. ومن ذلك ما صادفه "وات" لا محالة في أول ما نزل من الوحي قوله تعالى للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 5] فهذا الثناء الجامع يدل على ما تحته من جزئيات الأخلاق كافة، فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما شرحنا في الفصل الأول حاز بهذه الآية جميع الأخلاق الفاضلة، وفي نفس الوقت حصل من كل خلق أعظمه وأعلاه، وهذا الخلق العظيم يضادّ تمامًا أن تكون هذه السنوات الطويلة مجهولة، والتي توازي أكثر من ربع عمره الشريف حتى آتاه الوحي بإرهاصاتها، ومشاركاته وإسهاماته دون أن يَرُدَّ هذا الثناء مشركو عصره، ومقاتلوه ومناوئوه، وأن يُظهروا كذبه بأدنى مخالفة، وأقل تكلفة من ثمن اللجوء لحربه والتنكيل والاستهزاء والإيذاء له ولأصحابه، إذ لو ثبت كَذِبُهُ حاشا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خلق واحد لقضي على الرسالة في مهدها، ولعيَّره المشركون بذلك ولصُدَّ كلُ الناس عن الإيمان بدعوته بإثبات

اختلاق القرآن الكريم، وادعاء الوحي. لا أظن في هذه العجالة يمكن أن يبقى لـ"وات" متنفس يهذي به مرة أخرى ولكنها الاستماتة في الدفاع عن الباطل، وإن حماية الكفرة من أمثاله أن يدخلوا في الإسلام ما زال يحمله على نفث سمومه في كل شيء من الرسالة والرسول، وبكل صفاقة يهز إيمان المسلمين مع ذلك، ولا يرعوي عن استمراره في الكتابة بما يعلم تناقضه واضطرابه ومجافاتة للحقيقة.

الفصل الثاني البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم إرهاصا بنبوته

الفصل الثاني البشارات بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إرهاصًا بنبوته

تمهيد

تمهيد وهي البشارات التي جاءت عمن سبق من الأنبياء عليهم السلام، أو من أهل الكتاب، أو من العرب، وهذه البشارات نذكر منها شيئًا مما ذكرته كتب أهل الكتاب، أو جاء في السُنَّة المشرفة، ثم نذكر ما ورد في القرآن الكريم ليؤكد ذلك كله الرد على "وات" في إثبات الرسالة وصحة النبوة لسيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

المبحث الأول بشارات الأنبياء بالرسول صلى الله عليه وسلم والمصادر

المبحث الأول بشارات الأنبياء بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمصادر يقول الدكتور أكرم العمري: وقد وقع التحريف في نسخ التوراة والإنجيل وحذف منهما التصريح باسم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا توراة السامرة، وإنجيل برنابا الذي كان موجودًا قبل الإسلام، وحرَّمت الكنيسة تداوله في آخر القرن الخامس الميلادي، وقد أيدته المخطوطات التي عثر عليها في منطقة البحر الميت حديثًا، فقد جاءت في إنجيل برنابا العبارات المصرحة باسم النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ما جاء في الإصحاح الحادي والأربعين منه، ونص العبارة: ([29] فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس [30] فلما التفت آدم رأى مكتوبًا فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله) وفي موضع آخر منه هذه العبارة (163: 7)، أجاب التلاميذ: يا معلم من عسى أن يكون ذلك الرجل الذي تتكلم عنه الذي سيأتي إلى العالم، أجاب يسوع بابتهاج قلب: إنه محمد رسول الله). ونذكر مثل هذه البشارات في إنجيل برنابا في مواضع كثيرة - وهو مطبوع - وهذه العبارة المشهورة عند النصارى اليوم لم تترجم من السيريانية إلى العربية الترجمة الصحيحة كما حقق ذلك الأستاذ / عبد الأحد داؤد، وهي في إنجيل لوقا (2: 14). والحق إذن أن نسخ الكتب السماوية المتداولة خلال القرون الثمانية بين علماء أهل الكتاب من لدن القرن السادس الهجري، وما قبله كذلك تعرضت لحذف اسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحذف النصوص الواضحة الدلالة على صفاته، كما يتضح ذلك من النقول التي أوردها

العلماء المسلمون في كتبهم مثل ابن قتيبة والماوردي والقرافي وابن تيمية وابن القيم؛ مما يشير إلى محو أهل الكتاب ذلك من كتبهم إثر المجادلات الدينية، واحتجاج المسلمين بها عليهم، ولكن الكلام كما هو معلوم قد حوته مجلدات ضخام لا تعد ولا تحصى، تبين ما نحن بصدده وهو ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وكان يقرأ في الكتب المتقدمة - كان يقول إن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] هي في التوراة: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفا) (¬1). قد يرد أحدهم هذا تحيز من مسلم لرسوله، والرد الأول إنهم ما كانوا ليكذبوا له، ومن فعل ذلك ردت روايته، وتبوأ مقعده من النار، والكذب لم يكن بتاتاً من أخلاقهم كما هي شهادة أعدائهم قبل علمائهم وعوامهم، وإنما يرمي به من يرمي غيره بالكذب لتأصل ذلك فيه. الثاني: أن ذلك انتشر بين أهل الكتاب وردهم على شخص غير شخص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهل بكثير من ردهم على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خاصة وقد نقلت كتب التاريخ حريتهم في المناظرة والرد والكتابة ضد الإسلام من أيامه الأولى. ¬

(¬1) صحيح البخاري (4838)، كتاب تفسير القرآن الكريم، باب إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، سورة الفتح (912)، (2125) كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق (370)، طبعة ابن حزم.

المبحث الثاني إرهاصات النبوة الواردة في السنة المشرفة

المبحث الثاني إرهاصات النبوة الواردة في السنة المشرفة حيث نذكر شيئًا منها .. 1 - روى ابن إسحاق في ضمن ما أخبر به اليهود برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يهوديًا كان من جيران بني عبد الأشهل - من الأنصار - حدثهم عن البعث والجزاء فاستنكروا ذلك، وطالبوه بآية عليه، فقال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيديه جهة مكة واليمن، فقالوا: ومتى تراه؟ فنظر إلى سلمة بن سلامة بن وقش وكان أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). 2 - ونذكر هذه القصة لحبر آخر من أحبار اليهود، ونسردها كلها لما تحتويه من الأمور المهمة التي تظهر صدق الرسالة، وفي نفس الوقت الرد على شبهات المستشرقين والمبشرين والدجالين، تاركين موضع الاستدلال والاعتبار لحروفها ومعانيها، وقد ذكر أيضًا ابن اسحاق في السيرة أنها كانت من أسباب إسلام "ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد ¬

(¬1) ابن هشام "السيرة النبوية" (270/ 1) وسنده حسن، حيث صرح ابن اسحاق بالتحديث، وقد رواه غير واحد من طريقه، مثل: أحمد (467/ 3)، والهيثمي "مجمع الزوائد" (230/ 8)، والبيهقي "دلائل النبوة" (78 - 79/ 2)، وهو في سيرة الذهبي (74)، وقد صحح الخبر كل هؤلاء وغيرهم، وقد نقله د. مهدي رزق الله "السيرة النبوية" (142 - 143) كما قدمنا. وانظر محمد بن رزق طرهوني "السيرة الذهبية (238 - 239/ 1).

بن عبيد" من يهود بني هدل، إخوة بني قريظة، وذلك عندما حاصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني قريظة في غزوة الأحزاب عندما غدروا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين، حتى كادت أن تستباح المدينة المنورة، ويقضوا على الدعوة وصاحبها، وها هي ذي الرواية، يقول ابن اسحاق بسنده عن شيخ من بني قريظة: قدم علينا رجل من يهود أهل الشام يقال له ابن الهيِّبان، وذلك قبيل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرهم، فما رأينا رجلاً لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيِّبان فاستق لنا، فيقول لا والله، حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعًا من تمر، أو مدين من شعير، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حَرَّتنا، فيستقي الله لنا، فوالله ما يبرح مجلسه، حتى يَمُرَّ السحابُ ونسقي، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث، قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميِّت، قال: أيا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلم، قال: فإني قدمت هذه البلدة أتوكَّف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجَرُه، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تُسْبَقُنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذرارى والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحاصر بني قريظة، قال هؤلاء الفتية، وكانوا شبابًا أحداثًا: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيِّبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا، وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم (¬1). ¬

(¬1) ابن هشام "السيرة النبوية" (137 - 138/ 1)، ونسب المحققان صحة الحديث للشيخ الألباني "صحيح السيرة" (61)، وكذا ذكره الطرهوني "السيرة الذهبية" (239 - 240/ 1) وصححه وذكره د. مهدي رزق "السيرة النبوية" (142)، وذكر في هامشه ما يقوي الحديث ويجعله محتجًا به.

3 - وجاء في صحيح الأخبار أن الله تعالى لما أراد هدى "زيد بن سعنة" - الحبر اليهودي - قال: "إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا"، وجهل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تأكد من هاتين الخصلتين (¬1). 4 - ومما يجدر الإشارة إليه أيضًا إسلام الحبر الكبير "عبد الله بن سلام" واسمه في اليهودية الحصين بن سَلاَم، حيث قال فيه اليهود قبل أن يعلموا بإسلامه لما سألهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟ " قالوا سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا، فخرج عليهم، وقال: يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا كذبت ثم واقعوا بي، قال: فقلت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، وأهل غدر وكذب وفجور! قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها (¬2). ونختم هذه العجالة عن اليهود بآية أخرى من القرآن الكريم، تثبت علم اليهود بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانتظارهم له، وأن ذلك كان مشهورًا بينهم، وما أخفاه بعد ذلك إلا كبراؤهم حسدًا وبغيًا، ويأتلف بذلك الوارد من القرآن الكريم مع السنة النبوية، وتتأيد به الروايات، وهذه الآية الكريمة هي قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، وقد نزلت في يهود المدينة، حيث كانوا يعرفون أن زمان بعثة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اقترب، ¬

(¬1) انظر الذهبي "السيرة" (91 - 93)، ود. مهدي رزق الله راجع ما نقله من هامش سيرة الذهبي (143). (¬2) ابن هشام "السيرة النبوية" (114 - 115/ 2)، وقد أخرج البخاري هذه القصة مختصرة برقم (3329)، وقد رواها ابن هشام عن ابن إسحاق أيضًا.

وكانوا يزعمون أنه منهم، ويتوعدون به العرب، وقد بين الله تعالى كما ذكرنا من قبل أنهم يعرفونه بصفاته التي ذكرت في كتبهم كما يعرفون أبناءهم، وإنما أنكروا نبوته بعد ظهوره، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]. وقد ورد في ذلك قول رجل من الأنصار: "إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه، لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نِلنَا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم" (¬1). ¬

(¬1) ابن هشام "السيرة النبوية" (1/ 136)، وحسنه الشيخ الألباني في فقه السيرة (146).

المبحث الثالث إخبار النصارى به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمصادر التى اعتمد عليها «وات» ونذكر شيئًا مما ورد في السنة عن النصارى في البشارة به، لنعود به إلى منهجنا في ذكر ما ورد في القرآن الكريم، ومقارنة ذلك وتحليله لنستكمل بكل جزئية ما أخذنا به أنفسنا من دراسة السيرة: 1 - وأول ما نبدأ به لطرافته مع الاختصار قصة سلمان الفارسي - رضي الله عنه - فقد أخبر - رضي الله عنه - في قصة إسلامه الطويلة أن راهب النصارى في عمورية عندما حضرته الوفاة طلب منه سلمان أن يوصيه، فقال الراهب: أي بني والله ما أعلمه بقى أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه قد أظلك زمانه". ثم قص سلمان خبر قدومه إلى المدينة واسترقاقه، ولقائه برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين الهجرة، وإهدائه له طعامًا على أنه صدقة فلم يأكل منه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم إهدائه له طعامًا على أنه هدية وأكل منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه، وإسلامه على إثر ذلك. (¬1) ¬

(¬1) إسناده حسن، وهو عند ابن إسحاق (ابن هشام 138 - /1، ومسند أحمد (441 - 444/ 5)، وطبقات ابن سعد (75 - 80/ 4)، والحاكم في المستدرك (16/ 2)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأما البخاري فقد ذكره عند أمره سلمان أن يفك نفسه من الرق بالمكاتبة (الفتح) (280/ 9)، ك البيوع / ب، شراء المملوك من الحربي، وقد ذكره د. أكرم العمري "السيرة النبوية الصحيحة" (121 - 122/ 1)، وسقط منه بعد: ولكنه أظلك زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم - عليه السلام -، يخرج بأرض العرب، وكذا ذكره مهدي رزق الله "السيرة النبوية" (142)، وغيرهم.

2 - قصة هرقل ملك الروم، وقد رواها البخاري ومسلم وغيرهما، فقد أرسل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابًا مع دحية الكلبي - رضي الله عنه - إلى قيصر الروم يدعوه إلى الإسلام، فلما قرأ رسالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحث عمن يعرفه، فدعاهم لمجلسه مع الترجمان فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يدعي أنه نبي؟ فقال له أبو سفيان: أنا أقربهم نسبًا، فأدناه وقرب أصحابه منه لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، فأخذ يسأله عن صفات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحواله، كما ورد في الحديث الطويل المشهور، ومنها علم أنه النبي المرسل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال في ختام كلامه لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه". (¬1) 3 - إسلام ورقة بن نوفل، وهو ما يصدم "وات" في آرائه التي يؤكد بها تأثر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باليهود والنصارى، وكذلك تأثر تعاليم الإسلام باليهودية والنصرانية، وقد ذكرنا هذه القصة في منهج التأثير والتأثر، أما إسلام ورقة الذي تعامى عنه "وات"، والذي يمثل منهج الانتقاء مع التدليس والغش للقارئ، فقد جاء في مسند أحمد، وهو من المصادر التي رآها واعتمدها "وات" فيما كتب، ولا شك قرأ فيه ما يتعلق بسيرة ورقة التي اخترع جزءًا كبيرًا منها من بنات أفكاره، ووحي شيطانه، ولم يستح وهو يذكر ذلك، وسنشير إليه مرة أخرى في بدء الوحي. يقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يثبت أن ورقة من المسلمين الأوائل:» قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض «(¬2)، وفي رواية أخرى:» قد ¬

(¬1) البخاري "الصحيح" 6/ 1 بدء الوحي، ومسلم "الصحيح" 1395/ 3 كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل، ورواه ابن حبان في صحيحه، و"موارد الظمآن" 1628/؟ بإسناد صحيح، كما قال محقق زاد المعاد طبعة الرسالة، وسنعود في الكلام على عالمية الدعوة إلى هذا الموضوع، والرد على "وات" فيه إن شاء الله تعالى. (¬2) أحمد "الفتح الرباني" (174/ 20) وحسّن الساعاتي إسناده.

رأيته فرأيت عليه ثياب بياض أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس «(¬1)، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين «(¬2) وقال:» يبعث يوم القيامة أُمَّة وحده «(¬3) ويبدو من سياق الأحاديث أنَّ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سئل عن ورقة ذلك الذي تنصر ثم أدرك أول البعثة المحمدية وظنوا عدم إسلامه فكأنهم سبّوه على تنصره، وقالوا هو من أهل النار، فإذا بالنبي يوحى إليه في المنام - ورؤيا الأنبياء حق - أن ورقة من أهل الجنة فبشرهم بإسلامه وأخبرهم بالبرهان على ذلك عن الله تعالى، وهو ما يؤيده قول ورقة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، تُرَى بنصره على تعاليم النصرانية والوثنية، أم ينصره كما قال فيما جاء به أي من الإسلام ونضيف إليها: أ - مفاجأة ورقة بن نوفل بكلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث قال له: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيه جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» أو مخرجي هم؟ «قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك حيًا أنصرك نصرًا مؤزرًا. وافتراض المفاجأة بسبب كلام ورقة نفسه، حيث قال من ضمن ما قال إن هذا هو الناموس، ولم يحدث حتى في قول "وات" أن ورقة أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما كان يتردد عليه هذا التردد المزعوم المفترى من "وات" كما سنبين إن شاء الله ذلك ذكر هذا الناموس، وإنما فوجئ به ورقة في كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما ذكر له أوصاف ذلك الذي أتاه، فلم يتمالك ورقة نفسه أن أخبره أن هذا الملك هو الذي كان ينزل بالوحي على الأنبياء. ¬

(¬1) ابن كثير "البداية والنهاية" (10/ 3) عن أبي يعلى وحسنه. (¬2) رواه البزار من طريق عائشة رضي الله عنها وقال ابن كثير عن إسناده: وهذا جيد الإسناد، وأخرجه الحاكم في المستدرك (409/ 2) من حديث عائشة رضي الله عنها وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) الطبراني كما في المجمع (416/ 9) وقال الهيثميي ورجاله رجال الصحيح، وانظر د. مهدي رزق "السيرة النبوية" (159).

ب - أما المفاجأة الأخرى فهي التمني، حيث كان رد فعل ورقة على كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكون جذعًا عند إخراج قومه له من مكة، ولو كان له به علم أو سبق حديث بينه وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكان رد فعله عاديًا لا تمني فيه ولا رجاء إذ هو قد علم محمدًا ذلك من قبل وشد أزره، ولما فوجئ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضًا بهذا الخبر الذي لا مدخل للعقل والفهم فيه، بل هو مما يعلمه ورقة من الكتاب أي الإنجيل الذي كان يقرأه. وهاتان المفاجأتان قد وضعتا ورقة في مكانه الصحيح الذي يبحث عنه، وهو الدين الحق الذي يود اتباعه، حيث وجد من نزل عليه ناموس الأنبياء، ودلت أوصافه على صدقه وعلى كونه هو النبي المنتظر الذي يود ورقة أن يفديه بروحه ويقف دونه بنفسه. وهكذا يتضح من كلام ورقة الذي يعرفه "وات" ويستدل به لكن للأسف على طمس الحقائق وإخفاء إسلامه، وإيمانه بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولنا عود نستكمل به كلام ورقة في الاستدلال على الوحي حيث ذكر ذلك "وات" مستدلاً به على باطله بما يخالف العقل والنقل، أين الإشارة فقط إلى إسلام ورقة في كلام "وات"؟ وهنا سؤال نذكر به، وهو على أي المصادر إذن يعتمد "وات"؟ إذا تفحصنا بتأمل هذا الهراء منه ثبت أنه لا مصادر له، وأن ما رتب من مصادر إسلامية فهي غير معتمدة عنده مع أنه لا مصادر له سواها لأنه لم يكن هناك خواجات يكتبون السيرة ويؤرخون أيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده لأن الصحيح منها يرده "وات" ولا يحتج به، لأنه لن يصل به إلى النتيجة المعدة سلفًا، وأن الشاذ الباطل، والموضوع غير الصحيح هو مرتكزه بعد شيء آخر من التحريف والتلفيق ليخرج كما يريد، إذ ليس كل الباطل أيضا يسعفه في إثبات قضاياه. فماذا نقول في هذا البحث العلمي؟!! ومصادره .. نعود لاستكمال البحث ..

4 - إسلام النجاشي ملك الحبشة، وهو غير النجاشي الذي أرسل إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعوه إلى الإسلام، وقد أسلم هذا الملك بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة وإحساس قريش بالخطر من الأمان الذي أعطاه النجاشي للمسلمين حيث أقاموا مع خير جار في خير دار - كما تقول السيدة أم سلمة (¬1) رضي الله عنها والرواية الصحيحة تذكر أن القسيسين والرهبان الذين حضروا مجلس النجاشي وسمعوا القرآن انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق فأنزل الله تعالى: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬2) [المائدة: 82، 83] ولا شك أن مثل هذا الذي اجتمع عليه القرآن الكريم والسنة النبوية، والروايات الإخبارية لا يعدل عنه إذ لا يتطرق إليه ريب في صحته ولا تردد. وإلا تركنا الاحتجاج بكل أخبار هذا العالم. ويدل هذا الخبر بطوله حيث ذكره ابن إسحاق وابن هشام وغيرهما من المفسرين وحفاظ السير على إسلام هذا الملك العادل، وقد صلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الغائب (الجنازة) عندما جاءه خبر موته، وما كان ليصلي إلا على مسلم (¬3). ولم يكن العرب بأقل من غيرهم انتظارًا لمجيء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هذا العالم، وقد كان فيهم رفقاء ورقة بن نوفل في طلب الحق، مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة الإيادي، وكان هناك غيرهم كأبي ذر الغفاري، وعمرو بن عبسة وسواد بن قارب، وكان منهم كسواد من له علاقة بقضايا الجن إذ كانت معلومة عندهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ ¬

(¬1) ابن إسحاق، "السير والمغازي" (213 - 217)، ابن هشام، "السيرة النبوية" (217 - 219/ 1) بإسناد حسن إلى أم سلمة رضي الله عنها، وقد حسن إسناد الحديث الحافظ بن كثير، "السيرة النبوية" (11/ 2)، والحافظ بن حجر، "فتح الباري" (189/ 7) وغيرهما د. أكرم العمري، "السيرة النبوية الصحيحة" (174/ 1). (¬2) الرواية في تفسير الطبري بإسناد صحيح. (¬3) ابن القيم، "زاد المعاد"، ابن هشام، "السيرة النبوية" (222/ 1)، وقال المحقق إنه ثابت في الصحيح.

الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] وسمع منهم ما يدل على إرسال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهؤلاء مترجم لهم في الهامش (¬1). ونعلق على ما ذكرنا قبل الاتجاه إلى القرآن الكريم ما نبين به ذلك الموضوع وما ورد فيه فنقول: لقد أطلنا ذيل الحديث ببحث ما سبق حتى يكون دليلاً له قيمته عند مناقشة "وات" وغيره، حتى لا يقال إنها حادثة أو اثنتين لا يمكن البرهان بهما على ما نحدو بصدده، أما تعاضد الأدلة بكثرتها فإنه لا يدع مجالاً للّمز أو التهوين أو التأويل حتى لا يجد المنصف المتبع للأمانة العلمية إلا التسليم بصحة القضية. إن هذه الأخبار تفسر ما جاء في القرآن الكريم من ذكر هذه البشارات، وأن تعددها يظهر بما لا مجال للشك فيه صحة تفسيره لكثرة ما ورد في الكتاب العزيز وهذا فيه من الإفحام للمجادلين، وإظهار الحق ما يحملهم على الإيمان بنبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مقصد الكتاب الكريم من هداية البشر إلى الحق سبحانه وتعالى. ¬

(¬1) زيد بن عمرو بن نفيل العدوى أبو سعيد، مات قبل البعثة بخمس سنين وكان يوحد الله تعالى على دين إبراهيم وينكر على قريش ذبحهم لغير الله (انظر الإصابة)، قس بن ساعدة الإيادى البليغ الخطيب المشهور، كانت العرب تعظمة في الجاهلية وقد سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكمتة وهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية وأول من تؤكأ على العصا في الخطبة وأول من قال أما بعد (انظر الإصابة)، أبو ذر الغفارى: أصح ما قيل في إسمه جُندَب بن جناده من بنى غِفَار وأمه رملة بنت الوقيعة الغفارية وهو من أكابر الصحابة، أسلم بعد ثلاثة أو أربعة ثم إنصرف إلى بلاد قومه وأقام بها حتى قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة بعد الخندق خرج بعد وفاه أبى بكر إلى الشام ولما ولى عثمان إستقدمة وأسكنة الربذة فمات بها سنة إثنين وثلاثين (انظر الإستيعاب) (1 - 396)، عمرو بن عبسة السلمى، أبو نجيح، قدم مكة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بعاظ =وكان يقول أنا رابع الإسلام، ثم رجع إلى قومه بنى سليم ثم قدم المدينة بعد الخندق وكان يعتزل الأصنام في الجاهلية (معرفة الصحابة بتصرف)، سواد بن قارب الدوس كذا قال بن الكلبى وقال بن أبى حيثمة السدوس، قال أبو حاتم له صحبه، وكان شاعراً ويتكهن في الجاهلية قبل أن يسلم (انظر الإصابة).

وهذه الروايات كذلك تُثِبّت إيمان الموحدين في كل زمان بصحة تلك الرسالة، وأنها غضة كما أنزلت لم يمسسها من رجس المعاندين ما يدنسها أو يشينها، وأنها كالصخرة تتحطم عليها قرون الناطحين بالباطل، الرادين بالزور من القول لهذا الحق الباهر الصامد لهذه الهجمات المخبولة طوال هذا التاريخ. ونلاحظ أن هذه الروايات، خاصة من أسلم من أصحابها أنهم كانوا ذوي علم وشرف في أهلهم، علاوة على أن سيرهم قد وافقت إيمانهم، وأنهم افتدوا هذا الإيمان وذلك الرسول الداعي إليه بأرواحهم وأولادهم وأرضهم وأموالهم ورأيناهم في تلك المواقف التي تطير فيها الرءوس، وتزهق فيها المهج والأرواح ثابتي الجنان راسخي الأقدام يدفعون بصدورهم العارية عن هذا الدين، وذلك معلوم في الفتوحات وحروب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقتال من ارتد عن هذا الدين بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإنه لمن سوء طالع "وات" ألا يسوق شيئا من هذه الروايات، ومصادره إسلامية - بالطبع - وقد ذكرتها - حتى يتبين للقاصي والداني حقده الدفين على الإسلام، وكذلك يتضح لكل ذي عينين أنه لا إنصاف ولا حياد ولا علم وإنما هو يكيل التضليل بالمكيال الأوفى، ومن ثم نسوق هذه الأدلة من ضمن ما نسوقها له، تدليلاً على منهج المستشرقين في إخفاء الحقائق. وتبين هذه البراهين الدوافع لرفض الإسلام، والاعتراض عليه؛ ليتميز للقارئ قبل المؤرخ الأسباب المانعة من الدخول في الإيمان ليكون على بينة من أمره، وأمر أولئك الجاحدين المنكرين، وأقرب الأمثلة لليهود والنصارى قصة عبد الله بن سلام، وهرقل قيصر الروم، فالأول بين أن اليهود قوم بهت وغدر وخيانة وأنهم إن علموا بإسلامه بهتوه، وهذا ما صح به الحديث فكان المانع هو الكبر والمعاندة والجحود لهذا الحق، وأما قيصر فكما

قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ضن بملكه (¬1) فكان الملك وأبهته وبقاؤه في كرسي حكمه هو الحائل بينه وبين الدخول في الإسلام وبذا ينجلي خبث "وات" عند تغييره لهذه المعاني، وقلبه لتلك الحقائق مصورًا الواقع المعاش على خلاف ما هو عليه بدون أدنى خجل. ونختم هذا الكلام ببعض ما ورد في القرآن الكريم عن النصارى ليتوافق مع السيرة كما بينا به منهجنا، وقد ذكرنا بعض الآيات المتعلقة باليهود، وإن كانت الآيات تتعلق بأهل الكتاب عند بدء النبوة وإرهاصاتها، إلا أن اليهود كانوا قليلاً في مكة مقارنة بالنصارى، ولكن على أي حال، فإنّ خطاب القرآن لهم أي النصارى يدل على وجودهم بمكة أيامئذ، سواء كانوا مقيمين أو تجارًا مسافرين يسمعون تلك الأخبار التي تهم العالم، وتهمهم من مقدم الرسول المنتظر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وأول هذه الآيات هي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31]. والآية الكريمة في أول ما نزل من سور القرآن الكريم، فقد نزلت مبكرًا جدًا، ومن مضامين هذه الآية الكريمة: أولاً: وجود كتابيين مخاطبين في أول بعثة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة، وسواء كانوا مقيمين أو أتوا كتجار كما ذكرنا، ولكن يجمعهم أنهم ممن يشغلهم هذا الأمر من النبوة، وقد بينت الآية أن ما جاء به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوافق ما عند هؤلاء الكتابيين ليستيقنوا بصدق النبوة، ولا يكون عندهم ريب ولا شك في صحتها، لأن مثل هذه الأخبار كعدة ملائكة النار لا يستطيع اُمرؤ أن ¬

(¬1) قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية بن حبان عندما أرسل قيصر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مسلم: كذب عدو الله وهو على دين النصرانية، ابن حبان، "موارد الظمآن" (1628 / ح) بإسناد صحيح كما ذكره محققا زاد المعاد (128/ 1) انظر د. مهدي رزق، "السيرة النبوية" هامش (518).

يقولها إلا أن يكون اطلع عليها أو أُخبر بخبر الله الصادق عنها، ولا يكون ذلك إلا لنبي مرسل يؤيده ربه بذلك الصدق في الإخبار والقول، ومن ثم عندما يتيقن أولو الكتاب من صحة ما جاءهم به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكون ما في أيديهم يوافق ذلك عندها يكون هذا الأمر سببًا من أسباب ازدياد إيمان المؤمنين وثباتهم، خاصة وأن شهادة أهل الكتاب وعلمهم مما يقدره الكفرة وله عندهم المحل الأوثق. ثانيا: وما تضمنته الآية الكريمة وأشارت إليه هو الرد على السؤال الاستشراقي التشكيكي، وهو أليس إجابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يوافق ما عند أهل الكتاب دليلاً على تعلم ذلك منهم؟ وهذا السؤال ممن لا يمعن العقل والفكر فيما يلقى إليه، هذا إذا كانت نية الملقي سليمة. وهو أقل ما يوصف به ذلكم السؤال. أما الرد فهو .. أولاً: وهو كيف تطلب الآية من أهل الكتاب الاستيقان - وهو العلم بالدليل والبرهان - وترك الريب والشك ممن هو قد تعلم منهم ونقل عنهم، إنه لمضحك حقًا. ثانيًا: لماذا لم ينبر صاحب التعليم ليرد على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وهم في حالة استضعاف يخطفهم الناس - قائلاً أنا الذي أخبرتك وعلمتك ولم يحتاجوا إلى طعن في الإسلام أكثر من ذلك حتى يهدموه من أول الأمر بكذب صاحبه، وادعائه. ثالثًا: كيف يلقن الكتابيون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجة على صدق ما يدعو إليه ليحاربهم بعد ذلك به، ويتخذهم حجة له على إيمان الناس به، ودخولهم في الإسلام، وفهم كما ذكرت بعض

الروايات (¬1) أن أهل الكتاب سألوا هذا السؤال للمؤمنين عن خزنة النار تبكيتًا لهم، وتعجيزًا للمسلمين أمام الكافرين فأنى يكون ذلك؟ - والآيتان التاليتان هما قوله تعالى في سورة الأعراف، وهي كذلك من السور المبكرة النزول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف: 157، 158]. هاتان الآيتان الكريمتان جاءتا في سياق قصة موسى عليه السلام، استطرادًا بذكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتنبيهًا على أوصافه التي يعرفونها، وأمرًا بالإيمان به؛ إذ فيه بقاؤهم وظفرهم في الدنيا والآخرة. وقد خاطبت هذه الكلمات المنيرة أولئك الكتابيين في مكة، وهو خطاب لكل أحد من الناس جميعًا إلى يوم القيامة بأن هدايتهم، ورحمتهم وفلاحهم في اتباع هذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتزام شريعته ونلاحظ ما يلي: أولاً: أن الآية الأولى قررت أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكتوب عند اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل، وأنه معلوم لديهم معروف عندهم، وأن صفاته يجدونها في التوراة والإنجيل، حيث يأمرهم بمكارم الأخلاق التي افتقدوا، ويحملهم على عظيم الصفات التي تصلح بها ¬

(¬1) الترمذي عن جابر (3339)، وصححه ابن العربي، باب ومن سورة المدثر.

الدنيا والآخرة. ثانيا: قررت الآية وهو ما انبنى على أولاً، أن الكتابيين يهودًا ونصارى قد اتبعوا هذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العربي الأمي في مكة - على أي حال كانوا - في هذا الزمن المتقدم من عمر الدعوة الإسلامية، وقد نوهت الآية وامتدحت أولئك المؤمنين الذين عظموه واحترموه ونصروه واتبعوا القرآن والوحي النازل معهم. ولم يجادل أحد من المشركين أو أهل الكتاب من غير المؤمنين في هذه الآية، وصحة هذا القول والخبر، مما يدل على كونه واقعا غير قابل للرد، ثم يأتي مشككو آخر الزمان، ملفقو البهتان والقول الجزاف ليماروا فيما لم يمار فيه الكفار المشركون، ولا سلفهم إن كان من المعاندين اليهود والنصارى. وقد قررت الآية أنه النبي الأمي لئلا يكون لمبطل ممن يقول بعدم خروج النبوة من بني إسرائيل - خصامًا ومكابرة - لئلا يكون له وجه، أو لكلامه صفة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى للتأكيد على أنه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا سواه هو ذلك النبي الذي تحققت فيه تلك الصفات. والآية الثانية تضمنت الدعوة الصريحة إلى الناس جميعًا للإيمان بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي يؤمن بالله وكتبه، وأول مدعو إلى ذلك هم أولئك الكتابيون الذين عرفوا صفاته، وذكر في كتبهم، وعرفوه كما يعرفون أبناءهم، بحقائق وبشارات هي بشارات ونعوت النبي العربي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والآيات كثيرة في هذا السياق، مع تقريرات جديدة، وصور مختلفة ذكرها محمد دروزة في كتابه (سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صور مقتبسة من القرآن الكريم) (¬1)، وإن كان استشهادنا بالآيات ¬

(¬1) محمد عزة دروزة، "سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن الكريم" (335/ 1).

في محاولة لإعطائها وجوها أخرى من التفسير يحتملها النص العربي وموافقة الواقع، وإن كان هناك تفسيرات غير تلك التفاسير ذكرها المفسرون، وظن الباحث أنها من إثراء النص القرآني وإعجازه مهما اختلفت وتباينت عما نحن فيه. وتفسير جميع ما ورد ذكره يطول به البحث، وإنما نسوق ما يؤدي الغرض وتطمئن به نفس الباحث والقارئ، ولذا نختم بآيتين أو ثلاثة تعضيدًا لما سبق، وإظهار لإسلام أهل الكتاب في مكة. - والآية التي معنا هي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47]. والآية الكريمة مما نزل بمكة وهي متأخرة بعض الشيء وهو مناسب لمعناها إذ هي تصوير وتقرير لواقع مشاهد معلوم حين نزلت الآية الكريمة بوصفه، وهو أن الكتابيين يؤمنون بما جاء به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كانت ألفاظ الآية أن الذين آتاهم ربهم الكتاب يؤمنون به، وإن جادل مجادل بأن ليس كل أهل الكتاب آمنوا وأن ذلك مخالف للواقع، وطبائع البشر. فالرد أنه ليس كذلك بل كانت مكة بعد الفتح كلها مسلمة بدون استثناء، ومع ذلك يقال نعم ليس كل الكتابيين قد آمنوا بمعنى دخولهم الإسلام واتّباعهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكن بمعنى التصديق فمن صدق واتبع فهو مؤمن، ومن صدق وعاند، أو كتم فلا شك أنه يؤمن به، ولكن منعه من الاتباع ما منع الكفرة من ذلك كما أشرنا، فالكل يؤمن به بغض النظر عن اتباعه التصديق بما يدل عليه أو لا. ثم إن من آمن حجة لمزيد علمه وتبين الدلائل له على من لم يؤمن، فكأن الحجة بالإيمان قد شملت الجميع إذن، إذ ظهرت لهم براهين الصدق وعلامات البشارة به.

- الآية التالية هي قوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]. من سورة الإسراء، وهي من السور المبكرة في النزول نوعًا ما، وهي تحكي على تفسير ظاهرها مشهدًا واقعًا قبل نزولها، يبين حالة أهل العلم من الكتابيين عند تلاوة القرآن الكريم وسماعه، وهي توكيد لما قلناه من استجابة الكتابيين خاصة علماءهم للدعوة في هذا الوقت المبكر، وهي وصف لموقف هؤلاء الكتابيين من القرآن الكريم في سجودهم وبكائهم وخشوعهم إيمانًا به وتصديقًا لما جاء فيه وتلك الآيات جاءت في مقام التحدي والتقريع للكفار؛ معلنة أن جحودهم ومواقفهم من الإيمان بدعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا قيمة لها ولا اعتبار، إذ إن من له قيمة بالعلم يقف موقفًا تصديقيًا خاشعًا، ولموقفهم القيمة المهمة والاعتبار الكبير لأنهم هم من تصدقونهم، وهم موضع ثقتكم، وهذا يدل على أن هذه المواقف من الكتابيين كانت تقع على مرأى أو علم من الكفار؛ مما يعطي قوة صمود واستعلاء يؤيد الله بها الدعوة في مثل هذا الوقت العصيب (¬1). ولابد في نهاية ما أشرنا إليه من آيات من ذكر تلك الآية التي يحتج بها المهووسون المتعصبون من المستشرقين وأذيالهم هذه الأيام، ومنذ أن بدأ الاستشراق نفث سمومه، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]. وننوه بداية بهذه الحقيقة، وهي أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، مفهوم تمام الفهم عند عموم المخاطبين، وبالتالي لو كان في هذه الآية مطعن على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو الإسلام ¬

(¬1) محمد عزة دروزة، "سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صور مقتبسة من القرآن الكريم" (346 - 347/ 1).

معنى أو لفظًا لسمعنا بهذا الطعن، ولما سكتوا عنه في جملة ما يواجهون به هذه الدعوة؛ بل على العكس هو يواجههم بها دليلاً على صدق الدعوة، ولو كان فيها ما يمكن تصيده، والتعكير به على صفو الدعوة لما تأخروا أبدًا خاصة وقد حكى القرآن الكريم بدون ما وجل أو تردد كل اتهاماتهم للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وللإسلام. ومن ثم نجابه هؤلاء بالتفسير العربي للآية - والذي لا شك أنهم بعجمتهم لا يفهمونه من تلقاء ما تعلموه من العربية - إذ مهما تعلموا فلن يصلوا إلى عشر معشار سليقة العرب التي نزل القرآن بلسانهم، ولذا كان جهلهم بالأساليب العربية السبب الأول في هذا الخلط علاوة على سوء النية وفساد الطوية التي ظهرت على ألسنتهم في كتاباتهم ونقاشهم. وإلى تفسير الآية كما أشار إليه العلامة ابن عاشور حيث هو من توسع في ذكر ذلك فنذكره ملخصًا (¬1)، يقول: الفاء في قوله {فَإِنْ كُنْتَ} تفريع على سياق القصص التي جعلها الله موعظة لأهل مكة وتعريض أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من أمثالهم، وانتقل بهذا التفريع إلى أسلوب آخر تعريض لهم بشهادة أهل الكتاب على تلك الحوادث، وما في الكتب السابقة من الأنباء برسالة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالمراد ما أنزلنا هو المنزل الذي تفرع عليه هذا الكلام، وهو القصص الذي أنزل في هذه السورة. ثم إن الآية تحتمل معنيين، سواهما عرضة للتعكير عليه، والأخذ والرد والمعنيان اللذان تحتملهما الآية وهما في قوله {فِي شَكٍّ}، فإما أن تبقى الظرفية التي دلت عليها {فِي} على حقيقتها، أو أن تكون {فِي} للظرفية المجازية. ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور، "التحرير والتنوير" (284 - 286/ 1).

ويكون المعنى على الاحتمال الأول أن الشك أطلق وأريد به أصحاب الشك؛ أي فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك، أي يشكون في وقوع هذه القصص، كما يقال: دخل في الفتنة أي في أهلها، إذ لا يعقل أن يكون الرسول في شك مما أنزل إليه، فكيف يدعو لما هو شاك فيه، وذلك من وجهة أخرى ينافي عصمته في التبليغ عن الله تعالى، وقد علمنا قوله عن الله جل وعلا: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2]. ويكون معنى {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} أي سؤال تقرير وإشهاد لأنه لا يمكن أن يسألهم استفسارًا أو تعلمًا لنفي القرآن الكريم لذلك، ولأن القرآن الكريم نزل مهيمنًا على تلك الكتب، وشاهدًا للصحيح منها بالصحة، وللباطل منها بالبطلان، والقرآن ممتلئ من تلك التقريرات والشهادات، وكم بيّنَ بطلان عقائد اليهود والنصارى، وأظهر ضلالهم، فكيف يستفسر منهم عن علم شيء إلا أن يكون صحيحا عنده أنه في كتبهم بمثل ما جاء به القرآن الكريم، وأنهم لا يمكن في الواقع أن يكتموه، بل بدا من حالهم أنهم يشهدون بما علموه حقا، ومن ثم توجه إليهم طلب الشهادة. ويكون المقصود من الآية حينئذ إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعًا لمعذرتهم. والمعنى الثاني أن تكون {فِي} للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} [هود: 109]، ويكون سوق هذه المحاورة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على طريقة الإلقاء التعريضي التي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق، متى كان توجيه الكلام إلى من يظن نفوره منه كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. وهذا لا شك غير موجه للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما موجه للكفار على طريقة الحكيم فيمن يخشى

أن ينفر من سماع الحق، وكذلك يستخدم هذا الكلام رفقا بمن يقصد سوق الكلام إليه. وكلا الاحتمالين يلاقي قوله {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب، ولا يتحرجون من إعلانه والشهادة به كما ذكرنا. أما جملة {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فهي استئناف بياني لجواب سؤال ناشئ عن الشرط وجوابه، وهو فإن كنت في شك فاسأل، وكأن السامع يقول فإذا سألتهم ماذا يكون فيأتي كلام جديد مؤكد بلام القسم وقد " {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، وما تأكد هذا الكلام بهذين المؤكدين إلا لدفع إنكار المعرضين، إذ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس بحاجة لإعلامه بأنه على الحق، لأن من وحي الله له قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] وهو إعلام السائلين بطريق التعريض. وقوله {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)} تعريض بالمشركين أيضًا بأنه يحذر أن يكون منهم والامتراء هو الشك فيما لا شبهة للشك فيه. والآية التالية تزيد ما سبق توضيحا إذ هي أصرح في التعريض بالمشركين، وهي قوله تعالى {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)} وهي تقتضي أن الذين كذبوا وشكوا في آيات الله هم الكفار، وهم خاسرون في الدنيا إن بقوا على ذلك وخاسرون في الآخرة، وهي تقتضي أنهم هم المكذبون الشاكّون فلا يكونن أحد منهم؛ لأنه يكون حينئذ خاسرًا خسرانا مبينا. ويكون في النهاية حاصل المعنى: فإن كنتم شاكّين في صدق ما أنزلنا على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما أصاب المكذبين قبلكم، فاسألوا أهل الكتاب يخبروكم بأن ذلك صدق فذلك هو الحق الذي جاءكم من رب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا تكونوا شاكين، ولا تكذبوا بآيات الله فتكونوا خاسرين.

وهكذا يتضح ما جاء به النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحق الذي يشهد به أهل الكتاب ولا يستطيعون كتمه وإلا لما طلب من المشركين أن يطلبوا خبر ذلك منهم، وما كتم أو أخفى شيئا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما أصيب من أصيب إلا من قلة فهمه لكلام العرب وأساليبهم، ولكانوا أول راد له معترض عليه لو وجدوا مغمزًا في عربيته أو معناه. وهي في النهاية شهادة من أهل الكتاب على صحة رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصدق نبوته وأنها من عند الله جل وعلا، وقد جاء قوله تعالى دليلاً لذلك حيث يخبر بفرح أهل الكتاب بكلام الله، فيقول {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد: 36]. ونذيل هذا المبحث بكلام الإمام ابن تيمية حيث يقول: (والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم). (¬1) ثم قال: (ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يعلم من وجوه ...) أحدها: ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب. الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب ممن أسلم وممن لم يسلم بما وجدوه من ذكره بها. وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه، وأنه رسول الله وأنه موجود عندهم، وكانوا ينتظرونه، وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام حتى آمن الأنصار به وبايعوه. وقد أخبر الله بذلك عن أهل الكتاب في القرآن، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ ¬

(¬1) ابن تيمية، "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (340/ 1).

اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]. ومثل ما تواتر عن إخبار النصارى بوجوده في كتبهم، مثل إخبار هرقل ملك الروم، والمقوقس ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة. الثالث: نفس إخباره بذلك في القرآن مرة بعد مرة، واستشهاده بأهل الكتاب، وإخباره بأنه مذكور في كتبهم مما يدل العاقل على أنه كان موجودا في كتبهم فلو لم يعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مكتوب عندهم بل انتفى ذلك لامتنع أن يخبر بذلك مرة بعد مرة، ويُظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه وأوليائه وأعدائه (¬1). ونعود لنلم سريعًا بما ينبغي التعليق على "وات" فيه: وأوله: إخفاء كل ما ذكرنا من بشارات بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي عادته في إخفاء الحق الذي يدينه، وذلك من أصول منهجه، وهو بلا شك مع تدقيقه قد مر عليه ذلك لأنه أثبت في بداية كتابه المصادر التي لجأ إليها في أبحاثه. ثانيًا: قلبه للحقائق، فإذا اضطر لذكر بعض الحوادث التي يظن أنها تؤيد ما ذهب إليه في بحثه، وبعضها يخالفه قلب ما يخالف بكل بجاحة إلى ما يوافق كقصة ورقة، وهرقل وغيرهما، أو حملها معان لم يحلم أي ضال بالوصول إليها، لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بسياق النص، أو بالجو العام أو الواقع التي حدثت فيه الحادثة وسنزيدها إن شاء الله مناقشة جديدة في كل موضع استدل بها، وهو يدل من وجهة أخرى على تقطيعه لأوصال الموضوعات والحوادث، ليستدل بها ويبرهن بها في أماكن مختلفة بوجوه مختلفة، لو جمع النص كما هو لما اختلف عقلان على إرادة غير ما ذهب "وات" إليه. ¬

(¬1) وانظر د. أكرم العمري، "السيرة النبوية الصحيحة" (120/ 1).

ثالثًا: اختراعه لوقائع لم تحدث يظن أنه كمؤرخ لابد أن يفترضها هكذا بكل صفاقة حتى يستقيم له بحثه، فلا يبحث في الواقع كما هو وحيثما وجهه البرهان والدليل توجه وإنما يؤلف تاريخًا لم يحدث ولم يقع ليصل به إلى النتيجة التي أعدها قبل الشروع في البحث فليس بحثًا ذلك وإنما تذكرة مشاكلة، فهو نتيجة قد أعدها يريد أن يصل إليها بغير مشروع من البحث ولا مقبول من الموضوعية المدعاة، والحياد المزعوم ومثل ذلك افتراض أن وحيًا قد نزل قبل سورة اقرأ التي هي أول ما نزل من القرآن الكريم (¬1)، وكل كتاباته كذلك، ولذا سنعقب على كل كلام في حينه بما يزيده توضيحًا إن شاء الله تعالى. ¬

(¬1) "وات"، محمد في مكة (121)، ترجمة عبد الرحمن الشيخ وآخر.

الفصل الثالث بدء الوحى

الفصل الثالث بدء الوحى

المبحث الأول إرهاصات (البعثة - النبوة)

المبحث الأول إرهاصات (البعثة - النبوة) ومن إرهاصات النبوة قبيل البعثة، أمور كثيرة وقعت له تدل على عناية الله به في إعداده وتأهيله لما سيفاجأ به من تحمل الرسالة لإنقاذ البشرية الضالة: 1 - تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "إن أول ما بدئ به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" (¬1). 2 - ثم حبب إليه العزلة، فكان يخلو بغار حراء يتحنّث - يتعبد - فيه الليالي ذوات العدد، ويطعم من أتاه من المساكين، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء بجبل حراء، وهو جبل يطل على الكعبة، ويحتاج صعوده إلى جهد. (¬2) والتحنث من بقايا دين إبراهيم - عليه السلام - وكان هذا الاعتكاف مما تحنث به قريش في الجاهلية وقد ورد ذلك في الرواية الصحيحة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوف بنذرك" ¬

(¬1) روى البخاري عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" (6989)، وورد: "رؤيا المؤمن .... " البخاري (7987)، ومسلم (2264). (¬2) البخاري (3)، ومسلم (161). ويقول ابن أبي جمرة: "الحكمة في تخصيصه بالتخلي فيه أن المقيم فيه يمكنه رؤية الكعبة، فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت" فتح الباري (355/ 12)، وانظر د. أكرم العمري، "السيرة النبوية الصحيحة" (123).

فاعتكف ليلة (¬1). وقال ابن هشام: تقول العرب: التحنُّث والتحنُّف، يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء كما قالوا: جَدَف وجَدَث يريدون: القبر قال رؤبة بن العجاج: لو كان أحجاري مع الأجداف يريد الأجداث، وقال أيضًا: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فمَّ في موضع ثمَّ يبدلون الفاء من الثاء. (¬2) أما الرؤيا في القرآن الكريم فهي تصديق لما ورد في السنة - مما ذكرنا - ومن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رؤيا الأنبياء وحي" (¬3) فما يرونه فهو من وحي الله لهم، ويجب عليهم المسارعة إلى امتثاله، قال تعالى في قصة إبراهيم - عليه السلام -: "يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى". فما كان رد إسماعيل - عليه السلام - إلا أن وافقه برضا على امتثال ذلك الوحي قائلاً كما ذكر القرآن الكريم: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، وكذلك رؤيا يوسف - عليه السلام - حيث قال في نهاية القصة: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 100] ورؤيا يوسف - عليه السلام - كانت قبل البعثة. ومن هنا رأينا تواطؤ الكتاب والسنة وما ورد عن الأنبياء عليهم السلام على صحة ذلك إذ تلك الرؤى من علامات وحي الأنبياء، وبالتالي فإنها من إرهاصات نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ جاءت رؤاه كفلق الصبح تصديقًا لما يرى، فيراها ويحكيها فإذا هي تقع كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما الاعتكاف، واعتزال الناس لفترات زمنية فذلك مما يصفي النفس والقلب والفكر، ويساعد المرء على حسن النظر في أموره وأمور من حوله، ليتمكن من إصلاح ¬

(¬1) البخاري (2132)، ومسلم (1656). (¬2) ابن هشام، "السيرة النبوية" (152/ 1). (¬3) البخاري، الصحيح، باب التخفيف في الوضوء (138).

الخلل الواقع مع شحذ الهمة واستجمام النفس للتحمل ومواصلة السير، مع النظر في ملكوت السموات والأرض، وربط الدنيا بالآخرة؛ إن طريق المصلحين لأنفسهم وغيرهم طريق طويل وَعِر، ومن ثم يحتاج إلى أخذ النفس بعيدًا عن أهواء المجتمعات، وفسادها، ومشاكلها، ليستطيع المرء أن يضع الدواء المناسب للأدواء المختلفة والعلل المتناقضة، ليساهم بعد خروجه في حل تلك المعضلات، بعد أن أصلح نفسه، وصفى فكره، وفتح عقله وقلبه، ليخالط الناس مرشدًا مصلحًا، لا إمّعة منساقًا، وإن المصلحين المسلمين ليزيدون في اعتكافهم ذلك عن غيرهم بقربهم من ربهم - سبحانه وتعالى -، والتفكر في آخرتهم، مع إعداد الزاد الذي يلاقون به ربهم - سبحانه وتعالى -، مع التفتيش عن آفات النفس والعمل والطريق إلى الله - سبحانه وتعالى -، ليرشدوا سَيرَهُم وأخلاقهُم وعباداتِهم ومعاملاتهم. إنها فرصة لنقاء النفس ومحبة الرب والتعلق ببابه - سبحانه وتعالى -، والتزود بزاد روحي قوي يواصل به المرء رحلته في الدنيا. جاء ذكر الاعتكاف في القرآن الكريم، سواء في إعداد مكانه، أو في تبيين أهم آدابه التي تعين على تحقق مقصوده، فقال - سبحانه وتعالى - في الأول: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] فكان الاعتكاف إذًا معلومًا، وقام به الأنبياء منذ فجر الرسالات، وإنه في محل التشريف إذ مكانه فيما أضيف إلى الله - سبحانه وتعالى - "بيتي". وما كان ذلك إلا لكونه من مقصود الشرع في إصلاح النفس والإقبال على الرب، ولذا جاء في الثاني ليبين أهم آدابِهِ من تخلص النفس من شهواتها، وأهمها شهوة النساء فقال - سبحانه وتعالى -: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وإنَّ ما بعد ذلك من الشهوات أخف وأيسر حتى تصفو النفس مما يكدرها، أو يمنع صفاءها. ومن عجيب التنزيل في هذه الفترة المبكرة من الوحي أن نزلت تلك الآية الكريمة في سورة المزمل، وهي قوله - سبحانه وتعالى -: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8]، حيث أمره - سبحانه وتعالى - بالتبتل أي: بالانقطاع إلى الله - سبحانه وتعالى -، ويلاحظ على ذلك الأمر ملاحظتان:

الأولى: أنه جاء بعد نزول الوحي مباشرة، ولم يكد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرج من غار حراء - حيث كان متحنثًا معتزلاً -، وكأنه تأكيد على أهمية ذلك، وأن الإسلام جاء بالتأكيد عليه، وطلبه منه، واستمراره عليه، ولكن على طريقة الإسلام، وتراتيب الإيمان. الثانية: أنه جاء في سياق مقومات تربية القرآن الكريم للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأتباعِهِ حتى يتأهلوا للفوز في الأولى والآخرة، ولكي يتحملوا تبعات ومسئوليات الدعوة، ومشاقها، وما سوف يلاقون جراء هداية الناس إلى الله - سبحانه وتعالى - من مصاعب عظامٍ، ويتجشموا من أعباء ضخمة، لا يتحملها إلا من وقف في هذا المحراب متحققًا بتلك الصفات، قال - سبحانه وتعالى -: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 2 - 5] ... إلى آخر التوجيهات والأوامر والوصايا، التي لما قام بها هذا الرعيل الأول رأينا كيف تحمّلوا ودَانَت لهم الدنيا. وكلما تحقق بها المؤمنون في أي زمن ومكان سادوا وانتصروا. أطلتُ في هذه الجزئية لتكون ردا مسبقًا على تعليق "وات" على الاعتكاف، حيث فرغ اللفظ من معناه، والاعتكاف من هدفه ومضمونه، وغيره. فأما اللفظ فملأه بمعان لا علاقة لها بالواقع فضلا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد جعل "وات" أن أفضل الآراء أنها مشتقة من العبرية (¬1) والتي تعني التعبد لله - سبحانه وتعالى -؛ أو أنها أصيلة في العربية وتعني فعل ما يخرج به من الخطيئة أو الجريمة؛ ومعنى هذا أنها إذا كانت تعني التعبد فهي مشتقة من العبرية، وإذا كانت تعني الخروج من الخطيئة فهي عربية الأصل، مع أنه صَدَّر الكلام بقوله: المعنى الدقيق والاشتقاق غير مُؤَكّد لكلمة التحنث. فإذا كانت عن خطيئة فهي ملصقة بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا كانت رياضة تعبدية فهي عبرية وتبين كما قال قبلها التأثيرات اليهودي - مسيحية على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعلُهُ فيها مثل الرُّهبان في ¬

(¬1) "وات"، "محمد في مكة" (109) مع الهامش.

العزلة والخطيئة التي ذكرها هي الرجوع في قَسَم أو عدم القدرة على الوفاء به، فما علاقة ذلك بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في كل مرة يذهب إلى مكة فيقسم على شيء أو لا يستطيع الوفاء به فيذهب إلى حراء ليخرج من هذه الخطيئة ثم يعود إلى مكة فيتزود خطيئة أخرى ثم يرجع إلى حراء ليخرج منها وهكذا لا يحتاج ذلك تعليقًا يخط به القلم ما يضيق به الصدر. لذا أطلنا سابقًا في شرح ذلك وأن الكلمة لها معناها كما ذكر أساطين اللغة إذ المرجع فيها إليهم لا إلى "وات" وغيره عربًا أو عجمًا، وذكرنا سبقها للتأثيرات اليهودي - مسيحية إذ هي معروفة في الجاهلية، وقد وردت عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في فجر الرسالات. وليعرف "وات" ذلك فما حجته ليحتج بـ " هـ. هيرشفيلد" في اشتقاق الكلمة. أما تفريغ الاعتكاف والعزلة من مضمونه فهو من كوميديا "وات" إذ جعل الاختلاء في حراء وسيلة لهروبه من حرارة مكة لمن لا يستطيع الذهاب إلى الطائف – للاصطياف طبعًا. ومعنى كلام "وات" أن سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يستطيع الذهاب إلى الطائف لضعف الإمكانات المادية مع أنه القائل قبلها إنه أصبح لديه رأس مال يكفيه للحصول على نصيب متوسط من الأعمال التجارية، وأنه وضع قدمه على أول درجة على الأقل من درجات النجاح الدنيوي، وأن التجار لم يستبعدوه تمامًا من معظم العمليات المربحة، فمثل هذا لا يستطيع أن يذهب إلى الطائف؟! وهو الذي يذهب وقتًا طويلاً كما يدعي "وات" إلى الشام. لنترك ذلك جانبًا فأين الغار الذي يتسع لفقراء مكة وهم الكثرة الكاثرة في الصيف، ليصعدوا إليه ليتخففوا من قيظ مكة، وهو غار كما هو معلوم لا يسع أكثر من فرد قائمًا، ثم أين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طوال سنين القيظ والحر قبل أن يهتدي إلى هذا المصيف الآمن وأين ذلك كله

في الكتب التي نقل منها سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم هي عادة "وات" في تأليف تاريخ يليق به. وما اسم بقية المغارات التي كان يأوي إليها المكيون غير القادرين على جبال مكة في الصيف؟ بل ما اسم مغارة واحدة؟ بل هو منهج "وات" فلا رسالة ولا رسول ولا وحي، وإنما هي خلطة يهودية – مسيحية تتفق مع عادات العرب ليجعل بهم الرسول هذا المشروع. الذي لم يعرف اسمه ولا وصفه بعد.

المبحث الثاني البعثة والنبوة

المبحث الثاني البعثة والنبوة ثم بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمره أربعون سنة (¬1)، وثبت أن الوحي نزل عليه أول ما نزل يوم الاثنين (¬2)، والمشهور أن نزول القرآن بدأ في شهر رمضان (¬3) حيث كان يخلو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غار حراء، وجاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل الغار قالت عائشة رضي الله عنها: "حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنا بقارئ»، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} [العلق: 1 - 3]، فرجع بها ترجف بوادره (¬4) حتى دخل على خديجة فقال: زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: يا خديجة مالي! وأخبرها الخبر، وقال: قد خشيت على ¬

(¬1) البخاري "فتح الباري" (564/ 6، 162، 227/ 7)، وصحيح مسلم (1824، 1827/ 4)، وسيرة ابن هشام (151، 152/ 1). (¬2) مسلم "الصحيح" (51، 52/ 8)، أبو داوود "السنن" (808، 809/ 2)، وانظر د. أكرم العمري، "السيرة النبوية الصحيحة" (124) ـــ وما بعدها. (¬3) جاء التصريح به الآية الكريمة: "شهر رمضان الذي أنزل القرآن .... " [البقرة: 185]، وابن هشام " السيرة النبوية" (153/ 1)، ورجح المباركفوري، صفي الرحمن، أنه يوم الحادي والعشرين من رمضان "الرحيق المختوم" (75، 76)، وانظر د. مهدي رزق الله "السيرة النبوية" (148). (¬4) البخاري، الصحيح، أول ما بدىء به رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (21/ 329).

نفسي، فقالت له: كلا فوالله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت: اسمع من ابن أخيك فقال: يا ابن أخي ما ترى؟ فأخبره فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذع أكون حيًا حين يخرجك قومك، قال: أومخرجيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يلبث ورقة أن توفي." (¬1) يقول "الزهري" من رواة الحديث: "وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك." (¬2) وقد أوضح هذا الحديث أن {اقْرَأْ} هي أول ما نزل من القرآن الكريم، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوجئ بالوحي دون أن يتوقعه فراعه الموقف وأرعبه وأفزعه حتى خشي على نفسه، وقد أخذت خديجة رضي الله عنها - بعد رجوعه إليها - في طمأنته والتسكين من روعه، وفي ذات الوقت سعت معه لمعرفة أو تفسير ما جرى له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن هناك مثل ورقة له باع في تفسير ذلك وتأويله، إذ هو كما ذكر الحديث قد تنصر وقرأ الإنجيل ويكتب منه ما شاء الله ¬

(¬1) البخاري (6982)، وفتح الباري (204/ 26)، ومسلم (160)، وشرح النووي (139 - 140/ 1)، أحمد "الفتح الرباني" (47/ 18). (¬2) نفس المصدر.

له، ومنطق العقل والواقع يدعي أنه لو كان هناك غير ورقة لاحتمل الذهاب إليه، أو من هو أعلم من ورقة لذهبت إليه قطعًا، وبالتالي كان دخول ورقة في الأحداث وظهوره في الصورة أمرًا عارضًا، ساقته الأقدار في لحظتها، خاصة وقد ذكر ابن سعد أنها المرة الأولى التي تأتي خديجة رضي الله عنها ورقة بن نوفل (¬1)، علاوة على أن المصادر كلها لم تشر من قريب أو بعيد إلى اهتمام المرأة المكية بالدين قبل الإسلام حتى تترك تجارتها أو تفرط فيها لتذهب إلى ورقة لتتعلم منه! وكان من حكمة الله تعالى أن انقطع الوحي بعد ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فترة من الزمن وذلك حتى تتأكد تلك الحقيقة التي سنؤكدها فيما بعد من أن الوحي ظاهرة خارقة للعادة، منفصلة تمام الانفصال عن شخصية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأيضًا حتى يتشوق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنزول الوحي وتتابعه عليه. وقد استمرت هذه الفترة كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أربعين يومًا (¬2)، وقيل أنها كانت أيامًا (¬3) وإن كانت لا تعلم بوجه صحيح، وجزع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا الانقطاع حتى ذكر الزهري (¬4) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحاول أن يتردى من شواهق الجبال، ولكن هذا الكلام من الزهري ضعيف لعدم صحة سنده، ولكون ذلك يتنافى مع عصمة الأنبياء (¬5). بعد مدة الفتور هذه نزل الوحي مرة أخرى فيقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي ¬

(¬1) ابن سعد "الطبقات" (195/ 1). (¬2) الزرقاني "شرح المواهب اللدنية" (236/ 1)، والشامي "من معين السيرة" (29). (¬3) ابن حجر العسقلاني "فتح الباري" (6982 / ج). (¬4) محمد بن شهاب الزهري أحد رواة نزول الوحي السابق ذكره. (¬5) انظر ناصر الدين الألباني "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة" (40).

بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] فحمي الوحي وتتابع" (¬1). هذا مختصر شديد لما ورد في السيرة في قضية الوحي، وقد بلغنا بها أمرين: عرض الموضوع كما هو، والثاني: الرد على "وات" فيما ادعى، استكمالاً لما رددنا عليه فيها وقلنا سنزيده إيضاحًا كلما عرض لنا من كلام "وات" شيء ذو بال. ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 298).

المبحث الثالث مراتب الوحى

المبحث الثالث مراتب الوحى وتتميمًا للكلام على الوحي نذكر صوره التي كان يوحي للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها قبل عرضنا لسيرة الوحي في القرآن الكريم مع الرد على "وات". يقول الإمام "ابن القيم" إن الله تعالى قد كمل لنبيه من مراتب الوحي مراتب عديدة: أحدها: الرؤيا الصادقة، وهي أول ما بدئ به الوحي، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (¬1). الثانية: ما كان الملك يلقيه في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب .... ". (¬2) الثالثة: كان يتمثل الملك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً فيخاطبه فيعي ما يقول، وفي هذه المرتبة كان ¬

(¬1) البخاري (6982)، ومسلم (160)، أحمد "الفتح الرباني" (47/ 18). (¬2) الحديث صححه الألباني في التعليق على فقه السيرة لمحمد الغزالي، (96)، قائلاً أخرجه الحاكم (4/ 2) عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية (26 - 27/ 10) عن أبي أمامة، والبزار عن حذيفة كما في مجمع الزوائد للهيثمي (71/ 4) كما في الترغيب والترهيب، ولهذا جزم ابن القيم في زاد المعاد بذلك، واتفق محققًا الزاد شعيب وعبد القادر الأرناؤوط (79/ 1) مع الألباني على تصحيحه، وزاد بعض الشواهد التي تؤكد ذلك، وانظر د. مهدي رزق الله "السيرة النبوية" (152).

يراه الصحابة أحيانًا (¬1). الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض .... " (¬2). الخامسة: أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر في سورة النجم. (¬3) السادسة: ما أوحاه الله تعالى من فوق سماواته ليلة المعراج من صلاة وغيرها. السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله تعالى موسى - عليه السلام -، وهذه المرتبة ثابتة لسيدنا موسى - عليه السلام - بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وثبوتها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث المعراج حيث عرج به إلى أن كلم الله تعالى (¬4). وبالتأمل في هذا التلخيص للوحي نشير إلى أمور مهمات تعين على توضيح تلك الظاهرة الخارقة، وفي نفس الوقت نرد منها أو هي تحمل الرد على "وات" علاوة على ما سيأتي من الكلام على الوحي في القرآن الكريم: أولاً: يتبين من الحديث أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى جبريل بعينه، وأنه ضمه ثلاث مرات، وأنه سمعه يقول اقرأ، وقرأ عليه آيات ما زالت تتلى إلى يوم القيامة، وهذا يدل على أنه ليس ¬

(¬1) وقد ورد ذلك في حديث جبريل، لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم" وروى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي" زاد المعاد، حاشية (79/ 1). (¬2) البخاري (3215/)، ومسلم (2333). (¬3) مسلم (177). (¬4) مسلم (163).

أمرًا ذاتيًا، ولا تأملاً باطنيًا، وأنه لا تعلق له باللاوعي، أو الوعي واللبيدو الذي يدعيه "وات"، بل إن الوحي يتم من خارج الذات المحمدية المتلقية له، خاصة وأنه متضح لكل عاقل أن ظاهرة الوحي لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر بباله، وإنما طرأت طروءًا على حياته وفوجئ بها، إذ ليس من شأن التدرج في التأمل والتفكير (¬1) بطريقة الكشف التدريجي المستمر أن يأتي له من يضمه ويكلمه، ثم يتركه ويذهب، فلم يكن إذن للرسول من أثر سوى حفظ هذا الوحي وتبليغه، أما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو أفصح العرب، ومع ذلك وجدنا أسلوبه مغايرًا تمامًا لأسلوب القرآن الكريم. وإن محاولة "وات" تعليل اختلاف أسلوب القرآن الكريم عن أسلوب الحديث عن طريق علم النفس التحليلي، بدعوى أن القرآن الكريم صدر عن منطقة اللاشعور في حالة ضعف الوعي الخارجي ونشاط العقل الباطن، وأن الحديث صدر عن العقل الظاهر لا شك تبدو متهافتة مجافية للحقيقة مخالفة للواقع، إن ما صدر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حالة الضعف المزعومة قرآن وكلام إلهي لم يستطع بشر أن يأتي به أو بمثله ولو مفترى لا حقيقة له، سواء في حالة الضعف ونشاط والعقل أو في خلاف ذلك، وإن تهافت هذا التفسير يظهر إذا تأملنا فيما صدر عن الحكماء والشعراء والبلغاء من آثار أدبية تتضح فيها الوحدة الأسلوبية مع مرورهم بتجارب تأملية واستنباطية، بل صار الأسلوب أساسًا لتحديد السرقات الأدبية إلى جانب سرقة المعاني. (¬2) إن طمأنة السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأخلاقه الحميدة، وأن مثله لا يؤذيه جنٌ ولا غيره، لدليل على مفاجأتها بما حدث، وإلا لكان ردها هذا هو المتوقع والمنتظر نعم ¬

(¬1) كما يدعي كارادفو الفرنسي. انظر حاضر العالم الإسلامي (39/ 1)، وانظر د. مهدي رزق الله "السيرة النبوية من مصادرها الأصلية" (149 - 151). (¬2) انظر د. أكرم العمري "السيرة النبوية" (129 - 130/ 1).

قد وصلنا إلى النتيجة المرجوة، ولما ذهبت به إلى ورقة ليقول لهما: إن هذا هو الناموس الذي نزل على الأنبياء، وذلك منه من أكبر الأدلة على كون الوحي ليس أمرًا ذاتيًا كما ذُكر إذ هو تنزل ملاك الرب على المصطفين من عباده لا علاقة لذواتهم به، بل هو شيء خارج عن النفس هم الوسيلة في تبليغه لا غير، ولو كان الأمر ذاتيًا مع ضعف الوعي أو قوته أو غير ذلك من المفتريات لكان ورقة أولى به، وإن مثل هذا الحدث الجلل، والشأن العظيم لجدير بأن ينسبه المرء إلى نفسه ليحوز به الفخار الذي يعلمه، والشرف الذي لا يدانيه شرف. ذكرت الروايات التي أشرنا إلى بعضها أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فترة الوحي وانقطاعه سمع صوتًا فرأى الملك الذي جاءه بحراء جالسًا على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه ... إلى آخر الحديث، وهذا يدل على رؤية الملك جبريل - عليه السلام -، ووقع "وات" هنا في مأزقين الأول: أنه اختار رواية واحدة هي رواية الزهري في قول السيدة عائشة رضي الله عنها أنه جاءه الحق وهو في غار حراء، وبنى عليها ما يأتي من كلامه. الثاني: أنه اخترع رواية من عنده في رؤية الملك أنه رأى الحق جالسًا على العرش بين السماء والأرض. ثم خلص إلى أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تعلم بعد ذلك من أهل الكتاب أن الله لا يُرى ذكر أنه رأى جبريل، وبالتالي فهو غير صادق في ادعاء الوحي. وهذا الكلام الغريب المخترع يبين ميل "وات" عن الحياد الذي يدعي، ويوضح في نفس الوقت الأسلوب الانتقائي الاستشراقي ل"وات" والذي أوقعه في تلك المآزق، يؤكد كذلك على منهج اختراع التاريخ الذي بيناه من قبل، ثم يرد على التاريخ المخترع الذي لا علاقة له بالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما يكذب به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى شيء من تفصيل ذلك:

أولاً: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر أن الملك جاءه وضمه، ثم رأى الملك ذاته على كرسي بين السماء والأرض. ثانيًا: أن الحق الوارد في رواية "وات" المنتقاة يكون معناه إذن الرسالة والنبوة ليس الحق هو الله كما يحلو ل"وات"، لأنه مناف للواقع وللحديث مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل قول الله تعالى على لسان الملك: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" لا باسم غيره، وأن الملك مبلغ له ذلك عن الله تعالى الذي خلق. ثالثًا: أن "وات" أَلَّفَ رواية أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى الملك جالسًا على العرش هكذا بتعريف العرش، وذلك لا يكون إلا لله وجميع ما ورد في ذلك مما يعلمه "وات" هو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى الملك جالسًا على عرش أو كرسي بين السماء والأرض فماذا نقول في هذا الكلام من "وات"، هذا الملفق ثم يأتي بعد ذلك لينسبه للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكذبه به. رابعًا: بعد هذا الكلام كله يقول "وات" إن محمدًا عندما يقرأ "اقرأ" يشعر بالدين في رقبته لورقة، خاصة وأنه لكي يستقيم له تخيله وما يدعيه يفترض نزول قرآن قبل اقرأ، لأنه كان يتردد على ورقة، وأن خديجة لا يستبعد أن تكون هي الأخرى مسيحية. وقد ظهر بالكلام السابق أن ذلك إنما هو عقدة "وات" في عدم ذكر الحقيقة وتحليلها، فضلاً عن تقطيع أوصال الحقائق في أماكن مختلفة ليؤكد الانتقائية في بحثه، فإن لم يجد اخترع تاريخًا وأخذ يحلله لنا ويستخرج منه ما لا علاقة له ببحثه أو بما يتكلم فيه، وذلك كما أشرنا من قبل أحد معالم بحث "وات" على مدار السيرة من أولها إلى آخرها، وقد رددنا ضمنًا فيما سبق على هذا الكلام العلمي النزيه المحايد من "وات" كما يحلو لنفسه أن يلقبه به. وفي نهاية المبحث يحسن أن نذكر كلام كاتبين نصرانيين هما "سال" و"تايلور" يدلان على أن النصرانية التي وراء ادعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرسالة والوحي كانت في أسوأ عصور

انحطاطها، بحيث لم يجد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نموذجًا أخلاقيًا، أو دينيًا ليحتذيه أو لينقله إلى الإسلام، ودليل على أن ورقة بن نوفل لا علاقة له بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضلاً عن أن يتردد إليه، وبرهان ساطع على ما وصل إليه ورقة من علم لم يكن ليزيد عن المعلوم السائد، اللهم إلا قراءته في الإنجيل ونقله منه ما شاء الله بالعبرانية، وما كان ذلك مقنعًا للناس أن يدخلوا في النصرانية خاصة وأنه لم يدع لشيء من ذلك أو تعرض لدخول أحد فيه كما ذكرنا من قبل المهم يقول سال: "إذا قرأنا التاريخ الكنسي بعناية، فسنرى أن العالم المسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث لمسخ صورته، بسبب أطماع رجال الدين والانشقاق بينهم والخلافات على أتفه المسائل، والمشاجرات التي لا تنتهي، والتي كان الانقسام يتزايد بشأنها. وكان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم، واستخدام كل أنواع الخبث والحقد والقسوة قد انتهوا تقريبًا إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بسبب جدالهم المستمر حول طريقة فهمها، وفي هذه العصور المظلمة بالذات ظهرت بل وثبتت أغلب أنواع الخرافات والفساد." (¬1) أما "تايلور" فيقول: «إن ما قابله محمد وأتباعه في كل اتجاه لم يكن إلا خرافات منفرة ووثنية منحطة ومخجلة، ومذاهب كنسية مغرورة، وطقوسًا دينية منحلة وصبيانية». (¬2) فأنى إذن لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقتدي بتلك التعاليم التي وصفها أصحابها بتلك الأوصاف ونعتوها بتلك النعوت، إذا كان العوام قد رفضوها هم والخواص، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو من هو أرجح الناس عقلاً وأعظمهم احترامًا في محيطه، ومحيط من عرفه أو خالطه، كما ذكرنا شيئًا من أوصافه التي وصفه بها أهل الجاهلية، ووسمته بها سيرته في الكتب السابقة (السماوية). ¬

(¬1) د. محمد عبد الله دراز، "مدخل إلى القرآن الكريم"، (136) نقلاً عن كتاب سال "ملاحظات تاريخية ونقدية عن الإسلام" (68 - 71). (¬2) د. محمد عبد الله دراز، "مدخل إلى القرآن الكريم" (137)، نقلاً عن "المسيحية القديمة" لتايلور (266/ 1).

نسارع خطى البحث لنعود إلى ذكر الوحي في القرآن الكريم على المنهج الذي اخترناه لهذا البحث. ونلاحظ الآية الأولى في هذا المعلم وقد قدمناها لكونها تجمع الأنبياء جميعًا الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم والذين لم يرد ذكرهم وهي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163 - 164]، وقد أضفنا إليها الآية التالية لها لتعلقها بها. ففي هذا التنزيل القرآني نرى الآتي: أولاً: أن وحي الله تعالى للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما هو كوحيه لجميع الأنبياء، أي إنه وحي من الله إلى موحى إليه من البشر منفصل تمام الانفصال عن الموحَى إليه، فهو ليس من ذاته بل من الله جل وعلا. (¬1) ثانيًا: أن وحي النبي لا يفترق عن وحي الأنبياء من قبله، فأصول هذه الرسالات واحدة من الله تعالى، وإن اختلفت في أمور تتفق وبعثة الأنبياء وأزمانهم رعاية من الله ورحمة بالناس. ثالثًا: أن وحي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس حالة نفسية أو حالة من حالات الوعي واللاوعي وغير ذلك، إذ لم ينسب لنبي من قبل مثل هذا البهتان فمن باب الأولى فالرسالة الخاتمة الشاملة الخالدة الأعظم لا يكون مبلغها إلا على أفضل كمالات الأنبياء من قبله. رابعًا: أن الأنبياء الأقرب من الرسول برسالاتهم كموسى وعيسى عليهما السلام لم ¬

(¬1) انظر مالك بن بني، "الظاهرة القرآنية".

يعلم أو ينقل عنهم مثل ذلك اللبيدو الذي يدعيه "وات" في القرن العشرين، وقد بينت الآية أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أوحي إليه كما أوحي إليهما أيضًا فما الفارق إذن؟ خامسًا: أن الله تعالى لم يمن على رسوله بالوحي، وأنه أرسل إليه رسولاً وأنه اصطفاه لذلك إلا لأنه أوحى له بذلك حقًا، وأنه سبحانه ما يقول هذا القول إذا كان هذا الوحي المعظم النازل إليه إنما هو من نفسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستدعيه بالوعي واللاوعي كيف يليق ذلك بالله تعالى مع أنبيائه؟! ونسرد فقط عددًا من الآيات تدل على المطلوب، فعلى سبيل المثال يقول المولى سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وسنعود إلى هذه الآية بالذات في قصة الغرانيق إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 18] (¬1) وهي آيات مكية يخاطب بها أهل مكة، وأنه لا يتبع إلا الوحي، وأنه منذر مبلغ للعالمين ليس له من أمر الوحي شيء، ولا من أمر نفسه ولا غيره شيء. ونبدا بذكر ما نزل من الوحى في أول البعثة نبين به سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دعوته وأهداف الدعوة من أول أيامها، والسيرة التى ينبغى أن يسلكها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصل أو ليحقق تلك الاهداف بما ينير الطريق لاتباعهم لالتزام تلك السيرة في دينهم، وكان أول ما نزل قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. ¬

(¬1) وانظر لما سبق: عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية" (74 - 75).

وبالنظر في تلك الآيات وتحليلها نلاحظ: أن هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِما ثبت عن عائشة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما سيأتي قريباً. وافتتاح السورة بكلمة {اقْرَأْ} إيذان بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيكون قارئاً، أي تالياً كتاباً بعد أن لم يكن قد تلا كتاباً قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48]، أي من قبل نزول القرآن، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل حين قال له اقرأ: " ما أنا بقارىء ". وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن. وفي حديث «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها (¬1) قولها فيه: «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرْسَلَني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطّني الثانيةَ حتى بلغ مني الجَهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. وقوله {بِاسْمِ رَبِّكَ} فيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم. وفي قوله: {مِنْ عَلَقٍ (2)} إشارة إلى ما ينطوي في أصل خَلْق الإِنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطانَ هذا العالم الأرضي. ¬

(¬1) البخاري، الصحيح، باب بدء الوحى (1/ 5).

فإذا نظرتَ إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئاً عن سؤال يجيش في خاطر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول: كيف أقرأ وأنا لا أحسن القراءة والكتابة، فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم. وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جواباً عن قوله لجبريل: «ما أنا بقارىء» فالمعنى: لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالماً بالقراءة إذ العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإِملاء والتلقين والإِلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئاً. ووصف {الْأَكْرَمُ} مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغاً للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة. والكرم: التفضل بعطاء ما ينفع المعطَى، ونعم الله عظيمة لا تُحصى ابتداء من نعمة الإِيجاد، وكيفية الخلق، والإِمداد وتخصيص الكرم بربك هنا للدلالة على النعم الخاصة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علاوة على ما سبق من مثل النبوة والرسالة ولبلاغ العلم مع الاصطفاء والتشريف بإضافة الرب سبحانه وتعالى إلى كاف المخاطب وهو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. جمعت هذه الآيات الخمسُ من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوَصفُ الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف {الَّذِي خَلَقَ} ووصف {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر الذي يذكر معها. ووصف {الْأَكْرَمُ} يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص وفيه إفحام للمشركين من أول آية على ان آلهتهم ليست من تلك الصفات في شئ فلا يستحق التوحيد والعبادة إذن إلا الله

وحده وهو أساس الدعوة وهدفها من أول آية، مع ما في قوله باسم ربك أنت أي الواحد الموصوف بصفات الكمال المنزه عن صفات النقص لا أي رب آخر يدعوه المشركون أو غيرهم. وجملة: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} خبر عن قوله: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} وما بينهما اعتراض. وتعريف {الْإِنْسَانَ} يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإِعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإِنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم. وفي ذلك طمأنة لنفس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علّم الإنسان ما لم يعلم، فالذي علّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة. وأشعر قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يُعلَم من قبل، أي فلا يُؤْيِسَنَّك من أن تصير عالماً بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف قراءة ما يكتب بالقلم. وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يُكتَب للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك اتخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً للوحي من مبدأ بعثته. وفي الاقتصار على أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48]. وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غار حراء.

وبناء على ما سبق كان معنى الآيات، أن الله سينزل على نبيه مايتلوه على الدنيا، وأن الذى سيتلوه هو دعوتهم إلى ربه، وترك غيره لأنه الواحد الأحد الذى له الخلق والأمر، ومتصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، وأن له الرجعى والقيامة اليه، فهو إذا الإله الذى يجب أن يفرده المرء بالعبادة والسجود له والتقرب إليه (واسجد واقترب). ومن ثم ردت الآيات على "وات" في الدعوة وبواعثها وأركانها لا كما يدعى وردت عليه في كونها وحى من الله إذ لا يتصور ولا يمكن أن يكون اللبيدو أو الوعى الخلاق كما يزعم مصدرا للوحى فيما سيكون إذ هو عنده تخزين فقط لما كان يستدعيه بالوعى أو اللاوعى، ثم إن قوله اقرأ لم تكن من اللاوعى لأنه لم يسمع من حكاها أونقلت له من قبل إذ هي مفاجأة بما لم يحتمله واقعا. ونعود إلى"وات" لنذكر رأية في موضوع النبوة ونبين الرد عليه. - إن "وات" يرجع أمر النبوة إلى التخيل الخلاق (¬1)، بمعنى إنها إبداع من عقلية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليست اصطفاء من الله لسيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأداء رسالته، ولذلك استبعد رؤية جبريل - عليه السلام - من الناحية التاريخية (¬2). وننقل شيئًا من كلام "وات" بنصه فيما يخص ما نحن فيه يقول: "لقد تملكت محمدًا منذ وقت مبكر أن الكلمات التي تصل إليه هي وحي من الله مهما كانت الصورة الدقيقة لتجربته الأولى في تلقي الوحي، وقد ظهر الإيمان بذلك منذ البداية في دعوته العامة"، ويقول "على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج يمكن أن يكون قبل الوحي قد سمع من بعض الأشخاص قسمًا من القصص التي ¬

(¬1) Creative imagination . (¬2) محمد في مكة.

يذكرها القرآن، وعندئذ يترك المؤرخ الموضوع للمتكلمين (¬1)، ليقوموا بنوع من التوفيق"، ويمعن في إظهار اعتقاده فيهذي قائلاً: "فالقول بأن محمدًا كان صادقًا لا يعني أن القرآن وحي حق، وأنه من صنع الله، إذ يمكن أن نعتقد بدون تناقض أن محمدًا كان مقتنعًا بالوحي ينزل عليه من الله وأن نؤمن في نفس الوقت بأنه كان مخطئًا" (¬2). ويخدع قارئه الواثق فيه، أو الساذج بقوله بعد ذلك بأن: "مصدر الوحي المحمدي هو اللاوعي الجماعي، الذي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أو النصرانية أو اليهودية" (¬3). ولما كانت هذه الدراسة تعتمد على القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة دراسة نصية مقارنة ونقدًا، فإننا نرد على "وات" وغيره من هذا المنحى غير المسبوق فيما نعلم، حيث يتبين به سوء الفهم، وسوء القصد، وضعف العلم، وتغيير الحقائق بنية مسبقة تضع الأحكام وتفصل لها الوقائع لتأتي على وفق الاعتقاد السابق الذي يلوي به رقبة البحث في الاتجاه الذي يريده له، ضاربًا عرض الحائط بكل ما له صلة بالبحث العلمي، خاصة فيما يتعلق بالإسلام ونبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذه المسألة جعلناها مثلاً يحتذى، لذلك نزيدها توضيحًا وتدليلاً كلما مر معنا من كتابات "وات" ما يتعلق بها من جديد الإفك، وسيء القصد. كان ينبغي أن نبدأ بها مع أول قضية، وكل قضية سطرناها من قبل، ولكن آثرنا وضعها هنا؛ لإدخال "وات" لها في إنكار النبوة، وهو يشير إلى تلك القضايا التي سودها في هذا الموضع. ونبدأ بنقد كلام "وات" .. ¬

(¬1) Theologions . (¬2) محمد في المدينة (325). (¬3) Watt. Mohammad prophet and stateman p.238.

وسوف نبري قلم النقد بمبراة التهذيب بريًا عظيمًا، مع شدة الاستفزاز التي وصلت إلى أسوأ دركاتها، بما ليس في طاقة الحليم أن يتحمله أو أن يمسك نفسه ويتمالك أعصابه حتى يرد عليه. - نبدأ بهذا الاعتقاد المضحك، الذي يدل على الاستخفاف بالعقل وعدم احترامه، وإظهار ذلك في ثوب الحياد، في محاولة مكشوفة لكي يقبل العقل التناقض، ويسلم به، يقول "وات": "على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج" ثم يهدم ذلك بأمرين. الأول: يستكمل به هذا الكلام قائلاً: "يمكن أن يكون قبل الوحي قد سمع من بعض الأشخاص قسمًا من القصص التي يذكرها القرآن" (¬1). الثاني: "أن مصدر الوحي المحمدي هو اللاوعي الجماعي، الذي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أو النصرانية أو اليهودية" (¬2) ولا أظن أن هذا التهافت يحتاج إلى بيان من وجوه نصوصه هو وهاك الرد. الأول: أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صادق صدقًا مطلقًا بأن الوحي يأتيه من الخارج وفي نفس السطر ينقلب على عقله، ليقول يمكن أن يكون قد سمع من بعض الأشخاص قسمًا من القصص التي يذكرها القرآن قبل الوحي. وهذا كاف في الرد، ولكن نفصل شيئًا في كلام "وات" فنقول: إذا كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صادقًا في أن الوحي يأتيه من الخارج، فممن كان يأتيه الوحي الذي يسمعه ويبلغه بعد ذلك، لم تطاوع "وات" نفسه في أن يعترف بالحق إنصافًا للعلم، بل غالط نفسه وعقله ¬

(¬1) Ipid p128. (¬2) محمد في مكة (325).

وعقل القارئ والسامع فقال إن قسمًا من هذا القصص يمكن أن يكون سمعه قبل الوحي، نحن مسلمون بهذا ولكن كيف يتفق ذلك مع قولك بصدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أن الوحي يأتيه من الخارج، ترى يأتيه من الداخل قسم قد خزنه في اللاوعي، ثم عند ادعاء الوحي يأتيه من الخارج من يستدعي هذا القسم من الداخل ليحدثه به على أنه من الخارج هذا كلام "وات"، فأي عقل هذا وأي علم ذلك، هل يدخل في عقل طفل صغير هذه الأغلوطات. الثاني: قوله إن قسمًا من هذه القصص سمعه قبل الوحي، سلمنا ولكن من الذي أوثر عنه أثرًا صحيحًا في أنه كان يحكي قصصًا سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسمًا منه ثم استدعاه بما يسميه "وات" اللاوعي الجماعي ليدعي وهو الصادق أن ذلك وحي من الخارج، ولم يكذبه صاحب القصص. الثالث: هذا القسم من القصص الذي سمعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما هو تحديدًا أو تقريبًا. الرابع: بقية الوحي "القرآن الكريم" مما لا قصص فيه من أين جاء به وهو صادق صدقًا مطلقًا في أن الوحي يأتيه من الخارج كالتوحيد والنبوات والأحكام والعبادات والأخلاق والسلوك. الخامس: ترى من كان يقص هذا القصص ألم يكن الأعقل أن ينسبه لنفسه بدلاً من ادعاء غيره تملكه، ما دام أنه كان يمكن أن يكون وحيًا. السادس: هذه البناء القرآني الضخم الذي نزل منجمًا على ثلاث وعشرين سنة، اختزل في قسم من القصص يحتمل سماعها قبل الوحي، في كل مرة يتنزل القرآن الكريم ليعلق على حادثة وقعت يتحرك اللبيدو ليصنع الأحداث التي وقعت، بأشخاصها ومواقعها، وتصرفاتها، ثم يخزن الأحداث ثم يأتي يستخرجها من اللاوعي إلى الوعي. هذا ليس لبيدو إذن بل هو الله تعالى، لأن موقعة بدر مثلاً قد جرت بترتيب الله تعالى، وفي مكان معين،

وبين أشخاص معلومين، وانتهت إلى نتيجة محسوسة، وعاقبة واضحة، ونزل القرآن الكريم ساعتها ليعلق التعليق الإلهي عليها، وكان اللاوعي من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا شك فارغًا عما يحدث، فضلاً عما سيكون، أين سمع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصة بدر، ثم خزنها جعلها في داخله ثم أذاعها وحيًا خارجيًا عندما جاء وقتها. هل كانت من قصص الأقدمين من اليهود والنصارى وغيرهم، وسمعها من القصاص، ثم ذكرها وحيًا ونترك لصاحب العقل التعليق! - ويبدو أن "وات" علم أن كلامه لا يخفى على أحد تناقضه، فبادر مخالفًا كل القواعد العلمية والبحثية بقطع الطريق على مناقشة بأن كلامه متناقض وهو ما يسميه أهل العلم المصادرة على المطلوب، وكأنه يقول ستقول هذا تناقض، فيقول لا: إذ يمكن أن نعتقد بدون تناقض أن التناقض ليس بتناقض! هذا هو البحث العلمي. أما قوله بنصه وقد أشرنا إليه من قبل: "فالقول بأن محمدًا كان صادقًا لا يعني أن القرآن وحي حق، وأنه من صنع الله، إذ يمكن أن نعتقد بدون تناقض أن محمدًا كان مقتنعًا بالوحي ينزل عليه من الله، وأن نؤمن في نفس الوقت بأنه كان مخطئًا". (¬1) ولإظهار التناقض الذي لا مفر منه مهما حاول "وات" أن يرده في صدره بكلتا يديه لا بعقله لثقله الجاثم على ذهنه، فلا يدعه يسلم بالعلم والإنصاف نقول: قلت: "على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج". (¬2) فهل هنا تناقض أكثر من ذلك أن نقول إنه صادق، ولا تناقض في اعتقاد أنه كان مخطئًا، سلمنا جدلاً لأننا لو عكسنا الفرض فقلنا أن محمدًا حاشا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كاذبًا كانت ¬

(¬1) محمد في المدينة (325). (¬2) Ipid, p128.

النتيجة هي هي نفس نتيجة أنه صادق فاستوى أن يكون صادقًا أم كاذبًا في أنه كان مخطئًا في اعتقاد الوحي، فهل هناك تناقض أعظم من أن يستوي الكاذب والصادق، أو الصدق والكذب. ولعل "وات" أدرك هذه النتيجة فسارع كاذبًا مضللاً بنفي التناقض قبل أن يكتشفه العقل الضعيف لأي طالب. وتمويهًا على بعض قرائه من المسيحيين في الغرب، وضعفاء العقل من المسلمين بادر بإثارة الغبار على الأديان الثلاثة حتى لا يتهم بالانحياز للمسيحية أواليهودية وأن مصدرها جميعًا واحد، ولكنه ليس الوحي، فقال ما يسلي المرء ضاحكًا في هذا الهم حيث يقول: "مصدر الوحي المحمدي هو اللاوعي الجماعي (¬1)، الذي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أو النصرانية أو اليهودية" (¬2)، ولا نملك إلا الضحك الباكي على هذا الكذب، حيث لم يكن ذكورًا لما كتب فيما سبق إذ ما الذي جعلك تنقد الإسلام ونبيه بكل ما لا يجوز النقد به ثم تكون مسيحيًا موحدًا، مع أن مصدر وحيهما واحد هو اللاوعي كما تزعم، أما أن اللاوعي اليهودي والمسيحي أفضل من اللاوعي الإسلامي، أما إن اللاوعي اليهودي والمسيحي - وهو لاوعي - مصدره إلهي تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. ¬

(¬1) لخص "وات" رأى يونغ: وهو أن ما ينبثق من اللاوعى إلى الوعى في رؤى الأفراد المنامية وأحلام اليقظة وكذلك في الأساطير الدينية لمجتمع كامل تأتى من "اللبيدو" أو طاقة الحياة وهو ينبوع المناشط في كل الناس. في الشخص الواحد يكون"اللبيدو" في أحد أجزائه شيئاً خاصاً وفي الجزء الآخر شيئاً مشتركاً بينه وبين أفراد جماعته وهو"اللاوعى المشترك" وتعزى له الأساطير الدينية. ولتطبيق النظرية على الوحى المحمدى يقول "وات" إن هذا يعنى أن كلمات الوحى كانت لها صلة بمحمد قبل أن يصير واعياً لها"ويمكن أن نقول أن الملك وضع الكلمات في ناحية من نواحى الوجود المحمدى يسمى اللاوعى وأنها برزت من هنا إلى وعيه" انظر شيخ ادريس: مناهج المستشرقين (1/ 234)، وكذلك Islamic Revlation, p. 109 وكذلك Muhammad Prophet and Statesman, p. 238 . (¬2) محمد النبي ورجل الدولة (238).

بل إن "وات" يزيد على ذلك محاربة للإسلام ونبيه، بدعوة المسيحيين لاتخاذ موقف ديني من محمد، ويذكر أنه يضع بين أيدي المسيحيين المادة التاريخية التي يجب اعتبارها في تحديد الحكم الديني. (¬1) ترى "وات" منصفًا إذن وهو يضع بين يدي بني جلدته أسوأ مادة علمية كما يدعي عن الإسلام وأهله، بحسن قصد ليسلموا، ويعلنوا دخولهم في دين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم أنه يضع بين أيديهم ما يُسَوِّؤ صورة الإسلام ورسوله أمام أعينهم، وفي فكرهم واعتقادهم، تراه يوضح لهم سبيل أن يكونوا مسلمين، أم أن يتحصنوا ضد الإسلام، ويحول بينهم وبين انضمامهم إليه، ترى هل أسلم واحد فقط بعد قراءة كتب "وات"؟ دعك من "وات" نفسه أو أن المستشرقين والمستغربين يتخذون كتب "وات" المعتمد المعتبر في نقد الإسلام ونبيه، والحجة الدامغة للاوعي الذي يُغَيِّبُ به "وات" عقولهم عن فهم الإسلام على ما كان عليه. هل يقول "وات" ويعتقد إذن كلامًا يتفق مع المنطق والعقل، أو مع الحال والواقع، أم إنه يقول ذلك ذرًا للرماد في العيون باتفاق الديانات الثلاث بكون اللاوعي مصدر وحيها. ونأتي لقضية من قضايا "وات" التي نفى بها نبوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي استبعاده تاريخيًا لرؤية جبريل، وقد ألقى بهذه القضية إلقاء من يظن به البحث المجرد الخالي من أي اعتبارات أخرى، والذي يفترض في صاحبه البساطة وحسن النية، بحيث لا يتطرق للسامع والقارئ شك في صاحبه كأنه إلقاء للقول على عواهنه ولكن للأسف الشديد هو كلام مقصود الهدف منه، بادي الترتيب، يعلم من يخاطب، وبما يخاطب، وما الذي يؤدي إليه خطابه، إنه بهذه الجملة القصيرة يهدم في اعتقاد من أمامه نبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "لا يمكن أن تكون تاريخية" وبسهولة يقول القائل: لقد قال "وات" إن رؤية جبريل التي تزعمون لا ¬

(¬1) Ibid.,p .

يمكن أن تكون تاريخية، انتهت النبوة، أي بحث هذا؟ أي مكر ودهاء هذا؟ ونقلب عليه كلامه أي لاوعي هذا الذي يبثه، ينسف به من صدور المسيحيين أمثاله نبوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويزعزع على أقل تقدير إيمان المسلمين الواثقين في علمه أو بحثه. ومنهج "وات" كما سنشير إلى عناصره في حينها، أحد أركانه هذا الركن السيئ، وهو التفسير المادي للتاريخ وليته للأسف طبقه كما قرره هو بنفسه، بل طبقه بركن آخر أشد سوءًا وهو المنهج الانتقائي خاصة فيما يتعلق بالإسلام ونبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وسنترك قضيته توضح ذلك مثالاً له، ودليلاً عليه، اختصارًا، وبدلاً من ضرب أمثلة أخرى، وهي قوله "لا يمكن أن تثبت تاريخيًا" رؤية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لجبريل - عليه السلام - (¬1)، والرد أن هذه قضية دينية لا يمكن أن ترد إلى التاريخ والتفسير المادي البحت فقط إذ يدخل فيها التفسير الديني لتلك الظواهر، لأن الحديث ليس عن التاريخ والنظرة المادية خاصة وأن التفسير المادي وحده ليس كافياً في توضيح ما لا علاقة له به من الأخلاق والقيم وما وراء المادة، فكيف يصلح المنهج المادي لتفسير ما وراء المادي، وما لا يتعلق بالمادة فهذا لا عقل فيه ولا واقع، إذ وجدت أمور وقف العقل والمادة عاجزين عن تفسيرها، وإن لتغير الزمان عاملاً مهمًا في تغير الموازين المادية، فما كان لا يمكن أن يكون، صار ممكنًا، ينتظر أن يتغير هو الآخر، فكيف تحاكم ظواهر تلك السنين الدينية لمتغيرات في السنين الآنية، لقد أوشك إن لم يكن قد هدم التفسير المادي من كثرة ما وجه إليه من انتقادات، فما بال هؤلاء المستشرقين متمسكين به، مستخفين وراءه، وهم يعلمون تهافته وسقوطه، إن ذلك لكيد الإسلام وهدمه. وأما قوله لا يمكن تاريخيًا وغيره من هذه الألفاظ فتلك عادة "وات" في تضخيم ¬

(¬1) انظر الاستشراق في السيرة النبوية د. عبد الله محمد النعيم Muhammad at mecca, p. 43 .

ألفاظه التي تحط من الإسلام، وتعظم الضلال في صدور أتباعه حتى يقول قائلهم لا يمكن أن يرى محمد هذا جبريل، ويتبع ذلك سيل من الشتائم للرسول الكريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودينه بالكذب والهوس وكذا، وكذا .. ممالسنا في صدد تسويد الرسالة به. والرد على التفسير التاريخي والمادي أسهل من كتابته، لأنه كما ذكرنا انتقائي، ف"وات" نفسه هو الذي جعل اللاوعي المسيحي إلهي، واللاوعي الإسلامي إنساني بدون أي دليل؛ لأن الإنسان واحد، "وات" هو نفسه ذلك الشخص الذي جعل رؤية جبريل تاريخيًا غير ممكنة، ورؤية روح القدس وهو جبريل من السيد المسيح - عليه السلام - ثابتة يؤمن بها ويؤيدها، مع أن التاريخ واحد ينبغي أن يرد الاثنين لأنه تاريخ أو يقبل الاثنين، فأي تناقض أعظم من هذا؟ وأي استغفال واستخفاف بالعقل يمكن أن يكون مثل هذا؟ ثم يا سيد "وات" إن رؤية جبريل يمكن أن تكون قد حدثت، ويمكن ألا تكون قد حدثت فما الذي رجح عندك عدم الوقوع، ما الدليل؟ أي دليل كان يؤيد احتمالية عدم الوقوع، فضلاً عن عدم الإمكانية التي تدعي القطع بها، قاطعًا طريق النقاش فيها كأنك حزت الحق الذي لا مرية فيه، والذي يجب أن يقبله الكون كافة؟ وعلى أية حال فإن نقد هذا الكلام ورده وتفنيده وإلقائه في المكان الذي يستحق موجود في كلام "وات" نفسه، ولكن لأنه متناقض، يدافع عن تناقضه فكأنه نسي ما كتبت يداه. حيث يقول: "على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق بأن الوحي كان يأتيه من الخارج ... ". وكرر في أكثر من موضع صدق محمد وإخلاصه، وإن عاد على كلام نفسه بالنقض والتكذيب أي لنفسه.

ونقول له قد آمنا بصدق محمد كما أمرتنا، بغض النظر عن إيمانك أنت فكان صدقه إذاً المُقَرّ به مرجحًا قويًا لإثبات رؤية جبريل، لأنه لا يمكن أن نقول له أنت صادق ثم نقول له أنت كاذب، هذا ليس علمًا ولا بحثًا ولا شيئًا إنما هو للهزل وتضييع الوقت والاستخفاف والحمق أقرب، ومثل ذلك لا ينبغي للعاقل أن يخاطبه فضلاً عن أن يباحثه ويناقشه الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق. الرد التالي: وهو الرد التاريخي على "وات" كما نسميه نحن، وهو من وجهين: الوجه الأول: القرآن الكريم فقد أثبت الوحي برؤية جبريل، والقرآن قاطع بالنسبة إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قال في الرؤية: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} [النجم: 13] وقد وقف "وات" عند سورة النجم، وقصة الغرانيق وقفة طويلة يبدي ويعيد، ووقفتنا معه إن شاء الله في حينها. الوجه الثاني: وهو الروايات الصحيحة المتواترة في رؤية جبريل - عليه السلام - من يوم أن نزل عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة، إلى أن انتقل إلى الله تعالى، وهذا التواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا مدفع له، ولا يمكن رده باعتراف الموافق والمخالف، ليس كعدم الإمكانية التي لا تستند إلى أي برهان عند "وات" (¬1)، وبعد ذلك يتضح من هذه الردود السريعة المختصرة شيء من موقف "وات" في كتابته عن الإسلام ونبيه، وتتجلى كذلك منهجيته التي تتسم بالعلم إلا فيما يتعلق بالرسول ودينه حيث يمحي تمامًا كل ما له صلة بالبحث العلمي وقواعده، وينقلب "وات" شيئًا آخر لا يمت للعقل بأدنى علاقة ليس ذلك مبالغة، إن الكاتب المنصف ليرى في كل صفحة كتبها عن الإسلام ما يحتاج إلى نقد، حيث يفغر المرء فاه متعجبًا أهذا "وات"، أهذا عقل، أهذا علم، إنه كم عجيب من الركام. ¬

(¬1) تعليق "وات" على ارهاصات النبوة نذكرها في الجزء الثاني شق الصدر والغمامة والراهب بحيرا وغيرها إن شاء الله تعالى.

المبحث الرابع مراتب الدعوة

المبحث الرابع مراتب الدعوة جاء هذا الوحى ليكون أساساً للرسالة من الله تعالى، وبالتالى كان مرشداً للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمراحل دعوته، وهي المراحل التى ينبغى ذكرها لنعلم الأطوار التى مرت بها الدعوة، وكذلك شمول وعالمية هذه الدعوة، مما يؤكد ارتباطها الوثيق بالسماء، وبالوحى الإلهى للنبى المختار لها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن له في أمر ترتيبها شئ. يقول الإمام ابن القيم (¬1) ملخصاً: فللدعوة خمس مراتب: الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله، وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر. ¬

(¬1) زاد المعاد (1/ 86)، طبعه الرسالة.

مراحل الدعوة خلال حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذكر الدكتور البوطى (¬1) - وتبعه جمع من كُتَّابِ السيرة اعتماداً على فهمهم لكلام ابن اسحاق (¬2) - أن مراحل الدعوة في حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع مراحل: المرحلة الأولى: الدعوة سرا واستمرت ثلاث سنين. المرحلة الثانية: الدعوة جهرا، والكف عن القتال. واستمرت إلى الهجرة. المرحلة الثالثة: الدعوة جهرا مع قتال المبتدئين بالقتال واستمرت إلى صلح الحديبية. المرحلة الرابعة: الدعوة جهرا، مع قتال من يقف في سبيل سير الدعوة) (¬3) (. ولابد من وقفة مع الدعوة قبل النظر في تلك المراحل، فيما تدعو إليه، ووسائلها، وما ينبغى أن يتسلح به الدعاة إلى الله تعالى ليحققوا دعوتهم وينجحوا فيها، وذلك ما أدته الآيات الأولى النازلة من الله تعالى إلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سورة المزمل والمدثر وغيرهما مما نشير إليه لأنه منهج هذه الدراسة. ونشير في هذا السياق إلى سورتى المزمل والمدثر، فإن قلنا بقول جمهور المفسرين إن المزمل نزلت قبل المدثر، فيكون فيها الأمر بالتهيؤ وإعداد النفس لتحمل أعباء الرساله حيث بينت وسائل ذلك وطرقه، ونبدأ بما بدأت به السورة حيث يقول المولى سبحانه: ¬

(¬1) البوطى، فقة السيره، (76). (¬2) ابن هشام، السيرة النبويه (1/ 167). (¬3) ذهب محمد عزة دروزة إلى أن الدعوة بدأت علنية وبقوة خلافا لما روى من أنها بدأت سرية (محمد عزة - سيرة الرسول) (1/ 162) قد دلل على ذلك بدراسته القرانية للسيرة، ويذهب الباحث إلى هذا الرأى وإن كان هناك توفيقا بينهما فليس إلا أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن أمن به أن يخفى إيمانه خشية أن تفتنه قريش في دينه، وكان يدعو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستخدما الحيطة والحذر في خطواتة.

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)}. وننظر في تحليل هذه الآيات وأول ما يصادفنا نداء النبي بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} نداء تلطف وترفق ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1]. وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين: إنه التزمل الذي جرى في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوني زَمِّلُوني» حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه. {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري» وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذٍ، وعليه فهو حقيقة. ومحملها على أن التزمُّل حقيقة، وقال عكرمة (¬1): معناه زُمِّلْتَ هذا الأمر فقم به، يريد أمر النبوءة فيكون قوله: {اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} مع قوله: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)} [المزمل: 7] تحريضاً على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل ونهار إلاّ قليلاً من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه. ومحمل التزمل عنده على المجاز. فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالاً على أن الله تعالى بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة (¬2)، أن يقولوا: إنه ساحر. ¬

(¬1) ابن كثير، تفسير القرآن (4/ 434). (¬2) انظر ابن هشام، السيرة النبوية (172 - 173).

أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل، ثم فتر الوحي فلما رأى المَلَكَ الذي أرسل إليه بحراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}. فنداء النبي بوصف المزمل باعتبار حالته وقت ندائه وَليس المزمل معدوداً من أسماء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال السهيلي: ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عدّه من أسمائه. {وَاللَّيْلِ}: زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر. وأمْر الرسول بقيام الليل أمْر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزولَ هذه السورة، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما سيأتي في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى قوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20] الآيات ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يحرجه الوحي (¬1) كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري: «فغطني حتى بلغ مني الجَهد» ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] الحديث، ويدل لهذه الحكمة قوله تعالى عقبه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]. وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحي إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة، وهو قوله: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي}. وقد استمر وجوب قيام الليل على رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد فرض الصلوات الخمس تعظيماً ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 258).

لشأنه بكثرة الإِقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل فكان هذا حكماً خاصاً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يكن واجباً على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس (¬1). وقال {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقيد {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} بمثل ما قيد به {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك: «إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» فقال: «أفَلا أكونُ عبداً شكوراً (¬2)». والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه: إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملَك. والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيراً على الرسول الأمّي تنوء الطاقة عن تلقّيه. وأشعر قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله قبله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ} وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه. قال ابن عباس: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربَّد له جِلده» (أي تغير بمثل القشعريرة) وقالت عائشة: «رَأَيْتُةُ ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفَضُّ عرقاً (¬3)». ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 258). (¬2) البخاري، باب قيام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (4/ 292). (¬3) البخاري، باب بدء الوحى (1/ 4).

ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه. وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإِحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه. {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} .. والمعنى: أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرّك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية. والوِطاء: الوفاق والملاءمة، قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]. والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد (¬1). والأقوم: الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاح والالتواء واستعير {وَأَقْوَمُ} للأفضل الأنفع. فالمعنى: أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر (¬2). {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)} .. يفيد تأكيداً للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غَناءه فيتحصل من المعنى: قم الليل لأن قيامه أشد وقعاً وأرسخ قولاً، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك. وشغل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 263). (¬2) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 263).

ومحاجة المشركين وافتقادَ المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإِيقاع ما عسى أن يكلفه قيامُ الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه (¬1). وقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} [العلق: 9، 10]. وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ. ويظهر أن يكون كل هذا مقصوداً لأنه مما تسمح به دلالة كلمة {سَبْحًا طَوِيلًا (7)} وهي من بليغ الإِيجاز (¬2). انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي بـ {إِلَى} الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس: والتبتيل: مصدر بتَّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع. المراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم مثل الطِّيب، وتزوج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: «حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب (¬3)». وهو حال مأمور به المؤمنون القائمون بأمر الدعوة التى ينبغى الاتصاف بها. ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 263 - 264). (¬2) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 264). (¬3) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 265 - 266).

وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإِعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة. ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإِشراك، وهو معنى الحنيفيّة، وهو التعلق بالله وحده في كل أموره – ومن معانى التبتل ذلك الاعتكاف على الله تعالى، والخلوة به تزودا بزاد جديد يصفى النفس ويقويها على القيام بمهمات الدعوة. ولذلك عقب قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. وخلاصة المعنى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قبلُ غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنّث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة. فالأمر في قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم (51) (وقد نزلت قبل المزمل) {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} على أن القرآن الذي أنزل أولاً أكثره إرشاد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في هذه السورِ الأوللِ منه مقتصراً على سَن التكاليف الخاصة بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتبعه في ذلك الداعون بدعوته المتمسكون بسنته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعُقِّب وصفُ الله تعالى بـ {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} بالإِخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلاّ هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربُوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تعريضاً بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ولذلك فرع عليه قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} وإذ كان الأمر باتخاذ وكيلاً مسبباً عن كونه لا إله إلاّ هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلاً. والوكيل: الذي يُوكَل إليه الأمور، أي يُفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من مَوْجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلاّ عليه، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 10]. {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} .. وهو كذلك من عظيم زاد الدعوة، التوكل في النصر على الله سبحانه، وهو الشأن للدعاة في كل زمان ومكان. عطف على قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل: 9]، والمناسبة أن الصبر على الأذى يستعان عليه بالتوكل على الله. ومن هذا المعنى قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]، وقوله: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} [سورة المعارج: 5]. فالهجر الجميل هو الذي يَقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بغض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرَّضاً لأن يعتلق به أذى من سبّ أو ضرب أو نحو ذلك. فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجراً جميلاً، أي أن يهجرهم ولا يزيدَ على هجرهم سَبّاً أو انتقاماً. وهذا الهجر: هو إمساك النبي عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى: واصبر على ما يقولون.

وليس منسحباً على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي (¬1). وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعاً خُلُقياً بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإِنسان في مخالطَة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطاً فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يَرضْ نفسه بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل (¬2). وفي الآيات الرد القوى على " وات " في أنه وحى من الله إذ من يقول لنفسه ويخزن ويستدعى ذلك من الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن أين الوعى أو اللاوعى أو اللبيدو في ذلك من أين سمع ذلك من قبل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكيف يخبر به نفسه وكيف يقول لها ذلك؟! وكذلك الهجر الجميل والأمر بالتوكل وأن التوكل مع الصبر من أسباب النصر. وإذ كنا قد بينا في سورة المزمل زاد الدعوة والصفات التى على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعاته من بعده أن يتصفوا بها والتعبد القلبى والبدنى اللازم لتحمل تبعات الدعوة ومسؤلياتها، فإن سورة المدثر تبين هدف الدعوة وحقيقتها فهو التوحيد لله وطريقة رفع ذلك، وتجنب عبادة غيره ونبذها والتبرؤ منها ... مع التركيز على صفات جديدة يلزم التحلى بها أو التخلى عنها وهاهى ذى الآيات الكريمات: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} .. نوديّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة. وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال: دثروني دثروني، أو قال: ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 294). (¬2) الفخر الرازى مفاتيح الغيب (15/ 808 - 809).

زملوني، أو قال: زملوني فدثروني، على اختلاف الروايات، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}. وقد مضى عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} [المزمل: 1] ما في هذا النداء من التكرمة والتلطف. والقيام المأمور به ليس مستعملاً في حقيقته في الغالب وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإِقبال والتهمُّم بالإِنذار مجازاً أو كناية. وأفادت فاء {فَأَنْذِرْ} تعقيب إفادة التحفز والشروع بالأمر بإيقاع الإِنذار (¬1). ففعل {قُمْ} منزَّل منزلة اللازم، وتفريع {فَأَنْذِرْ} عليه يبين المراد من الأمر بالقيام. والمعنى: يا أيها المدثر من الرعب لرؤية مَلَك الوحي لا تخف وأقبل على الإِنذار. والظاهر: أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمراً بالدعوة، وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل: 15]، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل: 11]. وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدىء بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإِنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذٍ محتاجة إلى الإِنذار والتحذير. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} .. ¬

(¬1) المصدر السابق.

فالتقدير: مهمْا يكن شيء فكبّرْ ربّك. والمعنى: أن لا يفتر عن الإِعلان بتعظيم الله وتوحيده في كُل زمان وكل حال وهذا من الإِيجاز. فمعنى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} صِف ربّك بصفات التعظيم ربك أنت الاله الواحد، الحق، وهذا يشمل تنزيهه عن النقائص فيشمل توحيده بالإلهية وتنزيهه عن الولد، ويشمل وصفه بصفات الكمال كلها. وتعريض بأن الآلهة لاتستحق الالوهية بل هي مخلوقات زائلة. ومعنى {فَكَبِّرْ}: كبره في اعتقادك: وكبره بقولك تسبيحاً وتعليماً. ويشمل هذا المعنى أن يقول: «الله أكبر» لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير، أي أجلّ وأنزه من كل جليل، وهذا تنبيه على أن الدعوة إلى الله ومعرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحاً للصلاة. وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4] فإنه إيماء إلى شرع الطهارة، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة (¬1). {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} .. هو في النظم مثل نظم {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 3] .. أي لا تترك تطهير ثيابك. وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها، كقول عنترة: ¬

(¬1) ابن عاشور، التحريروالتنوير، مصادر أخرى أبو السعود، ارشاد العقل اسليم (5/ 787)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (15/ 825).

فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم (¬1) وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 33]. والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي «إِن الله نظيف يحب النظافة». وقال: هو غريب (¬2). والطهارة لجسده بالأولى. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} .. {وَالرُّجْزَ}: يقال بكسر الراء وضمها وهما لغتان فيه والمعنى واحد عند جمهور أهل اللغة. وقال أبو العالية والربيع والكسائي: الرّجز بالكسر العذاب والنجاسة والمعصية، وبالضم الوثن (¬3). ويحمل الرجز هنا على ما يشمل الأوثان وغيرها من أكل الميتة والدم. وتقديم {وَالرُّجْزَ} على فعل {فَاهْجُرْ} للاهتمام في مهيع الأمر بتركه. والهجر: ترك المخالطة وعدم الاقتراب من الشيء. والهجر هنا كناية عن ترك التلبس بالأحوال الخاصة بأنواع الرجز لكل نوع بما يناسبه في عرف الناس. ¬

(¬1) عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسى، من أشهر فرسان العرب في الجاهلية، وأحسنهم شيمةً وأعزهم نفساً. والبيت من معلقته. (¬2) ابن عاشور التحرير والتنوير، أبا السعود، ارشاد العقل السليم (5/ 787). (¬3) أبو حبان البحر المتوسط، ابن عاشور، التحرير والتنوير (29/ 298).

والأمر بهجر الرجز يستلزم أن لا يعبد الأصنام وأن ينفي عنها الإلهية. ومناسبة عطف {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)} على الأمر بهجر الرجز أن المنّ في العطية كثير من خُلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهياً يقتضي الأمر بالصدقة والإِكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: وتصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن، أي لا تعدّ ما أعطيته كثيراً فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت. والسين والتاء في قوله: {تَسْتَكْثِرُ} للعدّ، أي بعد ما أعطيته كثيراً. وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة، أي لأنها من خلقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي «إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم». ففي هذه الآية إيماء إلى التصدق، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة. والمنّ: تذكير المنعِم المنعَمَ عليه بإنعامه. والاستكثار: عدّ الشيء كثيراً، أي لا تستعظم ما تعطيه. وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة (¬1). {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} .. تثبيت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاقّ الدعوة. والصبر: ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها. ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمّل للشيء الشاقّ. ¬

(¬1) انظر ابن عاشور، وانظر أبا السعود، ارشاد العقل السليم، وغيرها.

ويعدّى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف {عَلَى}، يقال: صبر على الأذى. ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدى إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام. ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين، فلا يقال: اصبر على الله، ويقال: اصبر على حكم الله، أو لحكم الله. فيجوز أن تكون اللام في قوله {وَلِرَبِّكَ} لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف، أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [سورة الطور: 48] وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)} [سورة الإِنسان: 24] فيناسب نداءه بـ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] لأنه تدثر من شدة وقع رؤية المَلك، وتركُ ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب. وتقديم {وَلِرَبِّكَ} على {فَاصْبِرْ} للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة، وجَعل بعضهم اللام في {وَلِرَبِّكَ} لام التعليل، أي اصبر على أذاهم لأجله، فيكون في معنى: إنه يصبر توكلاً على أن الله يتولى جزاءهم، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أذى المشركين. وفي التعبير عن الله بوصف {وَلِرَبِّكَ} إيماء إلى أن هذا الصبر برّ بالمولى وطاعة له. فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مبدإ رسالته وهي من جوامع القرآن أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته. تبين بواعث الدعوة وأهدافها وطرائق القبول لها، والزاد الذى يُقَوى على تحملها، وأسباب النصر فيها وكل ذلك مما يراد من المؤمنين – المتقين – اليوم ليعودوا لرفع راية الاسلام ونشر دعوته، وقد رأينا في ذلك الحكمة، والتعامل الحسن والصبر، والعبادة. وتحمل في طياتها كثير الرد على "وات" وأمثاله في بواعث الدعوة التى أخترعها ونسج حولها مالم يأت به كتاب، أو يتفوه به كاتب.

وفي توضيح تلك المعانى ما يغنى عن إيراد الردود. مما سبق من شرح الآيات الأولى المنزلة على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تم تأكيدها بآيات كثيرة نزلت لتدل دلالة واضحة على مضمون الدعوة وأسبابها، وبواعثها، وما ينبغى على حامل هذه الدعوة أن يكون عليه من أخلاق وصفات، ثم على جراء هذه الدعوة وأن ليس للداعى أو عليه إلا بذل جهده فيها فقط ليتحقق له أسباب نجاتة في الدنيا والآخرة.

المبحث الخامس بواعث الدعوة

المبحث الخامس بواعث الدعوة ونأتى بعد ذلك لمناقشة سريعة مع "وات" وان كان يفضل أن نطول بسبب آرائه في الدعوة وبواعثها، ولكن الاختصار دعانا لأن نرد على ما يهم فقط. أول ذلك: بواعث الدعوة. ونلخص آراء "وات" في بواعث الدعوة الاسلامية فيما يلى: 1 - أن الدين الجديد جاء ردا على مرض العصر حيث تطور العرب من حياة البداوة إلى اقتصاد حضارى، وقد ذكر ذلك في كتابة "محمد في المدينة" ومعنى ذلك أن باعث الدعوة اقتصادى مادى بحت (¬1). 2 - ذكر في كتابة " محمد في مكة" ما يناقض ذلك فيقول ما ملخصه: إنه ولو كان محمد على علم واسع بالأمراض الاقتصادية ... فإنه كان يعد الناحية الدينية أساسية ولهذا حصر اهتمامه بهذه الناحية " (¬2). 3 - ذكر أن الجانب الدينى صحيح في حركة محمد التى تزعمها ولكنه وثيق الصلة بالجوانب الاخرى (¬3) أي السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ¬

(¬1) "وات"، محمد في المدينة (261) الطبعة الانجليزية. (¬2) "وات"، محمد في مكة (99) الطبعة الانجليزية. (¬3) Ibid p.37 .

وقبل مناقشة "وات" فيما سبق نذكر بأنه بنى كتبه وكلا مه على أن الدعوة الإسلامية لا علاقة لها بالوحى، ولا تعلق لها بالسماء، وهذا ما يدلك عليه نكل ما أوتى حتى يستطيع بنو دينه وجلدته أن يكونوا الرأى اللاهوتى في سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودينه، إذ هو دافعه الذى نص عليه في بداية كتابه كما نوهنا أكثر من مرة ليبنى عندهم الخلفية الصلبة في رد الاسلام، وذلك الذى حدث واقعا، وبناء على ذلك رأينا اضطرابه في بواعث الدعوة، إذ لو كانت الإلهيه عنده كما هي في الحقيقة لم نحتج منه أو من غيره إلى ذكر بواعثها، لأنها تكون التنزيل الإلهى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في كل ما يتعلق بها. ولتوضيح الرد على كلام " وات " نقول: أولا: إذا كان الباعث ماديا جاء ردا على مرض العصر من انتقال العرب من حياة البداوة إلى الاقتصاد الحضرى، فما أبعد هذا الكلام وأجدره بالإهمال لعدة أمور: الأمر الأول: لأن العرب لم ينتقلوا إلى الحياة الحضرية متطورين كما يزعم "وات" من الحياة البداوية حين جاءهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة، بل ما زالوا إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى والبداوة هي الغالبة عليهم. الأمر الثاني: ماهى آثار أو مظاهر أو مكونات وأفكار هذا الباعث المادى الذى دعاهم إليه، وما الذى ظهر عليهم وغلب على تصرفاتهم من اتباعهم لهذا الباعث، لنقول تلك اراء ومبادئ هذا الباعث قد ظهرت عليهم، بل على واحد منهم. هذا الكلام لا أصل له ولا حقيقة، ولا له ذرة قد تحققت في ذوات الأشخاص أو على الأرض آنئذ. الأمر الثالث: ما هي أعراض مرض العصر الذى يلصقه "وات" في القرن العشرين بالقرن السابع ويسقطه عليه إسقاطا، إنه لم يعرف أهل ذلك القرن، ومن بعدهم هذا اللفظ أصلا فضلا عما يعنيه، فكيف نصمهم به ونفرضه عليهم، ثم نحاكمهم باتهامهم به. حيث

لم يذكره مؤرخ واحد منهم إلى يومنا هذا فيما وقع تحت أيدينا من مراجع ومصادر. ثانيا: إذا كان الباعث ماديا فأين ذلك في القرآن الكريم الذى دعا إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأين ذلك في سيرته المشرفة وسنته المطهرة، ثم قد اتفق المفسرون والمحدثون والعلماء كافة على خلاف ذلك الأمر المادي، حيث جاءت الآيات الكريمات به، والأحاديث الشريفة بتحديد النظرة الصحيحة عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للدنيا كلها لا للبواعث المادية فقط، بكونها معبراً للآخرة وأنها زائلة وأن العمل والسعي يكون لما عند الله إلى آخر ذلك، وقد حقق ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتطبيقات الحية من كونه نبيًا عبدًا، لا نبيًا ملكًا. ثالثًا: هاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهاجر الصحابة المكرمون يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله، ويؤثرهم أهل المدينة على أنفسهم مع ما بهم من خصاصة هل كل ذلك من الباعث المادي، وقد تركوا أرضهم وديارهم وأموالهم وأزواجهم وأولادهم لله ورسوله؟ إنه من أعجب المصائب التي حلت بالبحث العلمي. والردود كثيرة على "وات" ومقصدنا الأصلي السيرة. ثم إن كان العامل الديني وهو كما قرره "وات" خليط من النصرانية واليهودية لا علاقة بالله لتصنع المشروع العربي هو الباعث فما باله يتطور في فكر "وات" ليصبح عاملاً ماديًا إذ كيف يلتقيان، ولم يذكر العامل المادي الاقتصادي؟ أما التناقض الثالث وهو إنه ديني جاء لمعالجة الجوانب الاقتصادية .. فنعم على المفهوم الصحيح أن دين الله جاء لتحقيق هداية الناس وأسباب نجاتهم في الدنيا والآخرة وبالتالي لا ينفك أن يكون مصلحًا باتباعهم لتعاليم السماء لكل جوانب حيواتهم، واستقامتها على النهج الأرشد في كل ما يخص البشر.

أما باعث الدعوة وما يتعلق بها من جوانبها كافة مجملاً في بعضه مفصلاً في الباقي فهو كما أكدته الآيات الأولى، حيث لم يتركه الله جل وعلا لتقدير أو تحرير أحد وتنظيره، فمنها قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 2 - 3] الدعوة إلى توحيد الرب سبحانه، وإنذار كل من ذكرنا بذلك، وببقية مضامين الدعوة المحصلة لهذا التوحيد الذي ينبني عليه سعادة الدنيا والآخرة بداية بقوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3] وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]. وذكر عبد الله النعيم في هذا المقام كلام الإمام ابن كثير حيث يقول: "بعث الله محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على حين فترة من الرسل وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، فقد كان العرب ممسكين بدين إبراهيم الخليل، فبدلوه وغيره واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًا، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك كان أهل الكتاب، قد بدلوا كتبهم وحرفوها، فبعث الله محمدًا بشرع عظيم شامل كامل فيه الهداية والبيان لكل ما يحتاج إليه الناس من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى جميع المحاسن، وأعطاه ما لم يعط أحدًا من الأولين والآخرين" (¬1) فجاءت الدعوة لتكون للناس كافة حتى قيام الساعة، وبحيث يكون محمد - عليه السلام - خاتمًا للنبيين: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] (¬2). ¬

(¬1) مختصر ابن كثير (478/ 3). (¬2) انظر عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية" (76).

المبحث السادس عالمية الدعوة

المبحث السادس عالمية الدعوة وقبل أن ننتقل عما سلف من نقد لـ"وات" في الدعوة، فلا بد من الإشارة إلى موضوع مهم، وهو من مواضيع "وات" والمستشرقين (¬1) وهو تجريد دعوة الإسلام من عالميتها، مع أنه أمر كفلق الصبح واضح لكل أعمى أن الإسلام منتشر في المشارق والمغارب من الدنيا، وأن من نشروا الإسلام في أقاصي الأرض من أوربا وآسيا وغيرهما كان كثير منهم غير عرب وهذا الواقع لا يحتاج لأدنى بيان، حتى يشكك في أصله، وأن هؤلاء جميعًا دخلوا في دين لم يأمرهم بذلك، ولم يدعهم إليه. ونبدأ هنا بذكر الدوافع والبواعث التي جعلت "وات" وغيره يستبعد فكرة عالمية الرسالة الإسلامية. ويمكن للباحث - وهو في غاية الإنصاف - أن يقول إن الاستشراق بحكم انتمائه للكنيسة وعمله تحت رايتها، أو المؤسسات السياسية المرتهنة للكنيسة في الغالب ليس في استطاعته أن يتقبل فكرة العالمية الإسلامية أو حتى مجرد إثباتها بحثيًا فضلاً عن الترويج لها في كتاباته، إذ معنى ذلك أن تحارب الكنيسة نفسها، وتفقد أحد مبررات وجودها، أو المبرر الأقوى (الأوحد) إن صحت الدعوة الإسلامية عند أحد منهم، وفي ذلك نهاية الوجود ¬

(¬1) كبروكلمان، وفلهاوزن، الأول في تاريخ الشعوب الإسلامية، والثاني في تاريخ الدولة العربية، ترجمة عبد الهادي أبي ريدة (4 - 5)، وانظر عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية" (77 - 82).

المسيحي، فلا يستطيع المستشرق ذو العقلية والثقافة المسيحية أن يتحدث إذن عن عالمية الإسلام، خاصة وأن هذه الدراسات الاستشراقية هي التي تشكل العقلية الغربية، وتحدد موقفها من الإسلام، يكفي إبراز بعض حقائق الإسلام بعد تشويهها حتى تظل الكنيسة محتفظة برعاياها. (¬1) ونعود فنناقش عالمية الدعوة مع "وات" وأشباهه لأن الحديث عن إقليمية الدعوة تعني إسقاط الطابع الوضعي العلماني عليها، ولذا رأيناه يقرر أن القول بأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا الإمبراطور البيزنطي والفارسي وغيرهما للدخول في الإسلام قول خاطئ، لأنه من غير المعقول أن يوجه سياسي حكيم كمحمد مثل هذا النداء، وأن تقارير السفراء الذين أرسلهم مملوءة بالتناقضات. (¬2) ويواصل "وات" كلامه معترضًا على كتب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للملوك يدعوهم إلى الإسلام، زاعمًا بواعث أخرى لهذه الرسائل إذا قبل بوجودها فيقول: "وهذا شيء غير معقول إذا كانت الرسائل دعوة للدخول في الإسلام، والاعتراف بمحمد كزعيم ديني، لأنه لا يمكن تصور نجاشي الحبشة وإمبراطور الروم يستجيبان لمثل هذه الدعوة لكن إذا قبلنا بأن الأشخاص المذكورين حملوا فعلاً رسائل من محمد إلى أصحابها، وأنهم استقبلوا استقبالاً حسنًا فليس من المستحيل أن يكون محتوى الرسائل قد تبدل نوعًا ما خلال النقل ... تسمح لنا هذه الفرضية أن ندعي أنه إذا كان محمد قد ألمح إلى معتقداته الدينية، فإن المشكلة الحقيقية كانت سياسية، ربما اقترح عقد محالفة حياد ربما أراد مجرد منع المكيين من الحصول على المساعدة الخارجية، لأنه يستبعد من محمد دعوة هؤلاء الحكام الأقوياء للدخول في الإسلام. (¬3) ¬

(¬1) بتصرف من عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية" (82)، مع نقله عن العقيقي، "المستشرقون" (113 - 120/ 1). (¬2) "وات"، "محمد في المدينة" (). (¬3) Ibidpp4 - 42 عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية" (78).

نحن مضطرون لاستكمال عرض بقية كلامه الذي يبين بوضوح موقفه لأنه وجه كل ما يمت لعالمية الدعوة من قريب أو بعيد بصلة، نافيًا ومؤولاً، ومخترعًا لفرضيات يفسر بها هذا الأمر، فيدعي فيما سنذكر أن دعوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت خاصة بقريش، ثم يلمز ما جاء في القرآن مفيدًا غير ذلك فيقول: "اعتبر محمد نفسه أول الأمر مرسلاً إلى قومه القرشيين، ثم أخذ شيئًا فشيئًا وبدرجات لا تبدو بوضوح في القرآن يتراءى له هدف أوسع لرسالته، دعا قبل الهجرة بعض أفراد القبائل البدوية إلى الإيمان بالله عدا مفاوضة سكان المدينة، ثم احتلت فكرة الأمة القائمة على أساس ديني مكان الصدارة بحلول الهجرة." (¬1) ويذكر توسع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الدعوة، ولكن يلبسها ثوبًا آخر فيقول: "نحن نعتقد بأن محمدًا بعد عودته من الطائف أخذ يدعو أفراد القبائل البدوية للدخول في الإسلام، وإن وراء هذا النشاط فكرة غامضة في توحيد العرب جميعًا." (¬2) كلام "وات" السابق، وكلام غيره من المستشرقين في ذات المسألة مليء بالتناقض الصارخ والحشد الهائل من تعمد الخطأ، وكما ذكرنا نعزوه لانتمائه الكنسي، ولتطعيم رعايا الكنيسة بالواقي من التفكير في الإسلام أو النظرة الموضوعية له، بل لتكوين آراء رفضه ومقت نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومحاربته. ونبدأ في النظر في كلام "وات" من حيث انتهى، لأنه يوافق الترتيب التاريخي للسيرة، ونشير إلى هذه المغالطة أولاً: وهي قوله: "غير أن قول بعض المصادر، وهي ليست أقدم المصادر أنه نظر للإسلام على أنه دين شامل وعام" (¬3) وهذه المغالطة المكشوفة نذكر شيئًا منها في هذا السطر من كلامه لنرى العجب: ¬

(¬1) "وات"، "محمد في مكة" (138)، "وات"، "محمد في المدينة" (143). (¬2) "وات"، "محمد في مكة" (141). (¬3) "وات"، "محمد في المدينة" ().

أولها: فقوله بعض المصادر، ولم يذكر شيئًا منها طبعًا، هذه واحدة أنه على العكس ليس بعض المصادر ذكرت ذلك، بل كل المصادر، إذ لا يمكن لمصدر يدعي الإسلام أن يقول إنه دين غير شامل - ناقص هو - أو غير كامل لكل أحد، وندلل على ذلك بالسؤال، لو قيل لأي أحد من هؤلاء الصحابة المقدمين فضلاً عن أبي بكر - رضي الله عنه - مثلاً هل الإسلام الذي تدعون إليه دين شامل وعام؟ لا يظن من ساعتها أن يقول لا، بل نعم بغير تردد ولا روية ولا تفكير ولا نظر، وهذا يجرنا إلى: ثانيها: وهي المغالطة المفضوحة في قوله بأنها ليست أقدم المصادر، فبعد عدم ذكره إياها نعتها بأنها ليست أقدم المصادر وهذا من التشويش والشغب بالباطل على الحق الواضح بادعاءات لا أصل لها، لو سألنا "وات" نفسه دلنا على مصدر من ذلك لما استطاع، فهل ترى مصدر أقدم من أبي بكر والصحابة ومن نقلوا عنهم، ودونوا السنة من ورائهم، كلهم نقلوا أن الإسلام دين عام وشامل. ثالثها: أن مصدر ذلك كله هو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يأمره به ربه، وبما أرسله به إلى الناس ليبلغهم إياه، وذلك في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بعثت إلى الناس كافة" (¬1) ومصدقًا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] وسنفصل ذلك بعد قليل إن شاء الله. نعود إلى "وات" لنكر على كلامه من آخره، فنراه يذكر أن محمدًا بعد عودته من الطائف أخذ يدعو أفراد القبائل البدوية للدخول في الإسلام، ويصعب عليه أن يقول إنه مأمور، أو مرسل إليه بدعوة غير قريش وأن الدعوة عامة لكل الناس، بل وجه ذلك بباعث لا علاقة له بالدين، أو بشخصية الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو بواقع الأحداث، وإنما هو اختراع من اختراعات "وات" التي لا تنتهي لتفسير التاريخ بما لا يتفق مع وقائعه وهو أن وراء ¬

(¬1) البخاري (438) من رواية جابر بن عبد الله.

هذا النشاط فكرة غامضة في توحيد العرب جميعًا. سنوافق "وات" في أن وراء ذلك ليس عالمية الدعوة ولكن ما الغموض في فكرة توحيد العرب جميعًا، وما الذي يمكن أن يكون غامضًا عندما يعرض محمد فكرة توحيد العرب، وما الذي سيثقل على قريش فهمه حينئذ، ولا يمكن إدراكه لخفائه وغموضه، بل لو عرضت هذه الفكرة على قريش – وسنستخدم ألفاظ "وات" – فما المانع أن يرحبوا بها، وتلاقي صدى عندهم في أن يتوحد العرب جميعًا وراء قريش، إنه إذًا تهويل من القول لا معنى تحته، ولا طائل من ورائه، إلا قطع الطريق على محاولة فهم الإسلام من عرب ومن عجم بصراخ ليس غير. ونلتفت إلى ما بعد هذا الكلام، وهو قوله بأن الدعوة كانت لقريش، وأن محمدًا اعتبر نفسه في أول الأمر مرسل إليهم، وتراءى له بدرجات لا تبدو واضحة في القرآن أن له هدفًا أوسع لرسالته فدعا هذه القبائل البدوية عدا سكان المدينة ومفاوضتهم، ثم احتلت فكرة الأمة على أساس ديني الصدارة قبل الهجرة مباشرة. وهذا كلام متناقض جدًا ينسف بعضه بعضًا، وأوله ألم تقل يا مستر "وات" أن ليس ثم وحي وأن أجزاء من القرآن سمعها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستدعاها بعد ذلك، وأنه اللبيدو، وغير ذلك من تعليم ورقة وقد مات ونحوه مما زعمت وادعيت فأين ذهب ذلك كله؟ حتى تقول إنه في أول الأمر اعتبر نفسه مرسلاً لقريش فمن الذي أرسله، ثم تراءى له في القرآن هدف أوسع لرسالته وبدرجات لا تبدو بوضوح فأنى له وهو الذي يستدعي ذلك أو يقال له ثم يتراءى له بغير وضوح كيف وهو الذي قاله ويحفظه وبلغه، ثم يتراءى له عدم وضوحه، ثم يتلقى الكفار من قريش وغيرهم هذا الكلام منه ويؤمنون به، لا يجادلون فيه ولا يمارون ولا يتراءى لهم مع أنه كان الأولى بهم إذا مبلغهم يتراءى له، ويتناقض، ولا

يعلم ما يقول كاملاً واضحًا، يبلغه البلاغ المبين؛ الذي لا إبانة بعده، ولا وضوح مثله، وهو السياسي الحكيم كما تدعي في سياق الموضوع. كيف انقلب بك الحال إذن في نظرتك للرسالة والوحي والرسول إلى هذا الحد من تهافت البحث وتناقضه وتكذيب اللاحق من قولك للسابق. ثم تزيدنا إيمانًا بما نقول فيك، عندما تملأنا يقينًا بذكرك إن قيام الأمة على أساس ديني كان له مكان الصدارة بحلول الهجرة، فعلى أي أساس كان يدعو القبائل وأفرادها كما زعمت، وبماذا ردوا قوله، وعلى أي شيء بايعه أهل المدينة (يثرب) فهو من أول يوم - كما سنذكر شيئًا عن المسلمين الأوائل - كان يدعوهم للدين لتوحيد الرب لنبذ عبادة الأوثان للصلاة والصلة والعفاف وهذا من تكاليف الدين إلى آخره لم يتضح له ما كان يتراءى في القرآن الكريم إلا بحلول الهجرة، ترى لو لم يهاجر، فما عسى أن يكون عليه الموقف؟ وما موقف من آمنوا مبكرين برسالته قبل الهجرة بزمن طويل، ألم يبلغهم بكل وضوح وبيان أن الدعوة عامة شاملة من أول يوم ليدعوا أقوامهم كذلك إليها، وبكل وضوح وثقة. ثم نورد الآن بعض ما تلاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على العالم كافة من آيات الذكر الحكيم وأحاديثه النبوية المشرفة التي تدل على عالمية الدعوة من أول أيامها ردًا على ما سبق قبل أن نناقش "وات" في رسائل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للملوك والحكام يدعوهم إلى الدخول في الإسلام لا لشيء آخر. يقول المولى جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفرقان: 56] وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27، 28]

وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52] وقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104] وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] ونقتصر على هذه الآيات إذ هي وافية تمامًا بالغرض والرد على "وات" في ذات الوقت ونلاحظ ذلك فيما يلي: أولاً: أن هذه الآيات كلها - من سوء طالع "وات" - كلها مكية، وإن مطالعته للقرآن كمصدر أول عنده ليصادف هذه الآيات ويصطدم بمعانيها، وبدلاً من التسليم بما لا مجال في إنكار، ثم بعد ذلك إعمال الفكر والنظر والتحليل فيه إذ به يتجاهل هذه الآيات كلها، أو يؤولها هذه التأويلات المتعسفة المجافية للحقيقة المخالفة للواقع، وبكل سهولة ومن غير غضاضة، وبدون أسف على المنهج العلمي المدعى، وهو يبين في نفس الوقت المنهج الانتقائي لـ"وات" (¬1)، حيث يتجاهل الآيات والروايات الإسلامية، مؤلفًا تاريخًا يناقشه ويبحث له عن دوافع. ثانيًا: إن مكية هذه الآيات ليؤكد مبدأ عالمية الدعوة منذ ظهرت، وجاءت تلك العالمية في أول سورة نزلت بعد قوله "اقرأ" على قول جمهرة من المفسرين، وهي سورة القلم حيث ذكرنا الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وهذا له مغزاه ودلالاته العقيدية، إذ لم تظهر في العهد المدني فيكون حجة بأن عالمية الرسالة جاءت تطورًا للجماعة الإسلامية وقيام دولتها، بل لما قامت هذه الدولة بدأت تدعو لمعتقداتها التي تدرجت في الدعوة إليها، وتهيأت الظروف للقيام بأعبائها والتوسع فيها، فانفتحت على العالم الخارجي. ثالثًا: مما نلاحظه في هذه الآيات تلك النظرة المتكاملة المتسقة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسالته، فهي ¬

(¬1) عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية" (80).

للبشارة والإنذار والرحمة والذكر والذكرى، وكل ذلك متوائم مع دعوة مكة ومن حولها وأهل الكتاب والناس كافة، وجميع العالمين، وأنه النبي الخاتم به ختم النبيون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ويدل في ذات الوقت على التدرج المناسب لقبول الدعوة وانتشارها، وأن ذلك إنما كان عن أمر الله به في أمره بما سبق كله، وما يبرهن ذلك إلا على أن هذه دعوة الله تعالى وهدايته التي أسداها إلى جميع خلقه، فكيف تكون ناقصة أو غير عامة، سواء في تفصيلاتها أو في كلياتها العامة الصالحة لكل زمان ومكان. وآخر ذرائع "وات" التي تذرع بها ليمنع عالمية الدعوة، هي رسائل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الحكام والملوك، ما برح "وات" أن يكون كعهدنا به كما هو ينكر الروايات الصحيحة، وينشر الضعيفة الشاذة، ويخترع تاريخًا لم يكن، ويوجه له دوافع وبواعث ما كانت ولن تكون، وهذا ما حدث لرسائل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للملوك وحكام الدنيا آنئذ، فهو ينكر الرسائل أولاً، وهي ثابتة في مصادره التي لا يملك سواها، فإن قبلها فهي مليئة بالتناقضات، أو قد تبدلت هذه الرسائل قبل وصولها لمحطتها، وإلا فهي سياسية ألمح فيها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى معتقداته الدينية مجرد تلميح وسياستها أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترح عقد محالفة حياد، أو ربما أراد منع المكيين من الحصول على المساعدة الخارجية، لأنه لا يمكن أن يدعو هؤلاء الحكام الأقوياء لأن يكونوا من أتباعه – أي بالدخول في الإسلام – خاصة وهو السياسي الحكيم – عليه أفضل الصلاة والسلام. ونناقشه سريعًا – ونحن حزانى ندامى – أن مثل هذا يناقش. ونبادره القول بأن هؤلاء الحكام الأقوياء الذين لا يمكن لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدعوهم إلى الإسلام هزمهم أتباع سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شر هزيمة في التاريخ من أوله إلى آخره، وكما يعلم القاصي والداني، لم يهزمهم بسياسة ولا عدد ولا عدة ولكن كما هو ثابت عند "وات"

والمستشرقين أنهم هزموهم بذلك الدين الذي عرضوه عليهم فإذا كان هؤلاء الأقوياء قد هُزموا وليس أمام محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فما بالك لو كان القائد لذلك هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كانت قيادتهم لبعض أتباعه، وفعل بهم ذلك ثم يجيء منهج "وات" في البناء والهدم فيبني على كون محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سياسيًا حكيمًا هدم عالمية الدعوة ليقول إن محمدًا السياسي الحكيم لا يمكن أن يفعل ذلك؟ لِمَ أيها العبقري وهو يدعو بدعوة الله، وبأمر الله، لا يهمه أحد لأنه يعلم تمام العلم أن النصر من عند الله تعالى، وأنه مطالب بتبليغ دعوة الله إلى الناس كافة وهي ملخصة في قوله لهم: "أسلم تسلم" (¬1)، ولا يستطيع إلا أن يأتمر بأمر الله جل وعلا: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقد تحقق ذلك كله بفضل الله تعالى. فأين أولاً بعد ما سبق عقد محالفة حياد، أو منع المكيين من وصول المساعدة الخارجية لهم، وقد ذكر أصحاب السير وقرأها "وات" أن أهل مكة كانوا في هدنة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتركوا حربهم، بعد أن نهكتهم المعارك، وأضرت بهم الحروب بحيث انتهت الحروب بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهل مكة، ولم يبق إلا فتح مكة كما هو معلوم بغير قتال، فما حاجته لافتراضات "وات"، أو إنها توهمات "وات" وخيالاته التي يفترض فيها أمرين: الأول: التناقض في الرسائل، الثاني: تبدلها مع وصولها إلى المرسل إليهم. وكلا الافتراضين لا دليل عليه إلا تشويه أمر الدعوة في عقل القارئ بدون أي برهان، لما في نفس المستشرقين من حاجات يقضونها من دين الله تعالى، وإلا فما الدليل على أي من ذلك، إلا النفث في روع المتهمين بأن الإسلام دعوة قومية، لا علاقة لها بالسماء لتناقضها، وأن الدين - أي اللبيدو - عنصر فيه. ¬

(¬1) البخاري، صحيح، بدء الوحى (1/ 8).

وقد ذكر عبد الله النعيم في كتابه الاستشراق في السيرة النبوية أن الدكتور "محمد حميد الله الحيدر آبادي" قد قام بتحقيق رسائل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب سماه "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي" (¬1) ولم يتبين أو يُثِر فيها شكًا ولا تناقضًا – ليس دفاعًا عن رسائل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه لم يرد بها على أحد، وإنما أورد الرسائل كما وردت في السنة المشرفة كبحث من بحوثها، وليس أمامنا إلا افتراض أن تلك النصوص التي نقلت هي ما قيل ما دام ذلك صحيحاً، ما لم يكن عندنا طعن في سندها أو متنها من المتخصصين في هذا العلم، فما كان إذن على "وات" إلا التسليم بصحة الرسائل، ثم بعد ذلك ينظر في فهمها وتحليلها، وهو ما لم يحدث بل ألقى القول على عواهنه، ومن غير متخصص فيه، بعد عدم نجاحه في تكذيب أو رد تلك الرسائل. إذا نظرنا في تلك الرسائل رأيناها جميعًا ذات صبغة دعوية إسلامية: "إني أدعوك إلى الله وحده، وأن تتبعني وأن تؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله" (¬2) أو قوله فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم" وليس فيها إشارة من قريب أو من بعيد أو قول أصلاً لعقد محالفات سياسية، أو منع مكة من المساعدات الخارجية. إن مما لا شك فيه أن تعامل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع كل أولئك لم يكن من منطلقات سياسية، لأن الوضع السياسي للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو كما يقول "وات" السياسي الحكيم ما كان يسمح بالسياسة والتحالفات مع كل أولئك بأي حساب من حسابات القوى، ومن ثم لم تكن له إلا الوجهة ¬

(¬1) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى، رسالة النبي إلى النجاشى (24)، انظر رد النجاشى عليها (26 - 28)، الاستشراق في السيرة النبوية، عبدالله النعيم (81). (¬2) عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية" (81 - 82)، ونقل في الهامش، الحيدر آبادي، "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي" رسالة النبي إلى النجاشي، (24)، وانظر رد النجاشي عليها (26 - 28)، ورسالة النبي إلى هرقل (29 - 30)، وانظر رد قيصر عليها (31)، وانظر رسائل النبي إلى المقوقس (50)، وكسرى (54)، والحارث بن أبي شمر، وجبلة بن الأيهم الغساني (41)، والمنذر بن ساوي (55 - 56).

الواحدة الدعوة إلى الله تعالى مخاطبًا إياهم من منطلق ديني محض، وهو قوله تعالى كما ذكرنا {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. ونورد في نهاية هذا المبحث شيئًا مما ورد عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يردده على مسامع الناس كافة إلى يوم القيامة بدون تردد، مبينًا لهم البيان المبين، بأنه أُرسل إلى جميع الثقلين فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت إلى الأحمر والأسود" (¬1)، وحديث: "بعثت إلى الناس كافة" (¬2)، وحديث: "أرسلت إلى الناس كافة وبي ختم النبيون" (¬3)، وحديث: "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" (¬4). وهذه الأحاديث تبين عالمية الرسالة، وهذه الأحاديث تدحض كلام المخالفين، بحيث يكون تصديق الواقع لها من أكبر دليل على صحة نسبتها إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع صدق المنبني عليها من كون هذه الرسالة عالمية شاملة عامة، ودليل على معجزة النبوة وصحتها في وقت لم يكن لرسول الله أن يقول هذا القول إلا وهو مؤيد من السماء. بدأت الإسلامية سراً - كما ذكر من ذكر من أهل السير - يعنى يدعو الناس - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خفية إلى التوحيد، ونبذ مظاهر الشرك. (¬5) وكان المجتمع المكى - شأن سائر الجزيرة العربية - يعتمد في تنظيمه على القبيلة، فهى الوحدة الاجتماعية، ولما كانت مكة تخضع لقبيلة واحدة هي قريش ¬

(¬1) أحمد بن حنبل، "المسند" ()، الطبعة اليمنية، والهيثمي، "مجمع الزوائد" (65/ 6، 58/ 8)، التقي الهندي، "كنز العمال" (32094)، وابن عبد البر، "التمهيد" (218/ 5). (¬2) أحمد بن حنبل، "المسند" (304/ 3)، ومجمع الزوائد (259، 261/ 8)، والبيهقي، "السنن الكبرى" (433/ 2). (¬3) أحمد بن حنبل، "المسند" (248، 256/ 5)، البيهقي، "السنن الكبرى" (433/ 2)، وابن سعد، "الطبقات" (). (¬4) أحمد بن حنبل، "المسند" (304/ 3)، ابن أبي شيبة، "المصنف" (432/ 1)، دار الفكر. (¬5) د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (156).

بفروعها (عشائرها) فقد بدت هذه العشائر ككيانات خاصة لكنها متحالفة داخل الكيان العام لقريش، وكان المتوقع أن ينتشر الإسلام في بنى هاشم - قبيلة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن نصيب بنى هاشم لم يكن أوفر حظاً، بل كان منه أقرباء شديد والعداوة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والإسلام كأبى لهب وأبى سفيان بن الحارث وغيرهم، وكان منهم المتعاطفون مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من سواهم وإن لم يحملهم هذا التعاطف على الإسلام، حيث مات أكبر مناصرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الكفر، وهو عمه أبو طالب. إن الإسلام قد انتشر بصورة متوازنة بين عشائر قريش، فلم يكن لأى منها ثقل كبير في الدعوة، وهذا ما شهد به الواقع، وهو مخالف لطبيعة الحياة القبلية آنذاك. وإذا كان هذا الوضع قد أفقد الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلى لنشر الدعوة وحمايتها، فإن هذه الدعوة لم تؤلب عليه العشائر بحجة تحقق مصالح عشيرة على حساب يقية العشائر. ولعل هذا التوازن أعان على انتشار الإسلام في العشائر القرشية دون تحفظات متصلة بالعصبية، فأبو بكر الصديق من «تيم»، وعثمان بن عفان من «بنى أمية»، والزبير بن العوام من «بنى أسد»، ومصعب بن عمير من «بنى عبد الدار»، وعلى بن أبى طالب من «بنى هاشم»، وعمر بن الخطاب من «بنى عدى»، وعبد الرحمن بن عوف من «بنى زهرة»، وعثمان بن مظعون من «بنى جمح»، بل إن عدداً ممن أسلموا في تلك الفترة لم يكونوا من قريش، فعبد الله بن مسعود هذلى، وعتبة بن غزوان من مازن، وعبد الله بن قيس من الأشعريين، وعمار بن ياسر من مذحج، وزيد بن حارثة من كلب، والطفيل بن عمرو من دوس، وأبو ذر من غفار، وعمرو بن عبسة من سُليم، وعامر بن ربيعة من عنز بن وائل،

وصهيب النمرى من النمر بن قاسط، كان واضحاً من الوهلة الأولى أن الإسلام ليس خاصاً بمكة وقريش. (¬1) أما المسلمون الاوائل فمنهم: 1 - السيدة خديجة – رضى الله عنها – زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهى أول من آمنت بالله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ يدل حديث بدء الوحى على أنها أول من عرفت خبر النبوة وتنزل وحى السماء، وأنها صدقت الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وواسته وآزرته وخففت عنه، وهونت عليه أمر الناس فلا غرابة أن تكون أول من آمن، وكذلك كانت أول من أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبشيره بالجنة، حيث قال – صلوات الله وسلامه عليه -: «أمرت بأن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» (¬2)، وأخباره فضائلها جمة رضى الله عنها. 2 - على بن أبى طالب، فقد أسلم في هذا الوقت المبكر، فقد كان في حجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكرنا تخفيفاً على أبى طالب ورداً لجميله، وهو يومئذ ابن عشر سنين على أصح الأقوال فكان أول الذكور إسلاماً وقد كثرت الروايات الواهية والموضوعة حتى تحديد يوم إسلامه وصلاته، وفضائله الكثيرة الثابته لا تحتاج لهذا الكذب والمغالاة. (¬3) ¬

(¬1) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (132 - 133). (¬2) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (133 - 134)، د. مهدى رزق الله (156 - 157)، والحديث البخاري، فتح الباري (ج3822)، ومسلم (ج 2433 - 2435)، وابن اسحاق، بإسناد حسن، وابن هشام السيرة (1/ 155 - 156)، محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (1/ 283). (¬3) روى ابن اسحاق في السيرة خبر عفيف الكندى لصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخديجة وعلى في مكان واحد وقوله «فياليتنى آمنت وكنت أكون ثانياً»، وإسناده حسن من رواية يونس بن بكير، وهي رواية البيهقى في الدلائل (2/ 162 - 163)، من طريق يونس هذا، قال الدكتور قلعة جى في تخريجه لها: حديث صحيح أخرجه البخاري في التاريخ، وابن كثير في التاريخ والحاكم في المستدرك وقال هذا صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى، انظر الدلائل، وهامشة (2/ 162 - 163)، ابن هشام (1/ 157).

3 - مولاه زيد بن حارثة، وهو الذى اختار البقاء والإقامة مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن يرجع لأبيه وأهله عندما جاء أخوه يطلبه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقام عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتبناه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعرف بـ «زيد بن محمد»، فأقام عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصدقه وأسلم وصلى معه، فلما نزل قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، قال: أنا زيد بن حارثة. (¬1) 4 - أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقد استنبط الحافظ ابن كثير أنه أول الناس إسلاماً من حديث صحيح فيه: «إن الله بعثنى إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق وواسانى بنفسه وماله» (¬2)، وقال هو عن نفسه عندما اختير خليفة للمسلمين: ألست أول من أسلم (¬3)، وقد أسلم أهل أبى بكر بإسلامه، قالت عائشة - رضى الله عنها - «لم أعقل أبوىّ إلا وهما يدينان الدين». وقد ذهب الزهرى إلى أن أول الناس إسلاماً زيد بن حارثة (¬4)، ونظراً لأقوال الزهرى في أن أول من أسلم خديجة فقد توالت محاولات التوفيق بين الأقوال، وأول من وفق بين أقوال الزهرى هو الواقدى. تحرك أبو بكر - رضي الله عنه - وسط أقاربه ومواليه وأصدقائه ومن يثق به من قومه، فاستجاب له نفر كريم منهم: طلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف (¬5) وعثمان بن مظعون وأبو عبيدة بن الجراح وأبو سلمة بن ¬

(¬1) رواه ابن هشام (1/ 160 - 161)، والترمذى، صحيح الترمذى للالبانى (ج 4085)، ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 214)، وقال: «صحيح الاسناد ولم يخرجاه»، وقال الذهبى: صحيح، وفي كتب السيرة مثل عيون الاثر (1/ 94)، وسيرة الذهبى (137 - 138)، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (157). (¬2) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (134 - 135)، والحديث أخرجه البخاري (ج 3661)، وقال ابن كثير في البداية (3/ 30)، وهذا كالنص على أنه أول من أسلم - رضي الله عنه - وانظر السيرة النبوية لابن كثير (1/ 434). (¬3) رواة الترمذى وصححه، وهو في صحيح الترمذى (3/ 201)، حيث صححه الألبانى، وابن حنبل، فضائل الصحابة (1/ 223 - 231). (¬4) عبد الرزاق، المصنف (5/ 325)، من مرسل الزهرى. (¬5) إلى هنا ذكره ابن اسحاق في السيرة (140)، سيرة ابن هشام (1/ 162 - 163)، وذكر من بعدهم.

عبد الأسد، والأرقم بن أبى الأرقم. ومن خلال هؤلاء وغيرهم أخذ الإسلام ينتشر في مكة وخارجها، ودخل فيه أناس من بطون قريش ومواليها كافة، وممن اشتهروا بين السابقين إلى الإسلام من الموالى: بلال بن رباح وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر ووالده وأمه سُمية بنت خباط. (¬1) 5 - ورقة بن نوفل، كان من المسلمين الاوائل وفقا الاحاديث التى بينت ذلك. (¬2) وفي فترة وجيزة وصل عدد الذين سبقوا إلى الإسلام من بطون قريش إلى أكثر من أربعين كما عدهم ابن هشام (¬3)، وأكثر من خمسين كما عدهم اليعمرى (¬4). ونلاحظ على السابقين الأولين إلى الإسلام ما يلى: أولاً: من أكثر الملاحظات انتشاراً قديماً وحديثاً، ثم بعد ذلك أخذاً ورداً لتبيين الحكمة فيها، هي أن الغالب على الداخلين الأولين في الإسلام أنهم خليط من الفقراء الضعفاء العبيد الذين رأوا في الإسلام إحساساً بقيمتهم أو استعادة لحريتهم وكرامتهم. والنظرة المدققة الفاحصة لهذا الرأى نجده مخالفاً للواقع، إذ رأينا أن السابقين إلى الإسلام عندما كان عددهم ثلاثة وستين شخصاً، فإن الفقراء والمستضعفين والموالى ¬

(¬1) ابن حنبل، فضائل الصحابة (1/ 231)، عن مجاهد بسند صحيح، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - (1/ 182)، بسند حسن متصل، والحاكم، المستدرك (3/ 84)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى وغير ذلك، وانظر د. مهدى رزق، السيرة النبوية (159). (¬2) روى أحاديثه أحمد، المسند، الفتح الربانى (20/ 174)، وحسن اسناده الساعاتى، وابن كثير، البداية والنهايه (3/ 10)، عن أبى يعلى وحسنه، وانظر تخريج هذه الاحاديث عند الالبانى على فقة السيرة لمحمد الغزالى (100)، وانظر مهدى رزق الله، السيرة النبوية (159). (¬3) ابن هشام، السيرة (1/ 161 - 167). (¬4) اليعمرى، عيوت الاثر (1/ 93 - 98)، وانظر ابن حزم، جوامع السيرة (44 - 51).

والأخلاط من الأعاجم ثلاثة عشر فقط لا يزيد مجموعهم على الخمس (¬1)، وإذا علمنا أن معظم أصحاب السير إن لم يكن كلهم كانوا مع ذلك الرأى المنتشر علمنا، أنهم لم يكن لهم قصد في تقليل العدد، وإن كانوا لا يقللون أو يكثرون لطبيعة الدين الذى اعتنقوه، والذى لم يكن ليدعو لسوى الحقيقة مع الصدق والأمانة. ثانياً: أن سبب انتشار هذا القول هو أن الذين تحملوا القسط الأكبر من التعذيب الظاهر على ملأ من الناس هم الأرقاء والموالى، ولذلك انتشر أمرهم أما من عذب ضمن قبيلته فلم يذكروا كثيراً لينتشر أمرهم (¬2)، وسنشير إلى شيء من ذلك إن شاء الله تعالى. ثالثاً: أوضح ابن حجر رحمه الله معنى كلمتى «الضعفاء»، «الشرفاء»، اللتين وقعتا في حديث هرقل عندما سأل أبا سفيان أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم، فمعنى الأولى عنده أن أتباع الرسل هم أهل الاستكانة لا أهل التكبر الذين أصروا على الشقاق بغياً وحسداً كأبى جهل وأتباعه، ويكون الشرف في الثانية مرادفاً للكبر والعلو، وهذا هو التفسير الملائم إذ ما ذكرنا من أسماء المؤمنين الأولين، وهم الأغلبية ليسوا أرقاء ولا عبيداً، وإنما كانوا أهل الإنصاف وترك الكبر والمعاندة والجحود. (¬3) ونشير إلى ذكر بعض هؤلاء الذين تقدم إسلامهم وما علمته بهم قبائلهم سواء كانوا من صميمها أو من مواليها وأرقائها. وكذلك لنذكر من قيل إنهم من السابقين الأولين إلى الإسلام. ¬

(¬1) الشامى، من معين السيرة (37 - 39)، ود. مهدى رزق الله حيث ذكر أن كلام الشامى من أروع ما كتب في ذلك، السيرة النبوية هامش (161). (¬2) المصدر السابق، الصالحى، من معين السيرة (35 - 36). (¬3) ابن حجر، فتح الباري (1/ 35 - 36 / ج 6)، ط دار القلم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقى، وفي هذا الرد على د. البوطى وغيره قديماً وحديثاً في هذه القضية، انظر البوطى، فقة السيرة (77 - 79).

تدل رواية صحيحة على تقدم إسلام سعد بن أبى وقاص، وأنه بقى أسبوعاً ثالث مسلم ثم أسلم آخرون. (¬1) وقد نزل القرآن الكريم في خبر إسلامه كما أخبر عن نفسه قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثة أيام حتى غشى عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8]، وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، قال فإذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أو جروها. والحادثة تدل على صلابة موقف المؤمنين الأولين أمام الفتن التى تعرضوا لها. وأسلم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في وقت مبكر، وروى أنه قال إنه الرابع في الاسلام (¬2)، وأسلم طلحة بن عبيد الله التيمى وأسلم الزبير بن العوام، وكان ابن ست عشرة سنة (¬3)، وتشير الرواية إلى تعذيب عم الزبير له بالنار بسبب إسلامه. (¬4) وممن بَكَّر في الدخول في الإسلام خالد بن سَعد بن العاص. (¬5) وأمَّا قصة عبد الله بن مسعود حيث يروى أنه أسلم قبل دخول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دار الأرقم فيحكيها فيقول: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبى معيط بمكة فأتى علىَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وقد فرا من المشركين، فقال: يا غلام هل عندك لبن تسقينا؟ قلت: إنى مؤتمن ¬

(¬1) البخاري، الصحيح، فتح الباري (7/ 83 - 170)، ابن حنبل، فضائل الصحابة (2/ 749). (¬2) ابن أبى شيبة، المصنف (12/ 53)، واسلام طلحة عند ابن سعد، الطبقات (3/ 214 - 215). (¬3) ابن سعد، الطبقات (3/ 102). (¬4) الهيثمى، مجمع الزوائد (9/ 151). (¬5) ابن سعد، الطبقات (4/ 94 - 95)، والحاكم، المستدرك (3/ 249).

ولست بساقيكما قالا فهل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر وأخذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضرع فدعا، فحفل الضرع، وأتاه أبوبكر بصخرة منقعرة، فحلب ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقيانى. ثم قال للضرع: اقْلُص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت علمنى من هذا القول الطيب – يعنى القرآن – فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك غلام معلم فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعنى فيها أحد». (¬1) وذكرت رواية أنه كان سادس من أسلم. ولا شك في تقدم إسلام خباب بن الأرت، وروى أنه السادس في الاسلام (¬2)، وكذلك تقدم إسلام بلال الحبشى، وكان عبداً رقيقاً فاشتراه أبو بكر وأعتقه. (¬3) وقد ثبت أن عمار بن ياسر أسلم مبكراً فقد قال عن نفسه: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر». (¬4) ونذكر تكملة لذلك من غير قريش ومن خارج مكة قصة عمرو بن عبسة السلمى، فقد كان يرى نفسه رابع أربعة، هم أول المسلمين حيث يقول: «فلقد رأيتنى إذ ذاك ربع الإسلام». (¬5) ¬

(¬1) أحمد، المسند (1/ 379)، وابن أبى شيبة، المصنف (11/ 510)، وابن سعد، الطبقات (3/ 150)، وصحح الذهبى إسناد الحديث في سير أعلام النبلاء (1/ 460). (¬2) ابن أبى شيبة، المصنف (12/ 149). (¬3) أحمد، فضائل الصحابة (1/ 182 - 231)، بأسانيد صحيحة، وابن سعد، الطبقات (3/ 233)، والحاكم، المستدرك (3/ 284)، وصححه ووافقه الذهبى. وحديث العتق في البخاري، فتح الباري (7/ 99). (¬4) البخاري، فتح الباري (7/ 18 - 170)، أما الأعبد فهم بلال وزيد بن حارثة وعامر بن فهيرة وأبو فكيهة، ويحتمل أن الخامس شقران، وأما المرأتان فخديجة رضى الله عنها، وأم أيمن أو سمية، ابن حجر فتح الباري (7/ 18). (¬5) أحمد، المسند (4/ 112)، وطبقات ابن سعد (4/ 215)، وتاريخ الطبرى (2/ 315)، بإسناد حسن، وانظر د. أكرم العمرى لما سبق، السيرة النبوية (160).

ويحكى قصته فيقول: «كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتى فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستخفياً جرءاء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبى. فقلت: وما نبى؟ قال: أرسلنى الله. فقلت: وبأى شيء أرسلت؟ قال: أرسلنى بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء. قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. فقلت: إنى متبعك. قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالى وحال الناس! ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بى قد ظهرت فأتنى، قال: فذهبت إلى أهلى، وقدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وكنت في أهلى، فجعلت أتخبر الأخبار واسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم علىَّ نفر من أهل يثرب، من أهل المدينة، فقلت: ما فعل الرجل الذى قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه ....». (¬1) ويبدو أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخبره بجميع من أسلم، إذ هو قد سأله عمن معه قبل أن يعلن الإسلام، وكذلك حرصاً من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سلامة من أسلم من الأذى، لذلك ذكر أنه كان رابع الإسلام، وما ذلك إلا بحسب ما بدا له، وإلا فإن أبا ذر أيضاً قد أعلن يوم أسلم أنه كان كذلك رابع الاسلام مما يدل على أن المسلمين كانوا متكتمين في أمر إسلامهم حرصاً على مصلحة الدعوة بحيث لم يكن كلاهما يعلم بإسلام الآخر. (¬2) ¬

(¬1) مسلم، الصحيح (1/ 596). (¬2) الطبرى، التاريخ (2/ 315)، ويؤيد ابن كثير وابن حجر أن سرية الدعوة هي السبب في تعارض دعاوى السبق إلى الإسلام، إذ يخفى عليهم من سبقهم إلى الإسلام، ابن كثير، السيرة النبوية (1/ 443)، وفتح الباري لابن حجر (7/ 84)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (216).

لقد أجمع الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا في قلة من العدد، أو الضعف في العدة بحيث يغلب على الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم إذا أجمعوا على حربهم أن يقدموا مصلحة بقاء النفس على مصلحة الدين الموهومة أو المنتفية، إذ ذلك أيضاً في الواقع مصلحة للدين، لأنه أن تبقى أرواح المسلمين سليمة فيمكن أن يتقدموا ليجاهدوا في الميادين الأخرى المفتوحة، وإلا فإن هلاكهم يعتبر إضراراً بالدين ذاته، وفسحاً للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل. (¬1) والكلام عن المسلمين الأوائل يأخذ إلى هذه الأمور، وهي: 1 - أن الاضطهاد لم يكن ليفرق بين الأرقاء والموالى، وبين الاحرار من بيوتات مكة العالية، إلا في ظهوره في الاوائل على روءس الأشهاد. 2 - أن أولئك الذين أسلموا قد نالهم قسط وافر من التعذيب ليرجعوا عن دينهم، ومع ذلك صبروا وثبتوا، ومنهم من هاجر فراراً بينهم إلى الحبشة، كما سنذكر في مبحث الاضطهاد إن شاء الله تعالى. 3 - أن الإسلام لم يقف عند حد دعوة الفقراء إلى الإسلام بدليل أن الأكثرية من معتنقيه في تلك الفترة الحرجة والظروف الصعبة كما أشرنا كانوا من أشراف قريش. وكانوا بعد ذلك القوة الضاربة في أية ملاقاة مع أية عدو، إذ لم يشهد التاريخ أن جيوش سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بدء الجهاد كان الغالب عليهم أنهم من العبيد والموالى، بل كان القادة والفرسان والمشاة كانت أكثر يتهم من أولئك الجند الأبرار من الأشراف، لا يستطيع ¬

(¬1) انظر البوطى، فقه السير (76 - 77)، وضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية (261)، وقواعد الاحكام في مصالح الأنام (1/ 111 - 112)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (162).

أن يمارى في هذا أحد، إذ سجلات التاريخ شاهده بذلك، مع بذلهم وتضحياتهم بأموالهم إنفاقاً في سبيل الله فجمعوا بذلك بين النفس والمال. ومن ثم نعود إلى القرآن الكريم كمنهج للدراسة، نذكر فيه سيرة أولئك، ثم نرد على "وات" في هذا البحث. ونذكر آية واحدة في هذا السياق كفيلة بتبين سيرتهم في الكتاب المعظم، وهي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. يقول سيد قطب ما ملخصه مشيراً إلى مراحل بناء المجتمع المسلم، وتكون طبقاته الإيمانية: لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، إذ أحست قريش – ممثلة الجاهلية – بالخطر الحقيقى الذى يتهددها من دعوة: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وما تمثله من تمرد على كل طاغوت في الأرض لا يستمد سلطانه من سلطان الله، والفرار منه إلى الله، وبالخطر الجدى من هذا التجمع العضوى الذى أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هذا التجمع الذى يدين منذ يومه الأول بالعبودية والطاعة لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تكد الجاهلية تستشعر هذا الخطر حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة وتجمعها وقيادتها، وأصدرت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن قتنة ومن حيلة. وهو دأب أعداء الاسلام في كل آن وزمان عندئذ تعرض كل فرد في التجمغ الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الاسلامى الوليد إلا كل من نذر نفسه لله، وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.

وبذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربى، فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع ذلك الطريق الشائك المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة فريدة التكوين. وهكذا اختار الله تعالى السابقين من المهاجرين من هذه العناصر الفريدة النادرة ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة، ثم ليكونوا مع السابقين من الأنصار القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة. (¬1) لقد بايع أولئك السابقون من الأنصار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العقبة وهم يعلمون عاقبتها وضريبتها وأن يحاربهم الأصفر والأحمر، وأن ليس لهم سوى الجنة إن هم وفوا بذلك، فلا جرم أن يكونوا مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البنيان وأعدوا هذا الإعداد. إن تلك النواة الصلبة كانت السبب المباشر في تماسك وصلابة المجتمع في وجه الاعراض والظواهر والخلخلة أحياناً التى كانت وراء تفاوت طبقات المجتمع الايمانية. لا شك إذن أن المهاجرين - على أي تعريف كانوا - كانت خلاصتهم والكمل منهم أولئك السابقين إلى الإسلام. (¬2) ونظرة أخرى تبين أنهم ما دخلوا الإسلام طمعاً في غنم يغنمونه في هذا الوقت، ولا كان ينتظرونه، ولا إلى شيء يسعون لتحصيله في هذه الدنيا الزائلة، إذ كان الواقع والدعوة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما يحيط به يمنع تصور وقوع شيء من ذلك فضلاً عن انتظاره، لم يكونوا ينتظرون إلا رضا الله عنهم وأن يجاوروه في جنته. ¬

(¬1) سيد قطب، في ظلال القرآن (1702 - 1703). (¬2) سيد قطب، في ظلال القرآن (1704 - 1706).

ومن ثم جاء جزاؤهم رضى الله عنهم، وهو أعلى ما ينتظر المؤمن ربه أن يحل عليه رضوانه، فلا يسخط عليه أبداً، وأن يكون من مظاهر هذا الرضا أعظم إكرام وأجزل مثوبة في الدنيا والآخرة. وإن من علو مقام هذه الصفوة أن يبادلوا ربهم الرضا اللائق بربهم منهم، أن يرفع الله منزلتهم ودرجتهم ليذكرهم ويمدحهم بأنهم رضوا عن ربهم، فذلك حال وشأن لا تملك الألفاظ البشرية أن تعبر عنه، ذلك حالهم الدائم مع ربهم - رضي الله عنهم - ورضوا عنه، أما علامة الرضا فهى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وبتحليل الآية يتجلى: أولاً: أن الآية جاءت عقب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينهما، لتذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الأيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذى طالب الصلاح حذوهم، ولئلا يخلو تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحواليها وبواديها عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به. ثانيا: بالتالى جاءت الجملة عطفاً على جملة: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة: 98]. والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخلص، والكفلر الصرحاء، والكفار المنافقين، فكان المراد بالسابقين الذين سبقوا غيرهم من نفس صنفهم أي من المؤمنين. ويكون من سبقوا غيرهم هم المقصودين سواء المهاجرين قبل أن يهاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، أو الأنصار الذين سبقوا غيرهم ممن آمن من الأنصار وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.

وأن أول مقصود بهذا الخطاب القرآنى هم المسلمون الأوائل بلا دفع، وتلك قيمتهم ومنزلتهم، وهذه عاقبتهم ومآلهم. والأنصار جمع نصير، وهو الناصر، وهو بهذا الجمع علب على الأوس والخزرج الذين آمنوا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حياته أو بعد مماته، وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان، ويطلق على أبناء المنافقين الذين نشأوا مسلمين حقاً. {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} .. هم الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الإيمان، وأما الأحسان فهو العمل، والباء للملابسة أي اتبعوهم في الإيمان وهم متلبسون بالعمل الصالح الممدوحين عليه والذى اقتدوا فيه بالسابقين، وما بعثهم على ذلك إلا إلاخلاص، ومن ثم فهم محسنون، وما ذكر الاحسان هنا إلا لأن من أتى بعد السابقين الأولين منهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين لما صاروا كثرة في المدينة، ومنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد كالمؤلفة قلوبهم فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقوا إلى الإيمان الكامل، ولذلك قيد الاتباع بالاحسان حتى يدخلوا في وعد الله لهم بالرضا وإعداد الجنات. وجملة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}، خبر عن {وَالسَّابِقُونَ}، وقدم السابقون المسند إليه، على خبره الفعلى لقصد التأكيد والتقوية. ورضوا عنه أنه أعطاهم حتى بلغوا الرضا عن الله تعالى، وهو إذ يعطيهم إنما يمدحهم، وهو من أجل الدرجات وأعلى المنازل. وزادها بالإعداد لهم، أي التهيئة الدالة على العناية والكرامة بهم، الذى يؤذن بكمال الاهتمام حتى لا يكون ماهيأ لهم إلا أكمل نوع.

ولتقديم المسند إليه، والعناية بالمعد لهم، كانت الآية الوحيدة في نظائرها التى حذف فيها من - من تحتها الانهار - لوجود التأكيد والعناية فلا يحتاج إلى من التى ليست إلا للتأكيد مع أسماء الظروف. (¬1) اتضح من الآية سيرة وتحليلاً علو الرتبة لأولئك المسلمين الأوائل في الدنيا والآخرة، وفي كل مجالات التضحية والبذل لنشرالاسلام ورفع رايته، ونقف الآن مع «وات» بما سور من صفحات في سيرتهم طمساً لكل أسس السيرة وقواعدها كما فهمنا من منهجه لنبين موقفه مع إسراع الرد وإيجازه عليه، وإن كنا بعد هذا العرض المصغر، لا نحتاج لدفعٍ، ولكن ما باليد حيلة. ونبدأ كلام "وات" بهذه النظرية التي وضعها، حيث يقول: لما كان النُبل يكون مبدئياً في الإسلام على الإخلاص لقضية الأمة الإسلامية، فقد استغل المسلمون حقوق أجدادهم في النبل والكرامة، ولهذا يجب معالجة أخبار المسلمين الأوائل بحذر. فإذا ما وجدنا أن أحفاد شخص ما، أو المعجبين به يعلنون أنه كان من بين العشرة الأوائل، فمن الحذر الافتراض أنه كان على الأغلب الخامس والثلاثين بينهم (¬2). وهذه النظرية من "وات" لا تحمل سوى التشكيك والسخرية التى حملته على التناقض والمغالطة ومخالفة الواقع والادعاء الباطل، إلخ .. ولذا صدق هذا النقد بقولنا: أولاً: أن المسلمين يقوم إخلاصهم لقضية الإسلام على النبل، فإذا كان النبل هو الحامل على الإخلاص فلماذا لم يؤمن كفار قريش وفيهم من النبلاء كُثُر، فضلاً عن إخلاصهم للإسلام، خاصة وإن من كانوا نبلاء في الجاهلية (¬3)، كانوا هم النبلاء في الإسلام، ¬

(¬1) انظر لما سبق ابن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 17 - 19). (¬2) Mohammad at Mecca p. 86. (¬3) حديث خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا.

إن ذلك دليل من "وات" على عدم فهم قضايا دين الإسلام، ومقوماته ومبادئه، فكيف يهاجمه مدعياً العلم به، والتخصص فيه. ثانياً: أن المسلمين استغلوا حقوق أجدادهم في النبل والكرامة، ليلحقوهم بالمسلمين الأُوَل؛ منذ متى كان المسلمون يستغلون حقوق الغير في النبل والكرامة، وكيف تُستغل؟! ولمصلحة من؟! إن كلام "وات" يدل ابتداء على الجهل مرة أخرى بقضايا الإسلام، إذ أن إسلام شخص أو كفره، إنما هو له أو عليه، وأن المسلمين إنما يثبتون الصدق الذي أمرهم الله تعالى به، وينهون وينفون خلافه، وهو ما نهاهم الله تعالى عنه، ثم - وهي الطامة ل"وات" - فليدلنا على واحد فقط من المؤمنين الموثقين المتقين استغل ذلك ليكذب، وينسب لأهل النبل شيئاً لم يكن. وإن "وات" لم يأخذ حذره إذ لو قلنا ما مصلحة الحفيد أن يستغل نبل الجد وكرامته يقول "وات" ليثبت بهذا الاستغلال نبل الجد وكرامته نعم العقل إذا أو أنه من السابقين، وماذا فيها في منطقك ومنهجك أن نثبت للجد النبل بقية النبل ونعده بسبب نبله من المسلمين الأوائل دعنا من ذلك، ولنعكس القضية وهي الأهم مَنْ مِنْ الاحفاد قد استغل موقعه ومنصبه ليثبت لجده الكافر نبلاً وكرامة، أو إسلاماً وإخلاصاً وهذا ادعى وأهم، بل لقد ذكروا أجدادهم بكل ما علموا من كفر كما ذكروا أجداد غيرهم بما حازوا من إيمان. والمعنى أن كتاب السير الاسلامية بالذات هم أجدر الناس وأحراهم بالكتابة الصحيحة المسندة، التى خضعت للنقد العلمى النزيه، سنداً ومتناً بما لم تشهد له البشرية نظيراً فكيف تتفق الروايات على الباطل وهي مختلفة الأسانيد، ثم هذا يخالف القواعد المنهجية التى وضعها المحدثون ليميزوا الصحيح المسند إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى غيره مما لم يصح

متنه، ولا تصح نسبته (¬1)، وهذه القواعد لا علاقة لها بالسياسة، ولا بالمجاملة، بل هي قواعد تعتنى بمعرفة الصحيح وغيره من حيث هو بغير علاقات أخرى، والدارسون لذلك من المستشرقين يعلمون ذلك لا يمارون فيه. ثالثا: نرد على فكاهة "وات" كذلك وهي أن من المعجبين بشخص من يلفق له ويكذب أنه من السابقين الأوائل إلى الإسلام، والرد هو أن الأحفاد أو المعجبين بشخص لا يمكن أن يخفى كلامهم، وبالتالى لابد حسب منطق الاشياء أن يكون مجال أخذ ورد، إذ لابد أن يجد من يقول له كذبت ليس منهم أو أخطأت لم يكن سابقاً إلى الإسلام أما أن يجتمع كل هذه الالاف في كل الاقطار على ذلك، فلابد أن يكون صحيحاً، ولا نعلم من المعجبين بهم في ذلك إلا على بن أبى طالب حيث أورد له الشيعة، الصحيح والباطل، لينسبوا إليه ذلك، وهو - رضي الله عنه - ليس في حاجة إلى ذلك، وإن "وات" نفسه قد أثبت أنه من الأولين، وهي لطيفة من لطائف "وات" أن المعجبين والأحفاد أثبتوا له ذلك، ولم يتحفظ "وات" ولم يحذر كما يطلب منا. أما الفكاهة الأصلية فهى أن "وات" يزعم أن كل من قيل عنه إنه من السابقين فهو الخامس والثلاثون في القائمة، ولا يدرى أي بحث هذا أم أنه يريد أن يضحكنا ولمَ الخامس والثلاثون وليس الرابع والثلاثين، حتى سخريته وفكاهته لا تحمل إلا الكذب ومخالفة الواقع إذ أن الخامس والثلاثين في القائمة ليس أياً ممن ذكر "وات". أم أن المتقدمين الأوائل رضوان الله عليهم قد حجزوا المقعد الخامس والثلاثين لمن سيأتى من الأحفاد والمعجبين ليضعوا فيه جدهم أو محل أعجابهم!؟ فخالفوا ذلك ووضعوهم في العشرة الأوائل، أو ضاق المقعد بالمعجبين فوزعوهم على المقاعد الأولى الفارغة!!؟ ¬

(¬1) انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية (83).

رابعاً: يذكر "وات": ومثلاً قول الطبرى إنه بعد هؤلاء الثلاثة، على وزيد وأبو بكر الذين كانوا أول من انتمى إلى الإسلام يأتى عدد من المسلمين الذين جاء بهم أبو بكر موضع شك؛ لأن هؤلاء الرجال المذكورين هم في الحقيقة الخمسة الذين أصبحوا القادة على حين وفاة عمر، فقد عينهم لتأمين انتخاب الخليفة. وإنه من الصعب القول بأن هؤلاء الخمسة أنفسهم قد جاؤوا معاً إلى محمد قبل عشرين سنة عند بدء الإسلام. وأسماؤهم هي عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبى وقاص، طلحة بن عبيد الله. (¬1) والرد على "وات" أين الحذر من الأحفاد والمعجبين في هذه القصة، وأين هم أصلاً ليضعوا هؤلاء الخمسة في السابقين إلى الإسلام. إنهم كانوا من السابقين حقاً إلى إلاسلام، وإلا فأين مصادر "وات" التى تثبت خلاف ذلك وليس له إلا مصادر الإسلام، وقد انتفى حذره من الأحفاد والمعجبين، فماذا بقى له من تخوف لتكون المصادر قد نقلت الحق والواقع كما هو، أم أنه كان يريد أن يلفقوا له مصادر تنفى الحق لتكون حقاً في نظره عجيبة طريقة البحث هذه ليست بحثاً إنها تشكيك لا سند له ولا منطق ليت لهذا التشكيك - بعد كلامه هو - ذرة من دليل يؤيده والمتصور المعقول هو أن عمر - رضي الله عنه - قد اختار هؤلاء الخمسة لسبقهم إلى الإسلام إذ تلك عادته في تقديم الصحابة ومجلس مشورته، فإذا بفعل عمر هذا عند "وات" يصبح مادة الاشتباه في صحة سبق هؤلاء الخمسة إلى الإسلام، وتلك عجيبة العجائب في قلب الحقائق رأساً على عقب. فبدلاً من أن تكون الحادثة دليل سبقهم صارت شبهة عدم سبقهم!! (¬2) ¬

(¬1) moh. At mecca 86 - 87 ، op. cit pp. 86 - 87. (¬2) انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة (83 - 84).

ثم يقال ل"وات"، ما موضع الشك في الحادثة أي في اتيان هؤلاء الخمسة ليسلموا قبل عشرين سنة، وهي في الحساب خطأ من "وات" إذ لو حسبنا عُمْرَ دعوة النبي بثلاث وعشرين سنة وخلافة أبى بكر بسنتين ونصف وعمر أكثر من عشر سنين لكان الحساب الصحيح انهم أتو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل خمسة وثلاثين عاماً ما المانع في ذلك عقلاً أو عادة أو واقعاً أو على أي نحو من مناحى المنطق، لقد جاء على بن أبى طالب ليُسْلِمَ قبل ثمانية وخمسين عاماً من عند بدء خلافته - رضي الله عنه -، وهذه لا يمارى فيها "وات". وما رأى "وات" - وهو يعلم ذلك - أن هؤلاء الخمسة من العشرة الذين بشرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة في حياته المكرمة، فليس إذن في حاجة إلى أحفاد ولا معجبين ليضعوهم في العشرة الاوائل في الإسلام بعدما وضعهم الله جل وعلا على لسان نبيه في هذا الإخبار بالغيب ضمن عشرة لا مقدم عليهم. ثم النظرة الأخيرة - وليس للكلام مع "وات" آخر - كما ذكرنا إذ في كل سطر مما كتب ضلال تفنى الحياة ولم يستكمل المرء رده عليه، وهو من قدم على هؤلاء المكرمين أحداً أو قال لقد سبقهم فلان أو فلان إلى يومنا هذا، فلم الشغب بما يهمله الواقع ولا نتيجة له إلا الخزى والباطل بما هذا البحث لا طائل تحته من "وات"، لأنه بحث لم يؤد إلى نتيجة وفائدة، بل على العكس خالف الواقع وفهم هذا الواقع، استخرج لنا"وات"، أو اكتشف سبباً جديداً آخر لسبق هؤلاء إلى الإسلام، ألا وهو الصراع الطبقى، وهو من المناهج التى ظهرت في القرن الأخير، وطبقها "وات" بمنهج الإسقاط وهو أن يسقط هذا الجديد على ما مضى من خمسة عشر قرناً، إن البيئة القديمة لم تسمع بهذا المصطلح، فضلاً عن أن تطبقه أو أن تدعو إليه، أو أن تفسر الأحداث، أو أن يكون له واقع تفلسف به الأمور حتى عند إهمال المصطلحات والنظر إلى معانيها ومضامينها.

إن تطبيق المصطلحات الجديدة، وفي بيئاتها الجديدة، والتى هي مختلفة عن البيئات القديمة وعن البيئات العربية بالذات، لهو بحث فيما لا علاقة له بالبحث، إنه إمساك بأطراف غريبة أجنبية عن البحث تؤدى إلى نتيجة لا نسب بينها وبين ما بحثت فيه، وليست النتيجة في النهاية إلا من عمل الباحث وفي عقله، وما يريد ويهوى لا بما يقوده إليه البحث هذا إن اعتبرنا أن البحث في هذه الطريق لا علاقة بالأبحاث أصلاً. ذلكم «وات»، وليته جعل إسلام الطبقات الدنيا هي صاحبة المشكلة، فاصطدم بأن وجد السابقين ليسوا كلهم من الفقراء الذين لهم مآرب في مصارعة الأغنياء للحصول على فرص متكافئة. ومن ثم ركز صراعه وهو عجيب بين الطبقة الوسطى والتى أعلى منها، وهو على حد علمنا كما بينه أصحابه المحدثون لا علاقة له بالصراع الطبقى الذى ينشأ ونشأ على بحث الغربيين في الصراع في أوربا. بعد هذه المقدمة نرجع إلى كلامه "وات" نفسه لنناقشه حيث يقول: إن الإسلام لم يستمد قوته من رجال الطبقة السفلى من السلم الاجتماعى، بل من أولئك الذين كانوا في الطبقة الوسطى، وأدركوا الفارق بينهم وبين أصحاب الامتيازات في الذروة، فأخذوا يقنعون أنفسهم بأنهم أقل امتيازاً منهم، فنشأ صراع ليس بين المالكين والمعوزين بل بين المالكين والذين أقل منهم. وهنا نرى"وات"، يحدثنا عن متناقضات، وأمور لم تحدث، وواقع لم نسمع به مخالف على أقل تقدير لما نقله أصحاب السيرة، فضلاً عن مخالفته لدعوة الإسلام ومبادئه أما الأمور التى لم تحدث فهى أن هذه الطبقة المتوسطة أخذت تفنع نفسها بأنها أقل امتيازاً من الأعلى حتى نشأ الصراع، ولم يخبرنا "وات" كعادته بمصدر واحد استقى منه هذه المعلومات، التى لا شك في انتشارها إذ هي مبادئ الصراع وأفكاره.

ثانياً: أن شباباً من أفضل العائلات في مكة قد انتمى للإسلام، وخير مثال هو خالد بن سعيد بن العاص هذا كلام "وات" بنصه فما الذى حمل هؤلاء وهم أعلى درجات السلم الاجتماعى على الإسلام؟ وما هو الصراع الطبقى الذى أخذوا يحدثون به أنفسهم؟ بل أين حظ هذا الكلام من واقع ملموس نتشبث به في وقوع تفكير من ذلك فضلاً عن حدوثه؟ إن الواقع وانتشاره من الأدلة على أن تلك الأحداث لها حظ من الحقيقة كان على "وات" أن يبحث عن الأسباب الكامنة وراء إسلامهم، ليعطى للبحث شيئاً من القيمة والمصداقية، إن الخواء الروحى، والتطلع إلى ما يملأ القلب ويروى هذا الظمأ الروحى القلبى كان السبب المباشر، إذ لا يعقل أن يترك هؤلاء حياة الرفاهية والعلو الاجتماعى والسياسي، ثم بعد ذلك يحاربون لتحصيلها مرة أخرى هذا شيء أشبه بالخيال والعبث واللامعقول. أما مخالفة مبادئ هذا الدين فتظهر مما يلى: 1 - أن الإسلام جاء ليدعو الناس كافة إلى توحيد الله وعبادته، ولا يعدهم بشيء إلا الجنة كما ذكرت السيرة في مبايعات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يفرق في الدعوة إلى الإسلام بين فئة وأخرى وهي دعوته إلى أن لقى الله عز وجل، ودخل من دخل فيها وهو يعلم تبعات ذلك ومشقاته كما أشرنا ونشير إن شاء الله تعالى. 2 - أن تفكير المؤمنين وتحركاتهم كل ذلك مرجعه إلى أمر الله تعالى ورسوله، وأن أفكارهم وحياتهم قد صيغت على نحو جديد لا علاقة له بالموروث الجاهلى المخالف، وما كان ليأمر بذلك ويحدده، ويصير صاحبه مسلماً إلا باتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأين ذلك في دينه وجهاده وحياته حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى؟ إن المسلمين لم يكونوا ليفكروا أو ينشئوا شيئاً من بنات أفكارهم أو علاقتهم دون إذنه أو أمره، إن ذلك من "وات" تفريغ الدعوة من ارتباطها بالسماء وأنها وحى يوحى من الله، كما هو دأبه في دراسة السيرة.

إن ما ظهر من دراسة السيرة في السنة النبوية والقرآن الكريم كما وضحنا لتظهر القيمة العليا لأولئك الأبرار الأُول الذين لم يكن لهم هم ولا توقع ولا انتظار لدينا حتى يشغلهم صراع طبقى مدعى، أو غيره مما لا يسير إلى نفس الاهداف وبالطريقة التى حددها لهم الله تعالى. إنما كان شغلهم الدائم هو: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية: 21]، مهما لاقوا في سبيل ذلك لا يثنيهم عن المضى فيه شيء، قدوتهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ذلك ابتغاء وجه الله الأعلى. إن قضية الإسلام كانت تعترضها أفكار الملأ وتخوفاتهم على زعامتهم أن تنقل لسيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما يدينون له بالطاعة لله، وهو ما رفضوه اعتباراً لدين آبائهم وتقاليدهم وخشية على مصالحهم وزعامتهم، أما الشباب فلم يكونوا على هذا الفكر، خاصة مع البحث واللهث عن الحق الذى يدينون به والذى لم يجدوه في يهودية ولا مسيحية وأصنام. نكتفى بالرد عند هذا الحد على "وات" خاصة، وأن كلامه لن يغير من الواقع والتاريخ شيئاً، ولا هو يزيد علماً ومعرفة وتبيينا لحقائق التاريخ، فهو لا يزيد على قليل من الغبار الاسود الداكن يود أن يحجب به وجه الشمس المشرق، وأن يلوى به أعناق البحث العلمى الصلب المتأبى على التدليس.

المبحث السابع الجهر بالدعوة

المبحث السابع الجهر بالدعوة يبدو أن تكتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمر دعوة الناس إلى الله تعالى، قد انتهى تقريباً بنزول قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، إذ خرج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جبل الصفا، فهتف: يا صباحاه، فقالوا من هذا: فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقى؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا!! ثم قال: فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1]. وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشاً فاجتمعوا فعم وخص، فقال: «يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى هاشم! يا بنى عبد المطلب! ... يا فاطمة فإنى لا أملك لكم من الله شيئاً ...». (¬1) كانت هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قومه على دعوته، ¬

(¬1) البخاري، فتح الباري (4771)، مسلم (204)، واللفظ لمسلم، وسيرة ابن اسحاق (147)، والطبرى، جامع البيان (19/ 120)، وهناك روايات أخرى أنه جمع أهله وأطعمهم إلى اخره .... ولكنها ضعيفة، انظر د. أكرم العمرى (142 - 143)، وإن كان د. مهدى رزق الله له رأى آخر في بعضها انظر السيرة (163).

وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبية القرابة التى يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتى من عند الله. (¬1) ومن الطبيعى أن يبدأ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ إن مكة بلد توغلت فيه روح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لابد أن يكون لها أثر خاص لما لهذا البلد من مركز دينى خطير فجلبها إلى خطيرة الإسلام لا بد أن يكون له وقع كبير على بقية القبائل، على أن هذا لا يعنى أن رسالة الإسلام في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام اتخذ قريشاً الخطوة الأولى في دعوته العالمية حيث نص في أوائل ما نزل على عالميتة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)} [ص: 87] (¬2)، وكان الموقف السلبى لعشيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقريش من الدعوة دليلاً على المصورين له بدعوة القومية العربية، أو الحزب الهاشمى، إذ كان من رؤساء العشيرة أبو طالب وأبو لهب ممن مات على الكفر. (¬3) ثم يشير ترتيب الدعوة بإنذار الأقربين، إلى هذا الأولويات التى ينبغى أن يراعيها الدعاة إلى الله تعالى وكل داع حال دعوته، ودرجات المسؤلية التى تتعلق بكل مسلم خصوصاً وعموماً. (¬4) ونعود إلى إسلام أبى ذر مرة أخرى، حيث قد أسلم - رضي الله عنه - على التحقيق في فترة الجهر بالدعوة. ¬

(¬1) فقه السيرة، محمد الغزالى (96 - 97). (¬2) انظر عماد الدين خليل، دراسة في السيرة (66). (¬3) انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (164). (¬4) انظر د. البوطى (81).

حيث استدل الحافظ بن حجر بقصة إسلام أبى ذر، واستضافة على بن أبى طالب - رضي الله عنهم - أجمعين إلى كونها بعد المبعث في سن يتمكن فيها على معرفة الغريب وسؤاله، والحيطة والحذر في الكلام معه ثم استضافته. ونذكر الروايات الصحيحة أن أبا ذر - رضي الله عنه - كان منكراً لحال الجاهلية، يأبى عبادة الأصنام وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلى لله قبل إسلامه بثلاث سنوات دون أن يخص قبلة بالتوجه ويبدو أنه كان متأثراً بالأحناف، ولما سمع بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم إلى مكة، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه على - رضي الله عنه - فعرف أنه غريب، فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحاً إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه على فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له على: «فإنه حق وهو رسول الله فإذا أصبحت فاتبعنى، فإنى إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأنى أريق الماء فإن مضيت فاتبعنى، فتبعه وقابل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستمع إلى قوله فأسلم، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمرى، فقال: والذى نفسى بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم؛ فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه»، فأتى العباسُ بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غِفار (¬1)، والتعرض لتجارتهم التى تمر بديارهم إلى الشام. فأنقذه منهم. وهذه الرواية تفيد وجود بعض الأحناف في البوادى، ولعل ما بدا من حذر على - رضي الله عنه - وما وقع من ضرب قريش لأبى ذر، ومن وصف أنيس أخى أبى ذر الحالة في مكة عندما ¬

(¬1) البخاري، فتح الباري ()، ومسلم الصحيح (1923 - 1925)، ورواية عبادة بن الصامت في صحيح تذهب إلى أن اللقاء الأول بين أبى ذر والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قرب الكعبة المشرفة بحضور أبى بكر - رضي الله عنه -.

دخلها قبل دخول أبى ذر، فقال لأخيه: وكن على حذر من أهل مكة فقد شنقوا له وتجهموا. كل ذلك يفيد إعلان الدعوة والجهر بها، وزيادة المعاناة والاضطهاد للداخلين في الإسلام. وهناك قصص أخرى من قصص دخول غير المكيين في الإسلام تبين بوضوح وتظهر بجلاء الاعلان بالدعوة، والتبعات العظام التى زادت على المؤمنين وعلى من أسلم في تلك الفترة، كما سنشير إلى أنواع الاضطهاد والأذى في معاملة المكيين وغيرهم لمن دخل الإسلام في مكة، وفي قبائلهم. ودخل الإسلام في هذه الفترة ضماد - من أزد شنوءة - فقد تم في مرحلة الجهر بالدعوة، حيث وصف المشركون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنون فجاءه ليرقيه من مس الجنون، فسمع من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلم. (¬1) وكذلك قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسى، وأنه دعا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للالتجاء إلى حصن المنيع، فأبى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك (¬2). ولابد أن دعوة الطفيل - رضي الله عنه -، تلك كانت عند اشتداد المقاومة القرشية. (¬3) ¬

(¬1) مسلم، الصحيح (2/ 593). (¬2) ابن عبد البر، الاستيعاب (2/ 216 - 217). (¬3) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (146).

المبحث الثامن معنى الاضطهاد

المبحث الثامن معنى الاضطهاد نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [الحجر: 94]، ومازالت أصداء جهره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدعوة تموج بها جنبات مكة المكرمة، وأسرع - عليه الصلاة والسلام - صادعاً بالحق بعد إنذارهم، داعياً إلى هجر الأوثان، مواجهاً للمشركين بحقائق التوحيد، وبفساد الشرك، داحضاً أباطيل الجاهلية مسفهاً عقول المؤمنين بها، التى توارثوها خلفاً عن سلف، وهم مدركون تمام الإدراك لجدواها في تحقيق مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، الناجمة عن سدنتهم للكعبة بيت إبراهيم - عليه السلام -، وما يتبع ذلك من حركات البيع والشراء التى من خلالها يجنون أرباحهم ومكانتهم، ما كانوا إذن ليتركوا من الناحية العقيدية تلك الموروثات، التى هي السبب المباشر في ثرائهم وسيادتهم، ولو أدى ذلك إلى اتخاذ كل الاجراءات القاسية لوقف هذه الدعوة ووأدها. بدأ أصحاب النفوذ والسطوة والمصالح إذن مجابهة الدعوة، والوقوف في وجهها بشتى الأساليب، سواء كان في مواجهة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذى يمثل الخطر الداهم عليهم، أو في مواجهة من آمن ودخل في الإسلام. (¬1) ¬

(¬1) د. أكرم العمرى المصدر السابق، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (162 - 163).

أذى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونبدأ بما لقى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأذى ونتبعه بما لاقى الصحابة - رضي الله عنهم -، كل ذلك مما جاءت به السيرة، ثم نرتب أنواع المحاربة، والمواجهات التى قام بها المشركون لإيقاف الدعوة ومجابهتها، ثم نلخص ما ورد في القرآن الكريم من هذه السيرة، وبعدها نقف مع "وات" لنذكر كلامه في هذا البحث «الاضطهاد»، لنرى أنه لا يستحق الرد. أتخذ الأذى صوراً شتى من السب العلنى بكل أساليبه وألفاظه، ومن الضرر المادى. وهذا الروايات تعتضد لتثبت الوقوع التاريخى للحدث، ويجيء الاثبات القرآنى الجليل ليؤكد صحة ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، دون التعرض لكل الجزيئات إذ ذلك ليس من مقصود القرآن الكريم ككتاب هداية ونور. من هذه الروايات ما جاء عن أم جميل بنت حرب، امرأة أبى لهب أنها أقبلت عندما نزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1]، وهي تنشد: مُذَممٌّ أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصيناً، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس في المسجد ومعه أبو بكر - رضي الله عنه - فسألت أبا بكر إن كان النبي قد هجاها، فنفى ذلك (¬1). وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرح لأن المشركين يسبون مذمماً يقول: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً وأنا محمد». (¬2) ويحكى عبد الله بم مسعود - رضي الله عنه - وهو أحد شهود هذه القصة فيقول: «بينما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم يصلى عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائى! أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرسها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم ¬

(¬1) الحميدى، المسند (1/ 153 - 154)، وأبو يعلى، المسند (1/ 153)، والحاكم، المستدرك (2/ 361)، والحديث حسن لغيره، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية هامش (1/ 147 - 148). (¬2) البخاري، الصحيح، فتح الباري (6/).

يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضعه بين كتفيه. وثبت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك. فانطلق منطلق إلى فاطمة رضى الله عنها - وهي جويرية - فأقبلت تسعى، وثبت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش». ثم تسمَّى: اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبى معيط وعمارة بن الوليد، قال عبد الله بن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب - قليب بدر - ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأتبع أصحاب القليب لعنة». (¬1) وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذى رمى الفرث عليه هو عقبة بن أبى معيط، بتحريض من أبى جهل، وأن المشركين تأثروا لدعوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشق عليهم الأمر لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة. (¬2) وقد ثبت أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا على قريش لما كذبوه واستعصوا عليه فقال: «اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة فخصت كل شيء حتى أكلوا الميتة والجلود، وجعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من الجوع». فأتى أبو سفيان إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، وقد أثبت القرآن الكريم هذا الحادث فقال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) ¬

(¬1) رواه البخاري، الصحيح (2934)، ومسلم، الصحيح (1794)، وابن اسحاق، السيرة (211). (¬2) ابن حجر، فتح الباري (1/ 349).

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} [الدخان: 10 - 15]. فلما دعا ربه لهم آملاً في توبتهم عادوا إلى كفرهم ونسوا ما أخذوا على أنفسهم من الإيمان مما حكاه القرآن الكريم عنهم قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)}. (¬1) ونلاحظ أن دعاءه عليهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن بسبب أذاهم له، وإنما بسبب الإمعان في التكذيب والوقوف في وجه إيمان غيرهم فطالما احتمل أذاهم، ولم يَدعُ عليهم، بل دعا لهم بالهداية بما يدل على أعلى مثل في الصبر، والاحتمال وإن أوذى في ماله ونفسه وأهله. (¬2) وهو الذى تدل عليه سيرته من أنه لما قال له جبريل هذا ملك الجبال لو أردت أن يطبق عليهم الاخشبين لفعل، فأبى لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله ولئن كان ذلك في مكة فلقد كان في المدينة مثالاً أعلى لذلك أيضاً ففى غزوة أحد وقد شج وجهه الكريم وكسرت رباعيته، وهو يقول والدم يسيل على وجهه اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون، وما كان ليفسر دعاؤه في الحالة السابقة، إلا بقوله هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللهم أعنى عليهم يعنى أن دعاءه عليهم كان من باب التدليل على قوة الله ونصره، وأنه نبيه وأنه صاحب رسالة منه فكان تصديق الله له بإنزال شيء من العقوبة بهم سبيلاً لتخويفهم حتى يؤمنوا وفعلاً قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)}، فكان ذلك كالعون من الله له على دخولهم في الإسلام برؤيتهم مصداق دعائه. ونستكمل تلك الصورة الأليمة فيما لاقاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ابن حجر فيما صح عن أنس - رضي الله عنه - قال: «لقد ضربوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة حتى غشى عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادى: ويلكم ¬

(¬1) البخاري، الصحيح ()، ومسلم (). (¬2) ابن حجر، فتح الباري (2/ 511).

أتقتلون رجلاً أن يقول ربىَ الله؟ فتركوه وأقبلوا على أبى بكر» (¬1). إن حرص الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الصلاة في المسجد الحرام أدى إلى الاحتكاك بالمشركين مراراً، وحرصه على إظهار شعائر الإسلام، واحترام الكعبة، ولقاء الناس لأغراض الدعوة، ومن هنا حاول المشركون صده عن تحقيق ذلك بكل أنواع الأذى، ولم ينقطع التهديد باستمرار الأذى ولو وصل إلى القتل، وذلك على لسان زعماء قريش منذ أن بدأت الدعوة العلنية، وكان يشتد ذلك ويتصاعد مع الأيام، ونذكر شيئاً مما وقع له في تلك الأيام إلى أن اضطر إلى الهجرة فمن ذلك: ما حدث من أبى جهل عندما قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى؛ لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لا عفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلى، زعم ليطأ على رقبته، فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقى بيديه. فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بينى وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضواً عضواً. ولقد خلد القرآن الكريم هذا الحدث، فقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} [العلق: 6 - 10]. وقد ذكروا في أسباب النزول أن هذه هي المرة التى جاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن ¬

(¬1) الفتح (3856)، حيث رواه البزار وأبو يعلى.

هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن نَهَرَ أبا جهل وأغلظ له القول، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر منى، فأنزل الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 17 - 18]. (¬1) وقد سأل عروة بن الزبير وعبَد الله بن عمرو بن العاص: أخبرنى بأشد ما صنع المشركون برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط، فأخذ بمنكب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمكبه، ودفع عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28]. وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر شيئاً مما لاقاه من أذى قريش فيقول: «لقد أُخفتُ في الله عز وجل وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علىَّ ثلاثون ما بين يوم وليلة ومالى ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال» (¬2) وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشروع والاتفاق والإعداد والقيام بالمحاولة بالمحاولة الآثمة لقتله في أواخر المرحلة المكية مما عجل وكان سبباً مباشراً في هجرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة المنورة. وإن محاولة قتله عليه الصلاة والسلام لم تقف عند ذلك الاتفاق قبل الهجرة مباشرة، بل وقع من الملأ من قريش قبل ذلك، إذ يحكى ابن عباس رضى الله عنهما تعاهداً على ذلك ¬

(¬1) مسلم (2154)، وأحمد، المسند (2/ 370)، والطبرى، التفسير (30/ 256)، وانظر كذلك سنن الترمذى (5/ 443 / 444)، والالبانى، السلسلة الصحيحة (375)، وقال صحيح على شرط مسلم. (¬2) أحمد، المسند (3/ 286)، سنن الترمذى وقال: حسن صحيح، وصححه الألبانى في الجامع (5001)، ومشكاه المصابيح (3/ 1446).

تم في الحجر من الحرم الشريف حيث يقول: «إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاهدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأينا محمداً قمنا إليه قيامَ واحدٍ، فلم نفارقه حتى نقتله فأقبلت فاطمة تبكى حتى دخلت على أبيها. فقالت: هؤلاء الملأ من قومك في الحجر قد تعاهدوا أن لو رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك، قال: يا بنية أدنى وَضوءاً، قتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا هذا هو، فخفضوا أبصارهم، وعَقِروا في مجالسهم، فلم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يقم منهم رجل، فأقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى قام على رءوسهم، فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه، قال: فما أصابت رجلاً منهم حصاة إلا قد قتل يوم بدر كافراً». (¬1) ولزاماً لابد من الإشارة إلى بقية المواجهات، وأساليب الأذى التى أنزلها المشركون بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجابهوه بها، خاصة وقد ذكرها القرآن الكريم بشيء من التفصيل، كل ذلك قبل أن نبين الاضطهاد الذى حل كذلك بالمؤمنين. وإننا نخوض بعض الشيء في تفاصيل ذلك، حتى يكون الدليل الساطع في الرد على "وات"، في منهجه وآرائه في قضية الاضطهاد. ومن أبرز تلك الأساليب: 1 - كان لجؤوهم إلى إبى طالب ليكف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دعوته، أو رفع يده عن حمايته ونصره حيث ذهبت مجموعة من أشرافهم إلى عمه بتلك المطالب، أو أن ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين، فكفى ما أتى به من سب آلهتهم، وعيب دينهم وتسفيه أحلامهم، وتضليل آبائهم وإن أبا طالب أرسل عقيلاً – ابن أبى طالب – إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما حضر قال له عمه: إن بنى عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته ¬

(¬1) أحمد، المسند (1/ 303 - 368)، بإسنادين صحيحين كما قال أحمد شاكر في حاشية المسند.

عن أذاهم، فحلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببصره إلى السماء، فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخى فارجعوا. وإن المتأمل في هذا الموقف ليعلم أمرين: الأول: عدم تردد أو نكوص أصحاب الدعوة عما أمروا به، وأنهم يجب أن يمضوا في القيام بواجب البلاغ مهما تحملوا في سبيله، مستمسكين بذلك، بل إن تركهم ذلك لمن المستحيلات التى لا يمكن أن تكون إلا أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً. الثاني: أن تراتيب حماية ونصرة الدعوة لبيد الله جل وعلا، وتقع من حيث لا يحتسب الدعاة والمصلحون، فهذا الموقف من أبى طالب وهو كافر قد استخدمه الله فيه للذود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنها من حكم الله البديعة إذ لو كان مسلماً لنازله الكفار ولآذوه مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما كان ليكون له من جاه وهيبة واحترام، وإنما كانوا سيتجرأون عليه، ويبسطوا إليه أيديهم والسنتهم بأسوأ السوء. 2 - الاتهامات الباطلة لصد الناس عنه: ومن هذه الاتهامات: - الجنون، وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} [الحجر: 6]، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)} [القلم: 51]، وقد رد عليهم بقوله سبحانه: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)} [القلم: 2 - 3]، حيث بيناه من قبل. - السحر والكذب، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم في ضمن ما كادوا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال

تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} [ص: 4]، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 8]، وقد قال الوليد بن المغيرة، عندما جاء موسم الحج للملأ من قريش الذين سيقومون بصد الناس عن دعوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكدب بعضكم بعضاً .....»، ومع أنه هو نفسه قد أكد لهم أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس ساحراً ولا مجنوناً ولا كاهناً ولا شاعراً، إلا إنه ارتضى لنفسه ولهم أن يقولوا إنه ساحر ألا ترون كيف يفرق بين المرء وزوجه والولد ووالده وتفرقوا على هذا القول، وأخذوا يتلقون الناس يحذرونهم من أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع ذلك شاءت إرادة الله أن ينشر ذكره في بلاد العرب بسبب من ذلك. (¬1) وأما اتهامه بالكذب فقد قال الله تعالى عنه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ} [الفرقان: 4]. - واتهموه بالإتيان بالأساطير قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 5]. - واتهموه بأن القرآن من عند البشر، وأن الله لم ينزل عليه شيئاً، فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]، وقال أيضاً: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]. 3 - السخرية والاستهزاء والضحك والهمز واللمز والتعالى على المؤمنين، لم يقف ¬

(¬1) ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 172 - 173).

المشركون عند حد في سوء تعاملهم مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، فأخذوا في أسلوب آخر يواجهون به المؤمنين، ويثبطونهم به عن الدعوة إلى الله تعالى، وشغلهم بشحن نفوسهم بالضيق والحزن عن مواصلة البلاغ المبين، وفي ذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَن اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]، وقال ذاكراً لمزهم موبخاً لهم عليه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)} [المطففين: 29 - 30]. وثبت من طرق صحيحة أن أشراف قريش اجتمعوا يوماً في الحجر يتذاكرون أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما جاء به، وبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليطوف بالبيت. فلما رأوه غمزوه ببعض القول ثلاث مرات، فقال لهم: «يا معشر قريش، أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذبح .....» (¬1)، وقد فزعوا من هذا الموقف. وكان من سخريتهم كذلك واستهزائهم ما قص القرآن الكريم في قوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} [الفرقان: 41]. وقد مَرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً بجماعة من زعماء قريش فهمزوه، واستهزأوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)} [الأنعام: 10]. (¬2) وروى البخاري أن امرأة قالت للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساخرة مستهزأة: إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً. فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا ¬

(¬1) أحمد، المسند، الفتح الباري (20/ 219 - 220)، وصحح شاكر إسناده، وابن أبى شيبة، المصنف (14/ 297)، وابن اسحاق باسناد حسن، ابن هشام (1/ 185 - 186)، وذكره الألبانى في صحيح السيرة (148 - 149). (¬2) ذكره ابن اسحاق، ابن هشام (2/ 42)، وذكره السيوطى في الدر المنثور (3/ 5).

سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 1 - 3]. (¬1) وقد نزل قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 95]، لتدل على وجود هؤلاء المستهزئين، وشدة استهزائهم وأذاهم، بدليل ما فعل الله تعالى بهم، وكان فعله - سبحانه - بهم تسلية للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقوية لعزمه. وكان من هؤلاء المستهزئين رؤوس الكفر وأئمة الضلال، فأرسل الله سبحانه عليهم جبريلَ - عليه السلام -، بأنواع العقوبات، حيث أبادهم وقطع دابرهم، بأن عاقبهم عقوبات شديدة في أبدانهم، ليكونوا عبرة لغيرهم، ويكفى نزول القرآن الكريم بذلك المعنى، وهؤلاء المجرمون هم: الأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث الزهرى، والوليد بن المغيرة المخزومى، والعاص بن وائل السهمى، والحارث ابن عيطل السهمى (¬2). وكان من كبار المستهزئين أبو جهل، وروى عنه البخاري أنه قال مستهزئاً: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.» (¬3) واستكمالاً للسخرية والاستهزاء المنبنية على التعالى والكبر، قال المشركون للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء، يعنون صهيباً وبلالاً وخباباً فاطردهم عنك، فهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك طمعاً في إسلامهم وإسلام قومهم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ ¬

(¬1) البخاري (4950)، وانظر ابن حجر، فتح الباري (18/). (¬2) أبو نعيم في الدلائل (1/ 268)، من رواية ابن اسحاق بإسناد حسن مرسلاً. وأما قصة عقوباتهم فقد رواها أبو نعيم، الدلائل (1/ 268 - 269)، وقال المحققان أخرجه ابن اسحاق في السيرة (1/ 410)، ورجاله ثقات ولكنه مرسل، وقال السيوطى، الخصائص (1/ 365)، أخرجه البيهقى وأبو نعيم عن ابن عباس رضى الله عنهما. (¬3) البخاري، الفتح (7/ 185)، (4648).

شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} [الأنعام: 52]. (¬1) سب القرآن ومنزله ومن جاء به والتشويش عليه: ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قوله في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، أنها نزلت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مختف بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}، أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن. (¬2) وزيادة على ذلك، نهى الله المسلمين أن يسبوا أصنام المشركين لئلا يكون ذريعة لهم فيسبوا الله تعالى اعتداء وجهلاً فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. وكان المشركون مع ذلك يتواصون بافتعال الضجة العالية، والصياح المنكر عند قراءة القرآن الكريم، منعاً لسماع الناس له، أو لوصول الهدى إلى أحدٍ عندما كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم بتبليغ دعوة الله تعالى، وفي ذلك نزل قوله سبحانه واصفاً تلك الحالة المنكرة والتواصى بها: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26]. (¬3) أسلوب المساومات والترغيب والترهيب: وكان من أساليب قريش في صد الدعوة، ومجابهة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أسلوب المساومة، ولم يكن ¬

(¬1) مسلم والنسائى، من سعد بن أبو وقاص وانظر تفسير الآية في ابن كثير والقرطبى وغيرهما، وقد جمع الطبرى الآثار الواردة في أسباب النزول وحققها أحمد شاكر، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة (171). (¬2) البخاري (4722)، مسلم (1/ 329)، (145). (¬3) انظر ابن الجوزى، زاد المسير (7/ 252).

ذلك إلا لترك الدعوة كما ظنوا في نهاية المطاف، سواء في أن يسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن آلهتهم، وكذلك هم يسكتون عنه، كما في قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9]، أو بأن يعبدوا إلاهه يوماً، ويعبد آلهتهم يوماً، كما في قوله تعالى واصفاً هذا العرض ناهياً عن ذلك: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6]. (¬1) وعندما اشتكى أبوطالب وزاد ثقله، قال كفار قريش لقد أسلم حمزة وعمر، وفشا أمر محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القبائل، فانطلقوا بنا إلى أبى طالب، ليأخذ لنا على ابن أخيه، وليعطه منا، فإنا والله لا نأمن أن يبتزونا أمرنا، وعندما جاء وفدهم إلى أبى طالب قال للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يابن أخى هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعم كلمة واحدة يعطونيها يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم. وفي رواية: تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم: كلمة واحدة؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك عشر كلمات، قال: تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دون الله. فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: يا محمد تريد أن تجعل الآلهه آلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دينكم حتى يحكم الله بينكم وبينهم، ثم تفرقوا، فأنزل الله فيهم أول سورة «ص» (¬2). أما أسلوب الترغيب، فقد استخدمته قريش لإثناء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن دعوته، ومن ذلك أنها أرسلت عتبة بن ربيعة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: يا ابن أخى إنك منا حيث قد علمت من ¬

(¬1) ابن كثير، التفسير (4/ 560)، وغيره. (¬2) أحمد، المسند (3/ 314 - 315)، صحح شاكر إسناده، والترمذى، السنن (3230)، قال: حسن صحيح، والحاكم، المستدرك (2/ 432)، وصححه ووافقه الذهبى، والطبرى، جامع البيان (23/ 125)، والواحدى، أسباب النزول (209)، والسيوطى، الدر المنثور (5/ 295)، وغيرهم.

المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع منى أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.» فلما فرغ من قوله تلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدر سورة «فصلت» إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]، وعندها وضع عتبة يده على فيه، وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش مخبراً إياهم، بأن ما سمع ليس شعراً، ولا سحراً، ولا كهانة؛ واقترح على قريش أن تدع محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشأنه) (¬1) (. ولما لم يأت الترغيب بما اشتهت قريش، وما كان؛ - فتلك دعوة الله تعالى، لا يسألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم ولا غيرهم عليها أجراً؛ وإنما هو يدعوهم إلى هدايتهم ونجاتهم -؛ لجأت قريش حينئذ إلى الترهيب، واستخدمت فيه كل الوسائل الصادة عن سبيل الله، وقد أشرنا إلى أساليب منها. وقد ذكر ابن اسحاق فيما ذكر ابن هشام، أن أبا جهل إذا سمع عن رجل قد أسلم، وله شرف ومنعة، أنبه وأخزاه وقال له: «تركت دين أبيك وهوخير منك لنسفهن حلمك، ولنضعفن رأيك ولنضعن شرفك.» وإن كان تاجراً قال له: ولنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به. (¬2) ¬

(¬1) ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 187 - 188)، عبد بن حميد، المنتخب من المسند بتحقيق السامرائي والصعيدي (337)، (1123)، بإسناد متصل، وحسن الألبانى الحديث، فقه السيرة للغزالى (108). (¬2) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 320).

طلبهم المعجزات أو المزايا للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خلاف البشر: ومما ظنوا أنه حجر عثرة أمام دعوة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكذبونه به، ويشوشون به على الناس لئلا يؤمنوا أن يظهروا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمظهر العاجز عن أن يأتى لهم بما يقدر عليه الرب من خوارق العادات، مما يدل على أنه ليس مبلغاً عن الله تعالى، مع أنه لما جاءهم بشيء من ذلك، أجراه الله تعالى على يديه، قالوا مكذبين: «إن هذا إلا سحر يؤثر». ومن ذلك قولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 - 93]. ورد عليهم سبحانه وتعالى في الأيه نفسها بأن يقول لهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]. وسألوه أن يسير لهم جبال مكة، ويقطع لهم الأرض ليزرعوها، ويبعث لهم من مضى من الآباء الموتى أمثال قصى ليسألوه عن صدق محمد، ورد الله عليهمفى قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]. (¬1) لقد كانت مطلوباتهم تلك على وجه المعاندة، لا الاستفسار والهداية إن هي وقعت بحيث يتم إيمانهم ودخولهم في الإسلام بتحققها، ومن ثم لم يجابوا إلى كثير منها، وما أجيبوا إليه ليس لتركهم العناد، بل لإظهار صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوة الله وقدرته جل وعلا من ناحية ¬

(¬1) انظر الطبرى، جامع البيان (16/ 446 - 450)، أحمد شاكر إلى ابن عباس، وابن هشام، السيرة (1/ 381)، وانظر الشامى، سبل الهدى والرشاد (2/ 456 - 457)، من خبر أبى يعلى، وأبى نعيم عن الزبير بن العوام، وانظر في السبل (2/ 452)، من رواية ابن اسحاق وابن جرير والبيهقى.

ولتحذيرهم من الاستمرار في الغى والاضطهاد من ناحية أخرى، وهو المؤدى إلى إهلاكهم كإهلاك من كانوا أشد منهم قوة وبطشاً. لذلك قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 109 - 111]. {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} (¬1) [الإسراء: 59]. وقد روى الإمام أحمد كذلك من حديث ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: سأل أهل مكة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحى عنهم الجبال فيزدرعوا، فقيل له إن شئت أن تستأنى بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذى سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم. قال: «لا با استأنى بهم»، فأنزل الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} (¬2) [الإسراء: 59]. الاعتداء والتعذيب والاضطهاد لبقية المسلمين: إذا كان ما مضى ذكره شيء مما حدث للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن بقية المسلمين ذاقوا من ذلك الأمرين، وقد ذكرت السيرة شيئاً مما كان نذكر بعضه لنكمل به هذا البحث، ولننظر إلى كلام "وات"، المتهافت بعد ذلك. ¬

(¬1) انظر ابن كثير، البداية والنهاية (3/ 55). (¬2) انظر أحمد، المسند وعليه الفتح الربانى للساعاتى (20/ 222 - 223)، من طريقين رواهما ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 57)، بإسناد جيد، وهكذا رواه النسائى من حديث جرير، وأورده ابن كثير في تفسير الآية، ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبى وذكر الشامى في سبل الهدى والرشاد (2/ 458)، انه رواه أيضاً الضياء في صحيحه عن ابن عباس.

روى أحمد عن ابن مسعود قال: «أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد، فأما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فالبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس ...». (¬1) وروى ابن اسحاق في قصة هجرة عمر وقصة عياش معه أن قريشاً منعت هشام بن العاص بن وائل السهمى من الهجرة مع عمر وعياش، وفتنته فافتتن، واحتالوا على عياش فردوه من المدينة إلى مكة مقيداً. (¬2) وكان عمر بن الخطاب قبل أن يسلم يوثق سعيد بن زيد، ابن عمه، ويكرهه ليرجع عن الإسلام (¬3)، ولم يستطع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يفعل لهم شيئاً، وحتى عندما استقر بالمدينة لم يملك لهؤلاء إلا الدعاء، حيث كان يقول: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف». (¬4) ونال أبا بكر نصيبُه من الأذى حتى خرج مهاجراً فأدركه الاخنس بن شريف ورده في جواره. وذات يوم قام أبو بكر خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً شديداً، ومن ضربه عتبة بن ربيعة حيث جعل يضربه على وجهه بنعلين مخصوفتين حتى ما يعرف وحهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبى بكر، وحملوه في ثوب إلى منزله، ¬

(¬1) انظر وصى الله على فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/ 182)، بإسناد حسن. (¬2) ابن هشام، السيرة (1/)، عن ابن اسحاق بإسناد حسن، ورواه البزار ورجاله ثقات، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 62)، البيهقى، الدلائل (2/ 461 - 462)، والسنن الكبرى (9/ 13 - 14)، من طريق ابن اسحاق. (¬3) البخاري، الصحيح (ح 3862). (¬4) أحمد، المسند (ح 7259)، قال شاكر إسناده صحيح، ورواه البخاري ()، ومسلم (ح 675).

ولا يشكون في موته، وأقسموا لئن مات أبو بكر ليقتلن عتبة بن ربيعة. (¬1) وكان ابن مسعود من أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة؛ على الرغم من تحذير المسلمين له من عدوان المشركين، وخشيتهم عليه، فعندما فعل ذلك، ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، وعندما قال له الصحابة هذا الذى خشينا عليك، قال: ما كان أعداء الله أهون منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، قالوا: لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون. (¬2) وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته حتى يرجع عن دينه. (¬3) ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشاً، فتخشف جلده تخشف الحية، وحتى حمله أصحابه على قسيهم لشدة ما به من جهه. (¬4) واعتدوا عَلىَ عمر بن الخطاب عندما أسلم، وحاولوا قتله إذ سال بهم الوادى مجتمعين يقاتلونه ويقاتلهم حتى أعبا وترك نفسه لهم، وانقذه الله بالعاص بن وائل السهمى وسوف يأتى ذكر إسلام عمر بن الخطاب إن شاء الله تعالى في موضعه بعد الهجرة إلى الحبشة إن أدركه البحث. (¬5) وممن أوذى عثمان بن مظعون، فقد روى أنه عندما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن، رد جوار الوليد وعندما قدم «لبيد» بن ربيعة - الشاعر – إلى مكة وكان في مجلس لقريش ينشدهم ¬

(¬1) انظر ابن كثير، البداية والنهاية حيث ذكر القصة كلها (3/ 33 - 34). (¬2) ابن اسحاق بسند حسن مرسل، ابن هشام (1/ 288)، ورواه كذلك في السير والمغازى (186). (¬3) المنصورفورى، رحمة العالمين (1/ 52)، الرحيق المختوم، للمباركفورى (). (¬4) ابن اسحاق، السيرة (193)، بسند معضل، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (183). (¬5) يأتى ذكر إسلام عمر - رضي الله عنه -، من رواية ابن اسحاق، ابن هشام (1/)، وإسناده حسن.

شعره، قال لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل»، قال عثمان بن مظعون: «صدقت»، وعندما قال: «وكل نعيم لا محالة زائل»، قال له عثمان: «كذبت، نعيم الجنة لا يزول»، قال لبيد: «يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟»، فقال رجل من القوم: «إن هذا أيضاً في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى تفاقم أمرهما فقام إليه ذلك الرجل، فلطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: «أما والله يا ابن أخى إن كانت عينك عما أصابت لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة»، قال عثمان: «بل والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس»، فقال الوليد: «هلم يا ابن أخى، إن شئت فعد إلى جوارك»، فقال: «لا». (¬1) وكان عم الزبير بن العوام يعلقه في حصير، ويدخن عليه النار، ويقول: «ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً.» (¬2) ولم يقتصر هذا الاضطهاد، كما يظن الظان أو يتبادر إلى فهمه على أهل مكة فقط، بل هذا أبو ذر الغفارى - رضي الله عنه - لما سمع خبر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودخل مكة وأخذ يسأل حتى عرف موضع الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – وأسلم فخرج وأعلن إسلامه فضربه أهل مكة حتى أغشى عليه، وكاد أن يموت، فخلصه العباس - رضي الله عنه - منهم (¬3)، محذراً لهم بأن غفار يمكن أن تقطع طريق تجارتهم إلى الشام. ¬

(¬1) الحديث روى من طرق ضعيفة، تدل على أن للقصة أصلاً، خاصة وقد ذكرها الإخباريون، موافقة منهجهم فقد رواها ابن اسحاق، ابن هشام (2/ 10 - 12)، والبيهقى في الدلائل (2/ 292 - 293)، والطبرانى في الكبير (9/ 21 - 24)، ونقله عنه الهيثمى في مجمع الزوائد (6/ 32 - 34). (¬2) الحاكم في المستدرك (3/ 360)، وسكتا عنه، وأبو نعيم في الحلية (1/ 89)، بإسناد مرسل رجاله ثقات. (¬3) وهذا طرف ذكره البخاري (ح 3522)، ومسلم (ح 2473 - 2474)، في إسلام إبى ذر.

ولا يحسب القارىء أن هذا التعذيب قد اقتصر على ما ذكر، وأن كل أحد أخذ قسطه وانتهى الأمر، ورجع إلى حياته ودعوته، كلا ولكن التعذيب بقى ما بقيت الدعوة في مكة، بل كان يزداد ويتنوع على نفس الأشخاص وعلى غيرهم كلما دعوا أفراداً جدداً إلى الإسلام، وكلما رأى المشركون ازدياد عدد المسلمين، حتى آل الحال بهم إلى ترك مكة والهجرة إلى الحبشة، أو التخفى أو الدخول في جوار الكفرة. تعذيب الموالى: لقد نال الموالى القسط الأقسى والأفظع من التعذيب علانية على رؤوس الأشهاد، حيث صب المشركون جام حقدهم كله على هؤلاء الضعفاء لعدم المنعة التى تمنعهم، أو القوة التى يقاومون بها. وقد وصل الحال بهم في التعذيب أن عذرهم الله تعالى بالنطق بكلمة الكفر يخففون بها عن أنفسهم سوء العذاب النازل عليهم. قال سعيد بن جبير لابن عباس: «أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: «نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجوعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالساً من شدة الضرب الذى نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده.» (¬1) وقد ذكرنا حديث ابن مسعود أن أول من أظهر الإسلام سبعة إلى قوله فأما الباقون فالبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس وتكملته، فما منهم من أحد إلا واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه ¬

(¬1) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (1/)، وابن كثير، البداية والنهاية (3/ 65).

الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد. (¬1) آل ياسر - رضي الله عنهم -: كانت تلك الأسرة مضرب المثل فيما لاقاه المستضعفون من الأذى والابتلاء في تاريخ الإسلام، وكان بنو مخزوم يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة، ومر بهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات مرة وهم يعذبون فقال لهم: «أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة.» (¬2) وكان أول من استشهد في سبيل الله من هذه الأسرة خاصة، وفي الإسلام عامة: أم عمار – سمية – فقد طعنها أبو جهل بحربة في قلبها فماتت من جراء هذا الاعتداء الآثم. (¬3) وتفننوا في أذى عمار، حتى أجبروه على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وذكر جمهور المفسرين أن من أسباب نزول الآية الكريمة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ......} [النحل: 106]، هو موقف عمار بن ياسر. (¬4) بلال - رضي الله عنه -: كان مولى لبعض بنى جمح، وهو بلال ابن رباح، وأمه حمامة، ذكر أنه كان حبشياً وهو المشهور. (¬5) ¬

(¬1) أحمد، المسند (ح 3832 / شاكر)، وقال شاكر: إسناده صحيح، وذكره الذهبى في السيرة (217 - 218)، وقال: حديث صحيح، وابن ماجه (1/ 30)، الالبانى وحسنه، وابن كثير، البداية والنهاية (3/ 64)، وغيرها من المصادر. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 388)، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى، وابن هشام، السيرة (1/)، وقال الالبانى: حسن صحيح، فقه السيرة للغزالى (107 - 108). (¬3) انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (186). (¬4) ذكرها ابن الجوزى، زادالمسير (4/ 495)، وصحح الالبانى سبب نزول الآية في عمار بن ياسر، فقه السيرة للغزالى (108). (¬5) وقيل كان نوبياً، وانظر ابن حجر، فتح الباري ()، فضائل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، باب مناقب بلال.

كان - رضي الله عنه - صادق الإسلام طاهر القلب، وكان مولاه أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: «لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى»، فيقول وهو في ذلك البلاء: «أحد أحد». (¬1) وروى أن بلالاً قال: «أعطشونى يوماً وليلة، ثم أخرجونى فعذبونى في الرمضاء في يوم حار (¬2)، وعندما رأه أبو بكر - رضي الله عنه - في هذه الحالة ساوم سادته على شرائه، فاشتراه وأعتقه بخمس أواق، وهو مدفون بالحجارة.» (¬3) وفي الصحيح أن بلالاً قال لأبى بكر: «إن كنت إنما اشتريتنى لنفسك فأمسكنى، وإن كنت اشتريتنى لعمل الله فدعنى وعمل الله.» (¬4) هذا غير بلاء عريض ناله إلى أن أعتقه أبو بكر - رضي الله عنه -، ومازال الاضطهاد قائماً حتى بعد عتقه إذ كان البلاء نازلاً على غيره وهم أحرار. خباب بن الأرت: هو خباب بن الأرت ... التميمى ويقال الخزاعى، سُبِىَ في الجاهلية، فبيع بمكة، وكان مولى لأم أنمار الخزاعية، وقيل غير ذلك، ثم حالف بنى زهرة، كان يعمل قيناً – حداداً – يصنع السيوف، وكان من السابقين الأولين إلى الإسلام. ¬

(¬1) د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (188). (¬2) البلاذرى، أنساب الاشراف (1/ 186). (¬3) ابن حجر، الفتح (4/ 228)، وابن عبد البر، الاستيعاب (2/ 34)، بسند قوى، وذكره البغوى والخازن ()، سورة الليل، والبلاذرى، أنساب الاشراف (1/ 186). (¬4) البخاري، الصحيح (ح 5537).

وعندما أظهر إسلامه وقع عليه شتى أصناف التعذيب والأذى في المال والنفس، في ضمن وكانوا يضجعونه على صخور ملتهبة، ثم يضعون عليه حجراً حتى لا يستطيع أن يقوم (¬1)، وأوقدوا له ناراً ووضعوه عليها فما أطفأها إلا ودك ظهره، كما ذكر خباب نفسه، وقد كشف عن ظهره لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وذكر أيضاً أنهم كانوا يضجعونه على الرضف، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا. (¬2) وله قصة تدل على أن استباحوا منهم كل شيء، وهي في المال، مع العاصى بن وائل حيث صنع له خباب سيفاً فأتاه يتقاضاه فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: لا أكفر بمحمد – عليه الصلاة والسلام – حتى يميتك الله ثم يحييك، قال: إذا أماتنى الله ثم بعثنى ولى مال وولد، فسأقضيك، فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم: 77 - 78]. (¬3) ومما يطالعنا في هذا المبحث من الاضطهاد والأذى، هذا السؤال لمَ يلاقى المؤمنون هذا التعذيب وهم جنده سبحانه وعلى الحق المبين وفيهم رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ والجواب: أن المؤمنين مطالبون بعبودية السراء وعبودية الضراء قياماً بتحقيق أمره: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وخاصة الرسل وأتباعهم القائمين الأوائل بدعوة التوحيد وإفراد الرب بالعبادة، وتحمل تلك المسؤلية والجهاد في سبيلها، ودفع ضريبتها من مشقة وعنت حتى يكونوا القدوة لمن بعدهم، ولا يقوم بذلك إلا الأحقاء بذلك، ومن ثم ينزل البلاء ليميز الصادقين من الكاذبين قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ ¬

(¬1) ابن الجوزى، تلقيح فهوم الأثر (60). (¬2) أبو نعيم، الحلية (1/ 144)، بإسناد صحيح. (¬3) ابن حجر، فتح الباري (ح 4733)، ومسلم، شرح النووى (ح 2795).

الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2 - 3]، وإنه لأمر من مهمات هذه الدين، وهو تنقية الصف المسلم ممن لو لم يعلم بحاله، يوشك أن يكون سبب الهزيمة والخسران والانكسار، فلا ينتصر الدين الذى وعد الله بنصره، ومن ثم يحقق فيه سبحانه أسباب النصر وينفى عنه أسباب الهزيمة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ} [الحج: 11]. وكان أعظم ما يتمايز به المؤمنون من غيرهم هو الجهاد والصبر، ولذا كانا محك الاختبار ومورد الفتنة قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142]، ولا يظن المؤمنون بعد ذلك أن ذلك الفعل من الله يمكن أن يذهب بالدين وبالمؤمنين، بل ذلك من أعظم سبب كسر الكفرة ومحقهم يقول تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140 - 141]. ولا يعزب وإن حدث ويحدث، عن بال المؤمنين أن طول وشدة البلاء، توقف الدعوة وتؤخر النصر وتشكك في أمر الله، لأن الله يطمئنهم إلى قرب النصر على عكس الظن وتردد الشك في النفس بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214]. فكان المؤمنون بعلمهم بتلك القواعد الراسخة التى تثبتهم وتقوى عزائمهم وتشد من أزرهم مستبشرين بالنصر، لا يتطرق إليهم البأس ولا الحزن ولا الضيق، ولا يستوحشون من طول الطريق وكثرة العقبات، صامدين متوكلين على ربهم واثقين في قرب نصره ونزول فَرَجهِ. إن مما يلاحظه – كذلك – المتأمل في هذا الاضطهاد، أن شدة التعذيب جعلت بعضاً

من المؤمنين، الذين كادت أن تزهق أرواحهم مما لاقوا يوافقون الكفرة على النطق بكلمة الكفر، إبقاء على مهجهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يؤثر ذلك في إيمانهم أن أخذوا بالرخصة، ولكن آخرين كُثُر ضرب أعلى الأمثال في الثبات على دينهم، والرضا بجوار ربهم إن هم انتقلوا إليه على تلك الحال، رخيصة هينة أرواحهم فو جنب الله تعالى، متوكلين عليه أحسن التوكل، ولم ينسى التاريخ، ولن ينسى تلك المواقف البطولية الحقة لأولئك الأوائل المصطفين من الصامدين، ليصيروا بذلك القدوة لأصحاب المبادىء في كل زمان ومكان. يقول ابن كثير في تعليقه على موقف عمار بن ياسر من التعذيب: «ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يوالى المكره على الكفر إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يستقتل كما كان بلال - رضي الله عنه -، يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، وكذلك حبيب بن زيد الأنصارى، لما قال له مسيلمة الكذاب: «أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: «نعم»، فيقول: «أتشهد أنى رسول الله؟»، فيقول: «لا أسمع». فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك ... والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله، كما قال الحافظ ابن عساكر، في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمى.» (¬1) ولا شك أن أعداء الإسلام في كل زمان ومكان عندما يتمكنون منهم يسومونهم سوء العذاب، وخطط الإبادة، وصنوف التعذيب، ولن يكفوا عن استخدام كل الوسائل لإطفاء نور الإسلام، ومحاربة دعاته، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله غالب على أمره. ¬

(¬1) ابن كثير، التفسير (4/ 525 - 526).

الباب الثالث العهد المدنى

الباب الثالث العهد المدنى

الفصل الأول أسس بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في المدينة

الفصل الأول أسس بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في المدينة

المبحث الأول بناء المسجد

المبحث الأول بناء المسجد كانت إقامة المجتمع الإسلامي المتماسك، الذي تقوم عليه دولة الإسلام، أول ما قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببناء دعائمه، وتشييد أساساته، حتى صارت أعظم دولة عرفها التاريخ، - وإن الاهتمام بقيام تلك الأركان والأصول، كفيلٌ بإعادة تلك الدولة، دولة الحق، والعدل، والهداية، إلى العالمين، تنير الدنيا، وتطلب الآخرة -. وكانت أول خطوة، قام بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في سبيل ذلك، هي بناء المسجد، بؤرة الإشعاع الديني، والسياسي، والثقافي، والاجتماعي، في المجتمع المسلم، لأنه إنما يكتسب صفة الرسوخ، والتماسك، بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وما ينبع ذلك كله إلا من روح المسجد ووحيه. كان رجال من المسلمين، يُصَلُّونَ في المكان الذي بركت فيه ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، - وكان مربداً للتمر لغلامين يتيمين من بنى النجار، في حجر أسعد بن زرارة، هما سهيل وسهل -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هَذَا إِنْ شَاءَ الله الْمَنْزِلُ»، ثم دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: «بل نهبه لك يارسول الله «فأبى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقبله منهما هبة، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا (¬1)، وفي رواية أخرى للبخاري (¬2)، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما أمر ببناء المسجد أرسل إلى ملأ بنى النجار، فجاؤوه، فقال لهم: «يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي ¬

(¬1) ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري (101/ 15). (¬2) الفتح (32/ 15).

بِحَائِطِكُمْ هَذَا»، فقالوا: «لا! والله لانطلب ثمنه إلا إلى الله»؛ وفي الصحيح، أن مكان المسجد كان فيه قبور المشركين، وكان فيه خرب، وكان فيه نخل. فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون الصخر ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينقل معهم وهم يرتجزون: اللهم إن الخير خير الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجرة (¬1) وغير ذلك من الرجز ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرتجز معهم. واستغرق البناء اثنى عشر يوماً (¬2). ثم فُرض الأذان، بالكيفية التى عليها الآن، في السنة الأولى على الأرجح، وذلك عندما رأى عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - في منامه صيغة الأذان، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً فأذن بها، وعندما سمعه عمر - رضي الله عنه -، جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال إنه رأى ما رأى عبد الله بن زيد. ظل المسجد على حاله الذى بناه عليه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يزد فيه أبو بكر - رضي الله عنه - شيئاً، وزاد فيه عمر - رضي الله عنه - بأن أعاد عُمُدَه وجعلها خشباً، وحمى سقفه من المطر، ثم زاد فيه عثمان - رضي الله عنه - زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عُمُدَه من حجارة منقوشة وسقفة من ساج (¬3). ولم يكن له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منبر يخطب الناسَ عليه في مسجده، بل كان يخطب وهو مستند إلى جذع ¬

(¬1) المصدر نفسه. (¬2) البيهقي، دلائل النبوة (2/ 509) من رواية عبد الله بن الزبير. (¬3) البخاري، الفتح (3/ 106 و108/ ح 446). والساج: نوع من الأخشاب الهندية، أبو داود (1/ 311 / ح 451/ الدعاس). وقال ابن حجر في الفتح (3/ 108) عن عمل عثمان (- رضي الله عنه -) هذا: "فحسنه - أي المسجد - بما لا يقتضى الزخرفة".

عند مصلاه، فلما اتُخِذ للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منبر، وعدل إليه ليخطب عليه، خار ذلك الجذع، وحن حنين النوق العشار، لما كان يسمع من خطب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع يده عليه حتى سكن كما يسكن المولود الذى يسكت. وهذا من دلائل نبوته - عليه الصلاة والسلام - (¬1). وإن بالمسجد لتتحقق أنظمة وآداب الإسلام، التى سعى إليها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من أول يوم وصل فيه إلى المدينة المنورة. - إن من أول نظم الإسلام وآدابه، شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين، ولا يتم ذلك إلا بتلاقى المسلمين مرات متعددة، في بيوت الله، تتساقط فيها فوارق الجاه والمال، لتحل بينهم روح التآلف والتآخى والمودة. - وإن من أعظم ما جاء به الإسلام، وعمل على تحقيقه ونشره، وقد ساد واقعاً وفكراً، هو بث روح المساواة والعدل، بين المسلمين في مختلف أحوالهم، وعامة شؤونهم، ولا يتم ذلك إلا بوقوفهم صفاً واحداً، متجهين لرب واحد، وقبلة واحدة، لا فرق بينهم إلا بتقوى الله تعالى، ولا يتم ذلك إلا في بيوت الله، فمهما انصرف الناس إلى بيوتهم يصلون، لا يظهر ذلك، فضلاً عن أن تشيع تلك الروح؛ إلا في بيوت الله تعالى. - وكذلك انصهار المؤمنين في بوتقة من الوحدة الراسخة، يجمعهم عليها حبل الله، الذى هو حكمه وشرعه، فمالم تقم في أنحاء مجتمع المسلمين مساجد، يجتمعون فيها على تعلم حكم الله، وشريعته ليتمسكوا بهما، ويدعوا إليهما على علم وبصيرة، آلت وحدتهم إلى شتات، وفرقتهم الأهواء والشهوات. ولقد كان المسجد يقوم بأعظم دور، من صغير الأعمال - كما يتصور البعض - إلى جليلها: ¬

(¬1) البخاري (3585).

- فكان مكاناً لتعليم المسلمين أمور دينهم. - وكان مكاناً لاستقبال الرسل - السفراء - الذين يفدون على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وكان مكاناً لعقد ألوية وجيوش وسرايا المجاهدين. - كما كان مكاناً لاعتقال أسير الحرب المشرك، إذا كان في ذلك عظة لمن يراه، أو عظة له في سماع القرآن، ورؤية هداية وأخلاق أصحاب هذا الدين. - وكان أعظم مكان، وأكثر اتساعاً، لكى يجتمع الصغير والكبير بقائدهم، مما يُشْعِر بقرب القائد، وتحمله معهم السراء والضراء، ومعرفة أحوالهم مباشرة، والقيام على حل مشاكلهم، ومناقشة شجونهم وشكواهم، مع التآلف والتواضع الجم بينهم، الذى يزيد في آصرة هذا الدين، وفدائه بأرواحهم. - وإن ضعفاء المسلمين، من المهاجرين، والفقراء، ممن عرف بأهل الصفة، وغيرهم لم يكن لهم مأوى إلا المسجد، وكذلك ضعفاء النساء - اللاتى أسلمن من نساء العرب - ولم يجدن محلاً يأوين إليه (¬1). لما سبق، بعد التأمل، نبادر بالقول: إنه لما عرف الكفرة والمنافقون أهمية المسجد، في قوة المسلمين، وقيام دولتهم، وثباتها، بدأوا من مطلع الدعوة، إلى يومنا هذا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في محاربة المساجد، وتقليص دورها في حياة المسلمين، وإيقاف بنائها، وإغلاقها، وإقامة مساجد للضرار، ترفع راية الفساد، والإفساد في الدين باطناً، وتعلن ظاهراً غير ذلك؛ نكاية في أهل الإسلام، وتفريقاً بينهم، وتشتيتاً لشملهم، والأمثلة لا تحتاج إلى تفصيل. ¬

(¬1) انظر لما سبق د. البوطى، فقة السيرة، 151 وما بعدها، ود. مهدى رزق الله، السيرة النبوية، ص295 وما بعدها، والبخاري، فتح الباري (3/ 102)، (3/ 100)، وانظر د. أكرم العمرى المجتمع المدنى (89 - 105).

وإن أول من فعل ذلك، في حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفسه -، هم المنافقون، الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، حيث أقاموا وشيدوا مسجد الضرار. نعود كما هو منهجنا، إلى سيرة المسجد في القرآن الكريم، نتتبع آيات ذكرها، نستشف منها - باختصار سريع - تلك السيرة العطرة للمسجد، ومعانيها، كما أراد الله تعالى، ودعا إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بتحليل هذه الآيات، ومقارنتها مع السيرة المطهرة. وها هي ذي تلك الآيات المختارة، على ترتيب واقعها. الأولى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [الأنفال: 36 - 37]. الثانية: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. الثالثة: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18]. الرابعة: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] الخامسة: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. السادسة: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)} [التوبة: 108] السابعة: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: 18]. الثامنة: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 107]

التاسعة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114]. العاشرة: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]. ونظرة إجمالية، في هذه الآيات الكريمات، نراها تبين - بما نزل منها في المدينة، وبما نزل في مكة، وهو قليل بالمقارنة بما نزل في المدينة، نظراً لظروف الدعوة أيامها - سيرة المسجد على مدار حياة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى. ويوضح التصاق سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمسجد، دليلَ هداية الدعوة، وربانيتها، وتوجيهها إلى الله تعالى، وكيف تكون المساجد، - كما رأينا تطبيق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العملي، وتطبيق الصحابة - محل النور، والذكر، والمراكز التي تشع منها كل طرائق الخير، وسبل الرشاد، على العالمين، في الدنيا والآخرة. ظهر ذلك بأن يتوجه فيها المسلمون، إلى قبلة واحدة، صفاً واحداً، يعبدون إلهاً واحداً، سواء كانت قبلتهم في مكة إلى بيت المقدس، أو قبلتهم في المدينة إلى الكعبة المشرفة، حيث جاءت آيات، توضح ما نحن بصدده، كقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. فدل على أن الله تعالى غيَّر له القبلة، التى أمر بها، والتى لم يكن له أن يغيرها إلا أن يأتيه أمر الله تعالى بذلك. وبينت الآيات إجمالاً، لزوم رفع هذه المساجد، بناءً وتشييداً، وكذلك رفعها بما يكون فيها من إشهار فضلها وسمو منزلتها. وأمر كذلك - سبحانه وتعالى -، بعد تشييدها، ورفعها، بتطهيرها من كل ما يخالف معنى الطهارة حساً، ومعنىً. ثم نادى على كل الناس - وكان ذلك في مكة - بألا يدعوا مع الله أحداً في مساجده، وأن دعاءهم وتوحيدهم، له وحده لا شريك له. وأن يقيموا وجوههم مستقيمين له، غير

عادلين به غَيْرَه، مخلصين له، غير مشركين به. ثم عزز ذلك بالظاهر – إذ كان الإخلاص زينة الباطن - بأن يأخذوا أحسن زينة عند كل مسجد. وأن أعظم المساجد الذي يجب أن يقوم فيه، - لوجوده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة ساعتها - هو مسجده المعظم، لأنه أول مسجد أسس هنالك على التقوى، وأن القائمين فيه من باب الأولى - الذين هم صَحْبُه - هم الذين يحبهم الله لأنهم يحبون أن يتطهروا لله تعالى، ظاهراً وباطناً، وذلك موضوع محبة الله تعالى لأهله. قد يتردد الناس في القيام بما سبق، فبين لهم أنه لا يقوم بتعمير تلك المساجد - مهما ساءت الظروف وادلهم الخطب - إلا المؤمنون بالله واليوم الآخر، المقيمون صلاتهم، المؤدون زكواتهم، ويتجلى ذلك كله، بعدم خشيتهم وخوفهم إلا من الله تعالى، وأولئك يُرجى أن يكونوا من هؤلاء الذين - رضي الله عنهم -، وهم المهتدون. ولا يهولنك بعد أن كانت تلك سيرة المسجد، أن يقوم المنافقون والكفرة، بمنع مساجد الله تعالى، أن يُذكر فيها اسمه، سواء ببناء مساجد الضرار، أو بالسعي في تخريب المساجد، بكل ما حدث أو يحدث، من أنواع التخريب، فإن لهم خزياً شديداً في الدنيا، وعظيم العذاب في الآخرة. وكيف لا يعذبهم الله تعالى كل العذاب المؤلم لهم، ويخزيهم بكل أنواع الخزي، وهم يصدون عن دينه، ومعرفته، وتوحيده –وهو أعظم شيء -، بالصد عن بيوته، وخاصة بيته الحرام. رأينا بهذا الإجمال، كيف ترتبت تلك الآيات التي اخترناها، لتكون جزءاً من سيرة

المسجد في الإسلام، خاصة إذا علمنا، أنها - وغيرها من الآيات الواردة في نفس الموضوع - لتؤكد بأسباب نزولها اتصال تلك الحلقة، وتسلسلها الزمني، والحكمي، بما يشي بارتباط الدين، ونشره، بالمسجد، وكذلك بشيوع آدابه وأخلاقه، بالمسجد، وبتربية المسلمين على أحسن نظام، - دقيقه وجليله - بالمسجد. وننظر - استكمالاً لما سبق - في موضعين - توخياً للاختصار - من الآيات السابقة، نفصلهما، نوضح بهما شيئاً من المقصود. الموضع الأولى: آيته مكية، حيث وردت في سورة الأعراف، وهي في ترتيب السيوطي (¬1)، الثامنة والثلاثين، حسب الترتيب الزمني لنزول القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 29 - 30]. وبتأمل هذه الآية، وبالنظر في سياقها، نرى أنها جاءت نفياً، لما سبق ذكره من المشركين، بأن الله جل وعلا - حاشا له - يأمر بالفحشاء، فأنكر عليهم، وبين لهم، ولغيرهم، إلى يوم الدين، ما يأمر به ربهم سبحانه وتعالى، حيث ذكرت الآية مقومات، وأركان الدين الحق، فكراً، وسلوكاً، ودعوة، فجمعت ذلك ملخصاً في ثلاثة أُمور: الأول: الأمر بالقسط. الثاني: إقامة الوجوه عند كل مسجد. الثالث: دعاء الله تعالى، بالإخلاص في الدين له. ¬

(¬1) محمد عزه دروزه، سيرة الرسول (1/ 155).

وقد صَدَّرت ذلك كله بقوله تعالى: {قُلْ} توجيه آمر للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يعلن ذلك، وأن يرسله في كل ملأ، ليبين دين الله تعالى، مقيماً به الحجة، نافياً عنه اللبس، والإفك، وإن قلنا ثَمَّ دليل على الوحى القرآنى، للرد على "وات"، وعلى التحليل النفسى، فهو هذه الآية الكريمة، والتى تقول للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {قُلْ} أي: ليس من عنده، وما هو الإ مبلغ، وتوضح له ماذا يقول، مما يستحيل أن يكون قد سمعه قبل ذلك، فخزنه في عقله الباطن - كما يزعم -، إذ ما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن ليقوله، أو ليستطيع أن يرتبه ذلك الترتيب، بشرٌ حينئذ، من حيث الأسلوب، أو المعنى، أو تَرَتُّبُ هذه المعانى على الواقع، مع الإخبار بالبعث، والهداية والضلال. وشَرْحُ ذلك ببعض التفصيل، مما يطول بحثاً ونقلاً، ولكن نسوق شيئاً مما ذكره المفسرون، ونخص ابن عاشور بالذكر، لتوضيحه ذلك لغةً، وبلاغةً فيقول ما ملخصه (¬1): بعد أن أبطل زعمهم، - أن الله أمرهم بما يفعلونه من الفواحش - إبطالاً عاماً بقوله: «قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ»، استأنف استئنافاً استطرادياً، بما فيه جماع مقومات الدين الحق، الذى يجمعه معنى القسط، تعليماً لهم بنقيض جهلهم، وتنويهاً بجلال الله تعالى، بأن يعلموا شأن الذي يأمر الله به، ولأهمية هذا الغرض فصلت هذه الجملة عن التى قبلها، ولم يعطف القول على القول، لأن في إعادة فعل القول، وفي ترك عطفه على نظيره لفتاً للأذهان إليه. والقسط: العدل، وهو هنا بمعناه الأعم، الذى هو وسط بين الإفراط والتفريط في الأشياء، وهو الفضيلة من كل فعل، فالله تعالى أمر بالفضائل، وبما تشهد العقول السليمة أنه صلاح محض، وأنه حسن مستقيم، نظير قوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان: 67]. ¬

(¬1) انظر ابن عاشور، التحرير والتنوير، (8/ 84 - 85).

فالتوحيد عدل بين الإشراك والتعطيل، والقصاص من القاتل عدل بين إطلال الدماء، وبين قتل الجماعة من قبيلة القاتل، والإحسان عدل بين الشح والإسراف، فالقسط صفة للفعل في ذاته، لكي يكون ملائماً للصلاح، عاجلاً، وآجلاً - أي: سالماً من عواقب الفساد -. فقوله إذن: {أَمَرَ رَبِّي}. كلام جامع، لإبطال كل ما يزعمون أن الله أمرهم به، مما ليس من قبيل القسط. وإذا كان القسط هو أمر الله تعالى، وكان توحيد الرب، وإجلاله، وتعظيمه، وإظهار هذا كله، من أعظم القسط، أعقبه بقوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي: قل أقيموا وجوهكم. وإذا كان القصد الأول، إبطالَ بعض ما زعموا من أن الله أمرهم بالالتزام به، ففي هذا الأمر التصريح بما يرضى الله عز وجل. وهو إقامة وجوههم، دليلاً على كمال الإقبال على عبادة الله تعالى، في مواضع عبادته (¬1)؛ ولما لم يكن لهم في مكة حينئذ إلا المسجد الحرام، ونزلت الآية تفيد الجمع: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} - أي: عند كل المواضع التى يستخفون بالعبادة فيها - حملت البشارة بأن ستكون لهم مساجد، يقيمون فيها وجوههم لله تعالى، وأعدهم لذلك بالتوجه إليه في معنى الإقامة، فلا يلتفتون يمنة ولا يسرة. قائمين غير متغاضين ولا متوانين، يعظمون معبودهم الحق، ويعظمون مكان عبادتهم، وأن الإشراك، والتعرى، وما كان على غير سنن التوحيد، والعبادة والنسك، والإقبال على الله تعالى، مناف لذلك مناقض له، كما كان حال المشركين يومئذ. فكان ذلك تعليماً، وتربية، وإرشاداً، لما ينبغي أن يكون عليه الذين التزموا الدين الحق، ورفعوا راية الإيمان به. وإن من أشهر ما وقعت عليه أبصارهم، وأبصار المشركين المدعوين للإيمان بالله ¬

(¬1) انظر السابق.

وحده أيام البعثة، - مما يبين لهم هذه المعانى، ويوضحها لهم، ويدعو المشركين أن يتركوا شركهم، ليكونوا حنفاء لله - هو الحج وشعائره، فأمرهم أمراً أولوياً، وهو إقامة وجوههم لله تعالى في الحج، مسلمين، ودعوة للمشركين، حيث وضعوا أصنامهم عند الكعبة، وفي جوفها، وعند الصفا والمروة، وغيرها، منكراً عليهم بأن الله لا يأمر بتلك الفحشاء، وغيرها من الفواحش، بل يأمر بنقيضها، وهو القسط، وإقامة الوجوه لله عند كل مكان يعبد فيه، إجلالاً له وتعظيماً، ورفعاً لشأن المكان وتبياناً لفضله. وإذا كانت إقامة الوجوه والتعظيم، مما يظهر على المؤمنين، حال الائتمار بذلك، جاء قوله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} معطوفاً على قوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، ليكون القلب، متواطئاً مع الظاهر، فيكون كلاهما عابداً لله، قائماً بحقه، مخلصاً في ذلك، حيث الإخلاص محله القلب، وهو تمحيض الشيء من مخالطة غيره، وبالتالى تكون طاعتهم متمحضة لله جل وعلا وحده، وذلك ما أمرهم به حيث يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]. فيجتنبوا بذلك أي إشراك مع الله في طاعته، في كل أُمورهم، فما يفعلون من فعل، وما يقولون من قول، وما يعتقدون من فكر في كل شؤونهم، إلا كانوا مخلصين فيه لله تعالى يرجون رحمته ويخافون عذابه. كانت تلك السيرة، هي البداية الأولى في مكة المكرمة، فيما أمر الله به المؤمنين في قوله النازل قبل هذه الآية في سورة الجن: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18]. ثم أخذت سيرة المسجد مع سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسيرة أصحابه، تتوالى آياتها، توضيحاً لما ينبغى، وتفسيراً لما يحدث، وتطوراً مع الدعوة، سلسلة آخذٌ بعضها بحلقات بعض، حتى اكتملت بما أشرنا إليه من آيات نزلت في آخر حياة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي نفس الوقت، نزلت لأسباب نزولٍ تُرْشِدُ المؤمنين إلى مؤامرات الكفرة والمنافقين، وتحذرهم الاغترار بما في ظاهر تلك الوقائع، وتنير لهم طريق الحق فيما ينبغى أن يحتذوا فيه حذو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في القيام برسالة المسجد، وحفظها،

حتى يسلموها تامة، واضحة، متحققة على أرض الواقع، لمن بعدهم، وقد كان! حتى وصلنا إلى ما نحن فيه، من حالٍ سببه البعد عن تلك التعاليم الإلهية، في سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وتجليةً، لاستمرار سيرة المسجد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، نذكر: الموضع الثاني: وهو من التنزيل المدني، يُظْهِرُ لنا هذا التدرج والبناء، في سيرة المسجد، وهو قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور: 36 - 37]. بعد ذكر مواضع السجود والعبادة في التنزيل المكي، واحترامها، وتوحيد الله فيها، تعظيماً له، وتفخيماً لشأنه سبحانه، بَيَّنَ هذا التنزيل المدنى، الأمر ببناء المساجد، وسماها بيوت الله، بإضافتها إليه سبحانه في قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، تشريفاً لها، وإظهاراً لعطاء الله لهم، من الرحمة، والبركة، عندما يكونون في بيوته سبحانه، إذ يكرمهم ويحسن نُزُلَهم، وهو حافظ لزيارتهم، حافظ لهم. إلى غير ذلك مما تقصر العبارة عن وصفه. وبَيَّنَ صفات أولئك الذين يقومون بهذه العمارة لبيوته، كما سنوضحه - إن شاء الله - بَعْدُ، عند تفسير الآيات. والعاقبة الحسنة ينتظرونها من وراء ذلك، بكونهم رجالاً لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكره، ولا عما افترضه عليهم من صلاة وزكاة، مع ملازمة الخوف من ملاقاة الله، في يوم تزيغ القلوب والأبصار من أهواله، ومحنه، ليسلموا بذلك، فيجزيهم أحسن الجزاء، ويزيدهم من فضله، في الأولى والآخرة. وبالتأمل في تلك الآيات، يتضح من تحليها تلك المعانى الجليلة:

- هذه الآيات، سبقها قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، إلى قوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}. ومعنى ذلك وضحه العلامة أبو السعود (¬1)، حيث يذكر في تفسيره أن قوله: {عَلَى نُورٍ} متعلق بمحذوفٍ، هو صفة له، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، والجملة فذلكةٌ للتمثيل، وتصريح بما حصل منه، وتمهيد لما يعقبه، أي ذلك النور الذى عبر به عن القرآن، ومثلت صفته العجيبة الشأن، بما فصل من صفة المشكاة، نور عظيم كائن على نور كذلك، لا أنه نور واحد معين، أو غير معين، فوق غيره، أو هو مجموع نورين، بل هو نور متضاعف، من غير تحديد لتضاعفه، كما مثله بنور المشكاة؛ لكونه أقصى مراتب تضاعفه، مع ما في الزيت وصفائه من زيادة النور والإشراق والبهاء (¬2). - أما قوله تعالى بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} .. فإنه يأتى بعدما ذكر الله تعالى شأن القرآن الكريم، في بيانه للشرائع، والأحكام، ومباديها، وغاياتها المترتبة عليها، من الثواب والعقاب، وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالها، وأُشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح والإظهار، حيث مُثِّل بما فصل من نور المشكاة، وأنه في أقصى مراتب الظهور، وإنما يهتدى بهداه من تعلقت المشيئة الإلهية بهدايته، وعَقَّبَ ذلك بذكر الفريقين: الأول: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ...}، إلى آخر صفاتهم. الثاني: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً} [النور: 39]. وهي الآية التالية لما سبق. ¬

(¬1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم، (4/ 92 - 96). (¬2) هذا القرآن الذى ذكر الله تعالى شيئاً من صفاته، الذى يقول فيه «وات» باللبيدو، والتحليل النفسى، وتعليم ورقة!.

- أما قوله: {فِي بُيُوتٍ} .. فهى المساجد، وأولها ما نزلت فيه الآيات، وهومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسجد قباء، فتقديم الجار والمجرور، للاهتمام بتلك البيوت، وللتشويق إلى متعلق المجرور، وهو التسبيح، وأصحابه؛ والتنكير للتفخيم من شأنها، وعلو منزلتها ومكانتها؛ والمراد بالإذن في رفعها: الأمر ببنائها رفيعة، لا كسائر البيوت، وكذلك الأمر برفع مقدارها، بعبادة الله تعالى فيها؛ ويكون عطف الأمر بالذكر على الرفع هنا من قبيل العطف التفسيرى؛ وأياً ماكان! ففى التعبير عن الأمر بالرفع: بالإذن، تلويح بأن اللائق بحال المأمور، أن يكون متوجهاً إلى المأمور به ناوياً لتحقيقه، كأنه مستأذن في ذلك، فيقع الأمر به موقع الإذن فيه. وهذه البيوت رُفِعَتْ لذكره سبحانه وتعالى، أو بذكره وعبادته؛ وذكره يعم جميع أذكاره سبحانه وتعالى، وتكون {فِي} متعلقةً بقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ}، و {فِيهَا} تكريراً لها، للتأكيد والتذكير بها؛ والتقديمُ: للاهتمام، لا لقصر التسبيح في هذه البيوت فقط، فتنزيه الله وتقديسه حالُ المؤمن في كل الأوقات. لذا قال: {اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)} [النور: 36]. - ثم قال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور: 37]. وهي صفة لـ {رِجَالٌ}، مؤكدة لما أفاده التنكير، من الفخامة؛ وهي تعنى أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولاً، ثم من كان مثلهم في التعلق بالمساجد؛ وهذه الصفة أيضاً مفيدة لكمال تبتلهم إلى الله تعالى، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح، من غير صارف يلويهم، ولا عاطف يثنيهم، كائناً ما كان. وخص التجارة بالذكر لكونها أشهر أعمالهم، وأقوى صوارفهم، فهم لايشغلهم نوع

من أنواع التجارة؛ {وَلَا بَيْعٌ} أي: ولا فرد من أفراد البيوع، وإن كان في غاية الربح، وإفراده بالذكر مع إندراجه تحت التجارة، لتميزه بأن ربحه متيقن ناجز، وربح ما عداه متوقع في ثانى الحال، وكررت كلمة {لَا}. لتذكير نفى الإلهاء وتأكيده (¬1). ما يلهيهم شئ - كما ذكرنا - عن ذكر الله تعالى بالتسبيح والتحميد، ولا عن إقام الصلاة، في مواقيتها، من غير تأخير، إقامة تامة، يستكملون فيها آدابها، ووسننها، وواجباتها، وأركانها، مع الخشوع فيها لله، وتعلق القلب بها، إذا فرغ منها يود أن يعود إليها، كما في الحديث: «ورجل قلبه معلق في المساجد ...» (¬2). وكذلك هؤلاء الرجال! لا يلهيهم شئ عن إخراج زكاة أموالهم، وإحسانهم للمستحقين، وكون إخراج الزكاة مما يفعل ايضاً خارج المساجد، ولكنه تنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد، وكذلك بقية الآية: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} فـ {يَخَافُونَ} صفة لرجال أي لاتفارقهم تحملهم على الاسراع إلى طاعة ربهم، والقيام بواجباته، وعدم الوقوع فيما يغضبه، ومن ثم لاتختص بالبيوت أيضاً بل هي حالهم الغالب عليهم، إذ هم يخافون أهوال وفزع ذلك اليوم الذى تضطرب وتتغير فيه القلوب والأبصار. {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} .. متعلق بمحذوف، يدل عليه ما حكى عنهم من أعمالهم المرضية، فقد فعلوا ذلك كله، ليجزيهم الله تعالى {أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}. أي: أحسن جزاء لأعمالهم بحسب ما وعدهم، ويتفضل عليهم بأشياء لم تُوعَدْ لهم ¬

(¬1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم، (4/ 93 - 94)، وابن عاشور، التحرير والتنوير (18/ 248). (¬2) رواه البخاري، كتاب الأذان (660)، رواه مسلم، كتاب الزكاة، (1031).

بخصوصيتها، أو بمقاديرها، ولم تخطر ببالهم كيفياتها، ولا كمياتها، بل وعدت بطريقة الإجمال في مثل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكاية عن ربه عز وجل: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (¬1). وهكذا رأينا شيئاً من سيرة المسجد، سجلها التنزيل الإلهي، لتبين جزءاً من سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسيرة أصحابه المكرمين - رضي الله عنهم -، في قيامهم بتنفيذ هذه الأوامر، والتحقق بتلك الوصايا، فكانوا خير مثل لتلك السيرة العطرة، خلفاً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يتركهم الوحي الرباني، حتى بَشَّرَهُم، بجميل فعالهم، وبَيَّنَ حُسْنَ عاقبتهم، وما ينتظرهم من عظيم الجزاء والأجر، في الدنيا والآخرة، وكان مصداق ذلك في الدنيا هو عاجل بشراهم. ¬

(¬1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم، (4/ 94 - 95)، وانظر أيضاً محمود الالوسى، روح المعانى، (10/ 260 - 261)، وانظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (18/ 245 - 250)، والحديث متفق عليه، البخاري كتاب بدء الخلق (3244)، مسلم كتاب الجنة وصف أهلها ونعيمها (2824).

المبحث الثاني المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

المبحث الثاني المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وننتقل مسرعين إلى: هذا الأساس الذي وضعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عند وصوله إلى المدينة المنورة، بعد الهجرة مباشرة، لبناء المجتمع الإسلامي، وما كان ذلك إلا بتوفيق الله تعالى ورحمته. وقد كان ذلك لقدوم المهاجرين من مكة إلى المدينة لايملكون شيئاً، تركوا أموالهم، وأولادهم وأرضهم وديارهم، نصرة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولدينه، ولم يكونوا أهل زراعة، ومع ذلك أعطاهم الأنصارُ، - الذين هم أهل الأرض والعقار - الأرضَ، ليعملوا فيها بنصف ثمارها، ومنهم من أعطيت له منيحة محضة، واستغنوا عنها لما فتح الله عليهم خيبر (¬1). وقد رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، - نفسُه - ما أعطوه من نخل عندما فتحت عليه قريظة والنضير (¬2). وكان ذلك دليل إيثارهم المهاجرين على أنفسهم، حتى وصل بهم الإيثار إلى أن قالوا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن شئت فخذ منا منازلنا». فقال لهم خيراً، وابتنى لأصحابه في أرض وهبتها لهم الأنصار، وفي أراض ليست ملكاً لأحد (¬3). ¬

(¬1) انظر النووى، شرح مسلم (1365) كتاب الجهاد والسير باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم. (¬2) السابق نفس الباب. وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية، (300 - 301). (¬3) د. مهدي رزق، السيرة النبوية، (301)، ونسبه للبلاذري في أنساب الأشراف (1/ 270).

ولم تكتف الأنصار بذلك، بل بذلوا - طيعة - أنفسهم أموالهم للمهاجرين، فقالوا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل». قال: «لا» فقالوا «تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمر»، قالوا: «سمعنا وأطعنا» (¬1). وهذا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع للمهاجرين لاستكمال أجرهم وثوابهم، وألا يكونوا عالة يثقلون كواهل إخوانهم، ولئلا يظنوا بهجرتهم، وتركهم كلَ شيء، أنهم قد صار لهم الحق والعذر في أن يجلسوا ويستريحوا شيئاً ما، من عناء ما قاسوا، ولكنه كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعِدّهم لإتمام جهادهم، والثبات على مبادئ البذل والتضحية، ومواصلة مسيرة الهداية، متقدمين فيها الصفوف. ومن التطبيقات العملية، قصة عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، حيث آخى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينه وبين سعد بن الربيع - رضي الله عنه -، فقال له سعد: «إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسمُ لك نصفَ مالي، وانظرْ أيَ زوجتيَّ هويتَ، نزلت لك عنها، فإذا حَلَّتْ تزوجْتَها، فقال له عبد الرحمن: «لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ فَدُلَّ على سوق بنى قينقاع ... إلى آخر الحديث، حيث تمكن من الزواج، ودَفْعِ المهر، وقال له الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَوْلِمْ ولو بشاة» (¬2). ولم يكن سعد بن الربيع - رضي الله عنه - منفرداً عن غيره من الأنصار، فيما عرضه على أخيه، كما يُظَنُّ، فقد طلبوا - كما أشرنا آنفاً - من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقاسموهم كل شيء، وأن يعطوهم منازلهم، فهو إذاً شأن الصحابة عامة في علاقتهم، وتعاونهم، مع بعضهم البعض، بعد الهجرة خاصةً، وبعد أن آخى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بينهم (¬3). وعلى الرغم من هذا الإيثار، فقد أراد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يوجد تشريعاً يعالج للمهاجرين أوضاعهم الاقتصادية، فكان أن شرع نظام المؤاخاة في السنة الأولى من الهجرة، حيث آخى ¬

(¬1) البخاري (2325). (¬2) البخاري، فتح الباري (2048). (¬3) انظر د. البوطى، فقة السيرة، (158).

بين المهاجرين والأنصار على الحق والمواساة، والتوارث بعد الممات دون ذوى الأرحام (¬1). وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حالف بين قريش والأنصار في داره (¬2). وروى البعض أن المؤاخاة كانت في المسجد (¬3). ومن الجدير بالذكر أن موضوع المؤاخاة قد تم مرتين، مرة في مكة، والأخرى بعد الهجرة إلى المدينة، كما ذكره ابن عبد البر في سيرته (¬4). وذكر ابن حجر، أن من أغراض المؤاخاة، أن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض، بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى، ويستعين الأعلى بالأدنى، ومِثْلُ هذا مؤاخاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعلى بن أبى طالب - رضي الله عنه -، لأنه هو الذى يقوم به من عهد الصبا، قبل البعثة، واستمر إلى ما بعدها، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة، لأن زيداً مولاهم، فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين (¬5). وقد آخى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه بعد وصوله المدينة، ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويستأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام، واجتمع الشمل وزالت الوحشة، واستطاعوا أن يقوموا بحياتهم وعيشهم، أبطل الله التوارث بالمؤاخاة، وأبقى أخوة الإيمان كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ¬

(¬1) البخاري، فتح الباري (4580)، وكذا تفسير ابن كثير (2/ 255). (¬2) البخاري، فتح الباري (2294)، ومسلم (2529)، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 245)، وابن سعد، الطبقات، (1/ 238 - 239). (¬3) لا تعارض بين القولين، كما ذكر شارح البخاري، الفتح (15/ 130). لأن المؤخاة لم تتم مرة واحدة، بل حسب من يدخل في الإسلام، أو يقدم المدينة، وما في الصحيح يقدم على غيره، حيث ذكر مسلم أن ابتداء المؤخاة كان في دار أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬4) ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازى والسير، (100)، تحقيق د. شوقى ضيف القاهرة سنة 1386هـ - 1966 م. (¬5) ابن حجر، الفتح (15/ 129).

اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} [الأنفال: 75]. وقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6]. ومن ثَمَّ أُلْغِىَ ذلك بعد بدر أو بعد الأحزاب أو أحد (¬1). وقد ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - أن ما ألغاه الإسلام من نظام المؤاخاة هو الإرث فقط، أما النصر والرفادة والنصيحة، وأن يوصى لبعض المتآخين بشئ من الميراث فكل ذلك باق (¬2)؛ بدليل مؤاخاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء وغيرهما - رضي الله عنهم -، وسلمان إنما أسلم بعد أحد وقبل الخندق. وأما حكمة نسخ التوارث - علاوة على ما ذكرنا - أن الروح الإسلامية غدت العصب الطبيعي للمجتمع الإسلامي، في ظل الأخوة الإسلامية العامة، وما يترتب عليها من مسؤليات مختلفة، فلا يخشى على هذا النظام من التقصير أو التمييع أو التفكك، فلا غرو ولا ضرر في أن تعود قرابة الرحم كما كانت؛ وإن أصبح ذلك أثراً بعد عين، فقد ذهبت هذه القضية مع ما ذهب من كثير من أخلاق، ومحاسن، وآداب الإسلام، التي كانت السبب في ثباته وبقائه، وكانت سر حيويته وقوته، وانتشاره وعدالته، وسر علو المسلمين وحضارتهم. مما سبق، يتضح لنا أن وحدة الأمة، وتساندها، لا يمكن أن يتم، إلا بعامل التآخى والمحبة، فتنهض حينئذ هذه الأمة، وتأخذ في أسباب الرقى والتقدم، لأن أي أمة لايجمعها هذا العامل لايمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة فلايمكن أن تتألف منها دولة. ¬

(¬1) د. أكرم العمرى، المجتمع المدنى، ص 78، ونقله عن لباب النقول، ص 260، والشوكاني، فتح القدير، (2/ 330 - 331). (¬2) البخاري (4580)، في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33].

إن التآخي لابد أن يكون مسبوقاً بعقيدة يتم الالتقاء حولها والإيمان بها، لأن التآخى بين مختلفى العقيدة وَهْمٌ، خاصة عندما تحمل العقيدة أصحابها على أنماط وطرائق وسلوك في الحياة يميزها عن غيرها. ومن ثم قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العقيدة، التي جاءت من عند الله تعالى، لتقوم أخوة المؤمنين على ما التقت أفئدتهم عليه، بتلك العقيدة، وفي سبيلها يموتون ويستشهدون، فيقفوا بذلك جميعاً، صفاً واحداً، أمام الله تعالى، عبودية له، واظهاراً للخشوع عنده، والالتزام بتعاليمه، لا اعتبار بينهم لغير التقوى. إن قيام مبدأ التعاون والتناصر، يطبق ميزان العدل والمساواة، وإن المجتمع السليم، هو الذي يقوم على أساسٍ من العدالة، في الاستفادة من أسباب الحياة والرزق، وإن أول من يضمن سلامة هذه العدالة، وتطبيقها، هو التآخي والتواد، ثم تليها ضمانة السلطة والقانون، فإذا لم تتحقق تلك المباديء، حل محلها الأحقاد والضغائن، بين أفراد المجتمع، والتى تنبيء عن الظلم والطغيان، المؤدى إلى الفتن والضعف والزوال. من أجل ذلك اتخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، - بأمر الله تعالى - من هذا التآخى بين المهاجرين والأنصار، أساساً لأعظم نظام إجتماعى في العالم، ثم تدرجت هذه المباديء إلى شكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة، ولكن أساسها الأول، الذي لولاه ما قام هذا المجتمع، هو تلك الأخوة العظيمة، المؤسسة على عقيدة الإسلام الخالد، لما كان لها من أعظم الأثر الإيجابي والتطبيقي المستمر في شد أزر المجتمع، وتثبت دعائمه وأركانه (¬1)؛ ويوم أن أحس الناس بفقد ذلك الميزان للعدالة، وضعفت مقومات الأخوة، بدأ التفكك يأخذ في أركان المجتمع الإسلامي، إثر تلك الموجات الساخطة التى بدأت تهل على دولة الإسلام. ¬

(¬1) انظر: د. البوطي، فقه السيرة، ص 157 - 158.

النظرة القرآنية لسيرة مبدأ الأخوة في الإسلام: ونذكر بعض الآيات القرآنية الكريمة، تبين موضوع الأخوة، وما ينبغى أن نستفيده منها؛ - على سبيل الاختصار، حيث أبرز القرآن الكريم جوانبه كافة، وشَرْحُ ذلك كله يخرج بنا عن حد المقصود -، وهذا ما اخترناه من الآيات الكريمات: - قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} [الحجر: 47 وهي مكية]. - قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]. - قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. - قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. - قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر: 8].قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. - قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} [الحشر: 10]. - قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. - قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. - قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11].

- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23]. - قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة: 100]. ونظرة إجمالية على هذه الآيات الكريمات، مع مراعاة الترتيب الزمنى للنزول، نراها تبين، وتؤكد المعاني التالية: 1 - إن ما يجمع المؤمنين، ويربط بينهم، ويُوجِدُ تلك الحقوق لكل أحد، هو الإيمان بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبياً ورسولاً، لا شيء غير ذلك، وعظم ذلك بأسلوب القصر، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وهذه العقيدة والأخوة الإيمانية أظهرت الآيات بها دلائل في غاية الأهمية. أولها: أن تلك الأخوة، وهذا التآلف، الذي لم يحدث في تاريخ البشرية، نعمة محضة من الله تعالى، لم يستطع أحد، ولن يستطيع أن يوجدها، فضلاً عن أن يضعها في القلوب، لذا قال جل وعلا: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. بل أكثر من ذلك شأناً، ما ذكرته الآية الأخرى، وهو أن هذه الأخوة، بزغت وأشرقت، من جوف ليل العداء الدامس، حيث يقول سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]. ثم بَيَّن الصورة المقابلة وجلاها، فنفى الولاية بين المؤمنين وبين غيرهم، حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم، ليؤكد - بما لا يتطرق إليه الاحتمال - أن الأخوة توجد حيث يوجد الإيمان، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23].

ثانيها: أن هذه الأخوة - بالتالي - لا تحدها أرض، ولا يقيدها زمن، بل كل مؤمن أخٌ لبقية المؤمنين في سائر بقاع الأرض، وأخٌ لمن كان يترضى عليه، ويدعو له، وأخٌ لمن يكون كذلك، وقد رأينا انجذاب المؤمنين، لمن كان من السالفين منهم، ومحبتهم لهم بغير صحبة، ولا رؤية، وهذا يؤكد ما ذكرناه من عالمية دعوة الإسلام، وشمولها، بما لا يدع ذرةً لتَشَكُّكٍ، أو مجالاً لريب، أو ثغرةً لمستشرق، إلا ثغرات الهوى، وعدم الحياد والإنصاف، والإعراض عن العلم وقواعده، فيما يتعلق بالإسلام وتعاليمه. وجاء في سياق ذلك، الآية التي تمهد الطريق لكل أحد، لكي يكون أخاً للمؤمنين، في بقاع الدنيا كافة، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]. ولايعقل أن يكون ذلك للعرب خاصة، فإن أي تائب من الشرك، أقام الصلاة وأدى الزكاة، تشرف وتمتع بإخوة الدين، لا يقف أمامه عائق من وطن، ولا زمن، وهذا يدل على أن كل كافر - في أي بقعة من المشرق - إذا أسلم، صار أخاً لكل مسلم - في مغارب الكون وأقاصيه شمالاً وجنوباً -. ثالثها: بينت الآيات الكريمات - في جملة ما بينت -، المساواة والعدل كمظهر تام الوضوح، لتلك الإخوة في الحقوق والواجبات، لافرق في ذلك بين جليل وحقير، ولا ذكر وأنثى، ولا أحمر وأسود، ولا حر وعبد، كلهم تجمعهم أخوة الإيمان والمحبة والتآلف؛ والتفاضل بينهم إلا بالتقوى، «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» (¬1)، وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. وقد ذكرت تلك الآية الكريمة، - التي أوردنا في صدر الكلام - صورة حية لهذه الأخوة، - التي وصى الله تعالى بها، بسبب الإيمان -، لأولئك الذين لاحقوق لهم في عالم ¬

(¬1) رواه أحمد (22391).

اليوم إلا الملاجيء، ودور الفشل، التي تساعد في إخراج طفل لا قيمة له، وهي قوله تعالى - عندما أُلغى في الإسلام عادة التبني -: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. وهو تشريع، يوجب لغير معلومى الآباء - فما بال الباحث بمن علم أبوه وفُقِد - يوجب لهم هذه الحقوق المترتبة على أخوة الإيمان، التى شرعها لهم، كما شرعها لأعلى منهم منزلة اجتماعية أو مادية. وهذا أعلى تشريع وصل إليه العالم، وهو تشريع لم يصل إليه مُشَرِّعُو حقوق الإنسان، والحقوق المدنية وغيرها، وإن كتبوا مثله حقوقاً، فإن الواقع ناضح بممارسات فاضحة في هذا المجال، لا حصر لها! لا تخطئُها الأعين، بل هي صارخة، فاقئة لكل الأعين، صاخة لكل الأسماع، تهز الوجدان والضمائر الحية، وتدميها، لم تكن في تشريع الإسلام ولا تطبيقه. ونواصل تلك السيرة، لذلك الصرح الإيماني، الذي رعاه القرآن الكريم، وطبقه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصحابه، وعليه، وبه ارتفعت راية الإسلام، حيث التضحية، والبذل، ومحبة كل أحد لأخيه ما يحب لنفسه، بل إيثاره عليها. نعود إلى النظرة الإجمالية، فنشير إلى سيرة الحقوق، - التي أخذت سنين - تنزيلاً وتطبيقاً، مع آيات قليلة، انتخبناها وافية بالغرض؛ لأنها تدل على ما وراءها: 2 - إن الحقوق التى شرعها الإسلام للمسلمين، بإخوة الدين، تدرجت من حفظ الحقوق التي لا تنازل عنها، في الدم والعرض والمال، وصولاً إلى البذل والإيثار، الذي يقدم فيه المؤمن أخاه على نفسه، بدءاً بعدم التحقير لأي معروف يبذله لإخوانه، ولو كان في نهاية القلة (¬1)، مروراً بتفريج الكربات، والتيسير للمصائب العسيرات، وستر العورات، والمساندة والمواساة في السراء والضراء. ¬

(¬1) شيء من الأحاديث التى تدل على ذلك. قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» رواه مسلم (2626).

وتسعفنا الآيات، في الحقوق الأولى بذكر أدناها، تشديداً على أعلاها، ونذكر في ذلك قوله تعالى: {... وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. وقد جاء قبلها عدم السخرية، أو سوء الظن به، أو التجسس عليه، مع ترك التفاخر والتنابز بالالقاب، وبالتالي، ما يكون أكثر من ذلك في عرضه فهو حرام، وكذلك ماله ودمه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضيحاً لذلك: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» (¬1). فما بالك بأزيد من ذلك، بل ما الظن بضربه وسفك دمه! ... ومع ذلك ذكر القرآن الكريم، أنه يمكن أن يحدث ما يعكر صفو هذه الأخوة، بل يجرحها، وإن أعظم الجروح لها هو القتل، ومع ذلك - حتى إن وقع خطأ - لا ينفى الأخوة ولا يهدمها، بل أبقاها الشارع، وندب معها إلى العفو والإحسان، فقال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178]. ولاشك أن الأخوة المذكورة هي أخوة الإيمان، اشارة للإحسان، والفضل، والمعروف. وكذلك أمر أمراً قوياً، بألا نترك الخصومات، لتقوض جوانب الأخوة، ولم يتركها حتى جعلها تشريعاً، لا يجوز التفريط فيه، أو التغافل عنه، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 10]. وهنا نستشعر هذا المعنى، وهذا الموقع الجليل للصلح، وهو أنه إذا قام المؤمنون المهتمون بأمر إقامة هذا الدين، من الأئمة والعلماء، وأهل الفضل، في فض كل خصام، وإحلال الصلح محل البغضاء، والفرقة، والشحناء، والتدابر، والتربص، وغيرها، وأزيد منها، من أمور السوء بين المسلمين؛ فليتصور المرء حينئذ، قوة ¬

(¬1) رواه البخاري (6288)، ومسلم (2184).

هذا المجتمع وصفاءه، وتراص أفراده جميعاً على كلمة سواء، توحد صفهم، وتقوي بنيانهم، وتجعلهم كالجسد الواحد، والبنيان المرصوص، يستطيع أن يبني نهضته، وأن يرفع رايته، وأن يصمد لأعدائه، وأن يواصل سيرته شامخاً مستعصياً، على كل عوامل الهدم والفناء. قال تعالى أيضاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. فجعل الإيمان ملهباً لهم، للمسارعة إلى ذلك؛ إذ هو من أهم مميزات الإيمان وعلاماته، وجعله كذلك محور اهتمام المؤمنين جميعاً، عندما أورد الخطاب بصيغة الجمع: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]. ونصل إلى الصورة التى جَلَّى القرآن الكريم جوانبها لكل المؤمنين، إلى قيام الساعة، وهي صورة المؤمنين أنفسهم، وارتباطهم، فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 8 - 10]. ذكر صاحب الظلال، في الصور الثلاث، التي أبرزت فيها الآيات الملامح المميزة للمهاجرين والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم، ما أبرز خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان. الصورة الأولى: هي صورة صادقة، تبرز فيها أهم الملامح المميزة للمهاجرين، أخرجوا إخراجاً من ديارهم وأموالهم، أكرههم على الخروج الأذى، والاضطهاد، والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم، في مكة، لا ذنب لهم إلا أن يقولوا ربنا الله، وقد خرجوا تاركين

ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، لا ملجأ لهم سواه، ومع أنهم مطاردون قليلون، كان خروجهم نصرة لله ولرسوله، بقلوبهم وسيوفهم، في أحرج الساعات وأضيق الأوقات {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، فكان الصدق مقصوراً عليهم، بضمير الفصل مع علو المكانة، بالإشارة البعيدة إليهم؛ فهم صادقون مع الله في أنهم اختاروه، وصادقون مع رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنهم اتبعوه، صادقون مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض، ويراها الناس. والصورة الثانية: لأولئك الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان، كذلك صورة مضيئة، صادقة، تفردت بصفات بلغت الآفاق؛ ولولا أنها وقعت بالفعل لحسبها الناس أحلاماً طائرة، ورؤى مجنحة، وأمثلة عليا، قد صاغها خيال مخلق. وقد تبوأوا الدار - دار الهجرة، المدينة - قبل المهاجرين، وتبوأوا الإيمان فيها، كأنه منزل لهم؛ وكلمة دار هي أقرب ما تصور موقف الأنصار من الإيمان، أي: لقد كان دارهم ووطنهم، الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم. وإن محبتهم للمهاجرين عند استقبالهم لهم، بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، - لم تعرف البشرية كلها حادثاً مثله -؛ ولم يروا أو يحسوا بموجدة في صدورهم، على أولئك المهاجرين الذين قاسموهم كل شيء، من تفضيل في بعض المواضع، أو مال يختصون به في فيء، فلم يكن في نفوسهم أدنى حسد أو ضيق، بل الإيثار على النفس مع الحاجة، هي القمة العليا التى بلغها الأنصار، وكانوا كذلك في كل مرة، وفي كل حالة، بصورة خارقة لمألوف البشر، مع التوقى من الشح المعوق عن كل خير، لأن الخير بذل في صورة من الصور، بذل في المال، وبذل في العاطفة، وبذل في الجهد، وبذل في الحياة عند الاقتضاء، لا يمكن لشحيح أن يصنع خيراً، فهو يهم كل مرة بالأخذ، ولا يهم مرة بالعطاء، فإذا كان المسلم معطياً، باذلاً، كريماً، فهذا هو الفلاح.

ونصل إلى الصورة الثالثة، التي بينت هذه السيرة المترابطة للمؤمنين، من يوم أن جاء الإسلام إلى نهاية الدنيا، وكان الأولون من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتابعيهم بإحسان، المثل المدهش لها، وهي الصورة الرضية النظيفة الواعية، التى تبرز أهم ملامح التابعين، بل تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق، في جميع الأوطان والأزمان، والتى وضحت لنا ألوهية هذه الدعوة وربانيتها، فهؤلاء القوم صنع الله، إذ لو كانوا تربية شخص فمن الذى ربى من بعدهم، وإذا كانت تعاليمه، فما الذي حملهم عليها، وربطهم بها، وأقام الوازع في نفوسهم من مخالفتها، ومن الذى جعل الأول والآخر والقريب والبعيد على نفس النهج. هؤلاء الذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار، سمة نفوسهم أنها تتوجه لربها طلباً للمغفرة، لا لنفسها فقط، بل لكل من سبقها بالإيمان، وتتوجه لربها كذلك بطلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا كافة. تتجلى إذن من وراء تلك النصوص، طبيعة هذه الأمة، وصورتها الوضيئة، في هذه الحياة، وتظهر الآصرة الوثيقة، التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن وتكافل وود وتعاطف، بل بشعور بوشيجة القربى العميقة، التى تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتتفرد وحدها في القلوب، ليذكر المؤمن بالحب أخاه، بعد هذه القرون المتطاولة، في إعزاز وكرامة وشوق، كذكره الحي أو أشد (¬1). إنها كتيبة واحدة على مدار الزمان، واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم. تلك صورة الأخوة كما ذكرها القرآن، وبين فيها القول، وفصل وأبدى وأوضح، ¬

(¬1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (6/ 3526 - 3527)، باختصار.

لتكون السيرة المنيرة، التى وضحها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قولاً وتطبيقاً. لتأتى الآية الأخيرة، في ترتيب تلك الآيات الكريمات، - التي انتخبناها دليلاً ونبراساً لسيرة الأخوة في القرآن الكريم - وهي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100]. لتبين عظيم عاقبتهم، وحسن جزائهم، الذى أعده الله لهم، جراء ما قدموا مجتمعين إلى يوم القيامة صفاً واحداً، إنه أعظم الجزاء وأجله، رضا الله عنهم، ومجاورتهم له في جنته - سبحانه وتعالى - خالدين فيها أبداً، وهو الجزاء الحامل على المسارعة إلى تحقيق هذه الأخوة، وملازمتها في كل زمان ومكان. 3 - ونعود إلى ثالث الملاحظات، على آيات الأخوة وسيرتها القرآنية، وهي ملحوظة لابد منها في الدراسة القرآنية، وهي أن كل هذه الآيات مدنية، ولم تأت آية واحدة مكية، تشير إلى لزوم الأخوة، أو توصى وتأمر بها، ولاشك أن لها أسباباً، وفي ظن الباحث، أن ما توصل إليه من أسباب - إذ لم تذكر أيٌ من المصادر التي اطلع عليها شيئاً من ذلك - تتلخص فيما يلى: - أن أي أقلية توجد في مكان، يربط بينها رباط العقيدة، أو الجنس، أو غيرها، تستشعر فيما بينها التآلف والمواساة، والقيام بمساعدة بعضهم بعضاً، خاصة عند استشعار الخوف من وقوع مكروه لهم، يهدد حياتهم، أو أموالهم، أو غير ذلك، فيبذلون فيما بينهم ما يدفعون به أي خطر يتهددهم، ويتحدون أمام أي عدو يحاول استباحتهم، ويصير حينئذ ولاؤهم المتضح في التناصر والمعونة لمجموعتهم أو جماعتهم، بل إنهم يمكن أن يتعاهدوا على الموت جميعاً، في سبيل الذود عن بقائهم، وحماية أرواحهم، وأولادهم، وأموالهم.

ولذلك رأينا الصحابة الأولين في مكة، لا ينقصهم التكافل والتراحم والمحبة والمودة، وإن كانوا لا يستطيعون في أحوال كثيرة أن يوقفوا، أو أن يقفوا أمام طوفان الظلم، الذي يغشى معظمهم، ومع ذلك لا ينفكون عن مواساة إخوانهم، وجدانياً، وأن يشاركوهم الشعور بما هم فيه؛ إذ لم يتمكنوا أن يدفعوا عنهم شيئاً. إن المحنة التى حصرتهم، لاشك جمعتهم في خندق واحد، يدفع كل عن إخوانه، كما يدفع عن نفسه، ويقف فيه عاري الصدر، محتملاً الأذى في سبيل بقاء هذه الجماعة المؤمنة، التي تعبد الله تعالى، حفاظاً على الدعوة، وتضحية بالنفس فما دونها، رخيصاً في سبيل دينه، ينتظر موعود الله بالنصر أو الشهادة، خاصة عندما باشر الإيمان شغاف قلوبهم. - إن وجود القائد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشاركهم، ويقاسمهم ذلك كله، وفي نفس الوقت يبث في قلوبهم ونفوسهم روح الإيمان، كان له أعظم الأثر في التحامهم وتوادهم وتراحمهم وتعاطفهم. خاصة عندما يكون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القائم بالمواساة، والتعاطف، مع الضعيف الفقير قبل القوى المليء. فكان واقعهم كفيلاً بقيام تلك الصورة الفريدة، من صور الأخوة والمحبة، لذا لم يكن ثَمَّ تشريع قرآني بها، إذ يكفى فيها واقع السنة العملى، فلما هاجروا إلى المدينة، ودخل في الإسلام من لم يعايشوا تلك المرحلة، ويتحملوا مشاقها، نزلت التشريعات والوصايا، تأمر بذلك وتبشر به، وإن كانت النواة القدوة قد تعمقت جذورها، وقويت ساقها، مثالاً حياً وواقعاً حقيقياً، سرعان ما يدور في فلكه، الآتي الغريب، عن هذا العلو السامق، ليكون أحد لبناته التى تقوى البنيان، وتشد من أزره: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43].

المبحث الثالث الوثيقة (الصحيفة)

المبحث الثالث الوثيقة (الصحيفة) عندما استقر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدنية، نظم العلاقات بين أهلها، وكتب كتاباً بهذا الشأن، أوردته المصادر التاريخية، وكذلك دلت على تفاصيله، وجزئياته، الآياتُ القرآنية، والمصادر الحديثية. عرف هذا الكتاب في المصادر القديمة باسم: (الصحيفة) أو (الكتاب)، وأسماه الكُتَّابُ المحدثون: (الدستور) أو (الوثيقة)، وقد استهدف توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات. ولأهمية هذه الوثيقة، اعتمد الباحثون المعاصرون عليها، في دراسة تنظيمات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة المنورة، ونُظُم الدولة الإسلامية، وعلاقاتها بالملل والدول الأخرى، والنظام السياسى في الإسلام، فمن ثَمَّ احتاجت منا لعرض، ودراسة مفصلة، خاصة وقد استهدفها "وات" بالنقد الشديد، على طريقته في محو، وتأويل حقائق الإسلام الربانية، وسيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، المرتبط بالسماء (¬1)، عندما رأى ذلك قادحاً في مناهج بحثه، التي يطوع التاريخ ويؤلفه لها. ¬

(¬1) انظر د. البوطي، فقه السيرة، ص 159، وانظر د. أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة، ص 272 وما بعدها، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية، ص 306 وما بعدها، وانظر محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، ص 39 - 41، وقد ذكر من كتب في الوثيقة.

مدى صحة الوثيقة: لتبيين مدى صحة نسبة هذه الوثيقة، إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما لها من أهمية تشريعية وتاريخية، نشير إلى بعض من ذكرها من المحدثين والإخباريين. إن أقدم من أورد نصها كاملاً هو محمد بن إسحاق دون إسناد (¬1)، ونقلها كل من ابن سيد الناس في سيرته (¬2)، وكذلك ابن كثير (¬3)، أما الإمام البيهقى (¬4) فقد ذكر إسناد ابن إسحاق للوثيقة، - التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون اليهود -، ويبدو أنه رواها من غير طريق ابن إسحاق، وأورد ابن سيد الناس رواية ابن أبى خيثمة (¬5) في تاريخه، بمثل رواية ابن إسحاق، ولكنه أسندها، ووردت في كتاب الأموال، لأبى عبيد القاسم بن ¬

(¬1) ابن هشام، السيرة النبوية، (22/ 103 - 105)، وهو ابن يَسار بن خِيَار الأخبْارى، العلامة، الحافظ، القرشى، المُطلبى، المدنى صاحب السيرة النبوية، ولد سنه ثمانين، ورأى أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وهو أول من دون العلم بالمدينة، انظر سير أعلام النبلاء (7/ 33). (¬2) انظر ابن سيد الناس، عيون الأثر في فنون المغازى والشمائل والسير، (1/ 197 - 198)، وهو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، اليعمرى الربعى، أبو الفتح، عالم بالأدب، من حفاظ الحديث، له شعر رقيق، أصله من أشبيلية، ولد بالقاهرة 671 هـ وتوفى بها 734 هـ، انظر الاعلام للزِّرِكلى (7/ 34). (¬3) ابن كثير، البداية والنهاية، (3/ 224 - 226)، وهوإسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن درع القرشى البصروى الدمشقى، أبو الفداء عماد الدين، حافظ، مؤرخ، فقيه، ولد في قريه من أعمال البصرى الشام سنة 706 هـ، وتوفى بدمشق 774 هـ، انظر الأعلام للزركلى (1/ 320). (¬4) البيهقى، السنن الكبرى، كتاب الديات، (8/ 106)، وهو أحمد بن الحسين بن على، أبو بكر، من أئمة الحديث ولد في خسر وجرد سنة 384 هـ، في قرى بيهق بنيسابور ورحل إلى بغداد ثم الكوفة ومكة وغيرهما ومات بنيسابور سنة 458 هـ، وله تصانيف كثيرة في الحديث والفقة الشافعى وغير ذلك من فروع العلم. (¬5) الامام الحافظ الحجة أحمد بن أبى خيثمة زهير بن حرب النسائى - 279 هـ، وهو أبو بكر أحمد بن أبى خيثمة زهير بن حرب بن شداد، نسائى الأصل صاحب التاريخ الكبير عَلِم الحديث عن أحمد بن حنبل ويحي بن معين والأدب عن محمد بن سلام الجُمحى وقال عند الدار قطنى ثقة مأمون، مات في سنة 279 هـ، وقد بلغ 94 عاماً، انظر طبقات الحنابلة لابن أبى يعلى (1/ 42).

سلام (¬1) ولكن من طريق الزهري (¬2) موقوفة عليه، وقد وردت الصحيفة ذاتها من رواية الزهري أيضاً، في كتاب الأموال (¬3) لابن زنجويه (¬4). أما صحة الوثيقة، فلا شك أنها تصلح أساساً للدراسة التاريخية؛ التى لاتتطلب عادة تلك الشروط العالية، من صحة الإسناد التى لابد أن تتوفر فيها، للاستدلال على الأحكام التشريعية، وقد ذكرنا صلاحيتها لذلك، للأسباب الآتية: 1 - أنها وردت من طرق كثيرة، تتضافر في إكسابها القوة، والزهري علم من رواد كتاب السيرة، وهو من أوثق أهل العلم والرواية. 2 - أن أهم كتب السيرة والتاريخ، ذكرت موادعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لليهود، وأنهم جميعهم - أي: القبائل الكبيرة المعلومة في التاريخ - هي التي نقضت عهودها، وإلا ما معنى أن ترد الروايات التاريخية، المدعومة بالقرآن الكريم في مهاجمتهم، وإخراجهم من المدينة المنورة، وما ذلك إلا لسبق العهود القوية، التي نقضوها مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ذكرت الروايات كتابتها - أيضاً - بين المهاجرين والأنصار. ¬

(¬1) انظر أبا عبيد القاسم بن سلام، الأموال (517)، وهو الهروى الأزدى الخزاى، بالولاء، الخرسانى البغدادى، أبو عبيد، من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقة ولد بهراة سنة 157 هـ، وتوفى بمكة سنة 224 هـ، انظر الأعلام للزركلى (5/ 176). (¬2) الزُهْري: (58 - 124 هـ)، محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهرى، من بنى زهرة بن كلاب من قريش، أبو بكر، أول من دون الحديث وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء، تابعى من أهل المدينة، كان يحفظ ألفين ومئتى حديث، انظر الأعلام للزركلى (7/ 97). (¬3) ابن زنجويه، كتاب الأموال، ص 75، تحقيق د. شاكر ديب فياض. (¬4) ابن زنجويه: حَمِيْد بن زيجوية، أبو أحمد، الإمام، الحافظ الكبير اسمه حميد بن مَخْلَد بن قُتيبة الأَزْدِى النسائى مولده في حدود سنة 180 هـ، وتوفى سنة 251 هـ، على الصحيح، حدث عنه أبو داود والنسائى والبخاري ومسلم وإبراهيم الحربى وأحمد بن حنبل كثير الحديث قديم الرحلة إلى الحجاز ومصر والشام والعراقيين، انظر سير أعلام النبلاء (12/ 19).

3 - أن أسلوب الوثيقة يدل على أصالتها (¬1)، فأسلوبها وجملها وما تكرر فيها، ينم على مألوف أساليب العصر المدني، وإن تشابهها، بل واستخدام نفس الجمل مع أساليب كتب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأخرى ليعطيها قوة ويكسبها الثقة (¬2). شواهد على فقرات الوثيقة قرآناً وسنة وتأريخاً: نذكر بعض الشواهد التى تدل على صحة الصحيفة، من القرآن والسنة وكتب التاريخ، حتى نرد بذلك على القائلين بخلافه، ونبين تهافت كلام"وات". ونبدأ بالتاريخ لنصل إلى الأعلى، حيث ذكر المؤرخون فقرات معينة، وردت في الصحيفة كالطبري (¬3) حيث أشار إلى كتابة المعاقل، وكذلك ابن سعد (¬4) أشار إلى كتابة المعاقل بين المؤمنين، وأن لايترك مُفرح في الإسلام، ولا يقتل مسلم بكافر، وعبد الرزاق الصنعاني (¬5)، أشار إلى العقل على العاقلة، وأن ذلك بلغهم عن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما في الكتاب ¬

(¬1) صالح العلى، تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة، ص 4 - 5 - . (¬2) محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، وفيها تلك المقارنات التي تثبت صحة الوثيقة. (¬3) الطبري، التاريخ، (2/ 486)، وهو أبو جعفر، محمد بن جرير بن يزيد، المؤرخ، المفسر، الإمام، ولد في أمل طبرستان سنة 224 هـ، واستوطن بغداد وتوفى بها سنة 310 هـ، قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق المؤرخين، انظر الأعلام للزركلى (6/ 69). (¬4) ابن سعد، الطبقات، دار صادر بيروت، وهو محمد بن سعد بن منيع الزهرى، مولاهم، أبو عبد الله، مؤرخ، ثقة، حفاظ الحديث ولد بالبصرة سنة 168 هـ، وسكن بغداد وتوفى بها سنة 230 هـ، صحب الواقدى المؤرخ وعرف بكاتب الواقدى قال عنه اعطيت في تاريخ بغداد: بن سعد من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه، انظر الأعلام للزركلى (6/ 136). - المفرح: المثقل بالدين كثير العيال. (¬5) المصنف (9/ 273 - 274) بإسناد صحيح، لكنه مرسل، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، طبعة بيروت، المكتب الإسلامي، 1392 هـ، وهو ابن همام بن نافع الحميرى (126 - 211 هـ)، مولاهم، أبو بكر الصنعانى، من حفاظ الحديث الثقات من أهل صنعاء، كان يحفظ نحو من سبعين عشر ألف حديث، قال عنه الذهبى: هو خزان علم، انظر الأعلام للزركلى (3/ 353).

الذي بين قريش والأنصار. وذكر المقريزى (¬1)، وابن حزم (¬2)، والديار بكري (¬3)، أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب كتاباً وادع فيه اليهود، ذكر بعضهم بنى قينقاع، والنضير، وقريظة، إلى آخر ما ذكر، والآخر ذكر يهود فقط. وقد ورد أثرٌ يؤكد موادعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لليهود، وكتابته ذلك معهم، في قصة بني النضير لما غدروا يقول: «... صبحهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالكتائب، فحصرهم يومه، ثم غدا على بنى قريظة، فحاصرهم، فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بنى النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء ... (¬4)» وليس معنى ذلك أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن عاهد بنى قريظة، بل كان بينه وبينهم كتاب، فلما انشغل ببني عمومتهم، - يهود بني النضير - خشي غدرهم، فحاصرهم، فأكدوا له بقاءهم على ما كانوا عليه من العهد، فكان ذلك توكيداً. وأما ما كان من سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، التي تؤيد فقرات في الوثيقة، فقد روى منها البخاري (¬5) ¬

(¬1) المقريزي، إمتاع الأسماع، (1/ 49)، أحمد بن على بن عبد القادر، أبو العباس الحسينى العبيدى، تقى الدين المقريزى، مؤرخ الديار المصرية أصلة من بعلبك ونسبتة إلى حاره المقارزة ولد بالقاهرة سنة 766 هـ، ونشأ بها ومات بها سنة 845 هـ، وولى فيها الحسبة والإمامة والخطابة مرات، انظر الأعلام للزركلى (1/ 177). (¬2) ابن حزم، جوامع السيرة ص 95، وه على بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى، عالم الأندلس في عصره، ولد بقرطبة سنة 384 هـ، زكانت له ولأبيه من قبلة رياسة الوزاره فزهد فيها وانصرف إلى العلم، انتقد كثير من العلماء فحذروا منه السلاطين فأقصوه إلى بادية ليلة من بلاد الأندلس فتوفى فيها سنة 456 هـ، انظر الأعلام للزركلى (4/ 254). (¬3) الديار بكرى تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس (1/ 353)، وهو حسين بن محمد بن الحسن، مؤرخ، نسبته إلى ديار بكر، ولى قضاء مكة وتوفى بها حوالى سنة 966 هـ، له تاريخ الخميس أجمل به السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء والملوك، انظر الأعلام للزركلى (2/ 256). (¬4) ابن مردويه، ذكره ابن حجر، في فتح الباري، كتاب المغازي، حديث بني النضير وقال: إسناده صحيح، (15/ 202). وأخرجه عبد الرازق في المصنف (5/ 359 - 360)، وأبو داود في سننه (2610) مطولاً. والبيهقي في الدلائل (3/ 198). (¬5) البخاري، (3046)، مع فتح الباري (12/ 137).

وأبو داود (¬1) (¬2) والنسائي (¬3) وابن ماجه (¬4)، ونذكر مثلاً واحداً، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيما رواه النسائي: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، لايقتل مؤمن بكافر؛ ولا ذو عهد في عهده». هذه الروايات تثبت تحرير الكتاب، من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المهاجرين والأنصار، وتؤيد الفقرات التى جاءت في الصحيفة عن المعاقل، وفداء الأسرى للمهاجرين وبطون الأنصار. لقد أورد أحد الباحثين، ثمانية أحاديث تثبت أصل الصحيفة، والكتابة بين المهاجرين والأنصار واليهود في المدينة، وما فيها من تفصيلات، ثم ذكر لها شواهد كثيرة (¬5). وأما الآيات القرآنية .. فقد ذكر الباحث نفسه، سبعاً وعشرين آية، توافق فقرات الصحيفة، ولولا خشية الإطالة، لأوردنا طرفاً منها. ونهاية النظر في هذه الأدلة، توحي بأن جميع فقرات الصحيفة، لها شواهد من القرآن الكريم، والسنة الصحيحة. إن الحقيقة العلمية، هي التي حملتنا على الكلام على صحة الوثيقة، بهذا التدقيق ¬

(¬1) أبو داود، (3000). (¬2) الخطابي، معالم السنن، (2/ 338) بإسناد صحيح. (¬3) النسائي، (8/ 20). (¬4) ابن ماجه، (2658 - 2659 - 2660). (¬5) انظر د. مهدى رزق، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص (313 - 316)، حيث استعان في الكلام على الصحيفة برسالة ماجستير لهارون رشيد محمد إسحاق، وهو الباحث المشار إليه، واسمها" صحيفة المدينة دراسة حديثية وتحقيق" والنقل هنا بتلخيص شديد من ص 133 فما بعدها.

العلمي، نظراً لوجود من يشكك في صحتها، حيث وصلنا إلى أن التشكيك بعد ذلك، يعد مجازفة كبرى، وتَسَرُّعاً في إصدار الأحكام، ومجافاة للأسلوب العلمي، فضلاً عن مخالفة الواقع، كما ذهب إلى ذلك من المعاصرين الأستاذ/ يوسف العش (¬1)، والأستاذ/ ضيدان اليامي (¬2). فالأول ذهب إلى أنها موضوعة، لأنها لم يروها إلا ابن إسحاق، بغير إسناد، والحقيقة - كما ذكرنا وأوردنا - غيرُ ذلك، والثاني: قال بأنها ضعيفة لا تصح، وينبغي عدم الاحتجاج بها، سوى ما ثبت لفظه أو معناه في أحاديث أخر، وجاء في الصحيفة (¬3)، ومن ثَمَّ كان مهماً ما أوردناه، لنعلم حسن إسنادها لغيره، وأنها صحيحة صالحة للاحتجاج بها، في إثبات تلك السيرة من الوجهة التاريخية. تاريخ كتابة الصحيفة: ونتكلم فيه لأجل "وات"، حيث من طريقته - التي أشرنا إليها من قبل - تقطيع أوصال الحوادث، والاستدلال بكل جزء مبتور على زمان، أو على حكم، بحيث يخرج الحادث أو النص، من سياقه التاريخي، إلى تاريخ لا علاقة للنص به، بل ولم يقع فيه، - ويمكن أن يكون قد وقع قبل أو بعد ذلك بسنين متطاولة - ليصل إلى نتائج من السيرة وبواعث لها، قد أعدها سلفاً. وهذا يجرنا إلى بحث الدكتور/ أكرم العمري، حيث انتهى فيه إلى أن الوثيقة في الأصل كانت وثيقتين، ثم جمع المؤرخون بينهما، لتشابه المواقف والأغراض، وكانت الأولى ¬

(¬1) يوسف العش، الدولة العربية وسقوطها، حاشية 9 ص 20، وهي ترجمة للكتاب المذكور لفلهاوزن. (¬2) ضيدان اليامى، بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة وثيقة - المدينة. (¬3) د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية، ص 311 - 312، حيث ذكر الردود كذلك على هذا الرأي.

بين الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يوادع فيها اليهود، والثانية بين قريش (المهاجرين)، والأنصار، تنص على حقوقهم، وواجباتهم، وما يلتزم به كل طرف، وقد ساق أدلته على ذلك، التي منها: أن كتاب اليهود، كان عند قدوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، والكتاب بين المهاجرين والأنصار، كان عند مرجعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بدر منتصراً على قريش، وكان المهاجرون قد كثروا من مكة، ومن غيرها إلى الدرجة التي تُلْزِم - بعد هذا النصر - أن يوضع دستور يحدد تلك العلاقات. وأما ماورد من كتابةٍ بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين اليهود بعد قتل كعب بن الأشرف اليهودى، - وكان قتل بعد بدر الكبرى -، فإنما كان توكيداً لما سبق، لأن قتل ابن الأشرف كان بسبب نقضه العهد بينه وبين المسلمين، وإعلان العداوة للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وممالأته لقريش على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورثائه لقتلى بدر، إلى آخر مافعله غادراً بعهده مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين، وقد نزل من القرآن الكريم، ما يؤيد ذلك بعد بدر، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} (¬1) [الأنفال: 56]. وهي تشير إلى أكثر من معاهدة تمت بين الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واليهود، كما بين ذلك أهل التفسير (¬2). ونستعرض الآن بنود الصحيفة سريعاً، مع تحليل لايخل بالمقصود؛ لنرى تقدم الإسلام في هذا الباب، وسبقه للدنيا في إقرار الدساتير، والعمل بمقتضاها، ولنرد سريعاً على "وات" في مزاعمهم التي أوردها. أما نص الوثيقة فهي: ¬

(¬1) انظر د. أكرم العمري، السيرة النبوية الصحيحة، ص 276، وما بعدها، حيث ذكر كل أدلته. وذهب إلى تأييد هذا الرأى. د. مهدي رزق الله في السيرة، ص 313، وقد أورده أيضاً د. أكرم العمري في كتابه (المجتمع المدني في عهد النبوة - خصائصه وتنظيماته)، ص (111 - 117)، وذكر في الهامش أن د. صالح العلى ذهب إلى أن وثيقة معاهدة اليهود كتبت أيضاً بعد بدر، تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 6، أما الآية فهي نزلت بعد بدر مباشرة تعقيباً وتعليقاً على غزوة بدر. (¬2) انظر ابن الجوزى، زاد المسير (3/ 372).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 1 - هذا كتاب، من محمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، (وأهل) يثرب ومن تبعهم، فلحق بهم وجاهد معهم. 2 - إنهم أمة واحدة من دون الناس. 3 - المهاجرون من قريش، على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف، والقسط بين المؤمنين. 4 - وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. (5 - 11) كل ذلك نفس بند بنى عوف من الأنصار وهو البند الرابع (4). 12 أ - وإن المؤمنين لايتركون مفرَحاً بينهم، أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل. 12 ب - وأن لا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13 - وأن المؤمنين المتقين، أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم (¬1)، أو إثماً، أو عدواناً، أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. 14 - ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن. 15 - وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض، دون الناس. 16 - وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم. 17 - وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن، في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم. ¬

(¬1) دسيعة الظلم: طلب عطية بدون وجه حق.

18 - وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً. 19 - وإن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20 - وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. 21 أ - وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولى المقتول بالعقل، وإن المؤمنين عليه كافة، ولايحل لهم إلا القيام عليه. 21 ب - وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولانفساً، ولايحول دونه على مؤمن. 22 - وإنه لايحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً، أو يؤويه، وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولايوخذ منه صرف ولاعدل. 23 - وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن هنا تبدأ وثيقة يهود. 24 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 25 - وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه، وأثم، فإنه لا يوتغ (¬1) إلا نفسه وأهل بيته. وما جرى مع يهود بنى عوف يجرى مع بقية قبائل الأنصار حتى البند (36). 36 - وإنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 36 ب - وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه وأهل بيته، إلا من ظلم وإن الله على أبر هذا. 37 - وإن عليهم نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والبر دون الإثم. ¬

(¬1) أي: لا يهلك إلا نفسه وأهل بيته فهم يتحملون معه الدية مثلاً.

37 ب - وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم. 38 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. 39 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 40 - وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. 41 - وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. 42 - وإن ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن الله على اتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. 43 - وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. 44 - وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. 45 أ - وإذا دعوا إلى صالح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. 45 ب - على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم. 46 - وإن يهود الأوس مواليهم، وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض، من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما في الصحيفة وأبره. 47 - وإنه لايحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن، بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). وبالتأمل في هذه الصحيفة: ¬

(¬1) اختصرنا هذه النصوص، ولهذه الوثيقة يمكن مراجعة. محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، ص 41 - 47، د. اكرم العمرى، السيرة النبوية ص 282 - 285، ود. البوطي، فقه السيرة، ص 159 - 163، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية، ص 316 - 317 وغيرها.

نراها تشتمل على مبادئ دستورية، إما واضحة وشاملة، أو يمكن استنباطها من تلك المبادئ المنصوصة، مع انطواء كل ذلك على أحكام شرعية، ذلك كله يجعل كلمة «دستور» هي أقرب إطلاق مناسب من المصطلحات الحديثة على الوثيقة، ومن ثَمَّ تكون هذه الوثيقة أقدم دستور مكتوب في العالم، وإذا كانت بمثابة إعلان دستور، فإنها شملت على ما يمكن أن يعالجه أي دستور حديث، يوضح الخطوط الكلية لنظام الدولة في الداخل والخارج؛ فيما يتعلق بأفراد الدولة مع بعضهم البعض، أو يتعلق بعلاقة الدولة مع الآخرين، ولكن هذه الوثيقة تختلف، أو تزيد عن دساتير اليوم بما يلى: أولاً: الدولة الإسلامية دولة دستورية، والكلمة العلى فيها للشرع؛ فهى ليست كالدول الدينية في القرون الوسطى في أوربا، والتي حاولوا أن يصموا بها الدولة الإسلامية. ثانياً: الدولة الإسلامية بدأت حضارتها التى سادت الدنيا، باتباعها لتلك التعاليم والمباديء، وتطبيقها على أرض الواقع، في حين كانت أوربا تحارب العلم، وتحرق العلماء باسم الدين. ثالثاً: العدالةُ، والمساواةُ، وحريةُ العقيدةِ، التي تمتع بها أفراد الدولة الإسلامية لا تحتاج لدليلٍ، إذ كان يمكن ليهوديٍ - مثلاً - أن يقاضى رئيس الدولة رأساً، ويأخذ حقه منه، في حين أن العنصرية والتمييز ما زالا قائِمَين إلى وقت قريب في أوربا وأمريكا رسمياً، فما زال الواقع يعج أفراداً ومؤسسات بتلك التفرقة وهذه العنصرية والنازية. رابعاً: هذا الدستور (الوثيقة)، ينطوي على الجانب الأخلاقي، المتمثل في مخاطبة المؤمنين المتقين، بمطالبتهم أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، رجاء الحذر من حساب اليوم الآخر، بما لا نظير له في الدساتير الوضعية.

خامساً: وفي الجانب الاجتماعي، جعلت الوثيقة الجميع - من الأسرة إلى العشيرة - مسئولاً عما يقع لأفرادها؛ ليقوموا به، من تكافل وتضامن، وإن لم يتمكنوا من ذلك، قامت به الدولة، من بيت مالها، فلا تدع مفرحاً، مثقلاً بالدين، كثير العيال، أو لا عشيرة له، ولا قوم، إلا قامت هي به، تقضي دينه، وتقوم بأولاده، على خلاف واقع اليوم، في الغرب كله، حيث المدين ينتظره الخراب والسجن. سادساً: هذه المقومات الدستورية - في مجموعها - إنما تقوم على فكرة وحدة الأمة الإسلامية، وما يتعلق بها من المواد التنظيمية الأخرى، المنبثقة من العقيدة الواحدة، فالمسلم له تلك الحقوق، في أي بقعة كانت من بقاع الأرض، بغض النظر عن الجنسية أو الأرض أو غيرها. سابعاً: تُمَيِّزُ هذه الوثيقة (الدستور) الإسلامَ بأنه دين شامل، لا يقتصر - كما يريد له المستشرقون وأذنابهم - على علاقة المرء بين الإنسان وربه، أو أنه دين يختص بالعرب، أو لا يخرج عن الحدود الإقليمية، ويكفى تكذيب الواقع لكل ذلك، وما حاولوا نشر هذه الغربة إلا لإيقاف المد الإسلامي المتنامي، وحيوية الإسلام المدهشة، أمام دخول الغرب فيه. وبعد ذلك نقول: إن هذا الدستور قد وضعه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بوحي الله له، لأنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3 - 4]. وكتبه أصحابه رضوان الله عليهم، وإن تطبيق المسلمين له أيام النبوة وبعدها، وفي أيام تولى الحكم، كان وفقاً لشرع الله. رأينا ذلك كله دليلاً على صحة الوثيقة، ولاشك أن هذه الأصول الدستورية العامة، تؤيد ما جَدَّ مما يحقق مصالح المسلمين، ونفعهم، ولا يتعارض مع أسس الإسلام، ومبادئه، مما يدل على مرونة الشريعة، وسعتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان. لأننا ما سمعنا بإهدار هذه النصوص، أو التفلت من الالتزام بها، إلا حين خالف الناس الشرع، وأداروا ظهورهم له،

متوجهين شرقاً وغرباً، وما انتكست تلك الحضارة إلا بالبعد عن تعاليم الإسلام الصحيحة (¬1). وبذلك يظهر الفارق الضخم، بين هذا الدستور والدساتير الأخرى، من حيث إنه يعتمد في تطبيقه على الجانب الدينى، المتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، ليؤكد تلك الأسس الإلهية، في الوازع الحامل للناس على الانقياد لتلك القوانين. إن تحليلاً سريعاً لبنود الوثيقة يظهر لنا: - أنها بين المسلمين المؤمنين، من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، فكان أن بينت - من أول بند - أنها اتفاق شامل لكل مسلم في كل مكان، مما يدل على أن المسلم حيث كان، مرتبط بذلك الكيان الواحد، «فإنهم أمة من دون الناس»، مما يؤكد على رباط العقيدة، فوجهتهم وولاؤهم، لله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس للقبيلة ولا للدم، فاتحدت قبلتهم مع شعورهم وأفكارهم؛ وإن احتكامهم كذلك للشرع، وليس لعرف أو تقليد، لا يقرهما الشرع، وكان ذلك يستهدف اعتزازهم بذاتهم، حتى نهاهم أن يتشبهوا بغيرهم، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تشبه بقوم فهو منهم» (¬2)، مميزاً لهم عن غيرهم تميزاً واستعلاء، لا يشكل حاجزاً بينهم وبين غيرهم، ليدخلوا في الإسلام. - ومع ذلك ذكرت بنود في الوثيقة عشائر الأنصار، ولم تذكرهم ليكون الولاء لغير الله تعالى، - للقبيلة - وإنما بينت بغير لبس أسباب ذلك، في تدرج نظام التكافل من ناحية، والتنظيمات الإدارية من ناحية أخرى، ففى نظام التكافل، بَيَّنَتْ حقوق وواجبات العشيرة الواحدة، من التضامن في إعانة المحتاجين، وفكاك الأسرى، وتحمل الديات، وغيرها، مما ¬

(¬1) انظر لما سبق د. البوطي، فقه السيرة، ص 161. (¬2) رواه أحمد (4868)، وأبو داود (3512).

هو موجود، أو مما يفرضه الواقع؛ وأما التنظيمات الإدارية، فكثيرة في مسئولية كل عشيرة، في مشاركتها الدولة في القيام بشؤونها، وإعداد رسلها، وجنودها ونقبائها، مع القيام بتنفيذ أمور الدين، وإبلاغ أعمال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأموره ونواهيه، ووصاياه إلى غيرها، والقيام بمصلحة كل فئة، وترتيب كل الأمور، الترتيب اللائق بها في مثل هذا الواقع، ولمثل هذه الأعمال، تحت القيادة العامة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. - وكما أكدت الوثيقة ما سبق، فقد أكدت على المسؤلية الجماعية، وأن سائر المؤمنين مسؤلون عن تحقيق الأمن، والعدل، في مجتمع المدينة، خاصة، وأن الحدود الشرعية، وأوامر الشرع، وما يتعلق بشيوع المعروف في المجتمع، كل ذلك من الله تعالى، فكان تطبيقه واجباً دينياً على جميع المؤمنين، ومن ثَمَّ نَصَّت الوثيقة على أن أيدي المؤمنين المتقين، على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثماً، أو عدواناً، أو فساداً بين المؤمنين، وأيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم، وبذلك كان المؤمنؤن المتقون - لكمال إيمانهم عن غيرهم من المؤمنين، الذين يمكن أن يقعوا في مثل ذلك - أحرص من سواهم على القيام بواجبات الدين تلك، وكان مثلاً لذلك، القتلُ، حيث فيه القصاص، إلا أن ينزل أولياء القتيل إلى الدية أو العفو، بينت الوثيقة فيه أنه إن اختار أولياء القتيل القتل أو الدية، فإن المؤمنين جميعهم، بمن فيهم أولياء القاتل، يتعاونون في تطبيق الحكم عليه، وعدم حمايته أو إيوائه، ومن خالف ذلك فعليه لعنة الله، وغضبه يوم القيامة، لا يُقْبل منه صرف ولا عدل. - وأقرت الوثيقة مبدأ الجوار (¬1)، وجعلته حقاً للرجل والمرأة على السواء، وهو من دقة المساواة الواقعة بين المؤمنين، بحيث لا يجوز لأحد أن يخفر مسلماً في جواره، إذ ذمة المسلم - أياً كان - محترمة، لا يتعدى عليها حاكم أو محكوم، ولكنها منعت من بقى على شركه من الأوس والخزرج أن يجير قريشاً، أو تجارتها، التي تمر غربي المدينة، إذ في إجارة العدو شيوع ¬

(¬1) جوار بكسر الجيم وضمها والكسر أفصح، جاور بنى فلان أي تَحَّرم بجوارهم، لسان العرب باب «جور».

عدم الاستقرار، والعداوة، التي جعلت الوثيقة الأمن بها لجوف المدينة، ومن قعد ومن رحل كل ذلك آمن. إن ذلك تهديد مباشر ونقض لهذه الوثيقة، حيث أقرت الوثيقة العيش في سلام، لكل أهل المدينة، كما قرأنا في بنودها، ولكن الموالاة التي ينبني عليها المحبة والنصرة والمعونة والتأييد، فهي محصورة فقط في المؤمنين؛ إذ لا يجوز لمسلم أن يوالى كافراً، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] وقال تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28]. وإن كان الإسلام لا يمنع البر والقسط، مع أهل الكتاب المسالمين له. - ومع ما تقدم، يصح إذن البند (17) القائل: إن سلم المؤمنين واحدة، ولكن لا يسالم مؤمن لنفسه من دون المؤمنين، بل إن إعلان الحرب من اختصاص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعليه فإن المسلمين جميعاً يكونون في حالة حرب مع ذلك العدو، فلا يمكن لفرد أن يهادنهم، لارتباطه بسياسة المسلمين الواحدة تجاه عدوهم، وإن عبء الحرب يقع على كل المؤمنين، بحيث تعقب كل غازية أخرى متناوبين في الجهاد. وفي ختام كلام الوثيقة بين المهاجرين والأنصار، كان المرجع الأعلى لكل خلاف يقع بين المسلمين، مرده إلى الله جل وعلا ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬1). وبفراغنا من نظرة عجلى، على ما كان بين المسلمين، من شروط في الوثيقة، نشرع في نظرة أخرى، تلقي - كذلك - الضوء سريعاً على شروط المعاهدة بين المسلمين واليهود، مع تحليل ما يهمنا منها لنرد بكليهما على "وات": ¬

(¬1) ينظر لما سبق، د. البوطي، فقه السيرة، ص 162، د. أكرم العمري، السيرة النبوية، ص (292 - 298)، د. مهدي رزق، السيرة النبوية، ص (316 - 318)، وبعض ما سبق لأبي عبيد، القاسم بن سلام، الأموال، ص 294.

- إن بنود تلك المعاهدة، التي تنظم هذه العلاقات، بين المسلمين واليهود، تبدأ من البند الرابع والعشرين، إلى السابع والأربعين. - وإن أول ما يطالعنا في تلك النصوص، هو الحرية الدينية لليهود، وإنهم ما زالوا على ذلك، حتى لما غدروا وأخرجهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة، بنقضهم تلك المواثيق، خرجوا وهم يهود، ومن بقى منهم - من غير القبائل الثلاث اللاتى نكثت أيمانها، ومزقت كتب مواثيقها -، ظل يتمتع بتلك الحرية الدينية، والبقاء في المدينة، حتى إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفي ودرعه مرهون عند يهودي (¬1). - لم يقتصر الأمر على ذلك، بل جعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك لليهود، ولحلفائهم ولمن تهود من المشركين، فقالت الوثيقة: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم (25 - 35، 46). - وأكدت كذلك، أن المسؤلية الجنائية، لا تخص إلا صاحبها، فلا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن من ظلم وأثم لايوتغ إلا نفسه وأهل بيته، كما هو الحال مع المسلمين، أو يتركون المدينة، فهم كذلك. (31، 37 ب). - وإن أجار اليهود أحداً، فهو كالنفس غير مضار ولا آثم، ولكن لاتجار حرمة إلا بإذن أهلها، فلا يفتئت أحد على أحد بجوار إلا أن يوافق أهل المستجير. (40، 41). - ثم جعلت الوثيقة المدينة حرماً آمناً، حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، فلا يحل انتهاكه، فلا يقتل صيده، ولا يقطع شجره، وحرم المدينة بين الحَرَّة الشرقية والحرة الغربية، وبين جبل ثور في الشمال، وجبل عير في الجنوب، ويدخل وادى العقيق في الحرم، وبذلك ¬

(¬1) البخاري (2916).

أحلت هذه المادة الأمن في المدينة، ومنعت الحروب الداخلية (¬1)، وبناء عليه جاءت نصوص التعاون والتناصر، وتتلخص في أن بين أهل هذه الصحيفة، النصر والنصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وتفصيل بعضه فيما يلى: - أن بينهم النصر على من دهم يثرب، وعلى كل أناس حصتهم التى من قبلهم، (44، 45) فعلى اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. - ومهما كان المؤمنون محاربين، فإن اليهود ينفقون معهم ما داموا كذلك. - وأنهم إذا دعوا صالح فإنهم يصالحونه، وكذلك المؤمنؤن إلا من حارب في الدين، ومن ثَمَّ لا تُجَار قريش ولا من نصرها. لما بينها وبين المسلمين من حرب، وأذى شديد بسبب الإسلام. - ولوجود هذه الوثيقة، فإنه لا يخرج من المدينة أحد، إلا بإذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لسلطانه على المسلمين، ولعهده مع اليهود؛ وذلك لما يراه من مصلحة، كأمن المدينة، أو اقتصادها، أو غير ذلك من المصالح العامة، فإن الجميع يخضع للنظام العام، حيث أقر اليهود بسلطة عليا تحاكم فيما يعن من شجار، بين المسلمين واليهود، وهي الرجوع إلى الله تعالى وإلى رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن كان ما يدخل في ذلك، ليس مما يختصمون فيه من قضاياهم الشخصية، فهم يردون فيها إلى التوراة، ليقضى لهم فيها أحبارهم، إلا حيث يحكمون فيها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن شاء قضى بينهم، وإن شاء أعرض عن ذلك، كما قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)} [المائدة: 42]. ¬

(¬1) انظر النووي، شرح مسلم، باب فضل المدينة (1030)، ومحمد حميد الله، الوثائق السياسية، ص (441، 442)، وأشار إلى ذلك د. أكرم العمري، السيرة النبوية، ص 292.

والتزام ذلك جعل من خرج فهو آمن، وأكد على البر والصدق والتقوى، في تنفيذ تلك العهود، فجاءت تلك الكلمات المنيرة، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة، وأصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وإن الله جار لمن اتصف بذلك، ومحمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. توضح كتابة الصحيفة - نفسها -، وما حوت من بنود، أن السلطة العليا في المدينة، كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن الواقع الذى لا يستطاع دفعه، أنه لم يكن يُنطق بسلطة أخرى لأحد، يقرر علاقات المدينة الخارجية، وشئونها الداخلية، أمنية واجتماعية واقتصادية من المنطلق الإسلامي، وإعلانها الحرب والسلم، إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مما يؤكد على علو مكانة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، التي لا مراء فيها من ناحية، وعلى صحة بنود هذه الوثيقة من ناحية أخرى. كما تبرز الوثيقة علاقات هذا الدين الحق، وعلوها ورقيها، وهذا ما كان ينبغى أن نقارنه بآيات من القرآن الكريم لاستكمال المنهج ولكن الإختصار دعانا لذلك. وات والوثيقة: لابد من مناقشة المستشرق "وات"، ولو على أقصى سرعة، لإيقافه على محطات الخطأ في سيره مع الوثيقة، وتبيين مواقف الصواب، مع علمنا بدوافعه وبواعثه، التى ذكرناها أكثر من مرة، ولكن بدون تكرار. إن نقد "وات" الشديد للوثيقة، كان من ثلاث نقاط: الأولى: دستور المدينة صحةً وتاريخاً. الثانية: معنى الأمة في هذا الدستور. الثالثة: مكانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المدينة. ونبدأ بالقضية الأولى؛ ونناقش "وات" فيها من زاويتين، حيث تتلخص رؤيته فيهما

للوثيقة؛ وهما صحة الوثيقة، وتاريخ كتابتها. أما صحة الوثيقة فإن "وات" يرى: أولاً: صحة الوثيقة لأسبابٍ متهافتة؛ منها استحالة التزوير في العصرين الأموى والعباسى، فلا يمكن لأي مزور أن يجعل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه المكانة المتواضعة، وأن يحتفظ ببنود ضد قريش، أو أن يجعل غير المسلمين أمة مع المسلمين؛ إذ أن كل ذلك بأسلوب لا شك قديم) (¬1) (. ثانياً: نراه شَكَّكَ في صحة الوثيقة، منقلباً على رأيه السابق، ولكن مع تمسكه الشديد بأدلة عدم التزوير في الرأى السابق، - وهذا من عجيب البحث أن ينقض الرأى، ويحتفظ بأدلته، يبدى فيها ويعيد، مفرداً لها صفحات عديدة - وما ذلك إلا لأنه يرى أن هذا الكلام (¬2)، هو مقصوده الذى أورده ابتداءً، سواء صح الخبر أم لم يصح، وما يهدف إليه من توجيه السيرة، وجِهَتُه التى أراد منها كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في النهاية - لم يوح إليه، وأن مكانته كذا وكذا، وأن كلام الصحيفة المتناقض يدل على ذلك. وقد بعدنا - بالاستطراد - عن دليل تشكيكه في الصحيفة، فلنعد إليه؛ وهو أن ابن إسحاق لم يذكر الطريقة التى وصلت بها الوثيقة إليه (¬3). تاريخ كتابة الوثيقة: يرى "وات" أن بنوداً من الوثيقة كتبت في وقتين مختلفين، أو أوقات مختلفة، وذلك ¬

(¬1) Mohammad at Medina p225 . (¬2) الذى لاشك اخترعه، لأن ذلك ليس من أدلة الصحة والبطلان في أسانيد الأخبار. (¬3) op.cit. p 221 ، وانظر عبد الله النعيم، الإستشراق في السيرة، (112).

لفروق لغوية، وبعض البنود تكرار لبنود أخرى، وتعالج نفس المسائل (¬1). مع افتراض أن البنود 15، 16، 19، 23 تمثل نص اتفاق أصلى، وقع بين محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبائل المدينة في العقبة (مكة)، ثم أضيفت بنود جديدة إلى هذه البنود، بين وقت وآخر حسب الحاجة، كما حذفت البنود القديمة ... هناك مسائل كثيرة غامضة خاضعة للفرضيات) (¬2) (. هذه اعتراضات "وات" كما هي، ونبدأ من آخرها، فيتبين لنا شيئ جديد عن "وات" في عرضه للتاريخ، وبحثه في بواعث الأحداث، وأسبابها، فنبدأ بقوله: هناك مسائل كثيرة غامضة خاضعة للفرضيات، وعلى هذا القول، ما يلى: 1 - هذا دليل الإفلاس في عرض الوقائع، لأن "وات" لم يدع شاردة ولا واردة، يدين بها السيرة وصاحبها - مهما كانت موضوعة لا قيمة لها - إلا وذكرها وأشاد بها، وأكد بكل سبيل من سبله صحتها، وهنا لم يذكر واحدة من الكثير الغامض الذى ادعاه، لأنه لو كان لذكره، وما تغاضى عنه، حتى وإن لم يكن لاخترعه كما قال بلسانه: خاضعة للفرضيات، وكم رأينا افتراضه الكثير مما خطه، يكتب به تاريخاً من عنده، يعينه على استنباط ما أراد سلفاً وأعد. 2 - لما لم يستطع دفع صحة وقائع وأحداث الوثيقة، بالأدلة التى تفصل القضايا، شكك فيها بهذا القول المجمل، والذى يستطيع كل أحد أن يرد به أي قول لا يتمكن من التصدى لصحته، فيرمى بقوله، ويجرى هناك مسائل كثيرة غامضة. 3 - السؤال المنطقى، اللازم لما نحن فيه، هو أين الغموض في كثير من مسائل ¬

(¬1) Mohammad at Medina p 226 ، " وات"، محمد في المدينة، (346 - 347). (¬2) المصدر السابق 227.

الوثيقة؟ بل أين هو في كل مسألة وبند منها؟ سواء في المعنى، أو في اللفظ، أو في كليهما، أو حتى في غير ذلك مما يكتنفه الغموض، أم إنه الشغب والتشويش، وإثارة الغبار على الحقائق عند عدم استطاعة الرد - علمياً كان أو غيره - عليها! بهذه الأدلة من كلام "وات"، لم نعد بحاجة إلى استكمال نقد كلامه؛ ولكن إحقاقَ الحق وإظهار الباطل في كلامه، يملى علينا مناقشة بقية البنود، وكذا إتماماً للأمانة العلمية في ذلك. فنعود إلى النقطة الأولى وما بعدها، حيث ذكر "وات": أولاً: صحة الوثيقة؛ لأنه لا يمكن لأى مزور أن يزور فيها هذه البنود - المسيئة للإسلام وللنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على حسب اكتشاف "وات". نقول آمناً بالله، وصدقنا بصحة الوثيقة، بغض النظر عن أسباب عدم التمكن من تزويرها، إذ يكفى أن يقول "وات" لا يمكن لأى مزور أن يزورها. فإذا بنا نُفَاجأ بأن "وات" يقول إن الصحيفة مزورة، مع إن أدلة عدم التزوير باقية، وهكذا يكون البحث العلمى النزيه المجرد، ويسوق "وات" أدلة التزوير فيقول: أولاً: إن ابن اسحاق لم يخبرنا كيف وصلت إليه هذه الصحيفة المزورة - أقصد التى لا يمكن تزويرها -، ونذكر القاريء بأننا رددنا على ذلك - بالإسهاب - في بداية الكلام على الوثيقة؛ حتى لا نضطر لإعادته في الرد على "وات" الرد العلمى الحديثى والتاريخى. ثانياً: إن الوثيقة كتبت في وقتين، أو أوقات مختلفة) (¬1) (.... إلى آخره، والرد: إنه ليس بين المتقدمين من كُتَّاب السيرة - مما عرفنا - من ذكر وقتين لها، فضلاً عن أوقات مختلفة! مع إن ذلك لم يكن ليعيبهم في شيء، إذ كتب في الوثيقة ما هو أسوأ منه في نظر "وات"، حتى ادعى ¬

(¬1) Mohammad at Medina. p. 225.

عدم إمكانية التزوير؛ والمدققون من المتأخرين ذكروا وقتين لا ثالث لهما، ولكن كان الأول بين المهاجرين والأنصار، والثاني بين المسلمين واليهود، وماذا يخالف الواقع أو العقل في ذلك، وذكرنا بقية الكلام وتوضيحه في محله السابق ليكون رداً مقدماً على كلام "وات". ثالثاً: مما يؤكد به "وات" تشكيكه في الوثيقة - التى لا يمكن تزويرها - هو أن هناك اتفاقاً أصلياً، وقع في العقبة بمكة قبل الهجرة، بين الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبائل المدينة، وبنوده هي 15، 16، 19، 23. ومما يثير الأسى، والحزن، على البحث العلمى، وعلى "وات"، أن ينزل بفكره، وألا يحترم عقله وبحثه إلى هذا المستوى؛ إن البند الخامس عشر يتحدث كما ذكرنا عن إجارة المؤمن، أي: له أن يكفل، ويحفظ، ويمنع من أن يتعرض له أحد بأذى، وذلك في الوقت الذى لم يكن للمؤمن فيه أي احترام ولا قيمة من مشركى مكة ومن غيرهم، فكيف يجير غيره في نفس الوقت الذى لا يستطيع أن يمنع فيه نفسه؛ إن إجارة المسلم كانت تكون ذات قيمة بعد الهجرة، لوجود هذا الكيان السياسى، أو أن يكون لهم من القوة والمنعة ما يجعل غيرهم يستجير بهم ليجيروه. ووات يعلم أن ذلك ما كان ليحدث أبداً قبل الهجرة. ومع ذلك سطر ما قد سمعنا! وكذلك البند السادس عشر، أَنَّى يكون قد تعاهد فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون - قبل الهجرة - مع اليهود، وهو ينص على أن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، وكما هو معلوم أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبائل المدينة - أنفسهم - كانوا مستخفين ليلة العقبة، حتى من أهل يثرب (¬1)، وفي حالة من الاستضعاف، يترقبون بها أن يؤيدهم أحد، أو يدفع عنهم ظلماً مما وقع بهم، بل لا يستطيع كثير منهم أن يعلن إسلامه، ومن عُلمَ إسلامه ¬

(¬1) ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 62).

فهو المتحمل لتبعة ما ينزل عليه ويحيق به من الكفرة. أَنَّى لهؤلاء أن ينصروا يهوداً، وأن يكون اليهود معهم غير مظلومين، وأين كان اليهود ليلة العقبة كما يدعى "وات"، ليتعاهدوا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويطلبوا منه ألا يظلموا، وهل يُطلب ذلك من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا في ظل سيادة يتمتع بها المسلمون، متمكنين حالها من أن يظلموا أو أن يكفوا الظلم، وما حدث لهم ذلك إلا في ظل دولة المدينة، فكيف يصرح "وات" بأن هذا البند قد وقع قبل الهجرة؟! وفي هذا الواقع المؤلم؟! أما البند التاسع عشر، فهو يتكلم عن القتال في سبيل الله تعالى، ووات يعلم علم اليقين أن القتال شُرع بعد الهجرة، وأن تلك الأحوال - في مكة، التى أحاطت بذلك البند - لم تكن ليشرع فيها قتال البتة. والبند الثالث والعشرون أَظْهَرُ من غيره، إذ ذكر فيه أن مرجعية أي خلاف لأهل الصحيفة، إنما هي لله وللرسول محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ هذه المرجعية العليا - التى قررها الواقع، لتجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحاكم الأعلى - ما استقرت وتحققت وارتضاها المعاصرون لها، الموقعون عليها، إلا في المدينة بعد هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا بوات يقرر بما لا يدخل في عقل أحد - فضلاً عن الباحثين - أن المرجعية العليا كانت له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة؛ والتى كانت حاله فيها كما هو معلوم من سيرته حتى تركها مستخفياً وهاجر إلى المدينة. وهكذا رأينا كلام "وات" لا يثبت لأى تحليل أو نقد تاريخى أو نصى، فضلاً عن التحقيق والتمحيص في ذلك. يقول عبدالله النعيم - ما حاصله -: إن "وات" أوقع نفسه في تلك الورطة، حتى يخرج القبائل اليهودية الكبرى الثلاث - بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة - من تحمل تبعات الغدر والخيانة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث لم يوقعوا معه عهودًا؛ لأن العهود كانت في العقبة،

ولم يحضرها أي منهم (¬1). وكأنه يستجيز لهم ذلك، من محاولة اغتيال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير ذلك مما فعلت النضير وقريظة وقينقاع، دون أن يرد عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنهم لم يعاهدوه على ذلك، وكأن هذه الأحداث بغير عهد مباحة لهم، لا يعاقبون عليها، فلم يخرج "وات" من مستنقع البحث الآسن، المليء بما وصفنا من قبل. أما السبب الذى لم يَمْحُه "وات"، حيث جعله من أدلة صحة الوثيقة، هو ضعف مكانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجعله من أعمدة عدم تزوير الوثيقة، فلما شكك في صحة الوثيقة، إذ به يبقى أعظم أدلة عدم التشكيك فيها بله التزوير بإبقاء هذا الدليل، وإذا أثبت صحة دليل عدم التزوير، فالوثيقة صحيحة فلم التشكيك وإثبات عدم ذلك؛ أو أنه شكك وأثبت عدم صحة الوثيقة فلم أبقى دليل عدم التزوير، بل دليل الصحة عنده؟! الباعث واضح لا يحتاج لتأمل، أو حتى نظر، فهو قد اخترع مكانة للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تنطق الوثيقة بعكسها تماماً، ليبنى عليها كل تلك المجازفات، مع عدم المبالاة بعقل أو بحث؛ إلى آخره. وتتلخص أدلة "وات" - على ما سبق - في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زعيم قِبَلِّي كغيره، بل هناك من هو أعظم نفوذاً منه، وأن دستور المدينة ليس دليلاً صادقاً على مكانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين وصل المدينة، بدليل أنه لم يستطع ملاحقة ابن أُبَىٍّ، حتى طلب الإذن بذلك، وأنه ترك تقرير عقوبة قريظة لزعيم حلفائها، وأن أهل المدينة لم يعترفوا له صراحة بالحكم بينهم، وإنما قبلوا ذلك بالقوة حين ترك الوحى يأمره بالرجوع إلى الله في خلافاتهم كافة، وأن وجوب طاعة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم تكن صراحة إلا بعد الحديبية، حيث لا يوجب ذلك دستور المدينة. وأن سلطات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأت تتسع تدريجياً) (¬2) (. ¬

(¬1) انظر عبد الله النعيم، الإستشراق في السيرة (112 - 116). (¬2) محمد في المدينة وما بعدها Mohammad at Media p. 228.

وبداية الرد السريع المختصر؛ لأن كل سطر عند "وات" يحتاج لنقد لا ينقضى عجب المرء منه، وكيف استجاز ذلك على عقله ونفسه! إن كلامه من أول سطر يناقض قرائن الأحوال ووقائعها، ويضرب بعضه بعضاً، فبينما يذكر لنا: أولاً: كون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زعيماً كغيره، بل هناك من هو أعظم نفوذاً منه؛ فإنه لم يذكر لنا غيره، ولا عِظَم نفوذه، ونحن نُذَكِّره بأن الواقع لم يذكر لنا زعيماً غيره، بيده مقاليد أمور الزعامة في المدينة، سلماً وحرباً، وعلاقات جوار خارجية، وتنظيماً داخلياً. من كان بيده شيء من ذلك عند مجئ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة؟ لقد ذكر كتاب السيرة ابن أُبَىٍّ، وأنهم يعدونه للملك عليهم، فهل ملك بدخول الرسول المدينة شيئاً؟! وكان على "وات" أن يذكر أي انسان آخر يُسَيِّر أمور المدينة بما كان يقوم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خاصة وإن جميع الرسل الذين أتوا المدينة كانوا ينزلون، أو يعاهدون، أو يسلمون لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هذه مخالفة صارخة للواقع لا يمكن أن يكون الباعث عليها علم أو حياد أو نزاهة. ثانياً: كون طاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تجب حتى صلح الحديبية، ويناقض قوله ذلك بدعواه أنهم حُمِلوا بالقوة على الطاعة، وتحكيم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، لنزول الوحى يأمر بذلك. أما كون طاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تكن واجبة، فهو إلقاء للقول على عواهنه، بغير بينة إلا الاتهام المسبق، وإلا فوات يعلم - قبل غيره - نزول آيات وجوب الطاعة في أول ما نزل بالمدينة على الأقل، فقد جاءت سورة الأنفال وهي من أوائل ما نزل هناك، وأولها الأمر بطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: 1] وكل الآيات

- تقريباً - الآمرة بطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكذب وات وهو يعلم ذلك، إذ نزلت قبل الحديبية (¬1). ثم ما هي القوة التى حملت المؤمنين على الطاعة وتحكيم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذكرت؟! أليس هو صاحب المكانة والنفوذ الضعيفين؟! لدرجة عدم تمكنه من ملاحقة ابن أُبَىٍّ؟ فما الذى تغير حتى تكون له كل هذه القوة الحاملة على انقياد المدينة والتزامها بأوامره، وما المانع إذاً أن يكون دستور المدينة قد أمر بطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتحكيمه؟! مع أننا متيقنون أنه لم يكن يحكم غيره، أو ما سمعنا - فيما وصلنا - تحكيم غيره، أو طاعته، على شيء من هذا النحو الذى كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم إذا كان مَرَدَّ قوة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، التى حملت الناس على تحكيمه هو الوحىُ، فقد كان الوحى أقدم من صياغة الوثيقة، فما المانع - على رأى وات - أن يُحْملوا على تحكيمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أول يوم وصل المدينة بتلك القوة الجبرية المدعاة. ثم إن هناك واقعاً يعلمه وات قد حدث في العقبة الثانية، وهو بيعة الأنصار للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد ذكر ذلك ابن اسحاق، فيما رواه عن عبادة بن الصامت، يدل على وجوب طاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث يقول في بيعة العقبة: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم» (¬2). وقد كانت علاقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمسلمين في دستور المدينة، غير موقوفة على أن يسمعوا له ويطيعوا عندما يدهم المدينة عدو، بل ما رأيناه من سعد بن معاذ - رضي الله عنه - عند مسير قريش إلى المدينة، يوضح خلافه، فقد قال - رضي الله عنه - عندما رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يود أن يسمع رأى الأنصار في ¬

(¬1) آيات الأمر بالطاعة وهي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92]، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا} [الأنفال: 46]، وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور: 54]، وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} [النور: 56]، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} [محمد: 33]. (¬2) ابن هشام، السيرة النبوية، (2/ 71) وحديث عبادة رواه البخاري (7056)، ومسلم (1709). ترجمة عبادة.

الخروج لملاقاه قريش: «قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا وعهودنا، على السمع والطاعة، فامض بنا يا رسول الله لما أردت. والذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله» (¬1). دل ما سبق على أن طاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واجبة، وقد فهم ذلك الأنصار، بل هي من الواجبات التى لا تخلف فيها في أدق المواقف وأصعبها، فما بال الباحث بما دون ذلك، وفي النهاية يكون استدلال وات بما اتخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر عبد الله بن أبى بن سلول - رأس المنافقين - من ترك عقابه بعد مشاركته في حديث الإفك، لا يساوى ذكره أو كتابته، ومع ذلك ننظر فيه، فإذا به لم يكن إلا سياسة حكيمة من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعدم تنفير الأنصار من الإسلام، وكذلك لعزل ابن أبى سياسياً، واجتماعياً، حتى إنه لم ترفع له رأس بعد ذلك، وقد وصل الأمر بهذه السياسة الحكيمة منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن منع ولد ابن أبى - وكان مسلماً - بعد إعلانه قتل والده للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن شاء، ذلك بعد أن منع الابن أباه من دخول المدينة حتى يأذن له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقد اتفق الصحابة على أن تلك السياسة كانت الأصح، والأولى في هذه القضية، ثم يأتى وات ليقول - فارغاً من القول عقلاً وواقعاً - بأن ذلك دليل ضعف مكانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! تراه - عليه أفضل الصلاة والسلام - لو أمر ابنه بقتله، أما كان ليقتله؟! فأين ضعف المكانة؟! واستدل وات كذلك على ضعف مكانة النبي، بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتخذ قرار تصفية جيب بنى قريظة بعد خيانتهم في الخندق، وأوكل التحكيم فيهم لسعد بن معاذ حليفهم، وكان الأجدر بـ"وات" أن يصرح بأن مكانة سعد بن معاذ كانت أعلى من مكانة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا ¬

(¬1) ابن هشام، السيرة النبوية، (2/ 189)، وانظر عبد الله النعيم، الإستشراق، (122 - 123).

الموقف، وفي زعامته للأوس، وانتهت مكانة المتبوع المطاع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بارتفاع مكانة سعد بن معاذ - رضي الله عنه - التابع عليه، وانتهت النبوة والزعامة، وآل الأمر لسعد، بدلاً من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبدلاً من ابن أبى الذى كادوا ينصبونه ملكاً عليهم، هذا خلط وعمى في البحث، وتعام عن الحق، وقصد مشوب بدليل منهار. إن ملخص القصة، أن بعض الأوس قد طلب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يترك لهم بنى قريظة، كرامة لهم (¬1)، كما ترك لابن أُبَىٍّ - زعيم الخزرج - بنى قينقاع، فترك لزعيم الأوس - وهو سعد بن معاذ - رضي الله عنه - – بني قريظة، فأين الضعف، هلا كان ضعيفاً يوم ترك بنى قينقاع لابن أُبَىٍّ؟! وكان أعلى مكانة من سعد بن معاذ في الجاهلية زعامة وأتباعاً؛ وقد ذكر وات أن سلطات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأت تتسع تدريجياً، فهل تقلصت عند بنى قريظة فتركها ضعفاً لسعد بن معاذ؟! ترى لو كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو المتخذ لقرار التصفية كان سيتعرض له أحد بقتال؟! أو أن ينضم مع بنى قريظة لقتاله؟! وهل لو اجتمعت بنو قريظة والأوس جميعاً كانوا يستطيعون قتاله؟! وهم حينئذ قد افترض أنهم كفروا بالله ورسوله؛ لقد جمع ابن أبى رجاله - وكانوا أكثر من الأوس - إلى جانب بنى قينقاع، وكانوا أشرف من قريظة عند يهود، وأشد تمرساً في القتال منهم، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حديث عهد بمجيئه المدينة، في قلة من العدد والعدة، ولم نر منهم إلا الاستسلام، فأين الضعف الذى يخالفه الواقع والأحداث والأدلة؟! ذلكم وات وتلك بواعثه، وهذه أدلته على تلك البواعث. لقد جاء في نقد وات للوثيقة – الدستور - أقوال أُخَر، لا تستحق الوقوف عندها، وقف عندها الباحث عبد الله النعيم، فنحيل القاريء إليها (¬2). ¬

(¬1) إن رعاية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا الجانب كان من منطلق سياسته الحكيمة، ومعالجته الإلهية للأمور التى دائماً ما يأخذنا "وات" بعيداً عنها إلهاء عن واقع النبوة وتصرفاتها، وإتصال الأرض بالسماء في شخصه المعظم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. لينسينا رسالته والوحى إليه. (¬2) له أقوال في قضية «مفهوم الأمة» الوارد في الوثيقة، انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة (117 - 120).

الفصل الثاني غزوة بدر

الفصل الثاني غزوة بدر

المبحث الأول النشاط السياسى والعسكرى إلى غزوة بدر

المبحث الأول النشاط السياسى والعسكرى إلى غزوة بدر وقبل الخوض في ذلك النشاط نشير إلى شيء من المعاناة التى وقعت للمهاجرين في بداية وصولهم إلى المدينة حيث لم يكن وصولهم نهاية للألآم والمشقات، بل إن تغير المكان من مكة إلى المدينة أصابهم بأزمات صحية تصوروا معها نهايتهم، إذ كان معلوماً عن المدينة أنها موبؤة بالحمى - حمى يثرب - حتى وصل بهم الحال إلى أن يصلوا وهم قعود، وصرف الله تعالى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رعاية بهم، وإستبقاء لمن يقوم عليهم وعلى أمور الدين. (¬1) لقد وعك أبو بكر وبلال - رضي الله عنهم -، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كَلُ امرئٍ مُقَبَّحٌ في أهلِه ... والموتُ أدنى من شِرَاكِ نَعْلِه وكان بلال - رضي الله عنه - إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته، ويقول: ألا ليت شعرى هل أبيتنَّ ليلةً ... بوادٍ وحولى إذخرٌ وجليلُ وهل أَرِدَنْ يوما مياه مَجَنَّةَ؟ ... وهل يَبْدُوَنْ لى شامةٌ وطَفيل وجاءت عائشة رضى الله عنها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما يقولان، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها ¬

(¬1) أحمد، المسند (3/ 136)، وابن ماجه (1229 - 1231)، من طريق ابن اسحاق، وقال في الزوائد: إسناده صحيح.

في الجحفة» (¬1) ووعكت عائشة (¬2) رضى الله عنها، وابن فهيرة (¬3)، لأن المدينة كانت مشهورة بالحمى، حتى قال مشركو مكة عن المسلمين في عمرة القضية: «أنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب» فأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ليروا المشركين قوتهم، وأن الحمى لم تنهكهم كما يزعم الكفار. (¬4) واستجاب الله دعاء نبيه فجعلها من أطيب البلاد بعد ذلك. تهديد قريش للمسلمين بعد الهجرة: لم تترك قريش المسلمين يستقرون في المدينة حتى أرسلوا لكفار المدينة تهديدات شديدة بطرد المسلمين، وقد وجدوا عبد الله بن أبى بن سلول خير من يقوم بهذا الموقف حيث ما زال كافراً ظاهراً وباطناً، وكان يعادى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ويؤذى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويسىء إليه، لأنه كان يرى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سلبه ملكه، فقد وصل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وأهل المدينة يعدون له تاج الملك عليهم، فتركوه وآمنوا، ومن حينها أظهر عداءه وبغضه للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجاءت موقعة بدر وهزم الله قريشاً فدخل ابن سلول الإسلام كرهاً ظاهراً، وظل كفره باطناً يحارب الله ورسوله والمؤمنين، وصار بذلك رأس النفاق، وكان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحكمته وحسن سياسته يعرض عنه، فلا يقابل إساءته أو أذاه بشيء، - حتى إنه آذى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ¬

(¬1) البخاري (3926)، الواد كما قال الحافظ في الفتح: وادى مكة، جليل: نبات ضعيف يحشى به خصاص البيوت وغيرها، وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة، وقيل: عينان، ورى الحديث أيضاً ابن هشام عن ابن اسحاق بسند صحيح (2/ 271 - 273). (¬2) البخاري (3917 - 3918). (¬3) ذكره ابن اسحاق من حديث عائشة بإسناد حسن، ابن هشام (2/ 271)، ورواه أحمد (21/ 13)، من حديث عائشة، وانظر د. مهدى رزف الله، السيرة النبوية (321). (¬4) البخاري (4256 - 4257).

مرة (¬1) -، فطلب سعد بن عبادة - رضي الله عنه - سيد الخزرج - العفو له من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائلاً: «يا رسول الله اعف عنه، واصفح عنه، فوالذى أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذى أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعِصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذى أعطاك الله، شَرِق بذلك، فلذلك فَعَل به ما رأيت ...». (¬2) كاتب المشركون في مكة عبد الله بن أبى بن سلول ليكيد للمسلمين ككيدهم في مكة، وقالوا فيما كتبوا: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم. (¬3) لم يتوان ابن سلول عند مجيئه مكتوب قريش أن جمع مشركى المدينة لمحاربة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما بلغ أمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: «لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تكيدون به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم». فلما سمعوا ذلك من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفرقوا. (¬4) تحسباً لهذا الخطر المحدق بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام المسلمون ليلاً بالتناوب على حراسته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يمسه سوء إلى أن نزل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: «يا أيها الناس انصرفوا عنى فقد عصمنى الله عز وجل». (¬5) ¬

(¬1) رواه الطبراني في الأوسط (234)، وابن حبان في صحيحه (429)، كلاهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عبد الله بن أبي بن سلول، وهو في ظل، فقال: قد غبر علينا ابن أبي كبشة، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب لئن شئت لآتينك برأسه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا، ولكن بر أباك وأحسن صحبته». قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عمرو إلا شبيب بن سعيد، تفرد به: زيد بن بشر. وقال ابن حبان: قال أبو حاتم - رضي الله عنه -: أبو كبشة هذا والد أم أم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان قد خرج إلى الشام، فاستحسن دين النصارى، فرجع إلى قريش وأظهره، فعاتبته قريش حيث جاء بدين غير دينهم. فكانت قريش تعير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به، وتنسبه إليه، يعنون بذلك أنه جاء بدين غير دينهم، كما جاء أبو كبشة بدين غير دينهم. (¬2) البخاري (4566)، ومسلم (1798)، وأحمد، المسند (الفتح الربانى) (21/ 19 - 20)، بإسناد صحيح. (¬3) أبو داود، السنن (3004)، وإسناده صحيح. (¬4) أبو داود، السنن (3004)، وأسناده صحيح. (¬5) الحديث رواه الترمذى (3250)، وحسنه الألبانى، إسناده في صحيح الترمذى.

وكجزء مما تحيكه قريش للمسلمين من أهل المدينة من مواجهات تدفعهم بها لنبذ الإسلام ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والضغط عليهم ليرجعوا عن نصرة المهاجرين، أو لعدم الدخول في الإسلام، كان إيذاؤهم لأهل المدينة عندما يأتون المسجد الحرام للاعتمار، وقد حدثت حادثة من هذا القبيل لسعد بن معاذ - رضي الله عنه - عندما جاء معتمراً إلى مكة، وطلب من مضيفه أمية بن خلف أن ينظر له ساعة خلوة يطوف فيها آمناً بالبيت، فأخذه أمية في منتصف النهار حين غفلة الناس، ومع ذلك لقيه أبو جهل، فأخبره به، فقال له: «تطوف بالكعبة آمناً وقد آويتم محمد وأصحابه؟ وتشاجرا؛ ومما قال له سعد: «والله لئن منعتنى أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام ... وهدد أمية هو الآخر بأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيقتله، وقد كان أن قتله الله ببدر». (¬1) بداية النشاط العسكرى والسياسى: لم يشرع الجهاد في العهد المكى، بل جاءت الأوامر الإلهية للمسلمين بكف الأيدى، وإقامة الصلاة، والصبر على أذى المشركين، وأن يقبلوا على أنفسهم بالمجاهدة على عبادة الله تعالى، والإتصاف بأوصاف التقوى، التى هي جديرة بأن يثبتوا بعد ذلك إذا لاقوا ودخلوا في مواجهة الكفاح الدامى، وكذلك يقبلون على توسيع دائرة الدين بانتشار الإسلام بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كل ذلك حتى تترسخ جذور الدعوة وتقوى على مواجهة عوادى البغى والظلم، إذ لو حملت الدعوة سيفها حينئذ لهان على الكفار وأدها في مهدها والقضاء عليها وإنهاء وجودها. ولم يكن للمسلمين دار ينحازون إليها ليكون معسكراً في مواجهة قوى الشرك، بل إن حياتهم اليومية لم تكن منفصلة أو متميزة عن المشركين، ولو فرض الجهاد يومئذ لجرى قتال في كل دار أسلم منها أحد (¬2). ¬

(¬1) البخاري (3632). (¬2) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (337).

فلما هاجر المسلمون إلى المدينة، وقام الأنصار بإيواء المهاجرين، ونصرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونصرة الدين، وصارت للمسلمين بقيادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرض هي دار الإسلام جاءهم الإذن بالقتال، وكان الأمر بالجهاد متدرجاً على حسب كل مرحلة من المراحل التى بلغتها الدعوة، وكان أول ما نزل كما يروى ابن عباس - رضي الله عنه - قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]. وهو من رواية ابن جرير الطبرى بسنده إلى ابن عباس حيث يقول: «لما أخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم. إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39]. قال أبو بكر - رضي الله عنه -: «فعرفت أنه سيكون قتال». (¬1) وزاد أحمد (¬2) في روايته لهذا الخبر، أن ابن عباس قال: «وهي أول آية في القتال»، ولم يكن القتال فرضاً عليهم، بل أُذِن لهم بالقتال دفاعاً عن النفس، ثم جاء الأمر بقتال من يقاتلونهم في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [البقرة: 190]. وهو بذلك يختلف عن القتال والحرب التى شهدها التاريخ الإنسانى، والتى إستهدفت تحقيق أهداف سياسية أو مآرب اقتصادية لأفراد أو جماعات طموحين يريدون العلو في الأرض، فأعلام الحق والعدل والرحمة هي التى يرفعها ذلك الجهاد، وميزته عن أنواع الحروب الأخرى: {الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76]، ويقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ¬

(¬1) ابن جرير، التفسير (17/ 123)، وابن كثير، التفسير (5/ 430 - 431). (¬2) أحمد، المسند (3/ 262)، وصححه الشيخ - أحمد شاكر، ورواه الترمذى (2535)، حسنه، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (325)، وانظر محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 74).

ولا تغُلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً» (¬1). وجاءت المرحلة الأخيرة في تشريع الجهاد بمقاتلة المشركين كافة وابتدائهم به، مر تشريع الجهاد إذن بهذه المراحل الأربعة وهي: 1 - ترك القتال، مع الصبر وتحمل الأذى، وكان ذلك بمكة. 2 - مرحلة الأذن بالقتال بعد الهجرة. (¬2) 3 - مرحلة الأمر بالقتال من يبدؤهم بالقتال. 4 - الأمر بقتال جميع المشركين. (¬3) وكانت المرحلة الأخيرة هي مرحلة الجهاد الباقى إلى يوم القيامة، بعد أن أخبر الله تعالى، بأن المشركين، وغيرهم من أهل الكتاب، وكل ملل الأرض سوف تحارب الإسلام، ولو لم يحاربها في قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. وقد استمر الحال على هذا الوضع إلى يومنا هذا مصداقاً لهذه الآية الكريمة، وكان الواقع أيام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل ماذا جنى المسلمون في المدينة على الروم مثلاً حتى يجمعوا لهم الجموع في مؤتة، وينذرونهم بمهاجمة المدينة والتى تسببت في غزوة تبوك، وبماذا يفسر الغزو الصليبى مثلاً في القرون الوسيطة من أوربا الشمالية للمسلمين في عقر دارهم في الشام، ولم يبدأ المسلمون هؤلاء الأوغاد بحرب ولا بغيره حتى سالت دماء المسلمين أنهاراً على ¬

(¬1) مسلم (1731). (¬2) انظر، محمد بن محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 75 - 76). (¬3) انظر ابن القيم، زاد الميعاد (3/ 70)، ط 6 مؤسسة الرسالة، بيروت، 1404 هـ - 1984 م، د. محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 74 وما بعدها)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (337 - 338)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية الصحيحة (325 - 326).

وصف مؤرخيهم، واستمر هذا التكالب والحقد والعدوان والقتل والتنكيل بالمسلمين إلى يومنا هذا، ولم يراعوا فيهم حقوق الحيوان فضلاً عن حقوق الإنسان. ثم إن دعوة الإسلام لا إكراه فيها على الدين، بل هي تبليغ رسالة الله تعالى إلى الناس للإيمان بالدين الحق فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فإذا قام أي قائم من حاكم أو غيره سداً بين الناس وحريتهم في الاعتقاد، وبدأ في التنكيل بهم وتعذيبهم ليردوهم عن معتقداتهم، فضلاً عن الإستعداد للإغارة على دولة الإسلام، كان على دولة الإسلام وحكامها في نظر المستشرقين، أن ينتظروا ليهاجمهم أعداؤهم من كل فج ليزيلوا دولتهم، أو ليهدموا أركانها دولة الخير والعدل والهدى والرحمة، أو كان على دولة الإسلام وأهلها أن تقف لتتفرج على مآسى المعذبين وأنينهم وصراخ الزوجات والأولاد بسبب إسلامهم، وإلا فالفرية جاهزة، لقد كان انتشار الإسلام بالسيف، وإن المسلمين متعطشون لسفك الدماء. كان القتال إذن فريضة لحماية الحق، وتأمين الدعوة والدعاة، وانتشار العقيدة دون عقبات تخالف حق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء، إن الدنيا اليوم تقوم بلا قعود لفرد أو لجماعة أوذوا في أن يختاروا ما شاؤا ومن إعتقادات ليصل الأمر إلى تدمير تلك الدولة التى تقدم على ذلك - بالطبع إلا أن يكون هذا الفرد أو تلك الجماعة مسلمين - فماذا يعيب الإسلام في ذلك وقد قرر تلك الحقوق منذ خمسة عشر قرناً من الزمان ودفع فيها أي في سبيل هذه الحقوق تلك الأرواح والأموال، وذلك بمنطق اليوم وأسلوبه. وإن ثمة عنصر آخر أراده الله لحرب المسلمين المقدسة حقيقة، وهو أن تكون كلمة الله هي العليا، وعندما تكون كلمته هي العليا فإن الخير يشمل الدنيا، وأن الحق والعدل هو ميزانها، وأن الرحمة هي أسلوبها، الكل من مسلم وغيره آمن في كنفها على نفسه وأهله

وولده وحاضره مستقبله، ويوم أن كانت كلمة المسلمين هي العليا وجدنا اليهود والنصارى آمنين لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وما دفعوا الجزية إلا لإسقاط فريضة الجهاد والدفاع عن الدولة أو الزكاة عنهم، والعكس، يوم استلم أمثال هؤلاء الحكم فعلوا بالمسلمين ما لا يخطر على بال الشيطان من أذى. وإن رفع الظلم الذى حل بالمسلمين في تلك الأيام الكالحة في مكة، كان من أسباب شرع القتال، وهي علة للقتال مقبولة في كل زمان ومكان فإذا لم يرتفع الظلم إلا بصليل السيوف وصهيل الخيل فلابد منه، والمسلمون نهبت أموالهم وصودرت ممتلكاتهم، سلبت دورهم بعد كل ما لاقوا، ومن ثم جاء الإذن معللاً {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، وإنهم ظلموا، وليس ذلك فقط بل هم الآن يُقاتلون كذلك، كان القتال الأول من بعوث وسرايا لمحاولة استرداد شيء من أموالهم التى استولت عليها قريش وكفكفة قريش عن مزيد من الأذى، وإظهار عهد الضعف بالتولى والإدبار مع رفع أي ظلم ممكن عن الباقين بمكة تحت سوط القهر والإذلال (¬1) إلى أن فرض الجهاد للناس كافة (¬2). بدء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغزوات والسرايا: عندما أذن الله لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقتال، ومن معه من المؤمنين سارع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإعداد العدة من رجال وعتاد وخطط مستغلين ذلك أحسن الاستغلال لتحقيق أهدافهم التى كانت نصب عين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

(¬1) انظر لذلك محمد الغزالى، فقة السيرة (208 - 209)، والبوطى، فقة السيرة (133 - 134)، د. محمد أبو شهبة، السيرة (76 وما بعدها)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (337 - 338)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (325 - 327)، وغير ذلك. (¬2) الجهاد له مبحث مستقل إذا شاء الله. - أطلق المؤرخون اسم (السرية)، على المجموعة من الجيش أو الجيش يقوده أحد أفراد المسلمين غير رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأطلقوا اسم (الغزوة)، على ما يقوده الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفسة مجموعة أو جيشاً.

كان العقل والواقع ومن قبل ذلك الشرع الموحى به أن تكون قريش هي المحط الأول الذى تتعلق به سيوف المقاتلين لأنها الخط الأول والحائط الصلب الذى يقف للإسلام وأهله فالعرب مشاركون لهم في وثنيتهم وبالتالى في عدائهم للإسلام ولرسوله والمؤمنين فهم الصادون عن سبيل الله في الجزيرة المشركة يومها برمتها، وهم المضطهدون للمؤمنين في مكة، المحاربون لهم في المدينة، المؤلبون عليهم العرب والحبش، الذين لا يرعون في المسلمين إلاً ولا ذمة، إن في قتالهم إذن رداً للمظالم أو بشيء منها ورفعاً للظلم، وتمهيداً لدعوة غيرهم إلى دين الحق، ورفع راية الإسلام وكس شوكة الكفر والظلم. اتجهت هذه الغزوات والسرايا من ثم إلى مواقع غربى المدينة واستهدفت أموراً ثلاثة: الأول: تهديد تجارة قريش إلى الشام، وهي ضربة خطيرة لاقتصاد مكة التجارى الذى به حياتها وكذلك في خطوة تالية تهديد تجارتها إلى اليمن وذلك بمهاجمة هذه القوافل شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً لحصار مكة اقتصادياً ورداً لبعض حقوقهم المسلوبة. الثاني: عقد المحالفات والموادعات مع القبائل التى تسكن تلك المناطق التى أصبحت مسرحاً لعمليات المسلمين ضد قريش لضمان تعاونها أو حيادها على الأقل في ذلك الصراع الدامى وهي خطوة نجاحها نجاح في المسلمين في الحصار السياسي لقريش، لأن هذه القبائل تميل مع قريش وثنيةومصالح لأن قريشاً سدنة البيت الذى يحجونه ولهم معبوداتهم وأصنامهم حوله، ثم إن لهم مع قريش مصالح ومحالفات تاريخية سماها القرآن الكريم الإيلاف في قوله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)} [قريش: 1 - 2]، مع إشتراك الجميع في معاداة الإسلام، إن موادعة هذه القبائل وتحييدها نجاح كبير في الوقوف لقريش في تلك المرحلة من الصراع. الثالث: إبراز قوة المسلمين أمام اليهود وبقايا المشركين في المدينة المنورة، فالمسلمون

صاروا لا يقتصرون على السيادة في المدينة، بل تحركوا لفرض سيطرتهم على ما حولها من القبائل، مؤثرين في علاقاتها ومصالحها. لا شك أن هذه السرايا والبعوث قد نجحت في تحقيق أهدافها مما أربك قريشاً وحلفاءها بسبب ضرب نشاطهم التجارى في كل الاتجاهات، وحصل المسلمون على مورد للتموين والتسليح، ونجحت هذه السرايا في إنذار الأعداء بأن للمسلمين المقدرة على التصدى والردع، واكتسبت قوات المسلمين الخبرة في مجال التدريب العسكرى، والمناورة وجس نبض الأعداء ومعرفة بدروب الصحراء وأحوال الأعداء (¬1). ونلاحظ على هذه السرايا والغزوات في تلك المرحلة أنها لم تكن ذات طابع دينى، يحمل الناس على أوامر الشرع، أو يدعوهم إلى الإسلام، نعم ولكن هذا هو الظاهر من عرض الأحداث، وإن كنا نسابق فنقول إن عدم العلم بالوقوع لا ينفى الوقوع، لأن الأصل في أحوال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أنهم ما خالطوا أحداً حتى في أحلك أوقاتهم إلا كانت الدعوة إلى الإسلام هي أول ما يبادرون إليه قولاً سلوكاً، وكأن كتاب السيرة لعلمهم بهذا الحال وأنه ديدن المؤمنين وشغلهم الشاغل، ووظيفتهم التى شرفهم الله بها هي الدعوة إلى الإسلام فكأنه من تحصيل الحاصل أن يذكروا به في كل موطن. ثم إن ما استغرقته من هذه الغزوات والسرايا من وقت إلى غزوة بدر الكبرى يعتبر قليلاً في جنب الوقت الباقى، فلاشك أن ذلك كان مصروفاً فيه إلى الدعوة من جملة أشغالهم ولاشك أن المدينة نفسها وما حولها قد أخذت الجزء الأكبر والاهتمام البالغ بالدعوة إلى الله تعالى، لتثبيت قاعدة انطلاق الإسلام على أقوى أساس وأمتنه، وإن مما يقوى هذه القاعدة أن تكون كل طرق المواجهة من حولها مستقرة وتحت السيطرة تحالفاً أو موادعة وتحييداً. ¬

(¬1) انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (327)، وكذا د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (345 - 346).

وإن قلة عدد أفراد تلك السرايا والغزوات لينبيء بتوفير العدد الأكبر للقيام بتلك المهمات وتوسيع قاعدة الدين بزيادة رقعة الإسلام وتعميق أثره في النفوس، وزيادة المنضمين إليه، وذلك بنشر الهدى من العلم النافع والعمل الصالح والدعوة إلى الله تعالى، كل ذلك طاعة لله تعالى، وانتظار مذخور ثوابه، وتأهباً لكل طارئ، وتربصاً بكل هاجم، وتجهيز القوة لتأديب المجرمين يوم يتطاولون. وقد ذكرنا ما سبق لنرد على المستشرقين القائلين بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما صار رئيساً سياسياً في المدينة تغير عما كان عليه في مكة بحيث صار الطابع السياسي يزداد بروزاً، والطابع الديني يزداد تراجعاً. (¬1) وتكملة لما سقنا من ردود، فلابد من القول إن أحكام الدين في تفضيلاتها، والطابع الديني للدعوة ما اكتمل وطهر سواء بنزول أحكام الشريعة، والدعوة إليها والتمسك بها، وتعلمها وتعليمها إلا في المدينة، إن الواجبات والسنن الشرعية والعلاقات الإيمانية والإنسانية والسلوكية التى ميزت المسلمين، كل ذلك كان في المدينة، فالواقع يخالف كلام فلهاوزن (¬2)، وغيره من المستشرقين ببروز كل ما يتعلق بدين الإسلام في المدينة، إذ كان المسلمون في مكة لم تتنزل عليهم تلك الأحكام، فضلاً عن اضطهادهم، وتخفيهم بدينهم. وما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتبعه في بدر أولئك المقاتلون في سبيل الله، مع بقاء غيرهم وأكثر منهم في المدينة لو كانوا يعلمون أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيواجه حرباً ما تخلف منهم رجل واحد. ¬

(¬1) انظر فلهاوزن، تاريخ الشعوب العربية (5 - 6)، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادى أبو ريدة مراجعة الدكتور حسين مؤنس، ط 2، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1968 م. (¬2) ولد في مدينة هاملن في سكسونيا السفلى بألمانيا، درس اللاهوت وعمل مدرساً في ميدان تاريخ العهد القديم منذ 1870 م، عمل أستاذاً للاهوت في جامعة هامبورغ وجامعة غرايفسفالد، عمل أستاذاً للغات الشرقية في جامعة هاله، عنى بالدراسات العربية، وله كتاب «بقايا الوثنية العربية»، اعتمد فيه على كتاب «الأصنام»، للكلبى، ترجم كتاب «المغازى»، للواقدى بعنوان «محمد في المدينة».

فما كانت التوجهات السياسية إلا تابعة لأوامر الشرع، ومنفذة لتعاليمه تحكمها عقيدة الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم وسنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مهتدية في كل ذلك بأسوتهم في اتباع تعاليم السماء، والوحى الكريم سيدنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم خرج في أحد والخندق وسائر الغزوات أضعاف مضاعفة من جند الله، علاوة على من دخلوا الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، يراهم المستشرقون قد دخلوا الإسلام للسياسة، وصاروا دعاة له وجنداً يرفعون رايته، حقاً إن مفتريات المستشرقين لا تقف للواقع بل وتنهار عند أول مهاجمة لها بساطع البرهان أو الدليل. ونختصر تلك الغزوات .. أولى هذه الغزوات غزوة الأبواء، وتسمى بغزوة ودان، وهما موقعان متجاوران بينها ستة أو ثمانية أميال، وتبعد الأبواء عن المدينة حوالى أربعة وعشرين ميلاً، ولم يقع قتال بل تمت موادعة بنى ضمرة من كنانة، وكانت الغزوة في 12 صفر سنة اثنين. وقد عاد الجيش إلى المدينة (¬1) بعد أن مكث خارجها إلى بداية شهر ربيع الأول (¬2) ويذكر عروة بن الزبير (¬3) أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل سرية من الأبواء تضم ستين رجلاً بقيادة عبيدة بن الحارث (¬4)، في حين يذكر ابن اسحاق أن السرية أرسلت إلى سيف البحر بعد العودة إلى المدينة، ثم خرجت سرية حمزة بن عبد المطلب من ثلاثين رجلاً متجهة إلى سيف البحر أيضاً في نفس الوقت للتعرض لقافلة من قريش، ولكن لم يحدث قتال حيث تدخلت ¬

(¬1) فتح الباري (7/ 79)، وتاريخ خليفة بن خياط (56) من واية ابن اسحاق - ابن هشام (2/ 171)، بدون إسناد. (¬2) ابن خياط، التاريخ (56)، من رواية المدائنى. (¬3) عروه بن الزبير بن العوام، عالم المدينة، أبو عبد الله القرشى، أحد الفقهاء السبعة، أمه اسماء بنت أبى بكر وخالته أم المؤمنين عائشة، لازمها وتفقه بها الذهبى، السير (4/ 421). (¬4) ابن سعد، الطبقات (2/ 7)، ابن اسحاق - ابن هشام (2/ 171 - 172).

القبائل الموادعة للطرفين دون ذلك، وإن وقع تراشق بالسهام بين سرية عبيدة والقريشيين، ورمى سعد ابن أبى وقاص بسهم فكان أول سهم رمى به في الإسلام. (¬1) واستمرت حملات المسلمين على الطريق التجارى لقريش فكانت غزوة بُواط (¬2) إلى رضوى (¬3) قرب ينبع في جمادى الأولى لإعتراض قافلة لقريش، ثم غزوة العُشَيرة (¬4) (بينبع) في جمادى الأولى، ولم يقع قتال في رضوى والعشيرة، ولكن جرت موادعة بنى مدلج في العشيرة كانت هذه السرايا والغزوات تهديداً خطيراً لقريش، استهدف ضرب تجارتها ومحاربتها اقتصادياً لحملها على التفكير الجدى في ترك تماديها في سياسة الإيذاء والاضطهاد للمسلمين، وزحزحتها عن كونها حجر العثرة في سبيل الإيمان، وإن المحاصرات الاقتصادية، وضرب آلاتها اليوم من أشد وأنكى ما يقوم به المجرمون في حروبهم ضد بعضهم البعض، أو لحرب بلاد الإسلام، ثم ينكر مستشرقوهم هذه الحملات في حرب المسلمين لقريش، وأنها نوع من قطع الطريق، لقد قطعت اليوم كل الطرق البرية والبحرية والجوية، ومحاصرة الموانى كافة كنوع من أنواع الحرب والسيطرة، بل ذلك دأبهم من قديم، وإن وصف قطاع الطرق ولصوص الأوطان لأقل وصف يوصفون به هم وليس المسلمون. غزوة (بدر الأولى / الصغرى) سَفَوَان: أغار كرز بن جابر الفهرى في جمادى الآخرة عقب غزوة العشيرة على أطراف المدينة ونهب بعض الأبل والمواشى، وهرب بأقصى ما يستطيع، وخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمطاردته حتى ¬

(¬1) ابن هشام، السيرة (2/ 174). (¬2) وهي جبال من جبال جهينة، من ناحية رضوى وهي قريب من ذى خشب، وبين بواط والمدينة نحو أربعة بُرُد. (¬3) ابن سعد، الطبقات (2/ 908)، وابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 176). (¬4) البخاري، الصحيح (3949)، ابن اسحاق - بن هشام، السيرة (2/ 177).

سَفَوَان من ناحية بدر ولكنه كان قد أفلت من المطاردة، ولكن الحادث أكد للمسلمين على ضرورة بسط سيطرة المسلمين مع جيران المدينة إسلاماً أو موادعة أو غزواً سرية نخلة: كما أسلفنا القول كانت طرق مكة التجارية إلى الشام كلها تحت الرصد والمهاجمة، ولم يبدأ المسلمون بحصار طريقهم إلى اليمن إلا في هذه السرية، حيث بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة، ومعه ثمانية رهط وكتب له كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين إمعاناً في السرية وحتى لا يعلم أحد وجهته. ففض الكتاب كما أمر فوجد فيه الأمر بالتوجه حتى ينزل نخلة بين مكة والطائف ليرصد بها قريشاً ويعلم من أخبارهم، وألا يستكره أحداً من أصحابه فمضوا جميعاً، وعندما نزلوا نخلة جنوب مكة كان ذلك في آخر شهر رجب المحرم، ولكنهم تعرضوا لقافلة لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها وأسروا اثنين من رجالها وعادوا إلى المدينة. (¬1) كان عبد الله بن جحش يدرك خطورة الأمر في أن يقاتل في نهاية رجب المحرم القتال فيه عند العرب، أو يتركهم، ليدخلوا حينئذ الحرم فيمتنع القتال أيضاً، ولكنه تشاور وأصحابه، فعزموا على قتالهم في آخر رجب. رجع عبد الله بن جحش إلى المدينة بالغنائم والأسيرين، فأبى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتسلمها، لأنه لم يأمر بقتال في الشهر الحرام وأوقف التصرف في العير والأسيرين، بلغت إشاعات قريش الجزيرة كلها بأن محمداً يستحل هو وأصحابه القتال في الشهر الحرام، ويسفكون فيه الدماء، وأنهم أخذوا الأموال والأسرى، وكثر في ذلك القيل والقال ¬

(¬1) انظر الغزالى، فقة السيرة (215 -)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (333)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (347)، د. محمد أبو شهبة، السيرة (2/ 119 - 122)، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 179 - 182).

وأرجف اليهود والمنافقون في المدينة قصد إشعال الفتنة، وفي هذه الغمرة من الأسى، والتثريب والعتاب والإرجاف من الأعداء، نزل الوحى حاسماً هذه الأقاويل ومؤيداً مسلك عبد الله تجاه المشركين، وموضحاً سلامة موقفهم. والآيات هي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. فكان في هذا العذر لأصحاب السرية ما سرى عنهم، وعن المسلمين ما كانوا فيه من كرب وغم، وقبض الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغنائم، وفادى الأسيرين من قريش بشرط رجوع سعد بن أبى وقاص، وعتبة بن غزوان إذ خرجا عن السرية لبعير لهما نَدّ، فخشى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشاً عليهما. إن الضجة التى افتعلها المشركون لإثارة الريبة والغبار في سيرة المقاتلين الناصعة الشريفة لهى ضرب من قلب الباطل حقاً، والتغطية على مواقف الخزى من الطغاة ببعض تصرفات المظلومين الحقة. إن الحُرمات المقدسة كافة قد اُنتهكت في محاربة الإسلام واضطهاد أهله، فما الذى أعاد لهذه الحُرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟! ألم يكن المسلمون مع نبيهم مقيمين في البلد الحرام، والأشهر الحرام حين كانوا يعذبون وتنتهك أعراضهم وتسلب أموالهم، وحين قتل منهم تحت التعذيب من قتل، وحين تقرر قتل نبيهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هل لمثل هؤلاء أن يتأسفوا على انتهاك القيم والأعراف ومنذ متى كانوا حراسها والقائمين على مراعتها وحمايتها، إنهم الملأ المبطل في كل زمان ومكان. أوضحت الآيات القرآنية الكريمة، من ضمن ما أوضحت سيرة هذه السرية - لأنها بينت وأشارت إلى أمور كثيرة أخرى أعم من جزئية الكلام على تلك الحادثة - وأول ما

جَلَّته الآيات ناصعاً صالحاً خالداً لكل زمان، ناصحاً لكل مؤمن، كاشفاً عن دواخل الكفرة تلك المعانى التى نشير إليها فيما يلى: الأول: أن القتال في الشهر الحرام كبير نعم - أي إثم كبير - كما يقال إنه كبيرة من الكبائر، ولكن الصد عن سبيل الله، الصد عن الإسلام والإيمان به والتزام أحكامه أكبر، أي أكبر الكبائر لما يترتب عليه من نشر الكفر وما يسستتبعه من فسق وانحلال من أوامر الشرع، ومن صد عن سبيل الهدى والتمسك بأحكام الإسلام، وشيوع محاربة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودينه والمؤمنين به. وإن إخراج المسلمين من مكة وصدهم عن المسجد أكبر كذلك من القتال في الأشهر الحرم فما الذى جعل أكبر الكبائر ينقلب في طرفة عين إلى أدناها وأصغرها في نظر الطغاة إلا مصالحهم الخاصة، ومحاربة الإسلام، والتشهير به، في الوقت الذى هم أولى بالتشهير بل بالقتال فيه، متى احترموا عهداً أو راعوا ذمة حتى يتباكوا على بعض قيم موروثة قد انتهكت، ومع أن الإسلام لا يقر انتهاكها، ذلك منطق الطغمة الفاسدة دوماً. ودليل ذلك كله أنهم مستمرون وأمثالهم في خطتهم الأصلية في محاربة المسلمين وصدهم عن دينهم بكل وسيلة إلى أن يعودوا إلى الكفر، أو سحق المسلمين حتى لا تقوم لدينهم قائمة، وما أشبه اليوم بالبارحة، ولذلك تابعت الآيات التوجيه والنصح وتفطين المسلمين إلى واقعهم فقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] (¬1). الثاني: وفي نفس السياق الذى وضح به المولى سبحانه للمؤمنين موقف الكفار الدائم منهم أرسل إليهم التحذير الشديد من الهزيمة أمام القوى الباغية، والتفريط في الإيمان ¬

(¬1) انظر محمد الغزالى، فقة السيرة (216).

الذى شرفهم به، وناط سعادتهم في الدنيا والآخرة بالبقاء عليه. فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217]. (¬1) الثالث: زكت الآية الخاتمة ما فعله «عبد الله بن جحش» وأصحابه في تلك السرية، رافعة عنهم ما وقع عليهم من تقريع وتوبيخ وتخويف، وهي عِدة بالجميل في ذات الوقت إلى ما ينتظرهم من الرحمة والمغفرة فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)} [البقرة: 218]، وجاء ذلك على عادة القرآن الكريم بأسلوب الرجاء للمؤمنين، لترك الاتكال والاعتماد على ما قدموا من أعمال مجيدة فيما مضى وحث لهم على إدامة الجهاد والكفاح فيما يستقبلون من حياتهم. (¬2) إن عبد الله وصحبه نفذوا أوامر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمانة وشجاعة، وتوغلوا في أرض العدو مسافات شاسعة متعرضين للقتل متطوعين بغير إكراه ولا حرج، فكان جزاؤهم ذلك لا التعنيف والإساءة. كلام "وات": بعد ما سلف من عرض هذه السرية بالذات في السنة (السيرة المشرفة)، وما نزل من القرآن يؤكد وقوعها، ويظهر الحق الذى يجب أن يعيه المؤمنون منها، والسلوك الذى يجب أن يسيروا عليه في مثلها جاء وات ليرى فيها فرصة سانحة يبدى ويعيد فيها بمنهجه المعوج لشرح الأحداث بما يسيء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودينه من ناحية، وإلى أحد أفراد السرية بالذات من ناحية آخرى وهو سعد بن أبى وقاص - رضي الله عنه - أحد العشرة المبشرين بالجنة، خارجاً بالتاريخ ¬

(¬1) انظر محمد الغزالى، فقة السيرة (216). (¬2) محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (2/ 122).

عن مساره بما لا علاقة له به مما يدهش المرء ويثير استهجانه وتقززه. لسنا في حاجة إلى التذكير بمنهج وات من اختراع التاريخ، أو الإسقاط على الحوادث بما لا علاقة لها به من التاريخ الحديث، مع لى عنق الواقع ليوافق رأيه المسبق، ومن ثم نذكر كلامه بحروفه فقط لنناقشه فيه، فمن ذلك: الأول: يقول وات: كان الشيء الأساسى في أوامر محمد في سرية عبد الله بن جحش أن يذهب إلى نخلة وينصب كميناً لقافلة قرشية، وحسب روايات أخرى، وهذه أضافة لاحقة، ترصد - أي ترقب - لترفع المسؤلية عن محمد في أي مواجهة دموية. (¬1) ولا يدرى الباحث من أي وجوه الكلام - الذى لا وجه له - يبدأ أو يناقش، إذ من أي جهة أتيت الكلام وجدته سيئاً لا يمكن أن يكون بحثاً لقد اختراع اتهاماً ليس إلا مغايراً ومجافياً به الواقع والحق وما يقع في عقول الناس وقد عودنا وات أنه عندما يبدأ في الاختراع يذكر جملاً قد أشرنا إلى بعضها من قبل، ونذكر بها الآن كأنه يقول ها قد بدأ فاصل التأليف التاريخى والتزوير الوثائقى، لنعلم من حيث لا يدرى أنه قد بدأ عزف النشاز الكاذب من هذه الجمل: «إذا أمكن قبول هذه الرواية، ومما يدعو إلى الشك، ويبدو، ومن الممكن، وإذا افترضنا»، كأن الله سبحانه أَبَى إلا أن يكشف الكاذب على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ونبدأ بالقول أن الرواية ليس فيها ذكر لكمين فاخترع أنها لنصب كمين، والرواية الصحيحة الموافقة للعقل والواقع صعب عليه ذكرها إلا بأنها مضافة فيما بعد، فهو يضيف روايات من عنده والرواية الصحيحة يدعى أنها أضيفت ولم يقل من أضافها ويذكر لها تاريخاً لاحقاً يظن أنه يفيده، ومن اختراعه أيضاً، فما علاقة ما يكتب بسيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذن، إنه الحياد والنزاهة العلمية!، إن الواقع يقول مع العقل إن المراقبة والرصد تكون قبل المهاجمة، ¬

(¬1) وات Mohammad AT Medina p. 7.

وهذا ما كان يفعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرصد ويراقب ويبث العيون حتى إذا درس الواقع دراسة جيدة، أرسل على إثر ذلك المناسب لها من القوة المرجو بها تحقيق الهدف، أو لم يرسل وأجلها لإتمام الاستطلاع؛ أو إعداد العدة اللازمة، خاصة وأنه في حرب مع قريش. والرواية الثابتة، ليست المخترعة من وات، تقول: «فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم» فمحا وات هذه العلة (الجملة)، سبب السرية، وأتى لنا من عنده بقوله تنصب كميناً لقافلة قرشية. واضعاً على الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يقله ولن يقوله إلى يوم القيامة، ثم يبنى على هذا الكذب، أو التاريخ المزعوم ما يريد أن يلصقه ظلماً وزوراً بالإسلام ونبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم أبان وات عما يقصد من تزوير التاريخ، بأنهم أي المسلمين زوروه لرفع المسؤلية عن محمد بسبب أي معركة دموية يمكن أن تقع. منذ متى كان سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتنصل من مسؤليته التى شرفه الوحى بها، وأى مسؤلية تقع عليه لو أنه أعلن من بداية السرية كغيرها من السرايا أنها سرية لمعركة دموية، إنه في حرب طويلة بكل الوسائل مع قريش، وإن سرية قتالية لابد من إعلانها حتى يتأهب مقاتلوها، ولا يكون قد ألقى بهم في مهاوى الهلكة أمام أعدائهم، إذ ذلك ليس من خلقه كقائد فضلا عن كونه نبياً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل لو نسب ذلك إلى أقل قائد في الدنيا لما كان مقبولاً. وإذا علم المتابع أن عدد هذه السرية لا يزيد على أصابع اليد الواحدة حيث ذهب اثنان من السرية هما سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان ليبحثا عن بعيرهما الذى ضل، فهل هذا العدد القليل بعدته الضعيفة يمكن أن يكون سرية هجومية (¬1)؟! التالى من كلام وات في هذه السرية هو زمن وقوعها، أول رجب أو نصفه أو آخره، واخترع أنها وقعت في نصف رجب، ثم بعد هذا الافتراض الخاطئ يقول: وأما القول بأن ¬

(¬1) د. طارق عبد الحميد، شبهات المنصرين حول السيرة النبوية، طبع مركز التنوير الإسلامي بدون تاريخ (411).

المهاجمين لم يكونوا يعرفون أن اشهر الحرام انتهى .... فهذه لغسل العار الذى أصبح مشهوراً. ثم يرجع القهقرى بعقله فيقول: يبدو أنها - أي السرية - كانت تعلم أن الحادث قد وقع نحو منتصف الشهر - رجب -. ولا بأس أن نضغط على عقولنا، ونأتى على أنفسنا، ونستعين بالله تعالى لتفنيد هذه المقالات: أولاً: لم تختلف المصادر الإسلامية - التى ليس لوات غيرها - في ميعاد الحادث في أول الشهر أو غيره، بل اتفقت المصادر كافة على أنها وقعت في رجب الشهر الحرام. ثانياً: اخترع وات أنها كانت في النصف منه ليؤكد على أنها كانت في رجب وأنهم كانوا يعلمون أنهم قاتلوا في الشهر الحرام الذى يجب احترامه، وهم ينكرون شيئاً من ذلك حتى يغسلوا العار الذى سيلحقهم بسبب ادعائهم أنهم لم يكونوا يعلمون أنهم في رجب والذى سيصبح بعد قليل في كلامك ليس عاراً، فما الذى حمل وات على كل هذه الاختراعات يعلمون ولا يعلمون، والعار وأول رجب وآخره ونصفه. ثالثاً: وحتى يثبت أنهم يعلمون، اختراع أن الحادثة كانت في النصف من رجب، وكذبته المصادر والواقع بأنهم كانوا في آخر يوم من رجب، ولو تركوا القافلة ستدخل الحرم ولا يستطيعون قتالها فآثروا أن يقاتلوا في الشهر الحرام - وهو أخف عندهم - من أن يقاتلوا في الحرم الشريف؛ فأين تنصل المصادر الإسلامية من أن القتال وقع في شهر رجب الذى زعمه وات، وأين مصادره هو التى تثبت هذا التنصل، أله مصادر ذكرت سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحاكم لها ويرجع إليها فيما يقبل أو يرد من السيرة؟ تبين له ما يدعى، ترى لو كانت المصادر الإسلامية لم تذكر ذلك فمن أين كان سيورد هذا النص وتلك الحادثة؟ أم أنه

يعرف طريقة، وهي اختراع سرية لم تكن ولن تكون، كما اخترع وفصل هو أحداثها، فتناقض وتهافت وادعى ما ليس بصادق ولا صحيح. مضطرون إلى استكمال الكلام مع "وات" .. يقول: إن محمداً لو كان في نيته خرق الشهر الحرام فإنه لا يعنى أنه كان يفكر في أمر معيب أو غير مشرف، فقد كان طابع الشهر الحرام مرتبطاً بالديانة الجاهلية التى كان محمد يحاربها، ولهذا كان خرق الشهر الحرام لتحطيم الأصنام. ولكن ماذا نقول عن تردد محمد في قبول خُمس الغنيمة؟ (¬1) عاد وات مرة أخرى لعادته في التناقض، وإثارة الشبهات بهذا التناقض الذى لا محل له إلا في ذهنه بترتيبه المسبق الذى يؤديه إلى هذه المسالك العقلية الوعرة الضيقة التى لا يستطيع منها فكاكاً أو خروجاً. فبعد أن كان هذا الفعل عاراً، أصبح لا عار فيه ولا عيب ولا مغمز، ولا يظن بذلك أنه يمدح ولكنه يمهد لمنهجه بالبناء ثم الهدم لإثارة التشكيك في الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودينه كما سيأتى ولكنه قبل أن يذكر ذلك علله بأن الأشهر الحرام من دين الجاهلية كالأصنام يحاربها سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخلط بين الأمرين هذا الخلط الغريب الشائه، والذى لم يحدث من سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا وحياً ولا اجتهاداً. نعم قد جاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوحى السماء بالدعوة إلى التوحيد، وكسر الأصنام ونبذها وخلعها، ولكنه في نفس الوقت جاءه الوحى بتعظيم الأشهر الحرم، وإبقائها كما ذكرنا الآيات، فكيف يستوى الأمران في ذهن عاقل. ¬

(¬1) وات Mohammad AT Medina p.8.

ثم جاء دور الهدم في نظر وات فيسأل سؤال الباحث البرئ: «ولكن ماذا نقول في تردد محمد في قبول خُمس الغنيمة؟». المصادر الصحيحة تقول في رد هذه الشبهة البريئة والتشكيك النزيه في الوحى والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن السبب في تردد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبول خمس الغنيمة هو أنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، وقد قال لهم ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صريحاً: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام (¬1)»، وهو الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى، وكان يمكن لأحدهم لو كان ذلك كذباً أن يرجع كافراً، ليقول إن محمداً هو الذى أمرنا بالقتال في الشهر الحرام، وإنه الآن يدعى - حاشا له - أنه لم يأمرنا بذلك، ولأضحت الرسالة من أولها إلى آخرها في مهب الريح المدمرة لها. انظر إلى وات لم يمهلنا أن رد هو على سؤاله التاريخى ليقطع علينا الطريق، ويصادر علينا حق التفكير والنطق فضلاً عن الاعتراض وتبيين الخطأ. كائلاً بأوفى كيل من التهم في جعبته موضحاً اجابته في ثلاث نقاط: (¬2) الأولى: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكتشف ردود فعل قوية حول خرق الشهر الحرام أكثر مما ينتظر. الثانية: خشية البعض من عقاب تنزله بهم الآلهة - هكذا -. الثالثة: لاحظ البعض التناقض بين الشريعة الآلهية من ناحية ودعوة محمد إلى التضحية في سبيل الله من ناحية أخرى. ويضيف لما سبق من نقاط فيقول: وشيء آخر ثابت وهو أن محمداً لم يكن يعبأ كثيراً ¬

(¬1) انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية (248). (¬2) وات Mohammad AT Medina p.8.

بالقتال في الأشهر الحرم، ولكن كان عليه أن يحترم معتقدات قسم كبير من أتباعه (أصحابه)، وأن يتجنب ما ينشأ عن ذلك من صدى يهدد سلطته كنبى. (¬1) ونزيد هنا أن احترام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معلوماً حتى آخر أيامه في الدنيا للأشهر الحرام حيث قال في حجة الوداع في أخر ما وصى به أصحابه والمؤمنين إلى يوم القيامة: «إن السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان» (¬2)، فأين عدم مبالاته وأنه لا يعبأ بالأشهر الحرم في قتال أو غيره، وقد ذكرنا ما قاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله وسريته، من أنهم لم يأمرهم بقتال في الشهر الحرام. أما أخذه الغنيمة بعد ذلك، فلم يكن دقيقاً القول بعد ذلك، بل بعد أن نزل الوحى يبرئ ساحة عبد الله بن جحش وسريته من مأثم في قتالهم أو شين في سلوكهم فقد رفض أخذ الغنيمة بما أوحى إليه من أمر الله بتعظيم الأشهر الحرام، وأخذها عندما جاءه أمره كذلك في قرآن يتلى أن ما فعله المشركون بالمسلمين أكبر من القتال في الشهر الحرام، وأن ما فعلوه بقريش التى لم تراع فيهم حرمة شهر ولا حرمة بيت إنما هو جائز من رد العدوان، واسترداد الحقوق المسلوبة، مع بقاء تعظيم حرمات تلك الأشهر. أما قول وات إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكتشف ردود فعل قوية أكثر مما ينتظر، لذا تردد في قبول الخمس فهو من هراء القول المجافى لحقيقة الانصياع للوحى والإيمان بالنبوة والرسالة، إذ ما الذى حمل هؤلاء الساخطين الذين استرضاهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدم قبول الغنيمة، ما الذى حملهم على الهدوء وترك الغضب والإعلان بالسخط عند قبول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغنيمة وأخذه لها (¬3)، إن موقفهم من أصحاب السرية وغضبهم مما فعلوا إنما كان رد فعل لغضب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل ¬

(¬1) Ibid. p.9. (¬2) ابن سعد، الطبقات (2/ 186). (¬3) ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 181)، ابن حزم، جوامع السيرة (106).

قولهم لعبد الله وأصحابه: «صنعتم ما لم تؤمروا به» (¬1)، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا (¬2)، كما ذكر ابن اسحاق في السيرة. ومن ثم كانت الحقيقة الناصعة أنه عندما نزل الوحى هدأت الأمور، وعاد عبد الله بن جحش وأصحابه مكرمين معززين بين المسلمين بتأييد الوحى لمسلكهم، ولو كان الغاضبون لهم رد فعل على تصرفات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو حتى على عبد الله وإخوانه، لكان لذلك أثره ولامتد هذا الأثر فترة بعد ذلك ثم ترى هل يعبأ سيدنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برد فعل أحد أو الدنيا كلها بعد نزول الوحى عليه، لقد قام أمام الكفار وحيداً يسفه أحلامهم ويسب آلهتهم ويضلل أفهامهم ولم يبال بهم وبما أنزلوه به وبأصحابه، ثم يأتى بعد ذلك ليعمل حساباً لرد فعل بعض المؤمنين المتقين - لو كان هذا صحيحاً - فيفعل أو يترك لأجلهم! وعندما أراد وات في النقطة الثانية ليبين لنا السبب الثاني على شبهته البريئة كما نوهنا إليها وهي تردد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبول الخمس من الغنيمة، فإذا به يعاود عين المسألة، بخشية البعض من عقاب تنزله الآلهة عليهم، هكذا قال، لا أعتقد أن وات يظن أنه صادق فيما يقول، هل يعتقد وات أن سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه يؤمنون بتعدد الآلهة الذى ذكر هو سابقاً أنه جاء ليحطمها، أو ليس هناك إلا رب الأرض والسماء، الها واحداً لا إله إلا هو، ولا معبود سواه، في دينه الذى يدعو إليه وقاتل عليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن وات يضلل ليشيع أن بعض المسلمين مازالوا خاضعين لمنطق الجاهلية، مؤمنين بالكفر، وهذا أعجب العجب في البحث العلمى. النقطة الثالثة في كلام وات عن أسباب تردد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبول خمس الغنيمة أولاً، ¬

(¬1) الطبرى، التاريخ طبعة (2/). (¬2) ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 180).

وهي ملاحظة البعض التناقض بين الشريعة الآلهية من ناحية ودعوة سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للتضحية من ناحية أخرى. (¬1) ويقال أولاً: من هؤلاء البعض؟ أهم بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو هم بعض من أتى بعدهم من المسلمين، فإن كان كذلك فليذكر وات اسماً واحداً رأى ذلك، أم عاد وات إلى عوائده القديمة في منهجه العلمى من إلقاء التهم بغير تثبيت، وزرع الشبهات والشكوك ثم الصاقها بمن لا يُعَلم. أم هم من المستشرقين ومن تبعهم؟ إذا فليقولوا قولاً يبرئون به ساحتهم من الدجل والتدليس والغش، قولاً فيه شيء من العلم الصحيح والمنطق المستقيم، ليمكن النظر فيه ومعرفة قيمته رداً أو قبولاً. ويقال ثانياً: إن (وات) قد استعمل في منهجه - لم أر من نبه إليها من العلماء - طريقة تحمل المرء على تجشم الرد، وعناء البحث وإعمال الفكر ليبعد به الباحث عن إلهية الدعوة وثبوت الوحى وصدق النبوة وصحة الرسالة، فيأخذ المرء في التجديف معه بعيداً عن الأصل الذى يرمى إليه مصوباً إليه حدقة بحثه إن كان، وفي غمرة البحث ينسى المرء الوحى والرسالة والاحتجاج بهما، وهنا تدب دسيسة وات إلى العقول والقلوب بتثبيت تلك المعانى أو مهاجمتها بعيداً عن الدين والوحى وهو مراده، فيكون بحث الباحث مناظرة لمناظرة أو جدالاً لجدال، بعد به العهد عن النصوص والنبوة وتعلق البحث بالسماء، مع أنه كان يمكن للباحث الرد على وات بكلمة واحدة تثبت بها المعانى ويظهر بها الإيمان وهي «إنه الوحى». من ذلك ما نحن بصدده من ردود وأقواها ظهوراً ما نحن فيه الآن إذ يقول «ظهر ¬

(¬1) mohammad at medina p. 8.

للبعض التناقض بين الشريعة الآلهية ودعوة محمد»، والرد سهل يسير وهو إن الشريعة ودعوة سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي أمر واحد موحى به من عند الله تعالى لا فرق بينها. أما هذا التناقض فمن وات نفسه، إذ هدف لايجاده بتفسيره الخاطئ (أو متعمد الخطأ) للنصوص في هذه السرية، إذ السرية للرصد وللاستطلاع من أخبار قريش فجعلها لنصب كمين، وهو ما يسمية دعوة محمد للتضحية في سبيل الله، وعدم قبوله الخمس وهو الشريعة الآلهية فجعل ذلك تناقضاً (¬1)، ونسبه للبعض الذين أخفى إعلامهم، لأنهم في الحقيقة غير موجودين، لأن القصة التى حضروها وعلموها غير ما اخترعه وات وألفه، وبالتالى لم يوجد عندهم ما ادعاه وات، ليلمز به الشرع والدعوة، وأن ذلك ليس وحياً في النهاية إلى آخر ما اهتم به وات وسعى إلى اثباته بخيله ورجله. ويكفى أنه خالف الواقع المنصوص وكتب وأرخ خلافه لو سمينا ذلك باسمه الصريح لقلنا يكفيه كذباً. وفي نهاية القول في تردد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبول الخمس ذكر وات أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عليه أن يحترم معتقدات قسم كبير من أصحابه، وما ينشأ عن ذلك من صدى يهدد سلطته كنبى. (¬2) وهذا كلام لا يحتاج لرد لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن ليعبأ بمعتقدات العالم كله لو كانت مخالفة لوحى الله له، وأمر دعوته في مكة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشهر شيء في التاريخ، وكذا في المدينة، وأيضاً موقفه الحاسم مع اليهود والنصارى وغيرهم. وإن التاريخ لمثل كلام وات على طريقة وات نفسه لابد أن يدخل فيها، تردده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبول الخمس حتى لا تتهدد سلطته كنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وها قد قبل الخمس هل تهددت سلطته كنبى ¬

(¬1) انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية (249). (¬2) وات Mohammad AT Medina p.9.

لقد رأينا العكس بما يكذب كلام وات ويدحضه، ويبطل في نفس الوقت فهمه للتاريخ وتحليله له ثم ما موقف هذا القسم الكبير من أصحابه الذين لم يحترم معتقداتهم، بعد هذه المخالفة الصارخة منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذه المعتقدات، إنه شيء معيب للغاية أن يصل تحليل وات إلى هذه الدرجة، لأن هذا القسم الكبير من أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاشك لهم اليد الطولى إذن، وهو ما يفرض معتقداتهم، هل حدث شيء من ذلك همساً أو سراً أو علانية؟ إن الإجابة التى لا نحيد عنها أن معتقداتهم هي ما علمهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من معتقدات، بل سبيلهم ظاهراً وباطناً هي سبيله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162 - 163]. والأمر الثاني في قصة السرية هي موقف سعد بن أبى وقاص، حيث سارع وات وتهور فلمزه - رضي الله عنه - وأساء إليه بما اخترع من حكايات مجافية للواقع والحقيقة تجعل الرد عليه ضرباً من تضييع الوقت، مع حزن النفس وتبرمها بمثل هذا التعصب والتطاول وغير ذلك من الافتراءات التى تلبس ثوب العلم والحياد. وإن الرد عليه يدخل فيما سبق أن رددنا، وإن كان قد أساء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سلف النقل عنه، فلأن يسيء إلى أحد أصحابه بمقالات السوء تلك غير مستغرب ولا مستبعد وما اختار من السرية إلا سعداً - رضي الله عنه - إلا ليكمل له الإساءة إلى الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودينه وأفضل أصحابه المبشرين بالجنة، وبالتالى لا يحتاج الكلام إلى توضيح، وإلى فهم المراد. تحويل القبلة: في نهاية تلك الأحداث التى وقعت قبل غزوة بدر الكبرى، جاء حادث تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة في مكة، وهو ما نختم به تلك الفترة قبل الخوض في موقعة بدر كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

يتجه في صلاته بمكة قبل الهجرة مستقبلاً بيت المقدس جاعلاً الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذا ما ورد صحيحاً عن ابن عباس - رضي الله عنهم -. (¬1) وذهب بعض العلماء إلى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلى بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس (¬2). ولما هاجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة المنورة استمر في الاتجاه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً (¬3). وفي منتصف رجب سنة اثنين للهجرة أمره الله تعالى بالتحول في صلاته إلى الكعبة، قبلة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو قول الجمهور من العلماء. وقد رحب يهود المدينة باستقبال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقبلتهم، خاصة أنهم قد عاهدوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما أوردنا من قبل، وإن كان ذلك منهم محل إنكار كما ذكر الطبرى في تفسيره عن مجاهد أنهم كانوا يقولون: «يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا (¬4)»، كأنهم طمعوا في أن يميل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى دينهم حيث رأوا الإسلام يتابعهم في القبلة دليل صحة شيء من تقاليدهم وطقوسهم. لخصت الآيات الكريمة سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين مع القبلة، حيث كانت حادثاً عظيماً في تاريخ الجماعة المسلمة، وله آثاره الضخمة في حياتها. ¬

(¬1) ابن سعد (1/ 243) الطبقات، والحاكم وصححه. وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (349). (¬2) وقد مال إلى هذا الرأى أبو عمر بن عبد البر القرطبى، وانتقد الحافظ ابن حجر هذا الرأى وضعفه فقال في فتح الباري، وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 63). (¬3) مسلم (1/ 374)، وجزم به، وهو قول عدد من الصحابه معاذ وأنس وغيرهما ورواه البخاري ستة أو سبعة عشر شهراً وقد وفق بين القولين، وخليفة بن خياط في التاريخ (64)، الطبرى، التفسير (2/ 3)، وذهب د. مهدى رزق الله إلى أن قول الجمهور في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً وهو رأى ابن اسحاق - ابن هشام - (2/ 182)، بخلاف ترجيح د. أكرم العمرى ولكن صحت الأحاديث على كلام د. أكرم لما صححه البخاري، وابن حجر في فتح الباري. (¬4) الطبرى، التفسير (2/ 20).

فبينت الآية الأولى على خلاف الترتيب القرآنى كما سنوضح حكمة ذلك، تقلب وجهه في السماء - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داعياً ربه متضرعاً أو ساكتاً متأدباً يرجوه أن يوجهه إلى الكعبة المشرفة، وذلك في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]. ثم جاءه الأمر الإلهى الأول بأن يولىَ وجهه شطر المسجد الحرام فقال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144]. وجاء الأمر مرة أخرى بالتوجه إلى القبلة فقال جل وعلا: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)} [البقرة: 149]. وتلا ذلك الأمر الثالث باستقبال المسجد الحرام فقال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} [البقرة: 150]. ونذكر الآن الآية الأولى في السياق القرآنى الكريم، وإن كان ذكرها الآن هو محلها في الواقع على ما سنشير إلى الحكمة التى أبداها أهل العلم في ذلك، هي قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]. وفي ثنايا تلك السيرة القرآنية جاءت التوجيهات الإلهية والوصايا الربانية، وجاء توضيح المواقف، وتمييز الناس، والتحذير من الاغترار بالباطل، وظهرت الحكم والعبر والعظات من معانى ذلك كله، لتقود قافلة الإيمان في النور الساطع بقدم راسخ إلى منتهى شوط الأمان والنجاة والرفعة في الدنيا والآخرة. وقبل الخوض في تلك المعانى القرآنية الكريمة يجدر أن نشير إلى كلام له قيمته ذكره

سيد قطب رحمه الله، فنلخص مجمله: يقول: أما الآن فنقول كلمة في حكمة تحويل القبلة، واختصاص المسلمين بقبلة خاصة يتوجهون إليها، إذ كان ذلك لا شك لحكمة تربوية ذكرتها الآية الكريمة وهي في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. (¬1) فقد كان العرب يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم، ويعدونه عنوان مجدهم القومى، ولما كان الإسلام قد جاء لاستخلاص القلوب لله وحده، وتجريدها عن كل تعلق بغيره، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغير منهج الإسلام المرتبط بالله تعالى مباشرة، المجرد من ملابسة تاريخية أو عنصرية أو أرضية، فقد نزعهم نزعاً من الاتجاه إلى البيت الحرام واختار لهم المسجد الأقصى ليخلص نفوسهم من كل تلك الرواسب الجاهلية، وليظهر من يتبع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويطيعه في كل أمره طاعة مجردة من كل شيء، الطاعة الواثقة الراضية المستسلمة، ممن ينقلب على عقبية اعتزازاً بنعرة جاهلية تتعلق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ، أو تتلبس في خفايا المشاعر وحنايا الضمير حتى إذا استسلم أهل الإيمان لهذا الأمر من الله ورسوله جاءهم الأمر باستقبال الكعبة المشرفة، كذلك إظهاراً للاستسلام لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولكنه في أمره باستقبال الكعبة المشرفة ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى هي حقيقة الإسلام، حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وليكون تراث الأمة المسلمة التى نشأت تلبية لدعوة إبراهيم لربه بأن يبعث فيهم رسولاً بالإسلام الذى كان عليه إبراهيم وبنوه وأحفاده. (¬2) يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله: إن المناسبة بين هذه الآية {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} وبين ¬

(¬1) سيد قطب رحمه الله يميل إلى الرأى الذى ضعفناه بأن القبلة في مكة كانت الكعبة المشرفة «ظلال القرآن» (1/ 126). (¬2) سيد قطب، في ظلال القرآن (1/ 126 - 127).

الآى التى قبلها غير واضحة، ولكن هناك مناسبة بديعة، وهي أن الآيات التى قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة وأن من يرغب عنها فقد سفه نفسه. (¬1) ونعود إلى سيد قطب رحمه الله، حيث بسط القول شيئاً ما كما ذكرنا فيقول رحمه الله ما مختصره أن الحديث عن المسجد الحرام وبنائه وعمارته، والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه وملته وقبلته، وعهده ووصيته، كل هذا الحديث كان خير تمهيد لتحويل القبلة إلى بيت الله الذى بناه والذى يمثل ملته التى من أراد غيرها فقد سفه نفسه والتى دعا ربه أن يبعث رسولاً يقيمها، فتحويل القبلة إذن يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعى المنطقى مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده، وهو الدين الذى ارتضاه الله سبحانه للبشرية كافة، فهو الاتجاه الحسى المتسق مع الاتجاه الشعورى، الذى ينشئه هذا التاريخ. وإن الله عهد لإبراهيم - عليه السلام - أن يكون من المسلمين: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)} [البقرة: 131] وعهد إبراهيم - عليه السلام - لبنيه بالإسلام وكذلك أحفاده: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132] ولقد أعلم الله إبراهيم - عليه السلام - أن وراثة عهد الله وفضله لا يناله الظالمين: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124] إن الأمة المسلمة هي الوارثة لذلك العهد ولذلك الفضل فطبيعى إذن أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة. فإذا اتجه المسلمون فترة إلى المسجد الاقصى لحكمة سبقت الذى يتجه إليه اليهود والنصارى، وأبوا أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، ليشاركوا الأمة المسلمة وليكونوا أمة واحدة موحدة لله تعالى، فقد جاء أوان تحويل القبلة إلى بيت الله الأول الذى بناه ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور، التحير والتنوير (2/ 5)، وإن كان يميل العلامةابن عاشور إلى أن النسخ كان من بيت المقدس إلى الكعبة في المدينة، أما في مكة فكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستقبل الكعبة.

إبراهيم - عليه السلام - لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة حسيها وشعوريها، وراثة الدين، ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعاً. إن الاختصاص والتميز للجماعة المسلمة ضرورىٌ من هذا المنطق، ومما رأينا من سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عامة الاختصاص في التصور والاعتقاد، والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة، وهما واضحان في التصور والاعتقاد، ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة، ولابد من وقفة مع قيمة أشكال العبادة. (¬1) إن الناظر إلى أشكال العبادات الظاهرة مجردة عن ملابساتها، ومجردة عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئاً من التعصب الضيق، أو شيئاً من التعبد للشكليات! ولكن نظرة أرحب وأوسع من هذه النظرة وإدراكاً أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار لهذه الشكليات المتميزة للعبادات، ففى النفس البشرية ميل فطرى ناشيء من تكوين الانسان ذاته من جسد طاهر وروح مغيب إلى اتخاذ أشكال ظاهرة عن المشاعر المضمرة، وهذا لا يحتاج إلى تدليل، وقد أشار إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد» (¬2)، فما يظهر إذن على المرء أنما هو تعبير لابد منه لذلك الشعور والميل الداخلى إذ لا تستقر وتهدأ هذه المشاعر المضمرة حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس. وعلى هذا الأساس الفطرى أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها، فهى لا تؤدى بمجرد النية وحدها أو التوجه الروحى، لكن ذلك يتخذ شكلاً ظاهراً قياماً واتجاهاً إلى القبلة وتكبيراً وقراءة وركوعاً وسجوداً ذلك في الصلاة، وإحراماً من مكان معين بلباس معين ¬

(¬1) سيد قطب في ظلال القرآن (1/ 127). (¬2) البخاري، الصحيح (50).

وطوافاً وسعياً بحركة معينة ودعاء وتلبية ورمياً للحجارة ونحراً وحلقاً ذلك في الحج، وهكذا في كل عبادته وأوامره وسننه. ولم يكن بعد ذلك، بد من تمييز المكان الذى يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة كى يتمييز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه فهذا التميز تلبية للشعور بالتخصص والتفرد والامتياز، كما أنه بدوره ينشئ شعوراً بالامتياز والتفرد. ومن هنا كان التشبه بغير المسلمين في خصائصهم التى هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهى عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء، ولم يكن هذا تعصباً ولا تمسكاً بمجرد الشكليات. وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة وهذه البواعث هي التى تفرق قوماً عن قوم، وتصوراً عن تصور، وعقلية عن عقلية، وضميراً عن ضمير وخلقاً عن خلق، واتجاهاً في الحياة كلها عن اتجاه. لذلك ورد عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم». (¬1) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد خرج على جماعة فقاموا له: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً» (¬2)، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله» (¬3)، فنهى عن تشبهٍ في مظهرٍ أو لباسٍ، ونهى عن تشبهٍ في حركةٍ أو سلوكٍ، ونهى عن تشبهٍ في قولٍ أو أدبٍ؛ لأن وراء ذلك الشعور الباطن الذى يميز تصوراً عن تصور ومنهجاً في الحياة عن منهج، وسمة للجماعة عن سمة. ¬

(¬1) البخاري (5448)، ومسلم (3926). (¬2) رواه أبو داود، السنن (4553). (¬3) البخاري (3189).

ثم هو في نفس الوقت نَهْىٌ عن التلقى من غير الله تعالى ومنهجه الذى جاءت الأمة لتحققه في الأرض نَهْىٌ عن الهزيمة الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض، فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التى تأسر النفس لتقلد ذلك المجتمع المعين، والمسلمون هم الأمة الوسط، هم الأعلون إن كانوا مؤمنين، هم خير أمة أخرجت للناس فإن لم يستخدموا تصورهم ومنهجهم ونظمهم وتقاليدهم من الله فهم يستمدونها من الأدنى الذى جاءوا ليرفعوه. لقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق للتصور، وأقوم منهج في الحياة، وهو يدعو البشرية كلها إلى أن تفئ إليه، وما كان تعصباً إذن من الإسلام أن يطلب وحدة البشرية على أساسه هو لا على أي أساس آخر، وعلى منهجه لا على أي منهج آخر، وتحت رايته لا تحت أي راية فالذى يدعوك إلى توحيد الله تعالى وأن يكون من دونه سواء، ويدعوك إلى الوحدة في الارفع من المقصود، والوحدة في الارفع من النظام، ويأبى الحيدة عن منهج الله تعالى والتردى في مهاوى الجاهلية، ليس متعصباً، أو هو متعصب ولكن للخير والحق والصلاح. والأمة المسلمة اليوم محاطة بل ومتغلغل فيها نفسها شتى التصورات الجاهلية وغيرها التى تعج بها الأرض، وكذلك شتى الأهداف والرايات الجاهلية التى يرفعها الأقوام، وبين شتى الاهتمامات التى تشغل بال الناس على خلاف اهتمامات الإسلام ومنهجه، ومن ثم فهى في حاجة إلى التميز بشخصية لا تتلبس بالشخصيات السائدة جاهلية أو غيرها، وتتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يلتبس بالتصورات السائدة، والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وتصورها هذا التميز هو الوقوف تحت راية تحمل اسم الله وحده؛ فتعرف ساعتها بأنها خير أمة، الأمة الوسط (¬1). ¬

(¬1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (1/ 129).

وهكذا رأينا كيف كانت القبلة تحمل هذه الدلالات التى جاء الإسلام ليؤسسها في الجماعة المسلمة من وقت مبكر تستطيع فيه حمل الراية والسير الحثيث لتحقيق تلك الأهداف مع التمايز بأنهم المسلمون، ولقد ساروا بذلك حتى إنه لا يمكن أن يقال عنهم في كل مجال يحمل الخير والحق والعدل والرحمة إلا إنهم المسلمون. إلى أن فقدوا موقعهم تحت الراية وانزحاوا يمنة ويسرة فحل بهم ما نعانيه اليوم. نعود إلى هذا الجزء من السيرة النبوية في القرآن الكريم كما هو منهجنا، ونقتصر على ما يوضح الموضوع من كلام الله تعالى، ونبدأ بالآية الأولى وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]. وكان سياق هذه الآية الكريمة بحسب الواقع الظاهر متأخراً بعد تحويل القبلة، إذ ذلك القول من السفهاء إنما هو بعد أن يغير المسلمون قبلتهم فتشاع عنهم هذه المقالة السيئة والإشاعات المغرضة ونذكر حكمة ذلك بشرح الآية فيما يلى كما وضحه الفخر الرازى في «التفسير الكبير»، يقول ماحاصله إن قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} فيه قولان: الأول: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضى أيضاً، كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون على فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد فإذا ذكروه مرة أخرى صح أن يقال سيقول السفهاء. الثاني: أن الله أخبر عنهم قبل أن يذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد: أحدها: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أخبر عن شيء قبل وقوعه، كان هذا إخبارا بالغيب، فيكون معجزاً.

ثانيها: أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولاً. ثالثها: أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً، ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم يكون الجواب حاضراً، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً، وبهذا ظهرت حكمة تقديم تلك الآية وتهيئة المؤمنين وتثبيت قلوبهم لأقوال أعدائهم. (¬1) ونعود إلى قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}، وهم أولئك الذين نشروا شائعاتهم واتهاماتهم للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وللمؤمنين يشككون في دينهم، وعدم ثباتهم عليه، بل هم متحيرون لا يدرون إلى أي قبلة يصلون، وهذا تشكيك في صدق الوحى، وبالتالى الرسالة والقرآن الكريم، وبدأوا حرباً قاسية ليضطرب المؤمنون وتتزعزع ثقتهم في دينهم ونبيهم وربهم، ها قد جاءتهم فرصة بغير شوكة اهتبلوها، أقوى وأصعب من ملاقاتهم بالسلاح، وللمرء أن يتخيل حال المؤمنين حينئذ، حيث وصف الله تعالى ذلك الوضع السيء بقوله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143]. إن رجوع أحد من المؤمنين عن دينه في ذلك الامتحان لهو أقسى من قتله إذ هو تهوين للصف، وتخذيل له وتعريضه للهزيمة النفسية المقدمة للهزيمة العسكرية. ولتصوير عظم ذلك ذكر الله تعالى أن هذه المقولة هي مقولة السفهاء، والسفيه من لا يميز ما له مما عليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره، ولا شك أن من فعل ذلك في أمر الدنيا يعدونه سفيهاً، فمن باب الأولى في أمر الدين، وقد وصفهم بالسفاهة أي الخفة والجهل والطيش وعدم تميز الحق النافع، لما أورده عليهم من حجة تدل على سفاهتهم، فقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة: 142]. أي من كان له المشرق والمغرب - وليس هناك من ادعى لنفسه، أو لغيره ذلك - فهو يوجه إلى ما يشاء، ¬

(¬1) الفخر الرازي، التفسير الكبير (2/ 462).

وما يعترض على ذلك إلا جاهل سفيه، ونص عليهم عدم اهتدائهم لأنهم لا يستحقونه لإيثارهم الباطل على الحق، وذلك من تمام سفاهتهم، فلا جرم ... صدر هذه السيرة بتلك الآية لتبين سفاهتهم، حتى يحذر ذلك المؤمنون، بل ليمتنع تردد ذلك في صدورهم. ويأتى السؤال: ما العظيم في هذا المذكور؟ والكبير فيه، حتى يصوره القرآن الكريم بذلك؟ إن العظيم في ذلك أن السفهاء كانوا الجميع من غير المؤمنين، إذ رمى الكفار المشركون من مكة، واليهود في المدينة، والمنافقون رموا المسلمين عن قوس واحدة، إذ لفظ السفهاء لفظ عموم يصلح لكل الكفار بحسب الدليل العقلى الذى أشرنا إليه، والدليل النقلى وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]. (¬1) فالكل قد اجتمع على المسلمين وشككوا واتهموا وذموا؛ لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً البتة، كان الخطب جسيماً إذ اجتمع كل من في المدينة بل ومشركو مكة على الصياح على المسلمين وإرهابهم من كل فج. حتى قال المؤمنون متوجسين خيفة ما حال إخواننا الذين ماتوا قبل تحويل القبلة، فنزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} [البقرة: 143]. ذكر المفسرون ذلك، ونسبوا كل قول من بهت وإفك إلى قائله فقالت اليهود: لو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، وكانوا يظنون موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يوافقهم بالكلية، فليس إذا رسولاً. وقال المشركون: أبى إلا الرجوع لموافقتنا يعنى كأن الوثنية صارت حقاً. ¬

(¬1) انظر الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 462 - 463).

وقال المنافقون: على سبيل الاستهزاء إن التحويل مجرد عبث وعمل بالرأى والشهوة إذ لا تتميز بعض الجهات عن بعض بخاصيةمعقولة تقتضى تغيير القبلة. (¬1) نزلت الآيات متتابعة لتوضح الحكمة من ذلك، وتبين مواقف كل فريق، وتؤكد على أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتوجه هو والمؤمنون إلى الكعبة، وتثبت المؤمنين وترشد سيرهم وليستمروا صامدين تحت الراية المرفوعة - راية الإيمان - سائرين بها مدافعين عنها. وننظر في الآية التالية التى تبين بقية سيرة القبلة في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144]. كانت هذه الحالة في الآية الكريمة وهي طلب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ربه ليستجيب له بالتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم - عليه السلام - أول ما ذكر من سيرة النبي - صلوات الله وسلامه عليه - مع القبلة حيث ألهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنها الحق - وهو الواقع بتقرير الله تعالى ذلك - وجاءت متأخرة عن الآيات السابقة. ذلك لأن الآيات السابقة كالتمهيد للنبى - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين لهذه الآية، وهي آية إجابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لطلبه بالتوجه إلى الكعبة المشرفة، وكذلك تبيين الحكمة من هذه الاستجابة، فقد وطأ القرآن الكريم لهذا التحويل بالأيه التى ذكرنا وهي: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ}، ثم قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ...} [البقرة: 143]. ليكون ذلك تثبيتاً للمؤمنين، واعدادهم لمواجهة هذه الكبيرة، وفي نفس الوقت ليفصل لهم موقفهم وقيمتهم في الدنيا والآخرة التى بوأهم الله إياهم، فلا تؤثر فيهم تلك ¬

(¬1) السابق.

الأحداث، بل هم أعلى منها وأجل فكان متناسباً غاية التناسب أن يرشدهم إلى علو مكانتهم باستعلائهم بالإيمان في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. أي ستسمعون من السفهاء ذلك كله، ولكن حقيقة الأمر أنكم أنتم الأمة الوسط العدول الخيار إذا اعتقدتم شيئاً فهو الحق الذى بلغكم به ربكم، فأنتم الشاهدون على كل أمة أو أحد بصدق ما هم عليه وصحته أوْلا، ليس هم الذين يشهدون عليكم بصحة موقف أو فساده: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. أنتم المهيمنون الحاكمون بصحة ما عليه الناس كافة أو بنقيضه لا يرد عليكم أحد ذلك الاعتقاد، أو يدفعه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. (¬1) كان ذلك توطئة قوية لهم ألا يتشككوا إذن أو تنزع ثقتهم فيما هم عليه، أو فيما يتنزل عليهم، إنهم الأمة الوسط التى تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم القسط والعدل، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدى فيهم رأيا فيكون هو الرأى المعتمد، وتزن قيمتهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعائرهم فتفصل في أمرهم، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل، فهى شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم ... وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الذى يشهد عليها، فيقرر ذلك كله، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيها الكلمة الأخيرة، وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها. (¬2) وبالتالى كانت تلك المقدمات والممهدات للأمة قبل صدور الأمر بتحويل القبلة لتعرفها، ولتستعد لها الاستعداد اللائق، ولتصحح وفقها مفاهيمها وتصوراتها التى ¬

(¬1) انظر الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 475 - 477)، والطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 20 - 21)، سيد قطب، فو ظلال القرآن (1/ 130 - 132)، وغيرها. (¬2) السابق.

ترشدها طريقها وتجلى معالمه إلى يوم القيامة، ولتشعر بضخامتها، وتقدر دورها حق قدره، مع الكواشف المضيئة لكل ما حولها تصوراً واعتقاداً وقبائل وأشخاصاً. وبعد هذا الإعداد الطويل للأمة المسلمة في هذا التوقيت الدقيق، جاءت الحكمة الإلهية. لتبين أن تنقية الصف ليستطيع استكمال السير بأقصى قوة مستطاعة، يتحمل تبعاته، ويقدر مسؤلياته، هو الحكمة المنشودة من خطة التربية الربانية هذه، إن بقاء الصف بغير تمحيص وفرز لبقاء الأصلح الأقوى يجعل باطن الصف مصدعاً مهزوزاً سرعان ما ينهار، أو أجزاء كبيرة منه عند أول صدام، مع أن ظاهره يوحى بغير ذلك، وقد رأينا مصداق هؤلاء في غزوة أحد، ولقد عبرت الآية الكريمة عن هذه الحكمة بقولها: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. والله سبحانه يعلم كل ما يكون قبل أن يكون، ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس حتى يحاسبهم عليه، ويأخذهم به، والانقلاب الرجوع إلى المكان الذى جاء منه، انقلب إلى الدار، وقوله: {عَلَى عَقِبَيْهِ}، زيادة تأكيد في الرجوع إلى ما كان وراءه؛ لأن العقبين هما خلف الساقين، أي انقلب على طريق عقبيه، وهو هنا استعارة تمثيلية للارتداد عن الإسلام رجوعاً إلى الكفر السابق. (¬1) طالت هذه الفترة مع أنها متأخرة في الواقع عن الأمر النازل بتحقيق مطلوب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، كل ذلك لما رأينا من عظات وأحكام وعبر، وتراتيب للانطلاقه الكبرى لأمة الإسلام، والتى اشترطت لها الآية المذكورة آنفاً اتباع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظاهراً وباطناً علماً وسلوكاً، عبادة وعقيدة مع ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 23 - 24)، سيد قطب، في ظلال القرآن (1/ 132)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 478 - 481).

الوسطية في كل أمورها لتصل إلى مقصدها وتبلغ أهدافها وتفوز بسعادة الدارين. نعود إلى الآية التى وجه الله تعالى بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين إلى الكعبة، وهي قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...} [البقرة: 144]. وننظر في تحليلها. هذا استئناف ابتدائى، وإفضاء لشرع استقبال الكعبة، ونسخ السابق، فهذا هو المقصود من الكلام المفتتح بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ....}. وقد في كلام العرب للتحقيق، وهنا لتحقيق الخبر، وهو نرى، ولما كان علم الله بذلك مما لا يشك فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يحتاج لتحقيق الخبر به، كان الخبر به مع تأكيده مستعملاً في لازمه على وجه الكناية لدفع الاستبطاء عنه، وأن يطمئنه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان حريصاً على حصوله، ويلزم ذلك الوعد بحصوله واللازم الثاني هذا كنايه ثانية. وجيء بالمضارع من قد للدلالة على التجدد، والمقصود كما ذكرنا، تجدد اللازم ليكون حينئذ تأكيداً لذلك اللازم وهو الوعد. (¬1) والتقليب هنا هو ترديد وجهه في السماء، وهو تأدب مع الله في الطلب بغير دعاء كما ذكر بعضهم، ينتظر أن يجاب إلى ذلك، يقول الامام محمد عبده: «فسر بعضهم تقلب الوجه بالدعاء، وحقيقة الدعاء هو شعور القلب بالحاجة إلى عناية الله تعالى فيما يطلب، وصدق التوجه إليه فيما يرغب، ولا يتوقف على تحريك اللسان بالألفاظ، فإن الله ينظر إلى القلوب وما أسرت، فإن وافقتها الألسنة فهى تبع لها وإلا كان الدعاء لغواً يبغضه الله تعالى ... فتقلب الوجه في السماء عبارة عن التوجه إلى الله تعالى انتظاراً لما كانت تشعر به روح النبي ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 26 -).

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترجوه من نزول الوحى بتحويل القبلة. (¬1) ويستكمل قائلاً: ولا تدل الآية على أنه كان يدعو بلسانه طالباً هذا التحويل ولا تنفى ذلك». وقال بعض المحققين: من كمال أدبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتظر ولم يسأل. وهذا التوجه هو الذى يحبه الله تعالى، ويهدى قلب صاحبه إلى ما يرجوه ويطلبه. (¬2) وهذا الكلام والحال الجليل إنما يدل على أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن له من أمر نفسه شيء، وأنه ينتظر الوحى فيما يأتى ويدع، ولو كان الأمر له فما المانع أن يقوم هو بالتحويل للكعبة وأن يدعى في ذلك شيئاً من الإفك المفترى، ثم إن صح هذا فمن أين يخبر بهذه المغيبات التى لا اطلاع لأحد عليها فأخبر بها قبل وقوعها مع حكم وأوامر ووصايا في سياق معجز معنى ونظاماً. ولقد رأينا القبلة بعد ذلك شأناً ثابتاً للمؤمنين لم يحاور فيه أحد، ولم ولن يمارى فيه صغير ولا كبير إلى يوم القيامة. جاء بعد هذا الأدب من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ}، فبعد أن كان الوعد بالتحويل في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى}، بأسلوب الكناية، أتى صريحاً مؤكداً معقباً بالفاء، ليكون المعنى أن تولية وجهه للكعبة سيحصل عقب هذا الوعد. وهذا وعد اشتمل على أداتى تأكيد وأداة تعقيب، وذلك غاية اللطف والإحسان. (¬3) ¬

(¬1) انظر الامام محمد عبده، الاعمال الكاملة، تحقيق وتقديم د. محمد عمارة (1/ 333 - 334)، التفسير الجزء الاول، دار الشروق ط 1، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009. (¬2) السابق. (¬3) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 27).

وعبر بقوله: {تَرْضَاهَا}، للدلالة على أن ميله للكعبة ميل لتصد الخير، إذ الرضى مشعر بالمحبة الناشئة عن تعقل، ومقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يترفع عن أن يتعلق ميله بما ليس فيه مصلحة راجحة، فميله للكعبة لأنها أجدر بيوت الله التى تدل على التوحيد، فهى أحرى بذلك من بيت المقدس إذ بنى هو بعدها، على منوالها، ولم يصل لشأوها في ترتيب الله تعالى لبيوته، ويكون استقبال القبلة إيماء إلى استقلال هذا الدين عن دين أهل الكتاب، وهو الأول بوضع الله له - سبحانه وتعالى – ومن ثم كان التعبير بالرضا في محله الاسمى، وجاء مع قبلة أهل الكتاب بالتعبير بالهوى، وهو الميل إلى غير الحق فقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} [البقرة: 145]. ثم جاء قوله مباشرة: {فَوَلِّ وَجْهَكَ}، تفريعاً على الوعد، وجاء معقباً بالفاء تعجيلاً بهذا الوعد، واختص به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فيه من إرضائه بجميل رغبته، وسيعقبه بقوله تشريكاً للامة معه بقوله سبحانه: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، وهو تنصيص على تعميم حكم استقبال الكعبة لجميع المسلمين لجميع أقطار الأرض، لئلا يظن أن الخطاب خاص بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ببعض الاماكن في مكة أو المدينة، أو ببعض جهات الكعبة. (¬1) أما فائدة قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} قبل: {فَوَلِّ وَجْهَكَ}، وهلا قال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}، ففائدته إظهار الاهتمام برغبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنها في محل تقدير الله، إذ كل ذلك منه لرضاء ربه وقيامه بأوامره أفضل القيام، وأن رغبته ورضاه بحيث يعتنى بها، كما دل عليه وصف القبلة بجملة: {تَرْضَاهَا} (¬2). ¬

(¬1) انظر الالوسى، روح المعانى (2/ 15)، أبا السعود، إرشاد العقل السليم (1/ 208)، والطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 30). (¬2) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 28).

وهنا يبين عظيم قدره، وعلو درجته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خضم تلك الأحداث الكبيرة؛ التى هبت سمومها على المسلمين في تلك الآونة، لتؤكد لهم ارتباطه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسماء، ولتربط على قلوبهم، ولتدعم خطوات اتباعها التى ذكرت الحكمة فيها ومن أجلها. وننهى الكلام على هذه الآية بالحديث عما ختمت به قبل العودة إلى فهم معنى التوجه ومقصوده إلى القبلة، وختم الآية هو قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)} [البقرة: 144]. وهذا التذييل والختم للآية يبين أمرين واضحين في جملة ما وضَّحت دلالة وإشارة: الأول: وهو أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون بصدق سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حسب البشارة به في كتبهم وأن ذلك يتضمن أن ما جاء به الحق، خاصة وقد عبرت الآية بأوتوا الكتاب دون أن يقال أهل الكتاب لتشير إلى أن المقصود أحبار اليهود وأحبار النصارى، وهم العالمون منهم، والأظهر كذلك أن المراد من بقى منهم على الكفر، فصوغ الكلام على أنهم يخالفون ما يعملون، بانكارهم تحويل القبلة مع علمهم كما ذكرت الآية: {أَنَّهُ الْحَقُّ}، بأسلوب القصر الذى يدل على أن تغيير القبلة هو الحق دون غيره، وهو المبشر به في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم. الثاني: أن قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}، كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم، وهو عملهم بغير ما علموا بسبب المكابرة والعناد والسفه؛ لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه. ويستلزم وعيدهم هذا المقام الخطابى وعداً للمسلمين على عظيم منزلتهم؛ لأن الوعيد لهؤلاء السفهاء ترتب على مخالفتهم للمؤمنين، فلا جرم سيلزم للمؤمنين جزاء على اتباعهم لتغيير القبلة. (¬1) ¬

(¬1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم (1/ 208)، والطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 34)، والألوسى، روح المعانى (2/ 15 - 16).

أما العود الذى نوهنا إليه آنفاً فهو أن من عمل المؤرخ أن ينظر في الباعث على الحدث التاريخى، ومعرفة أسبابه وكوامنه وعلله، ولذا ينبغى النظر بعد الاشارة الأولى التى سبقت الكلام على القبلة، إلى مقصود هذا الأمر وباعثه على حسب ما استقر من فهم الشرع والواقع. ونسارع بالقول أن الباعث على استقبال القبلة باعث عظيم، خاصة وقد بُدِأَ في وضع اللبنات كلها في صرح الإسلام العظيم، عقيدة وعبادة وسلوكاً ودعوة ... إلى آخره، ليكون تأسيساً وتأصيلاً لا انفصام فيه ولا تراجع عن ثوابته وما يحقق غاياته وأهدافه ولشرح ذلك الباعث وتبيينه يقال: إن مقصود الصلاة العبادة والخضوع لله تعالى، وبمقدار استحضار المعبود يقوى الخضوع له، فتترتب عليه آثاره الطيبة في إخلاص العبد لربه وإقباله على عبادته، وذلك ملاك الامتثال والاجتناب. ولهذا جاء في الحديث: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (¬1). ولما تنزه سبحانه عن أن يحيط به الحس تعين لمن يحاول أن يستحضر عظمته أن يجعل له مذكراً به من شيء له انتساب خاص به. (¬2) يقول الفخر الرازى: إن الله تعالى خلق في الانسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجسام، وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها، فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلى مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية بحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعانى العقلية ... ، إلى أن يقول: ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لابد أن يستقبله بوجهه وأن لا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له فاستقبال القبلة في الصلاة يجرى مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً ¬

(¬1) البخاري، الصحيح (48)، مسلم، الصحيح (9). (¬2) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 30).

عنه، والقراءة والتسبيحات تجرى مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجرى مجرى الخدمة.» (¬1) فإذا تعذر استحضار الذات المطلوبة بالحس فاستحضارها يكون بشيء له انتساب إليها مباشرة كالديار، أو بواسطة كالبرق والنسيم ونحو ذلك، أو بالشبه كالغزال عند المحبين، وقال مالك بن الريب: دَعانى الهَوى من أهْلِ وُدّى وجيرتى ... بذِى الطّيّسَيْنِ فالتفتُّ وُرائيَا والله تعالى منزه عن أن يحيط به الحس فوسيلة استحضار صفاته هي استحضار ما فيه مزيد دلالة عليه سبحانه من الصفات. لا جرم أن أوْلى المخلوقات بأن يجعل وسيلة لاستحضار صفات الخالق في نفس عبده هي المخلوقات التى كان وجودها لأجل الدلالة على توحيد الله وتنزيهه ووصفه بصفات الكمال، مع تجريدها عن كل ما يوهم أنها المقصودة بالعبادة، وتلك هي المساجد التى بناها إبراهيم - عليه السلام -، فبنى الكعبة أول بيت، وبنى مسجداً في مكان المسجد الأقصى وغير ذلك. فإذا استقبل المؤمن بالله شيئاً من البيوت التى أقيمت لمناهضة أهل الشرك، وللدلالة على توحيد الله وتمجيده، كان من استحضار صفات الخالق بما هو أشد أضافة إليه. لكن هذه البيوت على كثرتها لا تتفاضل إلا بإخلاص النية وكونها مبنية لذلك، وسابقة فيه، لأن السابق الدال لمؤسس اللاحق على تأسيسه، قال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]، وقال في مسجد الضرار: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]، لأنه أسس بنية التفريق بين المؤمنين وإرصاد لمن حارب الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ¬

(¬1) الفخر الرازى، التفسير الكبير (2/ 466 - 467).

وللأسبقية قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} [آل عمران: 96]، فجعله هدى للناس لأنه أول بيت، فالبيوت التى أقيمت بعده كبيت المقدس من آثار اهتداء من بناها بالبيت الأول. فلا شك أن أول بناء أقيم لتوحيد الله تعالى وتنزيهه وإعلان ذلك، وإبطال الاشراك هو الكعبة، وبناها أول من حاجَّ الوثنيين بالأدلة، وقاومهم بجعل أصنامهم جذاذاً، ثم قام بأمر الله تعالى بهذا البناء المهيب توحيداً وذكرا؛ ليعلم كل من أتى سبب بنائه، ومضت على ذلك العصور، وتمضى إلى يوم القيامة تذكر رؤيته بالله مع مزية الأولية الباقية، وميزة بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام له بأيديهما دون معونة أحد ولذلك فهو أعرف في الدلالة على التوحيد والرسالة معاً، وهما قطبا إيمان المؤمنين وفي هذه الصفة لا يشاركه غيره. (¬1) ثم سن الحج إليه لتجديد هذه الذكرى، ولتعميمها في الأمم الأخرى، فلا جرم بعد ذلك كله أن يكون أَوْلى الموجودات بالاستقبال لمن يريد استحضار جلال الربوبية الحقة، وما بنيت بيوت الله تعالى كالمسجد الأقصى إلا بعده بعدة قرون فكان حرياً أن يكون قبلة كل من أسلم لله تعالى، وقبلة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقبلة المؤمنين معه بالأولية. وما كان استقبال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبيت المقدس إذن إلا لهذه الحكم التى ذكرنا، وكان في التحويل بعد ذلك إلى الكعبة علاوة على ما سبق بشارة للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال، وبالتالى ستكون وقعة بدر هي الفيصل بين المسلمين وبينهم لذا كان موضوع القبلة بهذا القدر اليسير - الذى يظن به الطول – من أهم الموضوعات الفارقة التى توجه المؤمنين المتقين الوجهة الصحيحة بإخلاص القصد والوجه لله تعالى وبداية للتمايز الذى لا مفاصلة فيه بغير غبش ولا ضبابية بين رافعى راية الله وغيرهم في كل سلوكهم، وتأكيداً ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (2/ 30 - 32).

بعد تأكيد لهذه العقيدة الحقة التى لا تريد إلا الإخلاص لا تبتغى علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما تريد علوا للإيمان وأن يرفرف على أرجاء المعمورة رافعاً تكبير الله وحكمه؛ لتصل الأرض بالسماء، مع استعلاء المؤمنين بدينهم لاتصالهم بخالقهم ومعبودهم، مع المناداة حين كل توجه للقبلة بالمساواة والعدل الرحمة وبأن الشرف والكرم والمكانة للتقوى قلباً وقالباً، مع تحقيق روح الإخوة والتكافل والتضامن وإنكار الذات، مع التذكير في كل مناداة بأن كل المؤمنين في الأرض جميعها متجهون نفس الوجهة يدعو أقصاهم لأقصاهم وأعلاهم لأدناهم، ويحزن المتوارى وراء السهول والوديان والجبال للقريب منه والبعيد إذا مسه إذى أو أصابته لأواء، يرجو أن يمكن أن يفديه بماله ونفسه، ويفر ح ويتهلل لكل خبر يأتيه عن سرور إخوانه بنصر أو بما ينشرح به الصدر. وكثير بعد ذلك لا يحوطه به العد، ولا يدخل تحت الحصر إن ما ماجت به المدينة المنورة من جراء تحويل القبلة لم يكن أمام ذرة مما رأينا شيئاً ذا بال، بعدما توالت تلك الحكم وظهرت تلك المنح الآلهية لمن يتبع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. جاءت غزوة بدر تتويجاً لهذا الاستكمال لهذا التوجه، مع تربية المؤمنين على القيام بضرائب وتكاليف هذا التوجه، وما أوتى من أوتى منهم بعد ذلك في مواقف انكسار إلا بغياب شيء من هذه التوجيهات.

المبحث الثاني غزوة بدر في السيرة المشرفة

المبحث الثاني غزوة بدر في السيرة المشرفة وصل حديث ما سبق من السيرة، إلى تلك النتيجة المتوقعة بين المسلمين وكفار قريش، وهي ذلك الصدام الدامى، فكانت غزوة بدر الكبرى، فبالرغم من تهديد المسلمين لطرق قريش التجارية إلى الشام، لم يشتبكوا مع قوافل قريش في قتال حاسم، حتى هذه المرحلة، مما جعل قريشاً تواصل إرسال قوافلها التجارية، مع تأمين الحراسة لها، ومع ذلك كان المسلمون لها بالمرصاد؛ فلما بلغهم تحرك قافلة كبيرة لقريش، تحمل أموالاً عظيمة لها، عائدة من الشام، يحرسها ثلاثون أو أربعون رجلاً، بقيادة أبى سفيان بن حرب (¬1)، أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَسْبَس بن عمرو إلى بدر، لاستطلاع أخبار القافلة، فلما رجع إليه، ندب المسلمين إليها، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله ينفكلموها» (¬2). خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن كان مستعداً - متعجلاً، لئلا تفوتهم القافلة، دون أن ينتظر من رغب في الخروج من سكان العوالى ليأتى بظهره (¬3)؛ ولذا لم يعاتب أحداً تخلف عنها (¬4)، فكان ¬

(¬1) رواه ابن اسحاق باسناد حسن، ابن هشام (2/ 182 - 183) تحقيق محمد فهمى السرجانى وآخر، المكتبة التوفيقية ط 1، وانظر ابن حزم، جوامع السيرة (107). (¬2) المصدر السابق، أما حديث بَسْبَس فهو ثابت في صحيح مسلم (1901)، وانظر شرح النووى للحديث، وضبط الإسم تصحيحاً وتصحيفاً، والحديث كذلك في ترجمته في الإصابة لإبن حجر (1/ 98)، وانظر د. أكرم العمرى السيرة (354)، د. مهدى رزق الله السيرة (337). (¬3) مسلم من حديث أنس (1901)، وكذا الطبرانى كما في مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 67) وقال: رجاله ثقات. (¬4) البخاري من حديث كعب بن مالك (4418).

جيش المسلمين لا يمثل كل طاقاتهم العسكرية؛ فإنهم خرجوا لملاقاة القافلة، ولم يعلموا أنهم سيواجهون جيش قريش. كان تعدادهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً (¬1)، منهم مائة من المهاجرين، وبقيتهم من الأنصار. هذه رواية الزبير بن العوام، أما رواية جابر - وقد رده الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدر لصغره - أن المهاجرين يزيدون على الستين، والأنصار يزيدون على الأربعين ومائتين (¬2). وقد أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحذيفة بن اليمان، ولأبيه - رضي الله عنهما - بعدم الخروج معه لأنهما كانا قد وعدا كفار قريش بعدم القتال معه؛ فطلب منهما الوفاء بعهدهما (¬3). التحق أحد شجعان المشركين بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الطريق، ليقاتل مع قومه، فرده رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «ارجع، فلن استعين بمشرك»؛ كرر الرجل المحاولة، فلم يقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلم الرجل والتحق بالمسلمين (¬4). وهنا تظهر قضية العقيدة بصبغتها الإسلامية، خاصة في أول معركة يقاتل فيها المسلمون. كان مع المسلمين فَرَسان، وسبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكان أبو لبابة، وعلى بن أبى طالب زميلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعندما جاء دوره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المشى، قالا له: «نحن نمشى عنك» فقال لهما: «ما أنتما بأقوى منى، ولا أنا بأغنى عن الأجر ¬

(¬1) هذه رواية البخاري، فتح الباري (3956 - 3959)، وعند مسلم بالجزم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، وهو الأولى ذكره أحمد محمد العليمى باوزير، مرويات غزوة بدر رسالة ماجستير منشورة، مكتبة طيب (ط 1) 1400هـ - 1980 م، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (337). (¬2) البخاري، فتح الباري (3956)، وانظر كلام ابن حجر على الروايات المختلفة في ذلك. (¬3) النووى، شرح صحيح مسلم (12/ 144)، دار الفكر بيروت ينقل من طبعتنا. (¬4) النووى، شرح صحيح مسلم (12/ 198) ينقل كذلك من طبعتنا، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (355).

منكما» (¬1)، وهذا من أروع المواقف - مواقف هذا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومواقف الإسلام - عندما يستوى القائد والجند في التحمل والبذل، أن يمشى القائد وجنده راكبون، يطلب الأجر بإخلاص وصدق، ويحرص عليه أشد من حرص جنوده، بل ويسابق جنده في تحمل المشاق، ويقاسمهم الآلام والمتاعب، حائزاً فيها النصيب الأعظم، ولا يرضى إلا أن يكون أمامهم في مواجهتها؛ إن ذلك مما يدفعهم إلى التضحية والفداء، متطلعين إلى رضوان الله وثوابه؛ وقد رأينا ذلك في بدر كما سنذكر - إن شاء الله - شيئاً من سيرتهم. في الطريق، عند بلوغهم الروحاء - مكان على بعد أربعين ميلاً من المدينة - رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا لبابة، وأَمَّره على المدينة، وكان قد جعل ابن أم مكتوم على الصلاة، وأصبح مرثد بن أبى مرثد مكان أبى لبابة في زمالة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على البعير (¬2). لما علم أبو سفيان بالخطر المحدق بقافلة قريش ورجالها، خاصة وقد تكرر ذلك من المسلمين سأل مجدى بن عمرو - عندما اقترب من بدر - عن جيش الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره براكبين أناخا إلى تل، عرف أبو سفيان أنهما من المدينة فأسرع تاركاً الطريق الرئيسى على يسار بدر إلى الساحل، وأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري يستنجد بقريش (¬3). لما علمت قريش الخبر أخذت في الاستعداد للخروج على عجل لإنقاذ عيرها ورجالها، ولتلتقى بالمسلمين في حرب تريد أن تقضى فيها عليهم، لتستريح من الدعوة ورجالها، وما يهدد تجارتها. ¬

(¬1) أحمد، المسند (6/ 3 طبعة شاكر)، وقال الشيخ شاكر: اسناده صحيح، وقد أخرجه الحاكم (3/ 20)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبى. (¬2) انظر ابن هشام السيرة النبوية (2/ 187)، في قضية بدر بإسناد حسن، وابن كثير، البداية والنهاية (3/ 285). (¬3) ابن هشام السيرة النبوية (2/ 183).

وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا في المنام قبل مجيء ضمضم؛ أن رجلاً استنفر قريشاً وألقى بصخرة من رأس جبل أبى قبيس بمكة، فتفتت ولم تترك داراً من دور قريش إلا دخل فيها بعضها، وأثارت الرؤيا خصومة بين العباس بن عبد المطلب وأبى جهل حتى قدم ضمضم وأنذرهم خبر القافلة، فصدق الله رؤيا عاتكة (¬1). كانت قريش في أشد حالات الغضب، لقد رأت فيما حدث امتهاناً لكرامتهاً وحطاً لمكانتهاً بين العرب، فضلاً عن ضرب مصالحها الاقتصادية، لذلك أسرعت في الخروج، وحاوت أن تجند كل طاقتها عدداً وعدة، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبى لهب، ولكنه أرسل رجلاً مكانه لدين عليه (¬2)، فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً. أما أبو سفيان فقد نجا بالقافلة وزال الخطر، بعد أن سلك الساحل تاركاً بدراً؛ وكان جيش قريش قد وصل الجحفة (¬3)، فأرسل إليهم يخبرهم بنجاة القافلة، وأن يعودوا إلى مكة. وهمَّ جيش مكة بالرجوع، ولكن أبا جهل رفض ذلك، قائلاً: «والله لا نرجع حتى نَرِد بدراً فنقيم بها ثلاثاً، فننحر الجزور ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً، فامضوا» (¬4). ¬

(¬1) رواه الحاكم، المستدرك (3/ 19)، وذكره ابن كثير، البداية والنهاية، من طريق ابن اسحاق وبإسناد حسن إلى عروة ولكنه مرسل، ولكن الروايات تعضد صحة الواقعة، الاصابة (4/ 347)، الهيثمى، مجمع الزوائد (6/ 72)، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (356)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (339). (¬2) ابن اسحاق في قصة بدر، ابن هشام السيرة النبوية (2/ 185). (¬3) على ثلاث مراحل من مكة في طريق المدينة. انظر معجم البلدان، الحموي (1/ 475). (¬4) الطبرى، التفسير (13/ 579) بإسناد حسن. تحقيق شاكر، وهو رواية ابن اسحاق لغزوة بدر، ابن هشام السيرة (2/ 192).

وكان عدد الجيش قد بلغ ألفاً (¬1)، معهم القيان يضربن بالدفوف، ويتغنون بهجاء المسلمين (¬2). خالف بنو زهرة كلام أبى جهل، ورجع الأخنس بن شريق بهم، وكذلك طالب بن أبى طالب، لما اتهمهم - أي بنى هاشم - من اتهم من قريش بأن هواهم مع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. تقدم جيش المشركين - مع ذلك - حتى نزلوا قريباً من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى (¬3)، وتبين بذلك أن هدفهم ليس إنقاذ القافلة، بل تأديب المسلمين، وتخليص طرق التجارة من تعرضهم، وإعلاء شأن قريش وهيبتها عند العرب. أما عن المسلمين، وقد وصلوا بدراً لملاقاة القافلة غير مستعدين لغير ذلك من مواجهة الجيش المكى، وخشى فريق من المؤمنين من لقاءٍ لم يتجهزوا له بكامل عدتهم وعتادهم، فجادلوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وفيها نزل القرآن الكريم (¬4): {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 5 - 7]. فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باستشارة الصحابة بعد أن أخبرهم بالموقف وما عزمت عليه قريش (¬5)، فقام من قادة المهاجرين أبو بكر - رضي الله عنه -، فقال وأحسن، وقام عمر - رضي الله عنه - فقال وأحسن، وقام ¬

(¬1) النووى، شرح صحيح مسلم (2/ 84). (¬2) ابن كثير، البداية والنهاية (3/ 260) وذكر ابن اسحاق أنهم كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً معهم مائة فرس، ومعهم القيان. (¬3) ابن هشام، السيرة النبوية (3/ 193). (¬4) سنعود إليها إن شاء الله في عرض السيرة في القرآن الكريم مع المقارنة والتحليل. (¬5) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 189)، وإسناده صحيح. وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (358).

المقداد بن عمرو - رضي الله عنه - فقال: «يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (¬1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه»، فقال له الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيراً ودعا له. ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشيروا علىَّ أيها الناس (¬2)؛وإنما يريد أن يسمع كلام الأنصار؛ أدرك سعد بن معاذ - رضي الله عنه - ذلك فقال للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟» قال: «أجل» قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق .... إلى آخر الرواية التى ذكرنا من قبل (¬3). فَسُرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقول سعد - رضي الله عنه - ونشطه، ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن انظر إلى مصارع القوم» (¬4) وعندما وصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريباً من الصفراء أرسل بَسْبَس بن عمرو الجهنى، وعدى بن أبى الزغباء الجهنى إلى بدر، يتحسسان له الأخبار عن أبى سفيان وعيره (¬5)، وقيل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بنفسه هو وأبو بكر - رضي الله عنه -، لذلك عرفا بالضبط مكان جيش المشركين (¬6)، وفي مساء يومه ذلك أرسل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علياً ¬

(¬1) برك الغِماد: بالكسر ويجوز فيها الضم، وهو موضع وراء مكة، بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن، دفن عنده عبد الله بن جُدعان، انظر معجم البلدان، الحموي (1/ 283). (¬2) لأن بيعة العقبة اشترط فيها الأنصار منعة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندما يبلغ المدينة، وأن دستور المدينة يحتم عليهم الدفاع مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضد من دهم يثرب، وظن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الأنصار تعلم أن ليس عليها أن يسيروا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عدوهم. (¬3) انظر صـ 53. (¬4) ابن اسحاق وعنه ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 190)، وخبر هذه المشورة في بدر ثابت في البخاري (3952)، ومسلم (1779)، وانظر ابن حجر، فتح الباري (15/ 151)، وحاشية تخريج سيرة ابن هشام (2/ 190)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (342). (¬5) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 188 - 189) من حديث بدر الصحيح عند ابن اسحاق. (¬6) ابن هشام السيرة (2/ 190)، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (343).

والزبير وسعد بن أبى وقاص فأسر ساقيين من سقاة قريش وأتوا بهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلى، وبعد الصلاة استجوبهما فعرف منهما عدد قريش مما ينحرون من الجزور، وذكروا له من بالجيش من أشراف مكة (¬1)، فقال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» (¬2). وأشار - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أماكن مصارع بعض قادة قريش فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (¬3). سبق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشاً إلى ماء بدر ليحول بينهم وبين الماء، وعندما استقروا في المكان، بنوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عريشاً - شبه خيمة - ليكون مقراً للقيادة وظلاً للقائد (¬4). ومما طمأن الله به المؤمنين .. إنزال المطر تلك الليلة على معسكر المؤمنين، ووبالاً شديداً على المشركين، وفيه يقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]) (¬5) (، فكان دهساً للمؤمنين، ثبت به أقدامهم، وربط على قلوبهم، وأذهب عنهم رجز الشيطان. كذلك من نعمه تعالى عليهم وفضله الذى تقووا به على ملاقاة الكافرين يوم بدر، إلقاء النعاس عليهم، وإنه لمن المنن عظيمة، أن ينام الجند في وقت الخطر لملاقاة عدوهم، ¬

(¬1) مسلم (1779)، وأحمد في المسند (2/ 193) وهو صحيح الإسناد عند الشيخ أحمد شاكر، وقد صحح إسناد أحمد الهيثمى في مجمع الزوائد (6/ 76) فقال: رجال أحمد رجا الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية المصدر السابق نفس الموضع. (¬2) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 191). (¬3) مسلم (1779)، في قصة غزوة بدر. (¬4) قصة العريش ثابتة بأحاديث صحيحة كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن اسحاق (3/ 312)، وورد في حديث ابن عباس عند البخاري (4877)، وهو في قبة ... إلى آخر الحديث، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (346). (¬5) الخبر عند أحمد، المسند تحقيق أحمد شاكر (2/ 193)، وعند ابن هشام (193)، وابن كثير البداية والنهاية (3/ 292)، والتفسير له (3/ 546 - 564).

فإنه راحه لهم، وأمنة عليهم، يقومون بعده بروح عالية مطمئنة واثقة، مع استجمام أبدانهم المرهقة، ليرفعوا راية الله الذى لم يتركهم، وفعل لهم ما لا يستطيع أحد أن يقوم به. وفي ذلك يقول الحق تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} (¬1). وكذلك أوقع الخلاف في صفوف العدو، فقد روى أن عتبة بن ربيعة من صناديد قريش قام خطيباً ليثنى قومه عن القتال، لأنه علم أن المسلمين لن يموت منهم أحد حتى يقتل واحداً أمامه من المشركين (¬2)، ولذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا (¬3)»، وكان ذلك عتبة بن ربيعة، واتهمه أبو جهل بالخوف حتى ذعر لذلك وقام مقاتلاً. موقف الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كان موقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدر يُنِمُّ عن اتصال الأرض بالسماء، مع اتخاذ كل الأسباب المادية والمعنوية لقتال العدو، ثم تقدم هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمام الجند المقاتلين كافة. أما عن استنفاد السبل المادية والمعنوية .. فقد عسكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكان أفضل من مكان قريش، أرضاً وماءً، وعبأ قواته بطريقة جديدة لا تعرفها قريش (¬4)، وهي تعبئة الصفوف ليقلل بها من خسائر الجيش الإسلامي، ¬

(¬1) أحمد، المسند (2/ 193). (¬2) وفيه قصة عمرو بن وهب الجمحى حيث أرسلته قريش ليعلم لهم عدد المسلمين، فرجع وأخبرهم ولكنه قال: «قد رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فَرَوْا رأيكم، والحديث سبب اعتراض عتبة بن ربيعة على القتال، وقد رواه ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 194)». (¬3) أحمد، المسند (2/ 193). (¬4) غير طريق الكر والفر التي تجيدها قريش.

وفيها مزية السيطرة، لكامل قوة الجيش، والتأمين لعمق الجيش، حتى تبقى دائماً بيد القائد قوة احتياطية في الخلف يعالج بها المواقف التى ليست في الحسبان (¬1). اتخاذ الخيمة - العريش - لإدارة المعركة: وقد سبق. القتال بنفسه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حيث أصدر أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه قائلاً: «لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» (¬2)، وكذلك ورد عن على - رضي الله عنه - قوله: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً» (¬3)، لذا قال ابن كثير: «وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالاً شديداً، ببدنه، وكذلك أبو بكر الصديق، كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا، فحثا على القتال وقاتلا بالأبدان جمعاً بين المقامين الشريفين» (¬4). عن التعبئة المعنوية للجند: فأول ما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرضاً على القتال والثبات ومواجهة الكفرة، مع البذل والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى: «والذى بنفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» (¬5)، وفي رواية مسلم (¬6)، أنه عندما دنا المشركون قال ¬

(¬1) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (361)، نقلاً عن اللواء. محمود شيت خطاب في كتابه الرسول القائد (78 - 79). (¬2) مسلم، الصحيح (1901). (¬3) أحمد المسند بتحقيق شاكر (2/ 64)، وقال: إسناده صحيح. (¬4) ابن كثير، البداية والنهاية (3/ 306). (¬5) ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 198). (¬6) مسلم، الصحيح (1901)، وابن سعد (2/ 25)، باختصار د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (349).

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض»، وعندما سمع ذلك عُمير بن الحُمام الأنصارى، قال: يارسول الله: أجنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم» قال: بخٍ بخٍ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما يحملك على قول بخٍ بخٍ» قال: لا والله يارسول الله، إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: «فإنك من أهلها»، فأخرج تمرات من قَرَنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة. قال: «فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل»، وقال كذلك عندما سأله أحد الصحابة، وهو عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يُضحك الربُ من عبده، قال: «غَمْسَه يَدَه في العدو حاسراً»، فنزع درعاً كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل» (¬1)، ثم أخذ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في توجيه أوامر الحرب قائلاً: «إذا أكثبوكم فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم» (¬2). أما ارتباط الأرض بالسماء في شخصه الكريم، طلباً للنصر من الله تعالى، وتعلقاً بخالق الأسباب جل وعلا، فقد ظهر في دعائه لربه، واستغاثته واستنصاره به، مما يبين توكله على الله، لا على الأسباب، واستكماله لكل قوى النصر، ويقينه بأن النصر من عند الله تعالى، فوجدناه منفرداً بربه ليلة بدر يدعوه، يقول الإمام على بن أبى طالب - رضي الله عنه -، في وصف تلك الليلة، ليلة السابع عشر من رمضان سنة اثنين من الهجرة وأمامهم معسكر المشركين: «لقد رأيتنا يوم بدر وما منَّا إلا نائم، إلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان يصلى إلى شجرة حتى أصبح ...». ويبدو أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يريح جيشه تلك الليلة، فقام هو بنفسه بحراستهم (¬3)، ¬

(¬1) رواه ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 199)، وهو مرسل. (¬2) البخاري، فتح الباري (5/ 173 / 3985/ 12 / 48/ 2900). (¬3) الحديث رواه أحمد، المسند، الفتح الربانى (21/ 30 - 36)، بإسناد صحيح، انظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (360 - 361).

وفي صبيحة يوم بدر، عندما تراءى الجمعان، ما زال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهتف بربه موصولاً قلبه به، يقول على بن أبى طالب - رضي الله عنه -، دعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه قائلاً: «اللهم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم الغداة» (¬1)، وحكى كذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إكثار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الدعاء يوم بدر، قائلاً: «لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبى الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم انجز لى ما عدتنى، اللهم آت ما وعدتنى، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر - رضي الله عنه -، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبى الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9]، فأمده الله بالملائكة. وقد خرج من العريش وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر: 45] (¬2). وارتباطه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسماء في مثل هذا الموقف، دليل الوحى والرسالة والنبوة، إذ من يدعو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويناشده غير رب الأرض والسماء، لينصره على قريش في موقع لا يظن به النصر، وهو مستيقن بذلك النصر، يبشر به أصحابه، لو وقع غير ذلك ما قامت للدعوة قائمة. ¬

(¬1) الخبر رواه ابن هشام (2/ 194)، وثبت صحيحاً من قول أبى جهل يومها استفتاحه ودعاؤه بقوله: اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه - أي أهلكه - الغداة، فكان هو المستفتح أي الحاكم على نفسه فجاءه الفتح بقتله وهزيمتة قريش ليثبت صدق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنه النبي، وأن ربه قد إستجاب له وفي ذلك نزل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)} [الأنفال: 19]، وخبر أبى جهل رواه أحمد: الفتح الربانى (21/ 44)، والطبرى في التفسير (13/ 454)، وصححه شاكر، والدعاء إلى قول الراوى فكان هو المستفتح رواه ابن اسحاق - ابن هشام (2/ 199). (¬2) من رواية مسلم (ح 1763)، وفيه من رواية البخاري كذلك جزء (ح 4875 - 4877)، وكذلك أحمد في المسند (5/ 18)، صحح الشيخ شاكر إسناده، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (347).

بدء المعركة: وابتدأت المعركة بالمبارزات الفردية، وقبل المبارزة والقتال، خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومى، يريد هدم حوض ماء المسلمين، فقال: «أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه» وتصدى له حمزة - رضي الله عنه -، وضربه ضربة أطارت قدمه بنصف ساقه، ثم حبا إلى الحوض مضرجاً بدمائه ليبر قسمه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض» (¬1). خرج للمبارزة ثلاثة من فرسان قريش، وهم عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، والوليد بن عتبة، فخرج إليهم شباب من الأنصار، فلم يقبلوا بغير بنى عمومتهم من المهاجرين، فأمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمزة، وعبيدة بن الحارث، وعلياً بمبارزتهم، وقد قتل حمزة عتبة، وقتل علىُّ شيبة، وأما عبيدة فقد تصدى للوليد بن عتبة، وجرح كل واحد صاحبه، فأعان حمزة وعلى عبيدة على قتل الوليد، واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين (¬2). أثرت – لا شك - هذه البداية السيئة على المشركين، وألقت في قلوبهم، بظلال قاتمة النتيجة، وَخِيمَةِ العاقبة، في الوقت الذى بدأ المسلمون معركتهم، وهم في أعلى درجات القوة الإيمانية، والاستبشار بالنصر وحسن العاقبة. جعلت هذه البداية قريشاً تبدأ بالهجوم على المسلمين، فردوهم بالرمى بالنبل منفذين أوامر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم بدأ الالتحام والقتال، وحمى الوطيس، وأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفاً من حصى، ¬

(¬1) ابن اسحاق، وذكره ابن هشام (2/ 196). (¬2) أبو داود، السنن (2665)، وقال الحافظ في الفتح: " وهذا أصح الروايات (15/ 162)، طبعة الكليات الأزهر، وانظر الإمام أحمد، المسند (21/ 31 - 32)، الفتح الربانى للساعاتى، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (6/ 76)، ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة ". وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية من مصادرها الأصلية (350).

فرمى به وجوه القوم، فما بقى منهم أحد إلا امتلأت عيناه من الحصباء وفيها نزلت الآية: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] (¬1). قُتل في هذه الملحمة سبعون من قريش، وأُسِر مثلهم، وكان يصرع في المواضع التي بَيَّنها الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه قبل المعركة، من ذكرهم بأسمائهم (¬2)، وكان ممن قُتل من قادة قريش أبو جهل، عمرو بن هشام المخزومي، الذى وصفه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه فرعون هذه الأمة (¬3)، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء - رضي الله عنهما -، في قصة في الصحيحين وأجهز عليه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (¬4). ومنهم أمية بن خلف، الذى كان يعذب بلالاً - رضي الله عنه - في مكة، أسره عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وأسر معه ابنه علياً، فرآه بلال - رضي الله عنه - فقال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا؛ واستصرخ عليه الأنصار فأعانوه على قتله هو وابنه على (¬5)، وكان وفاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاضراً آنئذ، كما هو حاله المشرف دائماً، ولم ينسه في غمرة هذا الصدام الدامى، فأصدر توصياته بعدم قتل بعض المشركين ممن كان يقف مساعداً للمؤمنين في مكة، وقت اضطهادهم وتعذيبهم، منهم أبو البخترى بن هشام، وكان ممن سعى في نقض صحيفة المقاطعة، ولم يؤذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم نفر من بنى هاشم خرجوا مع قريش مكرهين، كالعباس بن عبد المطلب عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والذى وقف بجواره طوال عهده بمكة، خاصة بعد وفاة عمه أبى طالب، ¬

(¬1) الحديث فرواه الهيثمى في المجمع (6/ 84)، وقال رواه الطبرانى ورجاله رجال الصحيح، وابن اسحاق - ابن هشام (2/ 199)، وحسنه الألبانى في فقة السيرة (228)، طبعة دار القلم دمشق 1405 هـ - 1985 م. (¬2) أحمد، المسند (1/ 232)، بإسناد صحيح، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (366). (¬3) الهيثمى، مجمع الزوائد (6/ 79)، من طريق الطبرانى وقال: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن وهب ابن أبى كريمة وهو ثقة. (¬4) البخاري (3141)، ومسلم (1752). (¬5) البخاري، روى القصة بتمامها (2301)، ورواه ابن اسحاق في قصة بدر - ابن هشام (2/ 202).

وقد ذكر العباس - رضي الله عنه - نفسه، أنه كان مسلماً وإنما خرج مستكرهاً (¬1)، وعندما وصل أبا حذيفة كلامُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا، قال ذلك القول الذى ندم عليه بعد ذلك وهو: «أنقتل آباءنا وآبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه - أو لألجمنه - بالسيف، فبلغت مقالته رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لعمر: «يا أبا حفص! أيضرب وجه عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالسيف؟» فقال عمر: «يا رسول الله، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق». فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عنى الشهادة؛ فقتل يوم اليمامة شهيداً (¬2). وقد يظن بعضهم مثل هذا الظن من محاباة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأقربائه، ولكنه لا يظل خائفاً من هذا الظن، لا يعتقد غير الشهادة، والموت في سبيل الله هو الذى ينجيه منه، بل يظن بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك وهو لا يبالى بالوقوع الضال في عرضه الشريف، والبالغ أسوأ دركات الظن به؛ لأن قوله ذلك إنما هو عن الله تعالى، فهو لا ينطق عن الهوى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هذا الأول في هذا الموقف، والتدليل على سوء الظن. الثاني: أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بعدم قتل أبى البخترى، وليس عماً له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا من أبناء عمومته، ولكن لمواقفه المشكورة مع المسلمين في مكة. الثالث: في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيضرب وجه العباس عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسيف» ليس الاستفهام فيه لإنكار ضربه لكونه عم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلا فلِمَ منع قتل غيره، وهو ليس عماً، أو قريباً له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فمحمل الكلام إذاً، أيضرب وجه العباس عمِّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذى ليس هناك ¬

(¬1) الطبرى، جامع البيان تحقيق الشيخ أحمد شاكر (14/ 73)، وانظر د. أكرم العمرى: المجتمع المدنى (55)، وانظر د. مهدى رزق، السيرة النبوية (360). (¬2) باوزير، مرويات غزوة بدر (268)، حيث ذهب إلى تصحيح السند حيث هو روايه ابن اسحاق لغزو بدر، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (350).

مثله، وقف موقفه مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفعل وفعل للمسلمين، أيضرب وجهه مثل هذا بالسيف؟! الرابع: أن هناك من بنى عمومته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حضر بدراً، كأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبى طالب، وغيرهم، ولم يأمر بتركهم ولا حماية حيواتهم. الخامس: هذا الوفاء الفذ الذى كان يمكن أن يحمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المن على جميع الأسرى بغير فداء للمطعم بن عدى - وقد مات كافراً - وذلك في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كان المطعم بن عدى حياً ثم كلمنى في هؤلاء النتن لأطلقتهم له»، وما كان ذلك إلا لما قام به المطعم من حماية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجارته له عند دخوله مكة راجعاً مصاباً من الطائف. وهذا يوضح لنا الرد على ما سنذكر من أقوال المستشرقين، واتهاماتهم للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة بدر، بما سنذكر طرفاً منه. كما يؤكد كذلك هذه الروح العالية، التى لا تنسى اليد التى امتدت لها خلال الضيق والأذى أن تكافئها؛ لا أن تقول: لو قتل هؤلاء أهذا كان جزائى الذى قدمته لهم؟! ألم يشفع عندهم ما بذلته لهم حال اضطهادهم وتعذيبهم وضعفهم؟! ألم تكن هذه يداً بيضاء امتدت إليهم يوماً تغيثهم من شدة عانوها، أو محنة لاقوها؟! ولم تمتد لهم يوماً بأذى، فاستوت اليوم مع من آذوهم وعذبوهم؟! لم يكن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبداً كذلك، بل هو المثل الأعلى للوفاء الكامل. نزول الملائكة: لابد من الإشارة إلى مدد السماء في هذه الموقعة الأولى، بنزول الملائكة تؤيد المؤمنين، وتقاتل معهم، وذلك لأمرين:

الأول: تبيين تأييد الله سبحانه وتعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما قال: اللهم نصرك الذى وعدت، إذ كيف يطلب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصراً من إله لم يرسله للناس، ولم ينزل عليه كتابه، ويخصه برسالته؟! الثاني: تحاشى بعض المسلمين من ذكر ذلك، أو تأوله بالتأويلات الباطلة. وفي ذلك الرد على المستشرقين المنكرين لنبوة ورسالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. نسوق – بداية - شيئاً من الآيات القرآنية، تثبت الأمور الثلاثة: الأول: وهي نزول الملائكة. والثاني: نزولهم ببشارة المؤمنين بنصر الله تعالى، رفعاً لمعنوياتهم وإعلاء لإيمانهم ودينهم. والثالث: مقاتلة الملائكة مع المؤمنين. ونبدأ بهذه الآية لوضوحها، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: 123 - 126]. وكذلك قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} (¬1) [الأنفال: 9 - 10]. وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: 12]. ¬

(¬1) والآية أرجع الطبرى الضمير فيها للمؤمنين.

وأما الأحاديث .. فأول ما يقابلنا فيها هو نزول جبريل - عليه السلام -. روى الأموى في مغازيه بإسناد حسن: «خفق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خفقة في العريش ثم انتبه، فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل - عليه السلام - معتجر بعمامة، آخذ بعنان فرسه، يقوده على ثناياه النقع، أتاك نصر الله وعِدَتُه» (¬1). وذكر ابن عباس – رضي الله عنهما - في نزول الملائكة فقال: «بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم (¬2). فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم (¬3) أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصارى فحدث بذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة» (¬4). وروى الإمام أحمد في مسنده، أن رجلاً من الأنصار قصير القامة جاء بالعباس أسيراً، فقال العباس: «يا رسول الله، أن هذا والله ما أسرنى، لقد أسرنى رجل أجلح، من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم». فقال الأنصارى: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: «اسكت! فقد أيدك الله تعالى بملك كريم» (¬5). ¬

(¬1) نقله عنه ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 312) موصولاً، حيث ذكره ابن اسحاق في المغازى، وابن هشام بدون سند، وحسنه الألبانى، فقه السير للغزالى (226)، طبعة دار القلم، دمشق، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (352). (¬2) حيزوم: اسم فرس الملك انظر شرح مسلم. (¬3) الخطم: الأثر على الوجه. (¬4) مسلم، صحيح (1763). (¬5) أحمد، المسند (2/ 192)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وهو في مجمع الزوائد، وقال الهيثمى رجال أحمد رجال الصحيح (6/ 75 - 76). غير حارثة بن مضرب وهو ثقة.

وقد صح اشتراك الملائكة في بدر من قول جبريل - عليه السلام - حين سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين – أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة» (¬1). وهي أحاديث تبين القاطع من أدلة القرآن الكريم وتوضحه، وتضرب له الأمثلة، وتفصل فيه القول، ليتعاضد الجميع على هذا الحدث، الذى لا يكبر على الله تعالى، إذ له الخلق والأمر، يخلق ما يشاء، ويفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهو الرد المجمل على أولئك المصابين بالانهزام النفسى وعقدة الخواجة. ويَرِدُ السؤال: ما الحكمة من اشتراك الملائكة مع أن جبريل - عليه السلام - وحده قادر على إهلاكهم بأمر الله؟ ويحسن نقل كلام الإمام السبكى (¬2)، إذ يجلى الإمام طبيعة الإسلام في تحقيق أهدافه، وارتباط ذلك بالجهد البشرى، في حدود السنن الكونية والقوانين الاجتماعية، وغيرها، فيقول رحمه الله: «وقع ذلك - أي نزول الملائكة - لإرادة أن يكون الفعل للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب، وسنتها التى أجراها الله تعالى في عباده. والله تعالى هو فاعل الجميع. والله أعلم».أي أن القتال وقع تبع السنن الكونية، والقوانين الطبيعية، من رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه؛ وإنما جاءت الملائكة مدداً في القتال ليس إلا، وإن وقع من بعضهم قتال فما يكون إلا في صورة الأسباب الممكنة للبشر، حتى يبقى الفعل والأثر منسوبين للقائمين به؛ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه؛ وما زاد من الملائكة مما أوحى الله تعالى به إليهم، من القيام بتثبيت المؤمنين وتبشيرهم بالنصر، وخذلان العدو وإلقاء الخوف والفشل في قلوبهم، وقد كان ذلك بشهادة المشركين قبل المؤمنين. ¬

(¬1) البخاري (3993). (¬2) ونقله كذلك د. أكرم العمرى، انظر.

ولبعض المفسرين تأويلات أخرى في أمر نزول الملائكة لا نحتاج إلى الوقوف عندها كثيراً. فر الباقون من قريش لا يلوون على شيء بعد مقتل سبعين منهم، وأسر سبعين، تاركين وراءهم كل شيء، فكانت الغنائم التى غنمها المسلمون. أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببدر ثلاثة أيام، وفيها دفن شهداء المسلمين، وهم أربعة عشر، استأثرت رحمة الله بهم فذهبوا إلى عليين، ولم يذكر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليهم (¬1)، ولم يُنْقل أحد منهم من بدر ليدفن في المدينة (¬2)، وأمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسحب قتلى المشركين إلى آبار بدر فألقوا فيها، وفي اليوم الثالث من الأيام الثلاثة، وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أحد الآبار وكان فيه أربعة وعشرون رجلاً من صناديد قريش، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ويقول: «أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟» فقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذى نفس محمد ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (¬3). تلقى المسلمون في المدينة بشرى النصر، حيث أرسل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، ¬

(¬1) وهي السنة في الشهداء. (¬2) ابن هشام، السيرة النبوية (2/ 257 - 258)، وابن كثير البداية والنهاية (3/ 327)، وزاد ابن حجر على الأربعة عشر إثنين، انظر ابن حجر، الإصابة (3/ 328 - 608). (¬3) رواه ابن اسحاق (2/ 74)، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد (3/ 104)، وقال أحمد شاكر إسناده صحيح، وقال ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 341)، هذا على شرط الشيخين، وقد أخرجه البخاري (3976)، من حديث أبى طلحة، انظر ابن هشام (2/ 207)، وقد أنكر السمع من الموتى الشيخ محمد الغزالى في فقة السيرة (233)، بقول السيدة عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقاً»، ورد عليه الشيخ الألبانى في التعليق على فقة السيرة (232)، بقوله أنكره العلماء وبينوا أن الصواب بجانب من رووا هذا الحديث راجع البداية لابن كثير، و (الفتح) لابن حجر، ثم قال وعندى لا تعارض بينهما بل يمكن الجمع وهو الصواب وذكره في (أحكام الجنائز وبدعها).

ليعجل لهم البشارة قبل وصول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكانوا بين الفرح الغامر، والحذر ألا يكون خبر مثل هذه الصاعقة يقيناً، قال أسامة: «فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى»، وكانت الدهشة تعلو الوجوه، أحقاً هزمت قريش! وقتل زعماؤها! وأسر صناديدها! وتحطمت كبرياؤها! وظهرت حقيقة آلهتها الباطلة الزائفة! وعقائدها الضالة!. إن أم المؤمنين سودة لفرط دهشتها تقول لأبى يزيد سهيل بن عمرو ويداه معقودتان إلى عنقه بحبل: «أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً!» فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعلى الله وعلى رسوله؟!» أي تؤلبين، فقالت: «يا رسول الله، والذى بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد، مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل، أن قلت ما قلت» (¬1). في طريق عودة الجيش إلى المدينة، أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل اثنين من الأسرى، هما النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، وكانا يؤذيان المسلمين بمكة، ويشتدان في عداوتهما لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن الوقوع في الأسر لا يعنى صدور عفو عام عن الجرائم التى اقترفها الأسرى أيام حريتهم، وهؤلاء الطغمة من كبراء مكة لهم ماض شنيع، بالغ السوء، في إيذاء الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد أبطرتهم منازلهم فساقوا عامة أهل مكة إلى حرب ما كان لها من داع، فكيف يتركون بعد أن استمكنت الأيدى من خناقهم، أليعودوا مرة أخرى أشد عداوة وطلباً للثأر؟! ... إن الحصول منهم على فداء لا يناسب ما وقع منهم في جنب الله، إنهم مجرمو حرب بالاصطلاح الحديث. إذاً في قتلهما درس بليغ للطغاة؛ وقد رأينا كيف تخلى عقبة عن جبروته، ونادى من للصبية يا محمد أو يا رسول الله؟ فأجابه: النار (¬2). ¬

(¬1) ابن هشام، السيرة (2/ 212)، وذكر صحته د. أكرم العمرى، السيرة (370). (¬2) ابن هشام، السيرة (2/ 211)، ذكر د. مهدى رزق الله أنه يهودى الأصل نقلاً عن السهيلى الروض الأنف (3/ 53)، السيرة النبوية (361).

وصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة هو وجنوده، منصورين مؤيدين مستبشرين بنعمة الله وفضله وعنايته، قد جمعت لهم الأسرى والغنائم. استشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وعمر وعلياً - رضوان الله عليهم - فيما يصنع بهؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإنى أرى أن نأخذ منهم الفدية؛ فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبى طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد قال عمر - رضي الله عنه -: فغدوت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبى بكر وهما يبكيان! فقلت: يا رسول الله أخبرنى ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: للذى عرض علىَّ أصحابك من أخذ الفداء، قد عرض علىَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة - وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: 97 - 98]. ذكرنا الحديث بطوله لنفاسة هذه المعانى التى تبين روابط الإسلام، وعقائد الدين والرد على وات في نظرته في هذا الموقف.

لقد اجتهد الصحابة فيما هو أجدى فائدة، وأولى عاقبة للإسلام والمسلمين في قضية الأسرى، خاصة وهم يرون المؤمنين في تلك البأساء من الجوع والعرى، فإذا بالوحى ينزل ليصحح لهم الاجتهاد، ويبين الأصوب في هذا الأمر، ولكن مع التهديد الشديد في أن أول موقعة للمسلمين كان الواجب هو الإثخان في الأرض، أي إستئصال شأفة هؤلاء المجرمين، حتى يسير موكب الدعوة آمن مما هو فيه الأن، وأن يلقى الرهبة والفزع والرعب في قلوب غيرهم ليفكروا غير مرة قبل أن يهاجموا المسلمين أو أن يتعرضوا لهم. إن الحياة كما تتقدم بالرجال الأخيار، فإنها تتأخر وتتعفن بالعناصر الخبيثة، وإذا كان من حق الشجرة لكى تنمو أن تُقَلَّم، فمن حق الحياة لكى تصلح أن تنقى من العتاة والمجرمين ولن يقوم عوض أبداً عن هذا الحق ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب. لما سمع المؤمنون هذا الدرس ووعوه وتدبروه، أباح لهم من رحمته الانتفاع بما أخذوا من الفداء، فنزل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69]. كان أخذ الفداء بالتالى حلالاً في أول نزوله، ثم جعل الخيار بعد ذلك لإمام المسلمين بين القتل أو الفداء أو المن عدا قتل الأطفال والنساء فلا يجوز قتلهم إذا لم يكونوا محاربين. قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4]. (¬1) وكان فداء الأسير ممن يملك المال هو أربعة آلاف درهم، ومع ذلك من رحمة الإسلام والمسلمين، التى تدل على أن المال لم يكن همهم كما علمهم القرآن الكريم فإنهم كانوا يأخذون من بعض الأسارى ما عندهم، وأطلق الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من لم يقدر على الفداء. ¬

(¬1) ابن كثير، التفسير (4/ 173)، طبعة مكتبة التراث الإسلامي حلب، 1400 هـ - 1980 م.

وكان في الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسلت قلادة لها كانت أهدتها لها أمها السيدة خديجة رضى الله عنها في زواجها لتفدى بها زوجها، فردوها لها، وأطلقوا لها أسيرها لمكانتها من أبيها سيدنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. بل كان وارداً أن يطلق سراحهم جميعاً كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كان المطعم بن عدى حياً ثم كلمنى في هؤلاء النتن لأطلقتهم له» (¬1)، وقد ذكرنا هذا الموقف من قبل حيث كان دور الحماية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند رجوعه من الطائف، مع موقفه من نقض صحيفة الظلم والقطيعة. وإن نظرة سطحية فقط على هذه التصرفات تبين الفارق الضخم الذى لم يحدث مثله من أحد في تاريخ الإسلام في قتاله للمسلمين، هذا الفارق الذى يدل على عظم الإسلام وكونه من الله تعالى، وعلى صورة المسلمين السمحة وعقيدتهم البهية المنيرة إزاء أعدائهم؛ إن غيرهم من كل الملل لم يتورعوا عن الإبادة الكاملة لكل صغير وكبير، ذكر وأنثى مع التدمير الشامل لكل ما تقع عليه أيديهم مما له علاقة بالإسلام أو بالمسلمين. كم أريقت بحار الدماء الذكية على أيدى حاملى الصليب في حروبهم في بيت المقدس مماحدث من مآس وجرائم هي أعتى الجرائم التى وقعت على مدار التاريخ. وبقى الجزء المنير الآخر في التعامل مع الأسرى، وهو الوصايا من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم خيراً (¬2)، خاصة أن من تبقى منهم لا فداء معه وكان يجيد الكتابة، كان فداؤهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. حكى أبو عزيز - شقيق مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، وقد أسر في بدر مع المشركين – أنه ¬

(¬1) البخاري (2024). (¬2) الطبرانى في مسنديه الصغير والكبير، وقال في مجمع الزوائد: إسناده حسن، د. مهدى رزق الله، السير النبوية (361).

وهو بين رهط من آسريه الأنصار - أنهم كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوه بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأسرى. حتى ما تقع في يد أحدهم خبزه إلا ناوله إياها فيستحى فيردها على أحدهم، فيردها عليه ما يمسها. (¬1) تلك أخلاق النبوة والرسالة التى حملت الإسلام إلى الدنيا، فكان فيه سعادة الدنيا والآخرة. الغنائم: ونحن عندما نتكلم عن الأسرى فإن الموضوع الذى ارتبط بها شرعاً وحياً وواقعاً هو موضوع الغنائم، الذى لم يكن لها حكم من قبل، ومن ثم كان عرضة لإختلاف وجهات النظر بين الصحابة الذين حضروا الوقعة، والحديث المروى من جانب كتاب السيرة الذى يبين الحادثة هو حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - إذ يقول: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدت معه بدراً فالتقى الناس، فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم، يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، فنحن نفينا عنها العدو، وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، وإشتغلنا به، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، فقسمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بواء بين المسلمين أي - بالتساوى (¬2)، أخذ الله تعالى ¬

(¬1) ابن اسحاق - ابن هشام، السيرة (2/ 212 - 213)، وهو مرسل، وقد أسلم كثير من هؤلاء الأسرى بعد ذلك، وحسن أسلامهم وكانوا العضد والنصير المضحى بنفسه وماله في سبيل الله تعالى. انظر د. مهدى رزق الله، السيرة (361). (¬2) عون المعبود (2360)، تحفة الأحوذى (3004).

الأنفال منهم وجعلها لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرقها بينهم كما نزل به القرآن الكريم، وكما أمر الله تعالى، وما كان منهم إلا أن قالوا سمعنا وأطعنا. وكان تقسيم الغنائم بالصفراء مرجعهم إلى المدينة، وقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتسعة من المؤمنين تخلفوا عن الغزوة بما يعلم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لولا عذرهم لحضروا وشاركوا، منهم عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، كان يقوم على تمريض زوجه رقية بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتوفيت وهم راجعون من بدر فلم يتمكن من الحضور رضى الله عنهم أجمعين. موقعة بدر، القيمة والنتائج: أما قيمة غزوة بدر فقد استحق المقاتلون فيها لقب «بدرى»، فكانوا الطبقة الأولى من الصحابة حيث جاءت أحاديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسيرته وسيرة خلفائه من بعده لتبين فضلهم في الدنيا، وعلو مقامهم في الجنة، فأما ما ورد من سمو منزلتهم في الجنة ما رواه البخاري في قصة حارثة بن سراقة الذى أصابه سهم طائش يوم بدر، وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منى، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وأن تكن الأخرى ترى ما أصنع. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ويحك - أو هبلت - أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس» (¬1). وتبين قصة حاطب جانباً آخر يضاف إلى الجانب المتقدم، وملخصه أن حاصب بن أبى بلتعة - رضي الله عنه - قد حضر بدراً، وفي فتح مكة أرسل إلى قريش من يخبرهم خبر غزو الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم ولكونه بدرياً عفا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه قائلاً لعمر عندما أراد قتله: «لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم» (¬2). ولما قال عبد ¬

(¬1) البخاري (3982). (¬2) مسلم (4550).

لحاطب: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية» (¬1). وأما العطاء المادى في الدنيا فكانوا المقدمين فيه، فعندما سجل عمر - رضي الله عنه - الجند في الدواوين التى أسسها في الدولة الإسلامية كانوا الطبقة الأولى التى تأخذ أعلى العطاء، وها هي دواوين السنة والرجال توشى صفحاتها الأولى بأسمائهم ومناقبهم مكرمين بذلك على مر الدهور والأعصار (¬2) مرضيين برضا الله عنهم، ومزدادين رضا بترضى كل من يترضى عنهم إلى يوم القيامة رضى الله عنهم وعن الصحابة أجمعين. وما ذِكْرُنا لهذه القيمة - نحن غير أهل لذلك - إلا لنبين قليلاً مما قدموا بما وفقهم الله له، واختصهم الله تعالى به، ونسوق منا شيئاً ليتدبر المؤمنون اليوم سيرتهم فيثوبوا إلى مجدهم وعزهم، ولينظر المستشرقون إلى تفسيراتهم للوقائع بما يخالف الحقيقة ويجافى الحق ويناقض العقل والمنطق. وأول ذلك: هو رفعهم للعقيدة واستعلاؤهم بها (¬3)، فكانت الدافع لهم والمحرك في كل ما يأتون ويذرون، فكانوا مستعلين بها فوق ما يدعى المستشرقون من مصالح مادية أو منافع دنيوية أو غيرها، وإنما رفع الإسلام بالنصر أو الشهادة، إذ كيف يعن أو يقع في تفكير هؤلاء أن يحصلوا في معركة غير متكافئة غير الهزيمة والقتل أو الإعطاء باليد. الثاني: الوفاء بالبيعة مع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيعة العقبة - ولم يمنعهم شروط الوثيقة بأن نصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقتال معه لمن دهم يثرب، بل قالوا لو خضت البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. ¬

(¬1) مسلم (4551). (¬2) انظر د. أكرم العمرى، السيرة (371). (¬3) انظر د. أكرم العمرى، السيرة (370).

الثالث: الطاعة التامة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهم جند مطيعون ومضحون مهما كان الثمن ليقينهم بصدق رسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن في طاعته العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة. الرابع: إذا كان تقديمهم لعقيدتهم ودينهم على أنفسهم وأموالهم، فمن باب الأولى أن يظهر ذلك مع غيرهم من الأهل والولد فهاهم المهاجرون يواجهون أقاربهم في المعركة، الابن يواجه أباه، والأخ يواجه أخاه، وغيرهم من عصباتهم فلا تمنعهم أواصر القربى ووشائج النسب أن يقتلوهم لمصلحة الدين والعقيدة (¬1)، وقد كان ذلك واضحاً جلياً كذلك في موقف عمر - رضي الله عنه - من الأسارى بعد المعركة. الخامس: أنهم الطبقة الأولى التى تحملت قبل أي أحد عبء الصدمة الأولى في الإيمان والعبادة والسلوك والدعوة، والتضحية والبذل ثم الهجرة والجهاد، وضربوا في كل ذلك بأعلى سهم، وأروع مثل. نتائج بدر: عرفت غزوة بدر بتمجيد القرآن العظيم لها بأنها يوم الفرقان، لأنه فرق بها بين الحق والباطل، ولأنها كانت الفارقة بين عهدين من عهود الإسلام وتاريخه، وكان لها الأثر الكبير في إعلاء شأن الإسلام. شُدِه العرب وغيرهم قاطبةً لذلك النصر الحاسم الذى أكرم الله به المؤمنين في بدر، بل إن أهل مكة استنكروا الخبر أول ما جاءهم وحسبوه هذيان مجنون إذ أول من قدم بمكة بمصاب قريش الَحيْسُمان بن عبد الله الخزاعى، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة ¬

(¬1) وفيه قصه والد أبى عبيدة بن الجراح حيث تعرض لإبنه ليقتله، فيحيد عنه أبو عبيدة ثم قتله، وذكر ابن حجر في الإصابة (2/ 252 - 253)، ذلك من روايه الطبرانى وجودها.

وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البخترى بن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان ابن أمية وهو قاعد في الحجر، والله أن يَعْقّل هذا فاسألوه عنى فقالوا: ما فعل صفوان ابن أمية؟ قال: ها هو ذاك جالساً في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا (¬1). فلما إستبان صدق الخبر صعق بعضهم حتى كاد يهلك، وماج بعضهم في بعض من هول المصاب لا يدرى ما يفعل. وكذا استبعد مشركو المدينة ويهودها ما قرع أسماءهم من بشريات النصر، وذهب بعضهم إلى أنها أخبار من محض الاختلاق، ولم يصدقوا إلا عندما رأوا الأسرى مقرنين في الأصفاد وقد تعددت مسالك الجميع مختلفة في معالجة الموقف أو توفيق الأوضاع أو الإعلان بالعداوة والمجاهرة بما ينم عن الحقد والسخط. فأما أهل مكة فقد منعوا البكاء والنياحة على قتلاهم لئلا يشمت بهم المسلمون، وأمروا بتأخير دفع الفداء لئلا يأرب عليهم المؤمنون فيه (¬2)، ثم إنطووا على أنفسهم يداوون جروحهم، ويستعيدون قواهم، ويستعدون لنيل الثأر، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرهاً للإسلام، ونقمة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه، ومزيداً من الاضطهاد لمن يدخل في دينه. وبدأ الانتقام والثأر فأرسل صفوان بن أمية عمير بن وهب الجمحى وكان شيطاناً من شياطين قريش لاغتيال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن وعده صفوان بأن يعول أهله مع أهله وأن يتحمل دينه، وكانت حجة عمير في السفر إلى المدينة في هذه المهمة الخسيسة هو ولده الأسير ليحسنوا إليه، خلاصة ما حدث أن أمسك به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند وصوله ¬

(¬1) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (2/ 213). (¬2) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (2/ 214).

لمسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاملاً سيفه، وسأله الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سبب مجيئه فتعلل بولده الأسير، فأخبره الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوحى السماء بما حدث بينه وبين صفوان بن أمية في الحجر، فأسلم لتوه إذ ما حضر ذلك ثالث، وطلب من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجوع إلى مكة للدعوة للإسلام بالشدة التى كان يهاجمه بها ويؤذى بها المسلمين. (¬1) فأما في المدينة حيث المسلمون كثره مكينة ظاهرة، فقد إستعلى المؤمنون فيها على اليهود وبقايا المشركين، وأخذت العداوة للإسلام وأهله منحى الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهراً وقلوبهم تغلى حقداً وكفراً. فأما المشركون فكان زعيمهم عبد الله بن أبى بن سلول رأس المنافقين حيث قال في رجوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين منصورين غانمين من بدر: هذا أمر قد توجه - لا مطمع في إزالته - فبايعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الإسلام فأسلموا (¬2). ومن بين من عرفوا بالنفاق من مشركى المدينة غير ابن أبى! جلاس بن سويد وأخوة الحارث وأوس بن قيظى. ومن بين من عرف بالنفاق من أحبار يهود المدينة: زيد بن اللصيت ورافع بن حريملة ورفاعة بن زيد بن التابوت. وقد أسلم من أسلم منهم وحسن إسلامه، ومات على النفاق من مات منهم (¬3)، على أن هذا الخداع الذى لاذ به هذا الفريق كان في الوقت الذى عالن فيه الفريق الباقى من اليهود بسخطهم على الإسلام ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يعودوا يسيطرون على مشاعرهم وأقوالهم وأفعالهم بسبب غيظهم من النتيجة التى لم يكونوا يتوقعونها فاندفعوا نحو العدوان، وأظهروا ألمهم للهزيمة التى أصابت قريشاً، حتى إن كعب بن الأشرف من ¬

(¬1) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (2/ 224 - 225). (¬2) وخبر نفاقه ومعادته للإسلام وإيذائه للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، البخاري (4566)، وابن حجر فتح الباري (). (¬3) انظر مواقف بعضهم في السيرة، لأبى بكر الجزائرى، هذا الحبيب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (189 - 194)، د. مهدى رزق الله، السيرة (362 - 363).

زعماء يهود أرسل القصائد في رثاء زعماء المشركين وطالب بالثأر لهم، وحاول اليهود في نفس الوقت التحقير من شأن هذا النصر وأن المسلمين لو لاقوا يهوداً لعلموا من المقاتلون حقاً. أكد كل ذلك نيات اليهود في نكث عهودهم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والاستعداد لمجابهة المسلمين، مما مهد للأحداث العنيفة التى وقعت بعد ودفع فيها اليهود ثمن غدرهم ونقضهم للعهد غالياً أفراداً وجماعات حيث بدأ ذلك بإجلاء بنى قينقاع من المدينة لما ابتدأوا هم السير في هذا الطريق العفن، طريق المؤامرات والعدوان وتمزيق العهود (¬1). بقى موقف الأعراب الضاربين حول المدينة، وهؤلاء قوم لا يهمهم شيء من قضايا الإيمان والكفر، إذ همهم الحصول على قوتهم ولو بالسلب والنهب وقطع الطريق، لقد أقض ذلك النصر مضجعهم فحشدوا جموعهم لانتهاز فرصة للإغارة على المدينة، وقد سبق لهم استياق نعم المدينة، نهض الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سريعاً فشتت هذه الجموع، ولم يلق في سبيل ذلك متاعب ذات بال. (¬2) أتينا إلى نهاية ما إستطعنا تفصيله من غزوة بدر مما ورد في السيرة المشرفة، وكان ينبغى أن نلم بطرف من الحكم والأحكام في نهايتها، ولكن آثر الباحث أن يكون ذلك بعد عرض منهجه في السيرة من القرآن الكريم مع المقارنة والتحليل، ثم نسوق كلام المستشرقين ونخص منهم وات بالذات لنرد عليه. ¬

(¬1) الغزالى، فقه السيرة (239). (¬2) الغزالى، فقه السيرة (239).

المبحث الثالث غزوة بدر في القرآن الكريم

المبحث الثالث غزوة بدر في القرآن الكريم جاءت سورة الأنفال لتحكى لنا سيرة غزوة بدر بما يليق بالقصص القرآنى في سرد الأحداث، إذ يوضح المفيد اللازم لكل بشر من الحادثة، ويعلق عليها بما هو المقصود من القصص أهدافه وغاياته، ويشرح الحكم والمواعظ والعبر، ويذكر الاوامر والنواهى للامتثال للشرع وفي الغالب يزيد عما حدث شرحاً وتفصيلاً يكون زاداً وتحذيراً وتنبيهاً أو وصايا لما هو آت، حتى استكمل القرآن الكريم بهذا النهج المصور لسيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ما كان وما يكون، مع مراعاة أحوال الامم السالفة في ذكر ذلك القصص لتلمس مواضع العبر تخويفاً واتقاء، مصوغاً كل ذلك في أعلى درجات البلاغة واللغة، التى تشى بأن الصياغة بهذه الطريقة السامقة إنما هي أيضاً من مطلوبات القرآن الكريم في عرض السيرة لأغراض لا شك سامية مما يستدعى مراعاة ذلك الدرس البلاغى وغيره في فهم صياغة السيرة وسردها، وأنه ما كان كذلك إلا لسمو هدفه في ايصال وفهم وتعلم السيرة القرآنية بهذه التراكيب، والصياغات والاساليب، وأفانين الكلام. لذلك كان التعريج على هذا الدرس من مهمات هذا البحث إظهاراً (لما يمكن من جوانبه) كافة تعميقاً لفهم القرآن ومعرفة جماله وجلاله الباعث على محبته والقيام بحقه والرد على أعدائه، لم يكن عرض السيرة بليغاً بهذه الجماليات لكون ذلك أسلوب القرآن الكريم المعتاد، بل كان لكل مقام مقال.

ولا ننس أن ننوه بوظيفة المؤرخ كما ذكر وات، حيث لا تنحصر في السرد بقدر فهم البواعث والأهداف من وراء ما يقع من أحداث، ذلك ما بلغ القرآن الكريم فيه درجة غير مسبوقة تتوافق وأهداف الإسلام ووسائله، ومعرفة النفس الانسانية ودوافعها وتبيين ما يعتمل فيها وما تقصد إليه تصويراً لذلك وتصحيحاً وتقويماً للمطلوب فيه. ونأتى لسورة الأنفال لنحلل منها ما نستطيع من السيرة مع المقارنة والنظر في جمالياتها. إن أول ما يصادفنا أن سورة الأنفال تحدثت عن غزوة بدر من آخرها، فلم تسرد الأحداث بما بدأت به في واقع الأمر، فبدأت بالحديث عن الغنائم والأنفال، وهو في نهاية الموقعة، وواضح أنها خصت الغنائم بالذات من بين الأحداث الأخيرة في الوقعة ويبدو أن ذلك كان موضوع الساعة إذن بل وكل ساعة، فيه تتحدد وجهة الغزو، وأهداف الجهاد وما ينبغى أن يكون نصب عين المجاهدين والمؤمنين من مقصود ذلك ووسائله النفسية والمادية في الدنيا والآخرة كما سنوضح شيئاً من ذلك. أخذ الحديث وجهات عدة نشير إليها تبين ما سبق: الأول: في قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]، ومعناه أن هناك نصراً قد تحقق، وحصل بسببه غنائم اختلف الصحابة في توزيعها، وسألوا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها لعدم علمهم بما ينبغى أن يقسموها به، وأنهم حاوروا الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصريحاً، ومنهم من يجادل غيره بما يدل على طلب الفهم في هذا الشأن، والتعبير بالمضارع {يَسْأَلُونَكَ}، دل على تكرار السؤال المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين في الموقف الواحد، وجاء السؤال معدى ب {عَنِ}، ليدل على طلب المعرفة)، وهذا يدلنا على تأكيد ما حدث في السيرة النبوية، ثم جاء القرآن الكريم بعد ذلك التنازع الذى ذكرته السيرة ليوضح المقصود والمطلوب

والغايات والبواعث إلى آخر ما ذكرنا آنفاً فجاء القاطع القرآنى بقوله: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، أي لله تعالى ملكاً واختصاصاً على جعل اللام هنا للملك أو للاختصاص، فهى ملكه ويختص بالقضاء فيها هو جل وعلا فيحكم بما يشاء ويصرفها كيف يشاء، ومعرفة ذلك والقيام به لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبلغ عنه فهى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذه الوجهة. ومما ذكرته السيرة ووضحته جملة: {يَسْأَلُونَكَ}، الايذان بأن ثم تنازعاً قد حدث بين ناس من الجيش في استحقاق الغنائم، وقد كانت لهم عوائد في الجاهلية متبعة في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها والذين سألوا كانوا معروفين، لأن ضمير جمع الغائب في {يَسْأَلُونَكَ}، معلوم عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعند السامعين ساعة عند نزول الآية. الثاني: المنحى الثاني الذى بينته الآيات لتوضح به ما يجب أن تكون عليه سيرة المؤمنين في هذا الموقف خاصة، وكل المواقف بعد ذلك هو تقوى الله سبحانه وتعالى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وختم هذا المنحى بصيغة الإلهاب لنفوسهم على الامتثال، وهو قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وذلك ليس تشكيكاً في إيمانهم، بل لأنهم مؤمنون خاطبهم بذلك، لأنه لا يؤمر بذلك غير المؤمنين. (¬1) وهذا معناه أن المؤمنين همهم الأول هو تقوى الله وأولها في هذا الموقف صلاح ذات البين، وطاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس همهم الغنائم وقسمتها، ومن يحوزها أو يحرمها، وهي التربية القرآنية الأولى للمؤمنين بأن تكون وجهتهم تقوى الله وطاعة رسوله والاستسلام لأوامره والاجتناب لنواهيه، مع قولهم سمعنا وأطعنا وهو الشق الأول الذى يقوم به الإسلام والشق الثاني هو تآلف القلوب وصلاح ذات البين والاجتماع والاتفاق على كلمة لا شقاق فيها ولا تصدع لها، بأن يكونوا يداً واحدة على من سواهم، متكافلين متوادين ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 252 - 254).

متراحمين كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ليسوا من مغريات الدنيا في شيء، وإن كانت الغنائم عندهم من مظاهر طلب الآخرة حيث يشير إلى هذا الرأى الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فيقول: «ولقد يدهش الانسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم، وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا، وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة، وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء، وكان الناس يومئذ حريصين على هذه الشهادة من الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن الله سبحانه وتعالى في أول وقعة يشفى فيها صدورهم من المشركين، ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه المتكلمون في الأنفال، حتى ذكرهم الله به، وردهم إليه، ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر». (¬1) إذن لم يكن من سبب كائناً ما كان ليغطى أو يمنع على الركن الركين من قيام الإسلام، وهو الأخوة الإيمانية التى علمها لهم القرآن الكريم تعليماً واقعياً بنزع الأنفال منهم إلى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهتف بهم بهاتف التقوى ليكون لاماً لشملهم مصلحاً لجمعهم وذات بينهم، ليبقى سبب النصر هو القائم الباقى، سبب الفوز في الأولى والآخرة لأنه بغيره كما ذكرت السورة بعد سيكون إخفاقهم، ويعودون بالانكسار والهزيمة قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، ومن ثم جاء الأمر بالتقوى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 1]، مفرعاً على جملة: {الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال وإن ¬

(¬1) سيد قطب، في ظلال القرآن (3/ 1473).

كل ذلك موكول إلى الله سبحانه وتعالى وذكرهم حينئذ بأنه قد وجب الرضا بما يقسمه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقدم الأمر بالتقوى لأنها جامع الطاعات. وعطف الأمر بالاصلاح لما حدث من اختلاف، أما الأمر بالطاعة هنا، فهى كما في قوله سبحانه: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، أي الأمر بالطاعة التامة التى يقتضيها الإيمان الذى يحثهم على ذلك ويظهر الانقياد حقيقة وقوة هذا الإيمان: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. الثالث: إن المنحى الثالث الذى أكدته الآيات منحى صفات المؤمنين حقاً لتبين لهم سيرتهم الصحيحة، فيزدادوا منها أو يثبتوا عليها، ومن تأخر عن تمامها شيئاً ما كانت مجاهدته لنفسه على اللحاق بها والتمثل بتفاصيلها فبعد أن عاش المؤمنون هذه الأحداث، لا شك أسرعوا في إصلاح ذات بينهم، وتصافت أرواحهم، وتسامحت نفوسهم وعادوا لا يحركهم، ولا ينبغى إلا تقوى الله وطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتألف صفهم وترابط جمعهم، وعلموا الهدف الذى يجب أن يسعوا إليه هو ما وصاهم به وتنزلت بسببه تلك السورة لزوم التحقق بأعلى وأهم صفات المؤمنين، لأن كل أعمالهم من جهاد فما دونه إنما هو وسيلة لأن يكونوا مؤمنين حق الإيمان، باذلين أرواحهم ليكون غيرهم لاحقاً بهم، حتى تصبح الأرض كلها الأرض الطيبة الصالحة بإيمان أهلها، التى في نفس الوقت تكون متعبدة بأحسن التعبد موحدة أعلى التوحيد لله رب العالمين، الذى اكرمهم بذلك كله وشرفهم به، واصطفاهم لحمله من دون العالمين. جاءت الجمل القرآنية الكريمة متتابعة تبين صفات المؤمنين، وكأنها تقول ليس المؤمنون الذى يسمعون كلام الله ولا يرعوون ولا يستجيبون له، ولا يسارعون إلى مرضاته بل هم أعلى وأجل إذ يسمعون كلام الله فترتعش قلوبهم ويظهر ذلك في انهمال عيونهم،

وقشعريرة أبدانهم، يرتجفون لذكره فيمتثلون أمره ويجتنبون نهيه، ويتعجلون إلى مرضاته، وليس هم الذين يسألون ويتكلمون في الأنفال، بل هم المنفقون في السراء والضراء، لا ينتظرون أخذاً إنما يسارعون إعطاء، الذين يخرجون من الاعمال الصالحة وقد ازدادوا إيماناً فربط على قلوبهم، وأخذهم هذا الإيمان الزائد إلى مواقع الحق والصواب؛ لا يخرجون من الاعمال الصالحة إلى الدنيا وقد خف إيمانهم فيتنازعون عليها. وهم في كل ذلك متوكلون على الله، محافظون على صلواتهم راكنون إلى ربهم، ينظرون جزاءهم وحسن عاقبتهم فيسارعون إلى ذلك الخير الدائم، وهم مع ذلك ملازمون لطلب المغفرة في كل حين لأنهم لن يوفوا حق نعمة من نعم الله عليهم أو يقوموا بكل ما جاءهم به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لهو قدوتهم السائر بهم إلى ربهم المرشد لهم إلى أسباب سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال: 2 - 4]. هؤلاء هم المؤمنون حقاً أي هؤلاء لا غيرهم هم المؤمنون حق الإيمان، وهذه الجملة وما عطف عليها إما أن تكون مستأنفة وإما تعليلية فإن كانت مستأنفة فهى مستأنفةاستئنافاً بيانياً مسوقة لمن أريد بالمؤمنين بذكر أوصافهم الجليلة جواباً، لسائل يثيره هذا الاشتراط في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: 1]. بعدما تحقق أنهم مؤمنون من قبل فيقول من هم هؤلاء المؤمنون فيجاب بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلم أن الإيمان الذى جعل شرطاً في الامتثال هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته.

وإما أن تكون: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، وما عطف عليها واقعة موقع التعليل لوجوب الأوامر الثلاثة المتقدمة وهي تقوى الله واصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التى بعد {إِنَّمَا}، من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما سبق في الجمل. وإذ قدر كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية عليهما توفيراً لمعانى الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يسأل عنه، وإن بيان العلة مما يصح أن يكون استئنافاً بيانياً. (¬1) ونسوق توضيحاً مختصراً لتلك الصفات، يليق بالباعث التاريخى للأحداث وهو شغل المؤرخ، لا لتفسير القرآن الكريم، ليكون المرء على ذُكر منه لأنه سوف تتكرر معنا هذه المعانى والأوصاف في كل السباقات القرآنية للسيرة النبوية، مع زيادات في كل مرة تُستكمل بها جوانب الشخصية المسلمة، وفي نفس الوقت تظهر لنا الآثار السيئة في بعض أخبار السيرة لعدم تمسك المسلمين على المستوى الفردى أو الجماعى بتلك الخصائص والصفات، كما جاء في غزوة أحد في سورة آل عمران قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)} [آل عمران: 152]، إذ هي من الصفات التى وصى بها وحذر من المآل السيء لمخالفتها مبكراً بعد غزوة بدر، وفي نفس السياق يتضح لنا الرد على (وات) والمستشرقين من قبله فيما يتعلق بمنهجهم التاريخى في عرض السيرة. نعود إلى شرح معانى تلك الصفات وعلاقتها بالاحداث .. الوصف الأول: في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 255).

والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصفة التى يعرف المتصف بها تحققها فيه من عدمه من عَرْض نفسه على حقيقتها، فأحيلوا في معرفة أمارات تخلقهم بالإيمان على تلك الصفات التى يأنسونها من أنفسهم والذكر يطلق حقيقة على التلفظ باللسان فإذا علق بالذات كذكر الله أريد ذكر اسمه، أو شأن من شؤونه مثل أمره ونهيه فيجل القلب أي يخاف مع الفزع لاستعظام الموجول منه، وأسند ذلك إلى القلب في كلام العرب لأن القلب يكثر إطلاقه على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه، وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالاً بديعاً يناسب معنى الوجل، ليكون ذكر الله إذا جاء باسمه أو بذكر عقابه أو عظمته أو ثوابه ورحمته كل ذلك وغيره يورث القلب لكُمل المؤمنين الوجل؛ لأنه يحصل مع هذا الذكر استحضار جلال الله وشدة بأسه وسعة ثوابه، لنعلم الباعث التاريخى الذى اخترعه المستشرقون وات لتلك الأحداث، وهو أنه إذا تذكر ذلك ينبعث عن هذا الاستحضار توقع حلول بأسه، وتوقع انقطاع بعض ثوابه ورحمته، فهو وجل هو الباعث للمؤمن على الاستكثار من الخير، وتوقى ما لا يُرضى الله تعالى، وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره نهيه، وحال آخر يحصل للمؤمن يبين وجهته وإخلاصه وتربيته الحقة على مائدة القرآن الكريم، على يد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الأمل والطمع في ثواب الله، وقد طوى ذكره هنا لاستلزام الوجل إياه؛ لأنه من الوجل أن يخشى وَيجِل من فوات الثواب أو نقصانه. ثم جاءت الصفة الثانية .. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. ولا شك أن ارتباط هذه الصفة بما قبلها ارتباط وثيق، في غاية السلاسة، فإذا كان ذكره سبحانه تجل القلوب به، وهو أنواع كما ذكرنا فيدفعها إلى تلك الأحوال الحسنة فإن أعظم ذكره تلاوة آياته وسماعها الذى يحوى ذلك كل أسباب الوجل فيكون تأثيره أعم وأقوى

فيبادر المرء إلى التحقق عند سماع آياته بكل معانى الوجل، التى تزيد بلا مراء إيمانه، وتقوى يقينه، وتعلو حينئذ درجته، وكأن الآية من ناحية داعية إلى الأخذ بأسباب زيادة الإيمان وقوته الذى هو مصدر كل خير، وأن أي أسباب تدعو إلى خلاف ذلك مما يضعف به الإيمان ويقل ويجب الحذر منه وتركه، وقصة الأنفال وغزوة بدر وبقية الأحداث أول ذلك، والدليل عليه، ومن ناحية أخرى يكون ذلك توجيهاً جديداً للمؤمنين، يوضح لهم صفات الكمل من المؤمنين ليصير ذلك ثابتاً لا تزحزح له، زائداً فيما يستقبلون به دعوتهم، وزاداً يتقوون به في سيرتهم. أما كيفية تأثير التلاوة في زيادة الإيمان، فأن دقائق الإعجاز التى تحتوى عليها آيات القرآن تزيد كل آية تتنزل منها أو تتكرر على الاسماع سامعها يقيناً بأنها من عند الله، فتزيده استدلالاً يُقوى الإيمان حتى يقرب من مرتبة الضرورة، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بَشراشِر القلوب، ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهى، حتى يحصل كمال التقوى، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زياد في عوارض الإيمان من قوة اليقين، وتكثير الأعمال. (¬1) أما ما يتعلق بالمقام من الكلام على الأنفال وعلاقته بتلك الزيادة، وحظه منها، فهو أن سماع الآيات النازلة في هذا الشأن تزيد إيمان المؤمنين بنبذ الشقاق والاختلاف بما ارتفع من ايمانهم بتلك الآيات، ورفع التشاجر الطارىء بسبب الأموال فإن صفات المؤمنين وتحققها والمسارعة إلى تلاوة الآيات والعمل بها، وأن زيادة الإيمان وأهميته لهو مطلوبهم الاسمى الذى بسببه يعرضون عن غيره ويلقونه وراء ظهورهم، ويستقبلون جميعاً أمراً آخر هو ¬

(¬1) لزيادة الإيمان معان أخرى اقتصرنا على المناسب والمطلوب من السياق، وانظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 256 - 259)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 341 - 342)، والالوسى، روح المعانى (6/ 240 - 242)، وغير ذلك.

الأهم والأولى عندهم، وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر الأنفال، وتعقيبه بالتقوى واصلاح ذات البين والطاعة، وتعليل ذلك بأن شأن المؤمنين هو إقبالهم على زيادة إيمانهم عند تلاوة آيات الله تعالى، وتلك هي التربية القرآنية التى أخذهم بها، وعلمهم فيها الأهم والمهم، والذى لا قيمة له، وأسباب النصر وضرائب التمكين، فما انتصروا بعد ذلك إلا بما تحقق فيهم من هذه الصفات. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وإن من أهم مقامات الدين التوكل على الله .. وهي صفة ثالثة لـ {الْمُؤْمِنُونَ}، أو حال منه، وجعلت فعلاً مضارعاً للدلالة على تجدد وتكرر ذلك منهم، في كل حين لا يفارقهم التوكل على الله حال دعوتهم وانفالهم وجهادهم وسائر شؤونهم؛ لأن كفايتهم بالله لا بالدنيا وأموالهم، وركونهم وتعلقهم بالله وما عنده لا بالزائل الفانى ولذلك فهو حسبهم كما قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. ومناسبة التوكل بالذات للغرض، وهو ذكر الأنفال أن المؤمنين كما تعلموا أن يكون مقصدهم رضا ربهم وطاعته لا شيء غيره من أمور الدنيا وحظوظ النفس، فهم هنا ليتعلموا وليتربوا على أن التوكل على الله على لا الأنفال والغنائم وغيرها وهو المطلوب، وأن الاعتماد على شيء من ذلك ينافى هذا التوكل فلا يعتمد المرء على ماله ولا قوته ولا حسبه ولا نسبه ولا عقله، ولا جاهه وسلطانه، ولا على خلق يقومون بشيء له من ذلك: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58]. ومن ثم كان تقديم الجار والمجرور في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، للاهتمام باسم الله تعالى وذكر الربوبية المضاف إلى ضميرهم لاظهار شرف ذلك، المحب لعباده عليه يكون تمام التوكل وفي الآية تعريض بالمشركين الذين يتوكلون على أصنامهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ

دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)} [مريم: 81]، ومن ثم كانت مدحاً للمؤمنين وتحذيراً لهم أن يبقى شيء في قلوبهم من آثار التعلق بما نهوا عنه، لتوهم البعض أنهم إذا فوتوه فقد أضاعوا خيراً من الدنيا. ومناسبة التوكل مع قضية الأنفال أنهم أمروا بالتخلى عن الأنفال، والرضا بقسمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن كان حرم، فلا يحزنه ولا يفت في عضده، وليستصغر ذلك أمام توكله على الله، والذى سيعوضه أفضل منه وأعظم. (¬1) إن الصور التى جاءت بها السير بعد ذلك للصحابة ومن تبعهم بإحسان لتؤكد أشد التأكيد على هذا الوصف، وتحققهم به، حيث كانوا يواجهون أعداءهم بقلة العدد والعدة والزاد والخروج إلى عدوهم وما كانوا ينكثون أو يتراجعون رائدهم في ذلك التوكل على الله تعالى، ولا أظن أن التاريخ سجل لهم موقعة صغيرة أو كبيرة كانوا فيها أكثر عدداً أو أوفر عدة وزاداً. من مواجيههم. {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [الأنفال: 3]. وصفهم هنا بالمحافظة على ركنى الإيمان الأهمين الصلاة والزكاة، وهو مدح منفصل عن السابق؛ لأن اعادة الموصول هنا للدلالة على الانتقال في وصفهم إلى غرض آخر غير الذى جيء بالموصول الأول لأجله (¬2)، وكأن إقامة الصلاة والإنفاق مما يمدح به كل أحد، وهو لهؤلاء مما يزدادون به مدحاً عن غيرهم لتقدمهم في صفات الإيمان وعلوها. جمعت هذه الممادح والأوصاف الحسنة مكارم الاعمال القلبية الباطنة من الخشية ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 259). (¬2) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 260).

والإخلاص والتوكل، ومحاسن الأعمال القالبية الظاهرة من الصلاة والصدقة (¬1)، فلا جرم كانوا أحرياء بأن يكونوا هم المؤمنين حقاً. كما ختمت الآيات بذلك، لتشتد في التأكيد على صفات المؤمنين؛ التى ينبغى ألا يفرطوا فيها ظاهراً أوباطناً، سراً وعلانية، ببيان ثوابهم عند الله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]. لا شك كان ذلك كله العون والمدد على تحقيق أهداف الرسالة، وإعادة صياغة هؤلاء المؤمنين، وتنبيهاً على ما يجب أن يكون، وتحذيراً من مخالفته فيما سيكون، ثم بدأ القرآن الكريم بعد هذا النمهيد الضخم، في قص سيرة بدر، موزعاً في تضاعيفها ذلك التمهيد الضخم بما يتناسب مع كل مشهد منها في سياقات بصياغات جديدة غير متكررة من الفهم والشحن والاصلاح والاعداد، ونبدأ في أول المشاهد التى قصها القرآن وهي قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 5 - 6]. وبالتأمل في هذه الآيات نرى إجمالاً هذه الامور: 1 - أن الله سبحانه هو الذى أخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيته من المدينة، أو من المدينة محاطاً متلبساً بالحق في هذا الخروج، فلم يكن ليأمر ربه ليخرج بغير حق، لنعلم أن العير أو النفير التى أخرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لملاقاتها كان محقاً تمام الحق في ذلك ولو كره المستشرقون الذين ذكروا باطلهم بأن خروجه لقطع الطرق وغيرها من قبيح الأوصاف المخالفة للواقع. 2 - أن فريقاً من المؤمنين كرهوا الخروج لملاقاة جيش قريش (النفير)، لنفرة الطباع عن القتال أو لعدم الاستعداد لملاقاة الكفار، وهذا عن الصحابة بعد البذل ¬

(¬1) انظر أبا السعود، ارشاد العقل السليم (2/ 342)، والالوسى، روح المعانى (6/ 242)، وغيرها.

والتضحية منهم يدل على أنه ليس داخلاً تحت الاختيار؛ فلا ينتقص من منصبهم وقدرهم، لأنهم هم الذين واصلوا إلى النهاية حتى نصرهم الله تعالى. 3 - ذكرت الآيات كذلك جدالاً من هؤلاء الكارهين للقتال والذى سماه المولى سبحانه وتعالى: {الْحَقَّ}، فمتى علموا أنه الحق أي الخروج لملاقاة النفير؟ لا شك قد بين لهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الحق في ملاقاتهم للنفير وبأنهم سينصرون. 4 - ما زالت النوازع الانسانية في مثل هذا الحال الذى لا يظن، بل لا يتخيل معه النصر لأنهم لم يتخذوا أسبابه تهتف بهم أن ذلك ليس إلا سوقاً إلى الموت. ونحلل ما ذكرنا من الآيات الكريمات، فنجد .. أن الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ}، للتشبيه وهو تشبيه حال بحال متصل بما قبله، وهو بتقدير مبتدأ محذوف هو اسم إشارة لما قبله تقديره: هذا حال بحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق، ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في باديء الأمر لما هو خير لهم في الواقع (¬1)، سواء الأنفال أو ملاقاة النفير. والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمراً موافقاً للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج. وقد أشار هذا الكلام إلى خروج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موضحاً السبب، وهو أن أبا سفيان بن حرب قد عاد من الشام بعير قريش وفيها أموال عظيمة ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسلمين إلى الخروج إليها، لعل الله أن ينفلها إياهم تعويضاً بشيء مما سلبه المشركون من أموال المسلمين ¬

(¬1) وهناك غير ذلك من الأوجه، حيث ذكرنا أولاها انظر الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 445)، أبا السعود، ارشاد العقل السليم (2/ 343)، الالوسى، روح المعانى (6/ 245 - 246)، والطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 263 - 264).

ودورهم وأراضيهم، وإعاقه وحصاراً للمشركين عن الاستمرار في اعتداءاتهم على المسلمين ومع أن أبا سفيان قد سلك الساحل ونجا فإن جيش الكفار بقيادة أبى جهل أبى إلا الاستمرار في المسير لملاقاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعنجهية وغطرسة ذكرتها السيرة، وما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتراجع حينئذ أمام جيش الكفار، إن ذلك وحده هزيمة وإعلاء لراية الكفر وفيه ما فيه من تجرؤ كل أحد على المسلمين، إذ كانت القبائل تنتظر ما هي قريش فاعلة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان متساوقاً مع السياق أن يكون الخروج إليهم هو الحق كما ذكر الله تعالى، خاصة إذا وعدهم النصر، لذلك كان التعجيب من موقف الكراهة هذا لأن تأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلة المنكر؛ لأن وقوع ذلك مما شأنه ألا يقع، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو التفويض إليه، وما كان ينبغى لهم أن يكرهوا لقاء العدو، فكان تأكيد الخبر كناية من التعجيب بخبرهم (¬1)، وهذا أحد الدروس المستفادة التى ألقاها القرآن الكريم على أسماع المؤمنين، كيف يقابلون أوامر الرسول وما يحبه وما يشير به مما نزل به قرآن، أو لم ينزل اكتفاء برأيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤيد من عند الله تعالى، ليسارعوا إليه ويعجلوا إلى تنفيذه، وسنذكر الإشارة القرآنية بعد قليل في ذلك إن شاء الله تعالى. أما قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} [الأنفال: 6]، إما جملة مستأنفة، أو هي حال ثانية أي: أخرجك في حال مجادلتهم إياك، أو هي حال من الضمير في قوله: {لَكَارِهُونَ}، وصيغة المضارع لحكاية الحال كما لو كان حاضراً لزيادة التعجيب منها كما في قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74]، ولم يقل جادلنا خرجوا إذن والطريق طويل والجدال متجدد متكرر يعجب منه السامع، خاصة بعدما تبين لهم الحق كما ذكرنا باعلام النبي أنهم ينصرون، وهم ما زالوا يقولون هلا ذكرت لنا النفير والقتال حتى نتأهب ونستعد لذا جاء قوله تعالى: {بَعْدَ ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 266 - 267).

مَاتَبَيَّنَ} [الأنفال: 6]، كأنه لوم لهم على المجادلة في هذا الخروج للنفير وترك العير والمتفحص يجد سبب اللوم أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أخبرهم بوعد الله لهم بالعير أو بالنصر على النفير فها قد مضت العير وأفلتت وجاء النفير، فهذا الحق بين بذاته إذا سواء شعر به كلهم أو بعضهم بأنهم منتصرون لا محالة؛ بحيث لا ينبغى الاختلاف فيه، فقد كانوا عرباً أذكياء، وكانوا مؤمنين أصفياء، ورأوا كراهة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما اختاروا العير، فكان ذلك كافياً في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم بلا أدنى ريب. ولم يترك القرآن الكريم تصوير حالهم، وهم سائرون إلى القتال بغير أهبة يظنونه الموت الذى تتخيله النفوس ببشاعة وكرب فتكرهه فشبه حالهم في قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} [الأنفال: 6]، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى الموت: {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6]، أي إلى الموت المساقين إليه، لأن حالة الخوف من الشيء المسوق إليه تكون أشد عندما يكون منظوراً فما الظن بالموت. (¬1) ويأتى الأن مكان الاشارة التى أرجأناها، وهي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، فبعد أن انتهت المعركة، وتبين لهم الحق على أرض الواقع وانتصروا، جاء خطاب الله لهم بأنه ما دعاهم للموت حين دعاهم للخروج بل دعاهم للعكس دعاهم لما فيه حياتهم في الأولى والآخرة، إذ من طبيعة الاستجابة لله تعالى، ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعاقبتها الحياةُ الحسنى، وإن استشهدوا فيها فقد حصلوا أحدى الحسنيين أو أجلهما وأعظمهما: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]، وليكن شعارهم بعد أن رأوا النتيجة رأى العين هو الحياة في الاستجابة لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة الحقة، وبكل معانى الحياة ¬

(¬1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 344)، الالوسى، روح المعانى (6/ 248)، الطاهر بن عاشور (9/ 257 - 258).

الحقة لأنها من الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ما زال القرآن الكريم يقص علينا مشهد الخروج إلى غزوة بدر، لنرى أمر الله تعالى وشأنه وتدبيره هو المحيط بالمؤمنين وبكل شيء من أوله إلى يوم يلقونه، وليروا ترتيب الله تعالى وإرادته الذى لا ترتيب مثله، ولا راد لإرادته، وأنهم مهما حاولوا أن يمهدوا ويوطدوا ويرتبوا لأنفسهم ما فعل من ترتيبه مثقال ذرة، ولو اطلعوا على الغيب لما اختاروا غيره، وقد نطق واقع النصر بخلاف ما ذهبوا إليه وتشوفوا له ورنت إليه قلوبهم وأبصارهم، جاءت الآيتان التاليتان ليؤكدا ويوضحا السابق، ثم يتحدد هدف المعركة الذى قصد إليه الشارع الحكيم فيقول تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7 - 8]. {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7]، وهذا كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله بالمؤمنين مع ما بهم مما ذكر عن بعضهم، يبين أنه وعدهم إحدى الجماعتين من المشركين العير أو النفير، و {وَإِذْ}، منصوب على المفعولية بمضمر إن كان متصرفاً أو ظرف لمفعول ذلك الفعل يعنى واذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتيين والتذكير بهذا الوقت تذكير بما وقع فيه من الحوادث بتفاصليها وذكر بالمضارع ليكون حاضراً مفصلاً كأنه مشاهد عياناً (¬1)، نذكرهم فيه بعدم ظنهم النصر، وأنهم كذا وكذا مما ذكرنا فكيف بكم الآن من بديع أحكام الله تعالى وتقديره. وقد وعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم تتصرفون فيها كيف شئتم، ¬

(¬1) هذا ما ذهب إليه معظم كالزمخشرى، الكشاف ()، والفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 448)، وأبو السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 344)، والالوسى (6/ 248)، وذهب الطاهر بن عاشور مذهباً آخر (9/ 269)، وإلى ما ذهب إليه المعظم حيث موافقة اللغة، وهناك مذاهب أخرى، انظر بن عاشور أيضاً (9/ 269).

وتحبون أن تكون لكم العير، الطائفة التى لا شوكة فيها، أي لا بأس لها، ترى ماذا لو تحقق لكم ذلك أكان أولى، أم ما أراده الله وتعلقت به مشيئته هو الأولى الذى ظهرت لكم علله وحكمه (¬1). وهذه العلل وهي أهداف المعركة الرئيسية: 1 - أن الله يريد أن يحق الحق بكلماته. 2 - أن يقطع دابر الكافرين. 3 - أن يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. وننقل كلاماً عن سيد قطب لنفاسته فيقول رحمه الله ما حاصله لقد أراد الله تعالى - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. وأراد أن يقطع دابر الكافرين فيقتل منهم من يقتل ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم وتعلو راية الإسلام وكلمته، ويمكن الله تعالى للعصبة المؤمنة التى تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله تعالى في الأرض، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف بالجهد والجهاد وتكاليفه معاناتها في عالم الواقع في ميدان القتال. لقد أراد الله تعالى للجماعة المسلمة أن تصبح أمة وأن تصبح دولة لها قوتها وسلطانها، وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها، وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد والعدة، وليس بالمال والخيل والزاد إنما هو بمقدار ما تحصل بإيمانها من قوة الله تعالى التى لا تقف لها قوة، وأن يحدث ذلك في الواقع الشاهد لا يكون ¬

(¬1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 345)، والالوسى، روح المعانى (6/ 248).

مجرد تصور قلبى واعتقادى لتتزود منه الأمة المسلمة الزاد المقنع الذى لا شك فيه لواقعها ومستقبلها .... إلى أن يقول: ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك ما تهزم وتغلب خصومها وأعداءها مهما تكن من القلة والعدة المادية ومهما كان أعداؤها بالكثرة والاستعداد والعتاد، ما كانت هذه الحقائق لتستقر كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوى الطغيان. وينظر الناظر اليوم وبعد اليوم ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته الجماعة المؤمنة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها، بين ما حسبته خيراً لها وبين ما قدره الله لها من الخير، وكم يخطيء الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما اختاره الله لهم، وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى بينما يكمن وراءه الخير الذى لا يخطر لهم ببال ولا بخيال. وهذا كفيل بالرد على كل كلام أثاره المرجفون المبشرون من المستشرقين وغير المبشرين منهم على غزوات الرسول جميعاً فضلاً عن سيرته العطرة، إننا نسبق الكلام لنقول ذلك لأنه لن يبقى بعد ذلك مجال للرد على وات. ونستأنف كلاماً أخيراً في هذه الجزئية لسيد قطب حيث يقول: فأين ما أرادته العصبة المسلمة مما أراده الله لها .. ؟ لقد كانت تمضى - لو كانت لهم غير ذات الشوكة - قصة غنيمة. قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل. قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة. قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتى. بل قصة انتصار حفنة من القلوب الثابتة المستعلية على الواقع المادى، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها، قد انتصرت

على نفسها، وخاضت المعركة، والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل، فقلبت بيقينها ميزان الظاهر، فإذا الحق ظاهر غالب (¬1). ونعود إلى تكملة تحليل الآية، حيث ذكرت أهداف المعركة الثلاثة من الوجهة القرآنية، التى تدل بإشارتها إلى معان أخر تحملها تلك الأهداف: أول أهداف المعركة: هو أن الله تعالى يريد أن يحق الحق بكلماته، يعنى تعلقت إرادة الله هنا بتثبيت الحق وتدعيمه وشد أساساته وأركانه، فلا يتزعزع ولا ينكسر، بل يقوى ويستقر والحق هنا هو دين الحق أي الإسلام، وقد أطلق عليه الحق في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كقوله: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29]، وإن إحقاق الحق باستئصال معانديه، أنتم تريدون نفعاً عاجلاً قليلاً، وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل، وذلك كله بكلماته، بسبب كلماته، مثل آيات القرآن النازلة في قتال الكفار، وما أمر به الملائكة من نصرة المسلمين يوم بدر وغير ذلك مما هيأ به للمعركة سبحانه شرعاً وقدراً، وكلماته سبحانه وتعالى لا تتخلف كما في قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15]. الهدف الثاني: هو قطع دابر الكافرين، وهو إزالتهم حتى لا يبقى في مؤخرتهم أحد من ورائهم وإن ذلك لتخضيد لشوكتهم، وإظهار أمر المسلمين ورفع شأن الإسلام، وما يكون فيه المسلمون من أمن واطمئنان بال، وإن حرمهم الغنى العارض، إذ كانوا يحسبون أنهم لا يستطيعون هزيمة عدوهم، إن في ذلك سمو رتبة الدين وعلو كلمة الحق، وهذا ما تحقق للمسلمين بعد بدر، وهم راجعون لا يصدق مسلم ولا يهودى ولا وثنى أنهم انتصروا لقد قلبت الموازين والحسابات، وتغيرت المواقف والأوضاع، ودخل الإسلام ¬

(¬1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (2/ 1481 - 1482).

مرحلة جديدة يحسب لها حسابها، بحيث جاءت أحد والخندق بكل أعداء الداخل والخارج توقعاً لقوة المسلمين الفتية وأدائهم القوى في ظاهر الأمر. لم تكن أهداف المسلمين إذا عند معركتهم وبعد نزول القرآن الكريم بتحديد تلك الأهداف كما ادعى المستشرقون، بل التطلع المادى، قد حسم قبل المعركة بكلمات الله التى بين لهم بعد المعركة. الهدف الثالث: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: 8]. واللام هنا للتعليل وهي متعلق بقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال: 7]، أي أراد ذلك وكون أسبابه بكلماته لأجل تحقيقه الحق وإبطاله الباطل، وأفاد التعليل هنا معنى الحصر، أي ما فعل إلا لذات الفعل لهذه الغاية الجليلة لا لشيء آخر، ولا لغرض آخر، وقد سيقت الآية لبيان الحكمة الداعية إلى اختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها، مع إرادتهم لغيرها، فلا يكون تكرار، إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين، وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر. (¬1) والحق هو حق من قبل ومن بعد وكذا الباطل، ومعنى يحق الحق إذا هو اظهار حقيقته، فيشتهر ويرتفع ذكره لا جعله حقاً بعد أن لم يكن، وكذا الباطل وهذا في التعبير القرآنى المجيد توكيد أيضاً لإحقاق الحق بنفى ضده وهو إبطال الباطل؛ لأن احقاق الحق من لوازمه إبطال الباطل، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 21]، لأنه لما كان الباطل ضد الحق لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر، فصار كل ذلك لتوكيد احقاق الحق، كما في قوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140]. ¬

(¬1) انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 345)، والألوسى، روح المعانى (6/ 249)، الرازى، التفسير الكبير (7/ 448 - 449)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 270 - 273).

وعلى كراهة من المجرمين لذلك فعل الله ما فعل بهم، إذ هم المشركون المكذبون، ولا شك أنه لا يقصد بالكراهة مجرد الكراهة القلبية، حتى تكون تلك المبالغ الضخمة في تلك التراتيب الإلهية للمعركة، ولكن الكراهة هنا كناية عن الاستعداد على قدم وساق لاستكمال محاربة الدعوة وقتل نبيها وتشتيت أهلها وفتنتهم عن دينهم إلى آخر ذلك من المقاومة والاستعداد، ومن ثم كان المشركون بكراهتهم أي بكل ما أوتوا يريدون إظهار الباطل وإحقاقه، وما من بد حينئذ أن تنفذ إرادة الله جل وعلا مهما كانوا (¬1)، وتنقلب الكفة عليهم بجنده الأقل في كل شيء ليحق الحق ويبطل الباطل ولو فعل المجرمون في الأرض ما استطاعوا والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. كان درساً ممتازاً لأهل الإيمان في كل زمان ومكان تحصله العصبة المؤمنة ليزداد يقينها بالله، وحسن توكلها عليه، وثقتها في دينها ورسولها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لتعود رايتها مرتفعة ونورها منتشرا يحمل العدل والحق والمساواة، يحمل الدينونة لله تعالى. وما زلنا سائرين مع السيرة القرآنية تقص لنا سيرة بدر لنقارن ونحلل بما ورد في الواقع لا لنجمع الأحداث لاستنباط المطلوب، وللتزود بوقود الإيمان الذى لا يخبو ولا يغيض، لتندفع قاطرة الحق حتى تبلغ مداها، فنصل إلى قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: 9 - 10]. مضى السياق هنا بعد تحديد أهداف المعركة، وكل معركة، مع توجيهات في كل موقعة جديدة تستوحيها ظروفها وما يحيط بها، في استحضار جو بدر وملابساتها ومواقفها، والتعبير القرآنى المتميز يعيد تمثيل المشهد بمواقفه وحوادثه وانفعالاته وخفقاته ليعيشوه ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 273).

مرة أخرى، معايشة التأمل والعبرة والاتعاظ والتأهل لما هو آت - معايشة الشكر لله تعالى والمحافظة على أسباب النصر والتزود منها - معايشة نقل ذلك والتحرك به لمن بعدهم من المؤمنين المتقين، معايشة الثبات على الإسلام والتعلق بالله والثقة في أن النصر من عنده هو سبحانه، ومعايشة الرؤية الحقيقية لابعاد الموقف التى تتجاوز بدراً والجزيرة والعالم كله لتربط الأرض بالسماء والدنيا بالآخرة، ليروا قيمة أقدارهم وأعمالهم في ميزانهم يوم القيامة. ونلاحظ على الآيتين ما يلى: 1 - تقدم ذكر الاستغاثة بعد أن ذكر كراهة بعض المؤمنين لقتال لم يستعدوا له، وبعد أن نبأهم بتصحيح أهدافهم من المعركة إلى الأهداف العليا، خاصة بعد ما اختار لهم ذات الشوكة لتكون لهم. وقد علمنا من السنة الشريفة أن الاستغاثة جاءت متأخرة عندما التقى الفريقان، ونظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قلة عدد المؤمنين وزادهم ورحلهم بالإضافة إلى الكفرة فأخذ يستغيث بالله تعالى ويناشده نصره الذى وعده، ويبدو أن هذا التقديم له حكمته في أن تكون استغاثة المؤمنين أولاً بالله تعالى في تحقيق النصر، لا بالنظر إلى قوتهم وعدتهم، إذ لا ينفعهم ذلك عندما يرفع الله عنهم عنايته ونصره، مهما كانوا في نهاية القوة وغاية البأس، لذا قال تعالى بعد ذلك في غزوة حنين مذكراً لهم تذكيراً عملياً كالمعتاد في تربية الله تعالى أوليائه المتقين وجنده المخلصين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]، لذا أعقب هذا الآيات الكريمات التى نحن بصددها بقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]، فكان تقديم الاستغاثة بالله واللجوء إلى نصره بعد تقديم الأسباب كافة هو العامل المقدم في النصر.

2 - وكذلك قدمت الآيات الكريمات ذكر الملائكة مع أنهم جاءوا مردفين للمؤمنين عندما ألتقى الصفان، ذلك لحكمة أيضاً ولعلها في الأمور التالية: الأول: أن الاستغاثة بالله وتقديمها تعنى على الفور غوث الله تعالى بالمدد الذى لا يهزم حتى لا ينسى المؤمنين ذلك أو يغفلوا عنه. الثاني: أن تقديم الملائكة يدلهم على نزول السكينة ورباطة الجأش والثبات عن الملاقاة فيدخلون المعركة وهم مستعدون الاستعداد التام للمواجهة، لا يهمهم من عدوهم كثرة ولا أبهة ولا سلاح، بل هم صامدون حتى إحدى الحسنيين، لا يهولهم شيء ولا يكبر عليهم شيء، فلا يزلزل الخوف والرعب - كائناً من كان عدوهم - شيئاً من أفئدتهم ولا من أمن روعاتهم، علاوة على البشارة بالنصر، الذى يجعلهم في نهاية التصميم عليه والمسارعة إليه. الثالث: الاستجابة الفورية بفاء التعقيب من الله تعالى لهم، ليكون عنواناً لهم وللمؤمنين في كل زمان ومكان على نزول مدد الله عليهم، وظهور تباشير النصر، وما تكون استجابة الله لهم إلا بعد استجابتهم له: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة: 186]، بتحقيق أسباب النصر ظاهراً وباطناً، مادياً ومعنوياً، حتى إذا وقفت بهم الأسباب جاءت قدرته وقوته ومدده الذى لا يقهر وفعله وترتيبه الذى لا يغالب وهو من دروس المؤمنين اليوم. ونعود إلى تحليل الآيتين الكريمتين لهذا المشهد العظيم .. ذكر المفسرون لقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9]، تعلقات كثيرة (¬1)، ونقتصر على كلام ابن عاشور لتوضيحه للواقع وموافقته له فنختصره حيث يقول: يتعلق ظرف: {إِذْ ¬

(¬1) فذكر بعضهم أنها بدل من: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ}، معمول لعامله، انظر أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 345)، الالوسى، روح البيان (6/ 249 - 250)، وكأنه كلام أبى السعود بنصه، وانظر الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 450)، وجعل العامل في إذ {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}.

تَسْتَغِيثُونَرَبَّكُمْ}، بفعل يريده الله، إذ إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة من إرادته إحقاق الحق حتى النصر ونهاية بدر، فكانت استجابة الله لهم بإمدادهم بالملائكة من مظاهر إرادته تحقيق الحق، وإذ كانوا بينهم وبين إرادة الله أن يحق الحق مدة من الزمان، فقد اقترن ببعضها على امتداد تلك المدة كما ذكرنا فصح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها. (¬1) وعبر بالمضارع لاستحضار هذه الصورة العجيبة (¬2)، من الماضى لتكون محل العبرة وعبر بضمير الجماعة وأريد به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيكون الجمع للتعظيم، أو لأنه كان يدعو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجلهم معلناً بدعائه وهم يسمعون، فهم بحال من يدعون، أو أن المسلمين أنفسهم كذلك كانوا يستغيثون ويدعون فصح إطلاق الجمع على الجميع. (¬3) {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، لما كانت الاستغاثة طلب الغوث، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة وكانوا في ذلك يومئذ، دعوا بطلب النصر لرفع ما هم فيه، فاستجاب لهم، بإجابة دعائهم عقيب الاستغاثة كما تفيده الفاء ولكن على أتم وجه لأن الاستجابة تدل على قبول الطلب والسين والتاء للمبالغة في تحقيق المطلوب. وقد جاءت الاستجابة بكلام من الله هو: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، أي بأنى ممدكم، أي معينكم وناصركم والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر. والإرداف الإتباع والإلحاق؛ فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مدداً، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما ورد في سورة آل عمران، وهم مردفين بألفين، فتلك خمسة ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 273 - 274). (¬2) أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 345)، الألوسى، روح المعانى (6/ 250). (¬3) الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 450 - 451)، أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 345 - 346)، الألوسى، روح المعانى (6/ 250)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 273 - 274).

آلاف، وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيماً أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى؛ لأن ذلك أرهب للعدو. وكان حلول الملائكة في المسلمين بكيفية يعلمها الله تعالى، فيراهم من أكرمه الله برؤيتهم أو بإراءة الله الناس ما ليس من شأنه أن يرى عادة. (¬1) وما كان إمداد المؤمنين بالملائكة إلا ليبشرهم، وإلا فقد كان يكفيهم أن يضمن لهم النصر دون أن يبين أنه بإمداد من الملائكة. وأما فائدة التبشير بإمداد الملائكة فيقول الطاهر بن عاشور: «يوم بدر كان في أول يوم لقى فيه المسلمون عدواً قوياً وجيشاً عديداً، فبشرهم الله بكيفية النصر الذى ضمنه لهم بأنه بجيش من الملائكة، لأن النفوس أميل إلى المحسوسات، فالنصر معنى من المعانى يدق إدراكه سكون النفس لتصوره بخلاف الصور المحسوسة من تصوير مدد الملائكة ورؤية أشكال بعضهم.» (¬2) وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 10]، كلام مستأنف لبيان أن المؤثر الحقيقى هو الله جل وعلا، ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه، وما جعل إمدادكم بهم بشيء من الأشياء إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون، {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}، وتسكن إليه نفوسكم وتزول عنكم الوسوسة. وفي الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالاً وهو مذهب بعضهم، ويشع ظاهرها بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بذلك الإمداد وفي ¬

(¬1) انظر لما سبق الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 275 - 276)، الزمخشرى، الكشاف (2/ 116 - 117)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 346 - 347)، والألوسى، روح المعانى (6/ 250 - 251) ن الطبرى، جامع البيان (9/ 126 - 127). (¬2) ابن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 276).

الأخبار ما يؤيده، بل جاء في غير ما خبر أن الصحابة رأوا الملائكة عليهم السلام. (¬1) وبعد أن بشرهم بنزول الملائكة، وطمأن قلوبهم بالنصر، أكد لهم مرة أخرى على التعلق بالله تعالى وأنه خالق الأسباب، وأن كل شيء منه، فلا يركنوا إلا إليه ولا يتوكلوا إلا عليه في النصر وفي تحقيق كل أمورهم وتيسيرها فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]، أي لا تحسبوا النصر من الملائكة فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة، أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله، والمنصور من نصره الله تعالى، وختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: {إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، بصيغة الخبر المؤكد فنزل المخاطبين منزلة من يتردد في أنه تعالى موصوف بهاتين الصفتين، وهما العزة المقتضية أنه إذا وعد بالنصر لم يعجزه شيء. والحكمة فيما يصدر من جانبه يجب غوص الأفهام في تبين مقتضاه، فكيف لا يهتدون إلى أن الله لما وعدهم الظفر بأحدى الطائفتين، وقد فاتتهم العير أن ذلك آيل إلى الوعد بالظفر بالنفير. وإن كانت الجملة في نفس الوقت مستأنفة استئنافاً ابتدائياً جعلت كالإخبار بما ليس بمعلوم لهم. (¬2) أخرنا الكلام على المعنى الثاني من نزول الملائكة، وهو قتال الملائكة في بدر مع المؤمنين مناسبة لسياق الأحداث، مع نزول الآية التى تتحدث عنه. والآن مع المشهد التالى وهو في قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: 11]. ¬

(¬1) أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 346 - 347)، والزمخشرى، الكشاف (2/ 116 - 117)، والألوسى، روح المعانى (6/ 252 - 253). (¬2) انظر الزمخشرى، الكشاف (2/ 117)، أبا حيان، البحر المحيط (5/ 280)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 452)، أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 346 - 347)، الألوسى، روح البيان (6/ 252 - 253)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 276 - 277)، الطبرى، جامع البيان (9/ 128 - 129).

لقد استجاب الله للمؤمنين عندما استغاثوا به، وأعلمهم أن النصر من عنده، فكان حسبهم بعد ذلك أن يبذلوا ما في طوقهم فلا يستبقوا منه بقية، وأن يغالبوا الهزة الأولى التى أصابت بعضهم في مواجهة الخطر الواقعى، وأن يمضوا في طاعة أمر الله، واثقين بنصر الله، كان حسبهم هذا لينتهى دورهم، ويجيء دور قدرة الله التى تصرفهم وتدبرهم، فكانت البشرى المطمئنة تثبيتاً للقلوب في مواجهة الخطر، وإنه لحسب العصبة المؤمنة أن تشعر أن جند الله معها لتطمئن قلوبها وتثبت في المعركة، ثم النصر من عند الله وحده، حيث لا يملك النصر غيره. وهو: «العزيز» القادر الغالب على أمره، وهو: «الحكيم» الذى يحل كل أمر محله. (¬1) لقد انتهى دور العصبة المؤمنة في أخذها بالأسباب، فهلَّ علينا مشهد الاعداد المباشر للقتال وهو اعداد المقاتلين، وتهيئة مسرح العمليات، وهو يصور ما يأتى، جاء المدد الأول من أمداد الله تعالى للعصبة المؤمنة يوم بدر في هذا المشهد يذكر قصة النعاس الذى غشاهم قبل المعركة فهى قصة حالة نفسية عجيبة، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره، لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه، فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم، والطمأنينة تفيض على قلوبهم، كان يوم أحد تكرر الفزع، وتكرر النعاس، وتكررت الطمأنينة، كيف تم هذا؟ كيف وقع هذا التحول المفاجيء إنه مدد من أمداد الله تعالى. وهذا في الترتيب والمدد التهيئة لأبلغ رد على المستشرقين في كل سيرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كونها اصطفاء واختياراً وتدبيراً وترتيباً من الله، إذ ذلك كله ليس في مقدور جميع البشر أن يفعلوه، أو ينزلوه إن كان شيئاً منه في الظاهر فما بال الباحث بالقلب والطمأنينة وتغشية ¬

(¬1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (3/ 1483 - 1484).

النعاس ونزول الملائكة مع إنزال المطر وإجراء تصاريف ليست في وقتها تخص هذه الفئة المؤمنة. وإذ قد صحوا من هذا النعاس بهذا المدد الروحى، جاءتهم أمداد أخرى تحيط بهم من الأمداد المادية هي قصة الماء: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} إلى قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، فتم المدد الروحى بالمدد المادى لتسكن القلوب في هذه الصحراء بوجود الماء، وتطمئن الأرواح بالطهارة وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال. ونعود لتحليل الآية الكريمة: يقول الطاهر بن عاشور في «التحرير والتنوير»: لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائل عناية الله تعالى برسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالمؤمنين، فقرنها في قَرَن زمانها، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذ الزمانية. وهذا من أبدع التخلص، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب. (¬1) إذ يغشيكم النعاس يجعله غاشياً عليكم ومحيطاً بكم، إذ الغشى كون الشيء غاشيا أي غاماً ومغطياً وهو بدل من: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ}، على القول بجواز تعدد البدل، أو مفعولاً فيه لقوله: {وَمَا النَّصْرُ}، فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، فلا جرم أن يكون وقت حصوله، والنعاس النوم غير الثقيل يزيل التعب ولا يغيب صاحبه، وإسناد الإغشاء إلى الله تعالى؛ لأنه الذى قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف، فهو نوم منحهم الله إياه لفائدتهم، وإما إسناد الغشى إلى النعاس حقيقة على المتعارف، وقد علمنا أنه من تقدير الله تعالى بقوله: {أَمَنَةً مِنْهُ}، أي أماناً منه، فإن الخوف والمشقة أطارا كراهم من أوكاره، فلما طامن الله قلوبهم رفرف بجناحه عليهم فنعسوا، وجاء الغَشْى بصيغة المضارع لاستحضار ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 277 - 278).

تلك الحالة تذكيراً بنعمة الله تعالى، إذ لما نعسوا زال أثر الخوف من نفوسهم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطاً، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة، ويزيل شعور الخوف الذى هو فتور الأعصاب. و {مِنْهُ}، أي من الله سبحانه، لإفادة تشريف ذلك النعاس، وأنه وارد من جانب القدس فهو لطف وسكينة ورحمة ربانية، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله تعالى. (¬1) كان ذلك حال المؤمنين الواقع لهم بقدره الله ومشيئته وذلك شيء من مدده، الذى اتبعه بذكر مدد آخر، له قصة نستكمل بها جوانب المشهد الذى نحن فيه، وهي قصة المطر الذى أكرمهم الله به في تلك الصحراء القاحلة، في قلة الزاد والماء، إنها لعناية الاهية لا يستطيعها البشر كافة ليحقق بها لجنده هذه الأمور الأربعة: الأول: ليطهرهم به من الحدث الأصغر والأكبر، وليملأوا أسقيتهم، وليشربوا ويحوزوا الماء إلى رحالهم. الثاني: إذهاب رجز الشيطان عنهم. الثالث: الربط على قلوبهم. الرابع: تثبيت الأقدام. وذكر إن إنزال المطر عليهم من الله تعالى للتنبيه على إكرامهم به في وقت احتياجهم إلى الماء، أو لكونه كذلك في غير الوقت المعتاد نزول الأمطار فيه، فقد كان المسلمون حين ¬

(¬1) انظر الطبرى، جامع البيان (9/ 129)، الزمخشرى، الكشاف (2/ 117)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 347)، الألوسى، روح المعانى (6/ 253 - 255)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 453 - 455)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 277 - 279)، سيد قطب، في ظلال القرآن (3/ 1484)، وهناك أقوال أخرى فيما ذكرنا، اقتصرنا على الأنسب للسياق والأقوى في بابه ولمزيد البحث ذكرنا المراجع والمصادر السابقة.

اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا المشركين إلى ماء بدر، ولكن طريقهم كان دَهْساً رملاً ليناً فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض المشركين ملبدة، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أمكن لهم، واستوحلت الأرض للمشركين فصار السير فيها شاقاً، فأمكن المسلمين السبق إلى الماء من بدر، ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيراً من المطر فشربوا وتطهروا. أما الرِجز فهو القذر وهو الحسى، وكذلك المعنوى المعبر عنه بالحديث، فالله جل وعلا أذهب عنهم بالماء رجز الشيطان ذلك، لأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأبدان والنجاسة مما يلائم طبع الشيطان، علاوة على ما فسر جمهور العلماء الرجز هنا بوسوسة الشيطان وتخويفه من العطش، حيث غلب المسلمون قبل نزول المطر على ماء بدر فظمئوا وأصبحوا مجنبين محدثين فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبياً وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين، فأنزل الله الماء فسال به الوادى ... إلى آخر ما ذكر (¬1)، أما قوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}، أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه، والربط هو الشد أي ربط القلوب، وأنما أتى بـ {عَلَى}، هنا للايماء إلى أنها امتلأت من ذلك حتى علا عليها، وفيه من إفادة التمكن ما لا يخفى. وتثبيت الأقدام هو ألا تسوخ في ذلك الدهس، بل تتمكن من السير في الرمل وجوز ان المراد بالتثبيت كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين. (¬2) كل ذلك - وأكثر منه مما وقع من السيرة - ذكرته الآية القرآنية الكريمة في هذا الموجز الموحى، مع نسبته إلى الله تعالى لا إلى غيره، ليكون عبرة للمؤمنين إلى اليوم، مع تذكير ¬

(¬1) الزمخشرى، الكشاف (2/ 117 - 118)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 455 - 456)، أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 347 - 348)، الألوسى، روح المعانى (6/ 255)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 279 - 280). (¬2) انظر الألوسى، روح المعانى (6/ 256).

الحاضرين بما كان من عظات عبر وأحكام ليستأنفوا توطيد أركان الشريعة، ونشر تعاليم الإسلام، رفع رايته وهم في تمام الثقة واليقين والتوكل على الله تعالى، وأن الناصر لدينه على الحقيقة هو الله، وإنما أكرمهم ليكونوا الأسباب الظاهرة التى يؤيد بها دينه، ويهزم بها أعداءه، وتتجلى فيها صدق الرسالة وصحة النبوة، وإتصال الأرض بالسماء، وليبدو بها وحى الله العظيم. تعبأ المؤمنون للقتال، وتقدم المسارعون إلى جنة عرضها السموات والأرض الصفوف، وبدأ المؤمنون في حصد إحدى الحسنيين، فجاءت الآية التى تبرز المشهد الجليل الهائل، مشهد الأمر لملائكة الإمداد المردفين بأن يعاونوا المؤمنين، وهي قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: 12]. ونسوق كلاماً مختصراً مرة أخرى لسيد قطب رحمه الله (¬1)، دالاً يوضح تمهيد المقصود فيقول: ذلك ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا، وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلى في المعركة. إنه الأمر الهائل، إنها معية الله سبحانه للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المؤمنة، هذا هو الأمر الذى لا يجوز أن يشغلنا عنه أن نبحث: كيف اشتركت الملائكة؟ ولاكم قتيلاً قتلت؟ ولا كيف قتلت؟ إن الحقيقة الكبيرة الهائلة في الموقف هي تلك الحقيقة (إن حركة العصبة المسلمة بهذا الدين أمر هائل عظيم أمر يستحق معية الله لملائكته في المعركة)، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة. إننا نؤمن بخلق من خلق الله اسماهم الملائكة، ولا ندرك من طبيعتهم وعملهم إلا ما ¬

(¬1) سيد قطب، في ظلال القرآن (3/ 1486 - 1487).

أخبرنا به النص عن خالقهم جل وعلا، فلا نملك إدراك الكيفية التى اشتركوا بها في نصر المؤمنين في بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآنى أو الحديث الصحيح، لقد أوحى إليهم أنى معكم، وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا، وأن يضربوا فوق أعناق المشركين، وأن يضربوا منهم كل بنان، كل ذلك فعلوا؛ لأنهم يفعلون ما يؤمرون، وقد وعد الله تعالى أن يلقى الرعب في قلوب الذين كفروا فكان ذلك، ووعده الحق، ولكنا لا نعلم كيف كان ذلك، فالله هو الذى خلق وهو أعلم بمن خلق. ولا شك أن ذلك لا يستعظم على قدرة الله تعالى، فكله من الممكن الجائز فكيف يكون محلاً لإنكار، أو ريب وتردد، وقد نزل الملائكة على الأنبياء من قبل، وقاموا بإبادة وخسف قرى ومدن مازالت آثارهم تحكى ذلك، فما المانع أن ينزلوا على المؤمنين المكرمين مدداً لهم يقاتلون على وفق علم الله وترتيبه مع بقاء نواميس النصر العادية وأسبابها. ووقفه عجلى على تحليل الآية الكريمة: {إِذْ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬1)، والخطاب هنا للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تنطق به الكاف، لما أن المأمور به مما لا يستطيعه غيره وهو الوحى للملائكة وهو تلطف به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفس الوقت، إذ الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر، وما خاطبهم الله به فكان الخطاب إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى؛ لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم، ويحصل العلم للمسلمين تبعاً له. وأن كل ما يهم المسلمون هو نصر الملائكة إياهم، وقد حصل. ¬

(¬1) هذا قول ابن عاشور (9/ 280)، وهذا خلاف ما ذهب إليه الزمخشرى من أن الظرف بدل ثالث لـ {وَإِذْ يَعِدُكُمُ}، انظر الكشاف (2/ 118)، وذهب أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 248)، إلى نصبه بمضمر وإليه ذهب الالوسى، روح المعانى (6/ 256)، ومثله الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 457)، وانظر تفاصيل غيرها فيما سبق.

وعُرف اسم الله هنا بالاضافة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {رَبَّكُمْ}، ليوافق تستغيثون لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول من استغاث، ولما فيه من التنويه بقدره واللطف به ورفع شأنه. (¬1) وإيحاء الله تعالى إلى الملائكة بأنه معهم مقصود منه تشريفهم، وتشريف العمل الذى سيكلفون به، لأن المعية تؤذن إجمالاً بوجود شيء يستدعى المصاحبة، فكان قوله تعالى: {أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال: 12]، مقدمة للتكليف بعمل شريف يذكر ما تتعلق به المعية، لأنه سيعلم من بقية الكلام، أي أنى معكم في عملكم الذى أكلفكم به. {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا}، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وعُرف هؤلاء المطلوب تثبيتهم بالموصول لايماء صلة {آَمَنُوا}، بأن إيمانهم هو الباعث على هذه العناية، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان. وهنا يظهر موقع الفاء من حيث ما دل عليه {أَنِّي مَعَكُمْ}، من التهيئة لتلقى التكليف بعمل عظيم، وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها، ووضع أضدادها لأنه يجعل الحبن شجاعة، والخوف إقداماً، والهلع ثباتاً في جانب المؤمنين، ويجعل العزة رعباً في قلوب المشركين، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سبب من أسباب القطع المعتادة، فكانت الأعمال التى عهد للملائكة عملها خوارق عادات. وكان المراد التثبيت أيضاً الحمل على الصمود في مواطن الحرب والجد وفي مقاساة الشدائد في القتال قولاً وحالاً مثل ظهورهم بصورة بشرية يعرفونها بالنصر على أعدائهم، وأنهم سمعوا المشركين يقولون لئن حمل علينا المسلمون لننكشفن (¬2). ¬

(¬1) انظر أبا السعود (2/ 348)، الألوسى، روح المعانى (6/ 256)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 281 - 282)، وغيرها. (¬2) انظر لما سبق الزمخشرى، الكشاف (2/ 118)، أبا حيان، البحر المحيط (5/ 284 - 285)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 457)، الطبرى، جامع البيان (9/ 132)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 348)، الالوسى، روح المعانى (6/ 256 - 257)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 281).

{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}، جاءت تفسيراً لقوله تعالى: {أَنِّي مَعَكُمْ}، في إعانة المؤمنين بإلقاء الرعب في قلوب اعدائهم، أي يجعلهم مرعوبين خائفين منزعجى النفوس يتوقعون كل مكروه، وأسند الرعب إلى نفسه وحده سبحانه وتعالى؛ لأن الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فجعله الله بواسطة أخرى غير الملائكة، وإسناده إليه سبحانه على طريقة الإجمال بدون بيان لكيفية إلقائه، إشارة إلى أنه رعب شديد، قدره الله تعالى على كيفية خارقة للعادة، وإنما كان كذلك لأن أسباب ضده قائمة من وفرة عدد المشركين وعددهم، وإقدامهم على الخروج إلى المسلمين، وحرصهم على حماية أموالهم، وليسمع بهم العرب فلا يزالون يهابون قريشاً. فلما وقع لهم الرعب دل على خرق ذلك كله ولم يقل سبحانه سنلقى بدلاً من سألقى حتى لا يتوهم أن للملائكة سبباً في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا. (¬1) وما زلنا مع هذا المدد للمؤمنين عبرة لغيرهم، وبشارة لمن بعدهم ممن تحقق فيهم الإيمان الجالب لهذا النصر. فقال تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .. وهي تفسير لقوله تعالى: {فَثَبِّتُوا}، مبين لكيفية التثبيت، ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم، واجتماعهما غاية النصرة (¬2). يقول الالوسى: «وقوله سبحانه وتعالى: {سَأُلْقِي}، إلخ جمل استئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنها مصدقهً ومبنيهً لإعانته إياهم على التثبيت، وقوله سبحانه وتعالى: {فَاضْرِبُوا}، إلخ جملة مستعقبة للتثبيت، بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أنى معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا، وجيء ¬

(¬1) انظر الالوسى، رح المعانى (6/ 257)، وابن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 281 - 282). (¬2) ابو حيان، البحر المحيط (5/ 285)، تبعاً للزمخشرى (2/ 118).

بالفاء للنكتة المذكورة ..... إلى أن يقول: وأما القول بأن {فَاضْرِبُوا}، إلخ خطاب منه تعالى للمؤمنين وأنى ذلك؟ والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة. وبالجملة الآية ظاهرة فيما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة (¬1). {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، أي الرؤوس من المشركين، وفوق باقية على ظرفيتها، وقيل: إنها مفعول به، وهي بمعنى الأعلى إذا كان بمعنى الرأس، وقيل: زائدة، وقيل بمعنى على أي على الأعناق أو الأعناق. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}، وهي جمع بنانة وهي الإصبع وقيل طرفه، وإنما خصت الأعناق والبنان لأن ضرب الأعناق إتلاف لأجساد المشركين، وضرب البنان يبطل صلاحية المضروب للقتال، وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة، وقد ذكرنا في السيرة عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى (¬2)، وعلى المعنى الثاني يكون بتسديد ضربات المسلمين فيكون إسناد الضرب اليهم مجازاً عقلياً لأنهم سبب جاء الخطاب القرآنى ليبين لنا بعد ذلك كله – مع أننا اختصرناه لأقل ما يمكن – ليشدد على موقفين وهما موقف المشركين وموقف المسلمين. الأمر الأول: موقف المشركين: حيث ذكر أن سبب ما فعل بهم إنما كان لمشاقة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما ينتظرهم في الآخرة أشد أنكى فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَن لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} [الأنفال: 13 - 14]. ¬

(¬1) الالوسى، روح المعانى (6/ 258). (¬2) انظر ابن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 283).

والباء للسببية تفيد معنى التعليل، والمخاطب إما الملائكة بمعنى أن ما فعلتموه بهم كان لمحاداتهم لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو الخطاب لمن لم تبلغهم الآية من المشركين الأحياء يوم بدر، ولذلك فالجملة معترضة للتحذير من الاستمرار على مشاقة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو لكل أحد ممن يليق به الخطاب (¬1). والمشاقة التى فعل الله ذلك كله بهم لسببها هي العداوة بعصيان وعناد، وهي مشتقة من – الشِق – بالكسر أي هم في جانب والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جانب، ليسوا في جانب الإيمان والطاعة، بل الكفر والمعصية والمخالفة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ثم كان التصريح بسبب الانتقام تعريضاً للمؤمنين ليستزيدوا من طاعة الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن المشيئة لما كانت سبب هذا الانتقام والعقاب العظيم، فيوشك ما هو مخالفة للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو بدون مشاقة أن يوقع في العذاب والانكسار وإن كان دون ذلك، وخليق بأن يكون ضدها وهو الطاعة موجباً للخير الشامل للنصر وغيره وهذا ما يمثله الواقع الذى تردينا إليه مقارنة بأعظم واقع كانوا فيه (¬2)، وقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، الإظهار في موضع الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه، والإشعار بعلة الحكم. وأما قوله: {فَإِن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .. فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهانى، كأنه قيل: ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله تعالى ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكل من يشاقق الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فله بسبب ذلك عقاب شديد ¬

(¬1) انظر الزمخشرى، الكشاف (2/ 118)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 458)، أبا حيان، البحر المحيط (5/ 287)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 349)، الالوسى، روح المعانى (6/ 259)، وابن عاشو، التحرير والتنوير (9/ 284). (¬2) أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 349)، وابن عاشو، التحرير والتنوير (9/ 284).

كائناً من كان، فإذن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقاب شديد. (¬1) فلم يكن ذلك العقاب في نهاية مشهد المشاقة الهائل هذا إلا تقريراً موضحاً لما وراء المعركة، ووراء النصر فيها والهزيمة، من قاعدة ودستور لمجرى هذه الأمور: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)} [الأنفال: 13]. أنها ليست فلته عارضة ولا مصادفة عابرة، أن ينصر الله العصبة المسلمة، وأن يسلط على أعدائها الرعب والملائكة مع العصبة المؤمنة، إنما ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووقفوا يصدون عن سبيل الله ويحولون دون منهج الله للحياة. {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِن اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ينزل عقابه عليهم وهو قادر على عقابهم بأقل بكثير لأنهم أضعف من أن يقفوا لعقابه. أنها قاعدة وسنة لا فلتة ومصادفة، حيث انطلقت العصبة المسلمة في الأرض لتقرير ألوهية الله وحده، ثم وقف منها عدو لها موقف المشاقة لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان التثبيت لهم والرعب والهزيمة للمشاقين لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما استقامت العصبة المؤمنة على الطريق، واطمأنت إلى ربها، وتوكلت عليه وحده. وفي نهاية هذا المشهد يتوجه بالخطاب للمشاقين الصادين عن سبيله، إن هذا الحكم الذى حل بكم في الدنيا ليس نهاية المطاف إنه أمر ممتد إلى ما وراء هذه الأرض، وإلى ما بعد هذه الحياة في الآخرة. ¬

(¬1) أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 349 - 350)، الالوسى، روح المعانى (6/ 259 - 260).

{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَن لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)} .. فهذه نهاية المطاف وهو هذا العذاب الذى لا يقاس إليه ما ذقتم من الرعب والهزيمة ومن الضرب فوق الأعناق ومن ضرب كل بنان. (¬1) الأمر الثاني: وهو الخاص بالمسلمين: وشددت عليه الآيات قبل نهاية قص الغزوة من الوجهة القرآنية، وهي قضية عدم الفرار أمام زحف الكفار، وكان منطقياً أن يجيء هذا النهى، وهذا الوعيد الشديد على وقوعه من المؤمنين بعدما رأوا كيف كان الأمر كله بترتيب الله تعالى تهيئة ونصراً. وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 15 - 16]. بعد أن سرد القرآن الكريم الواقعة، ومشاهدها وملابساتها، وقبل أن يختمها، ويسوق الأحكام التى صارت دستوراً لكل ما يأتى من مشاهد للمؤمنين بعد ذلك، جاء في أنسب اللحظات هذا الحكم القرآنى لحظات استجابة القلوب للتوجيه. يعنى بعد أن أراهم قدرة الله وحكمته في تدبيره، وعونه ومدده، وعلموا منها أنهم لم يكونوا فيها سوى ستار لقدر الله تعالى وقوته، فهو سبحانه الذى أخرج رسوله من بيته بالحق، لم يخرجه بطراً ولا اعتداء ولا طغياناً ولا رياء الناس، والله هو الذى اختار لهم إحدى الطائفتين لأمر يريده كما بين، وهو الذى أمدهم بالملائكة مردفين، والله هو الذى غشاهم النعاس أمنة منه ونزل عليهم من السماء ماء ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجز ¬

(¬1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (3/ 1486).

الشيطان وليربط على قلوبهم، ويثبت به الأقدام، والله هو الذى أوحى إلى الملائكة ليثبتوا الذى آمنوا، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، وهو الذى أشرك الملائكة في المعركة، وأمرهم أن يضربوا فوق الأعناق وأن يضربوا من المشركين كل بنان، وهو الذى غنمهم الغنيمة، ورزقهم من فضله بعد أن خرجوا لا مال ولا ظهر ولا عتاد. فلما ذكرهم بذلك، وأعلمهم أن ذلك شأنه مع الكافرين، اعترض في خلال ذلك بتحذيرهم من الوهن والفرار، فالجملة معترضة بين جملة إذ يوحى ربك للملائكة وجملة فلم تقتلوهم، وفي هذا تدريب للمسلمين على الشجاعة والثبات والاقدام لتكون تلك سيرتهم الدائمة، بعد ذلك صموداً عند اللقاء حتى يروا بشائر نصره التى لا تتخلف إن التزموا أسباب هذا النصر، وهي خطة محمودة عند العرب لم يزدها الإسلام إلا تقوية، قال الحصين بن الحمام: تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد ... لنفسى حياة مثل أن أتقدما (¬1) بعد أن استعرض القرآن الكريم تلك المشاهد كلها، الآن يجيء الأمر للذين آمنوا أن يثبتوا إذا لقوا الذين كفروا وألا يولوهم الأدبار فراراً وهزيمة، ما دام أن النصر والهزيمة موكولة لإرادة فوق إرادة البشر، وإلى أسباب غير الأسباب الظاهرة التى يراها الناس حيث كان المسلمون مظهراً لتجلى ذلك كله من الله تعالى، وهو يريد في نفس الوقت أن يكون الجهاد والبلاء من سعيهم ليثيبهم الثواب الأوفى ويعطيهم الجزاء الأعلى. ويكون المعنى يا أيها الذين آمنوا إذا واجهتم الذين كفروا زحفاً متدانين متقاربين، فلا تفروا عنهم إلا أن يكون ذلك مكيدة حرب تختارون بها أو تنحرفون بها إلى موقع حسن، أو تدبرون خطة أحكم، أو أن يكون ذلك انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين، أو إلى قواعد ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 286).

المسلمين لتواصلوا وتعاودوا القتال كرة أخرى، وأن من تولى وأعطى العدو دبره بهذا الوضع المستبشع فقد استحق ذلك العقاب؛ غضباً من الله ومأوى في جهنم، وصار هذا الحكم عاماً إلى يوم القيامة حيث ذكر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الفرار من الزحف من الكبائر العظيمة. (¬1) ليس من مقصودنا هنا تفسير الآية وتحليلها، لأنها ليست من السيرة القرآنية، وإنما جاءت لتبين للمؤمنين. أولاً: صحة كل هذه المشاهد السابقة، وصدق نسبتها إلى الله تعالى، ومن ثم جاء الأمر بناء على ذلك بعدم الفرار أمام الكفرة، ولذا كانت الجملة مترابطة مع السياق ملتحمة معه. ثانياً: كان التركيز على هذا الأمر مبكراً دليلاً على أنه بداية دخول المسلمين لمعارك عديدة مع الكفرة، وأنهم يجب أن يؤهلوا من أول معركة لكل ملاقاة بعد ذلك، فكانت رؤية هذه العناية من الله تعالى من المهمات الحاثة لهم على ذلك البذل والتفانى والإقدام. يستكمل القرآن الكريم بقية مشاهد موقعة بدر، وهو المشهد الذى يكشف لنا عن قدرة الله وهو يدير المعركة وراءهم، ويقتل لهم أعداءهم، ويرمى لهم ويصيب، وهم ينالون أجر البلاء؛ لأن الله تعالى يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء، ليثيبهم عليه من فضله، وهو الذى وهبهم إياه. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17]. ذكرنا في أحاديث السيرة أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقبضة من حصى الوادى، فرمى بها ¬

(¬1) انظر لما سبق سيد قطب، في ظلال القرآن (3/ 1487)، والحديث رواه الشيخان: «اجتنبوا الموبقات السبع ...».

المشركين، وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا أصابته فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم فقيل لهم فلم تقتلوهم، والأظهر أن الفاء هي الفصيحة وهي واقعة في جواب شرط مقدر، أي إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، أو التقدير إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقطع أيديهم فلم تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم وقد بين لكم ذلك. (¬1) وكذلك كانت تلك الرمية من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التى انهزم المشركون على إثرها فقال له تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ}، أنت يا محمد {إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}، أنها رمية الله تعالى، فلم ترمها أنت على الحقيقة؛ لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغة أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت هذا الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأن أثرها الذى لا يطيقه فعل البشر هو فعل الله عز وجل، فكان الله فاعل الرمى على الحقيقة وفي ذلك: 1 - إثبات لطف الله تعالى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإظهار صدق وأعلام نبوته. 2 - وهو كون قتل المشركين ورميهم حاصلاً من الله لأمن المسلمين ونصرهم يفيد تعليل وتوجيه ما نهاهم عنه من توليه الأدبار، ويفيد أمرهم بالصبر والثبات. 3 - التعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله مثلاً: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، فإنهم إن امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم، وذلك ما يؤكد على ¬

(¬1) هذا ما ذهب إليه في الكشاف (2/ 119)، وانظر بن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 293)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 351 - 352)، والالوسى، روح المعانى (6/ 267)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 463)، الطبرى، جامع البيان (9/ 136)، وذهب أبو حيان إلى أن الفاء ليست جواب شرط محذوف، وإنما هي للربط بين الجمل، البحر المحيط (5/ 295).

ما أشير إليه من قبل من الوعيد على تولية الأدبار، وقطع عذر الفارين المتولين، ومن ثم جاءهم في وقعة أحد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمرانك 155]. ومازالت هناك علل أخرى يذكرها القرآن الكريم لما أنزل الله من أسباب نصره، منها ما ختمت به هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فجعل قتل المشركين وما أصابهم من رميه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلة أخرى، وهي أن يبلى المؤمنين بلاء حسناً أي ليعطيهم سبحانه من عنده عطاء جميل ومنه قول زهير: جزى الله بالاحسان ما فعلاً بكم ... فأبلاهما خير البلاء الذى يبلى غير مشوب بالشدائد، يشكرونه عليه فيظهر ما يدل عن قيامهم بشكره مما تختبر به طوبتهم لمن لا يعرفها، وهذا العطاء هو النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة. (¬1) والعلة الثانية في هذا السياق في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَن اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)} [الأنفال: 18]. والأشارة ب {ذَلِكُمْ}، إلى البلاء الحسن وعطف عليه جملة {وَأَن اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، والتقدير ليبلى المؤمنين وليوهن كيد الكافرين، فأراد الله توهينهم بهزيمتهم تلك الشنيعة ليوهن كيدهم للإضرار بالمسلمين، وهو بشارة لاستمرار وزيادة هذا الوهن حتى زوال عداء قريش للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وللمسلمين، وذلك ما انتهى إليه واقع الأمر ويدل على البشارة أنه ما كان ذلك الوهن ليعود قوة تهزم بها المسلمون ويعود المسلمون مقهورين تحت الكفرة. ¬

(¬1) الطبرى، جامع البيان (9/ 137)، الزمخشرى، الكشاف (2/ 119 - 120)، الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 465)، وأبا السعود، الارشاد (2/ 351 - 352)، الألوسى، روح المعانى (6/ 267 - 271)، وابن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 293 - 298).

تنتقل الآيات مرة أخرى لتنقل لنا مشهداً من بديع المشاهد، وإن كان موقعه في السيرة هو أول مشاهد اللقاء الدامى، ولكن أنسب موضع له أن تختم به تلك المشاهد المقصوصة كما جاء به القرآن الكريم، فهو يشير إليه يذكره في ذات الوقت بأسلوب التوبيخ والسخرية اللائقة بسخرية الكفرة وما كانوا فيه، لأنه مع أنه وقفة لأبى جهل في بداية المعركة، إلا أن أثرها ووقعها يثبت أو يهدم في نفس الوقت الحقائق في صدور المؤمنين والكفرة على السواء ولذا جعل التنبيه به من أشد المهمات، والختم به لتلك المقاطع المتسلسلة من القصص القرآنى من أعظم المناسبات بل والمفاجآت، التى تدل على القصد وأن ذلك كله لم يكن فلتة أو عرضاً. وهو قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)} [الأنفال: 19]. وقف أبو جهل لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض فقال: «اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يُعرف فأحنه الغداة» (¬1)، أي فأهلكه، فكان هو المستفتح. أي هو الذى دعا أن يهلك أضل الفريقين، ولذا ذهب جمهور المفسرون على أن الخطاب موجه إلى المشركين وفيه التفات من الغيبة اقتضاها قوله تعالى: {وَأَن اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، وكان النصر والفتح لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فخوطب المشركون بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم والتوبيخ أي جاءهم الفتح نعم ولكنه فتح للمسلمين ونصر عليكم أيها المشركون، وحمل ابن عطية «المحرر الوجيز»، فعل جاءكم على معنى فقد تبين لكم النصر ورأيتموه، وأنه ¬

(¬1) السيرة – ابن هشام (2/ 199)، والحديث رواه أحمد (5/ 431)، وابن جرير (9/ 138)، والبيهقى (3/ 74)، وهو حديث صحيح.

عليكم لا لكم، فيكون مجيء الفتح بمعنى الظهور فلاتهكم فيها. (¬1) وجاء طلب الفتح بصيغة المضارع مع أن الفعل قد مضى لقصد استحضار الحالة من تكريرهم الدعاء بالنصر على المسلمين، وبذلك تظهر مناسبة عطف باقى الجمل {وَإِنْ تَنْتَهُوا ...... وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}. وقوله: {وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ}، أي: وإن تعودوا إلى العناد والقتال نعد إلى هزمكم كما فعلنا بكم يوم بدر. ثم أيأسهم من الانتصار في المستقبل بقوله: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ}، حيث أكد لهم أنهم لن تنفعهم جماعتهم على كثرتها كما لم تغن عنهم شيئاً في موقعة بدر وجاء بـ {وَلَوْ}، الاتصالية أي لن تغنى عنكم في حال من الأحوال، ولو كانت في حال كثرة على فئة المؤمنين وهنا احتمالان في عود الضمير في {تَعُودُوا}: الأول: إن تعودوا للاستفتاح وطلب النصر على المسلمين فالحال واضح. الثاني: إن تعودوا لقتال ومحاربة المسلمين، فيشكل عليها وقوع هذه الفلته للمشركين في غزوة أحد. والجواب عن هذا أن الشرط لم يكن بأداة شرط ليفيد العموم فلا يتخلف ك (مهما) وغيرها وبالتالى لا يبطله تخلف مضمون الجزاء عن حصول الشرط في مرة. ويمكن إضافة القول بأن المسلمين قد انتصروا في أحد حتى إذا خالفوا شرط النصر بالامتثال لأوامر الشرع، لأنه كما ذكرنا من قبل أنه مهما تكبر الجماعة المسلمة مستمسكة ¬

(¬1) الطبرى، جامع البيان (9/ 138)، الزمخشرى، الكشاف (2/ 120)، وابن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 298 - 301)، ابن عطية، المحرر الوجيز.

وممتثلة لأوامر الشرع فإنها منصورة، يضاف إلى ذلك أن غزوة أحد لم تكن هزيمة بالمعنى المعهود للهزيمة، إذ لم يؤسر أحد، ولم تسبب النساء والذرارى، ولم تحتل الأرض، ولم يستسلم الجيش، ولم يقم جيش المشركين بالبقاء في أرض المعركة أيامه التالية على العادة الجارية حين يحتفل بالنصر، بل أسرع بالرجوع إلى مكة، علاوة على قيام جيش المسلمين بمطاردة واسعة النطاق للجيش المكى في اليوم التالى للمعركة، مما جعلهم يسرعون الخطى ناجين بجلودهم من مصير عسر، لو استكملوا الحرب مع جيش المسلمين بعدما رأوا نصر المسلمين عليهم في أول المعركة ووقوع أعداد كبيرة من القتلى بينهم. ومع ذلك ففى هذا الوعيد بشارة بوقوع النصر الحاسم والفتح المبين، وأنه سيكون للمسلمين يوم فتح مكة. (¬1) وختمت الآية بقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، لتكون تعليلاً لما سبق من نصر وتأييد، وتعليلاً وتمهيداً لما سيأتى من ملاقاة الكافرين من أن النصر سيكون حليفهم، لمعية الله التى لا يدركها العقل لأولئك المؤمنين وأن تلك المعية التى من ضمن ما تقتضيه، نصر مَنْ كان الله معهم، مكفولة لكل من تحقق بالإيمان في أي عصر وزمان الإيمان الذى هو الركن الركين في نزول نصر الله تعالى، ولكنه ليس أي إيمان، بل الإيمان الذى يصحب الرب فيه أولياءه، لأنه إذا كان معهم فمعهم الفئة التى لا تغلب، والحارس الذى لا ينام، والهادى الذى لا يضل ثم الواو في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ ....}، عاطفة على جملة {وَأَن اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، فيستقيم به أسباب النصر أنه يوهن ويضعف تدبير وعمل الكفرة، وهو مع المؤمنين في ذات الوقت يقويهم ويمدهم ويحفظهم وينصرهم، ويحقق لهم كل ما سبق من نعم أسداها لهم من أول السورة إلى ذلك الموقع. ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (9/ 300).

وورد بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} [الأنفال: 20]. ولما لم يكن غرضنا التفسير لغير آيات الغزوة، فإننا نختصر إلى القدر الذى يشير إلى ترابط مشاهد الغزوة بما تبعها من أوامر ووصايا وعظات فقط. وبهذا الاختصار نختتم هذه المشاهد، لنعود إلى مقاطع أخرى ذكرتها السورة من مشاهد الغزوة، ولكنها جاءت متباعدة عن هذه السلسلة المتتابعة وبادىء الرأى فإن هذه الآيات عود لما بدأت به آيات السورة في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. فضمت هاتان الآيتان في البدء والختام كل تلك المقاطع وأغلقت عليها وشدتها برباط النصر رباط الطاعة لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وترك مشاقته وعصيان أمره. فإنه أراهم الله تعالى آيات لطفه وعنايته بهم، ورأوا فوائد امتثال أمر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخروج لملاقاة الجيش وكانوا كارهين، أعقب ذلك بأن أمرهم بطاعة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شكراً على نعمة النصر، واعتباراً بأن ما يأمرهم به خيرٌ عواقبه، وحذرهم من مخالفة أمر الله تعالى ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذى افتتحت به السورة رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاحه. فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ...}، في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما تهواه أنفسهم، وضرب لهم مثلاً لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر للقاء النفير خشية الهزيمة، وما نجم عن طاعتهم للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومخالفتهم هواهم من النصر العظيم والغُنم الوفير والتأييد المبين للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتأسيس لإقرار دينه إلى آخر المشاهد التى ذكرهم بمنته فيها، وكيف هزم المشركين لمشاقتهم لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي معصية وترك طاعة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما حدث لهم جراء ذلك، وعرض بالمسلمين في أن

يصيبهم ما أصاب المشاقين أن هم اتبعوا هواهم وتركوا طاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبوجوب أن يتبرأوا مما فيه أي شائبة لعصيانه، وضمن لهم بعد ذلك النصر أن أطاعوا الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتوكلوا على الله وطلبوا منه النصر، أعقب ذلك بإعادة الأمر بالطاعة لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن لا يتولوا عنه كل ذلك فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها. انتهت هذه الخلاصة المجملة لما فصل تبييناً للقضية الأصلية، ونسرع إلى البحث في بقية المشاهد التى صورت متباعدة عن المشاهد الأولى، لحكمة عالية لا شك، إذ اشتملت الآيات الواقعة بين تلك المشاهد على منن ونعم ذكرهم الله بها، وعلى أوامر ونواه يجب أن يلتزموها في مسيرتهم، وعلى وصايا تعيق المسيرة وتمنعها من مواصلة الرحلة مرفوعة الراية، ووصايا تثبيت الأقدام، وتبقى الراية وتدفعها دائماً إلى الأمام، وتضم في تلك الآيات أيضاً صورة المشركين وإنفاقهم الأموال ليحاربوا الله ورسوله، فإذا بها تكون عليهم حسرة ويغلبون في الدنيا، ويحشرون إلى جهنم في الآخرة، مما يقوى قلوب المؤمنين، ويرفع معنوياتهم، ويرشدهم إلى الطريق الأمثل لملاقاة الكفار والانتصار عليهم إلى آخر ما حوته تلك الآيات الكريمات، إلى أن نصل إلى المشهد المقصود حيث يجمع في طياته مشاهد كثيرة وهو في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ

النَّاسِوَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَن اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} [الأنفال: 41 - 51]. بدأت الآيات الأولى في قصة بدر كما ذكر القرآن الكريم بتسليم الأنفال لله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنها خاصة به جل وعلا يضعها ويقسمها حيث يشاء، ثم بين الأهم من الأنفال والذى يجب أن يكون عليه المؤمنون من الإيمان وأخلاقه، ليركنوا إليه ويتوكلوا عليه لأن كل ذلك بترتيبه هو سبحانه لا بترتيبهم ولا بترتيب الدنيا جميعاً. وإذ استقرت الأحوال والنفوس والأوامر والنواهى والوصايا كما أبرزتها الآيات من الله تعالى، عاد القرآن الكريم ليفصل قسمة الغنائم كما أراد هو جل وعلا، ومع إعلان هذه القسمة بعد انتهاء المعركة وضح لهم أموراً أخرى تؤكد عليهم أن الأمر كله لله من قبل ومن بعد، وشرح صدورهم بمعنى جديد مازالت أصداه عالية، وستبقى إلى يوم القيامة وهو تسمية يوم بدر بيوم الفرقان، وكان مناسباً بعد ذكر الفرقان أن يبين لهم مستحضراً الحالة أمامهم كأنها مشاهدة كيف كان فرقاناً، وكذلك التوجيهات التالية لهذا النصر الإلهى، الذى لا دخل لهم فيه ليعود بهم إلى السيرة العطرة التى أرادها لهم، ولتكون تلك التوجيهات النيبراس الهادى لهذا الطريق القويم لرفعة الدنيا والآخرة. وبتفصيل يسير يبدأ هذا الشطر ببيان حكم الله تعالى في الغنائم ليستوحوا له إن كانوا يؤمنون بالله وما أنزل على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، ثم يكشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التى جاءت بهذه الغنائم، ويستحضر جانباً آخر من مواقف المعركة

ومشاهدها يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير، كما يتجلى مرة أخرى أنهم لم يكونوا سوى أداة لإمضاء قدر الله تعالى ستاراً له، ثم يهيب بهم من وراء هذا الذى كشفهم لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء، وإلى ذكر الله وطاعته وطاعة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار، ويدعوهم إلى الصبر، وتجنب البطر والرياء في الجهاد، ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله منخدعين بكيد الشيطان، ويؤكد لهم مرة أخرى، الدعوة إلى التوكل على الله وحده، القوى القادر على النصر، الحكيم في تقدير وتدبيره، ثم يريهم سنته في أخذ الكافرين المكذبين، وكما ذكر في الشطر الأول الملائكة يثبتون المؤمنين، ويضربون أعناق الكفار وأيديهم، ذكر هنا أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم – ثم زاد بذكر نعمته ومنته في تآلف المؤمنين والتى لم تكن ولو اجتمع لها من بأقطارها - يطمئنهم إلى كفايته لهم وحمايته إياهم، ومن ثم حرضهم على القتال، وأن يصمدوا في أضعف حالاتهم، بضعْف أكفائهم من المشركين، والله ناصرهم ما صبروا. (¬1) هذا التمهيد نواجه به ما يخصنا فقط من أحداث السيرة ومعانيها، ونبدأ لما استسلموا لأمر الله كما طلب منهم، واستقر فيهم مدلول الإيمان، عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة، ويستبقى الخمس على الأصل لله ولرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو، إنما يستحقونها بمنح الله لهم إياها، بما منحهم من نصر من عنده، وبما دبر أمر المعركة كله، إن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو مقتضى الإيمان بالله تعالى، وذكر مع الإيمان بالله الإيمان بما أنزل على عبده يوم الفرقان فذكرهم بعبده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تشديداً على الإيمان به، وتصديقاً له فيما أخبر عن ربه، وأن العبودية التى وصل إليها هي أعلى درجات الإيمان والاصطفاء وإنه أعلى مقام يصل إليه الانسان بتكريم الله له، فهى تجلى لهم ¬

(¬1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (1515 - 1516).

قيمة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الله، وفيما يبلغ به عن ربه، وفيما يوكله فيه ربه من التصرف وبالتالى يرشدهم إلى حقيقة العبودية التى يجب أن يسعوا ليدركوها بفضل الله تعالى ليخرجوا بها من عبودية العباد والنفس والهوى والمألوفات والعادات، ليكونوا أحراراً كما فطرهم لا يعبدون سوى إلاههم الواحد جل وعلا. (¬1) ويبين لهم أيضاً أن ما أنزل على عبده يوم الفرقان قد رأوه وسمعوه، قد عاينوه وعايشوه وعلموا أن ليس لأحد فيه فضل، وألا قوة على إيجاده وإنزاله إلا للقوى القاهر، مما يستجيش به عندهم عواطف الإيمان ودلائل اليقين وقوة الثقة، التى تحملهم على أن يكونوا كما أراد الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل أحوالهم ومعاركهم لينزل عليهم ما شاهدوه بأعينهم واستقر مدلوله في قلوبهم ووجدانهم، ليس بعد ذلك دلائل لإيمان، ولا لتصديق ولا لنبوة، وما يتخلف شيء بعد الآن بسبب من أنفسهم. ونجيء إلى وصف ذلك اليوم بالفرقان. إن الفرقان الأول – وهو المجمل – الذى أشار إليه المفسرون، وهي أنها كانت فرقاناً بين الحق والباطل، ولكنه الحق الذى قامت عليه السماوات والأرض الحق الأصيل الذى يعنى تفرد الرب بالالوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وأن الكون كله في عبوديته لا معقب له ولا شريك، وبين الباطل الزائف الذى يقيمه في الأرض طواغيت تعبد من دون الله تعالى وتتصرف في خلق الله بما تشاء هي. لقد كانت فرقاناً بين الوحدانية المجردة لله تعالى في الشعور والضمير، والخلق والسلوك والعبادة والمعاملة، وبين الشرك في كل الصور التى تشمل عبودية الضمير لغير الله تعالى من الأشخاص والقيم والأهواء والتقاليد وغيرها بحيث لا تنحنى الهامات لغير ¬

(¬1) انظر سيد قطب، في ظلال القرآن (1520 - 1521).

الله متساوية في الخضوع لشرعة. لقد كانت غزوة بدر فرقاناً بين عهدين في تاريخ الإسلام عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة، إنه عهد الاندفاع لتحقيق المنهج الجديد والدولة الجديدة والمجتمع الجديد في واقع الحياة، يزيل المعوقات التى تحول دون ذلك في واقع المسلمين أولاً، وفي حياة البشرية بعد ذلك. وما هي إلا سنوات بداية بذلك العهد الذى كان إيذاناً بانتهاء دولة الكفر حتى ظهر صدق هذا الفرقان وأنه كان حقاً. كانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية، فالبشرية بمجموعها قبل قيام نظام الإسلام كانت غير البشرية بعد قيام نظام الإسلام، بلا جدال، وكانت تلك البداية في غزوة بدر، والتى لولا تدبير الله تعالى لدينه وجنده وما أراد لهذه البشرية من الهداية بالرسالة الخاتمة لكانت غنيمة لقافلة بها بعض الأموال. هذا المجتمع الذى يمثل ميلاداً جديداً للإنسان، وهذه القيم التى تقوم عليها الحياة، ويقوم عليها النظام الاجتماعى والقانونى وغيره كل ذلك لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم، بل صار شيئاً فشيئاً ملكاً للبشرية تأثرت به سواء في دار الإسلام أو في خارجها، سواء بصداقة الإسلام أو بعداوته، إن الصليبين الذين زحفوا من الغرب ليحاربوا الإسلام في ربوعه قد تأثروا بقضاياه ومنها نظامه الاجتماعى فرجعوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الاقطاعى، وإن التتار الذين دمروا خلافة الإسلام وهدموا حواضره بإيحاء من اليهود والصليبين من أهل دار الإسلام رجعوا يعتنقون هذه العقيدة ونشروها في رقعة من الأرض جديدة في قلب أوربا ظلت الخلافة فيها من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين، على أية حال لقد تأثر التاريخ البشرى كله في أرض الإسلام أو الأرض التى تناهضه على السواء. (¬1) ¬

(¬1) سيد قطب، في ظلال القرآن (1521 - 1523).

وأخيراً كانت فرقاناً في التصور بين أسباب النصر وعوامل الهزيمة، لقد كانت كل عوامل النصر الظاهرة في صف المشركين، وكانت في صف المؤمنين كل عوامل الهزيمة الظاهرة، حتى قال المنافقون: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49]، لقد أراد الله تعالى أن تجرى المعركة على هذا النحو لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر والهزيمة، فتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، ليعلموا أن النصر من عند الله العزيز الحكيم، لقد كانت تلك الألفاظ القليلة الموحية بكل تلك الإيحاءات هي أعلام السيرة التى ساروا بها وساروا تحتها وساروا وراءها، وكلما تمسكوا بها ثبتت وتقدمت وانتصرت، وكلما سقط علم من أعلامها ولم يرفعوه بدأت تهتز الأركان، وتتكالب القوى وهو ما ندركه اليوم، وندرك به ضرورة رفع تلك الأعلام مرة أخرى لنعيد السيرة سيرة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحبه، السيرة الأولى. وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يعود إلى المعركة ليعيد عرضها في ثوب لم ينشر من قبل بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها، كما لو كانت معروضة فعلاً، ويكشف عن تدبير الله تعالى في إدارتها، وكان هذا المشهد يمكن أن يذكر في أول السورة مع أول ما ذكر إذ له تعلق شديد ببداية المعركة، وإنما ذكرها ليدلل على الفرقان الحاصل بهذا العرض، ويبينه لهم بعد المعركة لأنه المستمر معهم بعد ذلك ومع المؤمنين إلى يوم القيامة، وكذلك مع الكافرين، وليكون تمهيداً لأحكام أغراض مستمرة دائمة مبتدئة بيوم الفرقان. يقول تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا

وَيُقَلِّلُكُمْفِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} [الأنفال: 42 - 44]. إن الآيات تحكى وتنطق بمواقع الفريقين، وفي نفس الوقت شاهدة بالتدبير الخفى من ورائها إن يد الله تكاد ترى وهي توقف هؤلاء هنا وهؤلاء هناك والقافلة من بعيد أسفل منهم بمحازاة الساحل. ثم تبين الآيات الرؤيا التى رآها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إغفائه تقللهم في عينه تسليماً من الله للمؤمنين من الفشل والتنازع لو رآهم كثيراً إلى آخر المدلولات والاشارات والمنطوقات في هذه الآيات القليلة الموحية بأعظم المعانى التى سنشير إلى بعضها في طوايا الكلام إن شاء الله تعالى. لقد نزل المؤمنون بضفة الوادى القريبة من المدينة، ونزل جيش المشركين بقيادة أبى جهل بالضفة البعيدة من المدينة، وبين الفريقين ربوة تفصلهما، وأما القافلة فقد فر بها أبوسفيان إلى محاذاة الساحل فكانت تحت المؤمنين من جهة البحر، ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه، وإنما جمعهما الله هكذا على جانبى الربوة لأمر يريده، حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد، هذا يذكر به المولى سبحانه المؤمنين الآن ليذكرهم بتدبيره وتقديره وإحاطته بكل شيء. إن وراء هذا التلاقى بهذا العرض لأمراً مقضياً يريد رب العباد تحقيقه بكم أيها المؤمنون في عالم الواقع ويدبر له هذه التدبير الخفى اللطيف، ويهيء له جميع الظروف التى تيسر لكم القيام به إنه قوله وحكمه العدل: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}. (¬1) إن الهلاك هنا قد يعبر به حقيقة عن القتل، مجازاً عن الكفر، وكذا الحياة يعبر بها عن ¬

(¬1) يراجع كذلك لمعنى البينة الفخر الرازى، التفسير الكبير (7/ 501).

الحياة والإيمان حقيقة ومجازاً كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. فمن يؤمن بعد ذلك في هذا الفرقان الضخم يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة، ومن يكفر بدون ما شبهة قط يكفر عن بينة فيهلك عن بينة – إن المعركة بظروفها التى لابستها وصاحبتها – تحمل بينة لا تجحد وتدل دلالة لا تنكر على تدبير وراء تدبير البشر، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر إنها تثبت لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا، وأنه لو كان الأمر إلى القوة المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم. ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذى أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال: فلعمرى إن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل الله – كما يزعم محمد – فما لأحد بالله من طاقة. ولقد علموا – لو كان العلم يجدى – أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم رسول الله الصادق الأمين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه ما لأحد بالله من طاقة .... فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة. (¬1) وبعد هذا التعقيب على ما سبق يأتى أظهار القرآن الكريم للتدبير الخفى اللطيف: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43]. لقد كان من تدبير الله تعالى أن يرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رؤيا في منامه يرى فيها الكافرين قليلاً لا قوة لهم ولا وزن فيخبر أصحابه برؤياه فيستبشروا ويتشجعوا على خوض المعركة، ويخبر المولى جل وعلا بعلة ذلك، بأنه علم سبحانه أنه لو أراهم كثيراً لفت ذلك في عضد ¬

(¬1) سيد قطب، في ظلال القرآن (1525).

المسلمين، ولأضعف قلوبهم عن قتال لا استعداد له ولا توقع، ولتنازعوا في اللقاء وعدمه، والنزاع أشأم شيء يصيب جيشاً في مثل هذا الموطن. والرؤيا - رؤيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حق -، فكيف يراهم على مخالفة الواقع وهم كثير، إنهم قليل كما رآهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلاً إن القوة مهما كانت كثيرة العدد والعدة بغير إيمان فهى قليلة العناء قليلة الوزن في المعركة، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع والإيمان الدافع، هذه هي الحقيقة من وراء الظاهر المخادع، وهي التى أدخلت الطمأنينة في قلوب المؤمنين وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور كما ختمت به الآية. وعندما التقى الجمعان جاءت رؤية العيان لتكرر الرؤيا النبوية الصادقة بأن يرى كل من الفريقين الآخر قليلاً ليقضى الله أمره المفعول وينفذ قدره السابق، وجاء التذييل: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}، وهو التعقيب المناسب لتحقيق التدبير ووقوع القضاء، وهو أن الأمور كلها مرجعها إلى الله - سبحانه وتعالى - يصرفها بسلطانه، ويوقعها بإرادته، ولا تند عن قدرته وحكمه، ولا ينفذ في الوجود شيء إلا ما قضاه وجرت به المقادير. ومنها على وجه الأخص ذلك الحكم الذى نحن بصدده، إذ الكلام مسوق إليه سوقاً أولياً. ونشير سريعاً إلى تحليل تلك الآيات من آيات السيرة القرآنية لغزوة بدر، حيث بدأت بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]. وهذا انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال الذى افتتحته السورة، وافتتاحه بـ {وَاعْلَمُوا}، للاهتمام بشأنه، والتنبيه على رعاية العمل به، فإن المقصود بالعلم تَقَرُرُ الجزم بأن ذلك حكم الله، والعمل بذلك المعلوم، فيكون {وَاعْلَمُوا}، كناية مراداً به صريحه ولازمه، والخطاب لجميع

المسلمين، وبالخصوص جيش بدر. (¬1) {إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ}، شرط يتعلق بما دل عليه قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}، لأن الأمر بالعلم لما كان المقصود به العمل بالمعلوم والامتثال لمقتضاه، لأن العلم المجرد يستوى فيه المؤمن والكافر صح تعلق الشرط به، فيكون قوله: {وَاعْلَمُوا}، دليلاً على الجواب، أو هو الجواب مقدماً على شرطه، والتقدير: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنما غنمتم إلى آخره، لأن الذى يتوقف على تحقق الإيمان بالله وآياته هو العلم بأنه حكم الله مع العمل المترتب على ذلك العلم. مطلق العلم بأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك. (¬2) وبالتأمل نرى أن الشرط هنا محقق الوقوع؛ إذ لا شك في أن المخاطبين مؤمنون بالله، والمقصود منه تحقق المشروط، وهو مضمون: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} إلى آخرها. وجيء في الشرط بحرف {إِنَّ}، التى شأن شرطها أن يكون مشكوكاً في وقوعه زيادة في حثهم على الطاعة حيث بفرض حالهم في صورة المشكوك في حصول شرطه إلهاباً لهم ليبعثهم على إظهار تحقق الشرط فيهم. فالمعنى حينئذ أنكم آمنتم بالله والإيمان يرشد إلى اليقين بتمام العلم والقدرة له سبحانه، وآمنتم بما أنزل على عبده يوم بدر حين فرق الله بين الحق والباطل فرأيتم ذلك رأى العين وارتقى إيمانكم من مرتبة حق اليقين إلى مرتبة عين اليقين، فعلمتم أن الله أعلم بنفعكم من أنفسكم إذ يعدكم إحدى الطائفتين، فكان ما دفعكم إليه أحفظ لمصلحتكم، وأشد تثبيتاً لقوة دينكم فمن رأوا ذلك وتحققوه فهم أحرياء بأن يعلموا أن ما شرع الله لهم من قسمة الغنائم هو المصلحة، ووراء ذلك مصالح جمة آجلة في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 5). (¬2) الزمخشرى، الكشاف (2/ 127)، أبو السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 362)، الالوسى، روح المعانى (10/ 8)، الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 13 - 14).

وقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا}، عطف على اسم الجلالة، والمعنى وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان – يوم بدر – وتخصيص {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ}، بالذكر من جملة معتقدات الإيمان؛ لأن لذلك المنزل في هذا اليوم وقعه الشديد التأثير عليهم مما يجعل لهذا المنزل مزيد تعلق بالمسارعة إلى العمل بما أمروا به في قوله: {وَاعْلَمُوا}. وإن ما نبههم إليه في ذلك الإنزال أمران: الأول: أن يكون المنزل هو الوحى الذى أنزله على عبده يوم بدر كوعده باحدى الطائفتين وتبشيره بالنصر، والوحى بقلة أولئك وهؤلاء ... إلى آخر ما نزل من وحى الله تعالى لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثاني: أن المنزل يوم الفرقان هو ما شاهدوه بأعينهم من خوارق العادات، واللطف الإلهى، كنزول الملائكة، وإنزال المطر عند حاجة المسلمين إليه، ونصر القلة على الكثرة إلى غير ذلك مما ذكرنا في موضعه. وإن إطلاق الانزال ليشمل الأمرين كما ذكرنا معاً. وتزيد الآية في إظهار أمر آخر وهو التشريف لهذا الانزال والتطهر؛ لأن إطلاق الانزال على حصوله استعارة تشبيهاً له بالواصل إليهم من علو تعظيماً له (¬1)، علاوة على تعظيم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاضافة إلى الله جل وعلا، وبصفة العبودية خاصة التى هي أعلى درجات وصفات المدح، مع إرشاد المؤمنين إلى العبودية التى يجب أن يكونوا عليها في تلقى أوامر مولاهم السيد الأعلى وأن حصولهم على تلك المرتبة العليا عند الله تعالى، كما هي لنبيهم بكونهم يكونون عبيداً لربهم منقادين له مع تمام المحبة. ¬

(¬1) انظر لما سبق الزمخشرى، الكشاف (2/ 127)، أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 362)، الألوسى، روح المعانى (10/ 8)، ابن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 13 - 14).

و {يَوْمَ الْفُرْقَانِ}، هو يوم بدر وهو اليوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وقد ذكرنا لم سمى الفرقان - ولكن إضافة يوم إلى الفرقان إضافة تنويه به وتشريف له - وقوله: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، بدل من يوم الفرقان، فإضافة يوم إلى جملة: {الْتَقَى الْجَمْعَانِ}، للتذكير بذلك الالتقاء العجيب الذى كان فيه نصرهم على عدوهم، وهذا الالتقاء العجيب حقه أن يذكر به لحكمه التى أشرنا إليه، وحصوله الذى لا يمكن لأحد إحداثه إلا الله، وإن استمرار المؤمنين على ذكر منه لتقوية لإيمانهم، وشحذاً لهمهم على مواصلة المسيرة، ومن ثم رأينا تفصيل القرآن الكريم لهذا اللقاء لذينك الجمعين، جمع المؤمنين المؤيد بالله، وجمع المشركين. فيما يأتى من آيات. وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، اعتراض بتذييل الآيات السابقة لارتباطها بما بعدها كأنها في سلك واحد لو قلنا يوم التقى الجمعان إذ أنتم بالعدوة الدنيا .... إلى آخره فالكلام مستقيم ولكن البلاغة في الاعتراض بهذا التذييل ليؤكد أن ما حدث بتمام قدرته وما سيفصله حالاً إنما هو كذلك بتمام قدرته، وهذا دليل على أنه لا يتعاصى على قدرته شيء؛ فإن ما أسداه لكم يوم بدر لم يكن جارياً على متعارف الأسباب المعتادة، فقدرة الله تعالى قلبت الأحوال، وأنشأت والأشياء من غير مجاريها، وأن ما جرى ليلتقى الجمعان بهذه الطريقة كان بترتيب الله وتدبيره، ثم قصه القرآن مفصلاً بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال: 42]. {إِذْ} ظرف ل {أَنْزَلْنَا}، أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا، ووصف الهيئة ليس من دواعى القرآن الكريم وأغراضه، فهو أطناب في وصف المنازل، لا يذكره القرآن إلا أن يكون فيه عبرة لازم التذكير بها وقد ظهرت هنا، وهي الحالة الحرجة التى كان المسلمون عليها التى

بينها الظرف وما أضيف إليه لتذكيرهم بها، وتنبيههم للطف عظيم حفهم من الله تعالى، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين، وكيف ألتقى الجمعان في مكان واحد على غير ميعاد، ووجد المسلمون أنفسهم أمام عدو قوى العدد والعدة والمكانة من حسن الموقع. والعدوة (¬1)، ضفة الوادى وشاطئه. والوصف بالدنيا والقصوى يَشْعُر المخاطبون بفائدته، وهي أن المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى، لأنها الأنسب كما بينا فلما سبق المشركون اغتم المسلمون لذلك، فلما نزل المسلمون بالعدوة الدنيا انقلب الموقف بإنزال الله للمطر، حيث تخير المسلمون أحسن موقع وثبتت أرضهم وسقوا وغوروا الماء واتخذوا الحوض، فلما وصل المشركون وجدوا المسلمين قد احتازوا الماء وساء موقفهم ولم تنفعهم العدوة القصوى التى ظن المسلمون أنها الأحسن والأوفق. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42]، وهم عير قريش التى أفلتت من المسلمين بمحازاة الساحل بقيادة أبو سفيان، فلو علم العدو بهذا الوضع لاطبقوا بجماعتيهم على المسلمين، ولكن الله صرفهم عن التفطن لذلك، وصرف المسلمين عن العير، ولو حاولوا لوقعوا بين جماعتى العدو. و {أَسْفَلَ}، منصوب على الظرفية المكانية، وهو في محل رفع خبر عن الركب، أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه لتغنموا ما فيه. نعود إلى التقييد بهذا الوقت وتلك الحالة فيه، فهو مثل وصف المنازل لاجدوى منه في ¬

(¬1) سرح الدنيا والقصوى.

القرآن الكريم إلا للعبرة والعظة للسامعين والمؤمنين، ومن ثم كان الغرض من ذلك شكر نعمة الله على ما وفقهم إليه وصرفهم له، وعلى نصرهم بخلاف ظنهم، ليحسن ظنُهم بالله تعالى والاعتماد عليه في أمورهم، فإن تكامل وصفهم بكل تلك الأحوال من أول السورة وبداية سرد القصة ليبرهن وهم موقنون بذلك، أنهم في أصعب حالة وعدد ومكان وعدة ولم يكن لهم شيء يوازن المشركين فضلاً عن أن يتفوقوا فيه عليهم، فكان من عجيب عناية الله تعالى أن قلب تلك الحالة رأساً على عقب، وألقى الله في قلوب المشركين تهوين أمر المسلمين فلم يأخذوا حذرهم – وهم على حق في ظاهر الأمر – لأى شيء يأخذون حذرهم، وجعلوا مقامهم في بدر مقام لهو وطرب. فنصر الله المسلمين، من حيث لا يتوقع المسلمون ولا المشركون ولا أي أحد كان، ومن ثم فالذين خوطبوا بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ......}، الآية هم أعلم السامعين بفائدة ذلك ولولاه لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى. (¬1) وجملة {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ}، في موضع الحال من الجمعان، وعاملالحال فعل {الْتَقَى}، أي يوم التقى الجمعان في حال لقاء على غير ميعاد، قد جاء ألزم مما لو كان على ميعاد فإن اللقاء الذى يكون موعوداً قد يتأخر فيه أحد المتواعدين عن وقته (¬2)، وهذا اللقاء قد جاء في إبان متحد وفي مكان متقابل ومعنى الاختلاف في الميعاد: اختلاف وقته بأن يتأخر أحد الفريقين عن الوقت المحدود فلم يأتوا على سواء وللعلامة الطاهر بن عاشور رأى في التلازم بين شرط {وَلَوْ}، وجوابها هنا حيث هو خفى وأشكل على المفسرين ¬

(¬1) انظر المصادر السابقة. (¬2) يقول أبو السعود: أي لو تواعدتم أنتم وهم للقتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة لهم ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات، فيزدادوا إيماناً وشكر، إرشاد العقل السليم (2/ 362)، وانظر الالوسى، روح المعانى (10/ 10)، وذلك ما ذكره الزمخشرى، الكشاف (2/ 128).

ونلخصه فيما يلى لفائدته فيما نحن فيه من سيرة وكيف عبر القرآن الكريم بهذه التعبيرات الجليلة في سوق سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين، وما ينبغى على المؤمنين أن يفقهوه ليعيدوا به سيرتهم الأولى فيقول: والتلازم بين شرط {وَلَوْ}، وجوابها خفى هنا، وقد أشكل على المفسرين، ومنهم من اضطر إلى تقدير كلام محذوف تقديره: ثم علمتم قلتكم، وأن ذلك يفضى إلى التخلف – وقد ذكرنا القائلين بذلك في الهامش السابق – وغير ذلك من التقدير. فالوجه في تفسير هذه الآية أن {وَلَوْ}، هذه من قبيل {وَلَوْ}، الصُهَيبية فإن لها استعمالات ملاكها: أن لا يقصد ربط حصول نقيض مضمون الجواب بحصول نقيض مضمون الشرط، بل يقصد أن مضمون الجواب حاصل لا محالة، وقد ذكر الشواهد على تفصيلات ذلك كقوله تعالى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]، وقوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، ومحصل هذا أن مضمون الجواب مستمر الحصول في جميع الأحوال في فرض المتكلم، فيأتى بجملة الشرط متضمنة الحالة التى هي عند السامع مظنة أن يحصل فيها نقيض مضمون الجواب وذلك كقوله تعالى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. والمعنى: لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، أي في وقت ما تواعدتم عليه؛ لأن غالب أحوال المتواعدين ألا يستوى وفاؤهما في وقت الوفاء بما تواعدا عليه. أي في وقت واحد، لأن التوقيت كان في تلك الأزمان تقريباً يقدرونه بأجزاء النهار كالضحى والعصر والغروب. لا ينضبط كاليوم فلكياً، والمعنى: فبالأحرى وأنتم لم تتواعدوا وقد أتيتم سواء متحدين وقت حلولكم في العدوتين، فاعلموا أن ذلك تيسير بقدر الله لأنه قدر ذلك لتعلموا أن نصركم من عنده على نحو قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. (¬1) ¬

(¬1) انظر الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 18 - 19).

وظهر موقع الاستدراك في قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]. والتقدير ولكن لم تتواعدوا وجئتم على غير اتعاد ليقضى الله – ليحقق وينجز – ما أراده من نصركم على المشركين، ولما كان تعليل الاستدراك قد وقع بفعل مسند إلى الله كان مفيداً أن مجيئهم إلى العدوتين على غير تواعد منهم كان عناية بالمسلمين من الله تعالى. ومعنى {أَمْرًا}، هنا الشيء العظيم المهم و {كَانَ}، تدل على تحقق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضى مثل قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. فالاستحقاق لهذا الحق ثابت علينا من الأزل، ولذا فمعنى: {كَانَ مَفْعُولًا}، أنه ثبت له في علم الله السابق أنه يفعل، فاشتق له صيغة مفعول من فَعَل للتدليل على أنه حين قدرت مفعوليته في الأزل صار كأنه فُعِل. ويكون حاصل المعنى: لينجز الله ويوقع حدثاً عظيماً متصفاً منذ القدم بأنه محقق الوقوع حقيقاً بأن يفعل حتى كأنه قد فُعِل؛ لإنه لا يمنعه ما يحف به من الموانع المعتادة. لا شك أن تلك الآيات في درسها اللغوى والنحوى والبلاغى تشير إلى هذه المعانى المهمة التى هي محل توضيح القرآن الكريم لسرد السيرة قصصاً وفقهاً ومعنى وأحكاماً عبراً وعظات وتأسيساً لواقع، وتثبيتاً لإيمان، وسعياً لنصر إلى آخره، ويظهر ذلك في: عناية الله الأزلية بالمؤمنين فيما يختاره لهم. ترتيب الله لهم، وحملهم على هذا الترتيب، وإفشاء تدبير الكافرين وكيدهم. تبيين الأدلة وتعليل الأحوال والأحكام لهم، ليظهر لهم وجه المصلحة فيما أراد بهم،

وما لم يعلموا من مصالح هو أعظم فائدة لهم حتى يثبتوا ويسيروا مطمئنين واثقين في نصره، يزدادون بذلك إيماناً وتوكلاً وبذلاً وتضحية. التأكيد لهم على صدق الرسالة والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصحة النبوة وإتصال الأرض بالسماء وعلى توحيد الله تعالى الذى كل شيء بيده وله ملكوت كل شيء، وعلى الإيمان باليوم الآخر. إن ذلك كله لهو القول الفصل في الرد على شبه المستشرقين، ووضوح الردود على أمراضهم بلا لبس. وما ساقته الآيات الأخيرات ليس إلا جزءاً مما يذخر به القرآن الكريم في عرض السيرة كافة، وأهداف ذلك العرض، بما يوضح أهميته للمؤمنين في كل آن ومكان في محاولة للتشبث بذلك ليعودوا إلى سالف مجدهم وعزهم. والجمل الباقيات في هذه المشاهد تسير على نفس الوتيرة، مع زيادات آخر وتفهيمات جديدة، سوقها للتحليل من ألزم ما يلزم. ويأتى قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ}، في موضع بدل اشتمال من جملة {لِيَقْضِيَ اللَّهُ ....}، لأن الأمر هو نصر المؤمنين وقهر المشركين، مع إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين، وحفه من الأحوال الدالة على عناية الله بالمسلمين وإهانته للمشركين بالبينة التى تقطع عن الهالكين، وتقتضى شكر الاحياء، وليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة. والهلاك: الموت والاضمحلال ولذلك قوبل بالحياة، والمعنى الزائد عما ذكرنا من قبل إجمالاً هو أن الهلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها،

وقد جمع التشبيهين في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]، فإن الكفار كانوا في منعة وعزة، وكان المسلمون في ضعف وقلة، فلما قضى الله تعالى بالنصر للمسلمين أخفق أمر المشركين ووهنوا، وصار أمر المسلمين إلى جدة ونهوض، وتلك الحياة وذلك الموت لاشارة قوية إلى اضمحلال أمر المشركين يفنوا عن بينة، وارتفاع أمر المسلمين وإيمان من آمن عن بينة، إذ ذلك حكم فصل تحقق بعد ذلك في ذهاب ريحهم وهزيمتهم. فكانت وقعة بدر إذن بداية هلاك من هلك عن بينة حتى ينتهى هلاكهم، وحياة ونهوض من آمن حتى يرتفع أمرهم: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، وقد كان. و {وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .. أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين وصف السمع ووصف العلم لاشتمال الإيمان والكفر على القول والاعتقاد اللذين يستدعيان السمع والعلم، وإن كان هذا التذييل يشير أول ما يشير إلى المسلمين بأن الله تعالى سميع لدعائهم بطلب النصر، وسميع بما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر، ومودتهم أن ذات الشوكة تكون لهم. وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة، وكل ذلك ينبههم إلى تربية المهابة بعد ذلك في قلوبهم وأفكارهم وأقوالهم، وأن يكون ذلك كله استجابة لأمر الله ظاهراً وباطناً. وتمضى الآيات لتسكمل بقية ما بدأته من مشاهد، ونسير معها نستجلى تلك السيرة التى قصتها، والتى لم تكن لنقص في السيرة، وواقع الأمر لو حكيت بمثل ما قصت به في القرآن الكريم مع استيفاء هذا القص لكل الجوانب اللازمة من وراء هذا السرد، بما يضيف

تلك الأبعاد الدينية مجتمعة مع الأبعاد النفسية والتاريخية وغيرها، لتبقى خالدة ما بقى مؤمن وغيره في تلك الحياة، وفي نفس الوقت تستشرف الحياة الآخرة وتربطها بالحياة العاجلة، عجالتنا فيما يتعلق بالسيرة قدر الامكان ويأتى قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)} [الأنفال: 43]. {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ}، بدل من قوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}، أو بدل من يوم الفرقان فإن هذه الرؤيا مما اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا، وهو يوم الفرقان يوم بدر، وعبر بالمضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة، إذ هي قد مضت بالنسبة لنزول الآية ويتعلق قوله: {فِي مَنَامِكَ}، بفعل {يُرِيكَهُمُ}، فالإراءة هنا إراءة رؤيا في المنام، وأسندتإلى الله تعالى: أولاً: لأن الرؤيا وحى من الله للأنبياء، سواء كانت واقعة كما هي، أو هي رمز لمعان، فلا تعد صورتها الواقعة مخالفة للحقيقة، ومن الأولى أنه كان يرى الرؤيا كفلق الصبح كما هي (¬1)، أو كما في سيدنا إبراهيم - عليه السلام -: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]. ثانياً: للإهتمام بالرؤيا وتشريفها إذ كان له وقعها المناسب في نصر المسلمين، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رؤيا منام أن جيش المشركين قليل، فأخبر الصحابه - رضي الله عنهم - فتشجعوا للقاء المشركين وزال ما كان يخامرهم من تهيب جيش المشركين، فكانت تلك الرؤيا فيه من الله تعالى على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى المؤمنين، إذ كانت من أسباب النصر؛ وكانت قلة العدد في الرؤيا رمزاً لوهن المشركين وضعفهم، لا عن قلة عددهم، كما كان معلوماً من الواقع. ¬

(¬1) الحديث حديث عائشة في بدء الوحى.

ولو أخبر الله رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخبر المؤمنين بأنهم غالبون للمشركين لآمنوا بذلك إيماناً عقلياً، لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس، ولو لم يخبرهم، أو لم يُرِهْ ربه تلك الرؤيا لحسب المسلمون للمشركين حساباً كبيراً شوش عليهم اطمئناهم وثقتهم، لأنهم معروفون بأنهم أقوى من المسلمين بكثير. وقوله: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ}، أي لجبنتم وهبتم الإقدام، وجمع ضمير الخطاب في الجزاء مع إفراده في الشرط، لأنه كما قيل إن الجبن يعرض لهم لا له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنه سبحانه لو أراهم رؤيا مماثلة للحالة التى تبصرها الأعين من المشركين لدخل قلوب المؤمنين الفشل، فأراد الله تعالى ألا يدخل قلوب المسلمين هلع أو جبن من الأصلى إكراماً لهم، وإن كان قد ضمن لهم النصر. وكذلك ثَّم سبب آخر ذكرته الآية، وهو الاختلاف في أمر القتال أوخطته إذال للعهد بقوله: {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}، فكانت الرؤيا حسماً لهذا الاختلاف وقطعاً لدابر الفرقة في مثل هذا الموقف العصيب فكانت برداً وسلاماً على المؤمنين إذاً. وجاء قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}، ليؤكد ذلك، ويمن به على المؤمنين إذ أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع، فكان هذا الاستدراك رافعاً لما يفرض من قوله: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا} [الأنفال: 43]، مع أنه جاء – أي الاستدراك – ليشعر فعلاً أنهم كُثُر في الواقع، ولكن جاء ليفرغ هذه الكثرة في واقعها من أي عوامل يمكن أن يكون لها أثرها في المسلمين. ومفعول {سَلَّمَ}، متعلقه محذوفين ايجازاً ليكون التقدير: سلمكم من الفشل والتنازع؛ بأن سلمكم من سببهما وهي إراءتكم واقع عدد المشركين، لأن الاطلاع على كثرة العدد يلقى في النفوس تهيباً وتخوفاً منه، وذلك يُنْقِصُ شجاعة المسلمين، الذين أراد الله لهم موفور

الشجاعة ومنتهاها. (¬1) ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}، بدلاً من و «لكنه سلم» لقصد تأكيد وزيادة إسناد ذلك إلى الله تعالى، وأنه بعنايته، وكذلك للاهتمام بهذا الحادث، وهو الإنعام بتلك السلامة. وذيلت الآية بهذا الامتنان {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، أي: إنه بعلمه بمكنونات الصدور وخواطرها، وما تتأثر به وما يصلحها، فعل ما فعل؛ إذ النفوس مجبولة على التأثر بالمحسوبات والمشاهدات، فأيده بها، مع أن الاعتقاد المجرد يكفى في تصديقها بموعود الله، لإيمانها القوى بربها، ولكنه لا يثير الشجاعة التامة والإقدام كما يثيره الإحساس بقلة عددهم وتفاهة موقفهم في الواقع، كذلك فالاعتقاد بأن المشركين سينهزمون مصدقون به، ولكنه يمكن أن يكون مع موت وجراحات قبل الانتصار فجاءت الرؤيا بقلتهم لتزيح ذلك كله في النفس، وتلقى بدلاً منه ذلك اليقين الواقع، بأنهم منصورون مع سلامة الله لهم. إن ذلك كله ليهزنا بشدة إلى دين الإسلام واقعه وسيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه دين الله المرتضى بأخلاقه العليا وشمائله الكريمة ومزاياه الراحمة، إذ كل ذلك خارج عن طوع كل الخلق مجتمعين، خارج عن قدرة ما سوى الله تعالى متظاهرين. ونشير إلى آخر آية في هذا المشهد، مشهد ترتيب لقاء القتال وتدبيره – الذى رتبه الله تعالى للفريقين معاً – دلالة عدم خروج شيء في الكون عن قضائه وتقديره، وعن حكمه وأمره وهي قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا ¬

(¬1) انظر لما سبق الزمخشرى، الكشاف (2/ 128 - 129)، أبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 363)، الألوسى، روح المعانى (10/ 12 - 13)، ابن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 22 - 25).

كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} [الأنفال: 44]. وإذا كان ما رآه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رؤيا منام، شجعت المؤمنين، وثبتت الأقدام وكانت من أسباب النصر كما ظهر، فإن المؤمنين خرقاً للعادات، قد رأوا مصداق ذلك رأى العين، ليكون الخبر والمعاينة واحداً يتحقق به مراد الله من وقوع الأمر المفعول كما وعدهم. {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا}، إما منصوب بمضمر، أو هو عطف على {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ}، معبراً بالمضارع لحادث قد انتهى استحضاراً لتلك الحالة التى تخص المؤمنين والتى لا تكون بهذه الكيفية إلا من الله تعالى، وهي رؤية بصر أراها المولى سبحانه وتعالى على خلاف ما في نفس الأمر لكلا الفريقين، ولما كانت على خلاف الحقيقة لم يُرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ .... فِي أَعْيُنِكُمْ}، تقييد للإراءة بأنها في الأعين، لا غير، وليس المرئى كذلك في نفس الأمر، وكذلك ليدل على أنها إراءة بصرية لا حُلمية. وخولف في أسلوب حكاية إراءة المشركين وحكاية إراءة المسلمين؛ لأن المشركين كانوا كُثُر فناسب أن يريهم للمسلمين قليلاً أي هم كثير فرأيتموهم قليلاً، أما المسلمون فكانوا قليلاً فناسب لتقليلهم أن يعبر عنه بأنه «تقليل»، المؤذن بأنه زيادة في قلتهم، وليعلم أن التقليل ليس بالنقص من عدد المسلمين في نفس الأمر، ومن ثم لما حدثت المناجزة، وبرز المشركون لقتال المسلمين ظهر لهم كثرة المسلمين فبهتوا، وكان ذلك ملقياً الرعب في قلوبهم، وذلك ما حكاه القرآن الكريم في سورة آل عمران قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13]. وقال أهل السير كان المسلمون يحسبون عدد المشركين بين السبعين والمئة، حتى قال ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى من بجنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مئة، وقال أبو جهل: إنما

أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكلة جزور أي قرابة مئة. (¬1) وإنما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطاً عزيمتهم، كما كان تخيل المشركين قلة المسلمين مثبطاً عزيمتهم؛ لأن قلوب المسلمين كانت مفعمة حنقاً على المشركين، وإيماناً بفساد شركهم، وامتثالاً لأمر الله بقتالهم فما كان بينهم وبين صَبِّ بَأْسهم على المشركين إلا صرف ما يثبط عزائمهم. فأما المشركون فكانوا مزدهين بعدائهم وعنادهم، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء، وإن أدنى جولة تجول بينهم فسوف يقبضون على المسلمين قبضاً، فلذلك لا يعبأون بالتأهب لهم، فكان تخييل ما يزيدهم تهاوناً بالمسلمين يزيد تواكلهم، وإهمال إجماع أمرهم. فكان ذلك كله مما لا يستطيعه أحد بإلقائه في نفوس الفريقين فجاء قوله تعالى بعد ذلك وهو: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، ليبين أن ذلك الأمر من مفعولات الله سبحانه، التى قضاها أزلاً علة لهذه الإراءة لكلا الفريقين، لتكون أحد أسباب النصر، وأما قوله تعالى: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}، في الآية فهو لعلة أخرى، وهي تلاقى الجمعان في مكان واحد في وقت واحد، فلا تكرار إذن، ويرينا هذا الخبر الضخم كيف قدر سبحانه كل هذه المقدورات ليخرج أي دور فيها للمؤمنين نصراً، وللمشركين هزيمة، بل الأمر كله راجع إليه وحده يقضيه بعلمه وحكمته وقدرته كما قال: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}. ونشير في نهاية تحليلنا لآيات سيرة بدر مما حكاه القرآن الكريم، إلى ما ذكر القرآن الكريم نفسه عن موقف الشيطان حيث قال جل ذكره: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)} [الأنفال: 48 - 49]. ¬

(¬1) انظر المراجع السابقة.

بدأت الآيات بقوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ}، على أنه مقدر بمضمر، ويجوز أن يكون المضمر مخاطباً به المؤمنون، والعطف على {وَلَا تَكُونُوا}، في الآية قبلها، وهي قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)} [الأنفال: 47]، أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها، ووسوس إليهم أنهم يَغلبون لكثرة عددهم وعدتهم، وأنه حافظ لهم. وفي ذلك انقسم العلماء إلى فريقين: فريق يرى هذا التزيين وسوسة لهم بذلك يحملهم على مواصلة السير إلى بدر، وأنه وسوس لسراقة بن مالك ليكون هو المخبر لقريش والحامل لهم على مواصلة العناد، وأنه يؤمن لهم طريقهم من كنانة التى كانت على عداء مع قريش، فهابوا أن تقاتلهم وتعرقل سعيهم فطمأنهم سراقة بوسوسة الشيطان فمضوا. والفريق الثاني: يرى أن تلك الوسوسة وذلك التزيين قام به الشيطان نفسه للمشركين حيث تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك، وسار معهم فلما تراءت الفئتان وتلاقى الجمعان نكص على عقبيه لما رأى الملائكة تنزل وظن أن جاء موعده المنظور، وكانت يده في يد الحارث بن هشام فقال له أتخذلنا في هذه الحال، فقال إنى أرى ما لا ترون ودفع في صدره وفر هارباً، وانهزم المشركون ورجعوا مكة قالوا هزم الناس سراقة، فقال ما شعرت بمسيركم حتى بلغتنى هزيمتكم فعلموا أنه الشيطان. (¬1) ¬

(¬1) انظر لما سبق من القولين الطبرى، جامع البيان (10/ 18)، الزمخشرى، الكشاف (2/ 130)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 365)، والالوسى، روح المعانى (10/ 21 - 22)، وابن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 34 - 37)، ورشيد رضا، المنار (10/ 29).

وبداية نقول: ذهب سيد قطب رحمه الله إلى إثبات حادثة تزيين الشيطان، ولكن مع عدم العلم بكيفية ذلك، وكأنه يفصل بين الفريقين في نظرهم إلى تفسير الآية فيقول: «وفي هذا الحادث نص قرآنى يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم وشجعهم على الخروج، وأنه بعد ذلك نكص على عقبيه فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم». «ولكننا لا نعلم الكيفية التى زين لهم بهم أعمالهم ... إلى أن قال ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء من أمره إلا بنص قرآنى أو حديث نبوى صحيح والنص هنا لا يثبت الكيفية إنما يثبت الحادث» (¬1). وثم تعليق هنا نبديه معتمداً على دراسة النص القرآنى، والمقارنة بين النصوص مع ما ذكرنا من التحليل للآيات النازلة في حكاية غزوة بدر، خاصة وقد تمسك أصحاب رأى الوسوسة برأيهم، وضعفوا الروايات كافة لرأى تمثل الشيطان، وكلامه مع المشركين ومخاطبته إياهم بما جعلنا ندقق في فهم النصوص القرآنية الواردة في الحادث، وما جعلنا نقف على هذا الحادث أمران على الأقل: الأول: الإيمان بالغيب والملائكة والجن، وأن ذلك من أصول الإيمان، وأن ما جادل من جادل فيه إلا للانهزام الفكرى أمام المادية الغربية الطاغية، التى تفرع الإسلام وتحاول من مضامينه الغيبية، بهذه الادعاءات العلمية زعموا التى لا وزن لها في ميزان العقل، فضلاً عن العلم وأمانته. وكل ذلك تشكيك في قضايا الإسلام في نفوس المؤمنين استكمالاً للغزو الفكرى. الثاني: وهو المتعلق بما نحن فيه، وهو كيف أن الله تعالى رتب ويرتب للمؤمنين الخلص، كل أمورهم، ويهيء لهم عامة أحوالهم، ويخرق لهم النواميس الكونية دلالة على ¬

(¬1) سيد قطب، في ظلال القرآن (3/ 1531)، ود. محمد بن بكر أل عابد، حديث القرآن عن غزوات الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (65).

وجود ربهم وعنايته بهم، وعلى صحة رسالة نبيهم وصدق نبوته، وأن كل ذلك هو خالقه والقادر عليه وما عليهم بعد الا أن يكونوا متحققين بصفات المؤمنين الحقة كما بين لهم ذلك كله، ليروا قدرة الله وقوته وحفظه. وذلك الأمر الثاني هو المهم والأهم للمؤمنين في كل زمان ومكان، وهو مشكلتنا اليوم وأول هذه التعليقات هنا هو: 1 - أن المؤمنين بقوة الله وقدرته، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، لا يكبر عليه أن يتصور الشيطان، وأن يتمثل بهذه الأشكال إذ هو سبحانه في الحقيقة من أقدر الشيطان وغيره على ذلك، إذ لو لم يرد المولى سبحانه ذلك ما كان الشيطان ولا لمن في الأرض والسماء جميعاً أن يأتوا بأمر على خلاف مراد الله تعالى في العجب في تمثل الشيطان إذن؟ 2 - وإن القائلين بالمنع قد أجازوا أكثر من ذلك في الملائكة من نزولهم وتثبيتهم للمؤمنين وضرب المشركين فوق الأعناق، وضربهم لكل بنان، فما الفارق مع أن الملائكة أعظم وهم نور من خلق الله؟ 3 - بالنظر في النص نفسه نسأل ما الوسوسة في قول الشيطان {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]، وما الوسوسة في قوله: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48]، بما أنه شخص يحادثهم، ورأى ما لا يرون ونكص على عقبيه فأين الوسوسة؟ وهو يجرى فاراً هارباً، أو حال رؤية الملائكة، وكيف تكون وسوسة وتزييناً وهم يرونه يسير معهم إلى أن تراءت الفئتان؟ قد يقال إنها رؤية منام، نعم ولكن كيف رأى الجميع هذه الرؤيا؟ دعنا من ذلك، لقد رأوها، فهل رأوا الشيطان يسير معهم، وهل رأى الملائكة في المنام؟ فترك المشركين في المنام وفر هارباً، وهل من جاء في المنام ليؤازرهم وينصرهم، ينكص على عقبيه

أمامهم في المنام ليروا هزيمتهم وفرار جارهم، ومنذ متى يصدق المشركون بتلك الرؤى وغيرها، لقد انعكس مقصود النافين لتمثل الشيطان حقيقة، بحيث أوقعوا أنفسهم فيما حاولوا أن يفروا منه مجاراة للمدرسة العقلية، بحيث صارت نفياً للعقل ذاته، أو استهزاء أو التفافاً حول العقل. مع الطعن في قضايا الدين والإيمان، بدون أي مبرر عقلى، إلا اتباع العقل الغربى المحارب للإسلام. وبعد ذلك ما كان القرآن الكريم ليترك موقف المنافقين والذين في قلوبهم مرض، ليستكمل بذلك جوانب الصورة، ولتتم كل إبعادها، إمعاناً في إعلام المسلمين بإحاطة الله تعالى بعلم كل شيء، وتقدير كل شيء، مع رجوع كل الأمور إليه، وليبصر المؤمنين بمواقف كل فئة، وتستقر نفوسهم على انه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وليجعل لكل شيء قدراً في الواقع أمام المؤمنين يعلمون به كيف نصرهم وأيدهم، وكيف يتوكلون عليه ويبذلون له، بالتالى أنفسهم وأموالهم، فجاء قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)} [الأنفالك 49]. يتعلق {إِذْ يَقُولُ}، بأقرب الأفعال إليه، وهو قوله تعالى {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، مع ما عطف عليه من الأفعال، ويكون قول المنافقين واقعاً في وقت تزيين الشيطان أعمال المشركين، ويكون نظم الكلام هكذا: وزين الشيطان للمشركين أعمالهم حين كان المنافقون يشوهون ويحمقون أعمال المؤمنين، ويصفونهم بالغرور وقلة التدبير بسبب اعتقادهم في دينهم الذى أوقعهم في هذا الغرور. (¬1) وفي مثل هذا السياق تُطلب المناسبة لذكرهذا الخبر وراء سابقه، والمناسبة أن كلا ¬

(¬1) وذكر بعضهم أن {إِذْ يَقُولُ}، ظرف لغير ما ذكر، فانظر فيما سبق، والاختيار من ابن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 37 - 39).

الخبرين يتضمن قوة المشركين، وضعف جيش المسلمين، ويقين أولياء الشيطان من المشركين والمنافقين بأن النصر سيكون للمشركين على المسلمين. فالخبر الأول عن طائفة أعانت المشركين من عدو يخشى منه قطع طريق المشركين، فانحازت إليهم علناً؛ وذلك يستلزم تقبيح ما أقحم المسلمون فيه أنفسهم إذ عمدوا إلى قتال قوم أقوياء. الخبر الثاني عن طائفة المنافقين الذين في قلوبهم مرض (¬1)، أو هما طائفتان على قول البعض شوهتا صنيع المسلمين وحمقوا المسلمين ونسبوهم إلى الغرور، وهو إيقاع أنفسهم في المضرة بإيهام المنفعة، وأن الذى عزهم بذلك هو دينهم الإسلام، وقد نسبوا الغرور إليه لما فيه من الوعد بنصر المؤمنين، وأن القلة تهزم الكثرة بإذن الله تعالى. وإن هذا الإرحاف لواقع اليوم من كل الطوائف التى اجتمعت على محاربة الإسلام، يثبطون المسلمين بأنهم لا يمكن أن يتصدوا للاعداء فضلاً عن هزيمتهم، بتهويل قوة الكفرة، وتهوين شأن المسلمين، وإخماد روح العزة والكرامة والثأر فيهم، ويأتى دور المنافقين الذين يوالون الكفرة ويتحدثون بألسنة المسلمين ليشككوهم في دينهم، وأنه سبب الهزيمة، وأن موعود الله لهم بالنصر إنما هو غرور ومحال، كل ذلك وأشد قد صورته آيات بدر ليخرج المسلمون من تلك الحالة، بل لئلا يكونوا فيها أبداً، لذا جاء قوله تعالى ليؤكد لهم أن جنده مهما كانوا هم الغالبون طالما كانوا بدينهم ذلك مستمسكين فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49]، فهذه الجملة معطوفة على جملة {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ .......}، لأنها من جملة الأخبار المسوقة لبيان عناية الله تعالى بالمسلمين وللامتنان ¬

(¬1) هذا اختيار الباحث، وهناك تفسيرات أخرى لمن في قلوبهم مرض، وهم من لم يتمكن الإيمان في قلوبهم، وانظر الطبرى، جامع البيان (10/ 15 - 16)، الزمخشرى، الكشاف (2/ 130)، وأبا السعود، إرشاد العقل السليم (2/ 365)، والالوسى، روح المعانى (10/ 23 - 24).

عليهم، فالمناسبة بينهما وبين الجملة قبلها: أنها كالعلة لخيبة ظنون المشركين والمنافقين والذين في قلوبهم مرض، وخيب ظنونهم لأن المسلمين توكلوا على الله وهو عزيز لا يغلب فمن تمسك بالاعتماد عليه نصره، وهو حكيم يُكَوِّن أسباب النصر من حيث يجهلها البشر. وجعل قوله: {فَإِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، كناية عن جواب الشرط باعتبار اللازم، ليس هو الجواب بل عزة المتوكل على الله ونجاته من مضيق أمره، وهو من وجوه البيان، وهو كثير الوقوع في القرآن الكريم، وعليه قول زهير بن أبى سلمى من يَلْقَ يوماً على عِلاَّتِه هَرِماً ... يَلْقَ السماحةَ فيه والندى خُلُقاَ أي ينل من كرمه ولا يتخلف ذلك عنه في حال من الأحوال. (¬1) تلك كانت سيرة غزوة بدر في القرآن الكريم على قدر المستطاع، والملاحظ المتأمل يرى أن أسلوب القصص القرآنى غير أسلوب الحكاية في الواقع والترتيب الزمنى، بل هو أسلوب عال له وجهته في العرض، علاوة على عرض ما يفى تماماً بالإغراض المسوقة لسيها القصة، مع تبيان الحكم والعبر والارشادات والاوامر والنواهى وكل ما للشارع فيه حكمة من وصوله للمسلم للعمل به، وإن قضية الإيمان والتخلق بصفاتها ثم العمل لرفع راية هذا الدين والالتزام بذلك سلوكاً ودعوة وعبادة وعقيدة لهو الهدف الواضح من هذا القصص، مع إظهار كل ما يعيق المسلم في طريق سيره ليحذره، ولئلا يقع فيه مما يعرضه للتخلف والنكوص أو للهلاك والردى، كل ذلك هدى ورحمة للعالمين، ويسوق القرآن الكريم جزيئات يراها المرء من أول وهلة كذلك، ولكنها ذات مدلولات ضخمة، ينبنى عليها صرح الإسلام ومن ثم بقاؤه وانتصاره، وإن التفريط فيها من أكبر أسباب الهزيمة والانكسار. ¬

(¬1) ابن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 38 - 39).

إن غزوة بدر بهذا العرض في نظر الباحث كانت الأساس المتين والدستور القويم لكل ما أتى بعد ذلك من أحداث، وإذا نظر الباحث، أو القارئ المتفحص لأىِّ مما وقع في السيرة والغزوات التالية لبدر ليقال له ألم ينبه على ذلك في غزوة بدر؟ ألم يأت مصداق ذلك في قصة بدر؟ إلى آخره إذن فما كانت فرقاناً من لا شيء، لا يعبر به وله، بل لأضخم حدث مهد لكل خير وهداية للإسلام والمسلمين والبشرية في نفسها وواقعها، في الأرض والسماء، وما بعد انتهاء الدنيا. إنه بدون مبالغة ما مِنْ قضية وقعت بعد بدر من نصر أو هزيمة إلا وكانت سطور بدر تنبض بها، وكذلك من أخلاق ودعوة، أو من أُخُوَّة ومحبة، أو من اعتقاد واتصال بالله واعتماد عليه وثقة فيه. كل ذلك يحتاج إلى بحث آخر ضخم لا تحتمله الرسالة، ولذا نتوقف في هذا الفصل عند هذا الحد، وإن احتملت الرسالة شيئاً جديداً نضيفه وإلا فمحله بحث ضخم قائم بذاته غير هذه الرسالة نرجو من الله تعالى التوفيق له.

الخاتمة

الخاتمة بعد نهاية المستطاع من هذا البحث إلى هذا الحد، نجمل أهم النتائج. 1 - أول هذه النتائج: أن السيرة في القرآن الكريم لها أساليب أخرى يظهر فيها الجمال والبلاغة والأعجاز القرآنى، والتى تظهر منها معان أخر لم تكن ولن تكون في القصص والسرد، الذى لا يهتم بشيء من ذلك، علاوة على أهمية المعروض منها من القرآن من ناحية، ومن ناحية أخرى على كون هذا المعروض هو المهم الذى تتعلق به سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الهداية، وكفايته للبشر بمزيد التأمل والتدبر، ومن ثم كانت دراسة السيرة في القرآن الكريم من آكد مطلوبات الشرع، حيث يفرق هذا الدين عن الدراسات النظرية بأنه دين عملى يشمل العلم والعمل وغيره من أسباب السعادة في الدنيا والأخرة، وتقوم السيرة القرآنية بتغطية هذه الأجزاء لتحقيق علو ورفعة هذا الدين بصياغة الحياة به. 2 - تحمل السيرة في القرآن الكريم أسباب البقاء ببقاء القرآن الكريم في العالم، حيث تبين ولا تقتصر على سرد ما كان بين النبي وغيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سنينه المشرفة في الدنيا، بل تحمل أسباب بقاء الأمم وفنائها، والحكم والعظات التى تهم وتنفع الناس في تحقيق إيمانهم وعبوديتهم لله تعالى، وأسباب النصر والهزيمة، وأسرار صنع الله وأيامه في الناس، وتصف علاقات الله الأصلية والتى يجب أن تكون بين الله تعالى وبين خلقه على اختلاف عقائدهم، مؤمنين وغيرهم، مما يوضح سبيل المؤمنين وسيرتهم وطرق تعاملهم، والعكس كذلك.

3 - إن السيرة القرآنية تجسيد حىٌّ وباق وثابت وصحيح لا مرية فيه ولاشك مع ملابساته وظروفه وفقهه وأحكامه ونظراته وعبره من وجهة النظر التى لاشية فيها وجهة نظر الشرع الشريف، أو كما أراد رب الكون ان تصل لعبادة أجمعين. 4 - إن ميزة هذه السيرة أن من وراء قصصها يظهر الترتيب الإلهى لكونه سبحانه وتعالى، وأنه يسير وفق نظام لا عبس منه، بل فيه الحكمة والتقدير والقضاء، الذى لا يصل المؤمنون إلى كفه المراد منه إلاعن طريق مدبره ومسيره سبحانه وتعالى، وكانت سيرة غزوة بدر خير مثال لذلك كله وأكثر منه تم عرضه، لم يكن منه شىء في السيرة القصصية. 5 - إن ملء السيرة القصصية التى وردت في الآثار بتلك السيرة القرآنية ليُدَشِّنَ المجموع الكامل لسيرة النموذج الأعلى للبشرية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث تكتمل بذلك الصورة المطلوبة لتحقيق هذا الدين كما أراد الله سبحانه وتعالى، وكما تشخصت فيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 6 - وكان من نتائج البحث الجديدة أن الله تعالى لم يبعث سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا وهو المثال الأعلى للخلق العظيم، في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وهي من أول ما نزل من القرآن مما يبين أن سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها إبتداء وتمهيد وترتيب لم يبعث إلا وقد استكمله له ربه، وهو أمر متناسب مع الواقع إذ كيف ترجو دعوة إلى مكارم الأخلاق والداعى لها ليس صاحب المكارم العليا في الأخلاق في الدنيا كافة، أو هناك من يتميز عنه بشيء من ذلك، لم يحدث واقعاً ولا يقبل عقلاً، ولم نسمع بمن زاد عليه في شيء، وهو الأمر المهم للدعاة من ساعتها واليوم وكل يوم أن تكون أخلاقهم على أعلى ما يستطيعون ليحققوا ما يصبون إليه من علو لهذا الدين، ومن نجاة لأنفسهم.

7 - جرنا ذلك إلى أمر قطع به البحث، وهو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ لابد أن يكون معصوماً من كل ما يؤخذ عليه في دين وخلق. 8 - إن من نتائج البحث أن بدا متهافتاً جداً موقف المدرسه العلمية الحديثة من السيرة، بل سقط سقوطاً ذريعاً، بالذات أمام حقائق القرآن الكريم التى لا تقبل تأويلاً فضلاً عن التمحل والتزييف. 9 - وكانت المقارنة بين سير الأنبياء أو بعض الوقائع والأحداث في القرآن الكريم كفيلة بدعم مواقف الباقين وإن لها سلفاً قد حدث لا يكذب به أولئك المعارضون، وأن الجميع من عند إله واحد يرسل رسله، وينزل كتبه، ويرتب كونه كما يشاء. 10 - بينت الدراسة النصية المقارنة لمواقف المستشرقين تطابق معظم هذه الاراء والمواقف منهم، وأن بعضها لا يزيد على بعض إلا في الشتم والسب الدال على الإفلاس، وجلت بوضوح غثاثة هذه الكتابات، وفقدها للقيمة من علم أو نزاهة أو حياد أو إنصاف، وكانت دراسة آراء "وات" خير شاهد على ذلك. وإن كل هذه الدراسات كان همها تحصين بني جلدتهم من الاسلام، ورأس حربة للحقبة الاستعمارية عسكرية كانت أوفكرية. 11 - جائت سيرة القرآن الكريم في النتائج كدعم لمواقف السيرة النبوية خاصة التى كان فيها شد وجذب في الأدلة لتصحيح وتؤكد وتثبت الصحيح منها. كانت تلك أهم نتائج البحث التى وصلت إليها فإن كانت صواباً فمن الله تعالى وحده وله المنه والثناء الحسن الجميل، وإن تكن الأخرى فمحل عفو الله واسع يغفر لنا ويتجاوز عنا.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع تفسير النسفي الكتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل المؤلف: أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي (المتوفى: 710 هـ) تفسير البيضاوي الكتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي المؤلف: ناصرالدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (المتوفى: 685 هـ) تفسير الرازي الكتاب: تفسير الفخر الرازي، المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606 هـ) تفسير الخازن الكتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المؤلف: علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر الشيحي أبو الحسن، المعروف بالخازن (المتوفى: 741 هـ) الكشاف الكتاب: الكشاف المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 هـ) تفسير ابن كثير الكتاب: تفسير القرآن العظيم المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 8 تفسير البغوي الكتاب: معالم التنزيل المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (المتوفى: 510 هـ) المحقق: حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة: الرابعة، 1417 هـ - 1997 م عدد الأجزاء: 8 تفسير الطبري الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310 هـ) المحقق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 24 البحر المحيط الكتاب: تفسير البحر المحيط المؤلف: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النحوي الأندلسي (المتوفى: 745 هـ) تفسير القرآن لعبد الرزاق الكتاب: تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني المؤلف: أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني (المتوفى: 211 هـ)

تفسير ابن كثير الكتاب: تفسير القرآن العظيم المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى: 774 هـ) المحقق: محمود حسن الناشر: دار الفكر الطبعة: الطبعة الجديدة 1414 هـ - 1994 م تفسير القرطبي الكتاب: الجامع لأحكام القرآن المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671 هـ) المحقق: هشام سمير البخاري الناشر: دار عالم الكتب، الرياض، المملكة العربية السعودية الطبعة: 1423 هـ / 2003 م الدر المنثور الكتاب: الدر المنثور في التأويل بالمأثور المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ) تفسير النيسابوري الكتاب: غرائب القرآن ورغائب الفرقان المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (المتوفى: 850 هـ) في ظلال القرآن الكتاب: في ظلال القرآن المؤلف: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385 هـ)

المنتخب الكتاب: تفسير المنتخب المؤلف: مجموعة من العلماء - لجنة من علماء الأزهر فتح القدير للشوكاني الكتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير المؤلف: محمد بن علي بن محمد الشوكاني (المتوفى: 1250 هـ) تفسير أبي السعود الكتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المؤلف: أبو السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982 هـ) تفسير السراج المنير الكتاب: السراج المنير في الاعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير المؤلف: محمد بن أحمد الخطيب الشربيني (المتوفى: 977 هـ) تيسير اللطيف المنان الكتاب: تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376 هـ) الطبعة: الأولى الناشر: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية تاريخ النشر: 1422 هـ عدد الصفحات: 368 عدد الأجزاء: 1 مختصر تفسير البغوي الكتاب: مختصر تفسير البغوي المؤلف: عبد الله بن أحمد بن علي الزيد الطبعة: الأولى

الناشر: دار السلام للنشر والتوزيع - الرياض تاريخ النشر: 1416 هـ عدد الصفحات: 1040 عدد الأجزاء: 1 أيسر التفاسير للجزائري الكتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المؤلف: جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الخامسة، 1424 هـ - 2003 م أضواء البيان الكتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: 1393 هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان الطبعة: 1415 هـ - 1995 م التحرير والتنوير الكتاب: التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 هـ) الناشر: مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م تفسير الجلالين الكتاب: تفسير الجلالين المؤلف: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864 هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911 هـ)

الكتاب: أسد الغابة في معرفة الصحابة المؤلف: ابن الأثير: على بن محمد بن محمد الجزرى (المتوفى: 630 هـ) الناشر: دار الشعب، القاهرة الطبعة: 1390 هـ، 1970 م. الكتاب: النهاية في غريب الحديث والأثر المؤلف: ابن الأثير: أبو السعادات المبارك بن محمد الجزرى (المتوفى: 606 هـ) الناشر: دار احياء الكتب العربية، عيسى البابي الحبلي، مصر د. ت. الكتاب: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار المؤلف: الأزرقى: ابو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقى (المتوفى: 250 هـ) الناشر: دار الثقافة بيروت، مكة المكرمة الطبعة: الثالثة، 1399 هـ - 1979 م الكتاب: السير والمغازى المؤلف: ابن اسحاق: محمد بن اسحاق بن يسار المطلبى (المتوفى: 151 هـ) الناشر: دار الفكر، دمشق الطبعة: الأولى، 1398 هـ - 1978 م الكتاب: التاريخ الكبير المؤلف: البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (المتوفى: 256 هـ) الناشر: جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، ودار الكتب العلمية، بيروت. الطبعة: 1380 هـ - 1960 م الكتاب: الجامع الصحيح المؤلف: البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (المتوفى: 256 هـ) الناشر: المكتب الإسلامي، استانبول، تركية الطبعة: الثالثة، 1399 هـ - 1979 م

الكتاب: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع المؤلف: البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (المتوفى: 256 هـ) الناشر: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة الطبعة: الأولى، 1364 هـ - 1945 م الكتاب: أنساب الأشراف المؤلف: البلاذرى: أحمد بن يحيى بن جابر (المتوفى: 279 هـ) الناشر: دار المعارف، مصر، د. ت. الكتاب: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة المؤلف: البيهقى: أحمد بن الحسين بن على (المتوفى: 458 هـ) الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة: الأولى، 1405 هـ - 1985 م الكتاب: السنن الكبرى المؤلف: البيهقى: أحمد بن الحسين بن على (المتوفى: 458 هـ) الناشر: دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد الدكن، الهند الطبعة: الأولى، 1344 هـ - 1925 م الكتاب: سنن الترمذى المؤلف: الترمذى: محمد بن عيسى بن سورة (المتوفى: 279 هـ) الناشر: دار مكتبة دار الدعوة، حمص، سورية الطبعة: 1385 هـ - 1965 م الكتاب: تلقيح فهوم الأثر في عيون التاريخ والسير المؤلف: ابن الجوزى: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن على بن محمد الجوزى (المتوفى: 597 هـ) الناشر: مكتبة الآداب، مصر. الكتاب: زاد المسير في علم التفسير المؤلف: ابن الجوزى: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن على بن محمد الجوزى (المتوفى: 597 هـ)

الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة: الأولى، 1384 هـ - 1964 م الكتاب: المستدرك على الصحيحين المؤلف: الحاكم: أبو عبد الله بن محمد النيسابورى (المتوفى: 405 هـ) الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض، د. ت. الكتاب: الثقات المؤلف: ابن حبان: أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي (المتوفى: 354 هـ) الناشر: مطبعة مجلس دائرة المعارف، الهند الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م الكتاب: صحيح بن حبان المؤلف: ابن حبان: أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي (المتوفى: 354 هـ) الناشر: المكتبة السلفية، المدينة المنورة الطبعة: الأولى، 1390 هـ - 1970 م الكتاب: الإصابة في تمييز الصحابة المؤلف: ابن حجر: أحمد بن على بن محمد الكنانى (المتوفى: 852 هـ) الناشر: مطبعة السعادة، مصر الطبعة: الأولى، 1328 هـ - 1910 م الكتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: ابن حجر: أحمد بن على بن محمد الكنانى (المتوفى: 852 هـ) الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة الطبعة: 1398 هـ - 1978 م الكتاب: جوامع السيرة المؤلف: ابن حزم: أبو محمد على بن أحمد بن سعد (المتوفى: 456 هـ) الناشر: دار المعارف، مصر، د. ت

الكتاب: مسند الحميدى المؤلف: الحميدى: أبو بكر عبدالله بن الزبير (المتوفى: 219 هـ) الناشر: من سلسلة منشورات المجلس العلمى، كراتشى، باكستان، عالم الكتب، بيروت، د. ت الكتاب: المسند المؤلف: ابن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (المتوفى: 241 هـ) الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة: الثانية، 1398 هـ - 1978 م الكتاب: المسند المؤلف: ابن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (المتوفى: 241 هـ) الطبعة: 1365 هـ - 1946 م الكتاب: فضائل الصحابة المؤلف: ابن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (المتوفى: 241 هـ) الناشر: مركز البحث العلمى وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة الطبعة: الأولى، 1403 هـ - 1983 م الكتاب: تاريخ خليفة بن خياط المؤلف: ابن خياط: خليفة بن خياط العصفرى (المتوفى: 463 هـ) الناشر: دار طيبة، الرياض الطبعة: الثانية، 1405 هـ - 1985 م الكتاب: سنن الدارمى المؤلف: الدارمى: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل (المتوفى: 255 هـ) الناشر: دار إحياء السنة النبوية، القاهرة، د. ت الكتاب: سنن أبي داود مع معالم السنن للخطابى المؤلف: أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستانى (المتوفى: 275 هـ) الناشر: نشر وتوزيع محمد على السيد، سورية

الطبعة: الأولى، 1388 هـ - 1969 م الكتاب: المراسيل المؤلف: أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستانى (المتوفى: 275 هـ) الناشر: دار القلم، بيروت الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1986 م الكتاب: مسند الطيالسى المؤلف: أبو داود: سليمان بن داود بن الجارود الطيالسى (المتوفى: 204 هـ) الناشر: المنبرية بالأزهر، مصر الطبعة: الأولى، 1372 هـ - 1952 م الكتاب: تاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس المؤلف: الديار بكرى: حسين بن محمد بن الحسن (المتوفى: 966 هـ) الناشر: مؤسسة شعبان، بيروت، د. ت، والمطبعة الوهبية، مصر الطبعة: 1283 هـ - 1866 م الكتاب: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام المؤلف: الذهبى: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى (المتوفى: 748 هـ) الناشر: دار العربى، بيروت الطبعة: الأولى، 1407 هـ - 1987 م الكتاب: تذكرة الحفاظ المؤلف: الذهبى: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى (المتوفى: 748 هـ) الناشر: إحياء التراث العربى، بيروت، د. ت الكتاب: شرح المواهب اللدنية للقسطلانى المؤلف: الزرقانى: محمد بن عبد الباقى بن يوسف أبو عبد الله (المتوفى: 1122 هـ) الناشر: دار الطباعة الأميرية، مصر الطبعة: 1278 هـ - 1861 م

الكتاب: شرح موطأ الإمام مالك بن أنس المؤلف: الزرقانى: محمد بن عبد الباقى بن يوسف أبو عبد الله (المتوفى: 1122 هـ) الناشر: مطعبة الاستقامة، القاهرة الطبعة: 1372 هـ - 1954 م الكتاب: إعلام الساجد بأحكام المساجد المؤلف: الزركشى: محمد بن عبد الله (المتوفى: 794 هـ) الناشر: لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة الطبعة: 1384 هـ - 1964 م الكتاب: المغازى النبوية المؤلف: الزهرى: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهرى (المتوفى: 124 هـ) الناشر: دار الفكر، دمشق الطبعة: 1401 هـ - 1981 م الكتاب: الطبقات الكبرى المؤلف: ابن سعد: محمد بن سعد بن منيع البصرى (المتوفى: 230 هـ) الناشر: دار صادر، بيروت الطبعة: 1388 هـ - 1968 م الكتاب: الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام المؤلف: السهيلى: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبى الحسن الخثعمى (المتوفى: 581 هـ) الناشر: دار المعرفة، بيروت الطبعة: 1398 هـ - 1978 م الكتاب: عيون الأثر في فنون المغازى والشمائل والسير المؤلف: ابن سيد الناس: محمد بن محمد أبو الفتح اليعمرى المصرى (المتوفى: 734 هـ) الناشر: دار المعرفة، بيروت، د. ت

الكتاب: تاريخ المدينة المنورة المؤلف: ابن شبة: أبو زيد عمر بن شبة النميرى البصرى (المتوفى: 262 هـ) الناشر: دار الكتاب العربى، بيروت الطبعة: الثانية، 1406 هـ - 1986 م الكتاب: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد المؤلف: الصالحى: محمد بن يوسف الصالحى (المتوفى: 942 هـ) الناشر: لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة الطبعة: 1392 هـ - 1972 م - 1406 هـ - 1986 م الكتاب: المعجم الكبير المؤلف: الطبرانى: أبو القاسم سليمان بن أحمد (المتوفى 360 هـ) الناشر: إحياء التراث الإسلامي، العراق الطبعة: الأولى، 1397 هـ - 1977 م الكتاب: جامع البيان عن تأويل آى القرآن المؤلف: الطبرى: أبو جعفر محمد بن جرير بن زيد (المتوفى 310 هـ) الناشر: مكتبة ابن تيمية الطبعة: الثانية، د. ت الكتاب: صحيح السيرة النبوية - المسماة: السيرة الذهبية المؤلف: طرهونى: الشيخ محمد بن رزق بن طرهونى الناشر: دار ابن تيمية للطباعة والنشر، القاهرة الطبعة: الأولى، 1410 هـ الكتاب: إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين المؤلف: ابن طولون: محمد بن طولون الدمشقي (المتوفى 953 هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة: 1403 هـ - 1983 م

الكتاب: الاستيعاب في معرفة الأصحاب المؤلف: ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمرى (المتوفى 463 هـ) الناشر: مطبعة السعادة، مصر الطبعة: الأولى، 1328 هـ - 1910 م الكتاب: الدرر في اختصار المغازى والسير المؤلف: ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد النمرى (المتوفى 463 هـ) الطبعة: 1386 هـ / 1966 م الكتاب: فتوح مصر المؤلف: ابن عبد الحكم: أبو القاسم عبدالرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين القرشى المصرى (المتوفى257 هـ) الناشر: مطبعة بريل، ليدن الطبعة 1339 هـ - 1920 م الكتاب: المصنف المؤلف: عبد الرزاق: بن همام بن نافع أبوبكر الصنعانى (المتوفى 211 هـ) الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة: الأولى، 1392 هـ / 1972 م الكتاب: الأموال المؤلف: أبو عبيد: القاسم بن سلام البغدادى اللغوى (المتوفى 224 هـ) الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ودار الفكر، القاهرة - بيروت الطبعة: الثانية، 1395 هـ / 1975 م الكتاب: المغازى المؤلف: عروة: بن الزبير بن العوام (المتوفى 93 هـ) الناشر: مكتب التربية العربية، دول الخليج، الرياض الطبعة: الأولى، 1401 هـ / 1981 م

الكتاب: تاريخ مدينة دمشق المؤلف: ابن عساكر: على بن الحسين بن هبة الله أبو القاسم الدمشقى (المتوفى 571 هـ) الناشر: مطبوعات مجمع اللغة العربية، دار الفكر، دمشق الطبعة: 1404 هـ - 1984 م الكتاب: المسند المؤلف: أبو عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (المتوفى 316 هـ) الناشر: دائرة المعارف العثمانية، حيد آباد الدكن، الهند الطبعة: الأولى، 1385 هـ - 1965 م الكتاب: أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه المؤلف: الفاكهى: أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس (المتوفى: 280 هـ) الناشر: مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة الطبعة: الأولى، 1407 هـ - 1986 م الكتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد المؤلف: ابن قيم الجوزية: أبو عبد الله محمد بن أبى بكر (المتوفي: 752 هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة: الثالثة عشر، 1406 هـ - 1986 م الكتاب: البداية والنهاية المؤلف: ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي (المتوفي: 774 هـ) الناشر: مطبعة الفجالة الجديدة، القاهرة، ومكتبة الفلاح بالرياض، د. ت الكتاب: تفسير القرآن الكريم المؤلف: ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي (المتوفي: 774 هـ) الطبعة: 1390 هـ - 1971 م الكتاب: سنن ابن ماجه المؤلف: ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (المتوفي: 275 هـ)

الناشر: دار الفكر العربي، بيروت الطبعة: 1395 هـ - 1975 م الكتاب: صحيح مسلم المؤلف: مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (المتوفي: 261 هـ) الناشر: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض الطبعة: 1400 هـ - 1980 م الكتاب: سنن النسائي المؤلف: النسائي: أبو عبد الرحمن بن شعيب (المتوفي: 303 هـ) الناشر: دار إحياء التراث العربيث، بيروت الطبعة: الأولى، 1348 هـ - 1930 م الكتاب: شرح صحيح مسلم المؤلف: النووى: أبو زكريا محيى بن شرف (المتوفي: 676 هـ) الناشر: دار الفكر، بيروت، د. ت الكتاب: دلائل النبوة المؤلف: أبو نعيم: أحمد بن عبد الله الأصفهاني (المتوفي: 430 هـ) الناشر: دار النفائس، بيروت الطبعة: الثانية، 1406 هـ - 1986 م الكتاب: السيرة النبوية المؤلف: ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري (المتوفي: 218 هـ) الناشر: مكتبة المنار، الأردن الطبعة: الأولى، 1409 هـ - 1988 م الكتاب: كشف الأستار عن زوائد البزار المؤلف: الهيثمي: أبو بكر نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان (المتوفي: 807 هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة

الطبعة: الأولى، 1399 هـ - 1979 م الكتاب: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد المؤلف: الهيثمي: أبو بكر نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان (المتوفي: 807 هـ) الناشر: دار الكتاب، بيروت الطبعة: الثانية، 1387 هـ - 1967 م الكتاب: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان المؤلف: الهيثمي: أبو بكر نور الدين علي بن أبي بكر بن سليمان (المتوفي: 807 هـ) الناشر: دار مكتبة الهلال، بيروت، د. ت الكتاب: أسباب النزول المؤلف: الواحدي: أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري (المتوفي: 468 هـ) الناشر: مطبعة هندية، مصر الطبعة: 1315 هـ - 1897 م الكتاب: كتاب المغازي المؤلف: الواقدى: محمد بن عمر بن واقد (المتوفي: 207 هـ) الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت الطبعة: 1384 هـ - 1964 م الكتاب: تاريخ اليعقوبي المؤلف: اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح (المتوفي: 282 هـ) الناشر: دار صادر، بيروت الطبعة: 1379 هـ - 1960 م الكتاب: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل المؤلف: الألباني: محمد ناصر الدين الألباني الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة: الأولى، 1399 هـ - 1979 م

الكتاب: تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي المؤلف: الألباني: محمد ناصر الدين الألباني الكتاب: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة والرد علي جهالات الدكتور البوطي في كتابه «فقه السيرة» المؤلف: الألباني: محمد ناصر الدين الألباني الناشر: مؤسسة ومكتبة الخافقين، دمشق الطبعة: 1397 هـ - 1977 م الكتاب: سلسلة الأحاديث الصحيحة المؤلف: الألباني: محمد ناصر الدين الألباني الكتاب: صحيح سنن الترمذى المؤلف: الألباني: محمد ناصر الدين الألباني الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1986 م الكتاب: مرويات غزوة بدر المؤلف: باوزير: أحمد محمد العليمى باوزير الناشر: مكتبة طيبة الطبعة: الأولى، 1400 هـ - 1980 م الكتاب: هذا الحبيب محمد رسول الله < يا محب المؤلف: أبو بكر الجزائرى الناشر: مكتبة لينة، دمنهور، مصر الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1988 م الكتاب: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية المؤلف: عاتق بن غيث الناشر: دار مكة، مكة المكرمة

الطبعة: الأولى، 1402 هـ - 1982 م الكتاب: فقة السيرة النبوية المؤلف: البوطى: د. محمد سعيد رمضان البوطى الناشر: دار الفكر، دمشق الطبعة: السابعة، 1398 هـ - 1978 م الكتاب: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة المؤلف: بوكاي: موريس الناشر: دار المعارف، القاهرة الطبعة: الرابعة، 1397 هـ - 1977 م الكتاب: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة المؤلف: الحيدرابادي: محمد حميد الله الحيدرابادي الناشر: دار النفائس، بيروت الطبعة: الرابعة 1403 هـ / 1983 م الكتاب: إظهار الحق المؤلف: رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي الناشر: إدارة إحياء التراث الإسلامي، الدوحة الطبعة: 1403 هـ / 1983 م الكتاب: عثرات وسقطات في كتاب المنهج الحركي للسيرة النبوية المؤلف: زهير سالم الناشر: دار عمار، الأردن الطبعة: الأولى 1408 هـ / 1988 م الكتاب: الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني مع بلوغ الأماني في أسرار الفتح الرباني المؤلف: السعاتي: أحمد بن عبد الرحمن البنا الناشر: دار الشهاب، القاهرة، د. ت

الكتاب: من معين السيرة المؤلف: الشامي: صالح أحمد الشامي الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة: الأولى، 1405 هـ / 1984 م الكتاب: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة المؤلف: أبو شهبة: محمد محمد الناشر: دار القلم، دمشق الطبعة: 1409 هـ / 1988 م الكتاب: محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤلف: عرجون: محمد الصادق إبراهيم عرجون الناشر: دار القلم، دمشق الطبعة: الأولى 1405 هـ / 1985 م الكتاب: المجتمع المدني في عهد النبوة - الجهاد ضد المشركين المؤلف: العمري: د. أكرم ضياء العمري الطبعة: الأولى، 1404 هـ / 1984 م الكتاب: السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق - دراسة مقارنة في العهد المكي المؤلف: العودة: د. سليمان حمد العودة الكتاب: فقه السيرة المؤلف: الغزالي: محمد الناشر: عالم المعرفة الطبعة: السابعة، 1397 هـ / 1976 م الكتاب: المنهج الحركي للسيرة النبوية المؤلف: الغضبان: منير محمد الناشر: مكتبة المنار، الأردن

الطبعة: الأولى، 1404 هـ / 1984 م الكتاب: دبلوماسية محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رسالة دكتوراه منشورة المؤلف: عون: د. عون الشريف قاسم الناشر: قسم التأليف والنشر، جامعة الخرطوم د. ت الكتاب: مصادر السيرة النبوية وتقويمها المؤلف: فاروق: د. فاروق حمادة الناشر: دار الثقافة، دار البيضاء الطبعة: الأولى، 1400 هـ / 1980 م الكتاب: الرحيق المختوم المؤلف: المباركفوري: الشيخ صفي الرحمن المباركفوري الناشر: دار الوفاء، المنصورة، مصر الطبعة: 1396 هـ / 1976 م الكتاب: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خلال سيرته الشريفة المؤلف: محمد رواس قلعه جي الناشر: دار النفائس، بيروت الطبعة: الأولى، 1408 هـ / 1988 م الكتاب: السيرة النبوية المؤلف: الندوي: أبو الحسن على الحسني الناشر: دار الشروق، جدة الطبعة: الأولى، 1397 هـ / 1977 م الكتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين المؤلف: الندوي: أبو الحسن على الحسني الناشر: مطابع علي بن علي، الدوحة الطبعة: العاشرة، 1394 هـ - 1974 م

الكتاب: صحيفة الدينة - دراسة حديثية وتحقيق - المؤلف: هارون رشيد محمد إسحاق الطبعة: 1405 هـ / 1985 م الكتاب: دائرة المعارف الإسلامية المؤلف: ريكندورف، ترجمة: عباس محمود ورفاقه الكتاب: الدولة العربية وسقوطها المؤلف: فلهاوزن، ترجمة: يوسف العش الناشر: مكتبة الجامعة السورية، دمشق الطبعة: 1956 م الكتاب: مجموعة الوثائق السياسية المؤلف: محمد حميد محمد الناشر: دار الارشاد، بيروت الطبعة: 1389 هـ / 1969 م الكتاب: سيرة الرسول المؤلف: محمد عزة دروزة الناشر: مطبعة عيسي البابي الحلبي، مصر الطبعة: 1965 م الكتاب: نسب حرب المؤلف: البلاذرى: أحمد بن يحيي بن جابر (المتوفي 179 هـ) الناشر: مكتبة دار البيان، دمشق الطبعة: الأولى، 1397 هـ الكتاب: أنساب الأشراف المؤلف: تحقيق محمد حميد الله الناشر: دار المعارف، مصر

الكتاب: فتوح البلدان الناشر: مكتبة النهضة العربية الكتاب: الجوهر النقي (بحاشية السنن الكبرى للبيهقي) الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند الكتاب: منتفى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار (مع شرحه نيل الأوطار للشوكاني) المؤلف: ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (المتوفي 728 هـ) الكتاب: المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة المؤلف: تحقيق: حمد الجاسر الناشر: منشورات دار اليمامة، الرياض الطبعة: 1389 هـ الكتاب: شرح معاني الآثار المؤلف: تحقيق: محمد سيد جاد الحق الناشر: مطبعة الأنوار المحمدية، القاهرة الطبعة: 1387 هـ / 1968 م الكتاب: أوجز المسالك إلى موطأ مالك المؤلف: محمد سمش الحق العظيم آبادى الناشر: دار الفكر، بيروت الطبعة: الثانية، 1394 هـ الكتاب: المجموع شرح المهذب الناشر: مكتبة الإرشاد الكتاب: مغازي المؤلف: تحقيق: مارسدن جونس الناشر: تصوير مؤسسة الأعلمي، بيروت

الكتاب: الدر المنثور المؤلف: السيوطي الناشر: محمد أمين دمج، بيروت الكتاب: طبقات ابن سعد الناشر: دار بيروت، دار صادر الطبعة: 1958 م الكتاب: كشف الأستار في زوائد مسند البزار المؤلف: الهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي الناشر: مؤسسة الرسالة الكتاب: مجمع الزوائد المؤلف: الهيثمي الكتاب: المستدرك المؤلف: الحاكم النيسابوري الناشر: حيدر آباد الدكن، الهند الطبعة: 1341 هـ الكتاب: مصنف عبد الرازق المؤلف: تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي الناشر: دار القلم، بيروت الطبعة: الأولى، 1390 هـ الكتاب: موارد الظمأن إلى زوائد إبن حبان المؤلف: الهيثمي، تحقيق: محمد عبد الرازق حمزة الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت

ملخص البحث

ملخص البحث إن هذا البحث متعدد المناهج، متشعب الاتجاهات، وهو يتسع لعديد من الرسالات العلمية يكمل بعضها بعضاً؛ لتستكمل سلسلته قدر المستطاع. وقد قسم هذا البحث على ثلاثة أبواب وخاتمة. الباب الأول: في سيدنا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القرآن الكريم حيث القرآن الكريم أصدق من وُصِف فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصح وأثبت. وقد اقتصر البحث فيه على ثلاثة فصول: الأول: في ثناء الله عليه. الثاني: في حقوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التى قررها القرآن الكريم عن الله تعالى والتى لا يجوز التقصير فيها. الثالث: في عصمته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكان الفصل الأول في ثلاثة مباحث: - المبحث الأول: في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، مع تعريف الأخلاق عند الفلاسفة، والاركان الأساسية للأخلاق.

- المبحث الثاني: في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]، مع تحليل الآية، وذكر الأخلاق الجبلية والكسبية، والبرهنة على أن أخلاقه جبلية. - المبحث الثالث: كان في تحليل قوله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ} [الضحى: 1 - 2]. وأما الفصل الثاني: فقد خصص لذكر بعض حقوقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التى أمر الله بها وكان فيها: - المبحث الأول: في الأمر بالصلاة عليه وتحليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. - المبحث الثاني: في تحليل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ...} [الحجرات: 1]. - المبحث الثالث: في لزوم طاعته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما الفصل الثالث: في الباب الأول: فكان للكلام على عصمته، فبين فيه: - المبحث الأول: معنى العصمة. - المبحث الثاني: قصة يوسف - عليه السلام - في العصمة. - المبحث الثالث: بعض الآيات النازلة في عصمة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم إنتقل البحث إلى الباب الثاني وهو: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكه وهو في ثلاثة فصول أيضاً: الفصل الأول: في ذكر مولده إلى بعثتة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وناقش نسبه ومولده ورضاعته ثم دلف إلى كلام "مونتجمرى وات" مبيناً منهج المستشرقين في التعامل مع السيرة.

وذكر المباحث التالية فيه، وهي: شق الصدر، وتحليل {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1]، وحفظ الله للنبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل البعثة، وزواجه من خديجة، ومشاركته في بناء الكعبة، والتعليق على "وات" فيما ذكر من ذلك. الفصل الثاني: كان في البشارات بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إرهاصاً بنبوته وجاء بشارات الأنبياء السابقين به عليهم السلام، إرهاصات النبوة الواردة في السنة المشرفة، أخبار النصارى بذلك والآيات الواردة ومناقشة وات أيضاً. وجاء الفصل الثالث: في "بدء الوحى" وجاءت مباحثه في إرهاصات النبوة، وذكر البعثة والنبوة والوحى مراتبه والدعوة وآيات المزمل والمدثر والجهر بالدعوة وبدء الاضطهاد والأذى. وكان الباب الثالث: في العهد المدنى. بدء بالفصل الأول: في أسس بناء المجتمع الإسلامي فذكر مباحث: بناء المسجد والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، الوثيقة بين سكان المدينة. وجاء الفصل الثاني: في غزوة بدر الكبرى. واشتمل على المبحث الأول: في النشاط السياسى والعسكرى من الهجرة إلى غزوة بدر. المبحث الثاني: أحداث غزوة بدر في السيرة. المبحث الثالث: غزوة بدر في القرآن الكريم.

وبدأ الفصل الثالث: بمناقشة وات فكان مع وات في غزوة بدر. مع أبحاث عديدة شملها البحث ونتائج كثيرة خرج بها. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[ملخص البحث باللغة الإنجليزية]

[ملخص البحث باللغة الإنجليزية] Abstract "Biography of the Prophe between the irrigated and Quranic verses" This research is of multiple approaches and diverse orientations. It can accommodate numerous inter - complementing scholarly dissertations so that its series is completed to the best possible extent. The research is divided into three chapters and a conclusion. Chapter 1 overviews mention of Prophet Muhammad (peace be upon him) in the Holy Quran, which is the most credible, valid, and genuine source of descriptive information about the Prophet Muhammad (peace be upon him). This chapter includes three sections : i. About his praise. ii. About his rights that Allah the Exalted established for him in the Holy Quran, and which must be fully observed iii. About his infallibility, may peace be upon him. Section One covers three research issues : Issue 1 : About His words [interpreted as] "", with a definition of moralities according to philosophers and the main components of morals.

Issue 2 : About His words [interpreted as] "", with an analysis of the Ayah / verse, mention of innate and acquired morals, and proof that his morals were innate. Issue 3 : Analyzing His words [interpreted as] "". Section Two was dedicated to a presentation of some of the rights due to him (peace be upon him) as commanded by Allah the Exalted. This includes : Issue 1 : The command to ask [Allah to confer] blessing upon him and an analysis of His words [interpreted as] "". Issue 2 : Analyzing His words [interpreted as] "". Issue 3 : The obligation to obey him (peace be upon him). Section Three discusses his infallibility through : Issue 1 : The meaning of infallibility. Issue 2 : The story of Yusuf (peace be upon him) as related to infallibility. Issue 3 : A number of Ayahs / verses revealed with regards to the infallibility of Muhammad (peace be upon him). The research them moves on to Chapter 2, which is about the Messenger (peace be upon him) in Makkah. This chapter also comprises three sections : Section One : An account of the period from his birth to the start of his mission (peace be upon him). Here, his lineage and nursing

are discussed, along with quotations from Montgomery Watt and a discussion of the approach followed by Orientalists in dealing with his biography. The following issues are handled here : the chest - incision incident and an analysis of ""; the Messenger's protection by Allah even before his mission started; his marriage to Khadeejah; his participation in reconstructing the Ka'bah; and commenting on what Watt said in this regard. Section Two : discusses the heralds of the Messenger's mission, including those by previous prophets (peace be upon him), the heralds mentioned in his biography (Seerah), the relevant foretelling by Christians, related Ayahs / verses, and once again a discussion of Watt's view. Section Three : relates to the advent of the revelation, with issues discussing the heralds, the mission and prophecy, revelation and its levels, the call, the Ayahs / verses of Al - Muzzamil and Al - Muddathir, announcing the call in public, and the commencement of persecution and harm. Chapter 3 handles the Madinah phase. In Section One, the foundations of establishing the Islamic society are discussed through the issues of : - Building the mosque - Establish fraternity between the Muhajireen and the Ansaar - The pact between inhabitants of Al - Madinah

Section Two is about the Great Battle of Badr and covers the following issues : - Political and military activity from the Hijrah to Badr - The events of Badr in the Seerah. - The Battle of Badr in the Holy Quran Section Three discusses the opinions of Watt regarding the Battle of Badr. The research also includes numerous other issues and derives many results. May the peace and blessings of Allah be upon His Messenger, his Family, and his Companions.

§1/1