السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية

أكرم العمري

السِّيرةُ النَّبَويَّةُ الصَّحيْحَةُ مُحَاوَلَةٌ لِتَطبِيْقِ قَوَاعِدِ المُحَدِّثيْنَ فِيْ نَقْدِ روَايَاتِ السِّيْرَةِ النَّبَويَّةِ تَأليف الدكتور أكرم ضياء العمري الجزْء الأَوَّل النَاشِر مَكتَبة العُلوم وَالحِكْمَ المدَينَة المُنَوَّرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

السِّيرةُ النَّبَويَّةُ الصَّحيْحَةُ (1)

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة السادسة 1415 هـ - 1994 م مَكتَبة العُلوم وَالحِكْمَ ص. ب688 هاتف:8473148 - 8263356 المدَينَة المُنَوَّرة - المملكة العربية السعودية

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قرآن كريم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}. * * *

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

المقدمة

المقَدّمَة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. إن الاهتمام بكتابة السيرة النبوية ظهر مبكراً في تاريخ الإسلام، وقد تناولها بالتصنيف المؤرخون والمحدثون في القرون الأولى. وتمتاز كتابات المؤرخين مثل الواقدي والبلاذري بالعناية بمراعاة ترتيب الأحداث ترتيباً زمنياً وموضوعياً، في حين تظهر التجزئة للأحداث في كتابات المحدثين الذين التزموا بقواعد الرواية وتمييز الأسانيد عن بعضها، وربما قطَّعوا الرواية الواحدة فخرجوا بعضها في مكان وبقيتها في مكان آخر لموضوعات (تراجم) مؤلفاتهم، كما يظهر ذلك جلياً في قسم المغازي الذي كتبه الإمام البخاري ضمن صحيحه، ويظهر بصورة أخف في صحيح الإمام مسلم بسبب عنايته الخاصة بسرد المتون الطويلة وتحرير ألفاظها. لأنه أقل عناية من البخاري بتقطيع الرواية حسب تراجم كتابه. وبعض المؤلفين جمع بين صفتي المحدث والمؤرخ مثل محمد بن إسحاق وخليفة بن خياط، ويعقوب بن سفيان الفَسَوى، ومحمد بن جرير الطبري، وهؤلاء أفادوا من منهج المحدثين بالتزام سرد الأسانيد ومحاولة إكمال صورة الحادث عن طريق جمع الأسانيد أحياناً أو سرد الروايات التي تشكل وحدة موضوعية تحت عناوين دالة. ولكن سائر الذين كتبوا في السيرة اهتموا بجمع ما أمكنهم من الروايات وتدوينها دون أن يشترطوا الصحة فيما يكتبونه، وأحالوا القارئ على الأسانيد التي أوردوها ليعرف الصحيح من الضعيف، ويشذ عن ذلك البخاري ومسلم حيث شرطا الصحة فيما روياه من روايات السيرة ضمن كتابيهما في الصحيح.

وكان المتخصصون في القرون الأولى يعرفون الرواة وأحوالهم والأسانيد وشروط صحتها، فكان بوسعهم الحكم على الروايات وتمييزها، لكن هذه المعرفة بالرجال والأسانيد لم تعد من أسس الثقافة في القرون المتأخرة، بل يندر أن تجد من يهتم بذلك من مثقفي هذا العصر، لذلك جاءت كتابات المعاصرين من الكتاب والمؤرخين خلواً من تمييز الروايات وفق قواعد مصطلح الحديث، ولكن كبار المؤرخين في عصرنا يترسمون مناهج (النقد التاريخي) الذي ظهر ونما في الغرب خلال القرنين الأخيرين، وهم يتعاملون مع روايات السيرة من خلال هذه المناهج النقدية التي وضعت بعد استقراء الكتابات التاريخية الغربية، ولم تكيف للتعامل مع الرواية التاريخية الإسلامية التي لها سماتها الخاصة والتي من أبرزها وجود سلاسل السند التي تتقدم الرواية عادة، والتي يعتمد منهج المحدثين عليها بالدرجة الأولى في الحكم على الرواية بالصحة أو عدمها. مما أدى إلى ظهور مكتبة ضخمة مَعْنِيَّة بتراجم الرواة وبيان أحوالهم وإمكان التقائهم ببعضهم أو عدمه، والحكم عليهم من خلال استقراء مروياتهم بالإضافة إلى رأي معاصريهم فيهم، وهذه الثورة الهائلة من المعلومات والمكتبة النفيسة ظلت بمعزل عن الإفادة منها في الدراسات التاريخية المتعلقة بتاريخ الإسلام ومنها دراسات السيرة. وما أعظمها من خسارة أن نئد جهود المئات من كبار العلماء الذين قدموا لنا هذه الخدمة الخاصة بالتعامل مع "الرواية التاريخية الإسلامية". بسبب جهلنا بقيمتها والتزامنا الحرفي بمنهج النقد التاريخي الغربي. (Historical Method) وهنا تلزم الإشارة إلى أن إهمال نقد الأسانيد في الرواية التاريخية الإسلامية والاكتفاء بنقد المتون يوقعنا في حيرة أمام الروايات الكثيرة المتعارضة عندما تكون متونها جميعاً متفقة مع المقاييس والقواعد النقدية العقلية، وهذا يحدث مع كثير من تفاصيل الأحداث التأريخية، وخاصة المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام. إن ذلك يحتم علي الباحث استعمال منهج المحدثين في نقد الأسانيد وإلا فإنه سيقف أمام العديد من المشاكل دون حل أو ترجيح.

إن هذا لا يعني غمط النقد الغربي حقه، والتعسف في الحكم عليه، فلا شك أنه ثمرة عقول مفكرين كبار، طوروه من خلال التجربة والاستقراء، فأضاف اللاحق منهم على السابق حتى وصل إلى ما وصل إليه من تكامل وشمول وعمق، وهو يلتقي في كثير من جزئياته وقواعده وأصوله بمنهج العلماء المسلمين الذين سبقوا الغربيين في هذا الميدان بعدة قرون، مما يدل على جذور التأثير الإسلامي في الفكر الأوروبي منذ أن حصل التماس بين الغرب وحضارة الإسلام في العصور الوسطى الأوروبية. خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن منهج البحث العلمي عند المسلمين لا يقتصر على معطيات مدرسة المحدثين، فهناك معطيات أخرى يقدمها علماء أصول الفقه في منهجهم المنطقي العقلي وتتبلور في كتب أصول الفقه، ومعطيات يقدمها علماء الطب والفلك والرياضيات المسلمون وتتمثل في منهج البحث التجريبي، وهو المنهج الذي ارتبط في تاريخ الفكر الغربي باسم العالم روجر بيكون الذي عول في دراسته على كتب العرب وحدها كما يصرح غوستاف لوبون (¬1)، وهو المنهج الذي يرجع إليه الفضل في بلوغ حضارة الغرب المادية إلى مستواها التقني الرائع. ولكن الذي يهم هذه المقدمة منهج المحدثين الذي يهتم مباشرة بالتعامل مع "الرواية الحديثية" وبالتالي يمكن سحبه إلى أقرب ميدان ليتعامل مع "الرواية التأريخية" وهو الذي يلتقي كثيراً مع "منهج البحث التاريخي". وقد استقر منهج المحدثين في كتب مصطلح الحديث منذ القرن الخامس للهجرة على يد الخطيب البغدادي، ولم تلحق به إضافات أساسية، وإن أعيدت الصياغة والترتيب لأغراض مدرسية على يد ابن الصلاح والقاضي عياض، وجرت إضافات دقيقة نتيجة تطبيق الحافظ الذهبي والحافظ ابن كثير ومن بعدهما الحافظ ابن حجر لهذا المنهج في مؤلفاتهم، ولكن المنهج لم يتعرض لتعديل ¬

_ (¬1) غوستاف لوبون: حضارة العرب، ص26.

جوهري، بل تعتبر إضافات الذهبي وابن كثير وابن حجر في جزئيات القواعد العامة، وهي إضافات مهمة تعطينا تصوراً لما كان يمكن أن يصل إليه هذا المنهج من الاكتمال لو استمرت الحركة الفكرية نشيطة في "عالم الإسلام" ولم يتوقف إبداعها ونموها في عصور التخلف الطويلة. إن الجمع بين معطيات منهج المحدثين ومنهج النقد الغربي يعطي أمثل النتائج إذا حَكَمت الأخير معايير التصور الإسلامي، ولا شك أن الدراسات التاريخية الإسلامية الحديثة ومنها دراسات السيرة النبوية ما زالت في بداية الطريق، وهي تحتاج إلى جهود هائلة للارتقاء بها إلى مستوى الدراسات التاريخية العالمية. ويكفي أن القارئ لدارسة حديثة في السيرة لا يكاد يحس فرقاً مهماً بينها وبين كتاب سيرة ابن هشام أو زاد المعاد على تباين أسلوب ومنهج الكتابين، رغم التطور الهائل في الدراسات الاجتماعية في العصر الحديث. وما تقدمه العلوم الحديثة من معطيات ضخمة تخدم الدراسات الاجتماعية، وللأسف فإننا نعيش على حافة العالم الحديث ولم نجرؤ على اقتحامه لنفيد من معطياته الثرية المتنوعة، مع أن ما ورثناه من أسلافنا في حقل التأليف التاريخي أعظم بكثير مما ورثه المؤرخون الغربيون عن أسلافهم. وإذا كان النقد التاريخي يبدو ضعيفاً في دراساتنا، فإن التحليل للروايات والتعامل معها يبدو أكثر قصوراً، بسبب النظرة التجزيئية للقضايا والسطحية في التعامل مع الروايات وعدم وضوح التصور الإسلامي لحركة التاريخ ودور الفرد والجماعة والعلاقة الجدلية بين القدر والحرية وقانون السببية والربط بين المقدمات والنتائج. فضلاً على أن الكتب التاريخية القديمة لا تمدنا بمنحى واضح في التحليل والتصور الكلي بسبب اعتمادها على سرد الروايات فقط، إذ قلما يشير المؤرخ الإسلامي القديم للسنن والنواميس والقوانين الاجتماعية التي تحكم حركة التاريخ رغم أن القرآن الكريم لفت نظر المسلمين إلى ذلك كله بوضوح بل أن أحدا من مؤرخي الإسلام لم يحاول إعادة صياغة النظرة القرآنية للتاريخ وتقديم

الوقائع والتطبيقات والشواهد التاريخية عليها بشكل نظريات كلية حتى وقت متأخر عندما كتب ابن خلدون مقدمته، رغم أن المفكرين المسلمين تعاملوا مع الفلسفة والمنطق منذ القرون الأولى وأفادوا منها في بناء علوم اللغة وأصول الفقه بوضوح وتصرفوا في ذلك بعقليتهم اليقظة التي تنفي ما يناقض المعتقد الإيماني والتصور الإسلامي، ونجحوا في ذلك إلى حد كبير، وكان نجاحهم في تخطي التجربة يرتبط بمدى وضوح العقيدة وصفائها في عقولهم. ويرى العديد من الدارسين -وخاصة المستشرقين- أن علماء المسلمين عنوا بنقد أسانيد الروايات وأهملوا نقد متونها، وقد يتصور البعض أن غياب العقلية النقدية هو سبب إهمال محاكمة المتن، وهنا يلزم الانتباه إلى أن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فرغم توسع علماء المسلمين في نقد الأسانيد إلا أنهم لم يهملوا نقد المتون ومحاكمتها، بل عنوا بذلك أيضاً، ويصعب حصر الشواهد على ذلك لكثرتها، ولكن لا بأس من الإشارة إلى بعض المحاكمات التاريخية التي استندت إلى نقد المتن. لقد رفض ابن حزم الرقم الذي ذكرته المصادر الكثيرة عن عدد جند المسلمين في غزوة أحد بناء على محاكمة المتن وفق أقيسة عقلية بحتة. وقدَّم موسى بن عقبة غزوة بني المصطلق إلى السنة الرابعة مخالفاً معظم كتاب السيرة الذين يجعلونها في السنة السادسة، وتابعه ابن القيم والذهبي بناء على نقد المتن، حيث اشترك سعد بن معاذ بالغزوة وقد استشهد في أعقاب غزوة بني قريظة. وقد وقع اختلاف في تاريخ غزوة ذات الرقاع بين قدامى المؤرخين بناء على محاكمة المتن، فأخرها البخاري، وتابعه ابن القيم وابن كثير وابن حجر إلى ما بعد خيبر، خلافاً لرأي ابن إسحق والواقدي، بناء على اشتراك أبي موسى الأشعري وأبي هريرة فيها، وقد قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر مباشرة.

وجرت مناقشات مستفيضة حول تاريخ تشريع صلاة الخوف ومعظمها مبني على محاكمة المتن. وقد كشف الخطابي عن نسخ تحريم وادي وج بالطائف بناء على محاكمة المتن. وهذه الموضوعات يمكن مراجعتها في مظانها من هذا الكتاب فهي نماذج مستقاة منه. وهناك نماذج أخرى لا يتسع المقام لسردها، ولكن لا بد من الاعتراف بحقيقة تاريخية وهي أن القرون الثلاثة الأولى انصب فيها جهد المؤرخين على جمع الروايات وتدوينها وتصنيفها في الكتب، مع قدر من الانتقاء، يتضح من المقابلة بين المؤلفات ومصادرها الأقدم، حيث يُسقط المتأخر مجموعة من روايات المتقدم، كما فعل ابن هشام مع ابن إسحق، والطبري مع مصادره الأولية. ورغم أن الانتقاء نفسه يمثل عملاً نقدياً إلا أن الجهد الضخم الذي بذل في تثبيت الروايات وحفظها في الكتب استنفد طاقة الأوائل من المؤرخين، وقام المتأخرون منهم بدور التلخيص لأعمال الأوائل والتذييل عليهم. وتبرز في مؤلفات متأخرة محاكمات دقيقة للمتون كما يتضح ذلك بجلاء لمن يطلع على (البداية والنهاية) لابن كثير و (فتح الباري) للحافظ ابن حجر في شرحه لقسم المغازي من صحيح البخاري، ولكن ذلك لا يعني أن نقد المتن تم بنفس التوسع الذي فازت به نصوص التاريخ الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعدما اكتملت مناهج النقد التاريخي، ولكن هل من الإنصاف أن تُقَوَّمَ جهود القدامى بمقاييس حديثة هي من منجزات التقدم العلمي في كل ميدان عبر عدة قرون؟! ومع ذلك فإن تقويم العقلية النقدية عند علماء المسلمين القدامى ينبغي ألا يتم من خلال الكتب التاريخية وحدها، وإنما ينظر إلى جملة النتاج الفكري في الفقه والفقه المقارن (كتب أحاديث الأحكام) فلا شك أن كتب الفقه ركزت

على المتون تركيزاً عظيماً تفسيراً وتوضيحاً وإعراباً واستنباطاً. ومن الواضح أن عمل المحدثين والفقهاء يتكامل، فلا بد للمنصف أن يعترف بأن السنة النبوية نالت عناية عظيمة ومتوازنة من قبل العلماء المسلمين. وتتضح في كتب أصول الفقه المحاكمات الدقيقة للمتون التي تكشف عن عقلية نقدية فذة، وإذا كان المؤرخون القدامى معظمهم له جهود في حقول العلوم الإسلامية الأخرى، فإن الحكم عليهم ينبغي أن يكون من خلال تقويم جملة نتاجهم الفكري مع مراعاة عنصر الزمن حتى لا يغمطوا حقهم من التقويم. وأيضاً لا بد من توضيح أن الجانب النظري لنقد المتن كان متبلوراً إلى حد كبير منذ القرون الأولى في كتب مصطلح الحديث كما في أقسام المدرج والمعلل والمضطرب والشاذ والمنكر والموضوع وغيرها مما يدور الكلام فيها على نقد الأسانيد والمتون معاً، ولكن القصور كان في تطبيق ذلك عملياً عند التعامل مع الرواية التأريخية التي لم تحظ بنفس القدر من النقد الذي حظيت به الأحاديث النبوية. ولابد أيضاً من الإشارة إلى الموقف من المعجزات النبوية وإثباتها حيث أن للرسول صلى الله عليه وسلم معجزات كثيرة وإن كان القرآن معجزته الدائمة الباقية. إنَّ إثبات المعجزة الخالدة (القرآن الكريم) ونفي بقية المعجزات الثابتة بالنقل الصحيح إنما هو في الحقيقة خضوع وانصياع للفكر المادي والفلسفات الوضعية، ولا بد للمسلم من الاستعلاء والاعتزاز الذي يحقق له الاستقلال التام في النظر والبحث العلمي. ومن ثم فإن هذا البحث عُنِيَ بإثبات المعجزات جميعها عندما تثبت بالنقل الصحيح. وقد اهتم البحث بالإشارة إلى الأحكام الفقهية وتاريخ تشريعها، لأن التاريخ للسيرة ينبغي أن يعني بالجانب التشريعي الذي يحتكم إليه المجتمع ويوضح الضوابط الخلقية والقانونية التي تحكم حركة الأفراد والجماعات ولا يمكن الفصل بين الجانب السياسي والعسكري والجانب الخلقي والتشريعي

خاصة في القرون الأولى من تاريخ الإسلام حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية بالعقيدة والشريعة تشابكاً وثيقاً بحيث يصعب فهم حركة التاريخ في تلك المرحلة دون فهم روح الإسلام ومبادئه. وقد لاحظ البحث إعطاء مساحة مناسبة لحركة الفرد إلى جانب الحركة الجماعية فمن خلال بعض الشخصيات تظهر ملامح وأبعاد الحركة التاريخية لقوة فاعليتهم وأثرهم في دفع عجلة التاريخ، فليس من الصحيح إهمال أخبار الأبطال التاريخيين بحجة أنهم مجرد دمى في حركة المجتمع الواسعة. ولكن هؤلاء الأفراد لم يبرزوا لمجرد تفوقهم وامتيازهم على أقرانهم ووجود الاستعداد عندهم، إذ ما كانت هذه السمات المميزة لتظهر لولا العقيدة التي مست شغاف قلوبهم وأوقدت وهجاً منيراً في عقولهم وبصيرة عميقة في نفوسهم، فكان أن حدث التغيير الكبير في بناء الشخصية العربية ومقوماتها، وهذا الفهم سيعطي الفضل الأكبر للعقيدة ويمنع الانزلاق نحو تمجيد "الفردية" والإغراق في غرس نزعة الاستعلاء والغرور. ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بطل الأبطال كان ينحني لله تعالى ويخشع بالدعاء ويرد إليه الفضل أولاً وآخراً في كل نصر وفتح. ولا يجد القارئ أي اهتمام بالرد على الشبهات التي أثارتها بعض الدراسات الحديثة في موضوعات السيرة وخاصة دراسات المستشرقين سواء كانت نتيجة تعسف في تفسير النصوص والأحداث بسبب الأهواء الدينية والعنصرية أو بسبب سوء فهم للغة العربية أو للإسلام وأحكامه ونظمه ومقاصده، وذلك لأن هذا المؤلَّف قصد إِلى رسم معالم السيرة بصورة صحيحة، وهو جانب إيجابي يستحق أن يُفْرَد فيه مصنف، ولا يعني ذلك التقليل من أهمية تصحيح الأخطاء سواء كانت عفوية أم مقصودة، وقد نهضت بهذا العبء دراسات أخرى في الموضوع، وإن كنت أعتقد أن الاهتمام بالتاريخ الإسلامي ينبغي أن ينصب أولاً على إعادة البناء قبل تناول الشبهات.

إن هذه الدراسة التي أقدم لها لا تمثل طموحي، ولكنها محاولة للإفادة من منهج المحدثين في نقد الرواية التاريخية، ويظهر بها التركيز على نقد الأسانيد والرواة إلى جانب نقد المتن، وخاصة في عملية الانتقاء من مجموع الروايات الضخمة التي دونها القدامى في السيرة. إذ أن الاعتماد على الروايات التي صححها النقاد القدامى أحياناً، أو الإفادة من منهجهم في تصحيح أو تضعيف ما لم يحكموا عليه من الروايات، هو أهم ما تهدف إليه هذه الدراسة، لينال البحث ثقة القارئ، وليعطي أصدق صورة عن السيرة. وقد تبرز معان خلقية ودينية مؤثرة في الروايات التي أهملتها، لكنني لم أكترث لذلك ما دامت ضعيفة الثبوت، وقد ظهر جلياً أن الاعتماد على صحيح الروايات وحسنها يكفل توضيح الأبعاد التاريخية للسيرة النبوية دون حاجة إلى الضعيف من الروايات. ويلاحظ القارئ أن الروايات الضعيفة من الناحية الحديثية لم تستبعد نهائياً بل تمت الإفادة منها في الموضوعات التي لا تتعلق بالعقيدة أو الشريعة، حيثما لم نجد روايات صحيحة وفق معايير المحدثين، حيث يمكن التعامل معها وفق معايير منهج النقد التاريخي. ويلاحظ الاهتمام في الدراسة بنقل الخبر عن شاهد عيان مشارك بالحادثة، وهو منهج معتبر في الدراسات التاريخية المعاصرة، كما أنه معتبر في الدراسات الحديثية في القرون الهجرية الأولى، ونلحظ أن الإمام البخاري في صحيحه كثيراً ما يختار الرواية من طريق الصحابي المشارك بالحادثة، كما فعل في نقل قصة الإفك عن عائشة رضي الله عنها، وسبب نزول سورة المنافقين عن زيد ابن الأرقم، وسبب نزول سورة الجمعة عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وقصة نزول سورة التحريم عن عائشة، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة (¬1). فشاهد ¬

_ (¬1) عصام عبد المحسن الحميدان: أسباب النزول وأثرها في التفسير 37 - 39 (رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة مقدمة لقسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة محمد بن سعود الإسلامية).

العيان أدق رواية إذ تشترك الحواس العديدة من العين والسمع واللمس في ضبط الخبر ... وهذا أقوى من النقل بواسطة السمع فقط كما يحدث عندما يغيب عن الرواية شاهد العيان. إن هذه الدراسة لم تبن على انتقاء للروايات يرتبط بخدمة فكرة معينة ويهدف لتحقيق كسب (ايديولوجي) بل إنه انتقاء للقوى من الروايات سواء عومل بمعايير المحدثين أو بمعايير النقد التاريخي. وبالتالي فإن الصورة التي ستعطيها الروايات هي أقرب الصور إلى الحقيقة التاريخية، خاصة أن فهمها والاستنباط منها تم وفق أساليب العربية وقواعدها دون أي تعسف أو تمحل في التفسير. وينبغي الانتباه إلى أن الانتقاء عندما يتم وفق قواعد صارمة، فإنه يدع مجالاً لتفلت العديد من النصوص التاريخية التي يمكن التعامل معها وفق معايير أقل صرامة، ومن ثم فإن قراءة نصوص الواقدي وفق منهج النقد التاريخي تتيح الفرصة لإضافات أخرى لمادة السيرة، وهذا ينطبق على الروايات التي أوردها ابن إسحق دون إسناد، كما ينطبق على روايات ابن سعد التي نقلها عن ابن الكلبي ... إن هؤلاء الرجال المتخصصين في فن السيرة قد عوملوا من قبل النقاد القدامى بتساهل كبير بغية الإفادة من رصيدهم التاريخي الهائل. إن الأمور المتفق عليها بين هؤلاء الإخباريين يمكن أن تحتل مكانها في الدراسات التاريخية ما لم تتعلق بالعقيدة أو الشريعة .. أما بخصوص الآيات التي استشهدت بها في هذه الدراسة فقد راجعت الروايات المتعلقة بأسباب النزول وأثبت ما تبين أنه نزل في الحادثة التاريخية أو تعقيباً عليها.

وقد نبه الحافظ ابن حجر إلى أنه "يوجد كثير من أسباب النزول في كتب المغازي، فما كان منها من رواية معتمر بن سليمان عن أبيه - يعني سليمان بن طرخان التيمي صاحب السيرة- أو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبه، فهو أصلح مما فيها من كتاب محمد بن إسحاق، وما كان من رواية ابن إسحق أمثل مما فيها من رواية الواقدي" (¬1). ومعنى أسباب النزول ذكر الأحداث والأسئلة التي نزل بشأنها وقت وقوعها (¬2) أو بعده بيسير (¬3). ولكن دراسة روايات أسباب النزول لإفادة منها تاريخياً تقف أمامها عوائق عديدة أهمها الاختلاف القديم حول سبب نزول العديد من الآيات. وخاصة عندما تتعارض الروايات الصحيحة في هذا المجال كما يحدث في كتاب التفسير من صحيح البخاري. وعندما يصار إلى محاولة الجمع بالقول بتعدد المرات التي نزلت فيها الآية الواحدة (¬4) فالقصص قد تتعدد، والأحداث المتماثلة تتوالى في وقت متقارب، مما يحتاج إلى جواب أو فتيا، فتنزل الآية لتجيب أصحاب الوقائع عن حكم ما حدث لهم. لذلك قال ابن حجر: "لا مانع أن تتعدد القصص ويتعدد النزول" (¬5). ¬

_ (¬1) ابن حجر: العجاب في بيان أسباب النزول ق والوسيطي: الدر المنثور 8/ 702. (¬2) مثل سبب نزول (ويسألونك عن الروح) الإسراء 85 فيما أخرجه البخاري 8/ 401 حديث رقم 4721 ومسلم حديث رقم 2794. (¬3) مثل حادثة الإفك فإنها سبب نزول الآيات (صحيح البخاري حديث رقم 4750 وصحيح مسلم حديث رقم 1797). (¬4) ابن حجر: فتح الباري 8/ 233، 282، 450. (¬5) فتح الباري 8/ 450 وانظر: عصام عبد المحسن الحميدان: أسباب النزول وأثرها في التفسير 45 حيث أورد جميع ما ظهر فيه تعارف بين روايات البخاري في أسباب النزول.

وتجدر الإشارة إلى أن صحيح البخاري من أوسع كتب السنة التي استقصت روايات أسباب النزول إضافة إلى أنها في أعلى درجات الصحة (¬1). وأن أوسع الصحابة رواية لأسباب النزول هو ابن عباس (¬2). ويلي صحيح البخاري في كثرة العناية بأسباب النزول مستدرك الحاكم (¬3) ومعظم ما أورده الحاكم من حديث ابن عباس (29 رواية) ويليه حديث عائشة (7 روايات). أما أوسع كتب السنة رواية لأسباب النزول فهو مسند أحمد (28 رواية) معظمها صحيح وقليل منها ضعيف، حيث أورد معظم ما أورده البخاري وزاد عليه (¬4). وتبقى كتب التفسير التي تكفلت ببيان أسباب النزول سواء كانت الرواية مرفوعة أو موقوفة على الصحابة شاهدي العيان أم كانت موقوفة على التابعين فمن بعدهم، وخاصة تفسير الطبري الذي احتوى على خمسمائة سبب نزول غير مكررة (¬5) وقد يخرج للآية الواحدة خمسة أسباب لكنه لا يلتزم صحة الروايات، وأكثرها موقوف أو مقطوع (¬6). والآيات التي وردت روايات صحيحة مسندة إلى الصحابة في أسباب نزولها لا تكاد تبلغ الثلاثمائة من عدد آي القرآن (6200 آية) (¬7). وقد اختصت بعض الكتب بحصر الروايات في أسباب النزول وهي: "أسباب النزول" للواحدي، و"لباب النقول" للسيوطي، و"العجاب في الأسباب" لابن حجر العسقلاني، وهذه الكتب هي العمدة في هذا الفن، وقد بلغت زيادات السيوطي على الواحدي 370 رواية (¬8). * * * ¬

_ (¬1) - (¬8) عصام عبد المحسن: أسباب النزول 72, 74، 79، 82، 97، 98 - 99، 162، 192 حاشية 2.

لقد قمت بتدريس السيرة النبوية عشرين سنة في كلية الآداب بجامعة بغداد أولا ثم في الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد دونت محاضراتي لطلبة الجامعتين، ونقحتها مراراً، ونشرت بعض الموضوعات منها (¬1). على أمل أن أعيد النظر فيها لإعدادها للنشر كاملة، ثم واتتني الفرصة لإعادة كتابة قسم السيرة منها بعد أن أشرفت على رسائل العديد من طلبة الدراسات العليا لمرحلتي الماجستير والدكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد وجهت تلك الرسائل إلى نقد مرويات السيرة النبوية وتحكيم مناهج النقد عند المحدثين فيها. فكانت محاولة ضخمة طبقت فيها تلك القواعد على سائر الروايات التي أوردتها كتب الحديث والتاريخ والتراجم والأدب عن السيرة، وتقع هذه الرسائل في أكثر من ستة آلاف صفحة (فلوسكاب) وقد استغرق تنفيذ هذا المشروع أكثر من عشر سنوات (1976 - 1988)، ويعتبر أعظم إنجاز في توثيق مرويات السيرة النبوية رغم ما يكتنف التجارب الأولى من قصور في العادة (¬2)، وأملي كبير في أن يتمكن الباحثون من تطوير هذا الإنجاز والإفادة منه ¬

_ (¬1) منها (أول دستور أعلنه الإسلام) - دراسة في كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود في المدينة) نشر في مجلة كلية الإمام الأعظم سنة 1972 م. و (أهل الصفة) نشر في مجلة الدراسات الإسلامية 1968 م. و (موسى بن عقبة، أحد رواد المغازي الأوائل) نشر في مجلة كلية الدراسات الإسلامية 1967 م. و (نظرة في مصادر السيرة النبوية) نشر في مجلة كلية الدراسات الإسلامية ببغداد 1970م (¬2) نوقش من هذه الرسائل ما يلي: 1 - مرويات غزوة بني المصطلق (رسالة ماجستير) للدكتور إبراهيم القريبي، أعدها بإشرافي، ونشرها المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 2 - مرويات غزوة حنين وفتح الطائف (أطروحة دكتوراه) أعدها بإشرافي الدكتور إبراهيم القريبي، ويقوم المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بنشرها حالياً. 3 - مرويات غزوة أحد (رسالة ماجستير) أعدها بإشرافي الدكتور حسين الباكري. 4 - مرويات فتح مكة (رسالة ماجستير) أعدها بإشرافي محسن الدوم - رحمه الله. 5 - مرويات السيرة في العهد المكي إلى نهاية حادث الإسراء والمعراج (رسالة ماجستير)، أعدها بإشرافي عادل عبد الغفور. =

ليتم إعادة تحليل السيرة وعرضها من جوانبها المختلفة بالاعتماد على الروايات الموثقة ووفق التصور الإسلامي الصحيح للأحداث والدوافع والسمات. لقد أغنت هذه الرسائل الجامعية تجربتي في كتابة السيرة، ومكنتني من الاستقراء الشامل من جديد لسائر مرويات السيرة مع الموازنة بينها والتأمل فيها خلال عشر سنوات انصرمت. وما زال العديد من الرسائل يكتب في السيرة بإشرافي. وإنني آمل أن يفيد المعنيون بكتابة السيرة النبوية من هذه الرسائل الجامعية في تقديم دراسات تحليلية نافعة، وهو الجانب الذي ما زال بحاجة إلى عناية كبيرة من قبل الكتاب المتمرسين وأصحاب الأقلام الراسخين والمفكرين الناضجين وذلك خدمة للسيرة النبوية وتعميقاً للمعاني السامية التي تحتاجها الأجيال الصاعدة ¬

_ = 6 - أمهات المؤمنين (أطروحة دكتوراه)، أعدها بإشرافي الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف. 7 - مغازي موسى بن عقبة (رسالة ماجستير)، أعدها محمد باقشيش بإشرافي. 8 - مرويات تاريخ يهود المدينة (رسالة ماجستير)، أعدها الدكتور أكرم حسين على بإشرافي. 9 - السرايا والبعوث في عصر السيرة النبوية (رسالة ماجستير) يعدها بريك محمد بإشرافي. 10 - مرويات صلح الحديبية، (رسالة ماجستير) أعدها الدكتور حافظ محمد الحكمي، بإشراف الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد. 11 - مرويات غزوة بدر، (رسالة ماجستير) أعدها الدكتور أحمد العليمي، بإشراف الدكتور السيد الحكيم. 12 - مرويات غزوة خيبر، (رسالة ماجستير)، أعدها الدكتور عوض الشهري، بإشراف الدكتور السيد الحكيم 13 - أحاديث الهجرة (رسالة ماجستير) أعدها الدكتور سليمان السعود، بإشراف الدكتور السيد الحكيم. 14 - مرويات غزوة تبوك، (رسالة ماجستير) أعدها عبد القادر السندي، بإشراف الدكتور محمد خليل هراس، بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. 15 - السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق في العهد المكي (أطروحة دكتوراه) أعدها الدكتور سليمان العودة، بإشراف الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل، بجامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية. 16 - مرويات غزوة الخندق أعدها الدكتور إبراهيم محمد عمير، بإشراف الشيخ عبد المحسن ابن حمد العباد

بدرجة لا تقل عن الضرورات من وسائل المعيشة التي تسعى تكنولوجيا العصر إلى تهيئتها للإنسان، إذ إنما يمتاز الإنسان بروحه وعقله وهما ينموان بالمعاني التي تغذيهما كما يغذي الطعام الجسد وإلا فإن إنسان الغد سيتحول إلى جسد بلا روح. إن التخلف في مستوى النتاج الفكري الإسلامي لن يؤدي إلا إلى رضاع الأجيال من لبان العقول الغربية التي تشبعت عبر قرون طويلة بجفاف المادية القاتلة والبُعد عن الله تعالى والتمرد على القيم الروحية والانقياد للفكر الوضعي الحائر. وإن ما صارت إليه المجتمعات الغربية المعاصرة من أخطار اجتماعية وخلقية هو نتاج الشجرة المسمومة التي غذتها الأفكار العلمانية فلا بد أن يسعى مفكرونا لتجنيب أجيالنا أن تمر في نفس الأطوار الاجتماعية التي مرت بها أوروبا .. وخير سلاح أن ترضع الأجيال المعاصرة من لبان الإسلام وفكره فهو خير سبيل للوقاية من أخطار المادية القاتلة. وأملي كبير في نقد هذه التجربة وتقويمها من قبل العلماء المدققين والباحثين المعنيين بدراسات السيرة والتاريخ الإسلامي للإفادة من آرائهم في هذا الشأن إذ ما زلنا في أول الطريق نحو تطبيق منهج المحدثين في نقد الروايات التاريخية في القرون الأولى، وهو أمر عسير يحتاج إلى استيعاب دقيق لمصطلح الحديث، ومرونة في التعامل وفقه مع الرواية التاريخية. لقد سبق أن نشرت المقدمة والبابين الأول والثاني من (السيرة الصحيحة) بعنوان (المجتمع المدني) ولكنني في هذه الطبعة الجامعة نقحت ما سبق نشره وضممت إليه فوائد جديدة. والله أسأل أن يتقبل عملي ويجعله من حسناتي في حياتي وصدقاتي بعد مماتي إنه خير مأمول وأعظم مسئول، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الدكتور أكرم ضياء العمري المدينة المنورة.

منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام ومصادر السيرة النبوية

منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام

منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام. من الثغرات التي انتبه لها المفكرون المسلمون في بداية الستينات من هذا القرن قضية إعادة صياغة التاريخ الإسلامي وفق التصور الإسلامي لحركة التاريخ من ناحية التفسير التاريخي، ووفق مناهج المحدثين من ناحية البحث في التاريخ الإسلامي ... ولا شك أن تقديم المقترحات والملاحظات حول إعادة صياغة التاريخ الإسلامي خلال أربعة عشر قرناً في غاية الصعوبة، لطول الفترة الزمنية من ناحية، ولتنوع المصادر واختلافها من حيث التنظيم وطرق العرض واختلاف الجوانب التي تستحق التركيز عليها في كل حقبة، وظهور انحراف عن الإسلام في الحياة السياسية منذ فترة مبكرة، ثم انحرافات أخرى في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية في الفترات المتأخرة، ثم انحراف أخطر عن العقيدة والشريعة في القرن العشرين، مما يؤثر في تفسير دوافع حركة "التاريخ الإسلامي". ولذلك سأقصر كلامي على إعادة صياغة تاريخ صدر الإسلام ويشتمل على السيرة النبوية المطهرة وعصر الراشدين حيث يقوي تأثير العقيدة في دوافع سلوك المسلمين من ناحية، كما أن المصادر تتشابه من ناحية التزامها بسوق الروايات تتقدمها الأسانيد على طريق المحدثين في الغالب، وكذلك لخطورة تاريخ صدر الإسلام حيث يمثل التطبيق الصحيح لتعاليم الإسلام الكاملة الشاملة، فهو الصورة النموذجية والمثال الذي نسعى بمجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة للوصول إليه، وسأتعرض لبعض ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي، ثم أتعرض لمنهج البحث الافتراضي وفق قواعد مصطلح الحديث مع تمهيد لذلك ببيان الحاجة إلى كتابة تاريخنا بأقلام إسلامية. إن تاريخ الأمم الأخرى كتب بأقلام أبنائها وإن أسهم فيه غيرهم، والأصل أن نحمل - نحن المسلمين - مسئولية كتابة تاريخنا بأيدينا، وأن نعرف

بحضارتنا ومبادئنا وقيمنا وفق فهمنا لها، وإن أسهم الآخرون في الكتابة معنا فإنها مشاركة محدودة وليست في الأصل في تصورنا لتاريخنا ولا في عرضنا له أمام أنظار العالم. إن ما حدث هو عكس ما ينبغي، حيث إن التخلف الحضاري للعالم الإسلامي ينعكس على تقويمه لتاريخه. إن البعض من المعنيين بالتاريخ ما بين ناكصين عن الإسلام كارهين لتاريخه معتقدين أنه سبب التأخر الحضاري في ديار الإسلام وهم يحملونه حتى مسئولية الهزائم العسكرية أمام يهود، وهؤلاء يؤمنون بضرورة إحداث فجوة بين الماضي والحاضر وعزل الأجيال الإسلامية الجديدة عن الإسلام. وتراثه الأدبي، أو كسالى احترفوا الكتابة التاريخية فهم يسودون الصحف البيضاء بما يترجمونه من كتب المستشرقين التي يجدون فيها مادة للتدريس والكتابة لا تكلفهم عناء البحث والتدقيق والتأليف، ولا يبالون بعد ذلك بالسموم التي ينفثونها في المجتمع الإسلامي. إن مما ساعد على ذلك تخلف الحركة الفكرية في العالم الإسلامي وعدم مواكبتها للحركة الفكرية العالمية، وذلك مرتبط بما حدث من تباين حضاري بين الشرق والغرب منذ عهد النهضة في أوروبا، فقلما تجد دراسة تاريخية جادة كتبت من قبل المسلمين في القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، فلا غرابة إذا ما كانت معظم الدراسات التاريخية التي قام بها المسلمون في تلك الفترة صدى وانعكاساً لآراء وأفكار المستشرقين. أما المؤمنون بالإسلام، العاملون على توثيق صلة الأجيال الجديدة به فهم يحملون عبئاً ضخماً ومسئولية كبيرة في هذا الميدان لأنهم وحدهم القادرون على التصور الصحيح للتاريخ الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ويتذوقون طعم الإيمان ويحسون بأثره على سلوكهم مما يمكنهم من فهم دوافع حركة الفرد المسلم والمجتمع المسلم وبالتالي حركة التاريخ الإسلامي.

إن التفسير الإسلامي منبثق من تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، فهو يقوم على الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وهو لا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية، وهو مبني على فهم دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي مما يجعل حركة التاريخ الإسلامي ذات طابع متميز عن حركة التاريخ العالمي لأثر الوحي الإلهي فيه. وهو ليس تفسيراً تبريرياً بل تبرز فيه خصائص الإيمان المستعلي على ما سواه. كما أنه ليس تفسيراً مادياً يحصر المؤثرات على حركة التاريخ البشري في العوامل المادية كتبديل وسائل الإنتاج - كما في الفكر الماركسي، أو التفسيرات المعتمدة على أثر البيئة الخارجية (من مناخ وجغرافية واقتصاد ...). كما في الفكر المادي الغربي، بل هو يوضح دور الإنسان ومسئوليته عن التغير الاجتماعي والتاريخي في إطار المشيئة الإلهية. وكذلك فإنه ليس عنصرياً يركز على دور شعب بعينه، بل يقوم دور الشعوب الإسلامية وفق حجمها وعطائها الحقيقي. كما أنه ليس طائفياً يوجه التاريخ لخدمة مذهب معين أو طائفة على حساب الحقائق التاريخية. وكل هذه الملامح تحتاج إلى تفصيل كثير لا مجال له في هذا الكتاب، لكنني سأفصل بعض هذه الملامح فقط، وأرجئ تفصيل بقية الملامح إلى وقت آخر إن شاء الله تعالى.

ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي.

ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي. 1 - مراعاة الحقائق التي قررها القرآن الكريم: مثلاً (الأصل في عقائد البشر التوحيد لا الشرك) الأصل في عقيدة البشر التوحيد من لدن آدم عليه السلام، ثم طرأ عليهم الشرك (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) أي كانوا أمة واحدة على التوحيد، فلما تركوه وانحرفوا عنه أرسل الله تعالى الأنبياء ليردوهم إليه. هذا ما قرره القرآن الكريم، فإذا راجعنا كتب التاريخ القديم، وجدنا المؤرخ المنتسب للإسلام يقرر ما يخالف القرآن حين يذكر أن الأصل عبادة الحيوان والكواكب والقوى الطبيعية، ثم نتيجة ارتقاء العقل البشري وصل إلى التوحيد .. وهم يعتبرون الفرعون "اخناتون" أقدم الموحدين لأنه دعا إلى عبادة الشمس وحدها دون بقية المعبودات عند المصريين. إن هذا التقرير يرجع إلى أمرين: الأول: إنكار الوحي والنبوة حيث اعتبر ظهور العقائد الدينية وتطورها من تعدد الآلهة إلى التوحيد مجهوداً بشرياً نتيجة الارتقاء العقلي والثقافي. الثاني: التأثر بنظرية داروين وتطبيق نظرية النشوء والارتقاء في مجال العقيدة الدينية. على أن من الحق أن نذكر فكرة شاملة تتطابق مع النظرة القرآنية طرحها عالم الأجناس البشرية إيفار ليسنر في كتابه (الإنسان والله والسحر) تقول: "إن أسلافنا البدائيين قد اعتقدوا بوجود إله واحد، ثم انحطوا بالتدريج بسبب النفوذ الشرير لسحرة القبائل وساحراتها وتحولوا إلى عباد لآلهة متعددة" *. إن المطلوب من المؤرخ المسلم أن يستوعب كليات التصور القرآني للتاريخ البشري ويلتزم به في الكتابة التاريخية، ولو ظهرت بعض النظريات التي تخالف بعض هذه الكليات فليتهم هذه النظريات ما دامت لم تصبح حقائق قطعية، ¬

_ * اقتبسه كولن ولسن: الإنسان وقواه الخفية: 157.

ومعظم استنتاجات التاريخ القديم ترتكز على علم الآثار والحفريات، وهي تعطي معلومات مشتتة لا تكفي لتغطية الفجوات الكبيرة في التاريخ البشري القديم، وإذا كان المؤرخ غير المسلم لا يستطيع التصور إلا من خلال الآثار المادية التي تزوده بالمعلومات ... فإن المؤرخ المسلم يستند إلى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الإلهي الوحيد الذي لم ينله التحريف والتبديل وهي نعمة عظيمة أنعمها الله تعالى على المسلمين بحفظ كتابه يتلونه كما أنزل في كل عصر، مطمئنة نفوسهم إلى أنه "كلام الله" مما له أعمق الأثر في نفوسهم وعقولهم وسلوكهم وشخصيتهم وطبيعة مجتمعهم وحضارتهم، وهو أمر لم يتحقق لأمة أخرى غير الأمة الإسلامية. 2 - تفسير دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام: إن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الذي تهيمن عليه العقيدة تتأثر كثيراً بالتطلع إلى ما عند الله ... إلى الجزاء الأخروى، وصفوة المؤمنين لا يشركون دوافع أخرى في سلوكهم، إذ لا بد من إخلاصهم النية لله تعالى في كل أعمال المسلم سواء كانت جهاداً بالنفس أو نشاطاً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياساً، فنشاط المسلم في كل مجالات الحياة يدور حول محور - إرضاء الله تعالى - ويعرف المسلم أنه إذا أشرك في نيته فإنه يحبط عمله كما في الحديث الشريف "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغي به وجهه" وإذا كان هذا التصور يتحكم في الكثير من المسلمين الواعين اليوم فكيف كان أثر ذلك في جيل الصحابة والتابعين والأتباع - وهم خير القرون - إذاً؟. إن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام وتزكية أرواحهم وتثقيف عقولهم وإخلاص عقيدتهم وتوجههم إلى الله وحده بالعبادة والمجاهدة يجعل من البدهي التسليم بأن الدافع لهم في مشاركتهم في الفتوح ونشر الإسلام والتمكين له وتنظيم المناطق المفتوحة والاجتهاد في حل المشاكل والأقضية المستجدة وفق تعاليم الإسلام، لم يكن دافعاً دنيوياً ولا رغبة في التسلط

والاستحواذ ولا طمعاً في خيرات البلاد المفتوحة ولا فراراً من شظف الحياة في الصحراء كما يقول كايتاني وغيره من المستشرقين. روى الطبري في خبر مفاوضة المغيرة بن شعبة لرستم، وما رد به على عروض رستم المادية مقابل تخلي المسلمين عن القتال حيث أجابه المغيرة بقوله: "أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله، وننفذ لأمره، وننجز موعوده، وندعوكم إلى الإسلام وحكمه، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا نفوسكم بالجزية فإن فعلتم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا، فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ... " (¬1). وروى الطبري أن ربعي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله: ما جاء بكم؟ فقال:"الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد .. إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه"، إن ما قاله كل من ربعي بن عامر والمغيرة بن شعبة للفرس لم يكن يعبر عن شعور فردي، وإنما كان يمثل الفكرة المهيمنة على قيادة المسلمين ومعظم جندها المجاهدين، ولا يمنع هذا القول من مشاركة بعض الأعراب في الجهاد ممن تحفزهم العوامل المادية إلى جانب الرغبة في الجهاد، لكن هؤلاء لا يمثلون قيادة الحركة ولا روحها الموجهة، إنما أقرر ذلك لأن المجتمع المسلم مجتمع بشري فيه الصفوة الخيرة التي تلتزم المثل العليا وتخلص النية لله وتجعل كل همها كسب رضاه، وفيه طبقات دونها تأخذ نفسها بالحد الأدنى الذي يحقق لها صفة الإسلام. وينبغي أن يتقرر بوضوح كامل أن تفسير حركة التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام لا يمكن أن يقوم به إلا المسلم الذي يردد كل يوم قول الحق تعالى لنبيه ¬

_ (¬1) الطبري: تاريخ 3/ 520، 528.

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} (¬1). والذي تفاعل قلبه وشعوره مع القرآن والسنة وأحس بأثرهما في صياغة شخصيته وتحديد دوافع سلوكه. ومن هنا جاءت التفسيرات الغربية والاستشراقية قاصرة عن فهم دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام، فمثلاً عندما يعرض المستشرق الأب (لا مانس) لحادثة سقيفة بن ساعدة - وهي سابقة رائعة لتطبيق الشورى الإسلامية، حيث اقتنعت الأكثرية برأي الأقلية - فإن صور المؤامرات في البلاد الفرنسي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تشوه رؤيته لأحداث السقيفة، فيلطع علينا بصورة مشوهة عندما يقرر تآمر أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) واتفاقهم على انتزاع الخلافة والتعاقب عليها فيما بينهم في سقيفة بني ساعدة. إن الدراسات الاستشراقية وهي كثيرة جدا ومتباينة من حيث المستوى والدقة العلمية والبعد عن التعصب الديني والقومي، لكنها على العموم تصدر عن مفكرين عاشوا في بيئة بعيدة عن الإسلام لها حضارتها وفلسفاتها ومقاييسها وأذواقها، فيصعب عليهم تذوق الإسلام وبالتالي يتعذر عليهم فهم دوافع سلوك المسلم في حركته الفردية والجماعية، وهم يقيسون على التاريخ الأوروبي في تفسيرهم لحركة التاريخ الإسلامي رغم اختلاف طبيعة التاريخين، ولا نغفل عن كون الأوروبيين عموماً ينظرون إلى العالم من خلال موقفهم المتفوق عسكرياً وتكنولوجياً، فهم ينسبون كل مأثرة لأنفسهم وكل منقصة لسواهم. وعندما أرَّخ توينبي لحضارات العالم أعطى الحضارة الإسلامية مساحة ضيقة لا تتناسب مع حجمها ودورها الحقيقي في التاريخ العالمي. إن أعظم قصور يواجه الدراسات الاستشراقية هو عجزها عن التصور السليم للإسلام وروحه وأثره في المجتمع الإسلامي وحركته التاريخية، وهو ¬

_ (¬1) الأنعام آية 162 - 163.

قصور كبير يمنع إمكان الاعتماد على هذه الدراسات خاصة في عصر السيرة حيث تتطابق النظريات الإسلامية مع الواقع التاريخي. 3 - تقويم الحضارة يرتبط بمدى ملاءمتها لعبادة الله: إن المؤرخ المسلم لا يحكم على المستوى الذي تبلغه أيه حضارة من خلال منجزاتها المادية فقط، وإنما ينظر إلى مدى تحقيقها للهدف الأساسي الذي وضعه "الخالق" عز وجل لـ "خلقه"، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. فالحضارة السامية في نظر المسلمين هي التي تهيئ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمادية الملائمة لتوجه الإنسان نحو توحيد الله وإفراده بالعبودية والتزام تعاليمه في كل ألوان النشاط الذي يمارسه، دون أن تعيقه المؤسسات والأجهزة القائمة في المجتمع أو توقعه في التناقض بين "عقيدته" و"سلوكه" ودون أن تضغط عليه لتحرفه عن التزامه أمام رب العالمين. لذلك مهما تقدمت الحضارة في العلوم والمعارف والآداب والفنون، ومهما تفننت في ريازة الدور والقصور وفي الأثاث واللباس والطعام .. وفي تيسير الحياة المادية الرخية للإنسان، أقول مهما وصلت الحضارة في التقدم المادي فإنها تبقى في نظر المؤرخ المسلم "متخلفة" و"قاصرة" ما دامت لا تهيئ الظروف الملائمة لعبادة الله والوفاء بالالتزام بشرعه. والحضارة الإسلامية نفسها مرت بمراحل تاريخية مختلفة .. ولا شك أن التضخم في منجزاتها المادية لم يكن في صدر الإسلام بل كان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لذلك فإن المؤرخ الغربي آدم ميتز يرى أن القرن الرابع الهجري يمثل أوج الحضارة الإسلامية في حين أن المؤرخ المسلم يرى أن عصر صدر الإسلام يمثل أوج الحضارة لأنه أكثر ملاءمة لعبادة الله وتوحيده، وسلوك المسلمين في صدر الإسلام أكثر التزاماً بتعاليم الشريعة من سلوك المسلمين في القرن الرابع الهجري، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديثه: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".

إن هذا المنطق والتصور يبدوان غريبين بالنسبة للمؤرخين غير المسلمين لأنهم يخضعون في مقاييسهم لقيم الحضارة الغربية، أما المؤرخ المسلم فإن الأمر يبدو بدهياً أمامه لأنه تمكن من تمزيق طوق القيم والمقاييس والتصورات المنبثقة عن الحضارة المادية الغربية ولم يتم ذلك إلا بعد الوعي الإسلامي الذي ظهرت آثاره في العالم الإسلامي المعاصر .. ومن آثاره التفلت من كماشة الحضارة الغربية والاستعلاء بالإيمان والإسلام عليها والشعور بالذات والاستقلال الروحي والفكري. وهو أمر يمثل الخطوة الصحيحة على طريق الحضارة إن شاء الله. 4 - رفض منطق "التبرير" كأساس لتفسير تاريخ صدر الإسلام. إن هذا المنطق أثر للقهر النفسي والفكري الذي أحدثه الغزوة الفكري في عقولنا، ومن ذلك الأسلوب الاعتذاري الذي يستخدمه بعض المؤرخين المسلمين المعاصرين في الكلام عن الجهاد في الإسلام وحركة الفتوح الإسلامية واعتبارها دفاعاً عن حدود شبه جزيرة العرب أمام تحركات الفرس والروم، بل إن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لم تسلم من هذا الأسلوب التبريري وجعلوها دفاعاً عن دولة المدينة المنورة (دراسة العلامة محمد شبلي النعماني عن السيرة مثلاً فهو على فضله وقع في هذا الخطأ). بل إن بعض المؤرخين المسلمين ذهب إلى نفي روايات صحيحة عندما عجز عن التبرير الذي يريده، فقد نفى أحد الكتاب (¬1) روايات ابن إسحق حول قتل مقاتلة بني قريظة، وهي ثابتة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ. وكأنه يشك في عدالة قتلهم، فالتفسير الإسلامي إذا ليس دفاعياً تبريرياً بل ينطلق من اعتقاد أن الإسلام حق وما عداه باطل، وأن ما شرعه الإسلام من الجهاد وغيره حق لا يحتاج إلى اعتذار أو تبرير، حتى لو بدا ذلك غريباً أما الذهنية المهيمنة على الناس في القرن العشرين، لأننا لا نطوع "الإسلام وتاريخه" لأذواق الناس واتجاهاتهم الفكرية في "عصر معين" فما يحبذه ¬

_ (¬1) د. وليد عرفات: في بحث قدمه في مؤتمر السنة والسيرة بقطر. وقبل ذلك في المؤتمر الدولي للتاريخ ببغداد.

الناس في عصر قد ينكرونه في عصر آخر، وما يحسبه أبناء بلدة حسناً يراه سواهم منكراً، والحكم لله ولشرعه وليس لأذواق الناس وأهوائهم والله غالب على أمره. 5 - استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية: إن استعمال المصطلحات الشرعية ضروري عند كتابة التاريخ الإسلامي من خلال التصور الإسلامي النابع من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لأن هذه المصطلحات ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث. والقرآن الكريم قسم الناس إلى "المؤمن" و"الكافر" و"المنافق" ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها. فما ينبغي أن نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية كوصف الإنسان بأنه "يميني" أو "يساري" أو غير ذلك من النعوت غير الشرعية التي ليست محددة بصورة دقيقة ثابتة، وكذلك فإن الحكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي "الخير" و"الشر" و"الحق" و"الباطل" و"العدل" و"الظلم" كما حددها الشرع ولا تستخدم معايير الفكر الغربي "كالتقدمية والرجعية". لقد انجرَّ بعض الكتاب المسلمين إلى استخدام مصطلحات وألفاظ ليست في "القاموس الإسلام" وفي ذلك يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة. إن استعمال المصطلحات الشرعية عند إعادة صياغة التاريخ الإسلامي ضروري جداً للحفاظ على استقلال التصور والمنهج الإسلامي وإبراز هويته بالإضافة إلى أن المصطلحات الشرعية أوضح وأدق من المصطلحات الغربية. والآن ما هو المقصود بالبحث في التاريخ الإسلامي وفق مناهج المحدثين؟. المقصود أن للمحدثين مناهج وطرقاً في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، والمطلوب تطبيق هذه المناهج في نقد الروايات التاريخية المتعلقة.

بتاريخ صدر الإسلام، لأن هذه الروايات التاريخية تشبه الأحاديث من حيث وجود الأسانيد التي تتقدم المتون مما يمكن الناقد من معرفة الرواة المتعاقبين الذين نقلوا الخبر أو الرواية خلفاً عن سلف. وتستمد المعلومات عن الرواة من كتب علم الرجال التي تختص ببيان أحوال الرواة، فمثلاً شرط الصحيح من الحديث هو أن يرويه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، فشرط الرواية التاريخية الصحيحة أن كل رواتها المتعاقبين إلى - شاهد العيان - متدينون تديناً صحيحاً وعندهم ملكة الحفظ التي تمنع وقوعهم في الأوهام والتخليط وتؤدي إلى ضبطهم للرواية سواء في صدورهم أو كتبهم، يضاف إلى ذلك أن تكون الرواية متفقة مع الروايات الأخرى التي يرويها رواة يتمتعون بتوثيق أكثر، أما إذا خالفتها فهي شاذة مرجوحة، وكذلك أن لا يكون في الرواية التاريخية علة خفية قادحة بصحتها كالتدليس الخفي أو الإرسال الخفي أو الاضطراب في معلومات المتن، وإذا كانت الروايات التاريخية لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية وفق الشروط المتقدمة، فإنه ينظر إلى تعدد طرقها بجمع ما يتعلق بالمسألة التاريخية الواحدة والنظر في اتفاقها أو اختلافها، فإن تعددت مخارج الرواية الواحدة، فإنها تقوى خاصة عند استحالة اجتماع الرواة الذين رووها واتفاقهم على الكذب. ولكن ينبغي ملاحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الرواية التاريخية, فهم يتساهلون في رواية الأخبار التاريخية، كما نلاحظ عند ثقات المؤرخين مثل محمد بن إسحق وخليفة بن خياط والطبري حيث يكثرون من الأخبار المرسلة والمنقطعة. كما أن الطبري يكثر النقل عن رواة في غاية الضعف مثل هشام بن الكلبي وسيف بن عمر التميمي ونصر بن مزاحم وغيرهم. ولا شك أن عدم تمحيص المؤرخين للأخبار كما فعلوا في الحديث، واكتفاءهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد الروايات ألقى عبئاً كبيراً على "المؤرخ المعاصر المسلم" لأنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم للوصول إلى

الروايات الصحيحة بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين، وهو أمر لم يعد سهلاً ميسوراً كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط أو الطبري بسبب تضلعهم في مناهج المحدثين وطريق سبرهم للروايات وتمييزها، وعلى أية حال فنحن لا نبخس قدامى المؤرخين حقهم وفضلهم فقد جمعوا لنا المادة الأولية بالأسانيد التي تمكننا من الحكم عليها ولو بعد جهد وعناء. والآن ماذا بعد سبر الروايات وتمييز صحيحها من سقيمها؟ المطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها ثم الحسنة ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام .... وعند التعارض يقدم الأقوى دائماً ... أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي، لأن القاعدة "التشدد فيما يتعلق بالعقيدة أو الشريعة" ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة ملئ بالسوابق الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام، فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على أثر الفتوح. أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران كتخطيط المدن وريازة الأبنية وشق الترع ... أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأس من التساهل فيها. وقد تعقب ابن حجر العسقلاني إنكار بعض النقاد لخبر غريب فقال: "في طرق هذه القصة القوي والضعيف، ولا سبيل إلى رد الجميع فإنه ينادى على من أطلقه بقلة الاطلاع والإقدام على رد مالا يعلمه، لكن الأولى أن ينظر إلى ما اختلفت فيه بالزيادة والنقص فيؤخذ بما اجتمعت عليه ويؤخذ من المختلف ما

قوي ويطرح ما ضعف وما اضطرب، فإن الاضطراب إذا بَعُد به الجمع بين المختلف، ولم يترجح شئ منه التحق بالضعيف المردود" (¬1). وما دمنا قد قبلنا هذا "المبدأ" فإنه يمكن الإفادة بصورة واسعة من كتب الحديث في دراسة عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة، لأن كتب الحديث خُدمت أكثر من كتب السيرة والتاريخ من قبل النقاد، فمثلاً قد تميز صحيحا البخاري ومسلم وعرف أن كل ما فيهما صحيح بعد الدراسات النقدية التي قام بها حفاظ كبار قدامى ودارسون معاصرون، وحتى الأحرف اليسيرة المنتقدة فيهما صمدت أمام النقد لأن أصولها معروفة ولم ينفرد بها البخاري ومسلم. ومادام الأمر كذلك فيمكن إذاً اعتماد ما أورده البخاري ومسلم من روايات تتعلق بالسيرة والراشدين، ثم النظر في روايات السنن الأربعة وموطأ مالك التي لقيت سبراً وتمحيصاً أيضاً رغم أنها لا ترقى إلى درجة الصحيحين ولا تخلو من الضعيف. إن كتب الحديث تحوي قدراً كبيراً من أخبار السيرة وإن كانت لا تغطي كل أحداثها، ومن هنا تبرز أهمية النقد الحديثي لروايات كتب السيرة والتاريخ ... فكبار المحدثين أمثال الحافظ ابن سيد الناس في كتابه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير) والحافظ الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام) عندما كتبا السيرة النبوية اعتمدا على الكتب السنة (البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) لكنهما لم يتمكنا من الاستغناء عن كتب السيرة والتاريخ. ولابد هنا من إيضاح حقيقة مهمة قد يؤدي إغفالها إلى شكنا في صحة تصورنا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحة معلوماتنا عن الخلفاء الراشدين المهديين. وهذه الحقيقة هي أن كتب الحديث تدعم ما أوردته كتب السيرة والتاريخ في معظم الجوانب المتعلقة بالسيرة، وخاصة سيرتي محمد بن إسحق بن يسار (ت 151 هـ) وموسى بن عقبة (ت 140 هـ) والأولى وصلت إلينا بعنوان سيرة ابن هشام الذي قام بتهذيبها .. وقد خصصتُ سيرة ابن إسحق لأن السيرة التي تقابلها هي ¬

_ (¬1) العجاب في بيان الأسباب (مخطوطة) منها صورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

مغازي الواقدي الذي رماه المحدثون بالوضع وضعفوه رغم تصريحهم بغزارة مادته في السيرة .... والحق أن الدراسة لمغازي الواقدي تكشف عن صحة ما يقوله المحدثون فكثير من الرواة الذي يسوق الواقدي الروايات بواسطتهم لا نجد لهم تراجم في كتب علم الرجال. وهناك اتجاه خاطئ عند بعض المستشرقين تابعهم فيه بعض مؤرخينا يعلي من شأن مغازي الواقدي على سيرة ابن إسحق .. والحق أن سيرة ابن إسحق أدق وأوثق وتتطابق معلوماتها مع معلومات كتب الحديث في كثير من الجوانب. إن الفرق بين كتب الحديث وكتب السيرة يتمثل في كون كتب السيرة تسوق كثيراً من الروايات بأسانيد مرسلة ومنقطعة، وتوجد هذه الروايات في كتب الحديث متصلة مسندة مما يوثق معلومات كتب السيرة، ولكن لا شك أنه ستتم الإضافات والتعديلات إذا اعتمدنا على كتب الحديث إلى جانب كتب السيرة والتاريخ، وإذا طبقنا قواعد النقد الحديثية على "الرواية التاريخية". وفيما يلي بعض النتائج التي سنحصل عليها بسبب تطبيق هذا المنهج، والتي اتضحت لي من دراساتي الخاصة بهذا الموضوع. 1 - زيادة اليقين بصحة معلوماتنا عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي تقدمها كتب السيرة المعتمدة وخاصة سيرة ابن إسحق. وهذا من رحمة الله بعباده أن حفظ لهم سيرة نبيه ليتمكنوا من الاقتداء به. 2 - إضافة معلومات تكمل جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الشاملة لأمور الدين والدنيا، وهذه الإضافات التي تقدمها كتب الحديث مهمة لأن كتب التاريخ والسيرة المختصة اقتصرت على المغازي دون تفاصيل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في عصر السيرة. 3 - توضيح بعض الجوانب التي اختلف فيها المؤرخون والمحدثون، مثلاً "غزوة بني المصطلق" يذكر البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم داهمهم على

غرة أما كتب السيرة فتذكر أنه أنذرهم وأنهم تأهبوا لقتاله وقاتلوه على ماء المريسيع. ففي مثل هذا الحال نحتاج إلى فهم موقف الإسلام من إنذار العدو وسوف نطالع ثلاثة آراء للعلماء: الأول: يقول بعدم الوجوب مطلقاً وهو رأي حكاه المازري والقاضي عياض. الثاني: يقول بالوجوب مطلقاً. وإلى هذا الرأي ذهب الإمام مالك وآخرون. الثالث: يقول بالوجوب سنة لمن لم تبلغهم الدعوة وعدم الوجوب بالسنة لمن بلغتهم. وإلى هذا الرأي ذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأتباعهم وهو الراجح (¬1). وبما أن بني المصطلق ممن بلغتهم الدعوة فإن رواية الإمام البخاري في مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق على غرة منسجمة مع هذا الرأي الراجح، ولا داعي إلى ترجيح رواية ابن إسحق وبقية كتاب السيرة عليها بحجة أنها أكمل وأن رواية البخاري تخالف النص القرآني {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ...} (¬2). 4 - التعديل في بعض الموضوعات المتعلقة بالسيرة والتي لم تهضمها الدراسات المعاصرة المعتمدة على كتب السيرة والتواريخ فقط مثلاً "نظام المؤاخاة" و"الوثيقة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم كدستور للمدينة أول الهجرة" .... ولكن ينبغي أن لا نبالغ في حجم التعديل الذي سيحدث في صورة السيرة كما تظهر عند كتاب السيرة القدامى وكما عرفها المسلمون في خلال الأربعة عشر قرناً. ¬

_ (¬1) راجع نيل الأوطار للشوكاني 7/ 262. (¬2) سورة الأنفال 58.

الماضية، فإن الدراسة والمقارنة تكشف عن التطابق بين كتب الحديث وكتب السيرة في كثير من الأسس والتفاصيل معاً، وهذا من حفظ الله تعالى لسيرة نبيه لتبقى مناراً يقتدي بها المسلمون في كل عصر ومصر. فكان أن هيأ لها جهابذة المحدثين من طبقة التابعين وتلاميذهم لكتابتها في وقت مبكر مستقين أخبارها من الصحابة الذين كانوا شهود عيان ومشاركين في الأحداث، فلم يقع انقطاع بين الأحداث والتدوين يؤدي إلى الضياع أو التحريف أو التهويل، وعندما نستعرض أصحاب كتب السيرة نجد معظمهم من المحدثين وليسوا من الأدباء أو القصاصين ولذلك أهميته، فهم معروفون بالتوثيق، ولهم مناهج نقدية واضحة. وأساليبهم جدية بعيدة عن المبالغة والحشو والخيال. 5 - بيان أن علماء المسلمين حرصوا على جمع كل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث وأخبار سيرته سواء كانت -في رأيهم- صحيحة أو مختلفة، وأحياناً ضُم النوعان من الروايات في كتاب واحد، مع البيان الصريح لحال الرواية من الصحة أو الضعف، أو البيان الضمني لذلك بذكر السند الذي يحتوي على اسم الراوي المتهم. وأحياناً أخرى يضم الكتاب الأخبار الصحيحة فقط كما هو شأن صحيحي البخاري ومسلم، في حين ضمت بعض المؤلفات الأخبار الواهية والموضوعة فقط مثل العلل المتناهية للدارقطني، واللآلئ المصنوعة للسيوطي وتنزيه الشريعة لابن عراق. إن الحرص على جمع الصحيح والموضوع ينفي أن يكون المسلمون قد حجبوا بعض أخبار سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. بل إن القرآن أشار إلى اتهامات المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وشبههم فكان أحياناً المصدر الوحيد للتعرف على وجهة نظر خصوم الإسلام (¬1). ¬

_ (¬1) النحل 103، الفرقان 4، 5، 7 - 8، 41، المؤمنون 68 - 70، الزخرف 31.

ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدثين في نطاق التاريخ الإسلامي العام.

ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدثين في نطاق التاريخ الإسلامي العام. لا شك أن اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها فيه تعسف، لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي، مما يولد فجوات في تاريخنا، وإذا قارنا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيراً ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات .. لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثق من عدالة المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين. إن اشتراط الأمانة والثقة والدين في المؤرخ ضروري لقبول شهادته على الرجال والأمم وتقويم دورهم التاريخي، إن مراحل التاريخ الإسلامي كلها بحاجة إلى إعادة تقويمها من وجهة النظر الإسلامية، وقد تبين مدى تغير الصورة التاريخية لفترة ما من تاريخنا عندما يتناولها بالبحث كتاب مسلمون منصفون كما حدث في إعادة تقويم الدولة العثمانية وفتح ملفها من جديد. ويبدو لي أن التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخ الأموي والعباسي وما بعدهما من حلقات حتى تاريخنا المعاصر سيكون كبيراً جداً .. وسيكشف عن مدى الزيف والتحريف الذي أصاب تاريخنا ... ولا يسعني إلا أن أدعوا المؤرخين المسلمين إلى تقديم دراسات مفصلة تكشف عن ملامح التفسير الإسلامي للتاريخ وعن أبعاد المنهج النقدي الذي تعامل وفقه روايات التاريخ الإسلامي، كما أحذر شبابنا من الاعتماد في فهم أحداث التاريخ الإسلامي وتصور عظماء رجاله على روايات تسوقها كتب التاريخ

والأخبار دون تمحيص، مما يعطي صوراً مشوهة لأحداث التاريخ الإسلامي لتأثر الإخباريين الذين اعتمدهم الطبري وغيره من المؤرخين بالأهواء المختلفة والاتجاهات المذهبية والسياسية المتباينة التي طبعت رواياتهم عن عصر الراشدين وما بعده من عصور الأمويين والعباسيين، وأنه لابد من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله وبرسوله وتحس بدور الإسلام وأثره في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.

مصادر السيرة النبوية

مصادر السيرة النبوية تعتمد دراسة السيرة النبوية على مصادر متنوعة، منها الأصلية ومنها التكميلية، فمن المصادر الأصلية في دراسة السيرة النبوية القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب الدلائل والشمائل وكتب السيرة المختصة والتواريخ العامة، أما المصادر التكميلية فهي لا تختص بالسيرة أو التاريخ، بل تتناول موضوعات أخرى لكنها تفيد في حقل دراسة السيرة، مثل كتب الأدب ودواوين الشعر وكتب الرجال والتراجم وكتب الجغرافية التاريخية وكتب الفقه وكتب الأنساب ومعاجم اللغة ... إلخ. ولا شك أن استيعاب هذه المصادر عند دراسة السيرة يعطي (أكمل صورة ممكنة) وهي صورة واضحة فيها كثير من التفاصيل. وسأحاول إعطاء فكرة عن هذه المصادر وقيمتها وكيفية استعمالها، وأول ما ينبغي أن يلتفت إليه الباحث أن هذه المصادر تتباين قوة وضعفاً وأصالة ووضعاً، لذلك لا ينبغي أن توضع في مصاف واحد وتعامل على السواء، فلا يمكن معارضة آية قرآنية أو حديث صحيح برواية من كتب التاريخ أو الأدب (¬1)، فلابد إذًا من تقويم هذه المصادر ووضعها في الموضع الذي تستحق. ويقف القرآن الكريم في مقدمة مصادر السيرة (¬2)، والقرآن هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنى بطريق الوحي، ويتضمن بيان العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية، وترد فيه آيات الأحكام ذات الأهمية ¬

_ (¬1) ممن وقع في هذا الخطأ أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) وانظر التنبيه عليه في (مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 293 - 294). وانتقد جواد علي كلا من المستشرقين شبرنكر وكايتاني لاعتمادهما على الشاذ والغريب والضعيف والروايات المتأخرة وتقديمهما ذلك على الروايات المعتبرة في دراستيهما للسيرة بغية اثارة التشكيك فيها (جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، السيرة النبوية ص 9 - 11). (¬2) حلل محمد عزت دروزة الآيات القرآنية المتعلقة بالسيرة في كتابه "سيرة الرسول".

الكبيرة في بيان النظم الإسلامية ونشأتها فهي تلقي ضوءاً على التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عمل بمقتضاها النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة الدولة الإسلامية الأولى. وفي القرآن الكريم ذكر لبعض الأحداث التاريخية في عصر السيرة مثل بدر، أحد، الخندق، حنين (¬1)، حيث يصور الظروف والأجواء العامة التي وقعت فيها الغزوات والأحداث الأخرى الهامة، وخاصة الأبعاد النفسية مما لا نستطيع الحصول عليه - بالدقة والصدق التي ترد في القرآن الكريم - من المصادر الأخرى. وكذلك نجد فيه تصويراً دقيقاً للصراع الفكري والمادي بين المسلمين واليهود في الحجاز (¬2) وبإشارة القرآن الكريم إلى الأمم الماضية وسَّع النظرة التاريخية عند المسلمين فشملت دراساتهم التاريخية الأنبياء السابقين والأمم الماضية، وبتطرقه إلى أحداث خارج شبه الجزيرة العربية كالصراع بين الروم والفرس جعلهم يهتمون بالتاريخ العالمي فيسجلون أخبار الروم والفرس والترك والأحباش وغيرها (¬3). ولكن ينبغي أن لا نتوقع تفاصيل عن الأحداث التاريخية في القرآن الكريم لأنه ليس كتاباً في التاريخ بل هو دستور للحياة، ثم إن هناك صعوبة في معرفة أسباب ووقت نزول كثير من الآيات، إما لعدم ورود روايات في ذلك أو لتضارب الروايات الواردة (¬4) مما يحتاج إلى تحقيق لتمييز الروايات الصحيحة أولاً ثم إزالة التعارض إن وجد بعد ذلك. ¬

_ (¬1) نجد تفصيلاً عن بدر في سورة الأنفال، وعن أحد في سورة آل عمران وعن الخندق في سورة الأحزاب، وعن حنين في سورة التوبة، كما أشارت آيات في سور أخرى إلى هذه الغزوات. (¬2) انظر عن الصراع الفكري سورة البقرة، وعن الصراع المادي سورة الحشر والأحزاب مثلاً. (¬3) الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب ص 18، 51. (¬4) صالح العلي: محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام (فصل المصادر).

وينبغي التفطن إلى أن الإفادة التامة من القرآن الكريم لا تتم إلا بالرجوع إلى كتب التفسير الموثقة، وخاصة التفسير بالمأثور مثل تفسير الطبري وتفسير ابن كثير، وينبغي أيضاً الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ، وكتب أسباب النزول وغيرها مما يتصل بالقرآن وعلومه. إن بعض المؤرخين المعاصرين يأنفون من الرجوع إلى هذه المؤلفات، ويعتمدون على ذوقهم في فهم أساليب اللغة ومعانيها مما يؤدي بهم إلى وقوع في أخطاء كبيرة، مثل تفسير المستشرقين لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} حيث ذهبوا إلى أن الأمية هنا تعني الجهل بالدين لا الكتابة، في حين أن القرآن الكريم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} ولا يعقل أن يكون النبي جاهلاً بالدين (¬1).!!!. إن النزاهة العلمية تقتضي الرجوع إلى كتب التفسير الموثقة وإعطاء النصوص القرآنية معانيها الصحيحة المرادة، وليس تأويلها تبعاً للهوى رغبة في دعم رأي أو مذهب، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: "من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليبوأ مقعده من النار" (¬2). أما عن أهمية الحديث في دراسة السيرة المطهرة، فإن الأحاديث توضح العقائد والآداب الإسلامية، وتبين أحاديث الأحكام النواحي العبادية والتشريعية من صوم وصلاة وحج وزكاة ونظم سياسية ومالية وإدارية، ولا يمكن تكامل تصور الإسلام إلا بمعرفة الحديث، ولكل هذه الجوانب التي تناولتها الأحاديث صلة بالحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وما تلاه، لأن المسلمين التزموا - بتطبيق "السنة" في حياتهم إلى حد كبير. ¬

_ (¬1) صبحي الصالح: علوم الحديث ص 15 - 16. (¬2) مقدمة تفسير ابن كثير.

وكذلك فإن بعض مصنفات الحديث تخصص قسماً للمغازي والسير مثل صحيح البخاري (¬1). ولا شك أن مادة السيرة في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة، وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحه لأنها ثمرة جهود جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً ومتناً، وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث لم تحظ به الكتب التاريخية، ولكن ينبغي التفطن إلى أن كتب الحديث - بحكم عدم تخصصها - لا تورد تفاصيل المغازي وأحداث السيرة بل تقتصر على بعض ذلك، مما ينضوي تحت شرط المؤلف أو وقعت له روايته، ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لما حدث وينبغي إكمال الصورة من كتب السيرة المختصة، وإلا فقد يؤدي ذلك إلى لبس كبير (¬2). ولكن بسبب ترتيب الأحاديث في كتب الحديث إما على الرواة من الصحابة مثل كتب المسانيد ومن أجلّها مسند الإمام أحمد بن حنبل أو على المواضيع مثل الكتب الستة، دون مراعاة عنصر الزمن في كلا الترتيبين، لذلك تبرز أمام الباحث صعوبة في تحديد الأحاديث زمنياً على أن كتب السير والتاريخ المرتبة على السنين تسد هذا النقص في كثير من الحالات. إن أقدم كتب الحديث الشاملة التي وصلت إلينا هي موطأ مالك وصحيحا البخاري ومسلم وسنن أبي داود ¬

_ (¬1) انظر كتاب المغازي في الجزء الخامس منه. (¬2) ورد في الصحيحين أن النبي (صلى الله عليه وسلم) هاجم بني المصطلق وهم غارون (أي بغتة دون إنذار) وهو يخالف منهجه صلى الله عليه وسلم المتمثل بالآية الكريمة {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وكتب السيرة توضح أنه أنذر بني المصطلق، فلو اقتصرنا على رواية الصحيحين دون أن نتبين حكم الإسلام في إنذار العدو لوقعنا في خطأ ولبس (أنظر محمد الغزالي فقه السيرة، ط 4 ص 10، 308).

والترمذي والنسائي وابن ماجة ومسند الدارمي ومسند أحمد بن حنبل (¬1). أما كتب الدلائل فهي تتناول المعجزات والدلائل التي تبين صدق النبي صلى الله عليه وسلم. ورغم أن كتب الحديث اشتملت على أبواب في علامات النبوة وآياتها ودلائلها (¬2) وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أقدم من أفردها محمد بن يوسف الفريابي (ت 212 هـ) وهو محدث ثقة ثبت في كتابه (دلائل النبوة) * ثم على ابن محمد المدائني (ت 225 هـ) في كتابة (آيات النبي) (¬3) وداود بن علي الأصبهاني (ت 270 هـ) في كتابه (أعلام النبوة) وابن قتيبة (ت 276 هـ) في مؤلفه (أعلام رسول الله) وابن أبي حاتم (ت 327 هـ) في كتابه (أعلام النبوة) وأبو بكر بن أبي الدنيا (ت 281 هـ) وأبو عبد الله بن مندة (ت 395 هـ) وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430 هـ) وقد طبع مختصر منه، وفيه روايات كثيرة ضعيفة. والقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415 هـ) في كتابه (تثبيت دلائل النبوة) وهو مطبوع. وأبو العباس جعفر بن محمد المستغفري (ت 432 هـ). وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) وكتابه مطبوع، ويضم أحاديث صحيحة وحسنة وأخرى ضعيفة وموضوعة، وقد امتدح الحافظ الذهبي هذا الكتاب (¬4). وأبو الحسن على بن محمد الماوردي (ت 450 هـ) وكتابه مطبوع. ¬

_ (¬1) يعطي كتاب (مفتاح كنوز السنة) لفنسنك فكرة عن كمية الأحاديث المهمة المتعلقة بموضوعات السيرة كما يعين كتاب (المعجم المفهرس في ألفاظ الحديث النبوي) لفنسنك وجماعة من المستشرقين على تخريج أحاديث السيرة. (¬2) صحيح البخاري 2/ 140 ط. بولاق، وصحيح مسلم وغيرهما من الكتب. (*) الألباني: فهرست مخطوطات الظاهرية 373. (¬3) ابن النديم: الفهرست 113. (¬4) سير أعلام النبلاء 6/ 116.

وأبو القاسم إسماعيل الأصفهاني (ت 535 هـ). وعمر بن علي بن الملقن (ت 804 هـ) في كتابه (خصائص أفضل المخلوقين) وأخيراً جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) في كتابه (الخصائص الكبرى) وهو مطبوع ويتناول السيرة والدلائل والشمائل. وكتب الخصائص كثيرة فاقتصرت على بعضها، وليست هذه القائمة مشتملة على سائر ما ألِّف فهناك مؤلفات أخرى في هذا الموضوع. أما كتب الشمائل فتتناول أخلاق وآداب وصفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأقدم من أفرادها: أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (ت 200 هـ) في مؤلفه "صفة النبي" ثم أبو الحسن على بن محمد المدائني (ت 224 هـ) في كتابه "صفة النبي" ثم داود بن علي الأصبهاني (ت 270 هـ) في كتابه (صفة أخلاق النبي) كما ذكر ابن النديم (¬1) والحافظ الترمذي (ت 279 هـ) في كتاب (الشمائل النبوية والخصائص المصطفوية) وهو مطبوع. ثم أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الأصبهاني (ت 369 هـ) في كتابه (أخلاق النبي وآدابه) وهو مطبوع. ثم أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 406 هـ) في كتاب (شرف المصطفى). ثم أبو العباس المستغفري (ت 432 هـ) في كتاب (شمائل النبي). ثم القاضي عياض (ت 544 هـ) بعنوان (كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى) وهو مطبوع أيضاً، وهو كتاب جامع. وخرّج أحاديثه الحافظ السيوطي (ت 911 هـ) في كتابه (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا). وهو مطبوع. وشرحه عدد من العلماء منهم علي القاري (ت 1014 هـ) في (شرح ¬

_ (¬1) الفهرست 272.

الشفا) مطبوع، والخفاجي (ت 1069 هـ) في كتابه (نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض)، ثم صنف الحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) كتابه (شمائل الرسول) وهو مطبوع. أما كتب السيرة المختصة فإنها تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ومما يعطيها قيمة علمية كبيرة أن أوائلها كتبت في وقت مبكر جداً، وعلى وجه التحديد في جيل التابعين حيث كان الصحابة موجودين فلم ينكروا على كتاب السيرة مما يدل على إقرارهم لما كتبوه، والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتعلقهم به ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة ومذكراتهم فيها وحفظهم لها، فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام. وقد اشتهر عدد من الصحابة باهتمامهم الكبير بموضوع السيرة منهم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص والبراء بن عازب (¬1). وكذلك فإن التبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للضياع. ولقد كتبت عدة دراسات حديثة عن رواد كتابة السيرة من التابعين ومن تلاهم (¬2)، ولكنها لم تهتم ببيان حالهم من الجرح والتعديل ولم تقوم مؤلفاتهم من زاوية حديثية ووفق قواعد مصطلح الحديث وهم: أبان بن عثمان بن عفان (ت101 - 105 هـ) وهو محدث ثقة عن التابعين. ¬

_ (¬1) ابن سعد 5/ 292 ومسند أحمد 2/ 179، 180، 184، 204، 207، 222. (¬2) من الدراسات الشاملة في تاريخ كتابة السيرة: هوروفتس: المغازي الأولى ومؤلفوها. مارغوليوس: دراسات عن المؤرخين العرب. عبد العزيز الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب صالح العلي: فصل ضمن كتابه (محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام). =

عروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ) وهو محدث ثقة من التابعين، وبعد أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة (¬1). عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103 هـ). وهو محدث ثقة له كتاب المغازي (¬2). عصام بن عمر بن قتادة (ت 119 هـ) وهو محدث ثقة. محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت124 هـ) وهو من كبار المحدثين في عصره (¬3). ¬

_ = جواد علي: فصل في بداية كتابه (تاريخ العرب في الإسلام، السيرة النبوية). سيدة إسماعيل كاشف، دراسة في مصادر التاريخ الإسلامي. مارسدن جونس: مقدمته لكتاب (مغازي الواقدي). حسين نصار: نشأة التدوين التاريخي عند العرب. وكتبت بحوث خاصة بواحد من رواد المغازي مثل مقال الدوري (دراسة في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم ومؤلفها ابن إسحق) ودراسة fuck عن محمد بن إسحق (بالانكليزية) ومقال خالد العسلي عن على المدائني ومقال أكرم العمري عن موسى بن عقبة، والحاجة الشديدة إلى قيام ببحوث دقيقة أخرى تتناول بقية رواد المغازي. (¬1) تصرح رواية ابن سعد بأن أبان بن عثمان بن عفان كتب المغازي (الطبقات 5/ 156) وتبيّن رواية أخرى أنه كتاب كبير وأنه يبرز فضائل الأنصار، وأنه كتبه قبل سنة اثنتين من الهجرة (الموفقيات 222 - 123) وانظر التفاصيل في دراسة الدكتور محمد مصطفى الأعظمي: (مغازي عروة بن الزبير 27 - 29) ويرى الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف (تهذيب الكمال للمزي 1/ 91 حاشية 1) أن نسبة كتاب المغازي لأبان بن عثمان مجرد وهم والصواب أنه لأبان بن عثمان البجلي مولاهم المعروف بالأحمر، حيث ينسب الصفدي إليه كتاب "المبتدأ والمبعث والمغازي والوفاة والسقيفة والردة" وهذا الذي ذهب إليه الدكتور الفاضل ترده روايتا ابن سعد والزبير بن بكار. وقد أخذ المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني المغازي كتابة عن أبان بن عثمان بن عفان، فكانت كثيراً ما تقرأ عليه، وقبل وفاته أمر أولاده بتعليمها (ابن عساكر: تاريخ دمشق 17/ ق 202 ترجمة المغيرة بن عبد الرحمن). (¬2) جمع الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي مرويات عروة من رواية أبي الأسود عن عروة فقط، ونشرت من قبل مكتب التربية العربي لدول الخليج. وقد نص على تأليف عروة في المغازي كل من ابن النديم (الفهرست 123) والذهبي: (سير أعلام النبلاء 6/ 150) وابن حجر: (فتح الباري 5/ 333) والسخاوي: (الإعلان بالتوبيخ 88) وحاجي خليفة (كشف الظنون 2/ 1747). (¬3) الخطيب: تاريخ بغداد 12/ 230.

وثقة الجهابذة من علماء الجرح والتعديل، وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل الأحداث دون أن تقطعها الأسانيد، وقد انتقد الزهري لتلفيقه الحديث أحياناً عن عدد من شيوخه دون أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر، لكن هذا الانتقاد الذي حكاه القاضي عياض عن القدامى ردّه كبار العلماء مثل النووي والعراقي، حيث أوضحا أن عمله جائز ما دام قد بين ذلك وما دام الجميع ثقات (¬1). شرحبيل بن سعد المدني (ت 123) وهو صدوق اختلط بآخره، مات وقد قارب المائة (¬2). وقد خرج ابن خزيمة وابن حبان حديثه في صحيحيهما، وقال ابن عيينة: لم يكن أحد أعلم بالمغازي والبدريين منه (¬3). يزيد بن هارون الأسدي المدني (ت 130 هـ) تابعي ثقة، ألفّ في المغازي معتمداً على عروة والزهري، يروي عنه ابن إسحق (¬4). عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم (ت 135 هـ)، وهو محدث ثقة من التابعين. موسى بن عقبة (ت 140 هـ) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري، وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال إنه أصح المغازي (¬5). وقال يحي ابن معين: "كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب" (¬6). وقال الإمام الشافعي: "ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر النووي شرح صحيح مسلم 5/ 628، والعراقي: طرح التثريب 8/ 47. (¬2) تقريب التهذيب / 265. (¬3) تهذهيب التهذيب 4/ 321 - 322. (¬4) ابن حجر: تهذيب التهذيب 9/ 225. (¬5) الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 115. (¬6) المصدر السابق 6/ 117. (¬7) الخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب الجامع 225.

وقال الذهبي: "وأما مغازي موسى بن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناها وغالبها صحيح ومرسل جيد، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتتمة" (¬1). وقد اطلع الحافظ ابن حجر على مغازي موسى بن عقبة وتملك حق روايتها بالإجازة (¬2). وكذلك سمعها على بن عثمان بن الصيرفي (ت 844 هـ) من حسن بن محمد بن القريشة (¬3). سليمان بن طرخان التيمي (ت 143 هـ) وهو محدث ثقة من التابعين، ويعتبر من علماء الجرح والتعديل، وقد اطلع الحافظ ابن حجر على سيرته (*). له كتاب (السيرة الصحيحة) مفقود إلا قسما (¬4). معمر بن راشد (ت 153 هـ) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري أيضا. "كان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف" (¬5). محمد بن إسحق (ت151 هـ) من تلاميذ الزهري، إمام في المغازي لكن مروياته لا ترقي إلى درجة الصحيح بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث لأنه مدلس، سيرته على الحسن والضعيف معاً، وقد قال ابن عدى "وقد فتشت أحاديث فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم، كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به". ¬

_ (¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 115 - 116. (¬2) المعجم المفهرس 1/ 184، 2/ 27 ب. (¬3) معجم الشيوخ لابن فهد 175. (*) فتح الباري 1/ 23، 7/ 497، 8/ 711 ويذكر أن الذي رواه هو محمد بن عبد الأعلى عن معمر بن سليمان عن أبيه وكان قد أطلع عليها من قبله ابن خير الأشبيلي وتمتلك حق روايتها (فهرست 231) ونقل منها السهيلي (الروض الأنف 1/ 271، 272، 273، 2/ 53،48). (¬4) نشره فون كريمر بالهند في آخر كتاب مغازي الواقدي وهو في 77 صفحة. (¬5) سير أعلام النبلاء 7/ 6.

وهذه الشهادة عظيمة الأهمية لا لمكانة ابن عدي ولتشدده في التوثيق فقط، بل لأنها مبنية على سبر الروايات وليس على نقل أقوال النقاد القدامى فقط والتي تدور حول اتهام ابن إسحق بالقدر وبالتشيع والتدليس (¬1) وبالتصحيف فقد انتقده يحيي بن سعيد الأموي بقوله: "ابن إسحق يصحف في الأسماء لأنه إنما أخذها من الديوان" (¬2) ومرة باحتمال كذبه في الرواية عن فاطمة زوجة هشام بن عروة بن الزبير، ولم يثبت كذبه فقد رد الاتهام عدد من الأئمة النقاد منهم الإمام أحمد بن حنبل، وقال الحافظ الذهبي: "لا ريب أن ابن إسحق كثَّر وطول بأنساب مستوفاة، اختصرها أملح، وبأشعار غير طائلة حذفها أرجح، وبآثار لم تصحح، مع أنه فاته شئ كثير من الصحيح لم يكن عنده، فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح ورواية ما فاته" (¬3). وقال الذهبي:"ابن إسحق حجة في المغازي وله مناكير وعجائب" (¬4). وقد أجاد الحافظ الذهبي في بيان مرتبة حديثه فقال عنه: "وله ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة، إلا فيما شذّ فيه فإنه يعد منكراً" (¬5). وقال الحافظ العراقي: "المشهور قبول حديث ابن إسحق إلا أنه مدلس فإذا صرّح بالتحديث كان حديثه مقبولاً" (¬6). وقال الحافظ الذهبي (¬7): "والذي يظهر لي أن ابن إسحق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما تفرّد ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به الأئمة". ¬

_ (¬1) المصدر السابق 7/ 139 (¬2) العسكري: تصحيفات المحدثين 1/ 26. (¬3) المصدر السابق 6/ 116. (¬4) العلو للعي الغفار 39. (¬5) الذهبي: سير أعلام النبلاء 7/ 141. (¬6) العراقي: طرح التثريب شرح التقريب 8/ 72. (¬7) الذهبي: ميزان الاعتدال 3/ 475.

وقال أيضاً "كان أحد أوعية العلم حبراً في معرفة المغازي والسير، وليس بذلك المتقن، فانحط حديثه عن رتبة الصحة، وهو صدوق في نفسه مرضي" (¬1). وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "ما ينفرد به وإن لم يبلغ الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث ... وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن، ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه" (¬2). ولا يعني ذلك توثيق سائر مرويات كتابه في السيرة، فقد أورد فيها روايات منكرة ومنقطعة كما قال عنه الحافظ الذهبي: "صالح الحديث ماله عندي ذنب إلا ما قد حشاه في السيرة من الأشياء المنكرة والمنقطعة" (¬3). وقد قام الحافظ ابن حجر بتخريج الأحاديث المنقطعة في سيرة ابن هشام في مصنف مستقل، وللأسف فقد هذا المصنف (¬4). إن رواة السيرة عن ابن إسحق هم يزاد بن عبد الله البكائي - ومن طريقه رواها ابن هشام - وبكر بن سليمان - ومن طريقه يروي خليفة بن خياط في التاريخ - وسلمة بن الفضل الأبرش - وفيه يقول الطبري: "ليس من لدن بغداد إلى أن يبلغ خراسان اثبت في ابن إسحق من سلمة بن الفضل" (¬5). ويونس بن بكير (ت 195 هـ) - ويرى ابن حجر أنه صدوق يخطئ (¬6)، ¬

_ (¬1) الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/ 173. (¬2) ابن حجر: فتح الباري 11/ 163. (¬3) الذهبي: ميزان الاعتدال 11/ 469. (¬4) عنوان المجد 1/ ق 51. (¬5) ابن حجر: تهذيب التهذيب 4/ 154. (¬6) ابن حجر: تقريب التهذيب 2/ 384، وسقطت منه كلمة "صدوق" لكنها مثبتة في الطبعة الباكستانية ص 340. والذهبي: سير أعلام النبلاء 9/ 245.

ويرى الذهبي بأنه حسن الحديث. وقد أخرج له مسلم في الشواهد لا في الأصول، وذكره البخاري في الشواهد (¬1). في حين أن ناقداً قديماً هو أبو داود السجستاني كان يصرح بأنه ليس بحجة وأنه كان يأخذ كلام ابن اسحق فيوصله بالأحاديث (¬2). وإبراهيم بن سعد الزهري (ت 185 هـ) - ومن طريقه يروي أحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازي- وهي الرواية التي اقتبس بواسطتها الحاكم النيسابوري في المستدرك (¬3). - وهارون بن أبي عيسى - حيث اعتمد ابن سعد على روايته - وعبد الله بن إدريس الأودي- ومن طريقه أخذ ابن سعد أيضاً. ويحيى بن سعد الأموي الذي تحصل على المغازي عن ابن اسحق سماعاً وزاد فيها (¬4). وتوجد بعض الاختلافات بين هذه الروايات للسيرة، مما يدل على أن ابن إسحق كان ينقح في سيرته مع الأيام. ويبدو أن رواية يونس بن بكير من أقدم هذه الروايات، وأن البكائي حمل نسخة كان ابن إسحق قد نقحها، ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود ذكره ابن إسحق - في رواية البكائي - في مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية (¬5). وفي رواية يونس ابن بكير عده في المهاجرين الأولين (¬6). كذلك فقد ورد في رواية البكائي أن جعفر بن أبي طالب هو الذي كلم النجاشي باسم المسلمين. أما في رواية يونس بن بكير فإن عثمان بن عفان هو الذي كلم النجاشي، وأن جعفر بن أبي طالب قام بعمل المترجم فقط، ولكن ابن إسحق عقب على هذه الرواية بنفي صحتها (¬7). ¬

_ (¬1) ابن حجر: تهذيب التهذيب 11/ 434 - 435. (¬2) الذهبي: ميزان الاعتدال 4/ 478. (¬3) الحاكم: المستدرك 3/ 128. (¬4) الخطيب: تأريخ بغداد 14/ 133. (¬5) سيرة ابن هشام 1/ 358. (¬6) ابن إسحق: السير والمغازي، تحقيق سهيل زكار، 176، 228. (¬7) المصدر السابق 218.

ومن هذه الاختلافات بين الروايات العديدة لسيرة ابن إسحق ما ذكره ابن إسحق في رواية يونس بن بكير من أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى النجاشي الأصحم كتاباً - في الوقت الذي أرسل فيه كتاباً إلى ملوك الأرض - يدعوه إلى الإسلام (¬1). في حين لم يذكر (الأصحم) في رواية البكائي (¬2). مما يدل على تنقيح ابن إسحق لسيرته، لأن النجاشي أصحمة أسلم فتكون الدعوة موجهة لنجاشي آخر بعده كما نص على ذلك الإمام مسلم (¬3). أبو معشر السندي (ت 171 هـ) وهو بصير في المغازي ضعيف في الحديث، لكن ضعفه نسبي يكتب معه حديثه، لاسيما حديثه عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس تمشياً مع رأي الطبقة المتوسطة من النقاد، لأن منهج المحدثين الأخذ بقول الطبقة المتوسطة في التجريح إذا تعارض مع قول الطبقة المتشددة (¬4). وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن حزم المدني (ت 176 هـ) محدث ثقة في كتابه "المغازي" (¬5). يحيي بن سعيد الأموي (ت 194 هـ) محدث ثقة صنف المغازي. الوليد بن مسلم الدمشقي (ت 196 هـ) محدث ثقة. ويونس بن بكير (ت 199 هـ) وهو أحد رواة سيرة ابن إسحق وله زيادات على المغازي كما ذكر الحافظ ابن حجر (¬6). ¬

_ (¬1) سيرة ابن إسحق، تحقيق محمد حميد الله 210. (¬2) سيرة ابن هشام 4/ 279. (¬3) صحيح مسلم 3/ 1397. (¬4) راجع ابن حبان: المجروحين 3/ 60، والتاريخ الكبير للبخاري 8/ 114، وتاريخ بغداد للخطيب 13/ 427، والذهبي: سير أعلام النبلاء 7/ 435 - 440، وابن حجر: تهذيب التهذيب 10/ 420 - 421. (¬5) ابن النديم: الفهرست 282. (¬6) الإصابة 1/ 242.

محمد بن عمر الواقدي (ت207 هـ). وهو ضعيف عند المحدثين (¬1) مع غزارة مادته العلمية، ويقدم أحياناً إضافات على سيرة ابن إسحق، ويبدي رأيه في الروايات ويرجح بينها (¬2). وكان يمتلك مكتبة كبيرة تضم ستمائة قمطر كتب، واحتاج نقلها من الكرخ إلى الرصافة إلى عشرين ومائة وقر (¬3). ولم يقتصر على ما في الكتب بل تتبع مواضع الأحداث التاريخية بنفسه ووصفها، ولا تصلح مروياته للاحتجاج بها فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة، ولكنها تنفع في وصف تفاصيل الأحداث مما لا يتصل بالعقيدة والشريعة، خاصة إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة، فقد قال الحافظ ابن حجر - وهو الذي حكم على الواقدي بأنه متروك: "والواقدي إذا لم يخالف الأخبار الصحيحة ولا غيره من أهل المغازي فهو مقبول عند أصحابنا" (¬4). وقد انتقى الحافظ ابن حجر من مغازي الواقدي وقال إنه في نفسه مصدر عند أهل العلم وأركان معدي المغازي مما لا يخالف غيره فيه (¬5).والملاحظ في استقراء مغازيه أنه يسوق روايات كثيرة، من طرق فيها رجال لا نجد لهم تراجم في كتب علم الرجال، وأما الروايات التي ينقلها ابن سعد عن الواقدي فيبدو أنه انتقاها، حيث نجد تراجم رجال الإسناد في كتب علم الرجال، ومعنى ذلك أن أسانيد الواقدي فيها رجال ليست لهم رواية في الحديث، لذلك لم تترجم لهم كتب الرجال، أو أنهم مختلقون وضع أسماءهم الواقدي أو بعض شيوخه. وقد قال الإمام أحمد: "الواقدي يركب الأسانيد" (¬6). ومن هنا يتضح سبب اتهام المحدثين النقاد له بالكذب والوضع ¬

_ (¬1) الخطيب: تاريخ بغداد 3/ 21. (¬2) الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب 31. ومارسدن جونسن: مقدمة مغازي الواقدي 34. (¬3) الخطيب: تاريخ بغداد 3/ 5 - 6. (¬4) ابن حجر: التلخيص الحبير 2/ 291. (¬5) ابن حجر: منتقى من مغازي الواقدي ق 83 ب. (¬6) الخطيب تاريخ بغداد 3/ 13.

وحكمهم عليه بأنه متروك، ولا شك أن جمع مرويات الراوي ودراستها والحكم عليه من خلالها كان منهج كثير من الأئمة النقاد في الحكم على الرواة المكثرين. وقد لخص الحافظ الذهبي الحكم عليه بدقة بارعة فقال: "جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فاطّرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم". ثم قال: "وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، وتورد آثاره من غير احتجاج. أما في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر، فهذه الكتب الستة ومسند أحمد وعامة من جمع في الأحكام تراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئاً. مع أن وزنه عندي أنه ضعيف يكتب حديثه ويروي لأني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه كيزيد وأبي عبيد والحربي ومعن، إذ انقعد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة وأن حديثه في عداد الواهي" (¬1). وقد مال أبو داود السجستاني إلى أن الواقدي كان يفتعل الحديث، وأضاف: "ليس ننظر للواقدي في كتاب إلا تبين أمره، وروى في فتح اليمين وخبر العنسي أحاديث عن الزهري ليست من حديث الزهري" (¬2). وقال يحيي بن معين: "نظرنا في حديث الواقدي، فوجدنا حديثه عن المدنيين عن شيوخ مجهولين أحاديث مناكير، فقلنا يحتمل أن تكون تلك الأحاديث المناكير منه، ويحتمل أن تكون منهم، ثم نظرنا إلى حديثه عن ابن أبي ذئب ومعمر فإنه يضبط حديثهم، فوجدناه قد حدث عنهما بالمناكير، فعلمنا أنه منه فتركنا حديثه" (¬3). ¬

_ (¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 9/ 454، 469. (¬2) الخطيب: تاريخ بغداد 3/ 15، 16. (¬3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 8/ 20.

وقال ابن حبان: "كان يروي عن الثقات المقلوبات، وعن الثقات المعضلات حتى ربما سبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك" (¬1). وقال ابن عدي: "ومتون أخبار الواقدي غير محفوظة، وهو بيّن الضعف والبلاء منه" (¬2). وقد دافع ابن سيد الناس عن الواقدي فقال: "إن سعة العلم مظنة لكثرة الإغراب، وكثرة الإغراب مظنة للتهمة، والواقدي غير مدفوع عن سعة العلم فكثرت غرائبه" (¬3). ومال إلى صدقه الحافظ ابن كثير فقال:"الواقدي عنده زيادات حسنة وتاريخ محرر غالباً، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار" (¬4). محمد بن عائذ الدمشقي (ت 234 هـ) محدث ثقة. سمع الحافظ الذهب معظم كتاب المغازي له (¬5). وقرأ الحافظ ابن حجر جزءا منتقى من مغازيه (¬6) على بن محمد المدائني (ت 225 هـ) ذكر ابن عدي أنه ليس بالقوي في الحديث، وترجم له العسقلاني في لسان الميزان - وهو كتاب يختص بتراجم الضعفاء - مما يدل على أنهم تكلموا فيه بالتضعيف في الحديث (¬7). ولكن ورد في ترجمته ما يدل على صدقه في الأخبار. قال عنه الطبري: "كان عالما بأيام الناس صدوقاً في ذلك" (¬8) وقال عنه الحافظ الذهبي: "العلامة الحافظ الصادق .. ¬

_ (¬1) ابن حبان: المجروحين 2/ 290. (¬2) ابن عدي: الكامل 6/ 2245. (¬3) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 26 وقد ذكر ابن المديني وابن معين أن الواقدي أغرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ألف حديث (الخطيب: تاريخ بغداد 3/ 13). (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 234. (¬5) الذهبي: سير أعلام النبلاء 11/ 6 (¬6) ابن حجر: المعجم المفهرس ق 27 ب (¬7) ابن حجر: لسان الميزان 4/ 253 (¬8) المصدر السابق: 4/ 253.

كان مصدقاً فيما ينقله عالي الإسناد" (¬1). ويمتاز المدائني بتناوله موضوعات من السيرة أفردها في مصنف، وهي مهمة في دراسة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية للسيرة، ويعتبر فقدانها خسارة جسيمة لعلم التاريخ الإسلامي. وصالح بن إسحق الجرمي النحوي (ت 225 هـ) "كان جليلاً في الحديث والأخبار، وله كتاب في السيرة عجيب" (¬2). وإسماعيل بن جميع (ت 277 هـ) في كتابه (أخبار النبي ومغازيه وسراياه) (¬3). وسعيد بن يحيي بن سعيد الأموي (ت 249 هـ) محدث ثقة صنف المغازي (*). وأحمد بن الحارث الخرَّاز (ت 258 هـ) في كتابه (مغازي النبي وسراياه وأزواجه). وعبد الملك بن محمد الرقاشي البصري (ت 276 هـ) في كتابه (المغازي) وهو صدوق يخطئ. وإبراهيم بن إسماعيل العنبري الطوسي (ت 280 هـ) في كتابه (المغازي). وإسماعيل بن إسحق القاضي (ت 282 هـ) في كتابه (المغازي). وقد ذكرت كتب التراجم أسماء عدد من التابعين وأتباعهم من وتلاهم ووصفتهم بالعلم بالسيرة والاهتمام بها، مثل عكرمة مولى ابن عباس الذي قال عنه الطحاوي "عكرمة مولى ابن عباس والزهري عليهما يدور أكثر أخبار المغازي" (¬4) وأبي إسحق عمرو بن عبد الله السبيعي (ت 127 هـ) ويعقوب بن عتبة بن المغيرة المدني (ت 128 هـ) وداود بن الحسين الأموي (ت 135 هـ)، وعبد الرحمن بن عبد العزيز الحنيفي (ت 162 هـ). ¬

_ (¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 10/ 400 - 401. (¬2) الخطيب: تاريخ بغداد 9/ 314. (¬3) الفهرست لابن النديم 112. (¬4) الطحاوي: شرح معاني الآثار 3/ 312. (*) الذهبي: سير 9/ 139.

ومحمد بن صالح بن دينار (ت 168 هـ). وعبد الله بن جعفر المخرمي المدني (ت170 هـ). وهؤلاء لم تصرح المصادر بتأليفهم كتباً في السيرة بل أشارت إلى عنايتهم واهتمامهم بالتحديث بها (¬1). لذلك لم أثبتهم ضمن أسماء المؤلفين في السيرة واكتفيت بهذه الإشارة إليهم. هؤلاء هم الرواد الأوائل في كتابة السيرة، ويتضح من توثيق نقاد الحديث لأكثرهم ما تميزوا به من العدالة والضبط، وهما شرطان عند العلماء لتوثيق الرواة، فلئن كانوا قد وثقوا عند المحدثين رغم دقة شروطهم في التوثيق، ورغم ونظرتهم لهم على أنهم محدثون مادتهم الأحاديث وليسوا إخباريين مادتهم الأخبار، والنقاد يتشددون في مادة الحديث كثيراً ويتساهلون في قبول الأخبار (¬2) فإن هذا التوثيق يعطي كتاباتهم في السيرة قيمة علمية كبيرة. لقد حفظ الله تعالى سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم من الضياع والتحريف والمبالغة والتهويل بأن هيأ لها جهابذة المحدثين ليعنوا بها ويدونوا أصولها الأولى قبل أن تتناولها أقلام المؤرخين والقصاصين، وهذه ميزة لمصادر السيرة لم تتوافر لغيرها من كتب التاريخ والأخبار. ميزة لكون المحدثين ثقات مأمونين في الرواية، وميزة لكونهم علماء لهم مناهج واضحة في نقد الروايات سنداً ومتناً، ولهم أسلوب يتسم بالجدية والبعد عن الحشو والمبالغة. ¬

_ (¬1) انظر: تراجمهم في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/ 260، وتاريخ بغداد 12/ 230، وتهذيب التهذيب 8/ 63 - 67، و 5/ 172، 6/ 388، و 11/ 293، وتاريخ التراث العربي 2/ 456. (¬2) أكرم العمري: مقدمة تاريخ خليفة بن خياط ص 24 - 25.

وحقاً فإن مصنفات هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم في السيرة معظمها مفقود لكن المصادر التالية التي وصلت إلينا اعتمدت على مصنفاتهم فنقلت عنها كثيراً بالأسانيد، وقد ظلت مادة المصنفات الأولى هي الأساس في المصنفات المتأخرة، ليس في المادة فقط بل في طريقة العرض أيضاً، ومن أبرز المصادر التي وصلت إلينا في السيرة. (سيرة ابن هشام): وهي تهذيب لسيرة ابن إسحق، حيث حذف ابن هشام منها كثيراً من الإسرائيليات والأشعار المنتحلة وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب، مما جعلها - بعد التهذيب - تنال رضا جمهور العلماء فليس من مؤلف بعده إلا كان عيالاً عليه. والحق أن الصورة التي تعطيها مغازيه عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تقترب إلى حد كبير مما أوردته كتب الحديث الصحيحة مما يعطي سيرته توثيقاً كبيراً. وقد شرح سيرة ابن هشام الحافظ السهيلي (ت 581 هـ) في كتابه "الروض الأنف" وهو مطبوع. ومنها (الطبقات الكبرى) لمحمد بن سعد (ت 230 هـ) حيث خصص المجلدين الأولين من كتابه للسيرة، وابن سعد ثقة يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي والعسقلاني، لكنه ينقل عن الضعفاء مثل الواقدي الذي أكثر من النقل عنه حتى اتهمه ابن النديم بسرقة مصنفاته، لكن التدقيق يثبت أن ابن سعد مؤلف له منهجه وأنه يكثر النقل عن الواقدي كما يكثر عن شيوخ آخرين يبرز بينهم عفان بن مسلم وعبيد الله بن موسى والفضل بن دكين والثلاثة من ثقات المحدثين (¬1). وقد ذكر الحافظ الذهبي: "ويقولون إن ما رواه عنه - أي الواقدي - كاتبه في الطبقات هو أمثل قليلاً في رواية الغير عنه" (¬2) ومنها (تاريخ خليفة بن خياط) المتوفى 240 هـ، وهو محدث ثقة من شيوخ ¬

_ (¬1) أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 56 - 57. (¬2) سير أعلام النبلاء 9/ 464.

الإمام البخاري في "الصحيح"، وكتابه تاريخ عام تناول في بدايته أحداث السيرة باقتضاب معتمداً على ابن إسحق بالدرجة الأولى (¬1). ومنها (أنساب الأشراف) لأحمد بن يحيي بن جابر البلاذري (ت 279 هـ) وهو تاريخ عام مرتب على النسب وقد خصص البلاذري القسم الأول منه للسيرة، وينظر المحدثون إلى البلاذري نظرة تضعيف، فقد أورد العسقلاني ترجمته في كتابه عن الضعفاء (لسان الميزان). ومنها (تاريخ الرسل والملوك) لمحمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) حيث خصص قسماً من تاريخه للسيرة والطبري ثقة واعتمد على ابن إسحق بالدرجة الأولى، ومنهج الطبري أنه لا يهتم بنقد الروايات التي يوردها من حيث الصحة والضعف بل يسوقها بأسانيدها تاركاً للقارئ مهمة التحقيق والترجيح (¬2). ومنها (الدرر في اختصار المغازي والسير) لابن عبد البر القرطبي (ت 463 هـ) وهو من أعلام المحدثين في عصره، وقد اعتمد على سيرة ابن إسحق وسيرة موسى بن عقبة وتاريخ ابن أبي خيثمة إضافة إلى كتب الحديث (¬3)، ولم يصرح بالنقل عن الواقدي إلا في موضع واحد (¬4)، لكنه أشار إلى روايته لمغازيه (¬5)، وقد صرح بمتابعة ابن إسحق في البناء العام لكتابه (¬6)، ولم يتقيد بذكر الإسناد كثيراً. ومنها (جوامع السيرة) لابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) وقد تخلى عن ¬

_ (¬1) أكرم العمري: مقدمة تاريخ خليفة بن خياط ص 26 - 27. (¬2) الطبري: تاريخ الرسل والملوك (ط أبي الفضل إبراهيم) 1/ 8. (¬3) شوقي ضيف: مقدمة كتاب الدرر ص 8. (¬4) ابن عبد البر: الدرر ص 39. (¬5) المصدر السابق: ص 276. (¬6) المصدر السابق ص 29 وانظر شوقي ضيف: مقدمته للدرر ص 12.

طريقة ذكر الأسانيد ولم يشر إلى مصادره (¬1)، ورجح بين الروايات وأثبت في كتابه ما اختاره وحقق في تواريخ الأحداث (¬2) وغلبت عليه طريقة التلخيص فجرد السيرة من الأشعار والقصص (¬3). ومنها (الكامل في التاريخ) لابن الأثير الجزري (ت 632 هـ)، وهو مؤرخ ثقة وكتابه تاريخ عام خصص قسماً منه للسيرة. ومنها (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) لابن سيد الناس (ت 734 هـ) وهو محدث ثقة، وثقه الذهبي وابن كثير، وقد أكثر فيه النقل عن كتب الحديث إلى جانب كتب المغازي التي سبقته، وقد ذكر مصادره في مقدمة كتابه. ومنها (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) وهو من أعلام العلماء في عصره، وكتابه نفيس في الشمائل والآداب والفقه والمغازي، فهو مزيج من ذلك كله. ومنها (السيرة النبوية) للحافظ الذهبي (ت 748 هـ)، وهو مؤلف ثقة يمتلك عقلية ناقدة جيدة وخاصة في استخدام قواعد المحدثين التي يعتبر من أهل الاستقراء التام فيها، وقد اقتصر على نقد بعض الروايات في كتابه هذا. ومنها (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) وهو تاريخ عام خصص قسماً منه للسيرة، وابن كثير من الأئمة الثقات المتحققين وثقه الذهبي والعسقلاني ابن العماد الحنبلي. ¬

_ (¬1) لكنه صرح بالنقل عن خليفة بن خياط في ثلاثة مواضع، وعن تاريخ أبي حسان الزيادي في ثلاثة مواضع أيضاً، وعن الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر في موضع واحد، ورأي محققوا كتابه أنه نقل عن الدرر كثيراً بتصرف وقطع بذلك شوقي ضيف (راجع جوامع السيرة، المقدمة ص8 والدرر، المقدمة ص 15). (¬2) جوامع السيرة، مقدمة ص10. (¬3) المصدر نفسه ص 13.

ومنها (إمتاع الأسماع) للمقريزي، وهو ثقة، وقصد الاختصار وتخلي عن ذكر الإسناد، وقال السخاوي عن (الإمتاع): "فيه الكثير مما ينتقد" (¬1). ومنها (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) لأحمد بن محمد القسطلاني (ت 923 هـ). ومنها (شرح المواهب اللدنية) لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت 1122 هـ). والمواهب وشرحه من الكتب الجامعة في الشمائل والسيرة. ومنها (السيرة الحلبية) لبرهان الدين الحلبي (ت 841 هـ) فيه حشو وقصص إسرائيلي (¬2). وقد حذف أسانيد الروايات واكتفى بذكر راوي الخبر وشرح بعض الغريب وإضافة تعليقات أخرى. ومنها (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد) لمحمد بن يوسف الدمشقي الشامي (ت 942 هـ) انتخبها من أكثر من 300 كتاب. هذا أهم ما وصل إلينا من مصادر السيرة، وهي كما ذكرت تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ولكن هذا لا يعني أن كل ما أوردته كتب السيرة له نفس القيمة من حيث الصحة، بل ولا يشترط أن يكون كله صحيحاً، بل فيه الصحيح والضعيف، وينبغي عند دراسة السيرة الاعتماد على الصحيح أولا ثم استكمال الصورة بما هو حسن أو مقارب للحسن، ولا يلجأ إلى الضعيف فيما له أثر في العقائد أو التشريع، ولا بأس من الأخذ به - عندما لا نجد غيره من الروايات القوية - فيما سوى ذلك من أخبار تتعلق بالحث على مكارم الأخلاق أو وصف لعمران أو صناعات أو زرع، أو ما شاكل ذلك. وهذا المنهج اتبعه أهل الحديث أنفسهم، قال عبد الرحمن بن مهدي (ت 197 هـ) "إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في ¬

_ (¬1) السخاوي: الإعلان بالتوبيخ (ملحق علم التاريخ عند المسلمين) لروزنتال ص 30. (¬2) جواد على تاريخ العرب قبل الإسلام، السيرة النبوية ص 10.

الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال" (¬1). إن السيرة بحاجة إلى تمحيص أسانيدها ومتونها تبعاً لقواعد المحدثين في نقد الحديث، ومما يعين على ذلك أن سائر مصادر السيرة المهمة قد أوردت الروايات تتقدمها الأسانيد، وأن معظم رواة السير من المحدثين الذين ترجمت لهم كتب الرجال وأوضحت حالهم وبينت ما قيل فيهم من جرح وتعديل. إن عدم استعمال البعض لهذا المنهج يرجع إلى ما في ذلك من صعوبة وجهد في معرفة الرجال وأحوالهم والتفتيش عنهم، وفي إتقان علوم الحديث والتمرس على تطبيقها في النقد التاريخي، لكن آخرين قد يتجاهلون هذا المنهج ويغمطونه حقه بالتقليل من جدواه والتشكيك من قيمته وتوسيع بعض المآخذ عليه. إن هؤلاء - لا شك - يجهلون حقيقته - وقد أوضح أسد رستم - وهو رجل نصراني لا يتعصب لدين - قيمة مناهج المحدثين في النقد مثبتاً لهم سابقتهم وإبداعهم، وذلك في كتابه (مصطلح التاريخ)، إنه لا بد من ابتاع هذا المنهج في نقد دراسة السيرة، بل دراسة التاريخ الإسلامي عامة، فلئن كان التدقيق في حقل السيرة أهم وأولى لتعلقها بالعقيدة والشريعة وصياغة الشخصية الإسلامية، فإن الحاجة إلى استعمال هذا المنهج في دراسة تاريخ الراشدين والأمويين والعباسيين شديدة لتأثير الأهواء على الإخباريين واختلاط الحق بالباطل اختلاطاً يصعب تمييزه إلا على المتضلعين بالرجال ومعرفة جرحهم وتعديلهم وميولهم وعقائدهم. إن كتب التاريخ مزيج من مقتطفات أوردها إخباريون ذوو اتجاهات سياسية ومذهبية متباينة، فلو أريد إعطاء صورة عن العصر الأموي مثلاً من خلال مرويات أبي مخنف فقط، فإنها تكون مغايرة كثيراً للصورة التي تكونها مرويات عوانة ابن الحكم أو أبي اليقظان النسابة وحدها. ¬

_ (¬1) فتح المغيث 1/ 284.

مصادر أخرى تكميلية: وتأتي المصادر التكميلية بعد القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب السيرة المختصة من حيث الدقة والأهمية، وهي تكمل معالم الصورة، وتملأ بعض الثغرات التي ظلت باقية بعد استيفاء المصادر الأصلية. فكتب الأدب تلقي ضوءاً على الحياة الثقافية ومستوى المعيشة وأنواع الملابس والأطعمة والعادات وغير ذلك من جوانب الحياة في عصر السيرة، والشعر خاصة يعتبر وثيقة تأريخية مهمة حيث يعكس الحياة العقلية والاجتماعية ويصور المعارك ويبرز البطولات، ويكفي هنا الإشارة إلى دور كل من حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة في تصوير بعض أحداث السيرة، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن كتب الأدب تعني بالشاذ والغريب والطريف فتدونه أكثر من عنايتها بأحداث الحياة الرتيبة، ومن هنا نتبين خطورة تعميم ما فيها. وكتب معرفة الصحابة تترجم للجيل الذي عاش أحداث السيرة، فتقدم معلومات تاريخية موثقة، وإن كانت مشتتة وقليلة، بعضها يتناول أنسابهم وبعضها يتناول أخبارهم، وبقية كتب التراجم والرجال (إضافة لكتب معرفة الصحابة) تفيد في التعريف برجال أسانيد كتب السيرة مما له أثر كبير في دراسة موارد تلك الكتب وفي التمكين من نقد أسانيدها. وكتب الجغرافية التاريخية تلقي ضوءاً على تضاريس الجزيرة العربية التي دارت فيها أحداث السيرة وتبين مستوى المعيشة وحاصلاتها الزراعية وتحدد المسافات بين الأماكن وتوضح توزيع العشائر. وهكذا، فإن المصادر التكميلية تساعد على استكمال دراسة جوانب السيرة وإجلاء تفاصيلها ودقائقها. (وبعد): فهذه نظرة عجلى في مصادر السيرة، ولا يسعني في الختام إلا الإشارة إلى حاجتنا إلى مناهج شاملة في النقد التاريخي والتفسير التاريخي، حيث

ستظل الدراسات التاريخية الإسلامية قاصرة وعاجزة عن التعبير - بصدق وعلمية - عن مسيرة أمتنا التاريخية ما لم تتكامل مناهج النقد والتفسير التاريخيين. لقد قدم الفكر الأوروبي مجموعة كبيرة من الدراسات عن طبيعة التاريخ ومناهج نقده وتفسيره، بعضها مترجم إلى العربية (¬1)، ولكن هذه الدراسات تعكس وجهة النظر الغربية وهي نابعة من فلسفة الحياة الأوروبية، وطبيعة التاريخ الأوروبي ومشاكل دراسته، كما أن تطبيقاتها مأخوذه منه، ونحن بحاجة إلى دراسات - في مستواها - تنبع من عقيدتنا وتتكيف لتاريخنا ولا تنظر إليه من خلال زاوية النظر الغربية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض العرب المسلمين كتبوا دراسات أولية (¬2)، وطرحوا تصورات مفيدة بهذا الصدد، ولا شك أن توالي الجهود وتضافرها سينتهي إلى منهج كامل للبحث ونظرية شاملة لتفسير التاريخ الإسلامي من المنطلقات الإسلامية الصحيحة. ¬

_ (¬1) مثل كولنوود: فكرة التاريخ. ادورد كار: ما هو التاريخ؟ أ. ل. راوس: التاريخ أثره وفائدته. فردريك انجلز: التفسير الاشتراكي للتاريخ. لا نجلوا وسينيبوس: النقد التاريخي. آرنت كاسيرر: في المعرفة التاريخية. جوزيف هورس: قيمة التاريخ. ايمري نف: المؤرخون وروح الشعر. (¬2) سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج. فتحي عثمان: أضواء على التاريخ الإسلامي. عبد الرحمن الحجي: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي. عماد الدين خليل: التفسير الإسلامي للتاريخ. عبد الحميد صديقي: تفسير التاريخ.

الفصل الأول الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

الفصل الأول الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

قبل البعثة

قبل البعثة

مكة قبل الإسلام

مكة (¬1): تقع مكة في بطن واد، وتشرف عليها الجبال من جميع النواحي فإلى الشرق يمتد جبل أبو قبيس وإلى الغرب يحدها جبل قعيقعان. ويمتدان بشكل هلال فيحصران عمران مكة وتعرف المنطقة المنخفضة من الوادي بالبطحاء ويقع بها البيت العتيق، وتحيط بها دور قريش، أما المنطقة المرتفعة فتعرف بالمعلاة، أما عند طرفي الهلال فتقوم دور ساذجة لقريش الظواهر وهم أعراب فقراء أصحاب قتال، لكنهم دون قريش البطاح في التحضر والغنى والجاه. وكانت صلات النسب بين قريش وكنانة - حيث أن قريشا تنتمي إلى كنانة - التي تسكن قريباً من مكة، تعطي مكة عمقاً استراتيجياً، وقد وثقت صلة النسب بالمحالفات أيضاً، وكان الأحابيش الذين يعيشون قريباً من مكة حلفاء لقريش أيضاً، وكانوا يستخدمون في حراسة القوافل المكية. وامتدت الأحلاف لتشمل القبائل التي تقع على خطوط التجارة المكية إلى الشام والعراق واليمن، وكانت قريش تدفع لهم جعالات معينة وتشرك زعماءهم في تجارتها وسمى هذا بـ (الإيلاف) الذي أوجده هاشم بن عبد مناف. بل تمكن هاشم بن عبد مناف من الحصول على حق التجارة داخل أراضي الروم والفرس بالاتفاق مع حكامهم، وعقد المعاهدات معهم، وسلوك مسلك الحياد بين القوتين، فارس والروم. واقتصاد مكة يقوم أساساً على التجارة أما الصناعة فكانت قليلة أبرزها صناعة الأسلحة من رماح وسيوف ودروع ونبال وسكاكين ثم صناعة الفخار والنجارة لصناعة الأسرة والأرائك، كما أن الموارد الاقتصادية الأخرى مثل تربية الماشية والصيد كانت معروفة، ولكن بقيت التجارة أساساً لاقتصاد مكة فكانت سياسية الإيلاف ¬

_ (¬1) لخصت هذه النبذة من الجزء الرابع من كتاب (المفصل في تاريخ العرب) للدكتور جواد علي ومن كتاب (مكة عصر ما قبل الإسلام) للسيد أحمد أبو الفضل عوض الله، مطبوعات دار الملك عبد العزيز - 1401 هـ (1981 م).

والمعاهدات سبباً في ازدهار مكة وتكاثر رؤوس الأموال فيها بسبب الانتقال من التجارة المحلية إلى التجارة الدولية، وساعد النزاع بين الفرس والروم على ازدهار طرق التجارة البحرية بدل الطريق البري بين العراق والشام فكانت البضائع تنقل من الهند إلى اليمن ثم مكة فالشام، وصارت القوافل الكبيرة تمول من قبل عدد كبير من المكيين بشكل أسهم في تزيد وتنقص حسب قدراتهم المالية، وهكذا ساعدت التجارة على تعميق أواصر المجتمع المكي إذ ربطته بالمصالح إلى جانب وشائج القربى. لكن هذه المشاركة لم تحل دون نشوء طبقة غنية متخمة وأخرى متوسطة وثالثة معدمة، فرؤوس الأموال الكبيرة بيد الأغنياء، وهي تتعاظم بالتجارة وبالإقراض الربوي للمحتاجين، وبالاستثمار في الزراعة في الطائف المجاورة. وهكذا كان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف الذهب والفضة في حين كان أكثر أهل مكة فقراء. وكانت تجارة مكة تسلك أحياناً الطرق البحرية إلى جانب الطرق البرية، لكنها لم تكن تملك أسطولاً تجارياً بل تستخدم السفن الحبشية في العبور إلى الحبشة أما السفن الرومية فكانت تصل إلى ميناء الشعيبة قبل أن تأخذ مكانها جدة في خلافة عثمان (رض). وكانت قريش تحصل من الحبشة على البخور والأطياب وريش النعام والعاج والجلود والتوابل والرقيق الأسود، وتحصل من الشام على القمح والدقيق والزيت والخمر، وتحصل من الهند على الذهب والقصدير والحجارة الكريمة والعاج وخشب الصندل والتوابل كالبهار والفلفل ونحوها والمنسوجات الحريرية والقطنية والكتانية والأرجوان والميعة والزعفران والآنية الفضية والنحاسية والحديدية. وكانت تحمل حاصلات بلاد العرب من الزيت والبلح والصوف والوبر والشعر والجلود والسمن. والاقتصاد التجاري يحتاج إلى الأمن، وقريش كانت تستعمل سياسة الحلم واللين وليس القوة للوصول إلى غاياتها التجارية وأمان طرقها الخارجية. ولم تدخل قريش في حروب قبل الإسلام سوى حروب الفجار الأربع التي هي

حروب صغيرة ومناوشات. وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم آخرها وهو الفجار الرابع وعمره عشرون سنة، ولم تحرز قريش النصر على الأعراب في تلك المناوشات. وقد ساعدها على تحقيق الأمن وجود الكعبة التي يحج إليها العرب من شتى الأصقاع حيث تحيط بها أصنامهم الستون والثلثمائة بعضها جلبها عمرو بن لحي الخزاعي - وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام - من الشام مثل هبل وبعضها صنع محلياً وبعضها ليست مصنوعة بل هي حجارة مثل أساف ونائلة. وكون مكة مركزاً لعبادة العرب يمنح قريشاً الاحترام ويحقق لها الإيلاف مع القبائل والحماية بالتالي لتجارتها. وحرمة مكة قديمة ترجع إلى إبراهيم عليه السلام وقد ظلت أرضاً مقدسة وحرماً آمنا حتى ظهور الإسلام الذي أكد على حرمتها وقدسيتها، ولم يقتصر تقديس الكعبة على المكيين بل امتد إلى العرب في شبه الجزيرة، ولم تتمكن بيوت الأوثان والأصنام من منافستها مثل بيت الأقيصر وبيت ذي الخلصة وبيت صنعاء وبيت رضاء وبيت نجران، ولم تنجح محاولة أبرهة لتحويل الحج إلى القليس التي ابتناها في صنعاء بعد أن أخفقت حملته العسكرية على مكة سنة 570 م. ورغم وجود أخبار عن سكان مكة القدامى وهم جرهم ثم خزاعة ثم قريش فإن معظم الأخبار تخص قريشاً، وكثير من أخبارها تشعر بأنها صالحة للبحث التأريخي وليست أسطورية. وخاصة بعد أن جمع قصي بن كلاب عشائر قريش واستولى بها على مقاليد الأمور بمكة - وذلك في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، وبذلك يتطابق التاريخ السياسي والأدبي لأن تاريخ الأدب الجاهلي لا يرقى إلى أكثر من 150 سنة قبل الإسلام- وكانت بيد خزاعة ووزع رباع مكة وخططها بين قريش، فبدأت تبني دورها بالحجر داخل الحرم بعد أن كانت منطقة مشجرة خالية من البناء، وكان الشجر مقدساً لا يقطع حتى قطعه قصي فتجرأ الناس على قطعه. ثم قام قصي بتنظيم مكة فقسم الوظائف والواجبات بين أولاده وهي الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة، وكان قصي قد اتخذ لنفسه دار الندوة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة،

ففيها كانت قريش تتشاور في أمور السلم والحرب وفيها تجري عقود الزواج والمعاملات فهي دار مشورة ودار حكومة يديرها (الملأ) الذين يمثلون زعماء الأسر وأصحاب الرأي في مكة ويندر أن يقل عمر أحدهم عن سن الأربعين، ويتقيد الناس بأوامر الندوة عادة وعرفاً، فليس ثمة قانون مكتوب، وليس ثمة رئيس أو حاكم أو مالك في مكة، ولا يتم انتخاب أعضاء الندوة بالاقتراع بل يحددهم العرف، ويمارس رئيس كل عشيرة صلاحياته على عشيرته. وقد فرض قصي العشر على التجار القادمين إلى مكة من غير أهلها، فصار أحد مصادر الثروة في مكة. وصار أمر قصي في قريش كالدين المتبع اعترافاً بفضله وشرفه ويمنه. وقد اتسم (الملأ) بالمحافظة الشديدة على العقائد والتقاليد والأعراف السائدة لتأكيد حقوقهم الموروثة ومكانتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية وكل ذلك يتحقق بالمحافظة على الأوضاع السائدة ووحدة أهل مكة، مما يفسر شدة مقاومتهم للإسلام عند ظهوره، فقد رأوا فيه تهديداً لوحدة قريش، وأغاظهم جداً أن يهاجر المسلمون إلى الحبشة ثم المدينة. لقد قام أبناء قصي وأحفادهم بأعمال مهمة أدت إلى ازدهار مكة وبنفس الوقت أبرزت مكانتهم وفضلهم وشرفهم ومكنت لسيادتهم. وإذا استعرضنا ما انجزوه، فإن قصياً هو الذي جمع قريشاً ومكن لها في مكة ونظم شؤونها، وأمسك أبناؤه بزمام وظائفه من بعده من السقاية والرفادة والحجابة واللواء والندوة، وتمكن هاشم بن عبد مناف بن قصي من عقد الإيلاف وتوسيع نطاق التجارة المكية بإخراجها من الحدود المحلية إلى النطاق الدولي، وقام بحفر عدة آبار لخدمة قريش والحجيج معاً، وعرف المطلب أخو هاشم بالنسك والأمر بترك الظلم والبغي والحث على مكارم الأخلاق، وعرف عبد المطلب بن هاشم بالفياض لجوده وبشيبة الحمد لكثرة حمد الناس له، وقد اشتهر بحفر ماء زمزم التي طغت على مياه آبار مكة الأخرى لغزارتها ودوامها وأنها ألطف مذاقاً من مياه

آبار مكة الأخرى، وكان أبناء قصي قبل حفرها يأتون بالمياه من آبار خارج مكة. ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش ولا زعيم مكة الوحيد، ولكن صلته بشؤون البيت العتيق وخدمة الحجيج جعلته من وجهاء مكة وهو الذي حادث أبرهة عندما غزا الأخير مكة. وقبيل ظهور الإسلام تولى أبو طالب بن عبد المطلب الرفادة والسقاية ولم يكن له مال ينفقه في هذا السبيل فاستدان من أخيه العباس بن عبد المطلب عشرة آلاف درهم فأنفقها، ولم يتمكن من رد المبلغ تنازل عن الرفادة والسقاية إلى العباس بن عبد المطلب .. وهكذا فإن عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تتبوأ مكانة اجتماعية خاصة في مكة عند ظهور الإسلام، رغم أنهم كانوا وسطاء في الثراء، وربما كانوا دون أوساط تجار مكة، وكان الثراء قبيل الإسلام في بني عبد شمس وبني نوفل وبني مخزوم، وقد نازعتهم العشائر القرشية الأخرى السيادة على مكة، وكان النزاع على السيادة بين تلك العشائر القرشية قد بدأ بين أبناء قصي وأدى إلى انقسام العشائر إلى محورين هما المطيبون (بنو عبد مناف ومن حالفهم وهم بنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تميم وبنو الحارث بن فهر) والأحلاف (بنو عبد الدار ومن حالفهم وهم سهم وجمح ومخزوم وعدي)، كما حدثت منافرات ومنازعات داخل الأسرة الواحدة أحياناً، كما حدث بين أمية بن عبد شمس وعمه هاشم بن عبد مناف، ومن بعدهما بين ابنيهما حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم. وقد ساعد الأمن والسلام الذي ساد مكة قبيل الإسلام على بقاء زعمائها خلافاً لزعماء المدينة الذين أفنتهم الحروب الداخلية، وهذا أحد أسباب شدة المقاومة للدعوة الإسلامية من قبل قريش. ومن أبرز رجالات مكة في عصر الرسالة الأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث الزهري، وكانا من أعز قريش في الجاهلية، وكانا من المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ومن زعماء مكة آنذاك أبو جهل والحارث وعمرو أبناء المغيرة بن هشام المخزومي، وقد اشتهرت عداوة أبي جهل وعمرو للإسلام، وصدهما الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيام أبي جهل بتعذيب المستضعفين من المسلمين. ومنهم حكيم بن حزام بن خويلد، والحكم بن أبي العاص بن أمية، والوليد بن المغيرة المخزومي وكان عظيم الثراء، متعالياً متغطرساً، وكان أحد المستهزئين بالإسلام أنفة وغروراً واستكباراً. ومنهم أبو أمية سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وكان عدواً على الإسلام محرضاً على المسلمين. ومنهم عمرو بن عبد ود العامري، وهو فارس مشهور. وسهيل بن عمرو الذي مثل قريشا في صلح الحديبية. ومنهم الحارث بن قيس بن عدي السهمي أحد المستهزئين بالإسلام وأهله، ومنهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. ومنهم أبو سفيان صخر بن حرب الذي اشتهر بقيادة تجارة قريش الخارجية بالإضافة إلى قيادة مكة في الحرب، وكان معانداً للإسلام ولعله أكثر الزعماء تصدياً للإسلام حتى إسلامه وقت فتح مكة. ومنهم عبد العزى بن عبد المطلب من أغنياء مكة ووجهائها الذين وقفوا بقوة أمام الدعوة الإسلامية. ومنهم أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من وجهاء مكة وعرف بمواقفه العدائية من الإسلام. ولا شك أن هذا العدد الكبير من الزعماء الأقوياء الذين وقفوا أمام الدعوة الإسلامية وناصبوها العداء وأوقعوا بأتباعها البلاء يوضح الظروف الصعبة التي واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة. أما الزعماء الذين أسلموا أو وقفوا إلى جانب الإسلام في العهد المكي فهم أبو طالب وحمزة والعباس أبناء عبد المطلب وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب.

الحياة الدينية في مكة (¬1): كانت هاجر ورضيعها أول ساكنين بمكة، ثم جاءت جرهم فاستقرت إلى جوار زمزم، ثم ابتنى إبراهيم الكعبة وهي أول بيت لعبادة الله، فإبراهيم كان رسولاً يدعو إلى عقيدة التوحيد، فلا بد أن جرهم اتبعت الإبراهيمية لتتم المحافظة على التوحيد في الأجيال الأولى بمكة التي أعقبت بناء الكعبة، ويبدو أن عقيدة التوحيد في نفوس الناس أصابها انحراف نحو عبادة الأصنام والأوثان، وتشير كتب الأخبار والتاريخ إلى أثر عمرو بن لحي الخزاعي في جلب هذه الأصنام من الشام إلى مكة وقيامه بالدعوة إلى عبادتها، ويبدو أن تعاليم الإبراهيمية في زمن عمرو بن لحي كانت ضعيفة التأثير في نفوس الناس وربما كانت تفاصيل الديانة قد ضاعت، ومن هنا ظهر استعداد الناس لقبول الشرك وما يتصل به من عقائد باطلة. وإذا كانت هذه الصورة مأخوذة من أقوال الإخباريين التي كثيراً ما تتضارب وتتعارض فإن من الثابت أن عمرو بن لحُيّ الخزاعي قد ابتدع عادات ومعتقدات في مكة مخالفة للدين الحق وأن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن أنه رآه في المنام يجر قصبة في النار، وأنه أول من سيب السوائب (¬2)، وهو تحريم ظهر الأنعام فلا يحمل عليها شئ نذراً للأصنام فتسيب فلا تحبس عن مرعى ولا ماء ولا يركبها أحد، وهذا تحريم لم يأذن به الله حتى لو لم يقترن بالنذر للأصنام، وأما مع الاقتران فهو الشرك. ¬

_ (¬1) لخصت هذه النبذة من (مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية) لمحمد بن عبد الوهاب مع شرح محمود شكري الآلوسي، ومن الجزء السادس من كتاب (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) للدكتور جواد علي، ومن كتاب (الميثولوجيا عند العرب) لمحمود سليم الحوت. والمصدران الأخيران يناقضان العقيدة الإسلامية بسبب تأثرهما بالدراسات الاستشراقية في قضايا الوحي والنبوة. (¬2) أخرجه البخاري كما في فتح الباري 6/ 547 و 8/ 283.

وهذا التأكيد من الإخباريين على أثر عمرو بن لحي لابد أنه يستند إلى أصل تاريخي يثبت أن له أثراً في تحريف الإبراهيمية ونشر الشرك بين أهل مكة وخارجها. إن أصدق مصر بين عقائد الجاهلية هو القرآن الكريم من خلال جدله الديني مع المشركين وتفنيد عقائدهم، وقد بين الله تعالى في القرآن أن العرب المشركين كانوا يعبدون آلهة مزعومة لتقربهم إلى الله زلفى ولتشفع لهم عنده " {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} " (¬1) فهم يعرفون الله لكنهم يستشفعون إليه بالآلهة المزعومة " {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} " (¬2)، فيعبدون الأصنام والأوثان معتقدين أنها منازل الأرواح كما بين الإخباريون، وقد اتصلت فيهم هذه الوثنية مع شعائرها وعاداتها واعتقاداتها عقوداً متتابعة بسبب التقليد فكل جيل جديد يرث عن أسلافه هذه الوثنية، فترسخت على مر الأيام لما كانوا عليه من تعظيم الأسلاف " {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} " (¬3) وقد أعماهم التقليد عن نقد تراثهم العقدي وتحكيم العقل والأخذ بالدليل الصحيح. واستتبع الانحراف في العقيدة انحراف في العبادة والسلوك والشعائر والشرائع، فإذا بمناسك الحج تدخلها الوثنية، حيث وضعت الأصنام حول الكعبة، وجرى الطواف حولها مع التعري من الثياب أحياناً، وأصبحت قريش أخيراً لا تخرج إلى عرفات بل تقف بمزدلفة خلافاً للناس "وكانوا لا يسلأون ولا يأقطون ولا يرتبطون عنزاً ولا بقرة ولا يغزلون صوفاً ولا وبراً ولا يدخلون بيتاً من الشعر والمدر، وإنما يكتنون بالقباب الحمر في الأشهر الحرم، ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يتركوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم، إما شراء ¬

_ (¬1) يونس:18. (¬2) الأنعام:19. (¬3) الزخف:22.

وإما عارية وإما هبة، فإن وجدوا ذلك فيها وإلا طافوا بالبيت عراياً, وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك، غير أن المرأة كانت تطوف في درج مفرج القوائم والمآخير"، وهكذا ابتدعوا وشرعوا ما لم يأذن به الله مع ادعائهم أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم عليه السلام!!. وكان تصورهم لله فيه قصور ونقص، فهم ينحرفون عن الحق في أسمائه وصفاته " {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} " (¬1) فينكرون بعض صفاته ويسمونه بأسماء لا توقيف فيها أو بما يوهم معنى فاسداً، وينسبون بعض صفاته ويسمونه بأسماء لا توقيف فيها أو بما يوهم معنى فاسداً، وينسبون إليه النقائص كالولد والحاجة، فزعموا أن الملائكة بنات الله، وجعلوا الجن شركاء له سبحانه " {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} " (¬2) " {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} " (¬3)، وجحدوا القدر واحتجوا به على الله تعالى " {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} " (¬4). ومن معتقداتهم إنكار البعث " {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} " (¬5)، فعبادتهم لإله وتقربهم للأصنام بالقرابين والنذور ليس من أجل الآخرة بل لتحقيق مطالب دنيوية مثل زيادة الأموال ودفع الشر والضرر عنهم في هذه الدنيا إذ لا علم لهم بالآخرة. ويستثنى من عموم المنكرين للبعث عدد ممن كانوا يقولون بالبعث من الشعراء الجاهليين وغيرهم، ولم تنقل الأخبار تصور هؤلاء لما يقع بعد البعث، وكانوا ينسبون النوازل - ومنها الموت - إلى الدهر ({وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}) (¬6). ¬

_ (¬1) الأعراف:180. (¬2) الأنعام:100. (¬3) النحل: 57. (¬4) الأنعام: 148. (¬5) النحل: 38. (¬6) الجاثية: 23.

وأما العبادة فقد نقصوا منها وزادوا فيها تبعا لأهوائهم، فكانوا ينقصون من الحج الوقوف بعرفة قالت عائشة (رض): "كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها. ثم يفيض منها، فذلك قوله سبحانه تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) (¬1)، ومن ذلك أنهم كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض. ومما زادوه في العبادة المكاء والتصدية في المسجد الحرام، وهما الصفير والتصفيق قال الله تعالى ({وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}) (¬2) وكذلك ذبحهم على النصب تعظيماً للأصنام، كما كانوا يحلفون باللات والعزى، ومن ذلك استسقاؤهم بالأنواء وأما أخلاقهم وأعرافهم وعاداتهم، فمنها كثير هدمه الإسلام، كالفخر بالأحساب والطعن بالأنساب، قال النبي صلى الله عليه وسلم "أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنائحة" (¬3) ومن خصال الجاهلية تعييرهم لبعض بفعل الأمهات والآباء، وافتخارهم بولاية المسجد الحرام قال تعالى ({مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}) (¬4)، وتعظيمهم الدنيا والأموال وأصحابها كما تدل الآية ({لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}) (¬5)، وازدراؤهم الفقراء والضعفاء، وقد شاعت فيهم العيافة والطرق والطيرة والكهانة. وكانوا يتعوذون بالجن خوفاً منهم ({وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}) (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (صحيح مسلم 2/ 893 - 894 حديث رقم 1219)، والآية سورة البقرة 199. (¬2) الأنفال 35. (¬3) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 156) ومسلم واللفظ لمسلم (صحيح مسلم 2/ 644 حديث رقم 934). (¬4) المؤمنون 66. (¬5) الزخرف 31. (¬6) الجن 6.

وقد حاول البعض استغلال التشابه في مناسب الحج بين الجاهلية والإسلام، وبعض الشعائر التعبدية الأخرى، لإثارة شبهات هي أن تعاليم الإسلام امتداد للعصر الجاهلية مع تغييرات يسيرة في الطقوس، فعقيدة التوحيد نادى بها بعض شعراء العصر الجاهلي، والحج على الكعبة كان موجوداً من قبل، وكذلك تقديس الأشهر الحرم، وظهور أفكار تتناول القضاء والقدر مع غلبة الجبر، فضلاً عن التشابه في الدعوة إلى المروءة والصدق والكرم والشجاعة. إن الفهم الصحيح لهذا التماثل لا يتحقق إلا بالاعتراف بالوحي والنبوة، وإن الديانة الإبراهيمية تركت تعاليم وعبادات وقيماً دينية في مكة وما حولها، كما أن أنبياء آخرين بلغوا أدياناً صحيحة إلى الساميين في شبه جزيرة العرب خلال تاريخهم الطويل. إن الفهم الشامل للإسلام يؤكد أن هذا الدين جاء نقيضاً للواقع الفكري والاجتماعي في الحقبة التي ظهر فيها وليس امتداداً لجهود سابقة، وما هدمه من الواقع الجاهلي أعظم بكثير مما استبقاه. وإن مراد القائلين (¬1) بأن الإسلام امتداد وتطور وانعكاس لبيئة فكرية واجتماعية بمكة التأكيد على بشرية القرآن وإنكار النبوة والوحي. ولا شك أن المقاومة العنيفة التي واجهها الإسلام بمكة وأنحاء الجزيرة العربية عامة تجعل من الصعب قبول الأفكار التي تزعم بأن الإسلام جاء تحقيقاً ¬

_ (¬1) حسين مروة (ت 1987م): النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية 1/ 380 حيث يقرر: "إن الإسلام كان استجابة موضوعية لما يقتضيه مجتمع الجاهلية آنذاك من تغير تأريخي بسبب ما كان يعانيه من تناقضات مادية حادة". وماكسيم رودنسون: حياة النبي والمشكلة الاجتماعية لأصول الإسلام، نشر في مجلة ديوجين - باريس 1957 م (انظر بترجمة وتعليق د. زينب رضوان، مجلة الفكر العربي، العدد 32، السنة الخامسة، حزيران 1983 م ص 17، 18، 19 حيث يقول وهو يتحدث عن الإسلام: "والتجربة التاريخية على أن أي انقلاب أيديولوجي أراده فرد أو جماعة لا يمكنه النجاح إلا إذا كان يمثل إجابة لاحتياجات المجتمع في جملته".

صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم

لطموح العرب وتطلعهم للوحدة والعدالة الاجتماعية، إن الوعي بقضايا الوحدة والعدالة الاجتماعية ما زال حتى يومنا ضئيلاً في عالم البشر في أكثر أرجاء المعمورة، وما زال الاستئثار بالسلطة والظلم الاجتماعي وانتقاص كرامة وحقوق الإنسان تمثل مشكلة مستعصية، فضلاً عن العرب الذين طغت عليهم البداوة والتشتت قبيل الإسلام ... فالحقوق التي نالها الإنسان مثل حق الحياة والتملك والشورى وحرية العقيدة وتكافؤ الفرص في الحقوق العامة والمساواة أمام الشرع والقضاء وحقوق المرأة لم تكن ثمرة نضال اجتماعي كما حدث في تاريخ الحضارة الغربية، بل اكتسب الإنسان هذه الحقوق بواسطة الشرع من سلطة عليا مطلقة، ولئن ضعفت المجتمعات الإسلامية بعد عصر الراشدين عن مواصلة السير على نهجهم بنفس المستوى بل ظهر النقص والعدوان على حقوق الإنسان فإن المسئولية تقع على الناس الذين لم يحافظوا على مستوى من الوعي يمكنهم من الحصول على حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولا تقع على الإسلام نفسه. صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان رسول الله من أحسن الناس وجهاً، أبيض اللون بياضاً مزهراً، مستدير الوجه، مليحه، واسع الفم، طويل شق العينين، رجل الشعر - بين الجعودة والسَّبط - يصل إلى شحمة أذنيه، وأحياناً بين أذنيه وعاتقه، وقد يمتد حتى منكبيه أحياناً أخرى، ولم يشب شعره الأسود إلا اليسير منه، حيث قدر شيبه في أواخر عمره بعشرين شعرة موزعة في الرأس وتحت الفم والصدغين، ويميل اللون إلى الحمرة في بعض شعره من أثر الطِّيب. وكان متوسط القامة، متوسط الوزن، ليس بالنحيف ولا الجسيم، عريض الصدر ضخم اليدين والقدمين، مبسوط الكفين، كفاه لينتان، قليل

لحم العقبين، يحمل في أعلى كتفه اليسرى خاتم النبوة وهو شعر مجتمع كالزر (¬1). وهذه الصفات الجسيمة تدل على جمال المظهر، واكتمال الجسم وقدرته على النهوض بالواجبات العظيمة التي انيطت به، فلم ير اعداؤه في مظهره ما يعيبونه عليه أو يلقبونه به على سبيل الانتقاص. وإضافة لحسن خلقته الجبلية وسلامة حواسه وأعضائه، فقد اعتنى بمظهره من النظافة وحسن الهيئة والتطيب بالطيب. أما صفاته الخلقية، فقد وصفه القرآن الكريم ({وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}) (¬2) وقالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان خلقه القرآن" (¬3). ومن دراسة سيرته وقراءة الأحاديث النبوية في صفاته الخلقية تطالعنا صور التواضع المقترن بالمهابة، والحياء المقترن بالشجاعة، والكرم الصادق البعيد عن حب الظهور، والأمانة المشهورة بين الناس، والصدق في القول والعمل، والزهد في الدنيا عند إقبالها، وعدم التطلع إليها عند إدبارها، والإخلاص لله في كل ما يصدر عنه، مع فصاحة اللسان وثبات الجنان، وقوة العقل، وحسن الفهم. والرحمة للكبير والصغير، ولين الجانب ورقة المشاعر وحب الصفح والعفو عن المسيء والبعد عن الغلظة والجفاء والقسوة، والصبر في مواطن الشدة، والجرأة في قول الحق. ¬

_ (¬1) سليمان العودة: السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحق، دراسة مقارنة في العهد المكي (رسالة دكتوراه في قسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة محمد بن سعود الإسلامية للعام الجامعي 1406/ 1407 هـ ص 143 - 145 وسائر الصفات نقلها عن صحيح البخاري ومسلم، وقد لفقت بين الروايات في هذا الوصف. وقد أفدت في حصر الروايات من رسالة الماجستير التي يعدها عادل عبد الغفور والتي تناولت (مرويات السيرة في العهد المكي). بإشرافي، وهي تتوقف بعد حادث الإسراء والمعراج مباشرة. (¬2) القلم 4. (¬3) مسلم الصحيح 1/ 746.

النبي المختار

النبي المختار: قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فهذا اصطفاء النبوة، وفي الحديث الصحيح: "إنَّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (¬1) فهذا اصطفاء النسب. وفي حديث صحيح آخر: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرن حتى كنت من القرن الذي كنت فيه" (¬2). فهذا اصطفاء الزمن ... وقد أجمع النسابون على نسبه إلى عدنان، وإن لم ينقل حديث صحيح بكامل نسبه، ولكن صحت أحاديث ببعضه، على أن من يعرف مدى اهتمام العرب بأنسابها في عصر النبوة وما قبله يدرك أن سلسلة نسبه إلى عدنان لا تحتاج إلى كبير توثيق، ما دام علماء النسب والأخبار متفقين عليها، وما دامت من المعلوم بالضرورة في ذلك العصر. ونسبه الذي يسوقه علماء النسب هو: "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ¬

_ (¬1) مسلم الصحيح 15/ 26 (بشرح النووي). (¬2) البخاري: الصحيح 6/ 566. وراجع حول القرن فتح الباري 6/ 574، وقد وردت أحاديث كثيرة حول طهارة نسبه وأنه لم يلتق له أبوان على سفاح من لدن آدم، وكلها أحاديث واهية أو ضعيفة ضعفاً شديداً، ولا حاجة بنا إليها إذ يكفي من الأحاديث الصحيحة الخالية من المبالغات. (انظر بعضها في دلائل النبوة للبيهقي 1/ 174 - 175 والموضوعات لابن الجوزي 1/ 281 - 182 وتاريخ دمشق (السيرة) 1/ 202 - 203، والمعجم الكبير للطبراني 8/ 165 - 166).

حفر زمزم

ابن فِهر بن مالك بن النَّضْر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن معدّ بن عدنان" (¬1). وأما أُمُّه آمنةُ بنت وَهْب فإنها من بني زُهرة. وقد أقر أبو سفيان أمام هرقل بعلّو نسب النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله: "كيف نسبه فيكم؟ فأجاب أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. فقال هرقل: فكذلك الرسل تُبعث في نسب قومها" (¬2). حفر زمزم: وقد تعددت مآثر عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فكان قُصي -جد هاشم، وهاشم جد والد النبي عبد الله- أبرزَ رجالات قريش في عصره، وهو الذي نظم إدارة مكة عن طريق استحداث دار الندوة التي يعقد فيها ملأ قريش اجتماعاتهم، كما أنه وزع الرِّفادة والسِّقاية والحج واللواء بين عشائر قريش. وقد حافظت العشيرة على مكانتها زمن عبد المطلب الذي اشتهر بحفر بئر زمزم التي بقيت قرونًا عديدة تمثل أهم عيون المياه بمكة ومصدر معلوماتنا عن قصة حفر زمزم هو الصحابي الجليل علي بن أبي طالب، ويبدو أن الرواية كانت معروفة مشهورة لقرب العهد بها، ولعل عليًا سمعها من أبيه الذي سمعها بدوره من عبد المطلب، وأما طريق نقل الرواية فهو سند حسن إلى علي (رضي الله عنه) من رواية ابن إسحاق مصرحًا بالسماع. وخلاصة ما حكاه عبد المطلب أنه رأى رؤيا منامية في أربع ليال، يأمره آتٍ بحفر البئر دون أن يحدد موقعها وفي المرة الرابعة حدّد له موقع البئر وصرح باسمها "زمزم". فحفر عبد المطلب في موقعها وكشف عن الماء، فنازعته قريش ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 238 في ترجمة باب مبعث النبي من كتاب مناقب الأنصار بدون إسناد وخليفة بن خياط: الطبقات 3. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 31 - 32) كتاب بدء الوحي.

نذر عبد المطلب

وطلبت إشراكها معه في الماء، فلم يقبل، فاحتكموا إلى كاهنة، ولكن قبل وصولهم إليها حدث أن نفد الماء عند عبد المطلب، ومن معه، وأبت قريش أن تشركه بالماء الذي عندها، حرصًا على الماء في الصحراء، فلما أشرف عبد المطلب ومن معه على الهلاك وحفروا قبورهم انبجست عين ماء تحت حافر ناقة عبد المطلب، فشرب القوم جميعًا واعتبروا ذلك علامة على أحقية عبد المطلب بماء زمزم فأسلموها إليه. ولا شك أن الحادثة والسيطرة على الماء معًا عزَّزتا مكانة بني هاشم في مكة (¬1). وأما الآثار التي زعم أنه عثر عليها في البئر كالغزال الذهبي والسيوف القلعية فلم تصح بها الرواية (¬2). ورغم ذلك فإن تعدد مخارج الخبر (سعيد بن المسيب + الزهري) ينهض لدعم الحدث التأريخي ما دام لا يتعلق بالعقيدة أو الشريعة. نذر عبد المطلب: وقد صح النقل عن عبد الله بن عباس أنه قال: " ... كان عبد المطلب ابن هاشم نذر أن تَوافى له عشرةُ رهطٍ أن ينحر أحدهم. فلما توافى له عشرة، ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة 1/ 131 - 134 وابن إسحاق: السير والمغازي 24 - 25 والبيهقي: دلائل النبوة 1/ 93 - 95 والأزرقي: أخبار مكة 2/ 44 - 46 وكلهم من طريق ابن إسحاق. (¬2) محمد بن حبيب: المنمق 334 من طريق عبد الأعلى بن أبي المساور وهو متروك (تقريب التهذيب). وعبد الرزاق: المصنف 5/ 314 من طريق الزهري مرسلًا، ومراسيله ضعيفة. وابن سعد: الطبقات 1/ 85 بإسناد فيه ضعف إلى أبي مجلز السدوسي (ت 109 هـ) بسبب خالد بن خداش فإنه صدوق يخطيء مرسلًا، ومن طريق هشام الكلبي وهو متروك. وابن هشام: السيرة 1/ 134 - 136 من رواية ابن إسحاق بدون إسناد. وأبو عبيد: غريب الحديث 4/ 26 بالحاشية 4/ 26 بالحاشية بإسناد حسن إلى سعيد بن المسيب الذي لم يحدد سنده إلى عبد المطلب.

أقرع بينهم أيهم ينحر، فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مائة من الإبل ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت القرعة على المائة من الإِبل (¬1). والرواية يبدو أنها كانت متداولة في أوساط العائلة. وقد بيَّنَت روايتان مرسلتان عن الزهري وأبي مجلز أن النذر وقع عندما حفر عبد المطلب زمزم واشتدَّ عليه من قومه الأذى (¬2). ومناسبة النَّذر وردت من طرق أخرى عديدة لكنها شديدة الضعف مدارها على الواقدي وابن أبي سَبْرة وأمثالهما. (¬3). ولم تحدد رواية صحيحة تأريخ عزم عبد المطلب على الوفاء بنذره بنحر عبد الله ابنه، لكن رواية ضعيفة من طريق الواقدي تذكر أن ذلك قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين (¬4). ولعل هذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة عن الصحابي حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي -ابن أخي خديجة- قال: ولدت قبل الفيل بثلاث عشرة سنة وأنا أعقل حين أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله (¬5). والحادث يوحي بما خطه القدر الإلهي من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم من أبيه عبد الله ابن عبد المطلب، فقد حفظ الله حياة عبد الله بما صرف عبد المطلب عن نحره. ¬

_ (¬1) الطبري: تاريخ 2/ 239 - 240 بإسناد صحيح رجاله ثقات، وابن أبي شيبة: المصنف 4/ 1/55 بإسناد آخر صحيح عن ابن عباس. وقد أخرج الإمام مالك في الموطأ شطرًا متممًا للرواية يتعلق بفتوى ابن عباس في نذر مشابه بإسناد آخر عن ابن عباس مما يدعم رواية الطبري (الموطأ 2/ 476). (¬2) مصنف عبد الرزاق 5/ 316 - 317 ودلائل البيهقي 1/ 87 كلاهما عن الزهري، وطبقات ابن سعد 1/ 84 - 85 بإسناد حسن إلى أبي مجلز لكنه مرسل. (¬3) ابن سعد: الطبقات 1/ 88 - 89. (¬4) الحاكم: المستدرك 3/ 482 - 483. والطبري: تفسير 23/ 85 وابن كثير: التفسير 4/ 18. وانظر الألباني: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/ 337. (¬5) ابن حجر: الإصابة 2/ 112.

زواج عبد الله من آمنة

زواج عبد الله من آمنة: ومن الثابت تاريخيًا أن عبد الله بن عبد المطلب تزوج من آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وبنو زهرة عشيرة من قريش، وكان عبد المطلب قد تزوج هالة بنت وهيب، ووهيب عم آمنة وقد تربت في بيته، وتفاصيل الزواج لم ترد من طريق صحيحة إذ مدارها على هشام الكلبي وعبد العزيز بن عمران والواقدي، وكلهم متروك عند المحدثين (¬1). ولكن موضوع الزواج والعلاقات النسبية مستفيض لا يحتاج إلى سند موثق. وقد نسج بعض الكاذبين حكاية حول عبد الله أرادوا بها المبالغة بإضفاء طابع أسطوري على المولد النبوي، فادعوا أن بغيًا -ومرةً امرأة مستبضِعة، وثالثة: كاهنة، ورابعة: زوجة ثانية لعبد الله- دعت عبد الله إلى نفسها وقد رأت في عينيه نورًا، ففارقها إلى آمنة زوجه، ثم عاد إليها فامتنعت منه بحجة أن النور قد اختفى بعد لقائه آمنة! (¬2). ¬

_ (¬1) الطبراني: المعجم الكبير 3/ 149، والحاكم: المستدرك 2/ 601، وأبو نعيم: الدلائل 1/ 161 من طريق عبد العزيز بن عمران. وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 86، من طريق هشام الكلبي، و1/ 94 - 95 من طريق الكلبي والواقدي. وابن عساكر: السيرة ق 1/ 338 - 339 من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر وهو منكر الحديث (لسان الميزان 5/ 259 - 260). (¬2) الطبراني: المعجم الكبير 3/ 149 والحاكم: المستدرك 2/ 601 وأبو نعيم: الدلائل 1/ 161 من طريق عبد العزيز بن عمران. وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 86 من طريق هشام الكلبي، و1/ 94 - 95 من طريق الكلبي والواقدي. وابن عساكر: السيرة ق 1/ 338 - 339 من طريق محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري وهو منكر الحديث (لسان الميزان 5/ 259 - 260).

وفاة عبد الله

وهذه الرواية منكرة سندًا ومتنًا، ومن يقرأ الروايات المختلفة عنها يدرك مدى الاختلاف والاضطراب في سوقها سواء في تعيين المرأة، إذ مرة هي خثعمية وأخرى أسدية قرشية اسمها قتيلة، وثالثة عدوية اسمها ليلى، وكذلك في صفة عبد الله عندما التقته فمرة هو مطيَّن الثياب وأخرى هو في زينته (¬1)!! ومثل هذا الاختلاق ينبغي أن يطرح من دراسات السيرة الجادة. وفاة عبد الله: ولم يرَ الرسول صلى الله عليه وسلم أباه، فقد مات في المدينة عند أخواله بني عدي بن النجار، وكان في مهمة تجارية فمرض عند العودة ومات فدفن هناك. ولم ترد رواية صحيحة في حادثة وفاته، إذ كل ما ورد عنها ضعيف ضعفًا شديدًا أو مرسل ضعيف وأقوى ما ورد قول الزهري مرسلًا: "بعثَ عبدُ المطلب عبدَ الله بن عبد المطلب يمتار له تمرًا من يثرب، فتوفى عبد الله بها، وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في حجر عبد المطلب" (¬2). ويتفق مع قول الزهري حديث يرويه قيس بن مخرمة وهو صحابي ذكر ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:"توفى أبوه وأمه حبلى به" (¬3). ¬

_ (¬1) ابن إسحاق: السير والمغازي 44 مرسلًا وعنه البيهقي: الدلائل 1/ 105 - 106 وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 95 - 96 بواسطة الواقدي وهشام الكلبي وكلاهما متروك و 1/ 97 بواسطة أبي يزيد المدني مرسلًا وإن صح السند إليه. والطبري: تاريخ 2/ 244 - 246 بإسناد ضعيف فيه تدليس ابن جريج، وتدليسه معيب، وفيه محمد بن عمارة القرشي لم أقف له على ترجمة وفيه مسلم الزنجي صدوق كثير الأوهام. وأبو نعيم؛ الدلائل 1/ 107 - 108 بإسناد ضعيف لضعف رواية مسلمة بن علقمة عن داود ابن أبي هند ولأن عبد الباقي بن قانع كثير الأوهام يصر على الخطأ و 1/ 162 - 164 من طريقين مدراهما على (محمد بن عبد العزيز عن أبيه) ومحمد منكر الحديث، وأبوه مجهول. (¬2) مصنف عبد الرزاق 5/ 317 بإسناد صحيح إلى الزهري لكن الخبر مرسل. (¬3) مستدرك الحاكم 2/ 605 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي مع أن في إسناده صدقة بن سابق والمطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة لم يخرج لهما مسلم شيئًا ولم يوثقهما سوى ابن حبان وهو متساهل في التوثيق.

مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل

وهذا هو المشهور الذي رجحه ابن إسحاق والواقدي وابن سعد (¬1). وخالفهم الكلبي وعوانة بن الحكم فزعما أن عبد الله لما توفي كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين شهرًا ويقال سبعة أشهر (¬2) وانفرد الواقدي بتحديد سنِّ عبد الله حين وفاته وأنه في الخامسة والعشرين من عمره (¬3). والمعروف المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يتيم الأب. قال ابن كثير: "وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه" (¬4). وقد صحت الرواية في ذلك (¬5)، وإليه ذهب الواقدي وابن سعد ووافقهما ابن كثير وآخرون، لكن السهيلي قال: "وأكثر العلماء على أنه كان في المهد" (¬6). وما دامت الرواية الصحيحة قد أثبتت مولده صلى الله عليه وسلم يتيمًا، فلا مندوحة عن الأخذ بها وإن خالفها الأكثرون. وقد ذكر يتمه في القرآن: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى}. مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل: وقد صح أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين (¬7) وتفيد أقوى الروايات التي وصلت إلينا أن مولده كان عام الفيل (¬8). ¬

_ (¬1) ابن إسحاق: السير والمغازي 45 وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 99 - 100. (¬2) طبقات ابن سعد 1/ 100. (¬3) طبقات ابن سعد 1/ 99. (¬4) ابن كثير: السيرة 1/ 260. (¬5) صحيح مسلم 3/ 1392. (¬6) الروض الأنف 2/ 160. (¬7) مسلم: الصحيح 8/ 52 وأبو داؤد: السنن 2/ 808 - 809 وأحمد المسند 5/ 297، 299. (¬8) الحاكم: المستدرك 2/ 603 بإسناده إلى ابن عباس وفيه علة تدليس أبي إسحاق السبيعي وقد عنعن، وابن هشام: السيرة 2/ 155 بإسناده إلى قيس بن مخرمة وفيه المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة وهو مقبول يحتاج إلى متابعة تقويه، وقد توبع، فالروايتان تشدان بعضهما فترقيان إلى الحسن لغيره.

وقد ذكر خليفة أنه "المجتمع عليه" (¬1). فكأنه لا يعتد بمن خالف، والحق أن الروايات المخالفة كلها معلولة الأسانيد وهي تفيد أن مولده بعد الفيل بعشر سنوات أو ثلاث وعشرين سنة أو أربعين سنة (¬2) وقد ذهب معظم العلماء إلى القول بمولده عام الفيل، وأيدتهم الدراسات الحديثة التي قام بها باحثون مسلمون ومستشرقون اعتبروا عام الفيل موافقًا للعام 570 أو 571 الميلادي (¬3). إن حادثة الفيل ثابتة الوقوع بنص القرآن {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}. فنص القرآن يقدم أدق تصوير لما حدث لجيش أبرهة، ولا تكاد الروايات التأريخية تخرج عن الوصف القرآني إلا في تحديد جزئيات وتفصيلات يسيرة، وهي روايات تقف عند ابن عباس وعبيد بن عمير من الصحابة، أو عند قتادة (ت 117 هـ) أو ابن إسحاق (ت 151 هـ) (¬4) ولا شك أن بينهم وبين الأحداث نصف قرن على الأقل بالنسبة للصحابة الصغار، ولعلهم استقوا المعلومات عمن بقوا أحياء ممن شاهد الحاديث، حيث تأخرت وفيات بعضهم، فقد رأت عائشة (رضي الله عنها) قائد ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة 53. (¬2) دلائل البيهقي 1/ 78 - 79 وتاريخ دمشق لابن عساكر (السير 1/ 54، 61). (¬3) جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/ 443، 478. (¬4) إن تفاصيل قدوم أبرهة التي مصدرها عبيد بن عمير (ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي أقدم ما وصل إلينا في ذلك وردت بإسناد ضعيف فيه أبو سفيان طلحة بن نافع وهو مدلس وقد عنعن (ابن أبي شيبة: المصنف 14/ 284 - 285) وروي هذه التفاصيل الأعمش عن طلحة، ومعروف عند المحدثين أن روايته عنه من صحيفة سمع بعضها فقط، ولم يصرح في هذه الرواية بالسماع (ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 224 وتهذيب التهذيب لابن حجر 4/ 224 وتعريف أهل التقديس 33)، وأما إسناد الطبري إلى قتادة فحسن لأن سماع يزيد بن زُريع من سعيد بن أبي عروبة قديم قبل اختلاط سعيد لكنه مرسل ضعيف (الطبري: تفسير 30/ 303 - 304) وقد نقل قول قتادة بسند صحيح إليه من طريق محمد بن ثور عن معمر عن قتادة (الطبري 30/ 297 - 299) أما بقية الروايات المسندة إلى ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وآخرين فإنها تتناول تفسير ألفاظ في سورة الفيل، ولا تقدم صورة تفصيلية للحادث (الطبري: تفسير 30/ 296).

صفة حمل آمنة به

الفيل وسائسه أعميين يستطعمان الناس بمكة (¬1) كما بين الصحابي قباث بن أشيم أن أمه أوقفته على بقايا روث فيل أبرهة وقد تغير لونها، وكان يعقل حيث ولد قبل الفيل بسنوات يسيرة (¬2). إن القرائن التأريخية المحتفَّة بالروايات التي تفيد مولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل قوية، ويرى ابن القيم ويتابعه القسطلاني أن مولد النبي كان في عام الفيل بعد حادثة الفيل، لأن قصة الفيل توطئة وارهاص لظهوره، حيث دفع الله نصارى الحبشة عن الكعبة دون حولٍ من العرب المشركين تعظيمًا لبيته (¬3). وقد اختلف المؤرخون في تاريخ يوم مولده وشهره فذهب ابن إسحاق إلى أنه ولد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول (¬4). وذهب الواقدي إلى أنه ولد لعشر ليال من شهر ربيع الأول (¬5) وذهب أبو معشر السندي إلى أنه ولد لليليتين خلتا من شهر ربيع الأول (¬6). وابن إسحاق أوثق الثلاثة. صفة حمل آمنة به: لقد رويت قصص وأخبار حول صفة حمل آمنة به، وأنها لم تر أخفَّ ولا أيسرّ منه، وأنها كانت تلبس التعاويذ من حديد فيتقطع، وأنها رأت في منامها بشارة بجليل مقامه، وأمرت بتسميته بمحمد، ورأت عند استيقاظها صحيفة ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 57 وخليفة: التاريخ 53 بسند حسن. (¬2) الترمذي: سنن 5/ 589 وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق، والحاكم: المستدرك 2/ 603 و3/ 456 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، مع أن في إسناده المطلب بن عبد الله "مقبول" فقط. (¬3) زاد المعاد 1/ 76 وشرح المواهب اللدنية 1/ 130. (¬4) ابن هشام: السيرة 1/ 171 دون إسناد. (¬5) ابن سعد: الطبقات 1/ 100 - 101 بإسناده إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر، والواقدي عالم بالمغازي متروك في رواية الحديث. (¬6) ابن سعد: الطبقات 1/ 101 وراجع حول الاختلاف شرح المواهب اللدنية 1/ 130 - 131 وأبو معشر بصير في المغازي ضعيف في الحديث. -فيما يقول النقدة-.

من ذهب فيها أشعار لتدعو له بها، ولم يثبت شيء من هذه الحكايات (¬1). كما وردت أخبار ضعيفة تفيد أنه "وقع حين ولدته وقوعًا ما يقعه المولود معتمدًا على يديه، رافعًا رأسه إلى السماء (¬2) "وأنه وضع تحت قدر من حجر، فانفلقت عنه ليبقى بصره شاخصًا إلى السماء (¬3)، وأنه ولد مختونًا (¬4)، أو خَتَنَهُ ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 1/ 98 - 99 من طريق الواقدي والسيرة النبوية للذهبي 21 رغم حكمه على السند بأنه جيد لكنه فيه جهم بن أبي جهم جهله الذهبي نفسه (ميزان الاعتدال 1/ 426) والسيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 42 وانظر شرح المواهب اللدنية 1/ 106 - 107. (¬2) من حديث حليمة السعدية الطويل في قصة الرضاع الذي يرويه ابن إسحاق، وإسناده ضعيف وقواه بعضهم، ولا تشده روايات الواقدي لأنه متروك (طبقات ابن سعد 1/ 101 - 102)،كما لا تقويه تلك المراسيل عن التابعين من الطبقة الرابعة وهم حسان بن عطية وإسحاق بن عبد الله ومن بعدهم وهو داؤد بن أبي هند لاحتمال وحدة مصدرهم (طبقات ابن سعد 1/ 102 - 103, وأبو نعيم: دلائل النبوة 1/ 172). (¬3) الأحاديث إما مرسلة كما في طبقات ابن سعد 1/ 102 بإسناد حسن إلى عكرمة، وكما في دلائل البيهقي 1/ 113 من مرسل أبي الحكم التنوخي وهو تابعي مجهول (الجرح والتعديل 9/ 308) وفي السند إليه عبد الله بن صالح كاتب الليث "صدوق كثير الغلط" وكما في الدلائل لأبي نعيم (1/ 172) بسند معضل. (¬4) الأحاديث في ذلك كلها معلولة بعلل قادحة بحيث لا تنهض مجتمعة للاحتجاج بها لأن معظمها لا يخلو من وضاع أو متهم، وهي حديث العباس (ابن سعد: الطبقات 1/ 103) وفي إسناده يونس بن عطاء المكي يوري الموضوعات ولا يجوز الاحتجاج بخبره (الميزان 4/ 428) وحديث ابن عباس (الكامل لابن عدي 2/ 576) وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد متهم بوضع الحديث (الميزان 1/ 412) وحديث أنس بن مالك (الطبراني: المعجم الصغير 2/ 145 - 146) وفي إسناده سفيان بن محمد الفزاري، واهٍ، وفي طرقه عن الحسن بن عرفة مجهول هو أبو الفضل محمد بن عبد الله البرهاني أو نوح بن محمد قال الذهبي إن روايته عن ابن عرفة شبه الموضوع (ميزان الاعتدال4/ 279) وحديث أبي هريرة (ابن عساكر: تاريخ دمشق (السيرة) ق1/ 210 في إسناده محمد بن كثير القرشي واه وإسماعيل بن مسلم المكي ضعيف مع علة الانقطاع بين الحسن البصري وأبي هريرة. وحديث ابن عمر (ابن عساكر: السيرة ق1/ 212) في إسناده عبد الرحمن ابن أيوب الحمصي وموسى بن أبي موسى المقدسي لا يعرفان إلا أن يكونا عبد الرحمن بن أيوب السكوني وموسى بن محمد بن عطاء المقدسي والأول تكلم فيه بجرح شديد، والثاني متروك (ميزان الاعتدال 2/ 549، 4/ 219 - 220 ولسان الميزان 6/ 127 - 129).

جبريل عليه السلام (¬1)، أو خَتَنَهُ عبدُ المطلب يومَ سابعِهِ وجعل له مأدبة وسماه محمدًا (¬2)، ورغم ما في إسناد الرواية الأخيرة من ضعف شديد فقد قال الحافظ الذهبي "إنه أصح من حديث العباس أنه ولد مختونًا (¬3) ". فسرور عبد المطلب بالمولود الذكر وقيامه نحو اليتيم بالواجب من ختان ووليمة على عادة قومه لا يحتاج إلى أدلة. وقد وردت في ذلك روايات واهية (¬4). وكذلك وردت روايات موضوعة حول هواتف الجان في ليلة مولده وتبشيرها به وانتكاس بعض الأصنام في المعابد الوثنية بمكة (¬5). وحول ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته وخمود نيران المجوس وغَيض بحيرة ساوة ورؤيا الموبذان الخيل العربية تقطع دجلة وتنتشر في بلاد الفرس (¬6). ¬

_ (¬1) الطبراني: المعجم الأوسط 2/ل57 ب بإسناد فيه عبد الرحمن بن عتيبة البصري ومسلمة بن محارب الزيادي مجهولان، وإن وثقهما ابن حبان فإنه يوثق المجاهيل. (ثقات ابن حبان 5/ 452 و7/ 490 ومجمع الزوائد للهيثمي 8/ 224). وقال ابن كثير: "هذا غريب جدًا" (السيرة النبوية 1/ 210) وقال الذهبي:"هذا منكر" (السيرة النبوية 8). (¬2) ابن عبد البر: الاستيعاب (بحاشية الإصابة) (1/ 21 - 22) وقال الحافظ العراقي: "وسنده غير صحيح (الشامي: سبل الهدى والرشاد 1/ 420) وفيه إسناد ابن عبد البر محمد بن أبي السري له أوهام كثيرة (التقريب 504) والوليد بن مسلم كثير التدليس والتسوية وقد عنعن. (¬3) السيرة النبوية 8. وانظر البيهقي: الدلائل 1/ 113 حيث ساق مرسلًا ضعيفًا لأبي الحكم التنوخي بمعناه. (¬4) طبقات ابن سعد 1/ 103 من طريق الواقدي وهو متروك. ودلائل النبوة للبيهقي 1/ 113 مرسل ضعيف، ودلائل النبوة لأبي نعيم 1/ 172 - 173 بإسناد واهٍ فيه محمد بن زكريا الغلابي ضعيف وشيخه الجحدري مجهول (راجع تهذيب التهذيب 7/ 313). (¬5) أبو بكر الخرائطي: هواتف الجان رقم (17) و (7) وفي إسناده وضاعان هما عبد الله بن محمد البلوي وعمارة بن زيد (ميزان الاعتدال 2/ 491و3/ 177). (¬6) الذهبي (السيرة النبوية ص 11 - 14) من طريق ابن أبي الدنيا وغيره والخبر مداره على أبي أيوب يعلى بن عمران البجلي ومخزوم بن هانيء المخزومي لم أقف لهما على ترجمة. وقال الذهبي: هذا حديث منكر غريب والصالحي: سبل الهدى والرشاد 1/ 429 - 432 نقلًا عن هواتف الجان للخرائطي وتاريخ الطبري ودلائل أبي نعيم والبيهقي.

كذلك وردت روايات ضعيفة عن إخبار يهود بليلة مولده (¬1). وإخبار الراهب عيصا بمر الظهران بمولده (¬2). وقول العباس عمه إنه رآه في المهد يُناغي القمر (¬3). ولكن ثمة أخبارًا تَقوى بعضها ببعض إلى الحسن احتفَّت بمولده منها ما يفيد أن آمنة رأت حين وضعته نورًا خرج منها أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجها الحاكم (المستدرك 2/ 601 - 602) وصححه وخالفه الذهبي وقال الحافظ في الفتح (6/ 583) إنه "بإسناد حسن" مع أن فيه ابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالسماع (تعريف أهل التقديس 51). وله متابعة عند ابن سعد (الطبقات 1/ 162 - 163) وفي إسناده أبو عبيدة بن عبد الله لم أقف على ترجمته. وثمة رواية أخرى عن حسان بن ثابت في المدينة (سيرة ابن هشام 1/ 147 وفي إسناده "حدثني من شئت من رجال قومي" وهو مبهم وإن أوحى بالكثرة. ولرواية حسان طرق أخرى (دلائل النبوة لأبي نعيم 1/ 86 - 89) من طريق الواقدي وهو متروك. ولها شاهد من حديث ابن عباس من طريق الواقدي أيضًا (الطبقات الكبرى 1/ 159 - 160). (¬2) ابن عساكر: تاريخ دمشق (السيرة) ق 1/ 344 - 346 وقال ابن كثير:"فيه غرابة" (السيرة النبوية لابن كثير 1/ 223) وقال الذهبي:"هذا إسناد ساقط" (السيرة النبوية للذهبي 1/ 6). وآفته من المسيب بن شريك فإنه متروك. (¬3) البيهقي: دلائل النبوة 2/ 41 وقال: "تفرد به أحمد بن إبراهيم الحلبي وهو مجهول" وقال ابن أبي حاتم عن الحلبي: لا أعرفه، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول، يدل على أنه كذاب (الجرح والتعديل 2/ 40). وقال ابن حجر:"وسنده واهٍ جدًا" (الإصابة 3/ 23). (¬4) أخرجه ابن إسحاق قال: "حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله قالوا: "وهذا إسناد حسن، فقد صرح ابن إسحاق بالتحديث وهو صدوق، وتدل الرواية عن الصحابة بصيغة الجمع على استفاضة الخبر في جيل الصحابة وكلهم عدول فلا تؤثر جهالة أسمائهم، وقال ابن كثير عنه: "هذا إسناد جيد قوي" (السيرة النبوية 1/ 229) وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 2/ 600) ولا حاجة للاحتراز في إرسال خالد بن معدان عن بعض الصحابة وهم معاذ وأبو عبيدة وأبو ذر وعائشة فقد لقي سبعين من الصحابة كما أخبر عن نفسه وهو ثقة (تهذيب التهذيب 3/ 119). ويشهد له حديث عرباض بن سارية الذي أخرجه أحمد في مسنده 4/ 127. والحاكم: =

مرضعاته

مرضعاته: لقد صح أن ثويبة -مولاة أبي لهب- أرضعته (¬1). وثبت أن عمه حمزة بن عبد المطلب أخوه من الرضاعة (¬2). وأما خبر إرضاع حليمة السعدية له في ديار بني سعد، وما ظهر عليه من البركة فهو خبر مستفيض في كتب السيرة قديمها وحديثها، وأقدم من أورده من كتاب السيرة ابن إسحاق (ت 151 هـ) (¬3). ¬

_ = المستدرك 2/ 418 وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني: المعجم الكبير 18/ 252 وأبو نعيم: الدلائل 1/ 54 والطبرى: تفسير 1/ 556 وهو ضعيف الإسناد لأن مداره على عبد الأعلى ابن هلال السلمي وهو مجهول (الاكمال 64 وراجع سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 2058). كما يشهد له حديث أبي أمامة بإسناد فيه ضعف من قبل الفرج بن فضالة لكنه إسناد شامي فهو من أجود مرويات الفرج (مسند الطيالسي رقم 2315 ومسند أحمد 5/ 262) وانظر عن الفرج التقريب 444 والتهذيب 8/ 260 - 262. وتوجد مراسيل ومنقطعات تؤيده لكنها لا تقوى على النهوض به إلى درجة الصحيح لاحتمال وحدة مصدرها (الطبقات لابن سعد 1/ 102). (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 9/ 143). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 9/ 140) وصحيح مسلم بشرح النووي 10/ 23، 24. (¬3) سيرة ابن هشام 1/ 49 - 153 وأبو يعلي: المسند. وابن حبان: موارد الظمآن 512 - 513 والطبراني: المعجم الكبير 24/ 212 - 215 وأبو نعيم: دلائل النبوة 1/ 193 - 196، والبوصيري: اتحاف الخيرة 4/ 368 - 370. وفي إسناده "جهم بن أبي الجهم عن عبد الله بن جعفر أو عمن حدثه عن عبد الله بن جعفر - بالشك".وجهم لا يُعرف (ميزان الاعتدال للذهبي 1/ 426) ولم يوثقه سوى ابن حبان وسماه جهم بن عبد الرحمن وهو مشهور بتوثيق المجاهيل (الثقات 4/ 114) ولم يصرح عبد الله بن جعفر بالسماع من حليمة إلا عند الطبراني، لكنه صحابي فلا يضر إرساله أيضًا. ولكن الشك بين جهم وعبد الله بن جعفر يضعف السند خاصة وأنه لم يصرح بالسماع في سائر المصادر. وقد تساهل النقاد في تحسين الخبر رغم العلل في سنده فقال الذهبي: "هذا حديث جيد الإسناد" (السيرة النبوية 8) وقال الحافظ ابن كثير: "وهذا الحديث قد روي من طرق أُخَرَ!! وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي (السيرة 1/ 228) وكان ابن عبد البر قد ذكر شهرته أيضًا (الاستيعاب مع الإصابة) 12/ 261. وقد وردت له شواهد واهية من حديث ابن عباس (دلائل البيهقي 1/ 139 - 145) وابن عساكر: السيرة: 1/ 384 - 388 والمتهم به محمد بن زكريا الغلابي وفي المسند مجاهيل أيضًا. وقال ابن عساكر: "هذا حديث غريب جدًا، وفيه ألفاظ ركيكة لا تشبه الصواب، ويعقوب بن =

معجزة شق الصدر

وإذا كان خبر حليمة الطويل المشتهر حول رضاعة لم يحظَ بتصحيح المحدثين لعلل إسنادية، فإن رضاعه صلى الله عليه وسلم في بني سعد من قبل حليمة السعدية ثابت من طرق أخرى (¬1). معجزة شق الصدر: وقعت أحداث شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وغسله ولأمِهِ، مرتين (¬2)، الأولى عندما كان طفلًا في الرابعة من عمره (¬3).، يلعَبُ في بادية بني سعد، وقد روى الإِمام ¬

_ = جعفر غير مشهور في الرواية والمحفوظ من حديث حليمة ما تقدم قبل من رواية عبد الله بن جعفر. وله شاهد من حديث أسلم العدوي (ابن سعد: الطبقات 1/ 151 - 152) لكنه من طريق الواقدي وهو متروك. (¬1) مسند أحمد 4/ 184 - 185 من حديث عتبة بن عبد المسير وسنن الدارمي 1/ 8 - 9 ومستدرك الحاكم 2/ 616 - 617 وتاريخ دمشق لابن عساكر (السيرة ق1/ 376 - 377) وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي، كما صححه في تاريخ الإسلام (السيرة 1/ 21) وحسن الهيثمي إسناد أحمد (مجمع الزوائد 8/ 222) وحسن البوصيري سنده وقال: "وبقية ثقة وإن كان مدلسًا فقد صرح بالتحديث في بعض طرقه كما رواه الإمام أحمد، (إتحاف الخيرة 4/ 370 - 371) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 373 مثل قول البوصيري وأضاف: وللحديث شواهد كثيرة (انظر السلسلة الصحيحة 4/ 59). والحق أن السند من طريق بقية لا يقوى بتصريحه بالتحديث عن شيخه فقط، بل يلزم أن يصرح بالسماع من سائر طبقات رجال السند لأنه معروف بتدليس التسوية، ولم يصرح بقية في سائر الطرق بسماع بحير بن سعد من خالد بن معدان. (¬2) وردت روايات تفيد وقوع شق الصدر مرة ثالثة قبيل البعثة ساقها أبو نعيم الأصبهاني (دلائل النبوة ص 69) والطيالسي (منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داؤد 2/ 86) - ط1 سنة 1972 هـ، المطبعة المنيرية -الأزهر- وفي إسنادها داؤد بن المحبر وهو متروك فروايته ساقطة لا يعوّل عليها، كما ساق السيوطي روايتين تفيدان وقوع شق الصدر قبل البعثة في رؤيا منامية (الخصائص الكبرى 1/ 232). (¬3) ذكر عمره ابن سعد: الطبقات 1/ 112 وانظر دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني ص 49. وذهب الأموي ومن بعده ابن عبد البر إلى أنه كان في الخامسة، وهذا قد روي عن ابن عباس أيضًا (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 1/ 150) ولكن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل وأبا نعيم ساقا رواية أخرى تقول إنه كان في العاشرة وأشهر من عمره (مسند أحمد 5/ 139) وإسناده فيه معاذ بن محمد بن معاذ عن أبيه، وكلاهما مجهول كما قال ابن المديني. (الذهبي: ميزان الاعتدال 4/ 44).

مسلم في صحيحه حادثة الشق الأولى عن أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقةً فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه (¬1)، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- فقالوا إن محمد قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره (¬2). ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوّة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله. فلا يحل في قلبه شيء إلا التوحيد (¬3) وقد دّلت أحداث صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثمًا ولم يسجد لصنم (¬4). رغم شيوع ذلك في قومه. أما المرة الثانية التي وقع فيها شق صدره عليه الصلاة والسلام فكانت ليلة الإسراء (¬5). ¬

_ (¬1) جمعه وضم بعضه إلى بعض (شرح النووي على مسلم 2/ 216). (¬2) صحيح مسلم 1/ 147، كتاب الإيمان، باب 74 الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وابن هشام: السيرة النبوية 1/ 166 بإسناد جيد قوي كما يقول الحافظ ابن كثير (السيرة النبوية 1/ 229 بتحقيق مصطفى عبد الواحد). (¬3) انظر اجتهاد العلماء في استجلاء الحكمة من الحادثة الروض الأنف للسهيلي 2/ 173 وفتح الباري لابن حجر 7/ 205. (¬4) زعم المستشرف نيكلسون NICHOLSON أن حديث شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم أسطورة نشأت عن تفسير الآية القرآنية {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وأنه لو كان لها أصل فعلينا أن نخمن أنها تشير إلى نوع من الصرع. NICHOLSON,R.A. Aliterary History of the Arabs (Cambridge,1966). وهذا الذي زعمه نيكسون سبقه إليه المشركون القرشيون حين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون فنفى الله عنه ذلك " {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} " والمعلوم عن المصروع أنه يهذي ويزبد ويفقد وعيه، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان عند الوحي في أشد حالات التركيز الذهني حتى أمره الله تعالى بأن يخفف عن نفسه {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ثم إنه كان ينطق بكلام مبين عُدَّ آية في البلاغة، فأين هذيان المصروع من ذلك؟!! (¬5) انظر ص 188.

لقد أدت هذه الحادثة إلى إعادة الرسول إلى أمه آمنة وجده عبد المطلب، لأن حليمة خافت عليه (¬1) ورغبت في إنهاء مسئوليتها عنه رغم حبِّها له وتعلقها به. وحكى الواقدي عن ابن عباس أنه كان في الخامسة من عمره عندما أعادته حليمة (¬2). وذكر غيره أنه رد إلى أمه وهو ابن أربع سنين، وكان معها إلى أن بلغ ست سنين (¬3). حيث توفيت أمه آمنة بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار، فماتت وهي راجعة إلى مكة (¬4). ولم تثبت هذه الأخبار برواية صحيحة، ولكنها مما يتساهل فيه عادة. وقد ترك يُتم النبي في نفسه أعمق الأثر، ففي طفولته فقد أمه وكان قد ولد يتيمَ الأب. وقد بيَّن الزُّهري أن جده عبد المطلب كفله ورعاه (¬5). ويذكر الواقدي أن جدّه حين توفي -وكان عمره اثنتين وثمانين سنة- أوصى أبا طالب -عمَّه- به (¬6). ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 184 - 185 وسنن الدارمي 1/ 8 - 9 ومستدرك الحاكم 2/ 616 من حديث عتبة بن عبد السلمي ومداره على بقية بن الوليد وهو مدلس ولم يصرح بالسماع في سائر طبقات الإسناد، بل عنعن في سائرها بين بحير بن سعد وخالد بن معدان، ولو فعل لحسن الإسناد، ويؤيده مرسل الزهري (المصنف لعبد الرزاق 5/ 317 - 318). (¬2) طبقات ابن سعد 1/ 112. (¬3) أبو نعيم: دلائل النبوة 1/ 118 والسيرة الحلبية 1/ 123 مقتصرًا على عمره بعد مكثه عند أمه، ونقل ذلك عن الأموي. (¬4) هذا هو قول ابن إسحاق سمعه من عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مرسلًا وهو قول الواقدي أيضًا (سيرة ابن هشام 1/ 155 وطبقات ابن سعد 1/ 166 - 117). (¬5) مصنف عبد الرزاق 5/ 318 من مرسل الزهري. (¬6) طبقات ابن سعد (1/ 177 - 119) والواقدي متروك.

قصة بحيرى الراهب

وكان رسول الله في الثامنة من العمر (¬1). ولا شك أن محمدًا أحس بفقدان جده لما كان يَحبُوه به من العطف والرعاية (¬2). وقد وردت روايات تفيد عطف أبي طالب عليه وتعلقه به (¬3)، ومما يدل على شدة محبة أبي طالب إياه صحبته له في رحلته إلى الشام. ويبدو أنه في فترة حضانة أبي طالب له ساعده محمد صلى الله عليه وسلم في رعي غنمه، وقد ثبت أنه عمل على رعيها لأهل مكة مقابل قراريط (¬4)، ولعل ضيق حال أبي طالب هو الذي دفعه إلى العمل لمساعدته، ورعي الغنم فيه دربة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رعاية البشر فيما بعد، فقد ألف العمل والكفاح منذ طفولته، واعتاد أن يهتم بما حوله، ويبذل العون للآخرين، وربما يذكرنا رعيه للغنم بأحاديثه التي تحث على الإحسان للحيوان. قصة بحيرى الراهب: لقد اصطحب أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة تجارية له إلى الشام، وكان النبي في التاسعة أو العاشرة أو الثانية عشرة من عمره على اختلاف الروايات (¬5) وقد دعا راهب يدعى بحيرى في مدينة بُصرى رجال القافلة القرشية إلى طعام، ¬

_ (¬1) ابن إسحاق: السير والمغازي 65 - 66 بسند منقطع والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 21 - 22 والسيرة النبوية للذهبي 25 - 26 بإسناد ضعيف جدًا إلى ابن عباس، لضعف عبد الله بن شبيب الربعي (ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 238 - 239). (¬2) تشير إلى هذا المعنى روايات ضعيفة كما في طبقات ابن سعد 1/ 112 - 113 ومستدرك الحاكم 2/ 603 - 604 وصحح الرواية ووافقه الذهبي، لكن في الإسناد عباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم مستور الحال (تقريب التهذيب 293). (¬3) ابن سعد: الطبقات 1/ 120 بأسانيد مرسلة صحيحة إلى مرسليها وهما عبد الله بن القبطية وعمرو بن سعيد القرشي. وأما ما ذكره ابن سعد من حلول البركة بطعام آل أبي طالب إذا حضره محمد فلم يثبت من طريق صحيح بل معظم الأسانيد من طريق الواقدي (راجع الاقتباسات عنه في تاريخ دمشق (السيرة) لابن عساكر 1/ 71 - 72 والخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 83. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 4/ 141 و6/ 438) وصحيح مسلم بشرح النووي 14/ 5 - 6. (¬5) ابن سيد الناس: عيون الأثر 40.

حيث تعرف على النبي من خلال صفاته وأحواله؛ فعرف أنه يتيم، وأنه يحمل خاتم النبوة بين كتفيه، ورأى الغمامة تظله من الشمس وفيء الشجرة يميل عليه عندما ينام إليها. وتختم الرواية القصة بتحذير الراهب لأبي طالب عم النبي من اليهود والروم. إن أقوى طرق هذه القصة ورد عند الترمذي في جامعه (¬1) وقال عنه الترمذي:"هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وصححه الحاكم (¬2)، وتعقبه الذهبي قائلًا "أظنه موضوعًا وبعضه باطل" (¬3) وبيَّن اعتراضاته على سند الرواية ومتنها ووصفها بالنكارة، بل يفهم من كلامه شكه في الرواية كلها (¬4). فأما انتقاده للسند فقد قال عن عبد الرحمن بن غزوان -راويها- "له مناكير" ثم قال: أنكر ماله حديثه عن يونس بن أبي إسحق في سفر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام" (¬5) وأما انتقاده للمتن فقد قال:"وهو حديث منكر جدًا، وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم - بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذ الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد، وأيضًا فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن ¬

_ (¬1) سنن الترمذي 5/ 590 - 591 بإسناده إلى قراد، ومن طريق قراد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 14/ 286 وابن أبي الدنيا في هواتف الجان 194 والحاكم: المستدرك 2/ 615 والطبري: تاريخ 2/ 277 - 278 والبيهقي: الدلائل 2/ 24 والخطيب: تاريخ بغداد 10/ 252. وأخرجه من طرق معضلة ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 120، 153 كما ورد عند ابن إسحاق من مرسل عبد الله بن أبي بكر (تاريخ الطبري 2/ 278) وفي سيرة ابن إسحاق من دون إسناد (سيرة ابن هشام 1/ 180). (¬2) الحاكم: المستدرك 2/ 615 - 616. (¬3) الذهبي: تلخيص المستدرك 2/ 615 - 616. (¬4) الذهبي: السيرة /28. (¬5) الذهبي: ميزان الاعتدال 2/ 581.

يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يَعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نرَ النبي صلى الله عليه وسلم ذكَّر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش، ولا حكته أولئك الأشياخ مع توافر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله عليه وسلم -حسٌّ من النبوَّة، ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولًا بغار حراء وأتى خديجة خائفًا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه (¬1) صلى الله عليه وسلم- وأيضًا فلو أثَّر هذا الخوف في أبي طالب ورده كيف كانت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة؟ وفي الحديث ألفاظ منكرة تشبه ألفاظ الطرقيَّة، مع أن ابن عائذ قد روى معناه في مغازيه دون قوله: "وبعث معه أبو بكر بلالًا .. إلى آخره". فقال حدثنا الوليد بن مسلم أخبرني أبو داؤد سليمان بن موسى فذكره بمعناه (¬2). وإنما سقت كلام الذهبي بتمامه لأنه أعلم من انتقد هذه الرواية، فضلًا عما يكشفه كلامه من عناية بالغة بنقد المتون وعدم الاقتصار على نقد الأسانيد -كما يتهم البعض المحدثين- وكان ابن سيد الناس (ت 734 هـ) قد تعقب رواية الترمذي ونبّه على ما في متنها من نكارة، لكنه حصر النكارة في إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا الذي ورد في آخر الرواية (¬3). ولعل الحافظ الذهبي (ت748 هـ) استفاد منه في نقده لمتن الرواية، وكذلك فإن ابن القيِّم (ت 751 هـ) أفاد منه فيما يبدو حين بيَّن أن ذكر بلال في الرواية خطأ فاحش (¬4). بل يمكن اعتبار ابن إسحاق أول من شكك بالرواية باستعماله صيغة التمريض (يزعمون) ثلاث مرات!! ¬

_ (¬1) راجع هذه المسألة ص 118. (¬2) السيرة النبوية للذهبي 28. (¬3) عيون الأثر 1/ 43. (¬4) ابن القيم: زاد المعاد 1/ 17.

وقال الحافظ ابن حجر بعد أن نقل توثيق النقاد لقراد: "وله عند الترمذي حديث من رواية أبي موسى الأشعري فيه ألفاظ منكرة" (¬1). وقال في التعقيب على ذكر أبي بكر وبلال "بأن هذه اللفظة مدرجة في هذا الحديث مقتطعة من حديث آخر .. وفي الجملة هي وهم من أحد رواته" (¬2). ومن هذا العرض يتبين أن نقد الأئمة لهذه الرواية ينصب على المتن، وخاصة الفقرة الأخيرة من الرواية التي تذكر أبا بكر وبلالًا. وقد بين الألباني أن الجزري صحح الإِسناد وقال: "وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ" وعقب الألباني بذكر ما ورد في رواية البزار "وأرسل معه عمه رجلًا" مما جعل احتمال التصحيف في عبارة حديث الترمذي قويًا بين "رجلًا" و"بلال" (¬3). لكن تبقى صعوبةُ تصحيف "أبي بكر" إلى "عمه" وعلى أية حال فإن وجود النكارة في الفقرة الأخيرة لا يعني ضعف سائر الرواية. ما دام السند صحيحًا، وقول الذهبي في قراد "له مناكير" لا يؤثر في توثيقه لأن الثقة قد تقع في روايته المناكير، ويحتمل منه ذلك إذا لم يُكثر منها، وأما توسع الذهبي في رد سائر الرواية لمجرد احتمالات قابلة للنقاش، ولا تصلح أدلة للطعن في سائر الرواية فلا مبرر له. ويمكن أن تطمئن النفس إلى إثبات سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى بُصرى، وتحذير الراهب بحيرا لعمه من يهود والروم بالاعتماد على رواية الترمذي، والاستئناس بالروايات الضعيفة الأخرى مثل رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (¬4) (ت135 هـ) وهو من التابعين المعنيين بالسيرة ولكن إسناد ابن إسحاق هذا معضل ضعيف رغم اعتماد معظم المؤلفين ¬

_ (¬1) هدى الساري/ 418. (¬2) ابن حجر: الإصابة 1/ 177. (¬3) الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة ص 66 - 67. (¬4) الطبري: تاريخ 2/ 277 وانظر مغازي ابن إسحاق 52 بدون إسناد.

على هذه الرواية في قصة بحيرا (¬1). وكذلك رواية أبي مِجلز لاحق بن حميد (ت106 هـ) بإسناد صحيح إليه لكنه مرسل (¬2). وكذلك مرسل الزهري (¬3) وكذلك فإن ثمة روايتين من طريق الواقدي أوردهما ابن سعد وأبو نعيم الأصبهاني (¬4). ومثل الواقدي يُستأنس بمرواياته إذا لم يخالف وإن كانت مرواياته لا تنهض للاحتجاج، بل ولا يعتبر بها في تقوية الضعيف عند علماء الحديث. وقد حاول بعض المستشرقين أن يبني على هذه القصة اتهامات فيها مجازفة علمية حيث زعموا أن النبي تلقى علم التوراة عن بحيرا (¬5) إذ كيف يعقل أن يتلقى النبي في سن الثانية عشرة علم التوراة في ساعة الطعام التي التقى خلالها ببحيرا، وهو أمي لا يحسن القراءة والكتابة؟! فضلًا عن حاجز اللغة إذ لم يكن قد وجد في ذلك الوقت توراة ولا إنجيل باللغة العربية (¬6). وإذا كان المقصود رد أصول الإسلام إلى التوراة، فأين أثر تعاليم التوراة تلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وما بين لقائه ببحيرا وبعثته ثمانية وعشرون سنة!! أما بالنسبة لمعلوماتنا عن بحيرا فإن المصادر لا تكاد تتفق على شيء بشأنه، بل هي متضاربة في اسمه فمرة جرجيس وأخرى جرجس وثالثة سرجيس ورابعة سرجس (¬7). ومرة أنه مشتق من الآرمية معناه المنتخب، وأخرى من السريانية ¬

_ (¬1) الطبري: تاريخ 2/ 278. وابن كثير: البداية والنهاية 2/ 266. وأبو نعيم: دلائل النبوة 126 والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 24. وابن الأثير: الكامل 2/ 23. (¬2) الذهبي: السيرة النبوية 29. (¬3) أشار إليه الذهبي: السيرة النبوية 29. (¬4) طبقات ابن سعد 1/ 120 واعتمد عليه ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/ 22، 23. والسيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 141. (¬5) غوستاف لوبون: حضارة العرب 102 ومنتكري واط: محمد في مكة 75. (¬6) دراز: مداخل إلى القرآن الكريم 135. (¬7) الزرقاني: شرح المواهب اللدنية 1/ 194 والسهيلي: الروض الأنف 1/ 118 والمسعودي: مروج الذهب 2/ 75 ودائرة المعارف الإسلامية 2/ 397.

شهوده حلف المطيبين

معناه العالم المتبحر (¬1). ومرة ينسب لقبيلة عبد القيس فهو عبقسي (¬2). ومرة هو نصراني (¬3) وأخرى يهودي (¬4). شهوده حلف المطيبين: ذهبت رواية الواقدي وابن إسحاق - بدون إسناد - إلى شهوده صلى الله عليه وسلم حرب الفجار بين قريش وكنانة من ناحية وقيس وعيلان من ناحية أخرى وهي حرب في إطار الأعراف والأحلاف الجاهلية، ولم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدها، ولكن ثبت أنه أخبر عن شهوده حلف المطيبين وأثنى عليهم قائلاً: "شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه (¬5) ". وحلف المطيبين كان بين بني هاشم وبني أمية وبني زهرة وبني مخزوم (¬6).وكان الحلف في دار عبد الله بن جدعان، وهو تحالف على التناصر والأخذ للمظلوم ¬

_ (¬1) دائرة المعارف الإسلامية 2/ 397 ودائرة المعارف للبستاني 5/ 218. (¬2) المسعودي: مروج الذهب 1/ 75. (¬3) ابن إسحاق: سيرة 52. (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 31 ونسبه للزهري. (¬5) أخرجه أحمد في مسنده 1/ 190 - 193 والبخاري: الأدب المفرد رقم 567 (ط. الحوت) وابن المقريء: المعجم 24 أبإسناد حسن. والحاكم: المستدرك 2/ 219 - 220 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ثم صححه من المعاصرين الألباني (حاشية فقه السيرة 75. وله شاهد حسن من حديث أبي هريرة (موارد الظمآن 504 رقم 2063 ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 38 وراجع الألباني: السلسلة الصحيحة 4/ 524) وشاهد آخر يصلح للاعتبار من حديث ابن عباس (الطبراني: المعجم الكبير 11/ 293). وشاهد آخر بسند حسن لكنه مرسل طلحة بن عبد الله بن عوف (سيرة ابن هشام 1/ 134 وانظر البيهقي: السنن الكبرى 6/ 367). (¬6) البيهقي: السنن الكبرى 6/ 366 وقال: لا أدري هذا التفسير من قول أبي هريرة أم من دونه أما ابن إسحاق فيذكر أنهم بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تميم (سيرة ابن هشام 1/ 133). وأنظر تفاصيل حلف المطيبين في المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 62 - 63.

زواجه من خديجة

من الظالم ورد الفضول على أهلها، وقد سمى الحلف بحلف الفضول. وإنما ورد في الحديث باسم حلف المطيبين لأن العشائر التي عقدت حلف المطيبين هي التي عقدت حلف الفضول، وحلف المطيبين جرى قديماً بعد وفاة قصي وتنازع بني عبد مناف مع بني عبد الدار على الرفادة والسقاية بمكة (¬1). ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صرَّح في بعض هذه النصوص بأنه لم يشهد للمشركين سوى حلف واحد. ثم أن حلف المطيبين القديم لا يحمل من معاني الانتصار للعدالة مثل حلف الفضول الذي شارك فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومذاك في العشرين من عمره (¬2). ولا شك أن العدل قيمة مطلقة وليست نسبية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين، فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة بها حتى لو صدرت من أهل الجاهلية. زواجه من خديجة: تشير روايات ضعيفة - بل معظمها واه - إلى تفاصيل تتعلق بزواج الرسول من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وهي تحدد بداية التعارف بينهما عن طريق عمل الرسول صلى الله عليه وسلم في تجارة خديجة، التي كانت ثرية تضارب بأموالها وقد ذهب بتجارتها إلى جرش مرتين (¬3) - قرب خميس مشيط (¬4) وكانت تابعة لليمن ¬

_ (¬1) البيهقي: السنن الكبرى 6/ 367 وانظر المعارف لابن قتيبة 604. (¬2) ذكر ذلك في تاريخ سنة عندما وقعت حرب الفجار بين كنانة (ومعها قريش) وقيس عيلان وكان حلف الفضول منصرف قريش من الفجار (سيرة ابن هشام 1/ 186وانظر الذهبي: السيرة النبوية 30). (¬3) مستدرك الحاكم 3/ 182 وصححه وأقره الذهبي، وفيه تدليس أبي الزبير وقد عنعن فالسند ضعيف. (¬4) معجم المعالم الجغرافية في السيرة 81 - 82.

- أو حباشة - سوق بتهامة من نواحي مكة (¬1) - أو الشام (¬2) فربح بتجارتها، وحكى لها غلامها ميسرة الذي صحبه عن أخلاقه وطباعه، فأعجبت به، وقد خطبها لأبيها خويلد بن أسد (¬3) فزوجه منها، ويذهب ابن إسحاق إلى أن خديجة كانت في الثامنة والعشرين من العمر (¬4)، في حين تذهب رواية الواقدي إلى أنها كانت في الأربعين (¬5)، وقد أنجبت خديجة من رسول الله ذكرين وأربع إناث مما يرجح رواية ابن إسحاق، فالغالب أن المرأة تبلغ سن اليأس من الإنجاب قبل الخمسين. ورغم أن هذه المعلومات لم تثبت حديثيا إلا أنها مشتهرة عند الإخباريين. وقد سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت خديجة، ففيه تزوج، وولدت فيه خديجة أولادها جميعاً وفيه توفيت رضي الله عنها، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ساكناً حتى خرج زمن الهجرة فأخذه عقيل بن أبي طالب فيما أخذ (¬6). ¬

_ (¬1) عبد الرزاق: المصنف 5/ 319 - 321 من مرسل الزهري وانظر معجم ما استعجم للبكري 2/ 418. (¬2) ابن إسحاق: سيرة 59 بدون إسناد. وابن سعد: الطبقات 1/ 155 - 157 من رواية الواقدي، وهو متروك ولا حاجة بعد سقوط السند من مناقشة ما في المتن من مبالغات كقول الراهب بحيرى: "ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي"، وكقوله: "وهو آخر الأنبياء"!! وأن خديجة رأته حين دخل مكة "وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه فأرته نساءها فعجبن لذلك" وراجع مناقشة متون وأسانيد هذه الروايات في كتاب أمهات المؤمنين، دراسة حديثية للدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف وهي أطروحة دكتوراه كتبت بإشرافي وحبذا لو نشرت. (¬3) هذا قول الزهري (المغازي النبوية للزهري 42) وابن إسحاق (سيرة ابن هشام 1/ 203) أما الواقدي فيرى أن عمها عمرو بن أسد زوجها لأن خويلد بن أسد مات قبل الفجار (طبقات ابن سعد 1/ 132 - 133) ولكن أخباريين آخرين يذكرون أن خويلد بن أسد كان زعيم قومه في حرب الفجار (البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 102 ومحمد بن حبيب: المحبر 17). ويؤيد ابن حجر أن أباها زوجها (فتح الباري 7/ 134). (¬4) مستدرك الحاكم 3/ 182 من كلام ابن إسحاق دون إسناد. (¬5) طبقات ابن سعد 8/ 17. (¬6) الفاكهي: أخبار مكة 4/ 7.

صيانة الله له قبل البعثة (إرهاصات البعثة)

ولا يوجد من الروايات الصحيحة ما يوضح هذه الأحداث. ولكن الثابت في الروايات الصحيحة زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله عنها. وثناء النبي عليها وإظهاره محبتها وتأثره عند ذكرها بعد وفاتها، ومواقفها في تطمينه عند نزول الوحي عليه ومسارعتها للإيمان به وهي مواقف مشهورة تدل على مكانة خديجة (رضي الله عنها) في الإسلام (¬1). ومما اتفق عليه أهل العلم أن خديجة أولى أزواجه صلى الله عليه وسلم (¬2). وقد أنجبت منه ذكرين هما القاسم وعبد الله (الملقب بالطيب والطاهر)، وأربع بنات هن زينب وأم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية (¬3). فأما القاسم وعبد الله فماتا قبل الإسلام، وأدركت البنات الإسلام فأسلمن. وقد توفيت خديجة قبل هجرة النبي إلى المدينة بثلاث سنين (¬4). وذلك قبل حادثة الإسراء والمعراج (¬5). صيانة الله له قبل البعثة (إرهاصات البعثة): أجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن الكفر قبل الوحي وبعده، وأما تعمد الكبائر فهو معصوم عنها بعد الوحي، وأما الصغائر فتجوز عمداً عند الجمهور بعد الوحي ويستفاد من كلامهم عدم امتناع صدور الكبائر عنه قبل الوحي (¬6)، وهذه التقريرات العقدية يتجاوزها استقراء الروايات التاريخية التي تؤكد العصمة من الكفر والكبائر معاً قبل الوحي. فقد وردت روايات ضعيفة تفيد أن الله تعالى عصمه من سماع ومشاهدة الأعراس في صباه يوم أن كان يرعى ¬

_ (¬1) راجع في فضلها صحيح البخاري 1/ 3 بدء الوحي، 4/ 230، 231، 6/ 158 وصحيح مسلم 1/ 141كتاب الإيمان، باب بدء الوحي 4/ 1886، 1888، 1889. (¬2) ابن قدامة: أنساب القرشيين 51 وابن حجر: فتح الباري 7/ 134. (¬3) الطبراني: المعجم الكبير 22/ 397 ومصعب الزبيري: نسب قريش 231. (¬4) صحيح البخاري 7/ 224 كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي عائشة من رواية عروة، وظاهره الإرسال لكنه يحمل على أنه أخذ الرواية عن عائشة (فتح الباري 7/ 224). (¬5) الفسوي: المعرفة والتاريخ 3/ 255 من مرسل عروة. (¬6) السفاريني: لوامع الأنوار البهية 2/ 305.

الغنم (¬1)، كما وردت روايات ضعيفة تفيد أن الله تعالى عصمه من العري وهو فتى ينقل مع أقرانه حجارة يلعبون بها وقد رفعوا أزرهم، فأمر أن يشد عليه إزاره (¬2). ولكن قد ثبت أنه نهي عن رفع إزاره وهو رجل لما جددت قريش بناء الكعبة، فقد اشترك مع عمه العباس في نقل الحجارة، فاقترح عليه العباس أن يرفع إزاره ويجعله على رقبته ليقيه أثر الحجارة ما دام بعيداً عن الناس فلما فعل سقط على الأرض مغشياً عليه، فلما أفاق طلب أن يشدوا عليه إزاره (¬3). وكان عمره حين تجديد بناء الكعبة خمساً وثلاثين سنة (¬4). ولم يكن التعري مستنكراً عند العرب في الجاهلية، فقد كانوا يطوفون بالبيت العتيق عراة إلا الحمس (وهم قريش)، كما أن التعري في الطواف استمر حتى منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمره الذي بلَّغه أبو بكر الصديق في حج سنة 9 هـ عندما أعلن (ألَّا يحج بعد العام مشرك، ¬

_ (¬1) ابن إسحاق: السير والمغازي 79 - 80 بسند فيه محمد بن عبد قيس بن مخرمة انفرد ابن حبان بتوثيقه، وقال ابن حجر عنه: مقبول، فيحتاج إلى متابعة. (انظر حاشية فقه السيرة للغزالي 72 - 73 من تعليقات الألباني). وانظر رواية أخرى في إسنادها مجاهيل ساقها الطبراني في معاجمه (المعجم الصغير 2/ 138 رقم 921 ومجمع البحرين 2 / ل 25 أ). (¬2) ابن إسحاق: السير والمغازي 78 وفي سنده مبهم. (¬3) أخرجه الشيخان (فتح الباري 1/ 474 وصحيح مسلم بشرح النووي 4/ 33 - 34) من حديث جابر بن عبد الله. وراجع رواية العباس نفسه في السير والمغازي 79 لابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عليه وإسناده فيه سماك بن حرب عن عكرمة وروايته عنه مضطربة مع تغير سماك بأخرة، ولكن تابعه الحكم بن أبان كما قال ابن حجر (الفتح 3/ 441) فالسند حسن لغيره. وقد أوضحت هذه الرواية أن تعري العباس والرسول كان بعيداً عن الناس. وسمّت رواية مسند أحمد 5/ 454. بسند صحيح أن النبي كان ينقل الحجارة من أجياد وأنه وضع النمرة على عاتقه لأنها ضاقت عليه (راجع حول تصحيحه مستدرك الحاكم 4/ 179 والسيرة النبوية للذهبي 40 لكن ابن حجر يرى أن عبد الله بن عثمان بن خيثم أحد رجال السند صدوق فقط - تقريب 313 - وهو من رجال البخاري ومسلم). (¬4) عبد الرزاق: المصنف 5/ 102 - 104 بإسناد صحيح كما حكم عليه الذهبي (السيرة النبوية 39) وسيرة ابن هشام 1/ 209 - 214 من كلام ابن إسحاق بدون إسناد.

ولا يطوف بالبيت عريان) (¬1). لذلك علق ابن حجر على الحديث السابق بقوله: "وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان مصوناً عما يستقبح قبل البعثة وبعدها" (¬2). إن حادثة تجديد بناء الكعبة قد كشفت عن مكانة النبي الأدبية في الوسط القرشي، فقد اختلفت قريش فيمن يضع الحجر الأسود مكانه، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل من باب بنبي شيبة فدخل رسول الله، فأمر بثوب فأخذ الحجر ووضعه في وسطه، ثم أمرهم برفعه جميعا ثم أخذه فوضعه مكانه (¬3). وقد ذكر عبد الله بن السائب المخزومي - وهو شاهد عيان اشترك في بناء الكعبة يومئذ - بأن قريشاً قالت لما دخل النبي من باب بني شيبة "أتاكم الأمين" (¬4). مما يبرز مكانته في قومه قبيل البعثة. ومما خالف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً الوقوف بعرفة، وكانت قريش تفيض من مزدلفة على حين يفيض بقية الناس من عرفة، وتعلل قريش ذلك بأنها أهل الحرم، فليس لها أن تخرج من الحرمة، ولا تعظم غيرها كما تعظمها (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري: صحيح 2/ 164 كتاب الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان 2/ 175 كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة. (¬2) فتح الباري 1/ 475. (¬3) أحمد: المسند 3/ 425 والحاكم: المستدرك 3/ 458 من حديث عبد الله بن السائب المخزومي وصححه وأقره الذهبي، لكن مداره على هلال بن خباب وهو صدوق تغير بأخرة ولا يعلم إن كان الراويان عنه هنا وهما عباد وأبو زيد سمعا منه قبل تغيره أم بعده (تهذيب التهذيب 11/ 78 والكواكب النيرات 434) وله شاهد من حديث علي رضي الله عنه (الطيالسي: مسند 18 والحاكم: المستدرك 1/ 458 - 459 وصححه الحاكم على شرط مسلم وأقره الذهبي، مع أن خالد بن عرعرة - في إسناده - ليس من رجال مسلم، بل وثقه العجلي وابن حبان وهما متساهلان، وثمة علة أخرى في إسناده هي أن سماك بن حرب في سنده وقد تغيره بأخرة، ورغم تعدد الرواة عنه فإنهم جميعاً لم يذكروا فيمن رووا عنه قبل الاختلاط). والحديث من رواية عبد الله بن السائب على يرقى إلى الحسن لغيره. وله شواهد مرسلة تقويه (مصنف عبد الرزاق 5/ 98 - 100 عن مجاهد، 100 - 101 عن الزهري). (¬4) مسند أحمد 3/ 425 والحاكم: المستدرك 3/ 458. (¬5) سيرة ابن هشام 1/ 216.

أما رسول الله فكان يقف بعرفة، فلما رآه جبير بن مطعم واقفاً بعرفة قال: هذا والله من الحُمس فما شأنه هاهنا (¬1)!! وهذا من توفيق الله لرسوله قبل البعثة، فكان يستمسك بإرث إبراهيم وإسماعيل في حجهم ومناكحهم وبيوعهم (¬2). وكان يطوف بالبيت العتيق، وقد طاف معه مولاه زيد بن حارثة مرة، فلمس زيد بعض الأصنام فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ثم عاد زيد للمسها ليتأكد من الأمر، فنهاه ثانية فانتهي حتى كانت البعثة. وقد حلف زيد بن حارثة بأن رسول الله ما مس منها صنماً حتى أكرمه الله بالوحي (¬3). وقد التقى النبي بزيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بَلْدح قبل البعثة، فقُدمت للنبي سفرة فأبى زيد أن يأكل منه لأنه خشى أن يكون الطعام مما ذبح على النصب أو لم يذكر اسم الله عليه (¬4). وقد بين الشُّرَّاح بهذه المناسبة أن النبي ما كان يأكل ما يُذبح على النصب. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 7/ 175 وصحيح مسلم 2/ 894. (¬2) البيهقي: دلائل 2/ 37. (¬3) الطبراني: المعجم الكبير 5/ 88 والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 43 والحاكم: المستدرك 3/ 216 - 217 وصححه وأقره الذهبي لكن الذهبي عاد فحسَّنه فقط في تاريخ الإسلام (السيرة النبوية للذهبي 42) وهو صحيح لأن في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة صدوق له أوهام (التقريب 499). (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 142، 9/ 630).

بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم

بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم: لقد بشر عيسى عليه السلام قومه بشارة صريحة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (¬1). وقد وقع التحريف في نسخ التوراة والإنجيل وحذف منها التصريح باسم محمد صلى الله عليه وسلم إلا توراة السامرة وإنجيل برنابا الذي كان موجوداً قبل الإسلام وحرمَّت الكنيسة تداوله في آخر القرن الخامس الميلادي، وقد أيدته المخطوطات التي عثر عليها في منطقة البحر الميت حديثاً، فقد جاءت في إنجيل برنابا العبارات المصرحة باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما جاء في الإصحاح الحادي والأربعين منه ونص العبارة (29 فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس 30 فلما التفت آدم رأى مكتوباً فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله). وفي موضع آخر منه هذه العبارة (163: 7 أجاب التلاميذ يا معلم من عسى أن يكون ذلك الرجل الذي تتكلم عنه الذي سيأتي إلى العالم، أجاب يسوع بابتهاج قلب: إنه محمد رسول الله). وتتكرر مثل هذه البشارات في إنجيل برنابا في مواضع كثيرة -وهو مطبوع-. وأما إنجيل لوقا فقد جاء فيه (2: 14) (الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد)، ولكن مترجميه إلى العربية لم يتوفقوا إلى الترجمة الصحيحة عن السريانية كما حقق ذلك الأستاذ عبد الأحد داؤد. وجاء في إنجيل يوحنا في الإصحاح السادس عشر: (إن لم أنطلق لا يأتيكم الفار قليط) والفار قليط هو الحامد أو الحماد أو أحمد ونحوها (¬2). ¬

_ (¬1) الصف 6. (¬2) انظر حجازي: التوارة السامرية، وفاضل صالح السامرائي: نبوة محمد بين الشك واليقين.

وأما تبشير التوراة والإنجيل بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وعلاماته فقد بين القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (¬1). قال ابن تيمية: "والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم" (¬2). ثم قال: "ثم العلم بأن الأنبياء قبله بَشَّروا به يُعلم من وجوه: أحدهما: ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب. الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب ممن أسلم وممن لم يسلم بما وجدوه من ذكره بها. وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه وأنه رسول الله وأنه موجود عندهم، وكانوا ينتظرونه، وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام حتى آمن الأنصار به وبايعوه. وقد أخبر الله بذلك عن أهل الكتاب في القرآن قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬3). ومثل ما تواتر عن إخبار النصارى بوجوده في كتبهم مثل إخبار هرقل ملك الروم والمقوقس ملك مصر والنجاشي ملك الحبشة. والوجه الثالث: نفس إخباره بذلك في القرآن مرة بعد مرة، واستشهاده بأهل الكتاب، وإخباره بأنه مذكور في كتبهم مما يدل العاقل على أنه كان موجوداً ¬

_ (¬1) الأعراف 157. (¬2) ابن تيمية: الجواب الصحيح 1/ 340. (¬3) البقرة 89.

في كتبهم .. فلو لم يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مكتوب عندهم بل علم انتفاء ذلك لامتنع أن يخبر بذلك بمرة بعد مرة، ويظهر ذلك لموافقيه ومخالفيه وأوليائه وأعدائه (¬1). ومن الثابت تأريخياً أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون أي يطلبون من الله النصر على أعدائهم بالنبي المبعوث الذي يجدون صفته عندهم في التوراة. وقد نصت التوراة المتداولة (ط. رجارد واطس. بلندن) على ظهور النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ونصها (جاء الرب من سيناء وأشرق لنا من ساعير استعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سِنَةُ نار). ومعنى إن الله استعلن من جبل فاران أي من جبل مكة وهو جبل حراء، وكان أصحابه ألوفا من الأطهار {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (¬2). وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله "قد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح نبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسمه، ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في أخرى" (¬3). والحق أن نسخ الكتب السماوية التي كانت متداولة بين العلماء من أهل الكتاب خلال القرون الثمانية تعرضت لحذف اسم النبي صلى الله عليه وسلم، وحذف النصوص الواضحة الدلالة على صفاته كما يتضح ذلك من النقول التي أوردها العلماء المسلمون منها في كتبهم مثل قتيبة والماوردي والقرافي وابن تيمية وابن القيم، مما يشير إلى قيامهم بمحو ذلك من كتبهم على أثر المجادلات الدينية واحتجاج المسلمين بها عليهم. ومع ذلك فقد بقيت نصوص ذات دلالة صريحة مثل ما جاء في سفر اشعيا في الإصحاح الحادي والعشرين ونصه: (13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين،14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبره، 15 فإنهم من أمام ¬

_ (¬1) ابن تيمية: الجواب الصحيح 1/ 340. (¬2) التوبة 108. (¬3) ابن تيمية: الجواب الصحيح 2/ 27.

بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته

السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدود ومن أمام شدة الحرب،16 فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفني كل مجد قيدار وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم). وفيها تصريح بظهور الوحي في بلاد العرب والهجرة النبوية إلى المدينة المنورة بعد اجتماع المشركين على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انتصاره على أبطال بني قيدار وهم العرب في موقعة بدر.- لأن قيدار هو ابن إسماعيل جد العرب -. ولا شك أن الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا تتوقف على هذه البشارات، فدلالات القرآن من الإعجاز البلاغي والتشريع الباهر، ودلالات السنة النبوية الصحيحة على وقوع المعجزات الحسية ومشاهدة الألوف من المسلمين لها، ودلالات سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في إيمانه ويقينه، وعبادته ومجاهدته، ودعوته وجهاده، وعدله وصدقه، وإيمان المقربين إليه العارفين به مثل زوجه خديجة وصديقه أبي بكر ومولاه زيد بن حارثة كل ذلك يقطع بصدق البعثة المحمدية .. وكفى بالقرآن معجزة ودلالة على اتصال رسالات الأنبياء واكتمالها برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكون حافزاً لإيمان أهل الكتاب وهم يقرأون التبشير ببعثته صلى الله عليه وسلم في كتبهم المقدسة تصريحاً باسمه أو وصفاً لحاله وصفاته مما لا ينطبق على سواه. بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته: لقد أخبر سلمان الفارسي في قصة إسلامه الطويلة أن راهب النصارى في عمورية عندما حضرته الوفاة طلب منه سلمان أن يوصيه، فقال الراهب: أي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه قد أظلك زمانه".

ثم قصَّ سلمان خبر قدومه إلى المدينة واسترقاقه، ولقائه برسول الله حين الهجرة، وإهدائه له طعاماً على أنه صدقة فلم يأكل منه الرسول، ثم إهدائه له طعاماً على أنه هدية وأكل منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه، وإسلامه على أثر ذلك (¬1). وكذلك فإن يهود المدينة كانوا يعرفون أن زمان بعثة النبي قد أقترب، وكانوا يزعمون أنه منهم، ويتوعدون به العرب، وقد بيَّن الله تعالى أنهم يعرفونه بصفاته التي ذكرت في كتبهم كما يعرفون أبناءهم، وإنما أنكروا نبوته بعد ظهروه لما تبين لهم أنه من العرب فجحدوا نبوته. قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬2). وقد قال رجال من الأنصار: "إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه، لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم" (¬3). ¬

_ (¬1) إسناده حسن (ابن إسحاق: السيرة والمغازي 87 - 91) ومسند أحمد 5/ 441 - 444 وطبقات ابن سعد 4/ 75 - 80 ومستدرك الحاكم 2/ 16 وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، مع أن مسلماً لم يخرج لابن إسحاق إلا في المتابعات (ابن حجر: تهذيب التهذيب 9/ 45). (¬2) البقرة 89 وعن سبب النزول راجع سيرة ابن هشام 1/ 195 وابن إسحاق: السير والمغازي 84 وتفسير الطبري 2/ 75 - 76 وإسناد ابن إسحاق متصل صرح فيه بالتحديث، وصرح عاصم بن عمر بالتحديث من رواية يونس بن بكير وحكم له أحمد شاكر بالرفع لأنه في وقائع في عهد النبوة تبين سبب نزول آية، وعاصم تابعي ثقة فالراجح أنه يروي عن الصحابة من قومه الأنصار (تفسير الطبري - تحقيق أحمد شاكر - 2/ 333 بالحاشية). وقد ساق الطبري له شواهد ضعيفة مرسلة (تفسير 1/ 411). (¬3) سيرة ابن هشام 1/ 231 بإسناد حسن وأما روايات الواقدي في قصة تُبَّع وسفر باطا فواهية (طبقات ابن سعد 1/ 158 - 159) وكذلك خبر طلوع كوكب أحمد (الدلائل لابن نعيم 1/ 88).

إرهاصات نبوته

وقال هرقل ملك الروم عندما استلم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم" (¬1). إرهاصات نبوته: ومن ارهاصات نبوته تسليم الحجر عليه قبل النبوة كما أخبر (¬2). ومنها الرؤيا الصادقة وهي أول ما بدئ به من الوحي فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (¬3). وقد حبب إليه العزلة والتحنث (التعبد) فكان يعتزل قومه في غار حراء، وهو في جبل حراء، ويطل الغار على الكعبة (¬4)، ويحتاج صعوده إلى جهد ويستغرق الصعود نصف ساعة، فكان يمكث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، حتى فجأه الحق وهو في غاز حراء (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1/ 6 بدء الوحي، وصحيح مسلم 3/ 1359 كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي إلى هرقل. (¬2) صحيح مسلم 4/ 1782 وأما حديث تسليم الجبل والشجر عليه في نسن الترمذي 5/ 593 ففي إسناده عباد بن أبي يزيد مجهول (تقريب 291) والوليد بن عبد الله بن أبي ثور ضعيف (تقريب 582). (¬3) صحيح البخاري 1/ 3 وصحيح مسلم 1/ 139. (¬4) قال ابن أبي جمرة: "الحكمة في تخصيصه بالتخلي فيه أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت". وقال ابن حجر: "وكأنه مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الاعتكاف" (فتح الباري 12/ 355) وقد ذكر ابن إسحاق "أن ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية" (سيرة ابن هشام 1/ 253) وقد ذكر ابن حجر - دون أن يذكر مصدراً - أن عبد المطلب كان يخلو في غار حراء (فتح الباري 12/ 355) فالتحنث من بقايا الإبراهيمية. (¬5) صحيح البخاري 1/ 3 وصحيح مسلم 1/ 140.

البعثة المحمدية

البعثة المحمدية: بعث رسول الله وعمره أربعون سنة (¬1). وقد شذت رواية تفيد أن عمره ثلاث وأربعون (¬2). وقد سعى البيهقي للتوفيق بين القولين بالاعتماد على مرسل الشعبي: "نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته اسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن على لسانه عشرين [سنة] " (¬3). ولكن هذا المرسل لا يصح للاحتجاج به لإرساله، وتفرده، ومثل هذا الخبر لابد أن يشتهر ويعرف في جيل الصحابة، ثم إن مفاجأة الوحي للنبي تدل على خلافه، مما يؤيد رواية الصحيحين بأن البعثة المحمدية بدأت وعمره أربعون سنة. وثبت أن الوحي نزل عليه أول ما نزل يوم الأثنين (¬4). والمشهور أن نزول القرآن بدأ في شهر رمضان (¬5). والوحي المحمدي نظير الوحي الإلهي إلى الأنبياء السابقين قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 564، 7/ 162، 227، 10/ 356) وصحيح مسلم 4/ 1824، 1827. وسيرة ابن هشام 1/ 251، 252. (¬2) الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 292، 384 وانظر كلام النووي وابن حجر عن شذوذها رغم أن رجال السند ثقات وأن راويها هشام بن حسان هو الذي روى رواية الصحيحين (النووي: صحيح مسلم بشرحه 15/ 103 وابن حجر: فتح الباري 7/ 230). وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى القول بأن نزول القرآن عليه وهو ابن ثلاث وأربعين (مصنف ابن أبي شيبة 14/ 290) لكنه - وإن كان مرسلاً قوياً - مخالف للصحيح كما أن ابن عبد البر حكى عن سعيد أنه ممن قال بأن النبوة كانت سنة أربعين (الاستيعاب بحاشية الإصابة 1/ 14). (¬3) البيهقي: دلائل 2/ 132 وليس فيه (سنة) وأضفتها للتوضيح، وانظر كلام ابن حجر (فتح الباري 1/ 27) وكلام ابن كثير نقلا عن أبي شامة (السيرة النبوية 1/ 388 - 389). (¬4) مسلم: الصحيح 8/ 51، 52 وأبو داؤد: السننن 2/ 808 - 809 (¬5) البقرة 185 وسيرة ابن هشام 1/ 254، 258، والسيرة النبوية لابن كثير 1/ 392. (¬6) النساء 163.

الوحي

الوحي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء، ولا نعلم كيف كان تعبده في حراء قبل البعثة، ولا نعلم متى حبب إليه الخلاء بالغار على وجه التحديد، ولكن ذلك كان قبيل البعثة وبعد أن بدئ بالرؤيا الصادقة التي كانت تمهيداً للوحي، ولم تذكر المصادر ما هي موضوعات الرؤى، ولكنها كانت رؤى صالحة كما وصفتها الروايات الصحيحة، وكان التحنث في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليالي أخرى. وفي نهار يوم الإثنين من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء. قالت عائشة (رضي الله عنها)؛ "فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني (¬1). حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها ترجف بوادره (¬2). حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: ياخديجة مالي؟ وأخبرها الخبر. قال: قد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا ابشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي - وهو ابن عم خديجة أخو ابيها - وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمى، فقالت له خديجة: اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي ¬

_ (¬1) ضمني وعصرني (فتح الباري 1/ 24). (¬2) بوادره: جمع بادرة وهي لحمة بين المنكب والعنق.

أنزل على موسى، ياليتني فيها جذعاً أكون حيّاً حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجيَّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزَّرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدَّي له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غداً لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل، فقال له مثل ذلك" (¬1). وقد أوضح هذا الحديث أن (اقرأ) هي أول ما نزل من القرآن، وأن الرسول فوجئ بالوحي دون أن يتوقعه فراعه الموقف، كما يوضح الحديث موقف خديجة رضي الله عنها في تطمينه ومساعدته على معرفة كنه الحدث، كما يبين قدر معلومات ورقة عن الأنبياء وتنبهه للأخطار التي ستحدق بالنبي، لكن ورقة مات قبل تتابع الوحي، وقد انقطع الوحي مدة، ويوضح بلاغ الزهري الأزمة التي تعرض لها الرسول لانقطاع الوحي، وإنه كاد يتردَّى من شواهق الجبال، وأن جبريل عليه السلام كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله، ولكن بلاغ الزهري لا يصلح لإثبات الحادث لتعارضه مع عصمة النبي (¬2). ثم إنه مرسل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحيل، باب التعبير (8/ 67) ومواضع أخرى (انظر فتح الباري لابن حجر 12/ 351 - 352، 1/ 22، 8/ 715، 722 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي 1/ 139). (¬2) ساق البخاري الخبر بعد عبارة - فيما بلغنا - متخللة حديث بدء الوحي الذي رواه بسنده من طريق (معمر قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة) ولولا عبارة (فيما بلغنا) لصار خبر محاولة التردي من الشواهق صحيحاً، ولكن ابن حجر ذهب إلى أنه بلاغ مرسل وليس موصولاً من رواية عروة عن عائشة (فتح الباري 12/ 359 - 360) ومراسيل الزهري ضعيفة. وقد أورد الطبري الخبر من مرسل الزهري (تاريخ الطبري 2/ 305) ويدل صنيع الذهبي في سوق سند حديث بدء الوحي مع اقتصاره على متن خبر محاولة التردي من شواهق الجبال على أنه يرى وصل الحديث (السيرة النبوية للذهبي 64). كذلك وصله الطبري في تاريخه 2/ 298 - 299 من =

ضعيف. ولا يعلم على وجه التحديد كم دامت مدة انقطاع الوحي، ولكن يبدو أنها لم تدم طويلاً (¬1) حيث اطمأنت نفس الرسول وتهيأ لاستقباله فتتابع الوحي وكثر. وأول ما نزل بعد فتوره {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (¬2) وقد تكرر إبطاء الوحي في وقت آخر ليلتين أو ثلاثاً فقال المشركون: قد ودّع محمداً ربُّه، فأنزل الله عز وجل {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (¬3) وقد اختلط الأمر على بعض الرواة فحسبوا أنها نزلت عقب فترة الوحي الطويلة التي أعقبت نزول {اقْرَأْ} (¬4). ¬

_ = رواية النعمان بن راشد الجزري عن الزهري، والنعمان صدوق سيء الحفظ كما في تقريب التهذيب 564 وقد تفرد بزيادات ضعيفة في هذا الخبر وخاصة فيما يتعلق بأول ما نزل من القرآن بعد {اقْرَأْ}. ويذكر الألباني أن هذه الزيادة لها علتان، الأولى تفرد معمر بها دون يونس وعقيل فهي شاذة، الأخرى أنها مرسلة مفصلة ولم تأت من طريق موصولة يحتج بها ... وهي زيادة منكرة من حيث المعنى لأنه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم المعصوم أن يحاول قتل نفسه بالتردي من الجبل مهما كان الدافع له على ذلك. (الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة 41 وأحال أيضا على سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 4858). (¬1) ورد أنها كانت سنتين ونصف سنة (الروض الأنف للسهيلي 2/ 433 - 434) وورد عن ابن عباس أنها دامت أربعين يوماً. (شرح المواهب اللدنية 1/ 236). (¬2) متفق عليه (فتح الباري 8/ 678 - 679، 715، 1/ 27، 6/ 314) وصحيح مسلم 1/ 143. (¬3) صحيح مسلم 3/ 1422 وانظر تحديد المدة في صحيح البخاري. (فتح الباري 3/ 8، 701، 9/ 3). (¬4) ابن كثير: السيرة النبوية 1/ 413 - 414. وابن حجر: فتح الباري 8/ 711 وانظر بعض الروايات الضعيفة في تفسير الطبري 30/ 231 - 232 وسيرة ابن هشام 1/ 241 ط السقا وتاريخ الطبري 2/ 299 - 300 بسند حسن لكنه مرسل عبد الله بن شداد بن الهاد ولد على عهد النبي ولم يسمع منه، وهو مخالف للروايات الصحيحة.

وقد ذكر ابن إسحاق فترة ثالثة للوحي لكنها لا تصح (¬1). وقد وردت روايات ضعيفة أو واهية السند ومنكرة المتن تفيد أن جبريل علَّمَ الرسول الوضوء أو أن خديجة تحققت من كون الذي يراه الرسول ملاكاً وليس شيطانًا (¬2). أو أن وقوع شق الصدر تكرر معه في بدء الوحي (¬3). أو أن أول مجيىء جبريل إليه كان هو نائم بحراء (¬4)، أو أن أبا بكر هو الذي صحبه إلى ورقة (¬5). وهذا كله لا يثبت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة (¬6)، فكان جبينه يتفصَّدُ عَرَقاً في اليوم الشديد البرد، وكان وجهه يتغير ويكرب (¬7) وجسمه يثقل، يقول زيد بن ثابت: "فأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت علىّ حتى خفت أن ترضَّ فخذي" (¬8). وكان يركز ذهنه بشدة لحفظ القرآن، فيحرِّك به لسانه وشفتيه، فنزلت الآية {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (¬9) تخفيفاً عنه صلى الله عليه وسلم، كان شوقه إليه وحرصه عليه يدفعه إلى التعجل في تلقيه كما بينت ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 321 - 322 بلاغاً عن ابن عباس وتفسير الطبري 15/ 127 - 128 من طريق ابن إسحاق وفيه مبهم، وفيها أنه صلى الله عليه وسلم وعد المشركين بالإجابة عن أسئلتهم عن أصحاب الكهف والرجل الطواف والروح. ولم يستثن فتأخر عنه الوحي خمس عشرة ليلة. (¬2) راجع روايتي ابن إسحاق في سيرة ابن هشام 1/ 238 - 239 بسندين أولهما معضل وثانيهما مرسل، ورواية أبي نعيم في دلائل النبوة 1/ 283 - 284 بسند فيه النضر بن سلمة كذبه غير واحد (ميزان الاعتدال للذهبي 4/ 256 - 257). (¬3) مسند الطيالسي 215 - 216 بسند ضعيف فيه مبهم ومتنه منكر، ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 142 - 144 من مرسل الزهري ضعيف، والخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 93 بسند مرسل وفيه ابن لهيعة ضعيف. (¬4) ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 1/ 236 - 238 وتاريخ الطبري 2/ 300 - 301 من مرسل عبيد بن عمير بن قتادة الليثي. (¬5) مصنف ابن أبي شيبة 14/ 292 - 293 بسند فيه عنعنة أبي إسحاق السبيعي وهو مدلس، وفيه انقطاع فأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني ليس صحابياً. (¬6) صحيح مسلم 1/ 330. (¬7) صحيح مسلم 4/ 1817. (¬8) صحيح البخاري 5/ 182. (¬9) صحيح البخاري 6/ 76 وصحيح مسلم 1/ 330 والآية من سورة القيامة 16، 17.

ذلك الآية {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬1) وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فأجاب: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس - وهو أشده علي - فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول (¬2). وكان الوحي يأتيه في اليقظة كما تدل الأحاديث الصحيحة (¬3). لقد استغرق نزول الوحي ثلاثاً وعشرين سنة، منها ثلاثة عشر عاماً بمكة وهذا هو المشهور (¬4) وعشر سنين في المدينة وهو المتفق عليه (¬5). إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن الطبيعية، حيث تلَّقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله (القرآن) بواسطة الملاك جبريل (عليه السلام) وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج الذات المحمدية المتلقية له، دون أن يكون لرسول الله أي أثر في ¬

_ (¬1) طه 114. (¬2) صحيح البخاري 1/ 2، 3 وصحيح مسلم 4/ 1816، 1817. (¬3) صحيح البخاري 1/ 2، 3 وصحيح مسلم 4/ 1816، 1817 وقد ورد في مرسل عبيد بن عمير ومرسل الزهري أنه جاءه في المنام أولا ثم باليقظة (السيرة النبوية لابن كثير 1/ 387 وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/ 89) وهذه المراسيل واهية لا يثبت بها الخبر. (¬4) صحيح البخاري 4/ 238 وصحيح مسلم 4/ 1825، 1826 كلاهما عن ابن عباس ومستدرك الحاكم 3/ 2 بإسناده إلى علي رضي الله عنه وصححه ووافقه الذهبي ووردت روايات صحيحة أخرى عن ابن عباس أنه أقام بمكة بعد البعثة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وورد خمس عشرة سنة (صحيح البخاري 4/ 164، 165 وصحيح مسلم 4/ 1824، 1825، 1827) فإذا لاحظنا أن فتور الوحي دام قرابة ثلاث سنوات فربما يكون ابن عباس حذفها عندما قال عشر سنين. وقد رجح ابن حجر رواية ابن عباس أنها ثلاث عشرة سنة على روايته خمس عشرة سنة وقال: "إن إقامته بمكة ثلاث عشرة هو قول الجمهور وهو المشهور، ومن روى عنه ما يخالف ذلك جاء عنه المشهور، وهم ابن عباس وعائشة وأنس ثم نقل الرأي المشهور عن معاوية، وبه جزم ابن المسيب والشعبي ومجاهد، وقال أحمد: وهو الثبت عندنا. (فتح الباري 8/ 151). (¬5) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 89.

الصياغة والمعنى، بل تنحصر مهمته بحفظ الموحي وتبلغيه. وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه المحفوظة. وهو أسلوب مغاير تماماً لأسلوب القرآن، إن محاولة البعض تعليل اختلاف أسلوب القرآن عن أسلوب الحديث عن طريق علم النفس التحليلي بدعوى أن القرآن صدر من منطقة اللاشعور في حالة ضعف الوعي الخارجي ونشاط العقل الباطن، وأن الحديث صدر عن العقل الظاهر (¬1) تبدو متهافتة إذا تأملنا فيما صدر عن الحكماء والشعراء والبلغاء من آثار أدبية تتضح فيها الوحدة الأسلوبية رغم مرورهم بتجارب تأملية واستبطانية، وصار مبدأ الأسلوب أساساً لتحديد السرقات الأدبية إلى جانب سرقة المعاني، ولا شك أن الهروب من الاعتراف بالوحي هو الدافع إلى التفسيرات العديدة المتناقضة لظاهرة الوحي، والتي قدمها المستشرقون وأتباعهم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. إن ظاهرة الوحي ظلت تواجه المستشرقين فلا يتمكنون من إعطاء تفسير لها بل يقعون في الحيرة والتناقض ويلجأون إلى الاتهامات القديمة التي سبق أن قالها العرب الجاهليون في مكة عند نزول الإسلام مما رده القرآن. قال تعالى يحكي تلك الاتهامات {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وقال {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}. وفي القرن العشرين يقول المستشرقون إن الرسول صلى الله عليه وسلم تعلّم من ورقة (¬2) بن نوفل، ومرة يقولون من بحيرا الراهب، وأحياناً يرددون أنه تعلم من يهود مكة!! ونحن نعلم أن مكة لم يكن فيها يهود. وإن لقاءه ببحيرا - لو ثبت - لا يعدو ¬

_ (¬1) راجع كتاب (محمد في مكة) لمونتكمري واط. (¬2) يقول مونتكمري واط في كتابه محمد في مكة 93 "من الأفضل الافتراض بأن محمدا كان قد عقد صلات مستمرة مع ورقة منذ وقت مبكر وتعلم أشياء كثيرة، وقد تأثرت التعاليم الإسلامية اللاحقة كثيراً بأفكار ورقة، وهذا يعود بنا إلى طرح مشكلة العلاقة بين الوحي الذي نزل على محمد والوحي السابق له" مع العلم أن كتب السيرة لم تثبت سوى لقاء واحد مع ورقة.!!

الساعة أو الساعتين وهو غلام في الثانية عشرة من عمره!! وأن التوراة والإنجيل لم يترجما إلى العربية إلا بعد قرون من عمر الرسالة، ولو كانا قد ترجما فإن أميته تحول دون إفادته منهما (¬1). نعم يوجد ثمة تشابه بين القصص الديني في القرآن وما ورد في التوراة (وشرحه التلمود) والإنجيل، وهو تشابه مرجعه وحدة المصدر (¬2) الإلهي. كما أن ثمة اختلافا جوهريا في التصور النهائي للأنبياء وتنزيههم في أعمالهم وخصائصهم بين القرآن والكتب المنزلة السابقة عليه، وهو اختلاف يرجع إلى ما تعرضت له تلك الكتب من تحريف وتبديل يجعلها لا تمثل بصدق (كلام الله). ولكن الأهواء دفعت بعض الدارسين إلى القول بأن القرآن اقتبس تلك القصص من التوراة والإنجيل مغفلين عمداً حقيقة الاختلاف الجوهري بين القرآن وغيره. ولقد بين كاتبان نصرانيان هما سال sale وتايلور أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجد نموذجاً أخلاقياً ودينياً لينقله أو يحتذيه في الإسلام، بسبب انحراف أتباع الديانات القديمة وانحطاط تصوراتهم بل وتحريف أصولهم الدينية، يقول سال: "إذا قرأنا التأريخ الكنسي بعناية، فسنرى أن العالم المسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث لمسخ صورته، بسبب أطماع رجال الدين والانشقاق بينهم والخلافات على أتفه المسائل، والمشاجرات التي لا تنتهي، والتي كان الانقسام يتزايد بشأنها. وكان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم واستخدام كل أنواع الخبث والحقد والقسوة قد انتهوا تقريباً إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بسبب جدالهم المستر حول طريقة فهمها، وفي هذه العصور المظلمة بالذات ظهرت بل وثبتت أغلب أنواع الخرافات والفساد" (¬3). ¬

_ (¬1) محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص141 وحاشية رقم (1). (¬2) راجع كتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي. (¬3) محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 136 نقلا عن مؤلف سال (ملاحظات تاريخية ونقدية عن الإسلام) ص68 - 71.

مرحلة الدعوة السرية

أما تايلور فيقول:"إن ما قابله محمد وأتباعه في كل اتجاه لم يكن إلا خرافات منفرة ووثنية منحطة ومخجلة، ومذاهب كنسية مغرورة وطقوساً دينية منحلة وصبيانية" (¬1). ثم إن القرآن قد فند كثيرا من العقائد والتقاليد اليهودية والنصرانية فكيف ينقض النموذج الذي احتذاه - على حد مزاعمهم - (¬2). مرحلة الدعوة السرية: بدأت الدعوة الإسلامية بمكة سرية، ويحدد ابن إسحاق والواقدي هذه المرحلة بثلاث سنين (¬3)، وحددها البلاذري بأربع سنين (¬4). وكان المجتمع المكي - شأن سائر الجزيرة العربية - يعتمد في تنظيمه على القبيلة، فهي الوحدة الاجتماعية والسياسية ويعتمد في تلاحمه على العصبية القبلية فهي التي تشد أبناءها إلى بعضهم. ولما كانت مكة تخضع لقبيلة واحدة هي قريش بفروعها الأربعة عشر، فقد بدت هذه الفروع (العشائر) وحدات ذات كيان خاص، لكنها متحالفة داخل الكيان العام لقريش، وكان المتوقع أن ينتشر الإسلام في العشيرة التي ينتسب إليها الرسول ثم في قريش التي ينتمي إليها أخيراً. ولكن يلاحظ أن انتشار الإسلام لم يرتبط بالعصبية القبلية، ولا العشائرية، فلم يكن نصيبه من أفراد بني هاشم أعظم من بقية عشائر قريش، وإن كان بنو هاشم يتعاطفون معه أكثر من سواهم، لكن هذا التعاطف لم يجرهم إلى الدخول في الإسلام، بل مات كبيرهم وأقوى مناصريهم للرسول صلى الله عليه وسلم وهو أبو طالب دون أن يدخل في الإسلام. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 137 نقلا عن مؤلف تايلور (المسيحية القديمة) 1/ 266 (¬2) راجع فصل النفيس (البحث عن مصدر القرآن في الفترة المكية) ضمن كتاب (مدخل إلى القرآن الكريم) لمحمد عبد الله دراز. (¬3) سيرة ابن هشام 1/ 262 بدون إسناد وطبقات ابن سعد 1/ 199 من طريق الواقدي وهو متروك وشيخه مجهول أيضاً. (¬4) أنساب الأشراف 1/ 116

المسلمون الأوائل

لقد انتشر الإسلام في المرحلة المكية في سائر فروع قريش بصورة متوازنة، دون أن يكون لإحدى عشائرها ثقل كبير في الدعوة الجديدة، وهذه الظاهرة مخالفة لطبيعة الحياة القبلية آنذاك. وهي إذا أفقدت الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلي والعصبية القبلية لحماية الدعوة الجديدة ونشرها، فإنها بنفس الوقت لم تؤلب عليه العشائر الأخرى بحجة أن الدعوة تحقق مصالح العشيرة التي انتمت إليها وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى. ولعل هذا الانفتاح المتوازن على الجميع أعان في انتشار الإسلام في العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية فأبو بكر الصديق من "تيم" وعثمان بن عفان من "بني أمية" والزبير بن العوام من "بني أسد" ومصعب بن عمير من "بني عبد الدار" وعلي بن أبي طالب "من بني هاشم" وعمر بن الخطاب من "بني عدي" وعبد الرحمن بن عوف من "بني زهرة" وعثمان بن مظعون من "بني جمح" بل إن عدداً من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش فعبد الله بن مسعود من هذيل، وعتبة بن غزوان من مازن، وعبد الله بن قيس من الأشعريين، وعمار بن ياسر من عنس من مذجح، وزيد بن حارثة من كلب, والطفيل بن عمرو من دوس, وأبو ذر من غفار, وعمرو بن عبسة من سليم، وعامر بن ربيعة من عنز بن وائل، وصهيب النمري من بني النمر بن قاسط. لقد كان واضحاً منذ الوهلة الأولى أن الإسلام ليس خاصاً بمكة وقريش. المسلمون الأوائل: يدل حديث بدء الوحي على أن خديجة رضي الله عنها كانت أول من عرف خبر النبوة ونزول الوحي، وأنها صدقت الرسول وآزرته وثبتته وخففت عنه. فلا

غرابة أن تكون أول من آمن كما يقول الزهري وابن إسحاق (¬1). وقد أسلم علي بن أبي طالب بعد خديجة في هذا الوقت المبكر فقد كان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم قبل (¬2) الإسلام. - معونة من رسول الله لأبي طالب ورداً لجميله، فقد كان قليل المال كثير العيال - فكان أول الذكور إسلاما (¬3). وقوي الحافظ ابن حجر أن يكون عمر علي رضي الله عنه حين المبعث عشر سنين (¬4). وقد كثرت الروايات الواهية والموضوعة، حول تحديد يوم إسلامه وصلاته بيوم الثلاثاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخديجة بيوم واحد، وأنه صلى قبل المسلمين الآخرين سبع سنين (¬5)!! وفضائل علي رضي الله عنه الثابتة كثيرة فلا يحتاج إلى مثل هذا الكذب والمغالاة. وأما أبو بكر رضي الله عنه فقد استنبط ابن كثير من حديث صحيح فيه "إن ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 244 بدون إسناد ومصنف ابن أبي شيبة 14/ 74 من مرسل الزهري ومستدرك الحاكم 3/ 184 بسند ضعيف من حديث حذيفة بن اليمان. (¬2) مسند أحمد 1/ 330 - 331، 373 بسند حسن من حديث ابن عباس وطبقات ابن سعد 3/ 21 ومستدرك الحاكم 3/ 132 وسيرة ابن هشام 1/ 228 - 229 بدون إسناد، وعن كفالة النبي علياً بإسناد إلى مجاهد بن جبر فهو مرسل بالإضافة إلى عنعنة عبد الله بن أبي نجيح - رواية عن مجاهد - وهو مدلس (تعريف أهل التقديس 39). (¬3) الترمذي: الجامع 5/ 642 بإسناد صحيح، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 3/ 136) وفي إسناده أبو حمزة رجل من الأنصار، وهو طلحة بن يزيد الأيلي. (تقريب التهذيب 283). (¬4) فتح الباري 7/ 174. (¬5) مسند أحمد 1/ 99 وكشف الأستار 3/ 182 وفي إسناده يحيى بن سلمة بن كهيل شيعي متروك. (تقريب التهذيب 591). وسنن الترمذي 5/ 640 وفي إسناده مسلم بن كيسان مجمع على ضعفه ومسند أبي يعلى 1/ 348 وفيه مسلم بن كيسان أيضاً وحبَّه بن جوين وسليمان بن قرم وهم ضعفاء أيضاً. وقد أورد الإمام أحمد رؤية الصحابي عفيف الكندي لصلاة النبي وخديجة وعلي في مكان واحد، وأنهما أول المسلمين، (مسند أحمد 1/ 209 - 210 ومستدرك الحاكم 3/ 183 وصححه وأقره الذهبي) لكن في إسناده إسماعيل بن إياس وهاه ووهي أباه البخاري (التاريخ الكبير 1/ 345، 441).

الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله" إنه أول الناس إسلاماً (¬1). وقد أسلم أهل بيت أبي بكر بإسلامه، قالت عائشة رضي الله عنها: "لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين" (¬2). وذهب الزهري إلى أن أول الناس إسلاماً هو زيد بن حارثة (¬3) - مولى رسول الله - ونظراً لأقوال الزهري في أن أول من أسلم خديجة، فلعله عني أن زيداً أول من أسلم من الرجال ويبدو أن الواقدي أول من حاول التوفيق بين قولي الزهري (¬4). وقد تتالت محاولات التوفيق والجمع بعده بين الروايات التي تحدد أسماء أول الناس إسلاماً. وتدل رواية صحيحة على إسلام سعد بن أبي وقاص، وأنه بقي أسبوعاً ثالث مسلم ثم أسلم آخرون (¬5). وقد نزل القرآن في خبر إسلامه كما أخبر عن نفسه قال: "حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (فتح الباري 7/ 18) وانظر السيرة النبوية لابن كثير 1/ 434. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 4/ 475). (¬3) عبد الرزاق: المصنف 5/ 325 من مرسل الزهري. وتشير رواية من مرسل أبي فزارة راشد بن كيسان العبسي، وهو ثقة إلى شراء الرسول لزيد بأموال خديجة، وإلى عتقه له بعد أن وهبته له وهو مخالف لرواية ابن إسحاق من كون حكيم بن حزام اشتراه ثم أعطاه لخديجة التي وهبته للنبي (مصنف ابن أبي شيبة 14/ 321). وتشير رواية ضعيفة إلى محاولة أخيه جبلة بن حارثة استرداده لكن زيداً أبى (سنن الترمذي 5/ 676 وفيه محمد بن عمر الرومي لين وقد تابعه عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير الموصلي في مستدرك الحاكم (3/ 214) وقد تفرد ابن حبان بتوثيق عبد الغفار (الثقات 8/ 421) فيقوي الطريقان إلى الحسن لغيره. (¬4) الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 316. (¬5) صحيح البخاري (الفتح 7/ 83، 170) وانظر فضائل الصحابة لأحمد 2/ 749.

وصَّاك بوالديك، وأنا أمّك وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثة أيام حتى غشي عليها من الجهد. فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} وفيها {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها" (¬1). والحادثة تدل على صلابة موقف المؤمنين الأوائل أمام الفتن المتنوعة التي تعرضوا لها، كما تدل على أنماط المواجهة التي تجمع بين التأثير العاطفي والضغط النفسي حيناً وبين استخدام القهر والقوة أحياناً أخرى. ولقد أسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه في وقت مبكر ولكن لم يصح قوله عن نفسه أنه الرابع في الإسلام (¬2).وأسلم طلحة بن عبيد الله، لكن تفاصيل خبر إسلامه لا تصح (¬3). وأسلم الزبير بن العوام، وتوحي روايات ابنه الصغير عروة - الذي لم يدرك الرواية عن أبيه مما جعل مروياته عنه مرسلة - بأن إسلامه تَمَّ وهو صغير ابن ثماني سنين (¬4)، لكن حفيده هشام بن عروة يقول أنه كان ابن ست عشرة سنة (¬5). وتشير رواية أبي الأسود إلى تعذيب عم الزبير له بالنار بسبب إسلامه (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 15/ 185 - 187. وقد ساق الرواية بمعناها الواحدي في أسباب النزول 395 بإسناد ضعيف فيه أحمد بن أيوب بن راشد مقبول، تفرد بتوثيقه ابن حبان (تهذيب 1/ 17 وتقريب 77). وساقها الواقدي بمعناها كما في طبقات ابن سعد (4/ 123 - 124). (¬2) مصنف بن أبي شيبة 12/ 53 من طريق ابن لهيعة وقد اختلط بعد احتراق كتبه وليس من رواية العبادلة عنه وهي أعدل الروايات. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 214 - 215 من طريق الواقدي وهو متروك. (¬4) الطبراني: المعجم الكبير 1/ 81 - 82 ومجمع الزوائد للهيثمي 9/ 152 وهو مرسل رجاله رجال الصحيح. (¬5) طبقات ابن سعد 3/ 102 وهو مرسل رجاله رجال الصحيح. (¬6) مجمع الزوائد للهيثمي 9/ 151.

ولعل مصدر هذا الخبر عائلي لأن أبا الأسود أحد رواة مغازي عروة عنه وقد حددت رواية الواقدي سنه -حين أسلم- بسبع عشر سنة (¬1). وممن بكر في الدخول في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، لكن تفاصيل قصة إسلامه لم تثبت حيث تفرد بها الواقدي (¬2). وعبد الله بن مسعود حيث حكى خبر إسلامه قال: "كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط بمكة، فأتى علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين، فقال: يا غلام هل عندك لبن تسقينا؟ قلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما. قالا: فهل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم. فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقياني. ثم قال للضرع: اقلص، فقلص. فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني القرآن -، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك غلام مُعَلَّم. فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد (¬3) ". وقد ذكرت رواية الواقدي أن عبد الله بن مسعود أسلم قبل دخول رسول ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 3/ 139، والواقدي متروك لكن مثل هذا الخبر مما يتساهل فيه. (¬2) طبقات ابن سعد 4/ 94 - 95 وانظر مستدرك الحاكم 3/ 249 وفي إسناده انقطاع فإن سعيد ابن عمرو بن سعيد لم يسمع من عمه خالد بن سعيد. (¬3) أحمد: المسند 1/ 379 وابن أبي شيبة: (المصنف 11/ 510 وابن سعد الطبقات 3/ 150 - 151 والفسوي: المعرفة والتاريخ 2/ 537 وإسناد الحديث حسن، وقد صحح الذهبي إسناده في سير أعلام النبلاء 1/ 465 وكذلك فعل الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 17 ولكن في الإسناد عاصم ابن أبي النجود. قال عنه ابن حجر "صدوق له أوهام وحديثه في الصحيحين مقرون" (تقريب 285) وقال عنه الذهبي "هو حسن الحديث" (ميزان الاعتدال 2/ 357).

الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم (¬1). وذكرت رواية ضعيفة أخرى أنه كان سادس مسلم (¬2). ولا شك في تقدم إسلام خباب بن الأرت ولكن لم يثبت، أنه سادس ستة في الإسلام (¬3)، كذلك تقدم إسلام بلال الحبشي (¬4) وكان رقيقاً ثم اشتراه أبو بكر وأعتقه (¬5). وقد ثبت أن عمار بن ياسر أسلم مبكراً، فقد قال عن نفسه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأمرأتان وأبو بكر" (¬6). وقال ابن مسعود: "أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سميه، وصهيب، وبلال، والمقداد" (¬7) وكان عمرو بن عبسة السلمي يرى أنه رابع أربعة هم أول المسلمين. قال: فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام (¬8). وأما عن بواعث إسلامه فقد قال: "كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شئ وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 1/ 151. (¬2) مصنف ابن أبي شيبة 12/ 114 - 115 وكشف الأستار للهيثمي 3/ 248 والمعجم الكبير للطبراني 9/ 58 ومستدرك الحاكم 3/ 313 وصحح إسناده وأقره الذهبي وفيه علل تتمثل في تدليس الأعمش وقد عنعن، وفي كون رواية عبد الرحمن بن عبد الله لم يسمع من أبيه إلا شيئاً يسيرا وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث. (¬3) مصنف ابن أبي شيبة 12/ 149 بإسناد صحيح إلى مجاهد مرسلا 13/ 49 وهو مرسل وراويه كردوس مقبول حين يتابع (تقريب التهذيب 461) وقد انفرد بتوثيقه ابن حبان (الثقات 5/ 342) وهذه الرواية المرسلة انفردت بالقول بأنه سادس ستة. (¬4) فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/ 182، 231 بأسانيد صحيحة وطبقات ابن سعد 3/ 233 ومستدرك الحاكم 3/ 284 وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 99). (¬6) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 18، 170) وقال ابن حجر: أما الأعبد فهم بلال وزيد بن حارثة وعامر بن فهيرة، وأبو فكيهة ويحتمل أن الخامس هو شقران، وأما المرأتان فخديجة وأم أيمن -أو سمية-. (¬7) مسند أحمد 1/ 404 بإسناد حسن. (¬8) مسند أحمد 4/ 112 وطبقات ابن سعد 4/ 215. وتاريخ الطبري 2/ 315 بإسناد حسن ومستدرك الحاكم 3/ 65، 66 وصحح إسناده 285.

يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جراء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي. فقلت وما نبي؟ قال: أرسلني الله. فقلت: وبأي شئ أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأنه يوحد الله لا يشرك به شئ. قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد. قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. فقلت: إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس!! ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني، قال فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم على نفر من أهل يثرب، من أهل المدينة، فقلت: ما فعل الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله، فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة، فدخلت عليه ... " (¬1). ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبره بأسماء سائر من أسلم وإنما سمي أبا بكر وبلالاً فقط حرصا على سلامة من أسلم من الأذى، وربما لأنه إنما أسلم بعد إجابة سؤاله عمن أسلم يومئذ وتعبير عمرو بن عبسة "فلقد رأيتني إذ ذاك ربع الإسلام" إنما هو بحسب ما بدا له. وإلا فقد كان عدد المسلمين أكثر من ذلك في المرحلة التي أظهرت فيها قريش جرأتها على الإسلام وأذاها للمسلمين كما يدل قول الرسول: ألا ترى حالي وحال الناس!! ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 596 وقارن برواية الآجري: الشريعة 445 - 446 بإسناد حسن فيه إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن الشاميين كما هو الحال في هذا السند، وفيه عمرو بن عبد الله السيباني مقبول فقد توبع هنا من قبل أبي سلام الدمشقي. وهي تدل على أن رجلا من أهل الكتاب -في الجاهلية- أرشده إلى إتباع النبي الذي سيظهر بمكة.

إسلام الجن

ومما يدل على أن المسلمين كانوا متكتمين في أمر إسلامهم أن أبا ذر الغفاري - رضي الله عنه - كان يرى نفسه رابع الإسلام أيضاً (¬1). وقد علل بعض الرواة تعارض كلام أبي ذر مع كلام عمرو بن عبسة فقال: "كلاهما لا يدري متى أسلم الآخر" (¬2). مما يشير إلى أن مبدأ سرية الدعوة كان يراعى في بعض الحالات حتى مرحلة الدعوة الجهرية تبعا لما تقتضيه مصلحة الدعوة الناشئة. إسلام الجن: بعث محمد صلى الله عليه وسلم لعالمي الإنس والجن، والجن كائنات مستترة عن أنظار البشر في الأصل، وإن كانت لهم قدرة على التجسد والظهور بأشكال مختلفة. ويدل القرآن والسنة على أن نفراً من الجن، رأوا رسول الله بنخلة عامداً إلى عكاظ - وقد حيل بين الجن وبين استراق السمع من السماء فكانوا يبحثون في أرجاء الأرض عن السبب - فاستمعوا إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فآمنوا به ورجعوا إلى قومهم فقالوا: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فأنزل الله على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} وإنما أوحي إليه قول الجن (¬3) ولم ير رسول الله الجن في هذه المرة ولم يقرأ عليهم وإنما ¬

_ (¬1) الطبراني: المعجم الكبير 2/ 155 والحاكم: المستدرك 3/ 342 وسكت عنه، ولعل كلام الحاكم سقط من المطبوع فإن الذهبي ذكر تصحيحه على شرط مسلم، ولا يسلم له، فإن الإمام مسلما لم يرو لمالك بن مرثد ولا لأبيه، ومرثد فيه جهالة كما قال الذهبي (ميزان الاعتدال 4/ 87) وقال عنه ابن حجر: مقبول، أي حيث يتابع وقد تابعه جبير ابن نفير عن أبي ذر (الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/ 315 بإسناد فيه صدقة بن عبد الله السمين وهو ضعيف (تقريب 275) وقد تساهل الحاكم فصحح سنده، وأقره الذهبي (المستدرك 3/ 341) وإنما هو حسن لغيره ويبدو أن الذهبي إنما لخص مستدرك الحاكم في شبابه قبل تمكنه من مناهج النقد الحديثية. (¬2) الطبري: تاريخ 2/ 315 بإسناد ضعيف إلى جبير بن نفير. ويؤيد ابن كثير وابن حجر أن سرية الدعوة هي السبب في تعارض دعاوي السبق إلى الإسلام، إذ يخفى عليهم من سبقهم إلى الإسلام (السيرة النبوية لابن كثير 1/ 443 وفتح الباري لابن حجر 7/ 84). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 2/ 253، 8/ 669 - 670). وصحيح مسلم بشرح النووي 4/ 167 - 168. وسنن الترمذي 5/ 426 - 427 وقال: هذا الحديث حسن صحيح.

بدء الدعوة الجهرية

آذنته بهم شجرة (¬1). ثم أوحى إليه خبرهم (¬2). وقد حددت رواية مرسلة عدد من الجن وأنهم كانوا تسعة (¬3). ولم تثبت من جن نصبين (¬4). وبعد هذه الحادثة دعا الجن رسول الله مرة - وهو معسكر بأصحابه خارج مكة - فذهب معهم وقرأ عليه القرآن ثم أرى أصحابه آثارهم وآثار نيرانهم (¬5). وقد بين الشعبي أنهم وفد جن نصبين (¬6). بدء الدعوة الجهرية: انقضت مرحلة الدعوة السرية بنزول الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقال: "يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا ما جَّربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بن يدي عذاب شديد. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 171) وصحيح مسلم بشرح النووي 4/ 171. (¬2) صحيح البخاري (الفتح 2/ 253) وصحيح مسلم بشرح النووي 4/ 167 - 168 وأما ما في مسند أحمد 1/ 167 من كونهم استمعوا إليه في صلاة العشاء، ففي إسناده انقطاع لأن عكرمة لم يسمع الزبير بن العوام كما قال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (3/ 21 - 22) ولو ثبت فيمكن الجمع بينه وبين رواية الصحيح بأنه استمعوا إليه مرتين. (¬3) أخرجه الطبري من رواية محمد بن بشار والبزار من رواية أحمد بن إسحاق الأهوازي كلامها عن أبي أحمد الزبيري مرسلا وانفرد بوصله (عن عبد الله بن مسعود) أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف كما في الإصابة (مع الاستيعاب) 1/ 538. وتابع أبا أحمد الزبيري كل من يحي القطان ووكيع ويحي بن اليمان فرووه مرسلا (تفسير الطبري 26/ 31، 33 ودلائل النبوة 2/ 464). (¬4) أقوى ما يعول عليه هو حديث جابر الجعفي وهو ضعيف (جامع البيان للطبري 26/ 33 ومجمع الزوائد 7/ 106) وبقية الأحاديث في ذلك واهية (الطبري: جامع البيان 26/ 30 - 31،33 والطبراني: المعجم الكبير 11/ 256 وفي سندهما النضر أبو عمر متروك (مجمع الزوائد 7/ 106) والمعجم الأوسط 1/ 2أوفي إسناده عفير بن معدان متروك (مجمع الزوائد 7/ 106). (¬5) صحيح مسلم بشرح النووي 4/ 168 - 170. (¬6) المصدر السابق من مرسل الشعبي، ويؤيده ما في صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 171) من حديث أبي هريرة.

فقال أبو لهب: تبا لك، أما جمعتنا إلا لهذا!! ثم قام. فنزلت هذه السورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (¬1). وقد ذكرت روايات واهية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع ثلاثين من أهل بيته على أثر نزول {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فأكلوا وشربوا -وبعضها يشير إلى ظهور معجزة كفاية الطعام القليل للعدد الكبير- ثم سألهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، وخليفتي في أهلي؟ فسكتوا. فقال علي: أنا (¬2). وفضائل علي رضي الله عنه كثيرة لكن هذه الرواية منكرة، وسائر شواهدها ¬

_ (¬1) متفق عليه (فتح الباري 8/ 737) وصحيح مسلم من حديث ابن عباس 1/ 194 وقارن بروايتي أبي هريرة وعائشة 192 وهي مراسيل صحابة لأن الثلاثة لم يشهدوا الحادث (فتح الباري 8/ 502). وحديث أبي هريرة مكمل لحديث ابن عباس في الخطبة حيث ساقها ابن عباس مقتصراً على بعضها وفيها يتكرر قوله "أنقذوا أنفسكم من النار" واقتصر أبو هريرة على بعضها الآخر (فتح الباري 5/ 382 وصحيح مسلم بشرح النووي 3/ 81) وقارن برواية أبي موسى الأشعري في سنن الترمذي 5/ 339 - 340 وعده الترمذي غريباً من حديث أبي موسى وأفاد أنه روى مرسلاً. وهكذا أخرجه مرسلاً الطبري في جامع البيان 19/ 120 وقارن برواية أبي يعلي الموصلي مسنده 2/ 40 - 41 بإسناد ضعيف فيه عبد الجبار بن عمر الأيلي ضعيف وعبد الله بن عطاء ضعيف (راجع عنهما تقريب التهذيب 332 وتهذيب التهذيب 6/ 103 - 104). (¬2) مسند أحمد 1/ 111 وكشف الأستار 3/ 183 بإسناد ضعيف ففي إسنادهما عباد بن عبد الله الأسدي ضعيف، وفيه شريك سيء الحفظ، وفيه عنعنة الأعمشي وهو مدلس. وانظر شواهده التالفة عند ابن إسحاق: (السير والمغازي 145 - 146) وفي سنده عبد الغفار بن القاسم أبو مريم متروك كذاب شيعي (الطبري: تفسير 19/ 74 - 75 وابن كثير: التفسير 3/ 351) وراجع ترجمته في (الضعفاء للعقيلي 30/ 101) وابهمه ابن إسحاق في سنده، وكشف عنه أحمد بن عبد الجبار العطاري رواية السيرة (البيهقي: دلائل النبوة 2/ 178 - 180) وابن سعد: طبقات 1/ 187 وفي إسناده الواقدي ويزيد بن عياض متروكان. وابن أبي حاتم في تفسيره بإسناد فيه عبد الله بن عبد القدوس، رافضي ضعيف (ابن كثير: تفسير 3/ 351 - 352 وابن تيمية: منهاج السنة 4/ 81) والنسائي: خصائص على رقم 66 والطبري: تاريخ 2/ 321 كلاهما بإسناد ضعيف فيه ربيعة بن ناجد الأزدي الكوفي قال عنه الذهبي: "لا يكاد يعرف، وعنه أبو صادق بخبر منكر فيه علي أخي ووارثي" (ميزان الاعتدال 2/ 45) وأما توثيق الحافظ ابن حجر له في التقريب 208 فتابع فيه ابن حبان والعجلي وهما متساهلان (تهذيب التهذيب 3/ 263).

واهية حبكها الكاذبون وتخيلها القصاصون من أصحاب الأهواء. ويجعل الطبري نزول الآية " {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} " إيذانا بانتهاء مرحلة السرية، والآية مكية، وفيها ما يفيد الأمر بالجهر بالقرآن، ويحتمل أن تكون نزلت لتنهي مرحلة السرية، ولكن يصعب الجزم بذلك لضعف إسناد الرواية. (¬1) "ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لابد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لابد وأن يكون له وقع كبير على بقية القبائل .. على أن هذا لا يعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محددة بقريش، لأن الإسلام كما يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية، والواقع أن كثيراً من الآيات المكية كانت تنص على أن القرآن {مَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} الأمر الذي يدل على أن فكرة الدعوة العالمية كانت قائمة منذ هذا الوقت المبكر" (¬2). وقد أسلم في مرحلة الدعوة العلنية أبو ذر الغفاري، فقد استدل ابن حجر من قصة إسلام أبي ذر ورؤية علي له بأنها وقعت بعد المبعث بأكثر من سنتين بحيث يتهيأ لعلي أن يستقل بمخاطبة الغريب ويضيفه (¬3). وقد وردت قصة إسلام أبي ذر من حديث صحابيين هما عبد الله بن عباس في صحيحي البخاري ومسلم، وعبد الله بن الصامت في صحيح مسلم وحده، وبينهما تعارض، ويرى القرطبي أن الجمع بينهما فيه تكلف شديد، في حين يرى ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 2/ 318 وتفسير الطبري 14/ 68 وفي سنده موسى بن عبيدة ضعيف كما في التقريب. (¬2) عماد الدين خليل: دراسة في السيرة 66. (¬3) فتح الباري 7/ 174.

الحافظ ابن حجر أن بينهما مغايرة كثيرة ولكن الجمع بينهما ممكن (¬1). وعلى أية حال فالقاعدة أن الأصح ما اتفق عليه البخاري ومسلم لذلك يلزم عند التعارض اعتماد رواية ابن عباس، ويؤخذ من الروايات الصحيحة أنا أبا ذر رضي الله عنه كان منكراً لحال الجاهلية، يأبى عبادة الأصنام وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلي لله قبل إسلامه، بثلاث سنوات دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويبدو أنه كان متأثراً بالأحناف، ولما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى مكة وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علي رضي الله عنه فعرف أنه غريب، فاستضافه ولم يسأله عن شئ، ثم غادره صباحاً إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه علي فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له علي:"فإنه حق وهو رسول الله فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، فتبعه وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم واستمع إلى قوله فأسلم، فقال له النبي ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري. فقال: والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه"، فأتى العباس بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غفار والتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم إلى الشام. فأنقذه منهم (¬2). وهذه الرواية تفيد وجود بعض الأحناف في البوادي ولعل ما بدا من حذر علي رضي الله عنه وما وقع من ضرب قريش لأبي ذر ومن وصف أنيس أخي أبي ذر الحالة في مكة عندما دخلها قبيل دخول أبي ذر فقال ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 174، 175. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 173) وصحيح مسلم 4/ 1923 - 1925) وأما رواية عبد الله بن الصامت ففي صحيح مسلم (4/ 1919 - 1923) وتذهب رواية ابن الصامت إلى أن اللقاء الأول بين أبي ذر والرسول صلى الله عليه وسلم تم قرب الكعبة المشرفة بحضور أبي بكر ولا تذكر علياً.

لأخيه محذراً "وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا" (¬1) لعل في ذلك كله ما يؤكد أن إسلامه جرى بعد إعلان الدعوة وانتهاء المرحلة السرية. لقد عاد أبو ذر إلى غفار فأسلم نصفهم، وأسلم النصف الثاني بعد الهجرة النبوية. كذلك يظهر من سياق قصة إسلام ضماد - من ازد شنوءة - أنه تم في بداية مرحلة الجهر بالدعوة، وبعد أن جاهر الرسول صلى الله عليه وسلم بتسفيه عقائد المشركين، فردوا عليه بالدعاية الكاذبة واصفين إياه بالجنون، فلما قدم ضماد مكة وسمع سفهاء مكة يتهمون النبي بالجنون، وكان ضماد يرقي من مس الجنون ذهب إلى الرسول وعرض عليه أن يرقاه. فقال رسول الله: "إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد" فقال ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال ضماد: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ثم أسلم وبايع عن نفسه وقومه (¬2). إن الكلمات النبوية تلمس شغاف قلوب البشر وتزيل الحجب بينهم وبين حقيقة توحيد الألوهية التي غابت عنهم آماداً طويلة فتنقلهم الكلمات بصدقها ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4/ 1923 وشنفوا له أي أبغضوه. وقارن برواية الطبراني: المعجم الأوسط 1/ 156 أي بإسناد ضعيف فيه أبو طاهر مولى الحسن بن علي مجهول (الكني للبخاري 46 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 9/ 397 وابن حبان: الثقات 5/ 575 - 576) والحاكم: المستدرك 3/ 339 - 341 وفي إسناده عباد بن الريان مجهول الحال (الأسماء والكني للدولابي 2/ 18). وأما الواقدي فقد خالف الروايات الصحيحة فروى ما يشير إلى أن أبا ذر كان قاطع طريق، وأنه أسلم بعد أبي بكر بيوم أو يومين ثم ناقضها برواية تقول أن أبا ذكر كان متألها فما أعجب ما يروي الواقدي!! (طبقات ابن سعد 4/ 222 - 224). (¬2) صحيح مسلم 2/ 593.

ومباشرتها وملامستها للفطرة إلى عالم الإسلام (¬1). وهناك قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي وكرامته لكنها، لم يثبت منها إلا أنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للالتجاء إلى حصن دوس المنيع فأبى الرسول ذلك (¬2). ولا بد أن الدعوة هذه جرت بعد اشتداد المقاومة القرشية. وتشير رواية صحيحة أن الطفيل دعا قومه إلى الإسلام ولقى منهم صدوداً حتى طلب الطفيل من رسول الله أن يدعو عليهم لكن الرسول دعا لهم بالهداية (¬3). وكان الرسول آنئذ بالمدينة المنورة (¬4). أما عثمان بن مظعون فقد أسلم مبكراً لكن قصة إسلامه فيها ضعف (¬5) وقد أسلم حمزة في وقت اشتدت فيه جرأة قريش على رسول الله ولكن تفاصيل قصة إسلامه لم تثبت من طريق صحيحة (¬6). ¬

_ (¬1) ابن عبد البر: الاستيعاب 2/ 216 - 217 بإسناد غير محفوظ وفيه انقطاع لأن صالح بن كيسان لم يدرك الطفيل بن عمرو. والمحفوظ من رواية ابن إسحاق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 22 - 24). وقال ابن حجر: "ذكرها ابن إسحاق في سائر النسخ بدون إسناد" (الإصابة ومعها الاستيعاب 2/ 216 - 217) (¬2) صحيح مسلم 1/ 109 وأخرجه أحمد كما في البداية والنهاية لابن كثير 3/ 98 وأبو يعلي: المسند 4/ 126. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 107) ومسند أحمد 2/ 243، 448، 502. (¬4) ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 76. (¬5) مسند أحمد 1/ 318 وطبقات ابن سعد 1/ 174 - 175 بإسناد قال عنه ابن كثير: "إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل" (تفسير القرآن العظيم 2/ 583) لكن فيه شهر بن حوشب" صدوق كثير الارسال والأوهام (تقريب التهذيب 269) فإن زالت علة الإرسال بقيت علة كثرة الوهم، فالسند فيه ضعف لا محالة. (¬6) وردت رواية من مرسل محمد بن كعب القرظي عند الطبراني وفي سندها إسماعيل الخفاف لم أقف له على ترجمة ومفادها أن إسلام حمزة كان حمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبر بشتم أبي جهل للرسول، فمضى إلى الكعبة حيث ضرب أبا جهل بقوسه فشجه وأعلن إسلامه (المعجم الكبير 3/ 152 - 153) وساق الواقدي بسنده مرسل محمد بن كعب القرظي والواقدي متروك (طبقات ابن سعد 3/ 9) =

أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم

وممن كان يخفي إيمانه بمكة المقداد بن الأسود (¬1). أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم: لا شك أن الاستجابة للأمر الإلهي بإعلان الدعوة اقتضى من المسلمين مواجهة المشركين بحقائق التوحيد وبفساد الشرك، مما جعل المشركين يلحقون الأذى بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففضلاً عن المعتقدات الباطلة التي عشعشت بعقولهم وتوارثوها خلفا عن سلف، فإنهم مدركين لجدواها في تحقيق مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية عندما تؤم القبائل العربية مكة حيث الأصنام الثلاثمائة والستون المحيطة بالكعبة، وينجم عن ذلك حركة بيع وشراء تحقق الأرباح الوفيرة للملأ - سادة مكة - كما تؤمن - عبر الإيلافات واحترام قريش دينيًا - التجارة المكية نحو اليمن والشام. واتخذ الأذى صوراً شتى من السب العلني والضرر المادي وقد وردت رواية من طرق تعتضد ببعضها لإثبات الحدث تاريخياً تقول إنه لما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (¬2) أقبلت أم جميل بنت حرب، امرأة أبي لهب، وهي تنشد: مذمم أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فسألت أبا بكر إن كان النبي قد هجاها فنفى ذلك (¬3) ¬

_ = وساق ابن إسحاق شاهدا وفي سنده مبهم مع الإرسال (السير والمغازي 1/ 260 - 261) وساق الطبراني له شاهداً معضلاً مع تدليس ابن إسحاق وقد عنعن (المعجم الكبير 3/ 153 - 154) وهكذا فإن الطرق بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها حديثياً. (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 12/ 187) معلقا ووصله غيره (تعليق التعليق 5/ 242). (¬2) المسد: 1. (¬3) أخرجه الحميدي: المسند 1/ 153 - 154 وأبو يعلي: المسند 1/ 153 - 154 والحاكم: المستدرك 2/ 361 وفي إسنادهم جميعاً أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر، وقد عنعن عنها وهو مدلس، ولكن تابعه كثير بن عبيد عن أسماء - وهو مقبول إذا توبع - (البيهقي: دلائل 2/ 196 فالحديث حسن لغيره، وتعضده شواهد من حديث ابن عباس (مسند أبي يعلي 1/ 33 - 34، وكشف الأستار 3/ 83 وفي إسنادهما عطاء بن السائب اختلط والراوي عنه عبد السلام بن حرب لم يصرّح بأنه ممن روى عنه قبل الاختلاط. =

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح لأن المشركين يسبون مذمما يقول: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد" (¬1). ويحكي شاهد عيان هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه. وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك. فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام- وهي جويرية - فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقته عنه. وأقبلت عليهم تسبهم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش. ثم تسمى: اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد، قال عبد الله بن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب (¬2) - قليب بدر - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأتبع أصحاب القليب لعنة" (¬3). وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذي رمى الفرث عليه هو عقبة ¬

_ = وله شاهد آخر من حديث زيد بن أرقم (مستدرك الحاكم 2/ 526 - 527) وصحح إسناده مع أنه نبه على إرساله بسوقه من طريق يزيد بن زيد مرسلا كذلك فإن إسحاق بن محمد الهاشمي شيخ الحاكم روى عنه الحاكم واتهمه (ميزان الاعتدال 1/ 199 ولسان الميزان 1/ 374 - 375). (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 554 - 555). (¬2) القليب: البئر المفتوحة. (¬3) رواه البخاري (فتح الباري 1/ 594) ومسلم الصحيح 3/ 1418 - 1420).

ابن أبي معيط، وأن الذي حرضه هو أبو جهل (¬1)، وأنا المشركين تأثروا لدعوة الرسول، وشق عليهم الأمر، لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة (¬2). وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش لما كذبوه واستعصوا عليه فقال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة فحصت كل شئ حتى أكلوا الميتة والجلود، وجعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخانا من الجوع. فأتى أبو سفيان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فأدع الله لهم. وقد أثبت القرآن هذا الحادث فقال تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلى قوله {عَائِدُونَ} (¬3) فلما دعا ربه لهم آملاً توبتهم عادوا إلى كفرهم ونسوا ما حكاه القرآن على لسانهم قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} (¬4). ويرى الحافظ الدمياطي أن ابتداء دعاء النبي على قريش بذلك كان عقب طرحهم على ظهره سلا الجزور (¬5). ولكن من المهم أن نلاحظ أن دعوته عليهم كانت بسبب تكذيبهم إياه واستعصائهم على الإيمان، وليس بسبب إيذائهم له، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 283، 7/ 165) وصحيح مسلم 3/ 1420. (¬2) فتح الباري 1/ 349 وقد زاد الأجلح بن عبد الله الكندي زيادة تفرد بها عن أبي إسحاق السبيعي ولم ينقلها الحفاظ الكبار من تلاميذ أبي إسحاق ممن أتقنوا حديثه مثل شعبة وسفيان الثوري وإسرائيل وغيرهم. والأجلح صدوق عند ابن حجر (تقريب 96) وإنما يقبل النقاد زيادات الثقات، أما من الناحية التأريخية فيمكن التساهل في قبول هذه الرواية ما دامت لا تعارض روايات الثقات، ولأن المؤرخين يبنون على ما هو أدنى منها من الأخبار. وخلاصة الرواية، أن النبي صلى الله عليه وسلم غادر المسجد بعد هذه الحادثة فلقيه أبو البختري فسأله عن شأنه وألح عليه فأخبره بما فعل أبو جهل، فمضى أبو البختري إلى أبي جهل فسأله عما فعل فاعترف فضربه بالسوط على وجهه، ووقع تلاح بين الرجال في المسجد. (انظر كشف الأستار 3/ 126 - 127 وفتح الباري 1/ 153 وعزاه لابن إسحاق في المغازي). (¬3) صحيح البخاري 2/ 15، 19، 6/ 32، 19، 39، 40، 41، وصحيح مسلم 4/ 2155 - 2157. (¬4) صحيح البخاري 6/ 39، 40، وصحيح مسلم 4/ 2157. (¬5) ابن حجر: فتح الباري 2/ 511.

فطالما احتمل أذاهم ولم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهداية مما يصلح مثلا أعلى في الصبر على الدعوة واحتمال المدعوين وإن آذوا أصحاب الدعوة في أموالهم ومصالحهم وأنفسهم. وكان المشركون إذا سمعوا القرآن يجهر به الرسول وهو يصلي بأصحابه مستخفياً يسبون القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فأمره الله تعالى أن يتوسط بالقراءة بحيث يسمعه اتباعه دون المشركين قال تعالى {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (¬1). إن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الصلاة في المسجد الحرام أدى إلى الاحتكاك بالمشركين مراراً، ولعله حرص على إظهار شعائر الإسلام، واحترام الكعبة، ولقاء الناس لأغراض الدعوة. ومن هنا حاول المشركون تفويت هذه الأغراض عليه بمضايقته وإيذائه دون التورع عن ذلك حتى وهو يسجد لله في صلاته!! إن التهديد بالأذى والقتل على لسان زعماء المشركين لم يكن ينقطع في مرحلة الدعوة العلنية، بل كان يتصاعد ويشتد مع الأيام. فمرةً "قال أبو جهل: هل يعفَّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم. فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرن وجهه في التراب. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. فلما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة. ¬

_ (¬1) الآية من سورة الإسراء 110 والحديث أخرجه البخاري (فتح 10/ 19) وصحيح مسلم 1/ 329.

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا (¬1). لقد خلّد القرآن هذا الحَدَث فقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (¬2). ولعله في هذه المرة نفسها جاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن نهر أبا جهل وغلظ له القول، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر مني. فأنزل الله {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (¬3). وقد سأل عروةُ بن الزبير عبدَ الله بن عمرو بن العاص: "أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعَيط، فأخذ بمنكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬4). وكان عمرو بن العاص والد عبد الله شاهدَ عيانٍ للحادثة، والغالب أنه سمع الخبر منه (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4/ 2154 من حديث أبي هريرة. وله شاهد من حديث ابن عباس مختصرًا أخرجه البخاري (فتح الباري 8/ 724). وأما تكملة الخبر في مستدرك الحاكم 3/ 325 ومسند البزار (كشف الأستار 3/ 130) ففي سنده عبد الله بن أبي فروة متروك. (¬2) العلق. وثمة احتمال أن يكون الخبر عن سبب نزول الآية من حديث أبي هريرة متصلًا (صحيح مسلم 4/ 2154 ومسند أحمد 2/ 370) ويقوى بشواهده كما في سنن الترمذي 5/ 443 - 444 وتفسير الطبري 3/ 256. (¬3) سنن الترمذي 5/ 443 - 444 وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح والآيتان من سورة العلق 18. وانظر الألباني: السلسلة الصحيحة رقم 275 حيث قال "إسناده صحيح على شرط مسلم". (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 554، 7/ 22، 165) وابن إسحاق: السير والمغازي 229 - 330 بإسناد حسن مطولًا. والآية من غافر 28. (¬5) مصنف ابن أبي شيبة 14/ 297 بإسناد حسن، وتفسير النسائي رقم 477 وتغليق التعليق 4/ 87. =

وثمة رواية ضعيفة تفيد أن المشركين ضربوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى خضبوه بالدماء، وأن جبريل واساهُ ببيان معجزة له حيث دعا الرسول شجرة فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه (¬1). وكانت السخرية والاستهزاء من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته أحد الأساليب التي اتبعها المشركون في الحرب الكلامية لصرف الناس عن الدعوة، فكان أبو جهل يقول ساخراً: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم!! فنزلت الآية {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...} (¬2). كما وردت رواية في سبب نزول الآية {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} (¬3) ومفادها أن الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بني أسد بن عبد العُزَّى، والحارث بن عيطل السهمي، والعاص بن وائل، كانوا يستهزئون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشكاهم إلى جبريل، فعاقبهم الله في أبدانهم عقوبات شديدة. لكن الرواية لم تثبت من طريق صحيحة (¬4). ¬

_ وقارن برواية أنس بن مالك في مسند أبي يعلى 6/ 362 بإسناد فيه عنعنة الأعمش وهو مدلس. وبرواية أسماء بنت أبي بكر في مسند أبي يعلى 1/ 52 بإسناد فيه أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس وهو مدلس وقد عنعنه، وقد حسن الحافظ ابن حجر إسناده (فتح الباري 7/ 169). (¬1) سنن ابن ماجة 2/ 1336 ومسند أحمد 3/ 113 ومصنف ابن أبي شيبة 11/ 478 - 479 وسنن الدارمي 1/ 12 - 13 بإسناد فيه عنعنة الأعمش وهو مدلس. (¬2) صحيح البخاري 5/ 199 كتاب التفسير باب قوله {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ ...} وباب قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} وصحيح مسلم 4/ 215. والآيات من سورة الأنفال 33. (¬3) الحجر 95. (¬4) نعم صحح الذهبي الحديث (السيرة النبوية 143) ولكنه لم يسق إلا أعلى السند وهو صحيح كما قال. ونحن لا نعلم من أسانيدها الكاملة إلا ما ساقه البيهقي في الدلائل 2/ 316 - 318 وفي سنده أحمد بن يوسف السلمي لم أقف على ترجمته ولولاه لكان السند لا بأس به. وقد ساق الطبراني الرواية في الأوسط (مجمع البحرين 2/ 18 ب) وفي سنده محمد بن عبد الحكيم النيسابوري قال الهيثمي: لم أعرفه (مجمع الزوائد 7/ 47) ولم أقف على ترجمته.

وثمة روايات ضعيفة أخرى تشير إلى تغليظ رسول الله الكلام على المشركين مثل تقبيح وجوههم وهو جمعٌ في المسجد الحرام (¬1)، أو محاولتهم أذاه وامتناعه عليهم ووقوع العمى فيهم ثم زواله عنهم بدعائه -صلى الله عليه وسلم- (¬2)، أو منع الله لهم من أذاه بحجب رؤيتهم (¬3) له. وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية مما كان سببًا مباشرًا للهجرة. قال ابن عباس: "إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاهدوا باللَّات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأينا محمدًا قمنا إليه قيامَ واحدٍ، فلم نفارقه حتى نقتله. فأقبلت فاطمة تبكي حتى دخلت على أبيها. فقالت: هؤلاء الملأ من قومك في الحجر قد تعاهدوا أن لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك. قال: يا بنية أدني وَضوءًا. فتوضأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا هذا هو، فخفضوا أبصارهم، وعَقِروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يقم منهم رجل. فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قام على رءوسهم، فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه. ¬

_ (¬1) كشف الأستار 3/ 130 - 131 بإسناد فيه علي بن شبيب مجهول ومحمد بن الضحاك بن عثمان انفرد ابن حبان بتوثيقه (ثقات ابن حبان 9/ 59). (¬2) أبو نعيم: دلائل النبوة 1/ 256 - 257 وفي إسناده النضر بن عبد الرحمن الخزاز متروك. (¬3) الطبراني: المعجم الكبير 3/ 239 - 240 في إسناده مجاهيل الحكم بن أبي الحكم الأموي قال ابن عبد البر مجهول (الاستيعاب مع الإصابة 1/ 316) وبنت الحكم قال الهيثمي: لا أعرفها (مجمع الزوائد 8/ 227).

اضطهاد قريش للمسلمين

قال: فما أصابت رجلًا منهم حصاة إلا قد قتل يوم بدر كافرًا (¬1). وهذه الحادثة قد تكررت ليلة الهجرة وكان رسول الله يذكر ما لاقاه من أذى قريش -قبل أن ينال الأذى أحدًا من أتباعه- يقول: "لقد أُخفتُ في الله عز وجل وما يُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال (¬2). اضطهاد قريش للمسلمين: لم يقتصر أذى قريش على الاتهام الباطل، والتكذيب السافر والسخرية المرة، والأذى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل تصاعد إلى ذروة العنف وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين. فنكلت بهم لتفتنهم عن دينهم، ولتجعلهم عبرة لسواهم، ولتنفس عن غضبها بما تصبه عليهم من العذاب. قال عبد الله بن مسعود -وهو شاهد عيان-: "أول من أظهر إسلامه سبعة، رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبو بكر، وعمار، وأمه سُميّة، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه ¬

_ (¬1) مسند أحمد 1/ 303، 368 بإسنادين صحيحين كما قال أحمد شاكر في حاشية مسند أحمد 4/ 269، 5/ 163 وانظر مستدرك الحاكم 3/ 157. (¬2) مسند أحمد 3/ 286 وسنن الترمذي 4/ 645 وقال: هذا حديث حسن غريب، وفي تحفة الأشراف 1/ 123 وتحفة الأحوذي 3/ 309 قال: حسن صحيح. وصححه الألباني: صحيح الجامع 5001 ومشكاة المصابيح 3/ 1446. وأما حديثه -صلى الله عليه وسلم- مع وفد ثقيف عن أذى قريش له في مسند أحمد 4/ 343 فإسناده ضعيف فيه عثمان بن عبد الله بن أوس انفرد ابن حبان بتوثيقه وقال ابن حجر: مقبول (تقريب 384) وفيه عبد الله بن عبد الطائفي فيه ضعف ويعتبر بحديثه (تهذيب التهذيب 5/ 299).

نفسُه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحَدٌ أحَد " (¬1). ثم اشترى أبو بكر بلالًا فأعتقه (¬2). ويذكر عروة بن الزبير -إمام أهل المغازي- "أعتق أبو بكر -رضي الله عنه- ممن كان يعذَّبُ في الله سبعة: عامر بن فُهيرة، وبلال، ونُذيرة، وأم عُبيس، والنَّهدية، وأختها، وجارية بني عمرو بن مؤمل" (¬3). ومما ذكره عروة بن الزبير عن عذاب المستضعفين: أن أبا بكر مرَّ بالنَّهدية ومولاتها تعذبها، تقول: والله لا أعتقك حتى تعتقك حياتك. فقال أبو بكر فبكم؟ قالت: بكذا وكذا، فقال: قد أخذتها وأعتقتها. ثم قال للنهدية: ردي عليها طحينها. قالت: دعني أطحنه لها (¬4)!! ويذكر عروة أيضًا: ذهب بصر زنيرة، وكانت ممن تعذب في الله عز وجل على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا ¬

_ (¬1) أحمد: المسند 1/ 404 بإسناد حسن، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك 3/ 284) وصححه الذهبي في السيرة النبوية 137 وفيه عاصم بن أبي النجود صدوق له أوهام (تقريب 285) وله شاهد صحيح السند من مرسل مجاهد (مصنف ابن أبي شيبة 13/ 47 - 49). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 99) وابن أبي شيبة: المصنف 14/ 312 بإسناد صحيح لكنه من مرسل قيس بن أبي حازم ويقول: "اشترى أبو بكر بلالا بخمس أواقِ وهو مدفون بالحجارة. قالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعنا، فقال: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته". (¬3) مصنف ابن أبي شيبة 12/ 10 بإسناد صحيح إلى عروة لكنه مرسل والطبراني: المعجم الكبير 1/ 318 - 319 وانفرد بوصله عن عائشة في المستدرك 3/ 284 وصححه ووافقه الذهبي. (¬4) ابن إسحاق: السير والمغازي 191 من مرسل عروة. والغالب أن أخبار أبي بكر (رض) إنما أخذها عروة عن خالته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-.

اللات والعزى. فقالت: كذا!؟ والله ما هو كذلك. فرد الله عليها بصرها (¬1). وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يعتق المستضعفين من الرقيق المسلم فقال له أبوه أبو قحافة: لو أنك أعتقت رجالًا جلدًا يمنعونك؟ فبين له أبو بكر أنه يريد بذلك وجهً الله لا المَنَعة. فنزلت الآية {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} إلى قوله {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى (¬2)} (¬3). وقد وردت روايات كثيرة في ألوان العذاب التي لقيها عمار بن ياسر وأهله، وهي تكفي لإثبات وقوع الحادث تاريخيًا (¬4)، وقد ذكر المفسرون أن الآية {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (¬5) نزلت في عمار (¬6). ¬

_ (¬1) المصدر السابق. (¬2) الليل 5 - 21. (¬3) الحاكم: المستدرك 2/ 525 - 526 بإسناد حسن، لأن محمد بن عبد الله بن عتيق مقبول وقد تابعه مصعب بن ثابت عن عامر (تفسير الطبري 30/ 228) ومصعب مقبول في المتابعات (تقريب التهذيب 490، 533). (¬4) أما حديث (أبشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة) فأخرجه ابن سعد: الطبقات 3/ 249 بسند صحيح إلى أبي الزبير لكنه مرسل. ووصله الحاكم عن جابر، ولا يصح وصله لضعف شيخ الحاكم ولو صح سنده لبقي الضعف في السند لتدليس أبي الزبير لأنه ليس من طريق الليث عن أبي الزبير (المستدرك 3/ 388 - 389). ورواه الحارث بن أبي أسامة بسند منقطع لأن سالم بن أبي الجعد (ت 97 هـ) لم يسمع من عثمان بن عفان وفي إسناده عبد العزيز بن أبان ضعيف (بغية الباحث في زوائد مسند الحارث حديث رقم 994). وقد تابعه عبد الصمد بن عبد الوارث، في مسند أحمد 1/ 62 وأخرجه أبو أحمد الحاكم من طريق عُقَيل عن الزهري عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه (الإصابة 6/ 639) ويتوقف تصحيح الحديث على حال سنده عنده إلى عقيل، ولكنه يعضد بالروايات التي تفيد سبب نزول الآية. (¬5) النحل 106. (¬6) الطبري: تفسير 14/ 182 بسند حسن من مرسل أبي عبيدة بن محمد بن عامر بن ياسر (ت 97 هـ) ووصله الحاكم عن أبيه ولا يصح (مستدرك 3/ 388) لأن شيخ الحاكم العلاء =

وممن ناله الأذى في سبيل الله خبّاب بن الأرتّ حتى سأل رسول الله أن يدعو الله ليخفف عن المستضعفين. قال: "أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو متوسدٌ بُردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة. فقلت: يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ فقعد -وهو محمرُّ وجهه- فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحمِ أو عَصَب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله" (¬1). وكان خبّاب يعمل حدادًا، فعمل للعاص بن وائل سيفًا، فاجتمع له عنده مال، فذهب يتقاضاه. فقال العاص: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فردَّ عليه خباب: حتى تموت ثم تبعث. فقال العاص ساخرًا بأنه سيقضيه يوم القيامة من ماله!! فنزلت الآية {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} (¬2) (¬3). مما يدل على ما لحق المستضعفين من ظلم وغصب لأموالهم فضلًا عن أذى أبدانهم. كما يدل على نقض قريش لحلف الفضول الذي عقدته قبل الإسلام بعقدين فقط!! ¬

_ = ابن هلال فيه لين (تقريب 436) وكذلك ووصله الطبراني بإسناد فيه إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وقد انفرد ابن حبان بتوثيقه (المعجم الأوسط 304 - 305) والمحفوظ أنه مرسل وذكر سبب النزول قتادة وأبو مالك النضر بن أنس بن مالك البصري وهو ثقة مات سنة بضع ومائة (تقريب 561). (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 165، 6/ 619). (¬2) مريم 77 - 80. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 4/ 452، 5/ 77، 8/ 430، 431). وصحيح مسلم 4/ 2153.

ولا شك أن المسلمين -على ضعفهم- كانوا يرغبون في الدفاع عن أنفسهم ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم. وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي بمكة فقالوا: يا نبي الله، كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة! قال: إني أُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم - فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} (¬1) (¬2). وتجمل عبارات لعائشة -رضي الله عنها- ولعبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- الحال التي كان عليها المسلمون بمكة في تلك المرحلة .. قالت عائشة -وقد سئلت عن الهجرة-: "لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبُدُ ربَّه حيث شاء" (¬3). وقال عبد الله بن عمر: " ... كان الإسلام قليلًا، فكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه، وإما يعذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة!! " (¬4). وقد بقيت المأساة التي يعيشها المستضعفون حاضرة في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يدعو لمن بقي منهم بمكة بالنجاة من المشركين وذلك بعد هجرته إلى المدينة (¬5). ¬

_ (¬1) النساء 7. والآية مدنية تشير إلى ما حدث بمكة من الأمر بالكف عن القتال. (¬2) الطبري: تفسيره 5/ 170 - 171 والحاكم: المستدرك 2/ 307 وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي. والصحيح أنه على شرط مسلم فقط لأن البخاري أخرج للحسين بن واقد تعليقاً فقط. وانظر أيضًا تفسير ابن كثير 1/ 451. (¬3) صحيح البخاري 4/ 253، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة. (¬4) صحيح البخاري 5/ 157، 200 كتاب التفسير. (¬5) صحيح البخاري 2/ 15 وصحيح مسلم 1/ 466.

وقد أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بضبط النفس والتحلي بالصبر، وعدم مقارعة القوة بالقوة، والعدوان بالعدوان، حرصًا على حياتهم ونظرًا لمستقبل الدعوة، وإمساكًا بزمام الدعوة الوليدة أن يئدها الشر وهي لا تزال غضَّة طرية، ولعل المشركين كانوا يحرصون على مواجهة حاسمة مع الدعوة تُنهي أمرها، لكن الحكمة الإسلامية فوتت عليهم الفرصة. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على عينه، ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة، ثم نزلت هذه الآيات في المرحلة المكية {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}. تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يخصص شطرًا من الليل للصلاة، وقد خيَّره الله تعالى أن يقوم للصلاة نصف الليل أو يزيد عليه أو ينقص منه، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه معه قريبًا من عام حتى ورمت أقدامهم، فنزل التخفيف عنهم بعد أن علم الله منهم اجتهادَهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم فقال {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬1). ولا شك في أن امتحانهم في هجر الفرش ومقاومة النوم ومألوفات النفس لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيدًا لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم، إذ لا بد من إعداد روحي عالٍ لهم، وقد اختارهم الله تعالى لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتخذ منهم شهداء على الناس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات الجسيمة في تعديل مسار البشرية، وإنقاذها من الانحرافات الخطيرة، وتسديدها نحو توحيد الله وطاعته. وهي مهمة عظيمة لا يضطلع بها إلا أولئك الذين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}. وقد وصف القرآن الكريم قيام الليل والصلاة فيه وقراءة القرآن ترتيلاً أي مع البيان والتؤدة - بأنه {أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ ¬

_ (¬1) المزمل 20 وانظر الرواية في سنن أبي داود 2/ 72 حديث رقم 1305 وتفسير الطبري 29/ 79.

لجوء قريش إلى المفاوضات

قِيلًا} فهو أثبت أثرًا في النفس مع سكون الليل وهدأة الخلق، حيث تخلو من شواغلها وتفرغ للذكر والمناجاة بعيدًا عن علائق الدنيا وشواغل النهار. وبذلك يتحقق الاستعداد اللازم لتلقى الوحي الإلهي {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} والقول الثقيل هو القرآن الكريم، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدقيق للمسلمين الأوائل في قدرتهم على تحمل أعباء الجهاد وإنشاء الدولة بالمدينة، وفي إخلاصهم العميق للإسلام وتضحيتهم من أجل تطبيقه في واقع الحياة ونشره بين العالمين. لجوء قريش إلى المفاوضات: وقد لجأت قريش إلى مفاوضة أبي طالب عم الرسول ليكفه عن دعوته. قال عقيل بن أبي طالب -وهو شاهد عيان مشارك في الحدث: "جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا. فقال: يا عقيل، انطلق فائتني بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فانطلقت إليه، فاستخرجته من كبسيٍ (¬1) -بيت صغير- فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة الحر الرحض. فلما أتاهم قال أبو طالب: إن بني عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم فانته عن أذاهم. فحلَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم. قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة. فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخي فارجعوا (¬2). وقد اشتد الضغط على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه بعد فشل هذه المفاوضات. ¬

_ (¬1) في الأصل "خيسي" وصوبته من النهاية 4/ 143. (¬2) ابن إسحاق: السير والمغازي 155 من زيادات يونس بن بكير عليه وليونس متابع ثقة هو عبد الواحد بن زياد عند الحاكم: المستدرك 3/ 577 وقد صحح الألباني الحديث (السلسلة الصحيحة 1/ 147). وقارن برواية ابن إسحاق: السير والمغازي 154 بإسناد معضل (الألباني: السلسلة الضعيفة 2/ 311 لأن يعقوب بن عتبة من أتباع التابعين وقد أرسله).

لجوء المشركين إلى المطالبة بالمعجزات لإثبات النبوة

لجوء المشركين إلى المطالبة بالمعجزات لإثبات النبوة: أخذ عناد المشركين يقوى ولجاجتهم تشتد، وقد أرادوا إخراج الرسول وتحديه بمطالبته بالإتيان بمعجزات تثبت نبوته. قال عبد الله بن عباس: "قالت قريش للنبي: ادعُ لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا. فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت لهم باب التوبة والرحمة؟ قال: بل باب التوبة والرحمة" (¬1). قال ابن عباس: "فأنزل الله عز وجل هذه الآية {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} (¬2) " (¬3). فكما أن معجزة هود لم تنفع في جلبِ ثمود إلى الإيمان، فإن المشركين من قريش لن تنفعهم قياسًا على ما وقع من عِبَر التاريخ الغابرة. ولكن أمام إلحاح المشركين وعنادهم استجاب لهم -وقد سألوه آية- فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا جبل حراء بينهما (¬4). ¬

_ (¬1) مسند أحمد 1/ 242، 345 وكشف الأستار 3/ 55 مستدرك الحاكم 1/ 53 - 54 وقال: "هذا حديث صحيح محفوظ من حديث الثوري عن سلمة بن كهيل". والطبراني: المعجم الكبير 12/ 152 قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" (مجمع الزوائد 7/ 50). وقال ابن كثير: إسناده جيد (السيرة النبوية 1/ 362) وللحديث سند آخر عن ابن عباس (مسند أحمد 1/ 258) وفيه تدليس الأعمش لكنه يعتضد بالطريق الأول، لذلك صححه الحاكم والذهبي (المستدرك 2/ 362 والسيرة النبوية للذهبي 135 وقال ابن كثير بعد أن عزاه للنسائي: إسناده جيد (السيرة النبوية لابن كثير 1/ 483). (¬2) الإسراء 59. (¬3) مسند أحمد 1/ 258 بإسناد جيد كما في حاشية (1) منه. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 182 و 8/ 617) وصحيح مسلم 4/ 2158، 2159.

وقد شاهد الصحابي عبد الله بن مسعود حادثة انشقاق القمر بمكة (¬1). وقد خلّد القرآن هذه المعجزة فقال تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (¬2). وهكذا عللوا رؤيتهم لانشقاق القمر بالسحر، وكانوا يتّهمون به الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وتحققت فيهم سُنة السابقين مع المعجزات الحسيَّة كما أخبر القرآن. ولم يثبت من طريق صحيحة أن عتبة بن ربيعة أو الوليد بن المغيرة عرضا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عروضًا من الرئاسة والمال والزواج والتطبب (¬3) وإن اشتهر هذا بين الناس، ولا يعني ذلك نفي وقوع الأمر تاريخيًا بل عدم ثبوته فقط وما أكثر الأحداث التاريخية التي وقعت ثم لا يمكن إقامة الأدلة الصحيحة عليها. ¬

_ (¬1) السيوطي: الدر المنثور 7/ 670، وأصله في الصحيحين عن ابن مسعود مختصراً (فتح الباري 6/ 631 وصحيح مسلم بشرح النووي 17/ 143 - 144. (¬2) القمر 1 - 2 ومستمر: ذاهب، وعن سبب النزول راجع سنن الترمذي 5/ 397 - 398 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقد وردت روايات واهية تفصل الخبر (راجع دلائل النبوة لأبي نعيم 1/ 368 وفي سنده موسى بن عبد الرحمن الثقفي واهٍ ميزان الاعتدال 4/ 211 - 212 - ويسند آخر في 1/ 369 فيه بشر بن الزبير الأصبهاني واه مِيزان الاعتدال 1/ 315 - 316). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة 14/ 295 - 297 ومسند عبد بن حميد من طريق بن أبي شيبة (تفسير ابن كثير 4/ 82) ومسند أبي يعلى 3/ 349 ودلائل البيهقي 2/ 202 - 204) بإسناد فيه الذيال بن حرملة مجهول الحال انفراد ابن حبان بتوثيقه (الثقات 4/ 222 - 223) وفيه الأجلح وقد ضُعِّف بعض الشيء (ابن كثير: تفسير 4/ 90 - 91) ومدار الروايات المسندة المعتبرة عليهما. ودلائل النبوة لأبي نعيم 1/ 304 - 305 وفي إسناده المثنى بن زرعة مجهول (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 8/ 327) وقال ابن كثير هذا حديث غريب جداً من هذا الوجه (السيرة النبوية لابن كثير 1/ 505). والسير والمغازي لابن إسحاق 131 - 132 - ط. حميد الله - وفي سنده محمد بن أبي محمد مجهول (تقريب 505) وسيرة ابن هشام 1/ 293 بسند حسن مرسل. ويرى ابن كثير أن سياقه أشبه من غيره (تفسير 4/ 83). وثمة روايات أخرى تالفة (المعجم الكبير للطبراني 11/ 125 بسند فيه إبراهيم الخوزي متروك، ومجمع الزوائد للهيثمي 7/ 131 وفي سند البزار والطبراني معلّي بن عبد الرحمن كذاب (مجمع الزوائد 7/ 130 وراجع كشف الأستار 3/ 73).

مجادلة قريش

كما لم يثبت أن قريشًا عرضت عليه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة (¬1). كما لا يصح أن أبا جهل اعترف بأن المنافسة بين عشيرته وبين عبد مناف هي التي دفعت بني عبد مناف إلى ادعاء النبوة ابتغاء الشرف عليهم (¬2). مجادلة قريش: وقد سلك المشركون طريقة الجدال لدحض الحق، فقد قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر قريش، إنه ليس أحد يُعبد من دون الله فيه خير -وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى بن مريم وما يقول محمد (¬3) -فقالوا: يا محمد الست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبدًا من عباد الله صالحًا؟ فلئن كنت صادقًا فإن آلهتهم لكما تقولون (¬4). فأنزل الله عز وجل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 2/ 337 وتفسير 30/ 331 من مرسل سعيد بن مينا فِعلتُهُ الإرسال. ووصله بإسناد آخر فيه محمد بن موسى الحرشي ضعيف، وفيه عبد الله بن عيسى بن خالد في روايته عن داود بن أبي هند مالا يوافقه عليه الثقات (تهذيب التهذيب 5/ 353). (¬2) ابن إسحاق: السير والمغازي 189 - 190، 210 بإسنادين منقطعين. (¬3) في الأصل "وما تقول في محمد" والتصويب من مجمع الزوائد 7/ 104 يعني أن ما تعلمه قريش وما يقوله محمد واحد، فهما متفقان على المقدمة. (¬4) يعني أن نتيجة كلام الرسول أن عيسى ما فيه خيرٌ لأنه يُعبد من دون الله. (¬5) الزخرف 57 والرواية في مسند أحمد 1/ 317 - 318 والمعجم الكبير للطبراني 12/ 153 - 154 كلاهما من حديث ابن عباس وإسنادهما حسن، عاصم بن بهدلة حسَّن الذهبي حديثه (ميزان الاعتدال 2/ 357) وثمة رواية ضعيفة تتضمن مجادلة حول الملائكة وعزير وعيسى وتذكر نزول آية أخرى (مستدرك الحاكم 2/ 384 - 385 وصحح إسناده وأقره الذهبي، وفي إسناده محمد بن موسى القاشاني ضعيف). وانظر: تفسير ابن كثير 3/ 198 من رواية ابن مردويه وشيخه محمد بن علي بن سهل ضعيف (ميزان الاعتدال 3/ 652 - 653). وتفسير الطبري 17/ 97 بسند فيه عطاء بن السائب اختلط ولم يُذكر أن يحيى بن المهلب روى عنه قبل الاختلاط. وانظر رواية البزار بإسناد ضعيف (كشف الأستار 3/ 59) لأن فيه شرحبيل بن سعد انفرد ابن حبان بتوثيقه. ورواية ابن أبي حاتم في تفسيره بسند فيه مبهم (تفسير ابن كثير 3/ 198).

وهذا القياس الفاسد من قريش، من تشبيه الأنبياء المكرمين بالأصنام المعبودة غير العاقلة اقتضى الرد عليه فقال الله تعالى مبينًا عبودية عيسى لله: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وإنه لم يدعُ إلى عبادة نفسه بل دعا إلى عبادة الله وحده: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} وسمَّى القرآن احتجاج قريش بالجدل {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}. وهو المِراء الباطل حيث كانوا عربًا فصحاء لا يخفى عليهم أن الآية {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} (¬1) هي خطاب لقريش، وهم يعبدون أصنامًا لا تعقل، وليست خطابًا للنصارى، فلا يرد اعتراضهم على الآية أصلًا -وهي لما لا يعقل- بدعوى اشتمالها للمسيح (عليه السلام). ومن المجادلات التي أثارها المشركون سؤالهم عن الروح قالت قريش لليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح. فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬2) قالوا: نحن لم نؤتَ من العلم إلا قليلًا، وقد أوتينا التوراة ومن أوتيَ التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا!! فنزلت {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬3). وسورة الإسراء كلها مكية (¬4)، ويحتمل إعادة نزولها عندما أثار اليهود الجدل حول الروح مرة أخرى في المدينة (¬5). ¬

_ (¬1) الزخرف 57 - 64 وتفسير ابن كثير 4/ 117 - 118 ط. خليل الميس. (¬2) الآية من سورة الإسراء 85. (¬3) الآية من سورة الكهف 109 والرواية في سنن الترمذي 5/ 304 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ومسند أحمد 1/ 255 ومستدرك الحاكم 2/ 531 وصحح إسناده وأقره الذهبي وصححه أيضًا في السيرة النبوية 134 وصححه الحافظ ابن حجر على شرط مسلم في الفتح 8/ 401 وفي السند عكرمة أخرج له مسلم مقرونًا (تهذيب التهذيب 7/ 272). (¬4) ابن كثير تفسير 3/ 60 وحكى الزركشي الاتفاق على ذلك (البرهان 1/ 30). (¬5) صحيح البخاري (فتح 10/ 15، 8/ 401) وصحيح مسلم 4/ 2152 وسنن الترمذي 5/ 304. وهذا الجمع بين الروايات أولى من ترجيح نزول الآية في المدينة.

لقد ورد في القرآن الكريم أن مشركي قريش اتهموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأخذ العلم من مصادر أعجمية، قال تعالى {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (¬1). وقد بيَّن الصحابي عبد الله بن مسلم الحضرمي أنه كان لهم صبيَّان عبدان يصقلان السيوف، يقرآن التوراة، هما يَسار وخير، فمر بهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهما يقرآن كتابًا لهما، فقال المشركون إنما يتعلم منهما فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬2). وكانا يقرآن التوراة بلسانهما، وأصلهما من أهل نجران (¬3)، في حين تذهب رواية إلى أنهما من عين (¬4) التمر. وتذهب روايات أخرى ضعيفة أيضًا إلى أن اسم القين الأعجمي بلعام (¬5). أو يعيش (¬6). إن الرواية الصحيحة تثبيت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مر به مرة واحدة، وتفيد أنهما صبيان، وكانا يقرآن التوراة بلسانهما أي بغير العربية والغالب أنها العبرانية كما هو معروف عن يهود الحجاز. ¬

_ (¬1) النحل 103. (¬2) بحشل: تاريخ واسط 49 بإسناد صحيح، وسماع خالد الطحان من حصين قبل الاختلاط (الكواكب النيرات 140) وسماع حصين من عبد الله بن مسلم صحيح (الإصابة 4/ 419). وقارن برواية الطبري: تفسير 14/ 179 وفيها (وكان رسول الله ربما جلس إليهما) وفيه "جبر" بدل "خير". وقارن برواية ابن أبي حاتم (السيوطي: لباب النقول 134). وبرواية الحاكم (المستدرك 2/ 357) بإسناد ضعيف لضعف عبد الرحمن بن الحسن الأسدي شيخ الحاكم. (¬3) ابن حجر: الإصابة 4/ 418 - 419 نقلًا عن البغوي وصحح سنده والواحدي: أسباب النزول 161 - 162 (ط. دار الكتب العلمية). (¬4) بحشل: تاريخ واسط 99 وفي سنده محمد بن خالد الطحان ضعيف وأسباب النزول للواحدي 161 - 162 من طريق ابن فضيل التي أخرجها البغوي وفيها أنهما من نجران. (¬5) الطبري: تفسير 14/ 177 بإسناد ضعفه السيوطي (لباب النقول 134) فيه مسلم بن عبد الله الملائي وهو ضعيف (تقريب 530) وقد رفعه إلى ابن عباس والمحفوظ أنه مرسل مجاهد كما في تفسير الطبري 14/ 179. (¬6) الطبري: تفسير 14/ 178.

ولو افترضنا أنه جلس إليهما عدة مرات كما في الروايات الضعيفة، فمن أين لغلامين يصقلان السيوف أن يعلما رسول الله نظاماً شاملًا للحياة ينبثق عن عقيدة مغايرة للنصرانية؟! ثم لماذا انفرد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمعرفة ما عندهما من العلم، وأين مالكهما ابن الحضرمي من ذلك، وقد آمن برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وعنه نقل الخبر الصحيح بشأن غلاميه النصرانيين. وغنيّ عن القول أن لا علاقة للغلامين الأعجمين ببلاغة القرآن المعجزة، وهي حجة الله على العرب الفصحاء وعلى من عرف أسرار لغتهم وتذوق حلاوتها إلى يوم الدين. فكيف يكون مصدرها أعجميين؟! وكذلك جادل المشركون في نزول القرآن منجمًا قائلين: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} وقد بين الله تعالى علة ذلك بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (¬1). وقد خاصم المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القَدَر -وهو إثبات ما قدره الله وقضاه وسبق به علمه وكتبه على عباده فكل ما يقع لهم إنما هو مقدر في الأزل معلوم لله مراد له- فنزلت الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (¬2)} (¬3). ولقد منعت الأنفة والكبر المشركين من الاستماع إلى الرسول بحضور المستضعفين من المؤمنين مثل عبد الله بن مسعود وبلال الحبشي فطلبوا من الرسول أن يطردهم، فنزلت {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (¬4). ¬

_ (¬1) الفرقان 32. وانظر الرواية في مستدرك الحاكم 2/ 222 وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما لم يخرجاه ووافقه الذهبي. وانظر فتح القدير للشوكاني 4/ 75 (ط. دار المعرفة). (¬2) القمر 48 - 49. (¬3) صحيح مسلم 4/ 2046 وسنن الترمذي 4/ 459 وقال: صحيح. (¬4) الأنعام 52. والحديث في صحيح مسلم 4/ 1878 حديث رقم 2413 وقد ذكرت رواية =

بل قد عاتب الله تعالى رسوله عندما أعرض عن ابن أمِّ مكتوم وهو يسأله عن شيء ورسول الله منصرف إلى الكلام مع أبي بن خلف فنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (¬1). إنه لا مجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل وما تقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- للاهتمام الكبير الذي أظهره لأُبيّ بن خلف على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف، فابن أم مكتوم يرجح في ميزان الحق على المئات من أمثال أبيّ بن خلف. وقد جادل المشركون في عقيدة البعث فأكثروا فيها الجدل، فإن عقليتهم لم تتسع إلى تصور الحياة بعد الموت -كما حكى القرآن على لسانهم، ولكن هذا لا ينطبق على البعض منهم مثل أمية بن أبي الصلت حيث يدل شعره على إيمانه بالبعث والآخرة - {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} - (¬2). حتى جاء العاص بن وائل بعظم بالٍ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتساءل ساخرًا إن كان الله يبعث ذلك العظم البالي!! فقال له رسول الله: "نعم، يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم". فنزلت الآيات {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ ¬

_ = ضعيفة أسماء الذي طلب الملأ طردهم وهو سعد وعبد الله بن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال. (ابن ماجة: السنن 2/ 1383 بإسناد فيه قيس بن الربيع صدوق اختلط لما كبر (تقريب التهذيب 457). (¬1) عبس 1. والحديث في سنن الترمذي 4/ 209 بإسناد رجاله رجال الصحيح وصححه الحاكم على شرطهما لكن الذهبي رجح فيه الإرسال (المستدرك 2/ 514). (¬2) الصافات 16. (ابن ماجة: السنن 2/ 1383 بإسناد فيه قيس بن الربيع صدوق اختلط لما كبر (تقريب التهذيب 457).

نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (¬1) إلى آخر السورة (¬2). ولم يكن أهل مكة يعترفون بعقيدة النبوة نفسها -إلا الحنفاء الموحدين، وهم قلة قليلة-، لذلك كانت مواجهتهم لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ساخرة مليئة بالريبة كما في الآية {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} (¬3). وقد تجادل ثلاثة من المشركين بينهم عند البيت الحرام حول إحدى صفات الله وهي السمع، فمنهم من أثبتها ومنهم من أنكرها فنزلت الآية {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} (¬4). أي أنهم ما كانوا يخفون عن حواسهم وأعضائهم المعاصي التي يرتكبونها لاعتقادهم أن الله لا يعلم جميع ما يفعلون. ولما نزلت الآية {ألم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} (¬5). وقعت مجادلة بين أبي بكر والمشركين حول الحرب بين الروم والفرس، وكان المسلمون يحبون أن ينتصر الروم لأنهم نصارى، وكان عاطفة المشركين مع الفرس لأنهم مجوس وأهل أوثان، فراهن أبو بكر على انتصار الروم خلال خمس سنوات برهان، وذلك قبل تحريم الرهان في الإسلام (¬6). ويؤيد ¬

_ (¬1) يس 77. (¬2) الحاكم: المستدرك 2/ 429 وصححه ووافقه الذهبي. وأما رواية الطبري التي تقول: إن السائل هو عبد الله بن أبي سلول فضعيفة الإسناد من طريق عطية العوفي ولأن السورة مكية. تفسير ابن كثير 3/ 581 (ط. دار الشعب) نقلًا عن ابن أبي حاتم. (¬3) الإسراء 94. (¬4) فصّلت 22. والرواية في الصحيحين (فتح الباري 8/ 562 وصحيح مسلم بشرح النووي 17/ 122). وانظر تفسير ابن كثير 4/ 87 (ط. خليل الميس). (¬5) الروم 1 - 4. (¬6) والرواية في سنن الترمذي 5/ 343 - 344 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم في (المستدرك 2/ 410 ووافقه الذهبي). وانظر الفتح الرياني 18/ 228 والمعجم الكبير للطبراني 12/ 29 وتفسير الطبري 21/ 12 ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 330.

الهجرة إلى الحبشة

حساب السنين أن الرهان جرى في بداية مرحلة الجهر بالدعوة. ولا بد أن فرحة المؤمنين بانتصار الروم كانت كبيرة لما فيها من تأييد القرآن وخذلان المشركين فضلًا عن انتصار أهل الكتاب على المجوس، بل قد أسلم ناس كثير على أثر ذلك (¬1). إن مراقبة الأوضاع خارج الجزيرة العربية مهمة لبلد تجاري كمكة، وخاصة الصراع بين أقوى دول العالم يومئذ: الفرس والروم. كما أن نبوءة القرآن كانت تشعر المؤمنين بأهمية متابعة التطورات السياسية خارج بلادهم، بل وفيها ما يرمز إلى وحدة موقف المؤمنين بالله أمام الوثنية والإلحاد منذ أن كان المؤمنون قلة مستضعفة بمكة. إن الجدل الساخن يوضح جانبًا آخر من العلاقات بين المسلمين والمشركين، وقد تصاعد العنف مع الأيام، فأصبح المسلمون في حالة انفصام تام عن المجتمع المكي تحيط بهم النظرات الغاضبة والألسن الشاتمة والأيدي المعتدية بأنواع العذاب، لذلك صار مقام المسلمين في مكة غاية في الصعوبة ومن هنا جاء التفكير بمكان آمن يهاجرون إليه، وكان توجههم الأول نحو الحبشة. الهجرة إلى الحبشة: من الثابت أن المسلمين هاجروا إلى الحبشة مرتين (¬2)، وكانت الهجرة الأولى في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وهم أحد عشر رجلًا وأربع نسوة ¬

_ (¬1) سنن الترمذي 5/ 344 - 345 وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب وحسنه الألباني (سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/). وقارن برواية ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير 6/ 305 - 306 ط. الشعب وفي ط. بيروت 3/ 423 وفيه خطأ). بإسناد فيه مؤمل بن إسماعيل صدوق شيء الحفظ (تقريب 555) وفيه عنعنة أبي إسحاق السبيعي وهو مدلس. وقارن أيضًا برواية الطبري: تفسير 21/ 19 بإسناد منقطع لأن عامر الشعبي لم يسمع ابن مسعود، ورجح ابن كثير فيه الإرسال (تفسير 3/ 423). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 187).

خرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار (¬1). وقد صورت أم سلمة (زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-) -وهي ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى- الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة قالت: "لما ضاقت علينا مكة -وأوذي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع دفع ذلك عنهم. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مَنَعة من قومه وعمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا مما أنتم فيه)، فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار أمنًا على ديننا ولم نخشَ منه ظلمًا" (¬2). وممن خرج مهاجرًا إلى الحبشة أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى إذا بلغ بَرْك الغِمَاد (¬3) لقيه ابن الدَغِنَّة -وهو سيد القارة (¬4) - فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج، فإنك تسكب المعدوم، وتصل الرحم، وتحملُ الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (¬5)، وأنا لك جارٌ فارجع فاعبد ربك ببلادك. فرجع أبو بكر مع ابن الدَغِنة الذي أعلن في قريش جواره له. فوافقت قريش على أن يعبد أبو بكر ربه في داره ولا يستعلن، ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 187 - 188 (وهو قول الواقدي وإن لم يصرح الحافظ باسمه كما في طبقات ابن سعد 1/ 204) ويذكر ابن إسحاق أنهم عشرة رجال وأربع نسوة (سيرة ابن هشام 1/ 344). (¬2) فتح الباري 7/ 189 وسيرة ابن إسحاق 194 وسيرة ابن هشام 1/ 334 بإسناد حسن فرواية يونس بن بكير توبعت برواية البكائي وابن إسحاق صرح بالتحديث. (¬3) موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمين. (فتح الباري 7/ 232). (¬4) حلفاء بني زهرة من قريش (الفتح 7/ 233). (¬5) يبدو أن هذه العبارة محفوظة عند الناس يقولونها في الثناء على صاحب المروءة، لذلك فقد وردت على لسان خديجة رضي الله عنها في وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث بدء الوحي.

فمضى وقت على ذلك ثم أخذ أبو بكر يجهر بقراءة القرآن في فناء داره فيجتمع نساء وأبناء المشركين يعجبون وينظرون إليه "وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن" فأفزع ذلك قريشا، وطلبوا من ابن الدغنة أن يكفه، فخيره ابن الدغنة بين الإسرار بعبادته أو أن يرد عليه جواره، فرد أبو بكر عليه جواره قائلا: إني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله (¬1). وهكذا بقي أبو بكر بمكة على جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أذى المشركين بعد أن كان رسول الله قد أذن له بالهجرة على الحبشة (¬2). وفي أعقاب الهجرة الأولى إلى الحبشة حدث أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام، فقرأ سورة النجم فسجد في موضع السجود وسجد كل من كان حاضرا إلا اثنين من المستكبرين، فشاع أن قريشا قد أسلمت (¬3). وقد ذهبت روايات مرسلة صحيحة السند إلى مرسليها وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو العالية إلى أن الشيطان ألقى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في قراءته في صلاته تلك العبارة (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى)، كما ذهبت روايات مرسلة أخرى ضعيفة الأسانيد إلى مرسليها إلى أن العبارة قالها الشيطان وسمعها المشركون دون المسلمين، فسجد المشركون بسجود المسلمين (¬4). وما قالته المراسيل المعتبرة يصطدم مع عصمة النبوة في قضية الوحي ويعارض التوحيد وهو أصل العقيدة الإسلامية؛ لذلك فإنها مرفوضة متنا حتى لو ثبت تعدد مخارجها، ولم يأخذها الثلاثة التابعون عن شيخ واحد. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 4/ 475 - 476). (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 372 - 374 بإسناد حسن. (¬3) صحيح البخاري كما في فتح الباري 2/ 551، 553، 557، 560، 565، 8/ 614 وصحيح مسلم 1/ 405 وراجع الألباني: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق. (¬4) المصادر السابقة.

الهجرة الثانية إلى الحبشة

لقد بين فوك أن بعض المستشرقين صدق القصة وبعضهم كذبها حسب الهوى (¬1)، وأما زعم واط أن القصة صحيحة لأنها في غاية الغرابة فلا بد أن تكون حقيقية في جوهرها إذ لا يتصور أن يكون أحد اختلق قصة مثلها ثم اقنع جماعة ضخمة من المسلمين أن تقبلها (¬2). والحق أن تصحيح واط لها لأنها وافقت هواه، فمتى كانت الغرابة مقياسا لتصحيح الروايات، ولماذا لا يبين رفض كثير من علماء المسلمين لها. ولعل سجود المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما اعتراهم من خوف ودهشة وهم يستمعون إلى أخبار هلاك الأمم السالفة (¬3). الهجرة الثانية إلى الحبشة: ثم بلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة "أن أهل مكة اسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحا، فرجعوا، وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وهي الهجرة الثانية وسرد ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثانية وهم زيادة عن ثمانين رجلاً. وقال ابن جرير: كانوا اثنين وثمانين رجلاً سوى نسائهم وأبنائهم .. وقيل إن عدة نسائهم كانت ثماني عشرة امرأة" (¬4). لقد ذكر ابن إسحاق دوافع الهجرة الثانية فقال: "فلما اشتد البلاء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الفتنة الآخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة" (¬5). ¬

_ (¬1) Fueck . j . the role of traditionalism in islam in Swarts, M(ed & transl) , studies on Islam , Oxford , 1983 . p .112. (¬2) watt , M.Mohammad , propht and states man p .61 . (¬3) الألوسي: روح المعاني 17/ 178 ط المنيرية. (¬4) فتح الباري 7/ 189. (¬5) السير والمغازي لابن إسحاق ص 213 - تحقيق سهيل زكار.

لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة يحملان الهدايا إلى النجاشي وبطارقته، فقابلا النجاشي طالبين إليه إعادة من هاجر من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى المسلمين فسألهم عن دينهم، فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "أيها الملك كنا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان ونأكل الميتة، ونسئ الجوار، ونستحل المحارم، بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئاً ولا نحرمه. فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلي ونصوم، ولا نعبد غيره". فقال: هل معك شئ مما جاء به - وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله. فقال جعفر: نعم. قال: هَلُمَّ فاتلُ عليَّ ما جاء به. فقرأ عليه صدرا من كهيعص (¬1)، فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم. ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى انطلقوا راشدين. ولما أخفقت محاولة وفد قريش في استعادتهم، أثار عمرو بن العاص في اليوم التالي موقف المسلمين من عيسى عليه السلام، فقال للنجاشي: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً. فأرسل النجاشي إليهم فسألهم فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فقال النجاشي: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود. ¬

_ (¬1) يعني سورة مريم.

وأعطى النجاشي الأمان للمسلمين، فأقاموا مع خير جار في خير دار -كما تقول أم سلمة رضي الله عنهما (¬1). ونذكر رواية صحيحة أن القسيسين والرهبان الذين حضروا مجلس النجاشي وسمعوا القرآن انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق فأنزل الله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬2). إن مبادرة قريش لإرسال وفد لاستعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة تدل على إدراكها لخطورة الموقف إذا ما حصل المسلمون على مأوى لهم يأمنون فيه، ¬

_ (¬1) ابن إسحاق: السير والمغازي 213 - 217 وسيرة ابن هشام 1/ 289 - 293 بإسناد حسن إلى أم سلمة رضي الله عنها ولعل عائشة رضي الله عنها التي حكت خبر النجاشي مع عمه سمعت ذلك من أم سلمة (ابن إسحاق: سيرة 197 - 199). وأما رواية أحمد في مسنده 1/ 461 من حديث ابن مسعود فسنده ضعيف فيه حديج بن معاوية يصلح حديثه للاعتبار فقط وفيه عنعنة أبي إسحاق وهو مدلس، ومتنه مضطرب يجمع أخباراً تتصل بالهجرة الثانية فيجعلها في الهجرة الأولى. وظاهره أنا أبا موسى هاجر من مكة إلى الحبشة مما يخالف ما في الصحيحين. وقد حسن ابن كثير وابن حجر إسناد هذا الحديث. (السيرة النبوية لابن كثير 2/ 11 وفتح الباري لابن حجر 7/ 189) وكذلك فإن سياق حديث أبي موسى الأشعري في مصنف ابن أبي شيبة 14/ 346 - 348 إسناده ضعيف لعنعنة أبي إسحاق السبيعي وإن صححه الحاكم والذهبي والبيهقي (المستدرك 2/ 309 - 310 ودلائل البيهقي 2/ 299 - 300) وهو مخالف لما في الصحيحين ظاهره يدل على هجرة أبي موسى الأشعري من مكة في الهجرة الأولى إلى الحبشة. وقد بين ابن كثير غرابة كلام ابن إسحاق وأنه لا يلتفت إليه (ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 9، 1/ 248). وقد سبقه إلى ذلك ابن حزم (جوامع السيرة 85) وابن سيد الناس (عيون الأثر 1/ 118) ولعل الواقدي هو أول من انتبه لهذا الأمر (زاد المعاد 3/ 28 والدرر لابن عبد البر 52. ط شوقي). (¬2) المائدة 82 - 83. وأنظر الرواية في تفسير الطبري 7/ 3 بإسناد صحيح وقارن برواية البزار في كشف الأستار 2/ 297 بإسناد ضعيف فيه عمير بن إسحق مقبول، وفيه إسلام عمرو بن العاص بالحبشة مبكراً وهو مخالف للمحفوظ.

والحبشة نصرانية، وملكها عرف بالعدل، وهي قريبة من مكة، وكل ذلك يشكل خطرا على قريش في المستقبل. ومما يبعث على العجب والإكبار لموقف المهاجرين بيانهم لعقيدتهم في عيسى عليه السلام بصراحة ووضوح، رغم مخالفتها للنصرانية السائدة في الحبشة. فلم يلجأوا إلى مجاملة الأساقفة الحاضرين خوفاً من تسليمهم لقريش. فأحسن الله عاقبتهم وآمنهم في دار هجرتهم (¬1).ولكن لا يخفى أن هجرة الوطن تصعب على المرء، وهو لا يفعل ذلك إلا مضطراً، وقد كان المسلمون المهاجرون عرباً يعيشون في سوط غريب لا تربطهم به وشائج رحم ولا لغة، فضلاً عن كونه وسطاً نصرانياً يخالفهم في المعتقد إلا النجاشي فإنه أسلم وورَّى بإسلامه أمام قومه (¬2). وهذا يتضح من مجادلة أسماء بنت عميس - إحدى المهاجرات إلى الحبشة قدمت مع جعفر إلى المدينة - مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. فقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البعداء البغضاء في الحبشة وذلك في الله وفي رسوله ... ونحن كنا نؤذي ونخاف ... لقد فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بينهما بقوله:"ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان. فعظم الفرح بين مهاجرة الحبشة (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر الطبراني في المعجم الكبير 2/ 109 - 111 والذهبي في السيرة النبوية 121 - 222 من حديث جعفر بن أبي طالب أن النجاشي سأل المسلمين: "أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم. فأمر منادياً فنادى: من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم، ثم قال: يكفيكم؟ فقلنا: لا، فأضعفها". وإسناده ضعيف لأن مداره على أسد بن عمرو الكوفي عن مجالد بن سعيد وكلاهما ضعيف وقد وثقا (مجمع الزوائد 6/ 30). (¬2) لقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى النجاشي في عام إرساله الكتب إلى ملوك الأرض يدعوه إلى الإسلام، وقد بين حديث صحيح أنه غير النجاشي المسلم أصحمة) صحيح مسلم 3/ 1397. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 237، 7/ 188، 484، 487) وصحيح مسلم بشرح النووي 16/ 64 - 66.

لقد توفي عبيد الله بن جحش (¬1) زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان فخطبها رسول الله وتزوجها وهي بالحبشة، زوجه إياها النجاشي ومهرها أربعة آلاف، ثم جهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنه، وجهازها كله من عند النجاشي، ولم يرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، وكانت مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم (¬2). وقد هاجر معظم مهاجرة الحبشة إلى المدينة بعد استقرار الإسلام فيها وتأخر جعفر بن أبي طالب ومن معه (¬3) إلى فتح خيبر سنة 7 هـ. لقد انضم إلى المسلمين في الحبشة أبو موسى الأشعري مع جمع من قومه بلغوا ثلاثة وخمسين رجلا، وكانوا قد ركبوا سفينة يريدون الهجرة إلى المدينة حين بلغهم استقرار الوضع فيها لصالح الإسلام، فألقتهم الرياح إلى الحبشة فالتحقوا بالمسلمين ومكثوا معهم إلى أن عادوا جميعا إلى المدينة حين افتتح المسلمون خيبر (¬4). ¬

_ (¬1) المشهور عند أهل المغازي أنه تنصر قبل وفاته (ابن إسحاق: كتاب السير والمغازي 259 والواقدي كما في طبقات ابن سعد 1/ 208) وقد ورد أنه حين حضرته الوفاة أوصى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (موارد الظمآن 312 بإسناد حسن لكن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي - صدوق - (تقريب 339) خالف بزيادته هذه معمراً ويونس عن الزهري وهما أوثق منه ويرى النسائي أن رواية ابن مسافر عن الزهري في طبقة رواية ابن أبي ذئب عن الزهري التي قيل إنها عرض وقيل مناولة دون سماع فإن مسألة الوصية لا تثبت حديثياً. (تذهيب التهذيب 9/ 305). (¬2) مسند أحمد 6/ 427 وسنن أبي داود 2/ 538، 569 بإسناد صحيح وسنن النسائي 6/ 119 ومستدرك الحاكم 2/ 181 وصححه وأقره الذهبي. (¬3) فتح الباري (7/ 234). (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 237، 7/ 188، 484، 485، 487). وصحيح مسلم بشرح النووي 16/ 64 - 66.

إسلام عمر بن الخطاب

إسلام عمر بن الخطاب: لم تصح رواية في تحديد وقت إسلام عمر بن الخطاب بدقة، ولكن ابن إسحاق جعل إسلام عمر بعد هجرة الحبشة وذكر من وجه آخر إنه عقب هجرة الحبشة الأولى (¬1)، وتحدد رواية الواقدي إسلامه في ذي الحجة السنة السادسة من البعثة وهو ابن ست وعشرين سنة، كما تحدد روايات الواقدي أن عدد المسلمين كان أربعين أو خمسين أو ستاً وخمسين منهم عشر نسوة أو إحدى عشرة (¬2). وكان عمر رجلاً قوياً مهيباً، وكان يؤذي المسلمين ويشتد عليهم، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - وهو ابن ابن عم عمر، وزوج أخته فاطمة بنت الخطاب -: "والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم" (¬3). وهكذا ربط عمر سعيداً بسبب إسلامه ليصده عن دينه. ولكن شدته الظاهرة تكمن خلفها رحمة ورقة، فقد أخبرت أم عبد الله بنت أبي حثمة - وهي من مهاجرة الحبشة - قالت: "والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجاتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب، حتى وقف علي - وهو على شركه، وكنا نلقي منه البلاء أذى لنا وشدة علينا - فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله؟ فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله مخرجاً. فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها. ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى - خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيت عمر ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 7/ 183 وانظر سيرة ابن هشام 1/ 342. (¬2) طبقات ابن سعد 3/ 269 - 270 والواقدي متروك - وهو راوي الخبر - ويؤيده أن عمر عبد الله بن عمر - وقد عقل قصة إسلام والده ورواها - كان ابن خمس سنين، وكان يوم أحد ابن أربع عشر سنة، وذلك بعد المبعث بست عشر سنة، فيكون مولده بعد المبعث بسنتين، فلا يتقدم إسلام عمر على سنة ست أو سبع (فتح الباري 7/ 178). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 176).

آنفا ورقته وحزنه علينا. قال: أطمعت في إسلامه؟ قلت: نعم. قال: فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب. قالت: يأساً منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام (¬1). ويبدو أن حدس المرأة كان أقوى، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن ينصر دينه به (¬2). فاستجاب الله دعاءه فأسلم عمر، فاعتز به الإسلام وصلى المسلمون بالبيت العتيق دون أن يتعرض لهم المشركون. قال ابن مسعود: "ما زلنا أعزَّةً منذ أسلم عمر" (¬3). وقال أيضاً: "لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي" (¬4). وقال: "إن إسلامه كان نصراً" (¬5). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 342 بإسناد فيه عبد الرحمن بن الحارث صدوق له أوهام، وعبد العزيز بن عبد الله بن عامر تابعي كبير، ترجم له البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. (التاريخ الكبير 6/ 13 والجرح والتعديل 5/ 385 وتعجيل المنفعة 261 وانفراد ابن حبان بتوثيقه (الثقات 7/ 110) وهو يروي الخبر عن أمه وهي شاهدة عيان. (¬2) سنن الترمذي 5/ 617 وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر". بإسناد فيه خارجة بن عبد الله صدوق فيه مقال (فتح الباري 7/ 48). وله شواهد من حديث ابن عباس (الطبراني: المعجم الأوسط 1/ 344) بإسناد فيه مبارك بن فضالة صدوق مدلس ويسوي وقد صرح بالسماع من شيخه فقط (انظر: تقريب التهذيب 519). وله شواهد آخر من حديث ابن مسعود (الطبراني: المعجم الكبير 10/ 196 - 197) بإسناد فيه مجالد بن سعيد تغير بأخرة وفيه محمد بن الحسن الأسدي صدوق فيه لين (تقريب 417، 520) حديث عائشة (سنن ابن ماجة 1/ 39) بإسناد فيه ضعف بسبب رواية محمد بن عبيد وعبد الملك بن الماجشون ومسلم بن خالد الزنجي. فالحديث صحيح لغيره. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 41، 177) (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 270 بإسناد صحيح، ومحمد بن عبيد ثقة زيادته صحيحة. (¬5) المعجم الكبير للطبراني 9/ 181 بإسناد حسن.

وقال عبد الله بن عباس لعمر حين طعن: "فلما أسلمت كان إسلامك عزاً وأظهر الله بك الإسلام ورسول الله وأصحابه" (¬1). وقد ذكر عبد الله بن عمر - وهو شاهد عيان - ما حدث من رد فعل قريش حين أسلم عمر بن الخطاب قال: "لما أسلم أبي عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ فقيل له: جميل بن معمر الجمحي. قال: فغدا عليه. قال عبد الله بن عمر: "فغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه. فقال له: ياجميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه وأتبعه عمر وأتبعت أبي. حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن عمر قد صبأ. قال: ويقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وطلح (¬2) فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموه لنا. قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص هوشي حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر. فقال: فمه، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خَلّوا عن الرجل. ¬

_ (¬1) المعجم الأوسط للطبراني 1/ 334 بإسناد حسن. (¬2) أعيا (النهاية لابن الأثير 3/ 131).

قال: فوالله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه". وقد عرف ابن عمر - فيما بعد - من أبيه أن الذي أجاره هو العاص بن وائل السهمي (¬1). لقد كان رد فعل قريش عنيفاً أمام حادثة إسلام عمر حتى سال بهم الوادي يريدون قتله لولا إجارة العاص له (¬2). أما قصة استماعه القرآن يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته قرب الكعبة وعمر مستخف بأستارها (¬3)، وكذلك قصته مع أخته فاطمة حين لطمها لإسلامها وضرب زوجها سعيد بن زيد، ثم اطلاعه على صحيفة فيها آيات وإسلامه (¬4)، فلم يثبت شئ من هذه القصص من طريق صحيحة. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 298 - 299 وسيرة ابن إسحاق 184 - 185 بإسناد حسن، وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد قوي. (السيرة النبوية لابن كثير 2/ 38 - 39). وقد روى البخاري قصة إجارة العاص بن وائل لعمر في صحيحه (فتح الباري 7/ 177). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 177). (¬3) مسند أحمد 1/ 17 - 18 بسند صحيح إلى شريح بن عبيد لكنه مرسل ضعيف لأن شريحاً لم يدرك عمر (مجمع الزوائد 9/ 62). ومصنف ابن أبي شيبة 14/ 103 وفي إسناده عنعنة أبي الزبير وهو مدلس والسياق يختلف، ولولا ذلك لاعتضد المرسلان لاختلاف مخرجهما. وأحاديث أبي الزبير منها ما صرح فيها بالسماح فهي صحيحة، ومنها ما عنعن في سائر طرقها عنه فهذه إن كانت من رواية الليث عنه فهي صحيحة وإن كانت من رواية غير الليث فهي ضعيفة لأن أبا الزبير مدلس فيحتمل أن تكون واسطته ضعيفة. (¬4) طبقات ابن سعد 3/ 267 - 269 ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 219 كلاهما بإسناد فيه القاسم بن عثمان البصري ضعيف ومتنه منكر جدا. (ميزان الاعتدال 3/ 375) وفضائل الصحابة لأحمد 1/ 285 - 288 من زيادة عبد الله بإسناد فيه إسحاق بن إبراهيم الحنيني وأسامة ابن زيد بن أسلم، وكلاهما ضعيف (تقريب التهذيب 98، 99). ومتنهما يتعارض، ففي رواية ابن سعد قرأ في الصحيفة آيات من سورة طه، وأما رواية عبد الله بن أحمد ففيها أن الآيات من سورة الحديد.

دخول المسلمين شعب أبي طالب

ولكن الحافظ ابن حجر ذكر بأن الباعث له على دخوله في الإسلام ما سمع في بيت أخته فاطمة من القرآن (¬1). ولا شك أن القرآن ببيانه الساحر وروعة تصويره لمشاهد القيامة وصفة الجنة والنار، كان له تأثير كبير في اجتذاب عمر إلى صف المسلمين، لأن عمر كان يتذوق الكلام البليغ ويعجب به. وعدم ثبوت الروايات حديثياً لا يعني حتمية عدم وقوعها تأريخياً. دخول المسلمين شعب أبي طالب: لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم المكان الذي تقاسمت فيه قريش على الكفر - يعني تحالفها على مقاطعة بني هاشم - فذكر أنه خيف بني كنانة (¬2)،وقد ورد الخبر مفصلاً من مرسل أبي الأسود ومرسل الزهري (¬3)، كما ورد من مرسل عروة بن الزبير (¬4)، ونظراً لأن الزهري وأبا الأسود من تلاميذ عروة، فإن ثمة احتمالاً قوياً أنهما يرويان الخبر عنه، مما يجعل المرسل (¬5) لا يقوى بالتعدد لوحدة مخرجه. وإذا لم تثبت رواية في تفاصيل دخول المسلمين شعب أبي طالب، فإن أصل الحادث ثابت (¬6)، كما أن ذلك لا يعني عدم وقوع تفاصيل الحادث تأريخياً، فإن ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 7/ 176. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 192، 8/ 14). قال النووي والمحصب والأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة اسم لشيء واحد. (شرح صحيح مسلم 9/ 59). (¬3) بإسناد حسن إلى أبي الأسود والزهري (دلائل البيهقي 2/ 311 - 314 والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر 27 - 30). (¬4) بإسناد ضعيف إليه فيه محمد بن عمرو بن خالد الحراني لم أقف له على ترجمة وابن لهيعة ضعيف (الدلائل لأبي نعيم 1/ 357 - 362 والدلائل للبيهقي 2/ 314). (¬5) يعني مرسل أبي الأسود والزهري، إذ هما أقوى سنداً إليهما من مرسل عروة الذي لم يثبت عنه من طريق صحيحة. (¬6) قال ابن حجر: "ولما لم يثبت عند البخاري شيء من هذه القصة اكتفى بإيراد حديث أبي هريرة لأن فيه دلالة على أصل القصة لأن الذي أورده أهل المغازي من ذلك كالشرح لقوله في الحديث "تقاسموا على الكفر". (فتح الباري 7/ 193).

عروة رائد مدرسة المغازي، وهو إنما يروي عن الصحابة في الغالب. وخلاصة رواية عروة أن حصار الشعب وقع بعد فشل قريش في استعادة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، حيث أهاجها الأمر واشتد البلاء على المسلمين، وعزمت قريش أن تقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجمع بنو عبد المطلب أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويحموه فيه، فدخلوا الشعب جميعاً مسلمهم وكافرهم، وأجمع المشركون أمرهم على أن لا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله للقتل، وكتبوا في ذلك صحيفة فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد والجوع، فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من قريش على ما حدث وأجمعوا على نقض الصحيفة، وقد أعلمهم الرسول بأنه لم يبق فيها سوى كلمات الشرك والظلم (¬1). وهكذا انتهت المقاطعة. أما رواية موسى بن عقبة فتذهب إلى أن المشركين أخرجوا بني هاشم من مكة إلى الشعب، فأمر رسول الله المسلمين أن يخرجوا إلى أرض الحبشة، فيكون حصار الشعب والهجرة إلى الحبشة قد وقعا في وقت متقارب. وقد ذكر الزهري أن عمر الرسول صلى الله عليه وسلم كان - حين الخروج من الشعب - تسعا وأربعين سنة، وكان خروجهم في السنة العاشرة، وأنهم مكثوا في الشعب سنتين (¬2)، ويقال: إن رجوع من كان مهاجراً بالحبشة إلى مكة كان بعد الخروج ¬

_ (¬1) ذكر ابن هشام أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما في الصحيفة إلا اسم الله تعالى، وقال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وعروة عكس ذلك أن الأرضة لم تدع اسماً لله تعالى إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة (فتح الباري 7/ 192). وانظر مغازي موسى بن عقبة (جمع محمد باقشيش) 1/ 126 - 127 وسيرة ابن هشام 1/ 377. (¬2) وقيل كان ابتداء حصرهم في المجرم سنة سبع من المبعث قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، وجزم موسى بن عقبة بأنها كانت ثلاث سنين (فتح الباري 7/ 192).

وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها

من الشعب (¬1). وعلى ذلك يكون حصار الشعب قد بدأ في آخر العام السابع من البعثة. لقد دعا رسول الله على قريش فحدثت فيهم مجاعة حتى أكلوا الميتة والجلود، فجاء أبو سفيان يسأل رسول الله أن يدعوا لهم ويناشده الرحم، فقرأ الآية {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلى قوله {عَائِدُونَ} , وكان الرجل يرى ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه فكشف عنهم العذاب، فعادوا إلى الكفر (¬2). وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها: ما إن غادر بنو هاشم شعب أبي طالب حتى أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفاة عمه أبي طالب - واسمه عبد مناف - وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث (¬3)، وقد كان أبو طالب "يحوط النبي ويغضب له" (¬4) و "ينصره" (¬5)، وكانت قريش تحترمه، وقد جاء زعماؤها حين حضرته الوفاة، فحرضوا أبا طالب على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في الإسلام قائلين: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وعرض عليه رسول الله الإسلام قائلا: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة. فقال أبو طالب: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون إنما حمله عليها ¬

_ (¬1) المقريزي: إمتاع الأسماع 26 عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب مرسلاً. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 511، 547، 571، 572، 573، 574 و 2/ 510، 493) وصحيح مسلم بشرح النووي 17/ 140 - 142. والآيات من سورة الدخان 10 - 15. (¬3) فتح الباري 7/ 194. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 193). (¬5) صحيح مسلم 1/ 195.

الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1) (¬2). لقد كانت أفكار الجاهلية راسخة في عقل أبي طالب، ولم يتمكن من تغييرها، فهو شيخ كبير يصعب عليه تغيير فكره وما ألفه عن آبائه، وكان أقرانه حاضرين وقت احتضاره فأثروا عليه خوفاً من شيوع خبر إسلامه وتأثير ذلك على قومه. وأما ما نقله ابن إسحاق من أن العباس نظر إلى أبي طالب يحرك شفتيه، فقال لرسول الله: يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أسمع. فهو خبر لا يصح (¬3). وعلى أية حال فإن موته أفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنداً كبيراً، فلم يعد بنو هاشم مستعدين بعده لتقديم نفس القدر من الحماية لما يصيبهم من أضرار مادية ونفسيه كما تبين من حادثة المقاطعة (¬4). وقد تجلى ذلك في رحلة النبي إلى الطائف طلباً للنصرة ثم استمراره في طلب النصرة من القبائل الأخرى بعد إخفاق محاولة الطائف. ¬

_ (¬1) القصص 56. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 506) وصحيح مسلم بشرح النووي 1/ 213 - 216. وقد لفقت بين الروايتين الصحيحتين. أما رواية ابن إسحاق التي تفيد إسلام أبي طالب ففي سنده مبهم فهي رواية ضعيفة (سيرة ابن هشام 2/ 46 - 47). وانظر عن تخفيف العذاب عن أبي طالب صحيح البخاري (فتح الباري 10/ 592) وصحيح مسلم بشرح النووي 3/ 84، 85. (¬3) سيرة ابن هشام 1/ 417 بسند ضعيف فيه مبهم فضلاً عن مخالفته لما في الصحيحين. مع أن العباس لم يكن قد أسلم آنذاك، فلا يصح أداؤه، وكان يسأل رسول الله: هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فلو عنده علم بإسلامه لما تساءل (فتح الباري 7/ 194). (¬4) صالح العلي: محاضرات 1/ 375 - 376.

رحلته إلى الطائف

وقد وعد رسول الله أبا طالب بأن يستغفر له الله مالم ينه عن ذلك، فنهاه الله تعالى بعد حين من أواخر العهد المدني عن الاستغفار للمشركين {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬1). أما خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقد توفيت قبل الهجرة النبوية إلى المدينة بثلاث سنين (¬2) في نفس عام وفاة أبي طالب. رحلته إلى الطائف: إن الرحلة إلى الطائف كانت على أثر اشتداد مقاومة قريش للدعوة عقب وفاة أبي طالب، فسعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيجاد مركز جديد للدعوة، وطلب النصرة من ثقيف، لكنها لم تستجب له وأغرت به صبيانها فرشقوه بالحجارة. وفي طريق عودته من الطائف التقى بعداس الذي كان نصرانياً فأسلم. وأرخ الواقدي الرحلة من شوال سنة عشر من المبعث بعد موت أبي طالب وخديجة، وذكر أن مدة إقامته بالطائف كانت عشر أيام (¬3). وسائر هذه التفاصيل أوردها كتاب المغازي (¬4)، ولكن لم ترد رواية صحيحة فيها سوى أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله: هل أتى عليك يوم كان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 193، 8/ 341 حديث رقم 4675 وأخرجه مسلم في صحيحه 1/ 54 وأحمد في مسنده كما في الفتح الرباني 18/ 165 وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين في أحد بالمغرفة (اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) كما في صحيح مسلم 3/ 1417 حديث رقم 1792 ودعا لعبد الله بن أبي بن سلول المنافق حين موته كما في صحيح البخاري (الفتح 8/ 333) وصحيح مسلم 4/ 865 ومسند أحمد (الفتح الرباني 8/ 506). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 224). (¬3) طبقات ابن سعد 1/ 221 والواقدي متروك الحديث. (¬4) سيرة ابن هشام 1/ 419 - 422 بإسناد صحيح لكنه مرسل محمد بن كعب القرظي، وهو المصدر الرئيسي عنده لمعلومات رحلة الطائف.

أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة (¬1)، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال (¬2)، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا بقرن الثعالب (¬3)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليكم، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ (¬4). فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً" (¬5). وهذه الرواية تكفي لإثبات الحادث من حيث وقوع الرحلة، ورد أهل الطائف عليه بشدة وما عرض عليه من عقوبتهم، ورحمته بهم ورغبته باستبقائهم، وأخيراً ذكرى الرحلة الأليمة في نفسه رغم مرور السنوات. وأما دعاؤه على ثقيف بقوله (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ... إلخ) ولقاؤه بعداس فلم يثبت من طريق صحيحة (¬6). ¬

_ (¬1) المقصود عقبة بالطائف وليست عقبة منى التي اجتمع بها من الأنصار (الزرقاني: شرح المواهب 1/ 298). (¬2) من أكابر أهل الطائف من ثقيف (فتح الباري 6/ 315). (¬3) قرن الثعالب هو قرن المنازل ميقات أهل نجد تلقاء مكة على بعد عن مكة (معجم البلدان لياقوت 4/ 332). (¬4) جبلان بمكة. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 312 - 313) وصحيح مسلم 3/ 1420 واللفظ لمسلم. (¬6) أخرجه ابن إسحاق بسند صحيح لكنه مرسل محمد بن كعب القرظي، والمرسل من أنواع الضعيف لا يحتج به إلا مع قرائن. والحديث (اللهم إليك أشكو) ساقه بدون إسناد وكذلك قصة عداس ساقها بدون إسناد. =

أسانيد قصة عداس

أسانيد قصة عداس البيهقي : الزهري (مرسلا) : موسى بن عقبة (مرسلا) محمد بن إسحق (مرسلا) وهذه المراسيل لا تقوى ببعضها إذ الظاهر أن مخرجها واحد لأن ابن إسحاق وموسى بن عقبة تلميذان للزهري.

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج: بعد رحلة الطائف الأليمة، وقع حادث الإسراء والمعراج، فكان مواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أرخ الزهري ذلك قبل خروجه إلى المدينة بسنة (¬1). وحادث الإسراء والمعراج ثابت بنص القرآن قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). وقد صحت الروايات في قيام جبريل عليه السلام بشق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وغسله من ماء زمزم، وإفراغ الحكمة والإيمان في صدره. ففي الصحيحين عن أنس قال: "كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ... " (¬3). ¬

_ = وأخرج الزهري وموسى بن عقبة قصة عداس مرسلاً (الخصائص الكبرى للسيوطي 1/ 300) والمراسيل إنما تتقوى ببعضها إذا تعددت مخارجها، ولا تعدد هنا فابن إسحاق وموسى بن عتبة تلميذان للزهري، فيقوي أن يكونا أخذا عنه. (سيرة ابن هشام 1/ 419 - 421 وتاريخ الطبري 2/ 344 - 346، وقد ساق الطبراني الحديث (الهم إليك أشكو) من حديث عبد الله بن جعفر، لكن إسناده "فيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات" (الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 35) ولم أقف عليه في معجم الطبراني الكبير المطبوع لأنه ناقص. (¬1) البيهقي: دلائل النبوة 2/ 354 والذهبي: تاريخ الإسلام 1/ 141. وهو قول لعروة أيضاً (ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 107) وأرخه ابن إسحاق بعد البعثة بنحو من عشر سنين، قبل وفاة أبي طالب وخديجة (سيرة ابن هشام 1/ 396 والبداية والنهاية لابن كثير 3/ 107). أما إسماعيل السدي فذكر أن الإسراء قبل مهاجره بستة عشر شهراً. وأما البخاري فقد ذكر الإسراء بعد موت أبي طالب (فتح الباري 7/ 196). (¬2) الإسراء 1 (¬3) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب (1) كيف فرضت الصلوات في الإسراء (الفتح 1/ 458) وكتاب الحج باب (76) ما جاء في زمزم (الفتح 3/ 492) وكتاب الأنبياء باب 5 ذكر إدريس عليه السلام (الفتح 6/ 374) ... =

وقد وردت روايات أخرى صحيحة تفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في المسجد الحرام، أو في الحطيم أو الحجر بالذات من المسجد الحرام حين شق صدره وغسل قلبه (¬1)، ويمكن الجمع بأنه كان في بيته ثم جاء به جبريل إلى المسجد الحرام (¬2). فالرواية التي سقتها تفيد بأن الغسل تمَّ بماء زمزم، وهو في المسجد الحرام، وقد تبيَّن الشرَّاح أن الحكمة في شق الصدر وملء قلبه إيماناً وحكمةً استعداداً للإسراء به تظهر في عدم تأثر جسمه بالشق وإخراج القلب مما يؤمنه من جميع المخاوف العادية الأخرى. ومثل هذه الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لمقدرة الله تعالى التي لا يستحيل عليها شيء (¬3). وقد أنكر ابن حزم الظاهري والقاضى عياض وقوع الشق ليلة الإسراء وادعى أن ذلك تخليط من شريك - في إسناد البخاري - وليس كذلك، فقد ثبت وقوع شق الصدر في الإسراء والمعراج في الصحيحين من غير طريق شريك (¬4). ¬

_ = وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب (74) الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات 1/ 148 (ط. محمد فؤاد عبد الباقي) وأما برواية أبي ذر عند البزار (كشف الأستار 3/ 115 - 116) ففيه "وأنا ببعض بطحاء مكة" فهو شاذ، والسند ضعيف فيه انقطاع حيث لم يسمع عروة من أبي ذر وقد تفرد به عروة كما صرح البزار. (¬1) صحيح مسلم 1/ 150، كتاب الإيمان، باب 74 الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات. والبخاري: كتاب بدء الخلق باب (6) ذكر الملائكة (الفتح 6/ 302) وكتاب مناقب الأنصار، باب (42) المعراج (فتح الباري 7/ 201) وكتاب التوحيد باب (37) ما جاء في قوله عز وجل (وكلّم الله موسى تكليماً) (فتح 13/ 478). (¬2) ابن حجر: فتح الباري 7/ 204. (¬3) فتح الباري 7/ 205. (¬4) صحيح البخاري، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء 1/ 91 وباب ما جاء في زمزم 2/ 167 وباب المعراج 4/ 284 وصحيح مسلم 1/ 149 - 150، وراجع حول إنكار ابن حزم والقاضي عياض (شرح الشفا لملا على القاري 1/ 414 وشرح الزرقاني على المواهب 6/ 23).

وبعد أن فرغ الملكان من شق صدره وغسله ولأمه أسرى به إلى بيت المقدس على البراق (¬1) حيث صلَّى بالأنبياء فيه، ووصفهم هيآتهم (¬2). ثم عرج به إلى السماء السابعة ماراً ببقية السموات الست ملتقياً بالأنبياء آدم ويوسف وإدريس وعيسى ويحيى بن زكريا وهارون وموسى وإبراهيم. وقد سمع صريف أقلام الملائكة، وفرضت عليه الصلاة خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس صلوات (¬3). وقد وصف سدرة المنتتهى بأن نبقها مثل الجرار، وورقها مثل آذان الفيلة (¬4). ووصف البيت المعمور في السماء السابعة وما يدخله من الملائكة (¬5). ووصف نهر الكوثر في الجنة وأن حافتيه قباب اللؤلؤ مجوف وطينه مسك أذفر (¬6). وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى ربه فقال: نور أنى أراه (¬7)!. ووصف ما رآه من أنهار الجنة وهي أربعة أنهار؛ اثنان باطنان في الجنة, واثنان ظاهران وهما النيل والفرات (¬8). ووصف رؤيته لجبريل لما دنا منه وإن له ستمائة جناح وإليه تشير الآية {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} إلى قوله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬9). ¬

_ (¬1) دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض (صحيح البخاري كما في فتح الباري 7/ 201 - 202). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 477 وصحيح مسلم 1/ 151 - 157). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 458، 3/ 492، 6/ 374، 7/ 201 - 202) وصحيح مسلم 1/ 148. وقد لفقت بين الروايات الصحيحة. (¬4) مسند أحمد 3/ 128 بإسناد صحيح، فإن أحاديث حميد الطويل عن أنس بن مالك أما سمعها منه أو بواسطة ثابت البناني وهو ثقة (تعريف أهل التقديس 38). (¬5) صحيح مسلم 1/ 146. (¬6) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 731). (¬7) صحيح مسلم 1/ 161 وأنظر صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 313). (¬8) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 201 - 202). (¬9) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 610، 611، 6/ 313) وصحيح مسلم 1/ 158، 160 والآيات من سورة النجم 9 - 18.

ورأى في المعراج عذاب الذين يغتابون الناس فإذا لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم (¬1). وقد أتاه جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذ اللبن، فقال جبريل: هي الفطرة (¬2). وقد وردت قصة الإسراء والمعراج مفصلة طويلة من طريق ضعيفة متونها تشبه أخبار القصاص (¬3). وعندما أخبر رسول الله قومه بما وقع معه من الإسراء والمعراج صدقه المؤمنون وكذبه المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثله قط. قال: "فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به" (¬4)، لقد افتتن المشركون فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً، ولكنهم ¬

_ (¬1) مسند أحمد 3/ 224 وسنن أبي داؤد 5/ 194 بإسناد صحيح كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2/ 60. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 201 - 202) وتدل رواية البخاري ومسلم أن اختياره الإناء تم في بيت المقدس قبل المعراج (صحيح البخاري كما في فتح الباري 8/ 391 وصحيح مسلم 1/ 145، 5/ 150 - 151). (¬3) تفسير الطبري 15/ 11 - 14 ومستدرك الحاكم 2/ 571 بإسناد فيه أبو هارون العبدي وهو متروك (تقريب 408) وقال الذهبي: هذا حديث عجيب غريب" (السيرة النبوية للذهبي 178 - 181). وثمة رواية أخرى في تفسير الطبري 15/ 6 - 11 وفي إسناده أبو جعفر الرازي وهو عيسى بن أبي عيسى صدوق سيء الحفظ. (تقريب 629) وقد ضعف البيهقي هذا الحديث (دلائل النبوة 2/ 396 - 403) وقال الذهبي "تفرد به أبو جعفر الرازي، وليس هو بالقوي، والحديث يشبه كلام القصاص، إنما أوردته للمعرفة لا للحجة" (السيرة النبوية للذهبي 182). وقال ابن كثير: في ألفاظه غرابة ونكارة شديدة" (تفسير ابن كثير 3/ 21). (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 391). صحيح مسلم 1/ 156، 157 واللفظ له.

اضطروا للاعتراف بصحة وصفه لمسجد بيت المقدس (¬1). وقد صح أن بعض المسلمين ارتدوا، وأن أبا بكر رضي الله عنه قال للمشركين عندما أخبروه بخبر الإسراء والمعراج: لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ فقال: نعم. إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق (¬2). ويمكن القول بأن حادثة الإسراء كانت تطميناً ومواساةً لرسول الله، وفتنة للكافرين الذين زاد عنادهم وكفرهم، ولبعض ضعفاء الإيمان ممن زلزل الحادث إيمانهم، فكفروا ولم يعودوا إلى حظيرة الإيمان حتى قتلوا (¬3). وقد تأول البعض حادث الإسراء والمعراج فزعم أنه رؤيا منامية، ومنهم من زعم أنه بالروح وليس بالجسد، والصواب كما ثبت عن ابن عباس أنه رؤيا عين بالروح والجسد. قال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (¬4). وهذا هو رأي جمهور العلماء أن الإسراء كان يقظة بروحه وجسده، مرة واحدة (¬5). وأن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة (¬6). ¬

_ (¬1) مسند أحمد 1/ 309 بإسناد صحيح وقد صححه السيوطي والهيثمي (الدر المنثور 4/ 155 ومجمع الزوائد 1/ 64 - 65). (¬2) مستدرك الحاكم 3/ 62 - 63، 76 - 77 وصححه ووافقه الذهبي وفي إسناده محمد بن كثير الصنعاني صدوق كثير الغلط (التقريب 504) وقد توبع (انظر الألباني: السلسلة الصحيحة 1/ 552). (¬3) مسند أحمد 1/ 349 بإسناد صححه ابن كثير (تفسير ابن كثير 3/ 15) وفي إسناده هلال بن خباب صدوق عند الحافظ ابن حجر (تقريب 575). (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 202 - 203) والآية من سورة الإسراء 60. وأنظر تفسير الطبري 15/ 110 حول نفي سفيان بن عيينة أن تكون رؤيا بالمنام. (¬5) تفسير الطبري 15/ 13، 14 وزاد المعاد لابن القيم 1/ 99، 3/ 34، 40. (¬6) فتح الباري 7/ 197.

الطواف على القبائل طلبا للنصرة

الطواف على القبائل طلبا للنصرة: لم يدع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة للاجتماع بالناس وتبليغهم الدعوة - تفوته، وخاصة في موسم الحج عندما تقبل القبائل إلى مكة، قال ربيعة بن عباد الدؤلي - وهو شاهد عيان -: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله عز وجل، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: "أيها الناس لا يغرنَّكم هذا دينكم ودين آبائكم. قلت: من هو؟ قالوا هذا أبو لهب" (¬1). ومما خاطب به الناس في ذي المجاز: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وكان الناس يزدحمون عليه غير أنهم لا يقولون شيئاً، وهو لا يسكت بل يكرر دعوتهم. وأبو لهب يصيح: إنه صابيء كاذب (¬2) يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى (¬3). ومما خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الموقف: هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل؟؟ فأتاه رجل من همدان. فقال: من أنت؟ فقال الرجل: من همدان. ¬

_ (¬1) مسند أحمد 3/ 492 من زوائد عبد الله بإسنادين حسنين يقويان ببعضهما إلى الصحيح لغيره، والمعجم الكبير للطبراني 5/ 56 ومستدرك الحاكم 1/ 15 ويذكر "منى" بدل "ذي المجاز". وصححه وأقره الذهبي، لكن سعيد بن سلمة ليس على شرط البخاري كما قالا بل روى عنه شاهداً. وفي رواية أخرى في مسند أحمد 3/ 492 بإسناد صحيح من زوائد عبد الله أيضا قال "عكاظ" وهي قريب عرفات وذو المجاز بعرفة أيضاً فلا تعارض. وانظر الرواية من حديث طارق بن عبد الله المحاربي في اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة قسم 1 م 4 / ق 92 - أ - ب نقلا عن مسند ابن أبي شيبة 51 ب (مصور الجامعة) وأبي يعلي الموصلي في المسند الكبير بإسناد صحيح كما في مصباح الزجاجة 2/ 347 ط. توفيق عفيفي، القاهرة. (¬2) مسند أحمد 4/ 341، 342 ومستدرك الحاكم 1/ 15 والمعجم الكبير للطبراني 5/ 55 - 56 بإسناد حسن لأنه من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد بالمدينة وإنما تغير حفظه لما قدم بغداد (تهذيب التهذيب 6/ 171 - 172). (¬3) مسند أحمد 4/ 63 بإسناد صحيح.

الاتصال بالأنصار ودعوتهم

قال: فهل عند قومك من منعة؟ قال: نعم ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم فأخبرهم، ثم آتيك من عام قابل. قال: نعم فانطلق. وجاء وفد من الأنصار في رجب (¬1). وهذا يدل على أن الحادثة جرت في العام الحادي عشر من البعثة فإن الأنصار قدموا في العام الحادي عشر من البعثة حيث جرت بيعة العقبة الأولى، ثم في العام الثاني عشر حيث جرت بيعة العقبة الثانية، ثم كانت الهجرة إلى المدينة. الاتصال بالأنصار ودعوتهم: يذكر جابر بن عبد الله الأنصاري: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال - فيأتيه قومه فيقولون: أحذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام" (¬2). ¬

_ (¬1) مسند أحمد 3/ 390 بإسناد صحيح وقال الذهبي: "أخرجه أبو داؤد عن محمد بن كثير عن إسرائيل وهو على شرط البخاري": (السيرة النبوية 185). وسنن الترمذي 5/ 184 وقال: "هذا حديث غريب صحيح". ومستدرك الحاكم 2/ 612 - 613 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وعثمان بن المغيرة إنما روى له البخاري دون مسلم. (¬2) مسند أحمد 3/ 322 - 323، 339 - 340 بإسناد حسن كما يقول الحافظ ابن حجر (فتح الباري 7/ 212). =

وكانت الاتصالات الأولى بالأنصار في مواسم الحج والعمرة (¬1) فقد "قدم سويد بن الصامت الأنصاري مكة حاجاً أو معتمراً، فتصدَّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به فدعاه إلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علىّ، فعرضها عليه. فقال له: إنَّ هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله تعالى علي، وهو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام. فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قتله يوم بعاث" (¬2). وعلى أية حال فلا توجد دلائل على قيام سويد ابن الصامت بالدعوة إلى الإسلام وسط قومه. وقبل يوم بعاث بيسير - وهو اليوم الذي جرت فيه وقعة بين الأوس والخزرج انتصر فيها الأوس بعد قتل الكثير من الطرفين وفيهم من أكابرهم، وذلك قبل الهجرة بخمس سنين (¬3). سعى الأوس لمحالفة قريش على الخزرج الذين كانوا أكثر منهم عدداً، فقدم أبو الحيسر أنس بن رافع في وفد من بني عبد الأشهل لهذا الغرض، فسمع بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءهم ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم ¬

_ = ومستدرك الحاكم 2/ 624 - 625 وصححه وأقره الذهبي والسيرة النبوية لابن كثير 2/ 196 وقال: "هذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه". (¬1) أما قصة إسلام رفاعة بن رافع الزرقي ومعاذ بن عفراء بمكة قبل قدوم الستة من الأنصار فإسنادها فيه يحيى بن محمد الشجري ضعيف وكان ضريراً يتلقن (مستدرك الحاكم 4/ 149 وللسيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 300). (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 34 بإسناد حسن من رواية عاصم بن عمر بن قتادة ثقة (ت 120 هـ) يرويه عن أشياخ من قومه الأنصار. (¬3) فتح الباري 7/ 111 أرخ ابن سعد الوقعة بثلاث سنين قبل الهجرة (الطبقات 1/ 219).

القرآن. فقال أحدهم وهو إياس بن معاذ - وكان غلاماً حدثاً -: "أي قوم! هذا والله خير مما جئتم له. فانتهره أبو الحيسر فصمت، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، ورجعوا إلى المدينة، وجرت الحرب بين الأوس والخزرج يوم بعاث، ثم مات إياس بن معاذ، وكان قومه يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلمًا، فقد استشعر الإسلام في لقائه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس (¬1). وإذا كان الرجلان من الأوس اللذان استشعرا الإسلام لم تذكر المصادر قيامهما بالدعوة في وسط قومهما، فإن البداية المثمرة للاتصال بالأنصار كانت مع وفد من الخزرج في موسم الحج عند عقبة منى. قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن .. (¬2). وذكر ابن إسحاق إسلامهم وقيامهم بالدعوة في المدينة (¬3) ولعل استشعار الأنصار لحاجتهم إلى عقيدة تربط بينهم بعد التمزق والعداوة التي خلفتها وقعة ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 63، 37 بإسناد حسن، وقال ابن حجر إنه من صحيح حديث ابن إسحاق (الإصابة 1/ 146) ومسند أحمد 5/ 427 من طريق ابن إسحاق أيضاً. (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 37 - 39 بإسناد حسن. ولم تذكر المصادر وقوع البيعة منهم، ومع ذلك فقد عدَّها بيعة من ذكر وقوع ثلاث بيعات عند عقبة منى وهم ابن عبد البر (الدرر67) وابن سيد الناس (عيون الأثر 1/ 156) والصالحي (3/ 267). أما ابن إسحاق وابن سعد والطبري فلم يعدوها بيعة. (¬3) المصدر السابق بدون إسناد ..

بيعة العقبة الأولى

بعاث قبل سنتين فقط من هذا اللقاء، لعل ذلك كان سبباً هيأه الله تعالى لإسلامهم، وكذلك فإن مقتل رؤسائهم في بعاث خفف من التزاحم على الزعامة والأنفة من الدخول في الإسلام خوف فقدان السلطان والزعامة وكذلك فإن الأنصار كانوا يجاورون يهود وهم أهل كتاب، فكانوا يعرفون قضايا الوحي والنبوة والبعث والجنة والنار فلا شك أن أذهانهم كانت مهيئة لفهم الإسلام أكثر من سواهم. بيعة العقبة الأولى: وقد جرت بيعة العقبة الأولى في العام التالي على لقاء وفد الخزرج، حيث حضر اثنا عشر رجلاً؛ عشرة من الخزرج واثنان من الأوس، مما يشير إلى أن نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي تركز على وسطهم القبلي بالدرجة الأولى لكنهم تمكنوا بنفس الوقت من اجتذاب رجال من الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام. إن مصدر المعلومات الصحيحة الرئيسي عن بيعة العقبة الأولى هو عبادة بن الصامت الخزرجي - وهو شاهد عيان مشارك بالبيعة - وقد جاءت روايته في الصحيحين: وسيرة ابن إسحاق، لكنها عند ابن إسحاق أوضح وأكمل ونصها كما يلي. قال عبادة بن الصامت:"كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء - وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب: على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفترته من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء غفر وإن شاء عذب" (¬1). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 41، 42 بإسناد صحيح لغيره فإن حديث عبادة بن الصامت في صحيح البخاري قريب من سياق ابن إسحاق (فتح الباري 1/ 66 وصحيح مسلم 3/ 1333.

بيعة العقبة الثانية

والمقصود أنهم بايعوا على وفق بيعة النساء التي نزلت بها الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} (¬1) بعد صلح الحديبية (¬2). حيث لم يرد في بيعة العقبة الأولى ذكر القتال. ومعنى ذلك أن عبادة حدث بهذا النص بعد نزول الآية فشبه بيعة العقبة الأولى ببيعة النساء. ويلاحظ أن نص البيعة يكل معاقبة الجرائم إلى الله تعالى في الآخرة لعدم تشريع الحدود الإسلامية مما يؤكد قدم النص وأنه يخص بيعة العقبة الأولى. ولما انجزت بيعة العقبة الأولى، وعاد الأنصار إلى المدينة بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين. فقام بمهمته خير قيام وانتشر على يديه الإسلام، ورجع إلى مكة قبل بيعة العقبة الثانية (¬3). بيعة العقبة الثانية: ولما انتشر الإسلام في المدينة، واطمأن المسلمون المهاجرون بين إخوانهم الأنصار، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يلاقي عنت قريش وأذاها الذي كان يشتد على مر الأيام، قدم وفد من الأنصار في موسم الحج فبايعوا بيعة العقبة الثانية. قال جابر بن عبد الله الأنصاري:"فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله نبايعك. ¬

_ (¬1) الممتحنة 12. (¬2) ابن حجر: فتح الباري 1/ 66، 12/ 197 ويلاحظ أن الحافظ - رحمه الله - خلط بين نصوص بيعتي العقبة الأولى والثانية مما جعل كلامه متداخلاً مضطرباً. وأنظر تراجعه في 7/ 222 (انظر سليمان العودة: السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق 346). ولا يعيب هذا الحافظ ابن حجر فكثيراً ما حل لنا المشكلات العويصة في السيرة. (¬3) سيرة ابن هشام 1/ 438

قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة. قال: فقمنا إليه فبايعناه. وأخذ بيده أسعد من زرارة - وهو من أصغرهم - فقال: رويدا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف. فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة فبينوا ذلك فهو عذر لكم عند الله. قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً ولا نسلبها. قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة. "وقد نظر العباس في وجوه وفد الأنصار ثم قال: هؤلاء قوم لا أعرفهم، هؤلاء أحداث. مما يدل على غلبة الشباب على الوفد (¬1). وهكذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة والنصرة والحرب لذلك سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب (¬2). وتقِّدم رواية الصحابي كعب بن مالك الأنصاري- وهو أحد المبايعين في العقبة الثانية - تفاصيل مهمة؛ قال: "خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا ... ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ... وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا ... فنمنا تلك ¬

_ (¬1) مسند أحمد 3/ 322 - 323، 339 - 340 بإسناد حسن ومستدرك الحاكم 2/ 624 - 625 وصححه وأقره الذهبي. والسيرة النبوية لابن كثير 2/ 196 وصححه على شرط مسلم ويرى ابن حجر أن فيه علة تدليس أبي الزبير وقد عنعن. ويقول: فعل تصحيحه أو تحسينه بالنظر لشواهده (فتح الباري 7/ 222 - 223. (¬2) سيرة ابن هشام 2 - 63 ومسند أحمد 5/ 316 بإسناد صحيح لغيره.

الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعين رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب .. ، وأسماء بنت عمرو ... فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس ابن عبد المطلب - وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له - فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب "فبين أن الرسول في منعة من قومه بني هاشم ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة، ولذلك فإن العباس يريد التأكد من حماية الأنصار له وإلا فليدعوه. فطلب الأنصار أن يتكلم رسول الله فيأخذ لنفسه ولربه ما يحب من الشروط. "فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، دعا إلى الله ورغَّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق، لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر" فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان متسائلاً: "يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً وإنا قاطعوها (يعني اليهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم بالدم والهدم بالهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم". ثم قال: أَخْرِجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس" وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم الانصراف إلى رحالهم، وقد سمعوا الشيطان يصرخ منذراً قريشاً، فقال العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم".

الهجرة إلى المدينة المنورة

فرجعوا إلى رحالهم، وفي الصباح جاءهم جمع من كبار قريش، يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي ودعوتهم له للهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا والمسلمون ينظرون إلى بعضهم! (¬1). وهكذا مرت البيعة بسلام وعاد الأنصار إلى المدينة. ينتظرون هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بتلهف كبير. الهجرة إلى المدينة المنورة: تدل النصوص الصحيحة على أن اختيار المدينة مهاجراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان بوحي إلهي كما في الحديث: "رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب" (¬2). والحديث "إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين" (¬3). و"كأن النبي أرى دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعيَّنت" (¬4). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 439 - 443، 447 - 448 بإسناد حسن، وقد صححه ابن حبان كما في فتح الباري 7/ 221. وأخرجه أحمد في مسنده 3/ 460 من طريق ابن إسحق أيضاً وفي فضائل الصحابة 2/ 923 مختصراً. ووقع في سند ابن إسحاق مرة ذكر الزهري واسطةً لتحميله عن معبد بن كعب، وهو وهم سلك فيه الراوي الجادة (سيرة ابن هشام تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد 2/ 47 ووقع في ط. السقا بالاستناد إلى أصلين دون ذكر الزهري (سيرة ابن هشام 1/ 447) وكذلك في فتح الباري 7/ 221، وابن إسحاق يروي مباشرة عن معبد بن كعب ولا يحتاج إلى واسطة. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 226 وصحيح مسلم 4/ 1779. وأما حديث "إن الله أوحى إلي أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين". (سنن الترمذي 5/ 721 وقال: غريب) فهو منكر كما قال ابن حبان في الثقات 7/ 311 والذهبي (الميزان 3/ 338) وقال ابن حجر: في ثبوته نظر لأنه مخالف لما في الصحيح (فتح الباري 7/ 228). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 231 وبين الزهري أن اللابتين هما الحرتان) فتح الباري 7/ 234). (¬4) ابن حجر: فتح الباري 7/ 234 نقلاً عن ابن التين وهو أحد شراح صحيح البخاري.

أوائل المهاجرين

أوائل المهاجرين: ويتفق موسى بن عقبة وابن إسحاق على أن أبا سلمة بن عبد الأسد هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة بعد أن آذته قريش إثر عودته من هجرة الحبشة فتوجَّه إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة (¬1). وكذلك فإن مصعب بن عمير وابن أم مكتوم كانا من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن (¬2). وقد تتابع المهاجرون فقدم المدينة بلال بن رباح وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة (¬3). وقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة، وإثارة المشاكل أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة. لكن شيئا من ذلك كله لم يعق موكب الهجرة. فالمهاجرون كانوا على أتم الاستعداد للانخلاع عن أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لداعي العقيدة. قالت أم المؤمنين أم سلمة (¬4) رضي الله عنها: "لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟ ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 468 من طريق ابن إسحاق بدون إسناد وابن حجر: فتح الباري 7/ 261. لذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها إن أبا سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله (صحيح مسلم 2/ 632). (¬2) و (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 260) من حديث البراء بن عازب. (¬4) هند بنت أبي أمية، هاجرت إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ولما مات زوجها أبو سلمة بن عبد الأسد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإصابة لابن حجر 8/ 150) وقد ذكر الواقدي أن عمرها حين وفاتها 84 سنة، وبينت الروايات الصحيحة أنها كانت حية في أيام ثورة ابن الزبير على يزيد ابن معاوية، ولعل وفاتها كانت سنة 61 هـ كما قال محمد بن حبيب (المحبر 85) فتكون سنها حين الهجرة 23 سنة وحين زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم 27 سنة.

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة. قالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده. وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها. حتى مر بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى ما بي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت: وردَّ بنو عبد الأسد إليَّ عند ذلك ابني. قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أتبلغُ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي. حتى إذا كنتُ بالتنعيم لقيتُ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال لي: إلى أين يابنت أبي أميَّة؟ قالت فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قالت فقلت: لا والله إلا الله وبنيَّ هذا. قال: والله ما لك من مترك. فأخذ بخطام البعير. فانطلق معي يهوي بي، فو الله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيَّده في الشجرة، ثم

تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله. ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعاً إلى مكة. قال فكانت تقول: والله ما علمت أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة. وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة" (¬1). وقد سقت الخبر بطوله لما فيه من دلالة على الصعوبات التي واجهها المهاجرون، وهي تشير إلى أثر العصبية في اتخاذ العشائر القرشية مواقفها من الأحداث. فقد انحاز قوم أبي سلمة إليه رغم مخالفتهم له في العقيدة، ثم إن الخبر يكشف عن صورة من صور المروءة التي عرفها المجتمع القرشي قبل الإسلام تتمثل في موقف عثمان بن طلحة وتطوعه في مصاحبة المرأة وإحسان معاملتها مما يدل على سلامة الفطرة التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة مع المرأة المسلمة. وثمة صورة تاريخية لحدث آخر هو هجرة عمر بن الخطاب كما حدَّث بها بنفسه قال: "اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب من أضاءة بني غفار فوق سرف (¬2)، ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 469 - 470 من رواية ابن إسحاق بإسناد صالح للاعتبار فيه سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة مقبول، ولم أجد له متابعاً، وقد تفرد بتوثيقه ابن حبان (البخاري: التاريخ الكبير 4/ 80 وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 4/ 166 وابن حبان: الثقات 6/ 399 وابن حجر: تهذيب التهذيب 4/ 148 - 149 وتقريب التهذيب 248). وعلى أية حال فهو خبر تاريخي لا يتعلق بالعقيدة أو الشريعة ورد من طريق صالحة لإثبات الحدث تاريخياً. (¬2) التناضب: ضرب من الشجر، وأضاءة بني غفار على عشرة أميال من مكة، والأضاءة: الغدير (الروض الأنف للسهيلي 4/ 188 - 190) وسرف: وادٍ من أودية مكة دخل في العمران حالياً.

وقلنا أينا (لا) (¬1) يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنها هشام، وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة - وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما علينا المدينة - ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة - فكلماه وقالا: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، فرق لها. فقلت له: يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ... فقال: أبَرُّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه. فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. فأبي عليّ إلا أن يخرج معهما. فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذا قد فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول. فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليهما معهما. حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها, فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن. قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتَتَن صرفاً ولا عدلاً ولا توبةً؛ قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. ¬

_ (¬1) الزيادة يقتضيها السياق.

قالوا: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (¬1). قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام ابن العاص. قال فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى (¬2) أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها. حتى قلت: اللهم فهمنيها. قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا. قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬3). وأما ما روى من إعلان عمر لهجرته وتهديده من يلحق به بثكل أمه فلم يصح (¬4). ¬

_ (¬1) الزمر 53 - 55. (¬2) ذو طوى: واد بمكة. (¬3) سيرة ابن هشام 1/ 474 بإسناد حسن لذاته حيث صرح ابن إسحاق بالتحديث، ومن طريق ابن إسحاق أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 435 وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات (مجمع الزوائد 6/ 61). وانظر روايات أخرى للواقدي في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/ 271 وكأنه اختصار لمتن ابن إسحاق وفيها "وكنا إنما نخرج سراً". (¬4) ابن الأثير: أسد الغابة 4/ 52 بإسناد فيه مجاهيل ثلاثة (الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة 143. وانظر شرح المواهب اللدنية 1/ 319 والسيرة الشامية للصالحي 3/ 315. وفي إسنادهما المجاهيل الثلاثة.

لقد نزل كثير من المهاجرين في قباء في مكان يسمى (العصبة) قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سالم بن معقل مولى أبي حذيفة يؤمهم في مسجد قباء، لكونه أكثرهم قرآناً (¬1). لقد أرخ الزهري لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الزهري: "مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة، والمحرم وصفر ثم إن مشركي قريش اجتمعوا" - يعني على قتله - قال الحاكم: "تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين" (¬2) وقد أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة، وكان يتردد على بيت أبي بكر كل يوم صباحاً ومساءا، لا يكاد يدع ذلك (¬3)، فلما أذن له بالهجرة جاءهم ظهراً على غير عادته وهو متقنع، فأخبر أبا بكر بذلك. واختياره وقت الظهر لأن الناس تأوي إلى بيوتها للقيلولة فراراً من الحر، وتقنُعُهُ يفيد شعوره بالخطر من حوله، فقد اعتزمت قريش قتله، ولابد أنها ستعمد إلى رصد تحركه. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬4). وقد بينت رواية ضعيفة - بسبب الإرسال - قصة اجتماع المشركين على باب الرسول صلى الله عليه وسلم وذره التراب على رءوسهم (¬5). كما بيَّنَ ابن عباس حصار المشركين لبيته ابتغاء قتله، ومبيت علي على فراشه، ولحاقه صلى الله عليه وسلم بالغار، ولما علم المشركون ذلك في الصباح اقتصوا أثره إلى الغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فتركوه. ولكن هذه الرواية لا تصح للاحتجاج بها وهي "أجود ما روى في قصة نسيج العنكبوت على فم الغار" (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 2/ 184، 13/ 167). (¬2) فتح الباري 7/ 236. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 230). (¬4) الأنفال 30. (¬5) سيرة ابن هشام 1/ 483 بسند صحيح إلى محمد بن كعب القرظي لكنه مرسل. (¬6) مسند أحمد 1/ 348 بإسناد ضعيف لكنه صالح للاعتبار، وقد حسنه ابن كثير (البداية والنهاية 3/ 179 وقال: وهو أجود ما روى في قصة نسج العنكبوت على فم الغار) وحسنه ابن حجر.

وقد ورد حديث ضعيف جداً يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بات في غار ثور أمر الله شجرةً، فنبتت في وجه الغار، وأمر حمامتين وحشيتين، فوقعتا بفم الغار. وأن ذلك سبب صدود المشركين عن الغار. ومثل هذه الأساطير تسربت إلى مصادر كثير في الحديث والسيرة (¬1). وعلى أية حال فإن ائتمار المشركين لقتله ثابت بنص الآية فلا يبعد أن يحاصروا بيته. قالت عائشة رضي الله عنها: "فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك. فقال أبو بكر: إنما هم أهلك (¬2) بأبي أنت يا رسول الله. قال: فإني قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول الله. ¬

_ = (الفتح 7/ 236) وحسنه الزرقاني (شرح المواهب 1/ 323) وفي السند عثمان بن عمرو بن ساج الجزري فيه ضعف (ابن حجر: تقريب 386) تفرد بتوثيقه ابن حبان، وحديثه صالح للاعتبار (تهذيب التهذيب 7/ 145) قال الألباني: واعلم أنه لا يصح حديث في العنكبوت والحمامتين (سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 339). (¬1) أخرجه ابن سعد: 1/ 229 وفي سنده أبو مصعب المكي مجهول وعوين بن عمرو منكر الحديث وسماه (عون) وأخرجه البزار كما في مسنده 2 /ق 232 وانظر كشف الأستار 2/ 299 - 300 وفي إسناده عوين بن عمرو، وهو منكر الحديث لا شئ، وقد تفرد به، وشيخه أبو مصعب مجهول، وقد تسرب الحديث إلى المعجم الكبير للطبراني 20/ 443 ودلائل النبوة لأبي نعيم 6/ 269 - 270 ودلائل النبوة للبيهقي 2/ 213 - 214 والبداية والنهاية لابن كثير 3/ 181 وقال: غريب جدا من هذا الوجه. وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 1/ 331 وسبل الهدى والرشاد 3/ 339 - 340. (¬2) وكان قد زوجه عائشة رضي الله عنها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال أبو بكر: فخذ - بأبي أنت يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن. قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وضعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب. وبذلك سميت ذات النطاق. قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر - وهو غلام شاب ثقف لقن - فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح من قريش بمكة كبائت، فلا يسمح أمرًا يُكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حيث يختلط الظلام، ويرعى عليهم عامر بن فُهَيرة - مولى أبي بكر - منحة من غنم، فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عدي بن عدي - هاديًا خريتًا (¬1) قد غمس حلفًا في العاص بن وائل السهمي - وهو على دين الكفار - فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث" (¬2). وتشير رواية صحيحة أخرى إلى أن رسول الله وأبا بكر "ركباً فانطلقا حتى أتيا الغار وهو بثور" (¬3). ¬

_ (¬1) قال الزهري: والخريت الماهر بالهداية (فتح الباري 7/ 238) وقد سماه ابن إسحاق "عبد الله بن أرقط". (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 231 - 232). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 389).

وثمة رواية حسنة تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الغار من بيته، حيث حاصره المشركون يريدون قتله، فلبس علي رضي الله عنه ثوبه ونام مكانه، واخترق رسول الله صلى الله عليه وسلم حصار المشركين دون أن يروه، بعد أن أوصى عليا بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به، فجاء أبو بكر وعلي نائم، وأبو بكر يحسب أنه نبي الله. قال فقال: يا نبي الله. فقال له علي: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون (¬1) فأدركه. قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار. قال: وجعل علي يُرمي بالحجارة، كما كان يُرمي نبي الله وهو يتضور، قد لفَّ رأسه في الثوب لا يخرجه، حتى أصبح (¬2) ثم كشف رأسه، فقالوا: إنك للئيم!. كان صاحبك نرميه فلا يتضوَّر وأنت تتضوَّر وقد استنكرنا ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) تقع في سبيل الست في طريق منى. (¬2) تشير رواية ضعيفة إلى كسر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رضي الله عنه لصنم نحاسي كان في أعلى الكعبة، وذلك في الليلة التي بات فيها علي في فراشه صلى الله عليه وسلم، ومدار الرواية على نعيم بن حكيم وهو صدوق له أوهام، ومثله لا يحتج بما تفرد به، وقد تفرد بهذه الرواية (مصنف ابن أبي شيبة 14/ 488 - 489 ومسند أحمد 1/ 84 والنسائي: الخصائص 134 - 135 وتهذيب الآثار 3/ 237 ومستدرك الحاكم 3/ 5 وشيخ الحاكم هنا هو أبو بكر محمد بن إسحق القطيعي، 2/ 366 - 367 وقال الذهبي: إسناده نظيف والمتن منكر. وتاريخ بغداد 13/ 302، وموضع أوهام الجمع والتفريق 2/ 432. والبوصيري: اتحاف المهرة الخيرة 93 أ. (¬3) مسند أحمد 5/ 26 - 27 (ط: أحمد محمد شاكر) من حديث ابن عباس بإسناد حسن فيه أبو بلج صدوق. وقد صحح الشيخ أحمد محمد شاكر سنده، وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بَلْج الفزاري وهو ثقة وفيه لين (مجمع الزوائد 9/ 119 - 120) وقال ابن حجر: "أبو بلج صدوق ربما أخطأ" (تقريب 625). وقد انفرد بهذا الحديث وقد قال ابن حبان: "أرى أن لا يحتج بما انفرد به من الرواية (المجروحين 3/ 112).

لقد كان غار ثور قد تحدد منطلقًا للهجرة، وضُرب الموعد مع الدليل في ذلك المكان، وكان خروج المصطفى والصديق إلى الغار ليلًا (¬1). ولا تقوى هذه الرواية على معارضة ما في الصحيح، ولكن يمكن التوفيق بينهما، لأن رواية الصحيح ليست صريحة في ركوبهما من بيت الصديق رضي الله عنه. فإذا افترضنا أن اصطحابهما معاً جرى من بئر ميمون أمكن التوفيق بين الروايتين. لقد حمل أبو بكر رضي الله عنه ثورته ليضعها تحت تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت أسماء ابنته أنها خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم (¬2). لقد مكث الاثنان في الغار ثلاث ليالٍ وقد تمكن المشركون من اقتفاء أثرهم إلى الغار حيث رأى الصديق أقدامهم فقال:"يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: "أسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما" (¬3). وإلى هذا اليقين والتوكل الكامل تشير الآية {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬4). لقد أخفقت قريش في العثور عليهما، فأعلنت مكافأة لمن يقتلهما أو يأسرهما (¬5). لقد أرخت رواية واهية خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار في ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول، وأدركتهما القيلولة ظهر يوم الثلاثاء بقديد. وهذا ¬

_ (¬1) يؤيده ما في مغازي عروة ص 128، 129 ومغازي موسى بن عقبة، وكذلك رواية الواقدي في طبقات ابن سعد 1/ 227. (¬2) مستدرك الحاكم 3/ 5 ودلائل البيهقي 2/ 480 بإسناد فيه انقطاع بين يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير وأسماء، ولكن يحيى أخذ الخبر عن أبيه عباد كما في سيرة ابن هشام 1/ 488 فهو الذي يروي عن جدته أسماء لذلك فإن السند حسن. ثم هو مما يتداول عادة في الوسط العائلي. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 257). (¬4) التوبة 40. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 238).

التحديد يثير الشك بصحة الرواية فضلًا عن ضعف الإسناد (¬1). لقد مضى الاثنان في الطريق إلى المدينة وهما يحسان برصد المشركين لهما. قال أبو بكر: "أخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلًا" (¬2)، ووقعت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة، ولنقرأ ما سجّله الصديق رضي الله عنه عن بداية الرحلة قال: "أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد، حتى رُفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيتُ الصخرة فسويت بيدي مكاناً ينام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ثم بسطت عليه فروة. ثم قلت: "نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، فنام" ثم حكى أبو بكر خبر مرور راع بهما، فطلب منه لبنا، وصادف استيقاظ الرسول فشرب ثم قال: "ألم يأن للرحيل" قلت: بلى قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، وأتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جَلد من الأرض (¬3) (¬4). وقد اشتهر في كتب السيرة والحديث خبرُ نزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخيمة أم مَعْبد بقديد طالبين القِرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها، إلا شاة ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 1/ 232 بإسناد واهٍ فيه عبد الملك بن وهب المذحجي اسمه الحقيقي سليمان بن عمرو النخعي قال الإمام البخاري: معروف بالكذب (التاريخ الكبير 2/ 2/ 28 وانظر حاشية المعلمي اليماني على الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/ 373) وانفرد بتوثيقه ابن حبان (الثقات 7/ 108) وفي السند محمد بن بشر بن محمد الواسطي أبو أحمد العسكري، والصحيح أنه بشر بن محمد بن أبان السكري البصري. ترجم له البخاري ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً (التاريخ الكبير 1/ 2/ 84) وقال أبو زرعة الرازي: هو شيخ (الجرح والتعديل 2/ 364) وذكر ابن عدي فيه جرحاً شديداً (الكامل 3/ 1096 - 1100) ثم إن اعلاه يشك البخاري في إرساله حيث تسائل: الحر ما أدرى أدرك أبا معبد؟ (التاريخ الكبير 1/ 2/ 84). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 255). (¬3) يعني أرضاً صلبة مستوية. (¬4) صحيح مسلم 4/ 2309 من حديث البراء بن عازب.

هزيلةَ لا تدرً لبناً. فأخذ الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله، وحلب في إناء حتى علت الرغوة، وشرب الجميع، ولكن هذه الرواية طرقها ما بين ضعيفة وواهية (¬1) إلا طريقاً واحدة يرويها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها "لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يستخفيان نزلاً بأبي مَعْبد فقال: والله ما لنا شاة، وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن. ¬

_ (¬1) أخرجها ابن إسحاق بإسناد معضل كما في دلائل النبوة للبيهقي 2/ 493 من رواية يونس بن بكير عنه. - وابن خزيمة كما ذكر ابن حجر في الإصابة. ولم أقف على سنده - والطبراني: المعجم الكبير 4/ 56 فإسناد فيه مكرمٍ بن محرز انفرد ابن حبان بتوثيقه (الثقات 9/ 207) ولم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلاً (الجرح والتعديل 8/ 443) وفيه محرز بن مهدي مجهول، وهشام بن خنيس مجهول الحال. وقال الهيثمي: وفي إسناده جماعة لم أعرفهم (مجمع الزوائد 6/ 58). - وأخرجه الطبراني من طريق آخر فيه عبد العزيز بن يحيى المديني نسبه البخاري وغيره إلى الكذب وفيه مجاهيل أيضاً كما يقول الهيثمي (مجمع الزوائد 8/ 279 وانظر ميزان الاعتدال 3/ 573 والضعفاء للعقيلي 4/ 74). - وأخرجه ابن سعد: الطبقات 1/ 230 بإسناد واهٍ فيه سليمان بن عمرو النخعي، وقد دلس اسمه عبد الملك بن وهب المذحجي وهو كذاب (الكامل لابن عدي 3/ 1096). - وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/ 1/ 84 وفي إسناده عبد الملك بن وهب المذحجي كذاب (التاريخ الكبير 2/ 2/ 28) وشك البخاري في انقطاع السند. - وأخرجه البزار بإسنادين أحدهما فيه عبد الرحمن بن عقبة مجهول الحال ويعقوب بن محمد الزهري صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء (كشف الأستار 2/ 300) والآخر سنده حسن ومتنه قال عنه البزار: وهو يخالف سائر الأحاديث في قصة أم معبد (كشف الأستار 2/ 301) ومن اختلاف متنه قوله "نزلا بأبي معبد" وذكره إسلام أبي معبد آنذاك. وهذه الرواية من حديث قيس بن النعمان أخرجها الطبراني بسند صحيح وسياق أتم فيما ذكر ابن حجر (الإصابة 5/ 506). وساقها الحاكم في المستدرك 3/ 9 من حديث هشام بن حبيش مجهول الحال. وساقها من طريق قيس بن النعمان 3/ 8 - 9 ولم يصرح باسم الراعي. وأخرجه البغوي ابن شاهين وابن منده من طريق حزام بن هشام بن حبيش بن خالد عن أبيه (السيوطي: الخصائص الكبرى 1/ 309). وأخرجه أبو نعيم الأصبهاني بسنده من حديث هشام بن حبيش (دلائل 282).=

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحسبه - فما تلك الشاة؟ فأتي بها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة عليها، ثم حلب عسّاً فسقاه، ثم شربوا، فقال أنت الذي يزعم قريش أنك صابيء؟ قال: إنهم ليقولون. قال: أشهد أن ما جئت به حق. ثم قال: أتبعك قال: لا حتى تسمع أنا قد ظهرنا. فاتَّبَعَهُ بعدُ". وهذا الخبر ¬

_ = وأخرجه ابن سيد الناس من طريق أبي بكر الشافعي بإسناد فيه الكديمي وعبد العزيز بن يحيي متهمان (عيون الأثر 1/ 188). وبإسناد فيه ابن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر مُعضلاً. وبإسناد فيه هشام بن حبيش مجهول الحال، وأضاف ابن سيد الناس إلى أسانيد أبي بكر الشافعي سنداً فيه سيف بن عمر التميمي وهو متروك. وساق ابن كثير الخبر من طريق ابن أبي ليلى، وليس فيه التصريح بأم معبد أو بأبي معبد، فسنده منقطع. كما ساقها من رواية البزار بالسند الذي فيه عبد الرحمن بن عقبة (البداية والنهاية 3/ 189).ثم ساقها ابن كثير بواسطة البيهقي وفي إسناده عبد الملك بن وهب المذحجي كذاب (البداية والنهاية 3/ 190) ويرى ابن كثير أن قصة أم معبد مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً (البداية والنهاية 3/ 188). ثم إن الحافظ ابن حجر ذكر أن ابن منده ساقها من طريق عبد الرحمن بن عقبة (الإصابة 6/ 169) وقد سبق أنه مجهول الحال. وذكر الحافظ ابن حجر أيضاً (الإصابة 8/ 306 - 307) أن ابن السكن أخرجها من طريقين: طريق ابن الأشعث حفص بن يحي التيمي ولم أقف على ترجمته، ومن طريق آخر بسند لم يذكر ابن حجر سائر رجاله لكن متن روايتي ابن السكن مخالف لمتون الروايات الأخرى. كذلك أخرج القصة ابن عبد البر في الاستيعاب (1958) بإسناد فيه الحكم بن أيوب الخزاعي انفرد ابن حبان بتوثيقه (لسان الميزان 1/ 478) وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 245) فلم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً وفيه محمد بن سليمان بن الحكم الخزاعي ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 7/ 269 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ولكنه كتب عنه فيبدوا أنه - على الأقل - يُعتبر بحديثه. وفيه عبد الله بن محمد بن عيسى بن حكيم لم أقف على ترجمته. وهكذا لا يخلو طريق من طرقها من العلل القادحة، وهي بمجموع طرقها لا تصلح للاحتجاج بها في موضوع المعجزات. ولكن حديثي التابعي الكبير عبد الرحمن بن أبي ليلى والصحابي جابر بن عبد الله هما أمثل طرق قصة أم معبد يعتضدان إلى الحسن لغيره. لكنهما لا يقويان على مناهضة حديث قيس بن النعمان من طريق الطيالسي فإنه حسن لذاته بل يرى أبن حجر أنه صحيح.

فيه معجزة حسيَّة للرسول صلى الله عليه وسلم. شاهدها أبو معبد فأسلم (¬1). ولندع رواية سراقة بن مالك تكمل الخبر التاريخي ففيها تفاصيل تكشف عن المعجزة النبوية. قال سراقة: "لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم. قال: فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه. قال: فأومأت إليه بعيني أن أسكت. ثم قلت: إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم، قال: لعلَّهُ، ثم سكت. قال: ثم مكثت قليلاً ثم قمت فدخلت بيتي، ثم أمرت بفرسي فقيِّد لي إلى بطن الوادي، وأمرت بسلاحي، فأخرج لي من دبر حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها (¬2). ثم انطلقت فلبست لأمتى، ثم أخرجتُ قِداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره: لا يضره. قال: وقد كنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقلة. قال: فركبت على أثره، فبينا فرسي يشتدُّ بي عثر بي فسطت عنه. قال فقلت: ما هذا!! ¬

_ (¬1) رواه البزار بإسناد حسن وقال معقباً: لا نعلم روى قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا، ولا نعلمه بهذا اللفظ إلا عنه وهو يخالف سائر الأحاديث في قصة أم معبد (كشف الأستار 2/ 301) وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (6/ 58) وقال الحافظ ابن حجر: "أخرجها الطبراني من حديث قيس بن النعمان بسند صحيح وسياق أتم. (الإصابة 5/ 506). (¬2) القِداح والازناد والسهام والأقلام والأزلام معناها واحد، وهي أعواد تسوَّي للاستقسام الذي هو من القسم أي النصيب وهي متشابهة في أقدار الأجسام، وإنما تختلف بالعلامات والوسام، وبواسطتها يستشير المشرك الآلهة (محمود سليم الحوت: في طريق المثيولوجيا عند العرب ص 142 - 146).

قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمتُ بها، فخرج السهم الذي أكره: لا يضره. قال: فأبيت إلا أن أتبعه. قال: فركبت في أثره، فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه. قال فقلت: ما هذا!! قال: ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج السهم الذي أكره: لا يضره. قال: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار. قال: فعرفتُ حين رأيت أنه قد منع مني، وأنه ظاهر. قال: فناديت القوم، فقلت: أنا سراقة بن جعشم، أنظروني أكلمكم فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له وما تبتغي منا؟ فقال لي ذلك أبو بكر. قال قلت: تكتب لي كتابًا يكون آية بيني وبينك. قال: اكتب له يا أبا بكر. فكتب لي كتابًا في عظم أو في رقعة أو في خزفة، ثم ألقاه إلي، فأخذته فجعلته في كنانتي، ثم رجعت فسكت، فلم أذكر شيئًا مما كان". ثم حكى خبر لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وإسلامه (¬1). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 102 - 104 بإسناد صحيح لغيره، لأن ابن إسحاق توبع في صحيح البخاري، تابعه عُقيل (صحيح البخاري كما في فتح الباري 7/ 230 - 248، وبين الحافظ ابن حجر وصل حديث الزهري في 7/ 240).

وقد ذكر سراقة في رواية صحيحة أنه اقترب من الاثنين حتى سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، كما ذكر أنه عرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئًا، وأنّ وصيته كانت: أخف عنا (¬1). وتذكر رواية صحيحة أنه صار آخر النهار مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان جاهداً عليه أوله. وأن الرسول هو الذي دعا عليه فصرعه الفرس (¬2). وقد احتاط الاثنان في الكلام مع الناس الذين يقابلونهم في الطريق، فإذا سئل أبو بكر عن رسول الله قال: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير (¬3). وقد صحَّ أن الدليل أخذ بهم طريق السواحل (¬4). وفصَّل ابن إسحق وصف الطريق الذي سلكوه قال: "فلما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل - حتى عارض الطريق - أسفل من عُسْفان، ثم سلك بهما أعلى أسفل أَمَج، ثم استجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما الخَرَّار، ثم سلك ثَنيَّة الُمَّرة، ثم سلك بهما لقْفاً ثم أجاز بهما مدْلَجة لقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة مَحَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مَحَاج، ثم تبطَّن بهما مَرْجح من ذي الغَضْوين ثم من ذي كَشْر، ثم أخذ بهما على الجَدَاجد، ثم على الأجْرد ثم سلك بهما ذا سَلَم من بطن أَعْداء مَدْلَجة تِعْهِن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما الفاجَّة. قال ابن هشام: ثم هبط بهما العَرْج وقد أبطأ عليهما بعضُ ظهرهم، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم - رجل من أسلم أوسن بن حُجْر على جمل له يقال له ابن الرّداء إلى المدينة وبعث معه غلاماً يقال له مسعود بن هُنيدة، ثم خرج بهم دليلهما من العَرْج، فسلك بهما ثَنيَّة العائر عن يمين ركوبة حتى هبط بهما بطن رِئم ثم قدم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 238 - 239). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 249 - 250). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 249). (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 232).

بهما قُباء على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، يوم الاثنين حين اشتدَّ الضحاء، وكادت الشمس تعتدل (¬1). وكان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروجه من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه، حتى إذا اشتد الحرُّ عليهم عادوا إلى بيوتهم، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادوا، وقدم الرسول وقد دخلوا بيوتهم، فبصر به يهودي فناداهم، فخرجوا فاستقبلوه، وكانت فرحتهم به غامرة فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرة فاستقبلوه. وقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قُباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء (¬2). ولما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم (¬3). وقد سجلت رواية أن عدد الذين استقبلوه خمسمائة من الأنصار (¬4). فأحاطوا بالرسول وبأبي بكر وهما راكبان، ومضي الموكب داخل المدينة، "وقيل في المدينة: جاء نبي الله جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم" (¬5). وقد صعد الرجال والنساء فوق ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك 3/ 8 بإسناد حسن وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وصححه ابن حجر وأشار إلى طريقين آخرين له (فتح الباري 7/ 238). وانظر سيرة ابن هشام 1/ 491 - 492 بدون إسناد. وفي صحيح مسلم 4/ 2311 أن قدومهما المدينة ليلاً، ويجمع بينهما أن الوصول ليلاً والدخول نهاراً (الفتح 7/ 244). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 239، 265)، وسيرة ابن هشام 1/ 492 بسند حسن وهو صحيح لغيره. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 265). (¬4) أخرجه البخاري في التاريخ الصغير كما في فتح الباري 7/ 251 ولم أجده في المطبوع وإسناده صحيح. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 250).

البيوت، وتفرَّق الغلمان في الطرق ينادون: يا محمد يا رسول الله، يا محمد يا رسول الله (¬1). قال الصحابي البراء بن عازب - وهو شاهد عيان: "ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) فلم ترد بها رواية صحيحة (¬3). وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب الأنصاري فتساءل: أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي. فنزل في داره (¬4). وقد ورد في كتب السيرة أن زعماء الأنصار تطلعوا إلى استضافة الرسول صلى الله عليه وسلم فكلما مر بأحدهم دعاه للنزول عنده فكان يقول لهم: دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب (¬5). وكان داره طابقين، قال أبو أيوب الأنصاري: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4/ 2311. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 260). (¬3) ابن حجر: فتح الباري 7/ 261، 262. وابن القيم: زاد المعاد 3/ 551. والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 1/ 360،359. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 250، 265). (¬5) سيرة ابن هشام 1/ 494 بدون إسناد، ومغازي موسى بن عقبة 1/ 183 بدون إسناد وأخرجها ابن عائذ وسعيد بن منصور كلاهما من طريق عطاف بن خالد - وهو صدوق يهم - عن صديق (ابن حجر: فتح الباري 7/ 246 والتقريب 393). وعطاف يرويها عن صديق بن موسى عن عبد الله بن الزبير (البداية والنهاية 3/ 200). وأشار ابن حجر إلى تخريج الحاكم لها من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس (فتح الباري 7/ 245) ولم أجده في طبعة المستدرك (وإسحق ثقة كما في التقريب) وإسناد الحاكم في البداية والنهاية 3/ 197 وهو سند ضعيف فيه إبراهيم بن صرمة شيخ يعتبر بحديثه ومحمد بن سليمان لا يعرف حاله. وأخرجها ابن سعد بسند فيه الواقدي (الطبقات 1/ 236 - 237) وبسند معضل (1/ 237). وأخرجها البيهقي كما في البداية والنهاية 3/ 200 من طريق سعيد بن منصور نفسه وفيه عطاف ابن خالد، ويعتضد حديث عبد الله بن الزبير بحديث أنس فيرقي إلى الحسن لغيره.

"لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السُّفل وأنا وأم أيوب في العلوّ، فقلت له: يا نبي الله - بأبي أنت وأمي - إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: يا أبا أيوب: إنّ أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت. قال: فلقد انكسر حِبُّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه (¬1). وقد أفادت رواية ابن سعد أن مقامه بدار أبي أيوب سبعة (¬2) أشهر. وقد اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين (¬3). وآثروهم. على أنفسهم، فنالوا من الثناء العظيم الذي خلّد ذكرهم على مر الدهور وتتالي الأجيال، إذ ذكر الله مأثرتهم في قرآن يتلوه الناس: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4). وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار ثناء عظيماً فقال: (لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار) (¬5) و (لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكتُ وادي الأنصار أو شِعبهم) (¬6). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 498 - 499 بإسناد صحيح، ومستدرك الحاكم 3/ 460 - 461 بإسناد صحيح، قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأشار الحافظ ابن حجر إلى تخريج أبي سعيد الخركوشي له من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس في كتابه "شرف المصطفى" (فتح الباري 7/ 252) وقد حُقِّق "شرف المصطفى" للخركوشي في جامعة اكستر ببريطانيا، ولم أقف عليه. وانظر طريقاً آخر له في البداية والنهاية لابن كثير 3/ 199 من طريق أفلح مولى أبي أيوب عنه وإسناده صحيح. (¬2) الطبقات الكبرى 1/ 237 بإسناد ضعيف. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 264). (¬4) الحشر 9. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 112). (¬6) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 110).

(أسانيد حديث (دعوا الناقة فإنها مأمورة) محمد بن إسحاق: (بدون إسناد). موسى بن عقبة: (بدون إسناد). سعيد بن منصور: من طريق عطاف بن خالد -صديق بن موسى- عبد الله بن الزبير (1) البيهقي: محمد بن سعد -الواقدي محمد بن عائذ الحاكم -أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني -محمد بن مخلد الدوري- محمد بن سليمان ابن إسماعيل بن أبي الورد -إبراهيم بن أبي صرمة- يحيى بن سعيد -إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة- أنس. البيهقي ابن كثير

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين من بني النجار (¬1). وقد اشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام المسلمون بتسويتها وقطع نخيلها وصفوا الحجارة في قبلة المسجد، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم وهم يرتجزون: اللهمّ إنه لا خيرَ إلا خيرُ الآخرة ... فانصرُ الأنصارَ والمهاجرة (¬2). وقد بناه أولًا بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين (¬3). كانت الهجرة قاسية الوقع على المهاجرين. وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحَزْورة في سوق مكة فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" (¬4). لقد واجه المهاجرون من مكة صعوبة اختلاف المناخ، فالمدينة بلدة زراعية، تغطي أراضيها بساتين النخيل، ونسبة الرطوبة في جوها أعلى من مكة، وقد أصيب العديد من المهاجرين بالحمى منهم أبو بكر وبلال. فكان أبو بكر إذا أخذته الحُمىَّ يقول: كلّ امريء مصّبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحُمىَّ يرفع عقيرته يقول: ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوادٍ وحولي إذخِرٌ وجَليلُ وهل أَرِدَنْ يومًا مياهَ مِجَنَّةٍ ... وهل يَبْدُونَ لي شامةٌ وطَفيلُ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 265). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 265). (¬3) ابن حجر: فتح الباري 7/ 246 نقلًا عن الزبير بن بكار. (¬4) رواه الترمذي (سنن 5/ 722) وقال: حسن غريب صحيح. وابن ماجة: سنن 2/ 1037 رقم الحديث 3108 والدارمي: سنن 2/ 239.

فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ، وصحّحها، وبارك لنا في صاعها ومدّها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجُحفة" (¬1). وقال:"اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم" (¬2). لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة، واستقروا في الأرض الجديدة مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة. لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين. والحكم يدور مع علته، ومقتضاه أن من قَدِر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت. ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإِقامةُ فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإِسلام (¬3). وعندما دون التاريخ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذت مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي، لكنهم أخَّروا ذلك من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ بيعة العقبة الثانية وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة. فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ التاريخ الإسلامي (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري7/ 262). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري7/ 269). (¬3) ابن حجر: فتح الباري 7/ 229. (¬4) فتح الباري 7/ 268.

الفصل الثاني الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة خصائص المجتمع المدني وتنظيماته الأولى وإجلاء اليهود

الفَصْل الثَاني الرُّسُولُ صلى الله عليه وسلم في المَدِيْنَةِ خَصَائِصُ المُجْتَمع المَدَنِّي وَتَنْظِيمَاته الأوْلى وإجْلَاءُ اليَهُود

خصائص المجتمع المدني وتنظيماته الأولى المجتمع المدني قبل الهجرة

خصائص المجتمع المدني وتنظيماته الأولى المجتمع المدني قبل الهجرة: "يثرب" -وهو الاسم القديم للمدينة المنورة- واحة خصبة التربة كثيرة المياه تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع وأهمها حرة واقم من الشرق وحرة الوبرة في الغرب. وحرة واقم أكثر خصوبة وعمرانًا، من حرة الوبرة، ويقع جبل أحد شمالها وجبل عير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها وادي بطحان ومذينيب ومهزور والعقيق وهي منحدرة من الجنوب إلى الشمال حيث تلتقي عند مجتمع الأسيال من رومة. وقد ورد اسم يثرب في الكتابات المعينية بما يدل على قدمها (¬1). ولكن معلوماتنا عن تاريخها الذي يسبق الإِسلام قليلة ومشتتة وتبدو أكثر وضوحًا كلما اقتربنا من الفترة الإسلامية. اليهود: تختلف النظريات حول أصل يهود المدينة المنورة -والحجاز عامة- والمكان الذي هاجروا منه، والزمان الذي قدموا فيه، ولكن أقواها يميل إلى أن بداية نزوحهم من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد بعد أن نجح الرومان في السيطرة على سورية ومصر في القرن الأول. ق. م وعلى اليهود ودولة الأنباط في القرن الثاني بعد الميلاد، مما أدى باليهود إلى الهجرة إلى شبه جزيرة العرب التي كانت بعيدة عن سيطرة الرومان الذي أفزعوهم. غير أن هجرة اليهود إلى الحجاز اشتدت بعد فشل التمرد اليهودي ضد الرومان الذي أخمده -الأمبراطور تيتوس في- عام 70م، وقد وصل بعض هؤلاء اليهود المهاجرين إلى يثرب كما وصلت مجموعة أخرى من اليهود إلى يثرب بعد فشل ثورة أخرى قاموا بها في زمن الأمبراطور هادريان بين عامي 132 - 135 م. ¬

_ (¬1) جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام 3/ 295.

وشكّل هؤلاء اليهود الجالية اليهودية في المدينة والحجاز (¬1). وقد ارتاد يهود بني النضير وبني قريظة منطقه يثرب واستقروا فيها لخصبها وأهمية موقعها التجاري على طرق القوافل إلى الشام. وقد استقر يهود بني النضير وقريظة في حرة واقم شرقي يثرب وهي أخصب بقاعها (¬2). وعرف من أسماء القبائل اليهودية قبل الهجرة أيضًا بنو قينقاع الذين تختلف الآراء في كونهم عربًا تهودوا أو أنهم نزحوا مع النازحين إلى الحجاز وهذا الاختلاف يسري على البطون الأخرى من يهود التي تسميها المصادر العربية ومنهم بنو عكرمة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو الشطيبة وبنو جشم وبنو بهدل وبْنو عوف وبنو معاوية وبنو مريد وبنو القصيص وبنو ثعلبة (¬3). ولم تذكر المصادر إحصاء لعدد اليهود، ولكن كتب السيرة ذكرت أعداد المقاتلين -وهم عادة الرجال البالغون- من كل قبيلة وهم سبعمائة من بني قينقاع ومثلهم تقريبًا من بني النضير وما بين السبعمائة والتسعمائة من بني قريظة (¬4) فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلًا على الألفين، هذا سوى بقية بطون يهود الأخرى الأقل أهمية والتي تسكن في أماكن متناثرة من يثرب أيضًا حيث يذكر السمهودي أنها تزيد على العشرين بطنًا (¬5). ¬

_ (¬1) د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 6/ 513 - 514 (بيروت 1968 - 1971). د. محمد بيومي مهران، دراسات في تاريخ العرب القديم (نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1397 هـ / 1977م) ص 448 - 450. (¬2) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ص 288. (¬3) السمهودي: وفاء الوفا 1/ 112 - 116. وابن هشام: السيرة 2/ 259. (¬4) ابن هشام: السيرة 2/ 428 - 3/ 259 (تحقيق محيي الدين عبد الحميد). وانظر أحمد إبراهيم الشريف ص 294. (¬5) وفاء الوفا 1/ 112.

ولا شك أن المجتمع المدني خضع لسيطرة اليهود قبل أن يقوي كيان العرب فيه خضوعًا تامًا اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا، حيث ترك اليهود بعض طوابعهم عليه كما أنهم تأثروا بالقبائل العربية التي تحيط بيثرب من كل مكان، من ذلك أن اليهود نقلوا من الشام إلى يثرب فكرة بناء الآطام حيث بلغ عددها في يثرب تسعة وخمسين أطمًا (¬1). كما حملوا معهم خبراتهم الزراعية والصناعية مما أثر في ازدهار بساتين يثرب حيث النخيل والأعناب والرمان وبعض الحبوب، كما ظهر الاهتمام بتربية الدواجن والماشية وبرزت صناعات النسيج الذي تحوكه النسوة إلى جانب الأواني المنزلية وبعض الأدوات الأخرى اللازمة للمجتمع الزراعي. وكما أثر اليهود على مجتمع المدينة فقد تأثروا بالعرب من حولهم فظهرت طوابع الحياة القبلية على يهود بما فيها من عصبية وكرم واهتمام بالشعر وتدريب على السلاح. وطغيان النزعة القبلية على يهود جعلهم لا يعيشون ككتلة دينية واحدة بل قبائل متنازعة لم تتمكن من توحيد صفها حتى في عصر السيرة عندما واجهت أحداث الجلاء. وبالطبع كان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا الذي يتقنه اليهود في كل مكان. وإن كان الربا معروفًا في مجتمع مكة التجاري أيضًا. العرب: وقد سكن الأوس والخزرج يثرب التي سبقهم إليها يهود وتملكوا أخصب بقاعها وأعذب مياهها، مما اضطر الأوس والخزرج إلى سكنى الأراضي المهجورة من يثرب، وينتمي الأوس والخزرج إلى قبيلة الأزد اليمانية الكبيرة التي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة ربما أقدمها في حدود عام 207 م عندما هاجرت خزاعة إلى مكة. ¬

_ (¬1) السمهودي: وفاء الوفا 1/ 116.

واختلف المؤرخون في سبب الهجرة الأزد، فبعضهم يرجع ذلك إلى انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم. وقد بيّن القرآن الكريم أنه كان عقوبة لسبأ، بسبب إعراضهم عن الحق، وأنه أدى إلى تفرق سبأ في البلاد وكان التصدع الأخير للسد سنة 544 م في أيام أبرهة (¬1)، وبعضهم يقلل من أثر انهيار السد، ويعزو ذلك إلى الاضطرابات السياسية والتدهور الاقتصادي الذي نجم عن سيطرة الرومان على البحر الأحمر وانتقال تجارة الهند عبره ولا يتعارضان لشمول تأثير ذلك على السكان ومنهم الأزد التي كان معظمها يسكن خارج منطقة سد مأرب (¬2). ولا يخفى أن انهيار السد من أسباب التدهور المذكور وما أعقبه من تشتت من حوله من سبأ. وممن هاجر من الأزد الأوس والخزرج الذين استقروا بيثرب إلى جانب يهود. فسكن الأوس منطقة العوالي بجوار قريظة والنضير، وسكن الخزرج سافلة المدينة حيث جاوروا بني قينقاع، وكانت ديار الأوس أخصب من ديار الخزرج مما كان له أثر في المنافسة والصراع بين الطرفين (¬3). ويحدد سديو تاريخ هجرتهم بعام 300م ثم سيطرتهم على يثرب في عام 492 م (¬4) ولا شك أن ثمة تحولات اقتصادية وسكانية حدثت لصالح العرب وتمثلت في زيادة عددهم وثروتهم (¬5) ولا يوجد إحصاء لعدد الأوس والخزرج ولكن القبيلتين قدمتا أربعة آلاف مقاتل للجيش الإسلامي الذي ذهب لفتح مكة سنة ¬

_ (¬1) انظر سورة سبأ 15 - 19 وجواد علي: المفصل في تاريخ العرب 2/ 285. (¬2) أحمد إبراهيم: مكة والمدينة ص 315. ومحمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص 458 - 459. (¬3) أحمد إبراهيم الشريف، مكة والمدينة ص 337 - 340. (¬4) سديو: تاريخ العرب العام، ترجمة عادل زعيتر ص 51. (¬5) السمهودي: وفاء الوفا 1/ 125 - 126. وأحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ص 325.

أثر الإسلام في المجتمع المدني

8 هـ (¬1) ولا شك أن هذه التحولات مهدت لسيطرتهم على يثرب التي كانت السيادة فيها ليهود، وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من أوس وخزرج وإثارة الشقاق بينهم فأفلحوا في إذكاء العداوة وقيام الحروب بين الجانبين، وآخر ذلك يوم بعاث (¬2) قبل الهجرة بخمس سنوات حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل لتفوق قواتهم عليهم حتى لجأت الأوس إلى محالفة يهود النضير وقريظة فغلبتهم في بعاث، ولكنهم فطنوا إلى خطورة الإجهاز عليهم وأن ذلك يمكن اليهود من استعادة سيطرتهم على يثرب، لذلك سعوا إلى المصالحة معهم بل إن الجانبين اتفقا على ترشيح رجل من الخزرج هو عبد الله بن أبي بن سلول الذي وقف مع أهله على الحياد في "بعاث" ليكون ملكا على يثرب مما يدل على تمكن العرب من المحافظة على قوتهم وتفوقهم على يهود بعد يوم بعاث. ولا شك أن وقائع أيام العرب بين الأوس والخزرج ولدت شعورا بالمرارة عند الطرفين ورغبة قوية في العيش بهدوء وسلام، وهذا الشعور كان يرافق استقبال يثرب للإسلام حاملاً معه بشائر التآخي والسلام، وقد عبرت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أثر الحروب والمنازعات في إقبال أهل المدينة على الإسلام بقولها: "كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام" (¬3). أثر الإسلام في المجتمع المدني لا شك أن لكل حضارة وفكر ودين طابعاً يطبعه وصبغة تصبغه ولوناً يميزه، وعلى قدر أصالة الحضارة وعمقها وشمولها يكون تأثيرها في الإنسان الذي يعيش ¬

_ (¬1) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة 348. (¬2) ابن الأثير، الكامل 1/ 660 - 666، 671،668، 676، 678 - 680. (¬3) صحيح البخاري 5/ 44 وانظر 5/ 67 منه. وابن هشام السيرة 1/ 183.

في إطارها وقد تتشابه الأفكار والمعتقدات ولا تستقل عن بعضها إلا في جوانب معينة كما هو الحال في الفلسفات المادية المهيمنة على عالمنا المعاصر، فإن التحول من واحدة إلى أخرى لا يتطلب تغييراً جذرياً وانقلاباً شاملاً في حياة الإنسان بل يكفي أن تتغير قناعته بمبدأ منها وتزداد بآخر ليتم التحول الفكري إلى المبدأ الجديد. . إن هذا التحول لا يحتاج إلى مجهود كبير إذ ليس له أثر على السلوك اليومي والعادات المتأصلة في النفس فلا ينعكس إذًا على واقع الحياة. إن هذه الظاهرة لا تنطبق على الإسلام. فهذا الدين منذ ظهوره أحدث انقلابًا جذريًا في حياة الفرد والجماعة بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيرًا كليًا, كما تغيرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان .. وكذلك تغيرت بنية المجتمع بصورة واضحة فاختلفت مظاهر وصور وبرزت معالم وظواهر جديدة .. إن النقلة التي أحدثها الإسلام عميقة وشاملة، ففي عالم العقيدة يمثل طفرة من عبادة الأشياء المحسوسة كالأصنام والأوثان والكواكب التي يرونها ويلمسونها إلى عبادة الله الواحد الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والذي {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. والذي لا يمكن تصوره وتمثله ومعرفة كنهه، بل يعرف بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين دون تمثيل أو تشبيه ولا نفي أو تعطيل. وهذه طفرة من "العقل البدائي" الذي يتعامل مع المحسوسات إلى "العقل الحضاري" الذي يتمكن من فهم التوحيد والتنزيه لله رب العالمين. وفي سلوك الإنسان اليومي أحدث الإسلام تغييرًا جذريًا .. فالنقلة كبيرة بين ما كان عليه في جاهليته وما صار إليه في إسلامه .. لم يعد العربي كما كان متفلتًا من ضوابط القانون في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية بل صار منضبطًا بضوابط الشريعة في جزئيات حياته من أخلاق وعادات ونوم واستيقاظ وطعام وشراب وزواج وطلاق وبيع وشراء .. ولا شك أن العادات تتحكم في الإنسان ويصعب عليه

التخلص منها واكتساب عادات وصفات جديدة ... لكن ما ولده الإسلام في أنفسهم من إيمان عميق مكنهم من الانخلاع من الشخصية الجاهلية بكل ملامحها واكتساب الشخصية الإسلامية بكل مقوماتها فاعتادوا على عبادة الله تعالى واتجهوا بكل نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي إليه لأن العبادة في الإسلام شاملة لكل نشاط وحركة يقصد بها وجه الله تعالى، والتزموا بأداء الصلاة التي هي عماد الدين يوميًا خمس أوقات محددة. ولا شك أن النفس تكسل وتحاول التنصل من الواجبات والالتزامات لكن المسلم وقد أسلم وجهه لله تعالى تمكن من الاعتياد عليها، قال تعالى مبينًا ما تحتاجه الصلاة من صبر: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ...} (¬1). وكذلك الأمر بالنسبة للصوم بما فيه من خرق لعادات الإنسان اليومية في تناول الطعام والشراب يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة مؤمنة .. والتخلي عن جزء مما يملك الإنسان من مال كل سنة لأداء الزكاة يحتاج إلى التخلص من الحرص والشح فلا بد أن يكون حب المسلم لله أعظم من حبه للمال ليخرج زكاته، ولذلك فإن كثيراً من المرتدين في خلافة الصديق رضي الله عنه أعلنوا استعدادهم للبقاء على إسلامهم إذا أعفوا من الزكاة. وإلى جانب الاعتياد على الأوامر الجديدة وحمل النفس عليها كان لا بد للمسلم أن يتخلص من كثير من العادات المتأصلة كشرب الخمر والأنكحة الجاهلية التي أبطلها الإسلام والربا الذي كان يقوم عليه اقتصاد مكة وغيرها. إن المسلمين تخلصوا من هذه العادات وغيرها استجابة لأمر الله تعالى .. فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬2) خرجت الأنصار بدنان الخمر إلى ¬

_ (¬1) سورة طه من الآية 132. (¬2) سورة المائدة 90، 91.

الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة

الأزقة وأراقوها وقالوا: "انتهينا ربنا انتهينا ربنا" وشرب الخمر الذي أقلعوا عنه كان عادة متأصلة في حياة الفرد والمجتمع، والخمر الذي أراقوه كان مالاً ضحوا به تسليماً لله رب العالمين. ولم يكن العربي ليخضع لدولة وإنما كانت الوحدة السياسية والاجتماعي هي القبيلة وكانت الدويلات التي نشأت في أنحاء من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بوقت طويل قد اندثرت وطغت البداوة والقبلية بما فيها من عصبية وتنازع وصراع وتفكك في سائر شبه الجزيرة، فلما جاء الإسلام أرسى مفهوم الدولة وربط سائر القبائل والأفراد بها، فقامت دولة المدينة المنورة على أساس فكري بحت وتوسعت لتوحيد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في تاريخها تحت راية الإسلام، فكانت هذه نقلة في تاريخ شبه الجزيرة العربية السياسي. وهكذا فإن الإسلام أحدث تغييراً جذرياً في حياة الفرد والمجتمع في المدينة المنورة لما تميز به من عمق وشمول وقدرة على التأثير حتى صبغ الحياة بكل جوانبها بصبغته {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (¬1). وسوف نتلمس آثار هذا التغيير الشامل في المباحث التالية: الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة: قدم المهاجرون إلى المدينة المنورة - كما أطلق على يثرب في الإسلام - وكانوا في البدء من عشائر مختلفة من قريش، ثم استمرت الهجرة وصار حقاً على المسلمين الجدد في أرجاء الجزيرة أن يهاجروا إليها وظل الأمر كذلك حتى أوقفت الهجرة رسمياً بعد فتح مكة عام ثمان للهجرة. والهجرة حدث عظيم استحق أن يكون بداية العام الهجري الجديد عند المسلمين منذ أن وضع الخليفة عمر بن الخطاب التقويم الهجري. فالهجرة كانت دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة، فقد فارق المهاجرون وطنهم ومالهم وأهليهم ومعارفهم استجابة لنداء الله ورسوله. ولما ¬

_ (¬1) سورة البقرة الآية 138.

اعترضت قريش سبيل صهيب الرومي بحجة أنه جمع أمواله من عمله بمكة ولم يكن ذا مال قبل قدومه مكة، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه فبلغ ذلك رسول الله فقال: ربح صهيب (¬1). ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها (¬2). وهكذا فإن الهجرة اقترنت بظروف صعبة كانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين واختباراً لقوة عقيدتهم، واستعلاء إيمانهم على الأعراض والمصالح والعلائق الدنيوية. وقد دلت أحداث الهجرة على سلامة التربية المحمدية للصحابة رضوان الله عليهم، فقد صاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض وتحكيم شرع الله والقيام بأمره والجهاد في سبيله وهم يقبلون على بناء دولة المدنية المنورة بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس. وقد اختار الله تعالى المدينة لهجرة المسلمين لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين" رواه البخاري ومسلم (¬3). وتأخر الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأخر معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه حتى أذن الله تعالى له بالهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فلما أذن الله لرسوله بالخروج لم يُعْلمْ أحداً بذلك إلا علياً وأبا بكر وآله، وكان المشركون قد غاظتهم هجرة المسلمين فائتمروا لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الأنفال 30. ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك 3/ 398 وقال صحيح على شرط مسلم. (¬2) انظر الإصابة 8/ 222. (¬3) صحيح البخاري 7/ 186 وصحيح مسلم 7/ 57.

وقد خرج الاثنان إلى جبل ثور حيث أويا إلى غار فيه، وتعقبهم المشركون إلى المكان حتى بدت أقدامهم خارج الغار فقال الصديق رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، متفق عليه (¬1) لكن الله تعالى صرف المشركين عنهم فلم يفطنوا لهما، وخرج الإثنان بعد ثلاثة أيام في طريقهما إلى المدينة (¬2) يقطعان الصحراء ورسول الله قد بلغ الثالثة والخمسين وأبو بكر بلغ الحادية والخمسين، لكن القلوب الموصولة بالله تعالى لا يعيقها شيء عن بلوغ القصد وتحقيق أهداف الرسالة، ورسالة الإسلام جاءت تنظم أمور العبادات والمعاملات فهي دستور للحياة لابد لتطبيقه من أرض وأمة تقام فيها أحكام الله تعالى التي اكتمل تشريعها فيما نزل في المدينة المنورة من قرآن وما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمله أو أمر به من سنة ... وهي تعطي صورة لأمثل دولة - ضمت أمثل مجتمع - ظهرت في تاريخ البشر وهي النموذج الذي ينبغي على المسلمين في كل زمان ومكان أن يحتذوه ليكفلوا لأنفسهم سعادة الدارين ويبتعدوا عن الشقاء والحياة الضنك والضياع وسط ركام الجاهلية الذي يزحف عليهم من كل مكان ولا منجي لهم إلا بالعودة إلى الله تعال والاقتداء بهدي رسوله. وقد تأخرت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى هاجر معظم القادرين على الهجرة من أصحابه الذين استجابوا للأمر بالهجرة، واستمر الحث على الهجرة وبيان فضل المهاجرين بنزول الآيات القرآنية واستمر معها تدفق المسلمين الجدد من كل مكان، فقد كانت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين ليتوطد سلطان الإسلام فيها إذ يغالبه اليهود والمشركون والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب المشركين من حول المدينة، ويترصده كفار قريش الذين اقضّت الهجرة مضاجعهم فمضوا يخططون للإجهاز على كيان ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 7/ 217 وصحيح مسلم 7/ 109. (¬2) أحمد: المسند رقم 351 وانظر ابن كثير البداية والنهاية 3/ 187 - 188.

الإسلام الفتيِّ ودولته الناشئة، لذلك تتابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها حتى وعد الله تعالى المهاجرين بمنعهم وتمكينهم من مراغمة أعدائهم والتوسعة عليهم في أرزاقهم، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ...} (¬1). أي أن الذي يخرج بنية الهجرة فيموت في الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬2) فهنا أقسم الله تعالى أن يرزق المهاجرين في سبيله رزقاً حسناً سواء قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم في غير جهاد. وقد منع القرآن الكريم المسلمين القادرين على الهجرة من الإقامة مع المشركين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} النساء 97، 98، 99. وذلك لأن الإقامة مع المشركين فيها تكثير سوادهم وانتفاعهم بالمسلمين في صناعاتهم وزروعهم بل ربما اضطروهم للمشاركة معهم في حربهم ضد المسلمين كما وقع في غزوة بدر الكبرى، بالإضافة إلى تعرضهم للفتنة من قبل الكفار لصرفهم عن دينهم، ولا يخفى ما في بعدهم عن دولة الإسلام من منع استفادة المسلمين منهم في حربهم ومصالحهم وتكثير سوادهم، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" رواه أبو داود. ¬

_ (¬1) سورة النساء من الآية 100. (¬2) سورة الحج 58.

وقد تأخر بعض المسلمين بمكة عن الهجرة تحت ضغوط أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا من بعد ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين قد تفقهوا في الدين هموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم وكان ذلك سبباً في نزول الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ....} (¬1). ويتضح من ذلك كله أن الهجرة كانت فرضاً في أول الإسلام على من أسلم حتى إذا كانت غزوة الأحزاب سنة خمس للهجرة وتبينت قدرة الدولة الإسلامية على الدفاع عن نفسها وحماية كيانها أمام قوى الأحزاب مجتمعين لم تعد بحاجة إلى مهاجرين جدد، فقد تغيرت خطة الدولة الإسلامية من الدفاع إلى الهجوم وعبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا". وكذلك ضاقت المدينة بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت والمسكن، فطلب الرسول الكريم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلا: "هجرتكم في رحالكم" إذ لم تعد ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة بل صار بقاؤهم في قبائلهم أجدى لقيامهم بالدعوة إلى الإسلام خارج المدينة وتوسيع انتشار الإسلام. ولكن ذلك لا يعتبر وقفاً رسمياً للهجرة، بل إن إعلان وقف الهجرة كان بعد فتح مكة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" (¬2). وبهذا سقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو أنزل به عدوّ، لكن الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر ولم يأمن الفتنة على دينه مع قدرته على الخروج منها. لقد أدت الهجرة المستمرة إلى تنوع سكان المدينة المنورة فلم يعودوا يقتصرون على الأوس والخزرج ويهود بل نزل معهم المهاجرون من قريش وقبائل العرب ¬

_ (¬1) سورة التغابن من الآية 14 والحديث أخرجه الترمذي سنن 4/ 202. وقال هذا حديث حسن صحيح، والحاكم: المستدرك 2/ 490. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الحافظ الذهبي. (¬2) صحيح البخاري 3/ 200 وصحيح مسلم 3/ 1487.

الأخرى (¬1). والمجتمع المدني الجديد أرسيت قواعده وشيد بنيانه على أساس روابط العقيدة التي استعلت على ارتباطات القبيلة وعصبيتها وسائر الروابط الأخرى، وبرزت فكرة الأمة الواحدة كما سيتضح عند دراسة دستور المدينة المنورة. وتقسيمات السكان صار أساسها عقدياً وصاروا يقسمون إلى ثلاث مجموعات هي: المؤمنون والمنافقون واليهود. ولا شك أن تدفق المهاجرين إلى المدينة ولَّد مشاكل اقتصادية واجتماعية كان لابد من مواجهتها بقرار حاسم، فكان أن شُرِّع نظام المؤاخاة. ¬

_ (¬1) ليس لدينا إحصاء دقيق لعدد المهاجرين ولكن ابن هشام (السيرة 2/ 115 - 114، 342 - 346 وابن سعد في الطبقات 2/ 12 سميا عدداً منهم، وكان من اشترك منهم في بدر ثلاثة وثمانين رجلاً، وربما كان عدد المهاجرين حتى بدر لا يتجاوز - مع عوائلهم - أربعمائة نفر.

نظام المؤاخاة في عهد النبوة

نظام المؤاخاة في عهد النبوة اعتبر الإسلام المؤمنين كلهم أخوة فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وأوجب عليهم الموالاة لبعضهم والتناصر في الحق بينهم، لكن موضوع هذا البحث هو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة. ويشير البلاذري إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة. فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد ابن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب (¬1). ويعتبر البلاذري (ت 276 هـ) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت 463 هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه (¬2)، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما (¬3). وقد أخرج الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان". وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود) (¬4). ¬

_ (¬1) البلاذري أنساب الأشراف 1/ 270. (¬2) الدرر في اختصار المغازي والسير 100. (¬3) عيون الأثر 1/ 199. (¬4) ابن حجر: فتح الباري 7/ 271.

ومال كل من ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، فقال ابن القيم: "وقد قيل إنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه، والثبت الأول (¬1) والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار" (¬2) أما ابن كثير فقد ذكر أن من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة لنفس العلة التي ذكرها ابن القيم (¬3). ومما يرجح ما ذهب إليه ابن القيم وابن كثير أن كتب السيرة الأولى المختصة لم تشر إلى وقوع المؤاخاة بمكة، كما أن البلاذري وهو المصدر الوحيد القديم الذي أشار إليها ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية، كما أن البلاذري نفسه ضعفه النقاد. وعلى فرض صحة وقوع هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بني المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث. المؤاخاة في المدينة: وقد واجه المهاجرون من مكة إلى المدينة مشاكل متنوعة، اقتصادية واجتماعية وصحية، فمن المعروف أن المهاجرين تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة، كما أن مهارتهم كانت في التجارة التي تمرست بها قريش، ولم تكن في الزراعة والصناعة وهما يشكلان أساسين مهمين في اقتصاديات المدينة، وبما أن ¬

_ (¬1) يعني المؤاخاة في المدينة. (¬2) زاد المعاد 2/ 79 وقد سبقه شيخه ابن تيمية فنفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحد منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري (ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 4/ 96 - 97) وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيداً مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين (الفتح 7/ 271). (¬3) السيرة النبوية لابن كثر 2/ 324.

التجارة تحتاج إلى رأس المال فإن المهاجرين لم يتمكنوا من شق طريقهم في المجتمع الجديد بسهولة، وكانت مشكلة معيشتهم وسكناهم تواجه الدولة الناشئة، كما أن علائق المهاجرين بالمجتمع الجديد كانت حديثة، فقد ترك المهاجرون أهليهم ومعارفهم بمكة وأنبتت صلتهم بهم مما ولد إحساساً بالوحشة والحنين إلى بلدتهم "مكة". إضافة إلى اختلاف مناخ مكة عن المدينة وإصابة المهاجرين بالحمى وهكذا كان وضع المهاجرين بحاجة إلى علاج سريع وحل مؤقت واستثنائي، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون بل أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله العزيز {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. وقد بلغ كرم الأنصار حداً عالياً عندما اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين لأن النخل مصدر معيشة الكثيرين منهم، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من الأنصار أن يقوموا بإدارة بساتين النخيل ويحتفظوا بها لأنفسهم على أن يشركوا المهاجرين في التمر (¬1). ولا نعرف إذا كانت الشركة في التمر محددة بنظام كالمناصفة أو المقصود قيام الأنصار بإعالة المهاجرين في تلك المرحلة، ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يشغل المهاجرين بالزراعة فهو يحتاجهم لمهام الدعوة والجهاد. كما أن المهاجرين (لا يعرفون العمل) كما عبر الرسول صلى الله عليه وسلم مما يؤدي إلى خفض الإنتاج الزراعي (¬2) الذي تحتاجه المدينة. كما وهبت الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل فضل في خططها، وقالوا له: إن شئت فخذ منا منازلنا. فقال لهم خيراً، وابتنى لأصحابه في أراض وهبتها لهم الأنصار وأراض ليست ملكاً لأحد (¬3). وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة في نفوس المهاجرين فلهجت ألسنتهم بكرم الأنصار .. عن أنس قال قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح 5/ 39. (¬2) المصدر السابق 2/ 329. (¬3) البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270.

عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً من كثيراً، لقد كفونا المئونة واشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: "لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" (¬1). تشريع نظام المؤاخاة: ورغم بذل الأنصار وكرمهم فإن الحاجة إلى إيجاد نظام يكفل للمهاجرين المعيشة الكريمة ظلت قائمة خاصة أن أنفة "المهاجرين" ومكانتهم تقتضي معالجة أحوالهم بتشريع يبعد عنهم أي شعور بأنهم عالة على "الأنصار" فكان أن شرع نظام المؤاخاة، ولا تختلف الروايات في تاريخ تشريعه إلا اختلافاً يسيراً، فهي تجمع على أن المؤاخاة وقعت في السنة الأولى الهجرية، وتختلف إن كان ذلك بعد بناء المسجد في المدينة أو خلال بنائه (¬2). ويحدد ابن عبد البر تاريخ تشريعه بعد الهجرة بخمسة أشهر (¬3). أما ابن سعد فقد ذكر أن المؤاخاة بعد الهجرة وقبل غزوة بدر الكبرى (¬4) دون تحديد دقيق لتاريخ تشريعها. وكان إعلان هذا التشريع في دار أنس بن مالك كما صرحت الروايات (¬5)، ووقعت المؤاخاة بين طرفين هما المهاجرون والأنصار، فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين مهاجري وأنصاري اثنين اثنين. ¬

_ (¬1) الترمذي: سنن 4/ 653 حديث رقم 2487 وقال: صحيح حسن غريب. وأحمد: المسند 3/ 204،200. ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200 وابن كثير: السيرة النبوية 2/ 328. (¬2) ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير 96 وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200. (¬3) ابن عبد البر: الدرر 96. (¬4) ابن سعد الطبقات ج 1 قسم 2/ 9. (¬5) ابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/ 9. وابن القيم: زاد المعاد 2/ 79، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200 وابن كثير السيرة النبوية 2/ 324.

وقد شملت المؤاخاة تسعين رجلاً خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال إنه لم يبق من المهاجرين أحد إلا آخي بينه وبين أنصاري (¬1). وتتفق المصادر على أن المؤاخاة التي جرت في المدينة كانت بين المهاجرين والأنصار، ولكن ابن سعد يذكر أن ثمة مؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم وقعت في المدينة إلى جانب المؤاخاة بينهم وبين الأنصار، ولم يذكر أية تفصيلات أخرى توضح هدف المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وما يترتب عليها، ولم تكترث بقية المصادر لهذه الإشارة أو تعقب عليها (¬2). وقد ترتب على تشريع نظام المؤاخاة حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة بين الاثنين، والمواساة ليست محددة بأمور معينة بل مطلقة لتعني كل أوجه العون على مواجهة أعباء الحياة سواء كان عوناً مادياً أو رعاية ونصيحة وتزاوراً ومحبة، كما ترتب على المؤاخاة أن يتوارث المتآخين دون ذوي أرحامهم، مما يرقي بالعلاقات بين المتآخين إلى مستوى أعمق وأعلى من أخوة الدم (¬3). وقد طابت نفوس الأنصار بما سيبذلونه لإخوانهم المهاجرين من عون وتصور بعض الروايات عمق التزامهم بنظام المؤاخاة وتفانيهم في تنفيذه، ومن النماذج الفريدة لهذه المؤاخاة ما حدث بين سعد بن الربيع "الأنصاري" وعبد الرحمن بن عوف "المهاجر"، حيث قال له سعد: إن لي مالا فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك فأنا أطلقها فإذا حلت فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك. دلوني على السوق. فلم يرجع حتى رجع ¬

_ (¬1) البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270، وابن سعد: الطبقات ج1 قسم 2/ 9. (¬2) ابن سعد: الطبقات ج1 قسم 2/ 9. (¬3) البخاري: الصحيح 3/ 119 و 6/ 55 - 56 و 8/ 190 - 191. ومسلم: الصحيح 4/ 1960، وابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/ 9. والبلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270. وابن عبد البر: الدرر 96. وابن القيم: زاد المعاد 2/ 79. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200.

بسمن وأقط قد أفضله. قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ أثر صفرة فقال: مهيم؟ فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: أولم ولو بشاة (¬1). ولا شك أن المرء يقف مبهوراً أمام هذه الصور الرائعة من الأخوة المتينة والإيثار المتبادل الذي لا نشهد له مثيلا من تواريخ الأمم الأخرى. وليس موقف ابن عوف في أنفته وكرم خلقه وعدم استغلاله لأخيه بأقل روعة من إيثار ابن الربيع. فقد تمكن - وهو التاجر الماهر - من شق طريقه في الحياة الجديدة وبعد مدة يسيرة تمكن من الزواج ودفع المهر نواة من ذهب (¬2). ثم بورك له في عمله ونمت ثروته ليصبح من كبار أغنياء المسلمين، فقد أبى إلا أن يكون صاحب اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ. إلغاء التوارث بين المتآخين: لا شك أن التوارث بين المتآخين كان لمعالجة ظروف استثنائية مرت بها الدولة الناشئة. فلما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها، وأصابوا من غنائم بدر الكبرى ما كفاهم، رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين (¬3)، وذلك بنص القرآن الكريم فقال تعالى: {... وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ..} (¬4). ¬

_ (¬1) النسائي: سنن 6/ 137. (¬2) البخاري: الصحيح 5/ 39. (¬3) ابن سعد: الطبقات ج 1قسم 2/ 9. والبلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270،271. وابن القيم: زاد المعاد 2/ 79. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 200. (¬4) سورة الأنفال من الآية 75. وانظر تفسيرها في الشوكاني: فتح القدير 2/ 330 - 331 وعن سبب نزول هذه الآية انظر مسند الطيالسي 2/ 19 والهيثمي: مجمع الزوائد 7/ 28 وقال: رجاله رجال الصحيح.

فهذه الآية نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة، ويرى ابن عباس أن آية {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ ... وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} نسخت التوارث بالمؤاخاة، فالموالي في رأيه هم الورثة بالرحم {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} هم المهاجرون الذين كانوا يرثون بالمؤاخاة. وذكر ابن عباس أن ما ألغي من نظام المؤاخاة هو الإرث أما "النصر والرفادة والنصيحة" فباقية، ويمكن أن يوصي ببعض الميراث بين المتآخين (¬1)، ودون وصية لا يرث. وإلى هذا المعنى ذهب الإمام النووي فقال:"أما ما يتعلق بالإرث فيستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء، وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق فباق لم ينسخ" (¬2). وينفرد ابن سعد بنقل رواية بإسناده إلى عروة بن الزبير تذكر أن إلغاء التوارث بين المتآخين ونزول آية {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} كان بعد غزوة أحد (¬3) التي وقعت في شوال سنة 3 هـ. ومن الغريب أن ابن حجر (¬4) ذكر المؤاخاة بين الحتات التميمي ومعاوية بن أبي سفيان وأن الحتات مات في خلافة معاوية فورثه بالأخوة مكتفيا في التعليق على الخبر بإبداء تعجبه لأن للحتات بنون يرثونه (¬5) دون أن يشير إلى إبطال التوارث بالمؤاخاة أصلاً منذ السنة الثانية الهجرية ولا يصح مثل هذا الخبر إلا أن يكون الحتات قد أوصى لمعاوية بشيء من ميراثه لا كله. ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح 3/ 119 و 6/ 55 - 56 و 8/ 190 - 191. (¬2) صحيح مسلم 4/ 1960 الحاشية. (¬3) السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول ص 260 نقلاً عن ابن سعد، والشوكاني فتح القدير 2/ 330 - 331 وقال: "أخرجه ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه". (¬4) نقل ابن حجر ذلك عن ابن عبد البر الذي اعتمد بدوره على ابن إسحق وابن هشام وابن الكلبي. (¬5) ابن حجر: الإصابة قسم 2 ص30.

استمرار المؤاخاة دون توارث: ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم استمر يؤاخي بين أصحابه مؤاخاة مواساة وتعاون وتناصح دون أن يترتب على ذلك حق التوارث بين المتآخين. وهكذا وردت أخبار تفيد أنه آخي بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي (¬1) مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق مما يجعل الواقدي والبلاذري ينكران ذلك (¬2). وكذلك أنكر ابن كثير مؤاخاة جعفر بن أبي طالب لمعاذ بن جبل لأن جعفراً قدم في فتح خيبر أول سنة 7 هـ (¬3). ومثل ذلك مؤاخاة الحتات مع معاوية بن أبي سفيان (¬4) لأن معاوية أسلم بعد فتح مكة سنة 8 هـ. وكذلك فإن الحتات قدم المدينة في وفد تميم في العام التاسع للهجرة (¬5). وإذا اعتبرنا المؤاخاة مستمرة إلا ما يتعلق بحق التوارث الذي أبطل بعد بدر، فلا موجب لهذا الاعتراض والإنكار الذي أبداه المؤرخون تجاه هذه الروايات. وكذلك إذا قبلنا وقوع مؤاخاة دون إرث قبل وبعد تشريع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فإن ذلك سوف يفسر الالتباس الذي وقع فيه ابن إسحاق عندما أورد في قائمة المتآخين خبر مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ومؤاخاة حمزة لزيد بن حارثة وكلهم مهاجرون في حين أن سائر الأسماء الأخرى التي وردت في قائمته توضح أن المؤاخاة كانت بين مهاجري وأنصاري (¬6). وقد عقب ابن كثير على مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ومؤاخاة حمزة لزيد بأنه لا معنى لهذه المؤاخاة إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مصلحة علي إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه الرسول من صغره. وإلا أن يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار. ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح 5/ 88 و 3/ 47. (¬2) البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 271. (¬3) ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 326. (¬4) ابن حجر: الإصابة قسم 2 ص 30. (¬5) سيرة ابن هشام 4/ 222. (¬6) المصدر نفسه 1/ 504، 507.

ولكن هذا التعليل الذي قدمه ابن كثير غير مقبول لأن المصادر ذكرت مؤاخاة حمزة بن عبد المطلب لكلثوم بن الهدم أو غيره، كما ذكرت مؤاخاة زيد ابن حارثة لأسيد بن حضير (¬1). كما أن المؤاخاة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي تقتضي التوارث، والنبي لا يورث كما جاء في الحديث، كما أن البلاذري ذكر مؤاخاة علي لسهل بن حنيف (¬2)، وكذلك فإن البلاذري ذكر وقوع مؤاخاة بين النبي وعلى وحمزة وزيد بمكة (¬3). ونخلص من ذلك إلى أن هذه المؤاخاة بين النبي وعلي وبين حمزة وزيد إذا كانت قد وقعت - فإنها مؤاخاة تقتضي المؤازرة والرفقة دون حقوق التوارث وأنها جرت في غير الوقت الذي أعلن فيه نظام المؤاخاة في دار أنس بن مالك. وأخيراً فإن المؤاخاة التي شرعت بين المؤمنين باقية لم تنسخ سوى ما يترتب عليها من توارث فإنه منسوخ، وبوسع المؤمنين في كل عصر أن يتآخوا بينهم على المواساة، والارتفاق والنصيحة ويترتب على مؤاخاتهم حقوق أخص من المؤاخاة العامة بين المؤمنين. إن استجابة المسلمين لأوامر الله تعالى تظهر في انخلاعهم عن علاقاتهم الاجتماعية والمكانية إذا اقتضت ذلك مصلحة العقيدة. ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة 1/ 504 - 507. (¬2) البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 270. (¬3) المصدر السابق 1/ 270. وقد ورد خبر مؤاخاة حمزة لزيد في مسند أحمد 1/ 230.

آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس

آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس ولا شك أن الروابط التي تجمع بين الناس مختلفة، وهم يجتمعون بشكل قبائل وشعوب وأوطان وقوميات، وقد يجتمع أبناء القوميات المختلفة تحت لواء واحد بسبب الدين أو المصالح المشتركة. وتعتبر آصرة القربى أو الدم والانتماء إلى أصل عرقي من أقدم الروابط التي كونت المجتمعات البشرية. ويوم أن ظهر الإسلام كانت تجمعات الناس تظهر بشكل قبائل كما في جزيرة العرب وأماكن أخرى، وقوميات كما في بلاد فارس، ومجتمعات دينية كما في الإمبراطورية البيزنطية. وقد جعل الإسلام رابطة العقيدة هي الأساس الأول في ارتباط الناس وتآلفهم وأن أقرَّ بعض الأواصر الأخرى إذا انضوت تحت هذه الأصل مثل الأرحام التي حث الإسلام على وصلها. ورتب على ذلك الأحكام المتعلقة بالتكافل الاجتماعي والإرث ومثل صلة الجوار وما يترتب عليها من حقوق الجار ومثل الصلة بين أفراد العشيرة وما يترتب عليها من تضامن في الديات ومثل الصلة بين أبناء المدينة وجعلهم أولى من سواهم بزكاة أغنيائهم .. لكن هذه الصلات ينبغي أن تنضوي تحت آصرة العقيدة فإذا خالفتها وأضرت بها لم يبق لها أي اعتبار، فأساس الارتباط في الإسلام هو العقيدة التي قد تقتضي مصلحتها التفريق بين المرء وأبيه أو ابنه أو زوجته أو عشيرته .. وهكذا قاتل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه - وهو يمجد الأصنام - فقتله عندما التقى به في معركة بدر الكبرى. ورأى أبو حذيفة رضي الله عنه أباه المشرك وهو يسحب ليرمي في القليب ببدر دون أن ينكر قلبه ذلك (¬1). قال ابن إسحاق (¬2): وحدثني ابن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأساري فرقهم بين أصحابه وقال: استوصوا بهم خيراً. وكان أبو عزيز بن عمير بن هشام أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسرى. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 75 (¬2) انظر ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 306 - 307.

قال أبو عزيز: مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: أشدد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك ... قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعض النضر ابن الحارث ولما قال أخوه مصعب لأبي اليسر - وهو الذي أسره ما قال. قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب إنه أخي دونك. روى الترمذي (¬1) بإسناد قال عنه حسن صحيح وهو: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزاة - قال سفيان يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار .. وفيه فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فقال: أو قد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وقال غير عمرو: فقال له ابنة عبد الله بن عبد الله: "والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل". وقد كان عبد الله بن عبد الله بن أبي باراً بأبيه هياباً له (¬2) لكن مصلحة العقيدة هي المعتبرة عنده أولا فلما رأى أباه يؤذي المسلمين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله ويأتيه برأسه (¬3). وقد أوضح القرآن الكريم ذلك فيما قصه عن نوح عليه السلام وابنه {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ. قَالَ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) الترمذي: سنن 5/ 90 كتاب التفسير. (¬2) مسند الحميدي 2/ 520. (¬3) الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 318. (¬4) سورة هود آية 45، 46.

وهكذا بَيَّن الحق سبحانه أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نوحًا نبي الله. وصرح القرآن الكريم بعلة انقطاع الآصرة بين نوح وابنه بقوله: (إنه عمل غير صالح). فإذا كانت القرابة من الدرجة الأولى تنبتُّ عندما تصطدم بالعقيدة فالأحرى أن تنبتّ صلات الدم والعرق والوطن واللون إذا اصطدمت بمصلحة العقيدة. وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1) وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذنوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2). وقد وضع القرآن الكريم مصالح المسلم وعلاقاته الدنيوية كلها في كفة ووضع حب الله ورسوله والجهاد في سبيل العقيدة في كفة أخرى، وحذر المؤمنين وتوعدهم إن هم غلّبوا مصالحهم وعلاقاتهم الاجتماعية على مصلحة العقيدة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬3). وقد نزلت هذه الآيات من سورة التوبة في الحض على الهجرة إلى المدينة المنورة للدفاع عن الدولة الإسلامية التي نشأت فيها .. وقد نجح الصحابة الكرام في امتحان العقيدة .. ففارقوا الأهل والأموال والمساكن التي يحبونها وهاجروا إلى الله ورسوله والجهاد في سبيله. ¬

_ (¬1) سورة الحجرات 10. (¬2) سورة التوبة 23. (¬3) سورة التوبة 24.

وخلاصة القول أن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقيدياً يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله والمؤمنين. وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. وهذا المجتمع مفتوح لمن أراد أن ينتمي إليه مهما كان لونه أو جنسه على أن ينخلع من صفاته الجاهلية ويكتسب الشخصية الإسلامية ليتمتع بسائر حقوق المسلمين.

الحب أساس بنية المجتمع المدني

الحب أساس بنية المجتمع المدني وقد أقام الإسلام المجتمع المدني على أساس الحب والتكافل، كما في الحديث الشريف "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". فالتواد والرحمة والتواصل أساس العلاقة بين أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم حاكمهم ومحكومهم. وقد تكفلت تعاليم الإسلام بتدعيم الحب وإشاعته في المجتمع، ففي الحديث النبوي "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فيعيش المؤمنون بعيداً عن الأثرة والاستغلال وهم يتعاونون في مواجهة أعباء الحياة فمن (كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي والإمام أحمد (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داود. وعلاقات المؤمنين قائمة على الاحترام المتبادل فلا يستعلي غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولا قوي على ضعيف "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم "رواه الإمام مسلم". وقد تفتر العلاقة بين المسلم وأخيه أو تنقطع ساعة غضب لكن انقطاعها لا يستمر فوق ثلاث ليال "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" كما في الصحيحين. وتدعم أسس الحب بالصلة والصدقة (تهادوا تحابوا) ويضع الغني أمواله في خدمة المجتمع وسد الثغرات التي تظهر في بنائه الاقتصادي بسبب التفاوت في توزيع الثروة فيخرج زكاة أمواله فريضة من الله ويواسي المحتاجين بأمواله حتى إنهم ليفرحوا إذا كثرت ثروته إذ تعود عليهم بالخير والمواساة.

أخرج الإمام البخاري (6/ 31 كتاب التفسير) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان أبو طلحة أكثر النصارى بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (¬1) قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أمولي إليّ (بيرحاء)، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مال رايح (¬2)، ذلك مال رايح، وقد سمعت ما وقلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه". وكان أغنياء الصحابة يعرفون أنهم مستخلفون على المال الذي اكتسبوه، فإذا وجدوا ثغرة تعجز الدولة عن سدها أو لا تنتبه لها بذلوا أموالهم في سدها .. وقد ثبت في التاريخ أن عثمان رضي الله عنه تصدق بقافلة ضخمة-ألف بعير تحمل البر والزيت والزبيب- على فقراء المسلمين عندما حلت الضائقة الاقتصادية بالمدينة المنورة في خلافة الصدَيق رضي الله عنه وقد عرض عليه التجار خمسة أضعاف ثمنها ربحاً فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: من الذي أعطاك وما سبقنا إليك أحد، ونحن تجار المدينة؟ قال: إن الله أعطاني عشرة أمثالها ثم قسمها بين الفقراء المسلمين. ومثل هذا كثير في سير المسلمين من سلفنا الصالح لذلك لم تظهر الروح الطبقية ولم يحدث الصراع الطبقي .. ولم يتكتل الناس وفق مصالحهم الاقتصادية لحرب من فوقهم أو تحتهم .. إن المجتمع الإسلامي لم يشهد صراع الطبقات ولا يعرف استعلاء غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولم يعترف ابتداء باختلاف البشر تبعاً لألوانهم وأعراقهم أو دمائهم، فالمسلمون سواسية كأسنان ¬

_ (¬1) آل عمران آية 92. (¬2) أي أن أجرها يروح ويغدو عليه (فتح الباري 3/ 326).

المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى .. والمجتمع الإسلامي مفتوح أمام الجميع ففرص الارتقاء والكسب متكافئة أمام أفراده والعلاقات الاجتماعية متكافئة أيضاً فلم يحدث أن مُنع فقير من الزواج بغنية أو حُجب ضعيف عن الترقي إلى أرفع مناصب الدولة وأعلى مراكز القيادة والتوجيه في المجتمع، فليست هناك طبقة يصطدم رقي الفرد بسقوفها ولو قدر للمجتمع الإسلامي أن يستمر في تقدمه العلمي والحضاري ويمسك بزمام البشرية اليوم لظهرت مزايا الإسلام في بناء مجتمع متراص على أساس الحب والتكافل وليس الحقد والصراع الذي ليس وراءه إلا الدمار. وإذا كان هذا هو موقف أغنياء المسلمين في المجتمع المدني فما هو موقف ضعفائهم وفقرائهم؟.

الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد

الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد لقد وقف الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد: فالعقيدة الإسلامية منعت ظهور الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي وآخت بين الأغنياء والفقراء ووحدت الصف الداخلي لمواجهة متطلبات الجهاد وهذه صورة من المجتمع المدني توضح كيف عاشت مجموعة من أفقر المسلمين في عصر السيرة. قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬1). ذكر ابن سعد في طبقاته (¬2) بإسناده إلى محمد بن كعب القرظي أن هذه الآية نزلت في أهل الصفة ذكر الطبري (¬3) في تفسيره بأسانيد عن مجاهد والسدي أنها نزلت في فقراء المهاجرين. وفيما يلي أعراض لصورة من حياة الفقراء في المجتمع الإسلامي الأول وهم أهل الصفة. ¬

_ (¬1) البقرة آية 273. (¬2) الطبقات الكبرى 1/ 255. (¬3) تفسير الطبري 5/ 291 (ط محمود محمد شاكر).

أهل الصفة فقراء المهاجرين

أهل الصفة فقراء المهاجرين: أعقب هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة ظهور مشكلة تتعلق بمعيشة المهاجرين الذين تركوا بيوتهم وأموالهم ومتاعهم بمكة فراراً بدينهم من طغيان المشركين. ولا شك ان بعض المهاجرين لم يستطيعوا العمل حال قدومهم إلى المدينة لأن الطابع الزراعي يغلب على اقتصاد المدينة وليست للمهاجرين خبرة زراعية فمجتمع مكة تجاري، كما أنهم لا يملكون أرضاً زراعية في المدينة وليست لديهم رءوس أموال فقد تركوا أموالهم بمكة. وقد وضع الأنصار إمكانياتهم في خدمة المهاجرين لكن بعض المهاجرين بقى محتاجاً إلى المأوى. واستمر تدفق المهاجرين إلى المدينة خاصة قبل موقعة الخندق حيث كان الكثير منهم يستقرون في المدينة كما طرقت الوفود الكثيرة المدينة، ومنهم من لم يكن على معرفة بأحد من أهل المدينة فكان هؤلاء الغرباء بحاجة إلى مأوى دائم أو مدة إقامتهم. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم فكر في إيجاد المأوى للفقراء المقيمين والوفود الطارقين. الصفة: وحانت الفرصة عندما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (¬1) حيث بقى حائط القبلة ¬

_ (¬1) خليفة: التاريخ حـ1 ص23 وينقل روايات أخرى تذكر أن ذلك كان بعد تسعة أشهر أو عشرة أو سبعة عشر شهراً أو سنتين. وفي صحيح البخاري كتاب الصلاة - باب التوجه نحو القبلة 1/ 104 أنه كان بعد ستة عشر او سبعة عشر شهراً.

الأولى في مؤخر المسجد النبوي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة (¬1) ولم يكن لها ما يستر جوانبها (¬2). ويذكر ابن جبير في رحلته ان الصفة دار في آخر قباء يسكنها أهل الصفة، وتأول السمهودي ذلك بأن من ذكر من أهل الصفة اتخذوا تلك الدار فيما بعد فاشتهرت بذلك، أي أن المكان الذي ذكره ابن جبير نسب إلى أهل الصفة ولم ينسبوا هم إليه، لأن نسبتهم كانت إلى صفة المسجد النبوي بالمدينة. ولا يعرف سعة الصفة، ولكن يبدوا أنها كانت تتسع لعدد كبير حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدمها في وليمة حضرها ثلاثمائة شخص، وإن كان بعضهم قد جلس في حجرة من حجرات ازواج النبي صلى الله عليه وسلم الملاصقة للمسجد (¬3). سكان الصفة: أول من نزل الصفة المهاجرون (¬4)، لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين (¬5). وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها وطاعتها (¬6) وكان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له ¬

_ (¬1) السمهودي: وفاء الوفا 1/ 321. ياقوت: معجم البلدان (ظلة) ابن منظور لسان العرب مادة (صفف). ويلاحظ أن كلمة (صفة) لم يقتصر استعمالها على صفة المسجد بل أطلقت على المكان المسقوف منذ الفترة المبكرة فهناك صفة النساء في المسجد النبوي بالمدينة (النسائي: سنن 8/ 77 أبو داود: سنن 2/ 448) وهناك صفة زمزم بمكة (البخاري: الصحيح: 2/ 44 النسائي: سنن: 3/ 135) كما أطلقت الصفة على المكان المظلل في بيوت الناس أيضاً (البخاري: الصحيح 1/ 215). (¬2) ريكندورف: دائرة المعارف الإسلامية ص 105. (¬3) مسلم: الصحيح - كتاب النكاح- حديث رقم (94). (¬4) السمهودي: وفاء الوفا 1/ 323. (¬5) أبو داود: السنن كتاب الحروف 2/ 361. (¬6) البخاري: الصحيح -كتاب الصلاة- باب نوم الرجال في المساجد. وابن ماجة: السنن -كتاب الصيد- باب الضب.

عريف نزل عليه. وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة (¬1). فكان أبو هريرة (رض) عريف من سكن الصفة من القاطنين ومن نزلها من الطارقين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة (¬2). وإلى جانب المهاجرين والغرباء نزل بعض الأنصار في الصفة حباً لحياة الزهد والفقر رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة، ومنهم كعب بن مالك الأنصاري (¬3) وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة) وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم. ولأن أهل الصفة كانوا أخلاطاً من قبائل شتى سماهم النبي صلى الله عليه وسلم (الأوفاض) وقيل في سبب هذه التسمية أيضاً إن كل واحد منهم كان معه وفضة: وهي مثل الكنانة الصغيرة يلقى فيها طعامه لكن القول الأول أجود (¬4). عددهم وأسماؤهم: كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقلون إذا قل الطارقون من الغرباء، على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً (¬5). وقد يزيد عددهم كثيراً حتى ¬

_ (¬1) أحمد: المسند 3/ 487 وأبو نعيم: الحلية 1/ 339/374 والسمهودي: وفاء الوفا 1/ 323 والعريف: النقيب أو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة (لسان العرب مادة "عرف"). (¬2) أبو نعيم: الحلية 1/ 376. (¬3) ابن أبي حاتم جـ3 ق2 ص 160. وانظر سامي مكي العاني: ديوان كعب بن مالك الأنصاري ص 77 حيث ينفي صحة نسبته إليهم لأنه أنصاري وأهل الصفة مهاجرون فقراء. ولكن لعله أحب حياة الفقر والزهد فخالطهم وساكنهم مع وجود دار له في المدينة، وقد أورد أبو نعيم في الحلية (1/ 355/ 356) أسماء بعض الأنصار من أهل الصفة. (¬4) أحمد: المسند 6/ 391. وأبو نعيم: الحلية 1/ 339. وابن منظور: اللسان مادة (وفض). (¬5) أبو نعيم: الحلية 1/ 339، 341.

أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة (¬1). ويذكر السمهودي أن أبا نعيم سرد أسماءهم في الحلية فزادوا على المائة (¬2).لكن عدد من سماهم أبو نعيم اثنان وخمسون فقط منهم خمسة نفى أبو نعيم أن يكونوا من أهل الصفة. وأبو نعيم وحده الذي يقدم إلينا قائمة طويلة بأسماء المشهورين من أهل الصفة، وهو ينقل من مصدر أسبق لا يصرح باسمه، ولعله الكتاب الذي صنفه أبو عبد الرحمن السلمي (ت 412 هـ) في أهل الصفة (¬3). وفيما يلي قائمة بأسماء أهل الصفة كما ذكرها أبو نعيم (¬4) مضافاً إليهم من ذكرتهم بقية المصادر ممن لم يذكر أبو نعيم: 1 - أبو هريرة (رض) حيث نسب نفسه إليهم (¬5). 2 - أبو ذر الغفاري (رض) حيث نسب نفسه إليهم (¬6). 3 - واثلة بن الأسقع (¬7). 4 - قيس بن طهفة الغفاري، حيث نسب نفسه إليهم (¬8). 5 - كعب بن مالك الأنصاري (¬9). ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 341. (¬2) السمهودي: وفاء الوفا 1/ 321. (¬3) حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 286 وابن حجر: الاصابة قسم 1/ 601 وسماء أصحاب الصفة وقسم 6/ 550. (¬4) أبو نعيم: الحلية 1/ 348 فيما بعد. (¬5) البخاري: الصحيح -كتاب البيوع- باب (1) وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 256. وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 317 وابن حجر: الاصابة ترجمة رقم 5505. (¬6) ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 317 وابن سعد الطبقات 1/ 256. (¬7) ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 317. (¬8) ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 256. وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 317، وابن حجر: الاصابة ترجمة رقم 4300. (¬9) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل جـ3 ق2 ص160.

6 - سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي. 7 - سلمان الفارسي (رض). 8 - أسماء بنت حارثة بن سعيد الأسلمي. 9 - حنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة). 10 - حازم بن حرملة. 11 - حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري. 12 - حذيفة بن أسيد أبو سريحة الأنصاري. 13 - حذيفة بن اليمان (رض) وهو من المهاجرين حالف الأنصار فعد في جملتهم. 14 - جارية بن جميل بن شبة بن قرط. 15 - جعيل بن سراقة الضمري. 16 - جرهد بن خويلد (وقيل بن رزاح) الأسلمي (¬1). 17 - رفاعة بن لبابة الأنصاري، وقيل اسمه بشير بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف. 18 - عبدالله ذو البجادين. 19 - دكين بن سعيد المزني وقيل الخثعمي (¬2) 20 - خبيب بن يساف بن عنبة. 21 - خريم بن أوس الطائي. 22 - خريم بن فاتك الأسدي. 23 - خنيس بن حذافة السهمي. ¬

_ (¬1) أبو داود السنن- كتاب الحمام- باب النهي عن التعري 2/ 363. وأحمد: المسند 3/ 479. (¬2) وقال أبو نعيم: الحلية 1/ 365 (لا أعلم لاستيطانه الصفة ونزولها أثراً صحيحاً) ولم يجزم بنفي نسبته إليهم.

24 - خباب بن الأرت. 25 - الحكم بن عمير الثمالي. 26 - حرملة بن أياس، وقيل هو حرملة بن عبد الله العنبري. 27 - زيد بن الخطاب. 28 - عبد الله بن مسعود. 29 - الطفاوي الدوسي. 30 - طلحة بن عمرو النضري. 31 - صفوان بين بيضاء الفهري. 32 - صهيب بن سنان الرومي. 33 - شداد بن أسيد. 34 - شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم. 35 - السائب بن خلاد. 36 - سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف. 37 - سالم بن عبيد الأشجعي (*). 38 - سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم. 39 - سالم مولى أبي حذيفة. 40 - أبو رزين. 41 - الأغر المزني. 42 - بلال بن رباح. 43 - البراء بن مالك الأنصاري. 44 - ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم. 45 - ثابت بن وديعة الأنصاري. 46 - ثقيف بن عمرو بن شميط الأسدي. ¬

_ (*) ذكره أيضا النسائي في أصحاب الصفة (فضائل الصحابة 5 حديث رقم 8).

47 - سعد بن مالك أبو سعيد الخدري (رض). 48 - العرباض بن سارية (¬1). 49 - غرفة الأزدي (¬2). 50 - عبدالرحمن بن قرط (¬3). 51 - عباد بن خالد الغفاري (¬4). وقد أورد أبو نعيم أسماء رجال ذكروا في أهل الصفة، ونفى نسبتهم إليها وهم (¬5). 1 - سعد بن أبي وقاص، وقد اعتمد من نسبه إليهم على قول سعد (رض) فينا نزلت {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه} والآية مكية - كما في تفسير ابن كثير- ولم تنزل في أهل الصفة. 2 - حبيب بن زيد بن عاصم الأنصاري النجاري. وهو من أهل (العقبة) فوقع تصحيف فصارت (الصفة). 3 - أبو أيوب الأنصاري: وهو من أهل (العقبة) فصحفت. 4 - حجاج بن عمرو المازني الأنصاري. 5 - ثابت بن الضحاك الأنصاري. انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد: ينقطع أهل الصفة للعلم ويعتكفون في المسجد للعبادة ويألفون الفقر والزهد، فكانوا في خلواتهم يصلون ويقرأون القرآن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت ¬

_ (¬1) السراج: حديثه، حديث رقم 75 وابن حجر: الاصابة ترجمة رقم 5505. (¬2) الاصابة: ترجمة رقم 6913. (¬3) الاصابة ترجمة رقم 5190. (¬4) الاصابة ترجمة رقم 4463. (¬5) انظر عنهم التعاقب الحلية 1/ 368، 355، 361، 357، 351.

(رض) لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة (¬1)، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي هريرة (رض) الذي عرف بكثرة تحديثه، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن. لكن انقطاع أهل الصفة للعلم والعبادة لم يعزلهم عن المشاركة في أحداث المجتمع والإسهام في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي وخبيب بن يساف وسالم بن عمير وحارثة بن النعمان الانصاري (¬2)، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل (¬3)، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري (¬4)، ومنهم من استشهد بخيبر مثل ثقف بن عمرو (¬5)، ومنهم من استشهد بتبوك مثل عبدالله ذو البجادين (¬6)، ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب (¬7)، نعم هكذا كانوا رهبانا في الليل فرسانا في النهار. ملابسهم: لم يكن لأهل الصفة من الملابس ما يقيهم من البرد أو يسترهم ستراً كاملاً، فليست عندهم أردية (¬8). وما لأحد منهم ثوب تام (¬9). فكانوا يربطون في أعناقهم الأكسية أو البرد (¬10)، أو يأتزرون بالأزر (¬11)، أو الكساء، فمنهم من ¬

_ (¬1) أبو داود: السنن 2/ 237 وابن ماجة: السنن 2/ 730. (¬2) انظر عنهم على التعاقب الحلية 1/ 373، 363، 364، 371، 356. (¬3) المصدر السابق 1/ 375. (¬4) المصدر السابق 1/ 353، 355. (¬5) المصدر السابق 1/ 352. (¬6) المصدر السابق 1/ 365. (¬7) المصدر السابق 1/ 367،370. (¬8) ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 255، وأبو نعيم: الحلية 1/ 377، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 317. (¬9) الحلية 1/ 341. (¬10) الحلية 1/ 377. (¬11) البخاري: الصحيح 1/ 114، وابن سعد: الطبقات 1/ 255.

تغطي منهم ما يبلغ نصف الساقين وأحياناً قد لا يبلغ الركبتين، وتذكر المصادر انهم كانوا يلبسون الحِوْتكية (¬1) وهي عمَّة يُتعمم بها (¬2). والحنف وهي برد شبه اليمانية تعمل من نوع غليظ من أردأ الكتان (¬3)، وكانوا يخجلون من الظهور بملابسهم احياناً لأنها لا تسترهم ستراً كاملاً (¬4). وسرعان ما كانت تتسخ ملابسهم فجوانب الصفة كانت مكشوفة للهواء والتراب حتى اتخذ العرق من جلودهم طوقاً من الوسخ والغبار (¬5). طعامهم: كان جل طعامهم التمر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجري لكل رجلين منهم مداً من تمر في كل يوم، وقد اشتكوا من أكل التمر وقالوا إنه أحرق بطونهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يوفر لهم طعاماً غيره فصبرهم وواساهم (¬6)، وكان كثيراً ما يدعوهم إلى تناول الطعام في بيته، لكنه لم يتمكن من تقديم الطعام الجيد لهم فلم يكون يوسع على نفسه وأهله بالنفقة، ففي بعض المرات سقاهم لبناً، ومرة أطعمهم جشيشة (طحين ولحم أو تمر مطبوخ) ومرة أخرى حيسة (طعام من التمر والدقيق والسمن) وثالثة شعير محمص، لكنهم نالوا في إحدى المرات الثريد (¬7)، وكان عليه الصلاة والسلام يعتذر إليهم إذا لم يكن الطعام جيداً، فقد قدم لهم مرة صحفة فيها صنيع من شعير، وقال: "والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئاً ترونه" (¬8). ¬

_ (¬1) أحمد: المسند 4/ 128 (¬2) (لسان العرب مادة "حتك"). (¬3) أحمد: المسند 3/ 487،والحلية 1/ 374، والسمهودي: وفاء الوفا 1/ 323. (¬4) الحلية 1/ 342 (¬5) المصدر السابق 1/ 341 (¬6) أحمد: المسند 3/ 487، وأبو نعيم: الحلية 1/ 339، 374 والسمهودي: وفاء الوفا 1/ 323. (¬7) البخاري: الصحيح 8/ 68، 119 وأحمد: المسند 2/ 515، 3/ 490، وابن سعد 1/ 256، والحلية 1/ 373 - 374، والسمهودي: وفاء الوفا 1/ 323. (¬8) ابن سعد: الطبقات 1/ 256.

ولا شك أنهم كانوا ينالون طعاماً أجود عندما يضيفهم احد أغنياء الصحابة في داره وكثيراً ما كانوا يفعلون (¬1)، ولكنهم في كثير من الأحيان ما كانوا يحصلون على ما يمسك رمقهم، فأثر فيهم ذلك فكانوا يخرون في الصلاة لما بهم من الجوع حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين وكان أبو هريرة (رض) يصرع بين المنبر وحجرة عائشة (رض) لما به من الجوع (¬2)، لكن قلة طعامهم ما كانت لتؤدي بهم إلى الشره والمغالبة على الطعام، بل كانت حقوق الأخوة وآدابها تحكم علاقاتهم ببعضهم، وقد حكى أبو هريرة (رض) أنهم كانوا إذا اجتمعوا على أكل التمر وأكل أحدهم تمرتين معاً قال لأصحابه (إني قد قرنت فأقرنوا) لئلا ينال من التمر أكثر منهم (¬3). لقد قنعوا بالقليل من الطعام والخشن من الثياب، وعافت نفوسهم القصور لينقطعوا إلى العبادة والعلم والمجاهدة، فكانوا أمثلة للزهد والترفع عن الدنيا. رعاية النبي والصحابة لأهل الصفة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم (¬4) كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويقص عليهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته وذكر الله والتطلع إلى الآخرة ويشجعهم على احتقار الدنيا وعدم تمني الحصول على متاعها (¬5)، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها (¬6)، وكثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح -كتاب المواقيت- باب السمر مع الضيف والأهل، والحلية 1/ 341. (¬2) الحلية 1/ 339 - 378. (¬3) المصدر السابق 1/ 339 - 340. (¬4) المصدر السابق 1/ 375. (¬5) أحمد: المسند 4/ 8 وأبو نعيم: الحلية 1/ 340،341. والسمهودي: وفاء الوفا 1/ 322. (¬6) البخاري: الصحيح-رقاق- باب (14) وأحمد: المسند 2/ 515. وأبو نعيم: الحلية 1/ 377، 339 والسمهودي: وفاء الوفا 1/ 322.

أزواجه (رض) (¬1) ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، وقد طلب من ابنته فاطمة (رض) أن تتصدق عليهم لما ولدت الحسن (رض) بوزن شعره من الفضة (¬2). وقد جاءه مرة سبي فسألته ابنته فاطمة (رض) خادماً لأنها تعبت من كثرة أعمالها وكلت فأجابها (عليه الصلاة والسلام:) "أخدمكما وأدع أهل الصفة تطوي" وأوضح لها أنه سيبيع السبي وينفقه على أهل الصفة، ويبدو أنها سألته أيضاً أن يعطيها مالاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد زار عليا (رض) فوجد أن فراشهما قصير لا يغطيهما فعلمهما كلمات في الدعاء وآثر إعطاء أهل الصفة عليهما وقال: "لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوي بطونهم من الجوع" (¬3). وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتصدق على أهل الصفة (¬4) فجعلوا يصلونهم بما استطاعوا من خير (¬5) فكان أغنياء قريش يبعثون بالطعام إليهم (¬6) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أهل الصفة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ليتعشوا عندهم، ويقول: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن أربع فخامس أو سادس (¬7) فيأخذ الصحابة بعضهم ومن بقى منهم يصحبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره فيتعشون معه" (¬8). ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح - الرقاق باب (14) - واستئذان باب (14) وأحمد: المسند 2/ 515، 3/ 429، 490. وابن ماجة: سنن -كتاب المساجد والجماعات- باب النوم في المسجد وأبو نعيم: الحلية 1/ 338 - 339 والسمهودي: وفاء الوفا 1/ 322 - 323. (¬2) البيهقي: سنن 9/ 304 (¬3) أحمد: المسند 1/ 79،106 (¬4) المصدر السابق 6/ 391 والحلية 1/ 399. (¬5) الحلية 1/ 340. (¬6) الحلية 1/ 378. (¬7) البخاري - الصحيح- كتاب المواقيت- باب السهر مع الضيف والأهل. (¬8) المصدر السابق وابن سعد: الطبقات 1/ 255 والحلية 1/ 338، 341، 373.

ويبدو أن الأمر كان كذلك في بداية الهجرة، فلما جاء الله بالغنى لم تعد هناك حاجة لتوزيعهم على دور الصحابة (¬1). وقد استثارت حالة أهل الصفة سبعين من الأنصار يقال لهم القراء - وهم الذين استشهدوا يوم بئر معونة- فكانوا يقرأون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه بالمسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء (¬2) وقد اقترح محمد بن مسلمة الأنصاري وآخرون من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج كل واحد منهم قنوا (¬3) من بستانه حين ينضج التمر لأهل الصفة والفقراء فوافق على ذلك، ووضح في المسجد حبلاً بين ساريتين فأخذ الناس يعقلون الأقناء على الحبل، فربما اجتمعت عشرين قنواً وأكثر. وكان معاذ بن جبل (رض) يقوم على حراسة الأقناء. وتشير رواية أخرى إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أشار على الناس بالتصدق بقنو من ثمار بساتينهم ليرفع الله تعالى عنهم عاهة أصابت ثمارهم ففعلوا (¬4). وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل علق قنوا فيه حشف وأراد أن يكون التصدق بأطيب من ذلك (¬5). ويشير نص أورده السمهودي إلى استمرار عادة تعليق الأقناء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة - على الأقل- خلال القرن الثاني الهجري (¬6). الآيات التي قيل إنها نزلت في أهل الصفة: 1 - قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 1/ 255 (¬2) مسلك: الصحيح - كتاب الامارة- حديث (147). وأحمد: المسند 3/ 270. وابن سعد: الطبقات الكبرى 3/ 514. (¬3) القنو العذق بما فيه من الرطب وجمعه أقناء، (لسان العرب - مادة "قنا") (¬4) السمهودي: وفاء الوفا 1/ 324 - 325 (¬5) المصدر السابق 1/ 325 والحشف: اليابس الفاسد من التمر، (لسان العرب مادة "حشف"). (¬6) المصدر السابق أيضاً 1/ 324.

بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (¬1) فقد ذكر الطبري وأبو نعيم بسندهما إلى عمرو بن حريث وغيره: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة. لكن الآية مكية فلا تصح أن تكون فيهم (¬2). 2 - وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬3). فقد ذكر ابن سعد بسنده إلى ابن كعب القرظي قال: هم أصحاب الصفة (¬4) وذكر الطبري بأسانيده عن مجاهد والسدي أنها في فقراء المهاجرين (¬5). 3 - قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ..} (¬6) وقد ذكر ابن كثير أنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة (¬7)، وإلى ذلك تذهب بعص روايات الطبري (¬8). 4 - قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ...} (¬9) لكنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة. 5 - قوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ ¬

_ (¬1) الشورى آية 26 (¬2) الطبري: تفسير (طـ مصطفى البابي الحلبي) جـ 25 ص30 والحلية 1/ 338. (¬3) البقرة 273. (¬4) الطبقات الكبرى 1/ 255. (¬5) الطبري: تفسير 5/ 591 (طـ محمود محمد شاكر). (¬6) الأنعام من الآية 52. (¬7) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/ 135. (¬8) الطبري: تفسير 11/ 376 (طـ محمود محمد شاكر). (¬9) الكهف من الآية 28.

عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ...} (¬1) فذكر أبو نعيم أنها نزلت في أهل الصفة (¬2). لكن الروايات التي يوردها كل من الطبري وابن كثير لا تنص على ذلك، وأغلبها تنص على أن الآية نزلت في السبعة البكائيين من بني مزينة (¬3). المؤرخون لأهل الصفة: أقدم من عقد فصلاً في أهل الصفة هو محمد بن سعد (ت 230 هـ) وسائر ما ذكره مأخوذ عن الواقدي، ومع ذلك فلا نجد تلك النصوص في كتاب المغازي للواقدي (طبعة مارسدن) فلعلها من كتاب الآخر (الطبقات) وهو مفقود (¬4) وينقل عنه ابن سعد كثيراً في الطبقات الكبرى (¬5). لكن أقدم من علمته أفرد كتاباً في أهل الصفة هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي النيسابوري (ت 412 هـ) في كتابه (تاريخ أهل الصفة) (¬6) وهو مفقود ولعله المصدر الذي نقل عنه أبو نعيم كثيراً في الفصل الذي عقده لأهل الصفة من كتابه حلية الأولياء وإن لم يصرح باسمه، لكنه صرح بالنقل عنه في موضع آخر من كتابه (¬7)، وقد وصفه بأنه مرتب على حروف المعجم وأن فيه ¬

_ (¬1) التوبة من الآية 91 (¬2) الحلية 1/ 371 - 372 (¬3) انظر الطبري: تفسير 14/ 421 - 423 (ط محمود محمد شاكر). وابن كثير: تفسير 2/ 381 - 382. (¬4) أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 53. (¬5) المصدر السابق ص 56. (¬6) حاجي خليفة: كشف الظنون 1/ 286 لكنه سماه "تاريخ أهل الصفة" ولعله تحريف (انظر مقدمة كتاب طبقات الصوفية للسلمي بقلم نور الدين شريبة جـ 1 ص 34). (¬7) أبو نعيم: الحلية 8/ 25.

"أسماء جماعة عرفوا من أهل القبلة نسبوا إلى أهل الصفة وهو تصحيف من بعض النقلة" (¬1). ومن المتأخرين ألف تقي الدين السُّبكي (ت 756 هـ) كتاباً عنهم سماه: (التحفة في الكلام على أهل الصفة) (¬2)، وألف شمس الدين السخاوي رسالة بعنوان "رجحان الكفة في أخبار أهل الصفة" (¬3). كما عقد السمهودي مقالاً عن أهل الصفة جمع فيه الروايات المشتتة في كتب الحديث والتاريخ والجغرافية ومعاجم اللغة. * * * رحم الله القوامين الصوامين المجاهدين الزاهدين أهل الصفة وصدق الله العظيم (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا). فأنيّ هذا النموذج مما حدثه الفقراء المدقعون في المجتمعات الجاهلية من تكوين العصابات التي تتولى أعمال السرقة والقتل وأنواع العدوان الذي يفقد المجتمعات الاستقرار والإحساس بالأمن ... ألا إنه الفرق بين تربية محمد صلى الله عليه وسلم والتربية الجاهلية ... والفرق بين نظام الله والنظم البشرية. والآن أعرض لصورة من الارتباط القوي الذي أوجده الإسلام عملياً في المدينة المنورة حيث تظهر صورة المجتمع الإسلامي بأزهى وأكمل حالاتها ومنها نتبين لماذا لا يحدث الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي ولماذا يقف الأغنياء والفقراء في صف واحد لدعم رسالة الإسلام، إنها الأخوة بين المؤمنين والتكافل بينهم كما يظهران في تشريع دستور دولة المدينة المنورة. ¬

_ (¬1) المصدر السابق 1/ 347. (¬2) ريكندورف دائرة المعارف الإسلامية ص 106. (¬3) تقع في 32 ورقة، 21 سطراً، 18 ×16سم وهى مجلدة بمكتبة الجمعية الآسيوية بكلكتا بالهند، 1321 - ف3141، ومنها صورة في مكتبة كلية الآداب بجامة الملك عبد العزيز بجدة.

إعلان دستور المدينة (المعاهدة)

إعلان دستور المدينة (المعاهدة) لقد نظم النبي صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة الدستور والوثيقة. طرق ورود الوثيقة (الصحيفة): وقد اعتمد الباحثون المعاصرون على الوثيقة في دراسة تنظيمات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة (¬1) ولكن من الضروري جداً التأكد أولاً من مدى صحة الوثيقة قبل أن تبني عليها الدراسات، خاصة أن أحد الباحثين يرى أن الوثيقة موضوعة (¬2). ونظراً لأهمية الوثيقة التشريعية إلى جانب أهميتها التأريخية، فلابد من تحكيم مقاييس أهل الحديث فيها لبيان درجة قوتها أو ضعفها، وما ينبغي أن يتساهل فيها كما يفعل مع الروايات والأخبار التأريخية الأخرى إن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملاً هو محمد بن إسحق (ت 151 هـ) لكنه أوردها دون إسناد (¬3). وقد صرح بنقلها عنه كل من ابن سيد الناس (¬4) وابن كثير (¬5) فوردت ¬

_ (¬1) كتب في الوثيقة كل من الدكتور صالح أحمد العلي في بحثه "تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة" والدكتور عبد العزيز الدوري في كتابة النظم الإسلامية. و. Sarjeant The Constitutin of Medina. In, Islamic QuarQuraterly. VIII/12. وآخرون ذكرهم الأستاذ محمد حميد الله في كتابه مجموعة الوثائق السياسية ص 39 - 41. (¬2) ذهب إلى ذلك الأستاذ يوسف العش في إحدى حواشيه على كتاب الدولة العربية وسقوطها لفلهوزن ترجة العش (انظر منه ص 20 حاشية رقم 9). (¬3) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 501 - 504. (¬4) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 197 - 198. (¬5) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 224 - 226.

عندهما دون إسناد أيضاً، وقد ذكر البيهقي (¬1) إسناد ابن إسحق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون البنود التي تتعلق باليهود لذلك لا يمكن الجزم بأنه أخذها من نفس هذه الطريق أيضاً. وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خثيمة (¬2) اورد الكتاب (الوثيقة) فأسنده بهذا الإسناد (حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه - أي بنحو الكتاب الذي أورده ابن إسحق) (¬3). ولكن يبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خثيمة إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه. كذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو (حدثني يحيي بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا حدثنا الليث بن سعد قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب ...) (¬4) وسرده. كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري أيضاً (¬5). هذه هى الطرق التي وردت منها الوثيقة بنصها الكامل، والتطابق كبير بين سائر الروايات سوى بعض التقديم والتأخير في العبارات أو اختلاف بعض المفردات أو زيادة بنود قليلة، ولا يؤثر هذا الاختلاف على مضمونها العام. ¬

_ (¬1) السنن الكبرى 8/ 106 "كتاب الديات". (¬2) هو الحافظ الحجة الإمام أحمد بن أبي خثيمة زهير بن حرب النسائي المتوفى سنة 279 هـ وقد وصل إلينا السفر الثالث من تأريخه (انظر أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 87 - 90). (¬3) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 198. (¬4) أبو عبيد: الأموال 517. (¬5) يرويها حميد بن زنجوية (ت247 هـ) من طريق عبد الله بن صالح أيضاً بمثل إسناد أبي عبيد (انظر كتاب الأموال لابن زنجويه تحقيق د. شاكر ديب فياض رقم 750).

مدى صحة الوثيقة: اعتمد عدد من الباحثين المعاصرين على الوثيقة فبنوا عليها دراساتهم، في حين ذهب الأستاذ يوسف العش إلى أن الوثيقة موضوعة فهو يقول: "إنها لم ترد في كتب الفقه والحديث الصحيح رغم أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحق بدون إسناد، ونقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف أن كثير بن عبد الله بن عمرو المزني روى هذا الكتاب عن أبيه عن جده، وقد ذكر ابن حبان البستي: أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يخل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنها إلا على جهة التعجب" (¬1). ويرى العش أن ابن إسحق اعتمد على رواية كثير لكنه تعمد حذف الإسناد (¬2). لقد ذهب الأستاذ العش إلى ذلك لأنه تصور أن الوثيقة لم يروها غير ابن إسحق ولم يعثر على إسناد لها سوى ما ذكره ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة لها من طريق كثير المزني. لكن أبا عبيد القاسم بن سلام أورد الوثيقة من طريق الزهري وهى طريق مستقلة لا صلة لها بكثير المزني. ونظراً لكون ابن إسحق من أبرز تلاميذ الزهري، فإن ثمة احتمالا لأن يكون ذد أورد الوثيقة من طريقه، لولا أن البيهقي ذكر إسناد ابن إسحق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون أن تتناول البنود المتعلقة بيهود ولا يمكن الجزم بأن ابن إسحق أخذ البنود المتعلقة بيهود من هذه الطريق أم من طريق أخرى. فقال البيهقي: "أخبرني أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد ابن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحق قال حدثني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقروناً بكتابة الصدقة" والحديث بهذا الإسناذ ضعيف لأن عثمان تحملها ¬

_ (¬1) انظر عبارة ابن حبان في تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 8/ 422. (¬2) يوسف العش: حاشية رقم (9) ص 20 من كتاب الدولة العربية وسقوطها ترجمة العش.

وجادة وفي الإسناد فيهم ضعف مثل عثمان فهو صدوق له أوهام ويونس بن بكير يخطيء. والعطار ضعيف وتحمله للسيرة صحيح. فالرواية على ضعفها صالحة للإعتبار وقد توبعت، وإن هذا النص يهدم الأساس الذي بنى عليه الأستاذ العش رأيه. كما أنه لا يمكن الحكم على الوثيقة بأنها مضوعة لأن كتب الحديث لم ترو نصها كاملاً!! فقد أوردت كتب الحديث مقتطفات كثيرة منها تغطي عدداً من بنودها كما سيرد خلال البحث. وبذلك يتبين أن الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة، فابن إسحق في سيرته رواها دون إسناد مما يجعل روايته ضعيفة وأوردها البيهقي من طريق ابن إسحق أيضاً بإسناد فيه سعد بن المنذر -وهو مقبول فقط-، وابن أبي خيثمة أوردها من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني - وهو يروي الموضوعات - وأبو عبيد القاسم بن سلام رواها بإسناد منقطع يقف عند الزهري - وهو من صغار التابعين فلا يحتج بمراسيله -. ولكن نصوصاً من الوثيقة ورت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة، وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص هى أحاديث صحيحة، وقد احتج بها الفقهاء وبنوا عليها أحكامهم. كما أن بعضها ورد في مسند أحمد وسنن أبي داوود وابن ماجة والترمذي. وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة، وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للإحتجاج بها في أحكام الشريعة سوى ما ورد منها في كتب الحديث الصحيحة - فإها تصلح أساساً للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية خاصة أن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة، كما أن الزهري علم كبير من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية. ثم إن أهم كتب السيرة ومصادر

التاريخ ذكرت موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وكتابته بينه وبينهم كتاباً (¬1). كما ذكرت كتابته كتاباً بين المهاجرين والأنصار أيضاً. كذلك فإن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها "فنصوصها مكونة من جمل قصيرة بسيطة وغير معقدة التركيب، ويكثر فيها التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة. وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطارء أو الذم لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة" (¬2). ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقاً آخر (¬3). تاريخ كتابة الوثيقة: الراجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان ثم جمع المؤرخون بينهما، إحداهما تتناول موادعة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والثانية توضح إلتزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم. ويترجح عندي أن وثيقة مواعدة اليهود كتبت قبل موقعة بدر الكبرى (¬4) أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فكتبت بعد بدر، فقد صرحت المصادر بأن ¬

_ (¬1) البلاذري: أنساب الأشراف 1 - 286، 308، والطبري: تاريخ 2 - 479، والمقدسي: كتاب البدء والتاريخ 4 - 179، وابن حزم: جوامع السيرة ص 95، والمقريزي: إمتاع الأسماع 1 - 49، وابن كثير: البداية والنهاية 4 - 103 - 104 نقلاً عن موسى بن عقبة وفيه أن بني قريظة مزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد، والأثر موقوف عليه بدون إسناد، ولكن مجموع الآثار تتقوى ببعضها وتصل إلى درجة الحسن لغيره. (¬2) صالح العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 4 - 5. (¬3) يراجع للمقارنة كتاب "مجموعة الوثائق السياسية". (¬4) ذهب الدكتور صالح العلي إلى أنها كتبت بعد بدر أيضاً (تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 6).

موادعة اليهود تمت أول قدوم للرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام إن الوثيقة "كتبت حدثان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبل أن يظهر الإسلام ويقوي وقبل أن يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب" (¬1). وإنما ظهر الإسلام وقوى بعد معركة بدر الكبرى ويقول البلاذري: "قالوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة وادع يهودها وكتب بينه وبينهم كتاباً، واشترط عليهم أن لا يمالئوا عدوه وأن ينصروه على من دهمه، وأن لا يقاتل أهل الذمة، فلم يحارب أحداً ولم يهجه، ولم يبعث سرية حتى أنزل الله عز وجل عليه (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) فكان أول لواء عقده لواء حمزة بن عبد المطلب (¬2). وبذلك يوضح البلاذري أن وثيقة موادعة اليهود كتبت قبل إرسال السرايا الأولى، ومن المعلوم أن سرية حمزة كانت في رمضان سنة 1 هـ أي قبل غزوة بدر بسنة وأيام (¬3). ويقول البلاذري في موضع آخر وهو يتحدث عن غزوة بن قينقاع "وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادعته يهود كلها وكتب بينه وبينها كتاباً، فلما أصاب صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقدم المدينة غانماً موفوراً بغت وقطعت العهد" (¬4).وهكذا جزم البلاذري بأن موادعة اليهود كانت قبل بدر. ويقول الطبري: "ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منصرفة من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها، على أن لا يعينوا عليه أحداً وأنه إن دهمه بها عدو نصروه، فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ببدر من مشركي قريش أظهروا له ¬

_ (¬1) الأموال رقم 518. (¬2) البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 268. (¬3) انظر الطبري: تاريخ 2/ 402 نقلاً عن الواقدي وأما ابن إسحق فيرى أن سرية عبيدة بن الحارث أسبق من سرية حمزة ويوضح تقارب وقت إرسالهما وأنه في ربيع الأول سنة اثنتين بعد الهجرة فيكونا قد اتفقا على خروج السرايا الأولى قبل بدر وهو المهم في هذا البحث. (انظر ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 595). (¬4) البلاذري: أنساب الأشراف 1/ 308.

الحسد والبغي ... وأظهروا نقض العهد" (¬1) وهكذا يؤيد نص الطبري أن وثيقة موادعة اليهود كانت عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة قبل غزوة بدر. وأما ما ورد في سنن أبي داود (¬2) وهو قوله - بعد ذكر مقتل كعب بن الأشراف وشكوى يهود والمشركين ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم (ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة) ومن المعلوم أن قتل كعب بن الأشراف جرى بعد بدر الكبرى فإنه يلزمنا التوفيق بينها وبين الروايات التاريخية فإنها أقوى حسب شروط المحدثين من روايات المؤرخين التي سقتها ولكن مادام بإمكاننا التوفيق فلا داعي لإسقاط سائر الروايات التاريخية إذ لا مانع بعد مقتل كعب أن تُعاد كتابة الصحيفة تأكيداً أو تجديداً لتعود الطمأنينة إلى النفوس بعد هذه الحادثة التي أرعبت يهود والمشركين. وقد خرَّج البيهقي هذه الرواية من غير طريق أبي داود وفيها زيادة هي: "كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت العذق الذي في دار بنت الحارث فكانت تلك الصحيفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند علي بن أبي طالب" (¬3). أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فقد كتبت بعد وثيقة موادعة اليهود في السنة الثانية من الهجرة. فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 2 هـ (وقيل إن في هذه السنة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل. فكان معلقاً بسيفه) (¬4) واسم سيفه هذا ذو الفقار وكان قد غنمه في غزوة بدر (¬5). وهذه المعاقل التي كانت معلقة بالسيف هى نصوص من الوثيقة بين ¬

_ (¬1) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/ 479. (¬2) أبو داوود: سنن 3/ 402. (¬3) البيهقي: سنن 9/ 183. (¬4) الطبري: تاريخ 2/ 486. وانظر المقريزي: إمتاع الأسماع 1/ 107. (¬5) أحمد: المسند 1/ 271. وابن سعد الطبقات ج2 قسم 1/ 17. والطبري 2/ 478. والذهبي: تاريخ الإسلام: 1/ 290.

المهاجرين والأنصار كما تدل رواية ابن سعد: "أخبرنا عبد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن جابر عن عامر قال: قرأت في جفن سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذي الفقار: العقل على المؤمنين ولا يترك مفرح في الإسلام ولا يقتل مسلم بكافر) (¬1). وقد احتفظ علي (رض) فيما بعد بالسيف وفيه الصحيفة وقد سئل علي (رض) عما في الصحيفة مرة من قبل أبي جحيفة (¬2) وثانية من قبل الاشتر (¬3) فذكر بعض ما فيها لسائليه إما بالمعنى أو نصاً كما أنه ذكر محتواها مجملاً في إحدى خطبه (¬4). ومن ذلك قوله: ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا فمن أحدث حدثاً وآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل" (¬5). كما ذكر أن في الصحيفة أيضاً الجراحات وأسنان الإبل (¬6) وأضاف مرة "ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" (¬7) كما ذكر أن فيها العقل وفكاك الأسير ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 1/ 172. (¬2) البخاري: الصحيح 9/ 14 والترمذي: صحيح 6/ 182 وابن ماجه: السنن 2/ 887. وأحمد: المسند 1/ 79. (¬3) أحمد: المسند 1/ 119, 122. (¬4) البخاري: الصحيح 2/ 296. (¬5) البخاري: (الصحيح (ط ليدن) 2/ 298 - 299 وانظر 2/ 296 منه أيضاً وأبو داود: السنن 2/ 488 وأحمد: المسند 1/ 119، 122، 3/ 242. (¬6) البخاري: الصحيح 2/ 296 وابن ماجه: السنن 2/ 887. (¬7) أحمد: المسند: 1/ 119 وأخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يقتل مسلم بكافر (المسند 2/ 178) وانظر عن طرق أخرى للحديث ابن ماجة: السنن 2/ 887 والبخاري: الصحيح 9/ 14، 16 (ط مصطفى البابي الحلبي) وصحيح الترمذي شرح ابن العربي 6/ 182.

أيضاً (¬1). وقد قرأ أصحاب علي (رض) في الصحيفة المذكورة أن إبراهيم حرم مكة وأني أحرم المدينة ما بين حرتيها وحماها كله لا يختلي خلالها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال (¬2). ومن الواضح أن هذه المقتطفات معظمها يطابق -نصاً- ما ورد في الوثيقة، كما أنها تغطي معظم بنود الوثيقة المتعلقة بإلتزامات المسلمين من المهاجرين والأنصار تجاه بعضهم، ولكن ليس فيها إشارة إلى البنود المتعلقة بمواعة اليهود، مما يرجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان، وأن الصحيفة التي كانت معلقة بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صارت ند علي (رض) هى نفس الكتاب بين المهاجرين والأنصار. ومن الجدير بالذكر أن ثمة نصوصاً تطابق ما في "الصحيفة بين المهاجرين والأنصار" لكنها منسوبة إلى كتب أخرى كتبها النبي صلى الله عليه وسلم. مثل رواية عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً، وكان في كتابه "إن من اعتبط مؤمناً قتلا عن بينة فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول" (¬3) وهذا الكتاب إنما أرسل متأخراً عن وقت كتابة الوثيقة. كما صرحت بعض الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "لا يقتل ¬

_ (¬1) البخاري: صحيح 9/ 14 (ط مصطفى البابي الحلبي) وأحمد: المسند 1/ 79. وانظر الشوكاني: نيل الأوطار 7/ 10. (¬2) أحمد: المسند 1/ 119. وانظر 4/ 141 منه. وفي صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 136 عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها ... " وكان أهل المينة في صدر الدولة الأموية يحتفظون بكتاب من أديم خولي فيه ينص النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة المدينة (أحمد: المسند 4/ 141 والخطيب البغدادي: تقييد العلم ص 72). (¬3) الشوكاني: نيل الأوطار 7/ 61 وانظر مجموعة الوثائق السياسية 186 فهى توضح أن النص من كتابه صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم عامله على اليمن.

مؤمن بكافر" (¬1) لكن هذه النصوص التي حددت أزمانها بوقت متأخر عن الوقت الذي كتبت فيه الوثيقة لا تصلح دليلاً على أن الوثيقة هي مجموعة من الكتب التي دونت في أوقات متباينة ثم دمجت في الوثيقة (¬2). إذ لا مانع من أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض بنود الوثيقة في كتبه اللاحقة، وينبغي الانتباه إلى عدم ورود نصوص متعلقة باليهود في الصحيفة التي تناولت المعاقل مما يرجح أن وثيقة موادعة اليهود مستقلة عن الوثيقة بين المهاجرين والأنصار التي تناولت المعاقل. ويؤيد ذلك أيضا حديث أنس بن مالك (رض) "حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك" (¬3) ولم يذكر أنس وجود اليهود في هذا الحلف. وحديث ابن عباس (رض): "كتب رسول الله كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين الناس" (¬4). وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين" (¬5) ولم يذكر اليهود فيه. ولعل مما يؤيد ذلك أن البيهقي ساق البنود المتعلقة بالمهاجرين والأنصار مبيناً سند ابن إسحاق وليس فيه إشارة ليهود وهي مطابقة لما أورده ابن هشام عن ابن إسحاق. وهكذا فإن الروايات التي ذكرتها تجرح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان إحداهما تتعلق بموادعة اليهود كتبت قبل بدر أول قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, والثانية تتعلق بحلف المهاجرين والأنصار وتحديد التزاماتهم وكتبت بعد بدر، لكن المؤرخين جمعوا بين الوثيقتين. ¬

_ (¬1) الشوكاني: نيل الأوطار 7/ 10. (¬2) ذهب إلى هذا الرأي sarjcant في مقالة The constitution of medina (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية: 3/ 224 وقال قد رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود. (¬4) ابن حزم: مسائل من الإيصال (مطبوع آخر كتابه المحلي) 12/ 407. (¬5) أحمد: المسند 1/ 371 و 2/ 204 وعنه ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 224.

كتابه (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين والأنصار واليهود بسم الله الرحمن الرحيم نص الوثيقة: (¬1): 1 - هذا كتاب محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. 2 - إنهم أمة واحدة من دون الناس 3 - المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 4 - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى, وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بني المؤمنين. 5 - وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف. 6 - وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 7 - وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 8 - وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 9 - وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 10 - بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. ¬

_ (¬1) نقلتها من كتاب مجموعة الوثائق السياسية لأنه قارن بين سائر الروايات وأثبت الاختلافات في الحاشية انظر منه ص 41 - 47.

11 - وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. 12 - وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل (12ب) وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. 13 - وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم. 14 - ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن. 15 - وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. 16 - وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. 17 - وإن سلم المؤمنين بواحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم. 18 - وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً. 19 - وإن المؤمنين يبيء (¬1) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. 20 - وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. (21 ب) وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن. 21 - وإنه من اعتبط (¬2) مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل) وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه. 22 - وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا أو يؤويه، وإنه من نصره أو آواه. فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. ¬

_ (¬1) أي يمنع ويكف. (¬2) أي قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله كما في لسان العرب 7/ 348.

23 - وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد. 24 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. 25 - وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 26 - وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. 27 - وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. 28 - وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. 29 - وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. 30 - وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. 31 - وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته. 32 - وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. 33 - وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم. 34 - وإن موالي ثعلبة كأنفسهم. 35 - وإن بطانة يهود كأنفسهم. 36 - وإنه لا يخرج منهم أحداً إلا بإذن محمد (36 ب) - وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك بنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وإن الله على أبرِّ هذا. 37 - وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم. (37 ب) وإنه لا يأثم أمرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم. 38 - وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

39 - وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. 40 - وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. 41 - وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها. 42 - وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره. 43 - وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها. 44 - وإن بينهم النصر على من دهم يثرب. 45 - وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين. (45 ب) على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم. 46 - وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره. 47 - وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. تحليل الوثيقة: إن ما رجحته من تجزئة الوثيقة واعتبارها وثيقتين يجعل الكلام عنها وتحليلها يقوم على فصل المواد المتعلقة باليهود عن المواد التي تنظم علاقة المسلمين ببعضهم وتحدد واجباتهم وحقوقهم. وسأبدأ بالكلام عن البنود المتعلقة باليهود لأنها أقدم - حسب ما رجحته - رغم أنها تتأخر بالنسبة لتسلسل البنود في الوثيقة حيث تتقدمها بنود الوثيقة الثانية المتعلقة بالمهاجرين والأنصار.

وثيقة موادعة اليهود: تتضمن وثيقة موادعة اليهود البنود من رقم (24) إلى رقم (47) مما يدل على عدم حدوث التداخل بين بنود الوثيقتين، بل ذكرت بنود كل وثيقة مجتمعة ومتسلسلة ولا يتعارض مع هذا القول ورود البند رقم (16) خلال بنود وثيقة المهاجرين والأنصار مع أنه يتعلق باليهود إذ هو يؤكد على التزام المسلمين بالعدل تجاه حلفائهم اليهود، فلا يشترط أن يكون ضمن بنود وثيقة موادعة اليهود. ويدل أحد بنود الوثيقة (رقم 24) على أن اليهود التزموا بدفع قسط من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) وقد ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام إلى أن التزامات اليهود المالية لا تقتصر على الحرب الدفاعية فهو يرى أن اليهود كانوا يغزون مع المسلمين أيضاً، قال أبو عبيد "ونرى أنه إنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين بهذا الشرط الذي شرطه عليهم من النفقة، ولوا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم" (¬1). وذكر أبو عبيد "حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن يزيد ابن يزيد بن جابر عن الزهري قال: كان اليهود يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسهم لهم" (¬2). وهذا الحديث من مراسيل الزهري لا يحتج به، وقد رويت أحاديث أخرى في اشتراك اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وهي بالإضافة إلى ما تقدم: 1 - حديث "استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود قينقاع، الذي ورد من طريق الحسن بن عمارة، وقد خرجه أبو يوسف (¬3) والبيهقي، وذكر البيهقي أن الحسن بن عمارة متروك" (¬4) ورغم أن الحسن بن عمارة غير متفق على تضعيفه لكن أكثر جهابذة المحدثين يضعفونه حتى حكى السهيلي إجماعهم على ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) أبو عبيد: الأموال ص 296. (¬2) أبو عبيد: الأموال ص 296 (¬3) أبو يوسف: الرد على سير الأوزاعي ص 40. (¬4) البيهقي: سنن 9/ 53. (¬5) العسقلاني: تهذيب التهذيب 2/ 304 - 308.

2 - حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه" أخرجه الترمذي (¬1) من طريق الزهري مرسلاً وقال إنه حديث حسن غريب والقاعدة أن مراسيل الزهري لا يحتج بها. 3 - حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو باليهود" (¬2) وهو من مراسيل الزهري لا يحتج به. 4 - حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بناس من اليهود" أخرجه البيهقي (¬3). وقال هذا منقطع. وهو من مراسيل الزهري أيضاً. 5 - حديث "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزا بهم خيبر" أورده الواقدي (¬4) وهو متروك وعنه البيهقي (¬5) والزيلعي (¬6). 6 - حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه فأسهم لهم مع المسلمين" خرجه الخطيب البغدادي (¬7) عن أبي هريرة (رض)، لكن إسناده ضعيف سقط منه بعض الرواة. وهكذا يتبين أن سائر الأحاديث المروية عن اشتراك اليهود مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحروب ضعيفة. وقد وردت أحاديث تدل على منع النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من الاشتراك مع المسلمين في الحروب وهي: ¬

_ (¬1) الترمذي: سنن 7/ 49. (¬2) الزيلعي: نصب الراية 3/ 422. (¬3) البيهقي: سنن 9/ 53. (¬4) الوافدي: كتاب المغازي 2/ 684. (¬5) البيهقي: سنن 9/ 53 وقال هذا منقطع وإسناده ضعيف. (¬6) الزيلعي: نصب الراية 3/ 422 (¬7) الخطيب: تاريخ بغداد 4/ 160 قال: "أخبرني الحسن بن علي بن عبد الله المقرئ حدثنا أحد بن الفرج الوراق حدثنا أبو بكر أحمد بن (الردين) قال: قريء على رزق الله بن موسى وأنا أسمع قال حدثنا سفيان بن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن أبي هريرة. ومن الواضح أن يزيد بن يزيد بن جابر لم يلق أبا هريرة فقد ولد يزيد في حدود سنة 77 هـ في حين توفى أبو هريرة سنة 57 هـ".

1 - أخرج أبو عبد الله الحاكم (¬1) حديثا عن أبي حميد الساعدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بنو قينقاع، وهو رهط عبد الله بن سلام، قال: وأسلموا؟ قالوا: لا بل هم على دينهم. قال: قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين. وقد رواه الحاكم كشاهد لحديث آخر رواه، وفيه "فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين" وقال الحاكم عنه "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقد روى الحديث نفسه على أنه في غزوة أحد، في حين أن رواية الحاكم تذكر أنه في إحدى غزواته دون تحديد للغزوة (¬2). ولا شك أن التحديد بغزوة أحد خطأ لأن بني قينقاع أجلوا قبل أحد بسنة. وقد أخرجه البيهقي عن أبي حميد الساعدي من طريق الحاكم أيضاً (¬3). وروى الواقدي وابن سعد أنهم كانوا حلفاء عبد الله بن أبي بن سلول وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك" (¬4). 2 - ذكر ابن إسحاق (¬5) والإمام سحنون (¬6) وابن القيم (¬7) كلهم من طريق الزهري "أن الأنصار قالت يوم أحد ألا نستعين بحلفائنا من يهود"؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لا حاجة لنا فيهم". ¬

_ (¬1) الحاكم المستدرك على الصحيحين 2/ 122. (¬2) الزيلعي: نصيب الراية 3/ 423. (¬3) البيهقي: سنن 9/ 37. (¬4) الواقدي: كتاب المغازي 1/ 215 - 216. وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 27. (¬5) سيرة ابن هشام 2/ 64. (¬6) مالك بن أنس: المدونة الكبرى 3/ 40. (¬7) ابن القيم: زاد المعاد 2/ 92.

إن الحديث الأول أصح إسناداً مما سواه، ولكن فيه سعد بن المنذر وهو مقبول عند الحافظ ابن حجر فلا يحتج به إلا مع المتابعة ولكن مما يرجح هذا الرأي أن ما ورد في نص الوثيقة عن اشتراك اليهود في نفقات الحرب إنما يقتصر على الحرب الدفاعية عن المدينة، ولعل البند رقم (44) يوضح ذلك "وإن بينهم النصر على من دهم يثرب". وقال كعب بن مالك الأنصاري (رض): "كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله تعالى نبيه بالصبر على ذلك، والعفو عنهم، وفيهم أنزلت الآية {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} (¬1). فلماذا يخرج بعض اليهود لنصرة المسلمين كما في رواية الحاكم؟ إن ذلك يرجع إلى المحالفات التي كانت بين الأوس والخزرج واليهود قبل مجيء الإسلام، فلعل اليهود أرادوا التأكيد على تلك الأحلاف وتقوية ارتباطهم بحلفائهم القدامى للإفادة من هذه الصلة في الوقيعة بين المسلمين وتخذيلهم وغلغلة النفاق بين صفوفهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قطع عليم الطريق برفض معونتهم ما داموا على الكفر. إن استمرار أثر المحالفات القديمة بين الأوس والخزرج واليهود يتضح من قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم في أحد "ألا نستعين بحلفائنا من يهود"؟ كما يتضح من شفاعة عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين في بني قينقاع حلفاء قومه الخزرج، ومن محاولة بعض الأوس تخليص حلفائهم يهود بني قريظة من القتل بعد نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فحكم بقتلهم وبذلك تبرأ من حلفهم كما تبرأ من قبله عبادة بن الصامت (وهو من بني عوف من الخزرج) من بني قينقاع حين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) البقرة 109 والرواية في سنن أبي داؤد 3/ 401 والواحدي أسباب النزول 129 بسند صححه ابن حجر (العجاب ق 38 أ).

وقد تناولت البنود من رقم (25) إلى (35) تحديد العلاقة مع المتهودين من الأوس والخزرج، وقد نسبتهم البنود إلى عشائرهم العربية، وأقرت حلفهم مع المسلمين، "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" وقد وردت العبارة في كتاب الأموال "أمة من المؤمنين" مما جعل أبا عبيد يقول: "فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم" (¬1) أما ابن إسحاق فقد قال "مع المؤمنين" وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحف. وقد بين ابن عباس سبب وجود رجال من الأوس والخزرج ضمن القبائل اليهودية فقال: "كانت المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاه (¬2)، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} " (¬3). وقد كفلت المادة رقم (25) لليهود حريتهم الدينية، كما حددت مسئولية الجرائم وحصرتها في مرتكبها (إلا من ظلم ,اثم فإنه لا يوتغ - أي لا يهلك - إلا نفسه وأهل بيته) فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين (لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم). وقد منع البند رقم (43) اليهود من إجارة قريش أو نصرها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستهدف التعرض لتجارة قريش التي تمر غربي المدينة في طريقها إلى الشام، فلا بد من أخذ هذا التعهد لئلا تؤدي إجارتهم لتجارة قريش إلى الخلاف بينهم وبين المسلمين. كما منع البند رقم 36 اليهود من الخروج من المدينة إلا بعد استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا القيد على تحركاتهم ربما يستهدف بالدرجة الأولى منعهم من ¬

_ (¬1) أبو عبيد: الأموال ص 296. (¬2) المقلاة: هي التي لا يعيش لها ولد (غريب الحديث للخطابي 3/ 81). (¬3) سنن أبي داؤد 3/ 132 وتفسير الطبري 3/ 10 وأسباب النزول للواحدي 77. وإسناده صحيح

القيام بنشاط عسكري كالمشاركة في حروب القبائل خارج المدينة (¬1) مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها، واليهود كمواطنين في الدولة الإسلامية في المدينة يجب أن يخضعوا للنظام العام، كذلك فإن اليهود اعترفوا بموجب البند رقم (42) بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سائر سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكن اليهود لم يلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم. ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد خير القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم {... فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬2) ... ولا شك أن احتكامهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان متأخراً بعد ضعفهم، كما أن سورة المائدة متأخرة النزول. ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية، فنزلت الآية {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (¬3). كما أن المعاهدة امتدت بموجب البند رقم (45) لتشمل حلفاء المسلمين وحلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة على كل طرف مصالحة ¬

_ (¬1) ذهب إلى ذلك عبد المنعم خان: رسالات نبوية فيما نقله عنه الدكتور صالح العلي في محاضراته (خطية لم تنشر بعد). والدكتور صالح أحمد العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 16 (¬2) سورة المائدة من الآية 42 وانظر عزة دروزة: سير الرسول 2/ 148. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده (الفتح الرباني 18/ 130) بسند حسن. والآية من سورة المائدة 45.

حلفاء الطرف الآخر لكن المسلمين استثنوا قريشاً "إلا من حارب في الدين" لأنهم كانوا في حالة حرب معهم. وقد اعتبرت منطقة المدينة حرماً بموجب البند رقم (39) "وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة" والحرم هو ما لا يحل انتهاكه، فلا يقتل صيده ولا يقطع شجره، وحرم المدينة بين الحرة الشرقية والحرة الغربية وبين جبل (ثور) في الشمال وجبل عير في الجنوب، ويدخل وادي العقيق في الحرم (¬1) وبذلك أحلت هذه المادة الأمن داخل المدينة ومنعت الحروب الداخلية. وثيقة الحلف بين المهاجرين والأنصار: تبدأ الوثيقة التي كتبت بين المهاجرين والأنصار ببيان الأطراف المتحالفة فهي بين "المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، والتميز بين المؤمنين والمسلمين واضح لأن المعروف أن المؤمن هو من آمن إقراراً باللسان وتصديقاً بالقلب، والمسلم هو من خضع لأحكام الإسلام وأدى فرائضه، ويتميز الصنفان في أهل يثرب فقط لظهور النفاق فيهم بعد غزوة بدر الكبرى، أما المهاجرون فليس فيهم مسلم إلا وهو مؤمن مصدق بقلبه. ويقرر البند رقم (2) "أنهم أمة واحدة من دون الناس" أمة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، ولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس "من دون الناس" فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء، ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها واعتزازها بذاتها، يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ¬

_ (¬1) انظر محمد حميد الله: الوثائق السياسية ص 441 - 442 والنووي: صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 136.

إلى بيت المقدس (¬1) وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود. من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخف فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رأسهم بالحناء والكتم. واليهود تصوم عاشوراء والنبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: "من تشبه بقوم فهو منهم" وقال: "لا تشبهوا باليهود" والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا ريب أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار (¬2). ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزاً بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يقبل (ايديولوجيته). وقد ذكرت البنود من (3) إلى (11) الكيانات العشائرية ن واعتبرت المهاجرين كتلة واحدة لقلة عددهم أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم، وذكر العشائر لا يعني اعتبارها الأساس الأول للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقاء على العصبية القبلية والعشائرية فقد حرم الإسلام ذلك: "ليس منا من دعا إلى عصبية" (¬3) وإنما للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، وجعل الإسلام العقيدة هي الأصل الأول الذي يربط بين اتباعه لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقيدة وتخدم المجتمع وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه، مثل الارتباطات الخاصة بين: أفراد الأسرة الواحدة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات على الآباء والأبناء والأمهات وأفراد العشيرة الواحدة وما يترتب عليهم من حقوق وواجبات كالتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى وإعانة المحتاج منهم؛ وأفراد المحلة الواحدة: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ¬

_ (¬1) خليفة: التاريخ 23 - 24 وسيرة ابن هشام 1/ 550. (¬2) يعطي ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم فكرة واضحة عن هذا المعنى (¬3) سنن أبي داود 5121.

ظننت أنه سيورثه" وأفراد القرية الواحدة:"أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى" وأبناء المدينة الواحدة فلا تخرج زكاة أموالهم من مدينتهم إلا بعد استيفاء حاجات أبنائها .. وهكذا رتب الإسلام على الوحدات الاجتماعية الصغيرة القيام بمهام التكافل الاجتماعي وبذلك سد ثغرات كبيرة، وتأتي الدولة في نهاية المطاف فتسد ما تبقى من ثغرات مما عجز عنه الأفراد ... ولا شك أن ذلك يرفع عبئًا كبيراً عن كاهل الدولة تنوء به الدولة الحديثة. وهكذا فإن إقرار الروابط العشائرية قصد به الاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، ولكن لا تناصر في الظلم ولا عصبية وبذلك حول الإسلام وجهة الروابط القبلية واستفاد منها بتكييفها وفق أهدافه العليا. إن التكافل الاجتماعي يحتم على العشيرة أن تعين أفرادها، ومن ذلك إذا قتل فرد منها أحدا خطأ، فإنها تدفع دية القتل بالتضامن بين أفرادها، وقد كان ذلك متعارفا عليه في الجاهلية فأقرته الوثيقة لما فيه من التعاون:"على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي على شأنهم وعادتهم من أحكام الديات (¬1). وكذلك تعين العشيرة الأسرى من أفرادها بمفاداتهم بالمال:"وهم يفدون عانيهم - أي الأسير - بالمعروف". كما أكدت الوثيقة على المسئولية الجماعية، واعتبرت سائر المؤمنين مسئولين عن تحقيق العدل والأمن في مجتمع المدينة. إن أهمية ذلك كبيرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكل قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناة ومعاقبتهم. ونظراً لكون الحدود على الجرائم مصدرها الله تعالى لذلك فإن السعي إلى تطبيقها واجب ديني على المؤمنين، وهذا يكسب الأحكام قدسية ويعطيها قوة ¬

_ (¬1) أبو عبيد: الأموال ص 294. وابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 279. وانظر شرح الزرقاني المالكي على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168. وابن منظور: لسان العرب مادة (عقل).

كبيرة , ويمنع ما ينشأ في نفوس بعض الناس من الرغبة في تحديها والخروج عليها كما يحدث في ظل القوانين الوضعية. إن اهتمام الوثيقة بإبراز دور المؤمنين يتضح من البند رقم (13) والبند رقم (21) حيث ينص البند رقم (13):"وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم" فهي تعتمد على المؤمنين في الأخذ على يد البغاة والمعتدين والمفسدين والمرتشين، ومعنى (دسيعة ظلم) أي طلب عطية من دون حق (¬1). وتخصيص المتقين بتحمل المسئولية لأنهم أحرص من سواهم على تنفيذ الشريعة لكمال إيمانهم ولأن من اتصف بأصل الإيمان قد يرتكب الحرام فيبغي ويخالف الحدود فيمنع ذلك (¬2). أما البند رقم (21) فنصه: "ومن أعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به" أي أن من قتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو" (¬3)، وسواء اختار أهله القتل أو الدية فإن المؤمنين كافة - بضمنهم أهل القاتل - يتعاونون في تطبيق الحكم عليه وعدم حمايته مهما بلغت درجة قرابته لهم إذ:"لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وإن من نصره، أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل". والمحدث من أتى حداً من حدود الله عز وجل، ¬

_ (¬1) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/ 117. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية 4/ 168 وابن منظور: لسان العرب مادة (دسع). (¬2) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168. (¬3) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 424. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168 - 169 والشوكاني: نيل الأوطار 7/ 61.

فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه، ومن آواه فإن الله يلعنه ويغضب عليه ولا يقبل منه التوبة عن فعلته في نصرة المجرمين ولا يقبل منه فدية لذلك (¬1). ويقتضي التكافل الاجتماعي بين المؤمنين أن يعينوا المفرح منهم (أي الذي أثقله الدين) (¬2) إن كان أسيرا بفدائه وإن كان جنى جناية عن خطأ دفعوا الدية عنه كما ينص البند رقم (12) وقد ذهب ابن سعد إلى أن المفرح هو من يكون في القوم لا يعرف له مولى (¬3). ومن الواضح أن صلة الولاء يترتب عليها العون والمساعدة في الديات وغيرها. فمن لم يكن له عشيرة ينتسب إليها صلبية أو ولاء فإن المؤمنين جميعا أولياؤه وعليهم مساعدته، فإذا جنى جناية كانت جنايته على بيت المال لأنه لا عاقلة له (¬4). لقد أقر البنت (12 ب) فكرة الحلف ولكنه لم يسمح بالتجاوز على حقوق الولاء التي للسيد على المعتقين من مواليه، فلا يجوز لأحد محالفتهم دون إذن سيدهم، ويتضح من حديث شريف أن الإسلام إنما أقر استمرار الأحلاف القديمة لكنه منع استحداث أحلاف جديدة ونص الحديث: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح قام في الناس خطيباً فقال: يا أيها الناس إنه ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا حلف في الإسلام" (¬5). ويبرز في البند رقم (14) استعلاء المؤمنين على الكافرين: "لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن" فهذا دليل على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن؛ وتأكيد على الترابط بين المؤمنين وموالاتهم لبعضهم، وقطع صلات الود والولاء القديمة مع الكفار. ¬

_ (¬1) أبو عبيد: الأموال ص 296. (¬2) ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 502.وأبو عبيد: الأموال ص294. وابن الأثير النهاية 3/ 424. وابن منظور: لسان العرب مادة (فرح). (¬3) ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/ 486. (¬4) ابن منظور: لسان العرب مادة (فرح). (¬5) رواه أحمد: المسند 1/ 180 و 2/ 215 ورواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) انظر صحيح الترمذي بشرح أبي العربي المالكي 7/ 83.

ويقرر البند رقم (17):"إن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم" فمسئولية إعلان الحرب والسلم لا يقررها الأفراد بل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أعلن الحرب فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة حرب مع الخصم ولا يمكن لفرد منهم مهادنته لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين (¬1). كما أن عبء الحرب لا يقع على عشيرة دون أخرى بل إن الجهاد فرض على جميع المؤمنين وهم يتناوبون الخروج في السرايا والغزوات (¬2) "وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا" بند رقم (18). وقد أقر البند رقم (15) مبدأ الجوار الذي كان معروفا قبل الإسلام، وجعل من حق كل مسلم أن يجير، وأن لا يخفر جواره، كما حصر الموالاة بين المؤمنين، والموالاة تقتضي المحبة والنصرة فلا يجوز لمؤمن أن يوالي كافراً: "والمؤمنون بعضهم أولياء بعض" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ...} (¬3). {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...} (¬4). لكن البند رقم (21) يمنع من بقي على الشرك من الأوس والخزرج من إجارة قريش وتجارتها أو الوقوف أمام تصدي المسلمين لها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مصمما على المضي في سياسة التعرض لتجارة قريش، ولا شك أن المسلمين من الأوس والخزرج وهم الأكثرية الغالبة في عشائرهم هم الذين سيتكفلون بتطبيق هذه المادة بالنسبة للمشركين من أفراد عشائرهم. إن هذا الالتزام سبق أن أخذ تعهد اليهود به أيضا عند موادعتهم وإن تكرر النص في الوثيقة يؤيد اعتبار الوثيقة تأليفا بين وثيقتين منفصلتين كما سبق. ¬

_ (¬1) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168. (¬2) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3/ 267. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/ 168 وابن منظور: لسان العرب مادة (عقب). (¬3) سورة المائدة من الآية 51. (¬4) سورة آل عمران: من الآية 28.

ولا مانع من أن ينص في وثيقة الحلف بني المهاجرين والأنصار على معاملة اليهود المحالفين للمسلمين بالمعروف والعدل وعدم التحريض عليهم وإيذائهم، رغم عدم وجود اليهود عند صياغة النصوص، بل إن ذلك يعبر عن ثبات القيم الأخلاقية في السياسة الإسلامية وأنها لا تعرف المخاتلة ولا الطعن من الخلف (بند رقم 16). وفي ختام بنود الوثيقة المتعلقة بالتحالف بين المهاجرين والأنصار يقرر البند رقم (23) أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين المسلمين في المدينة: "وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم".

نقض يهود المدينة للمعاهدة وإجلاؤهم عنها

نقض يهود المدينة للمعاهدة وإجلاؤهم عنها لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم بل سرعان ما نقضوها ولم يكتفوا بعدم الوفاء بالتزاماتهم التي حددتها بل وقفوا مواقف عدائية أيضا، فكان ذلك سبب إجلائهم عن المدينة المنورة، وفيما يلي بيان لأحداث جلائهم وأسبابه الممهدة والمباشرة. إجلاء بني قينقاع (¬1) تاريخ الغزوة: يتفق المؤرخون على أنها وقعت بعد غزوة بدر الكبرى، وقد حدد الزهري تاريخها فذكر أنها كانت في شوال من السنة الثانية من الهجرة، ويضيف الواقدي أنها كانت يوم السبت للنصف من شوال (¬2). سبب الغزوة: تشير كتب السيرة إلى أن يهود بني قينقاع أظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون ببدر، وقد بلغ بهم الأمر إلى حد المجاهرة بالعداء. ولتصوير الجو النفسي الذي أحاط بجلائهم لابد من استعراض بعض الأحداث، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يجمعهم وينصحهم بعد انتصاره ببدر ¬

_ (¬1) أفدت في حصر الروايات وانتقاء الصحيح منها في هذا المبحث من رسالة أعدها بإشرافي الشيخ أكرم حسين علي بعنوان (مرويات يهود المدينة) لنيل درجة الماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، وهي رسالة نافعة حبذا لو نشرت. الطبري: التاريخ 2/ 479 - 480 والواقدي: المغازي 1/ 176. وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 28 - 29 (¬2) الطبري: التاريخ 2/ 479 - 480. والواقدي: المغازي 1/ 176 وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 28 - 29.

فجمعهم في سوق بني قينقاع، فقال:"يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. قالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً في قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا" ولا يخفى ما في ردهم من تحد وتهديد مع أنهم كانوا قد انضموا تحت لواء رئاسته بموجب المعاهدة، وهذه الرواية وردت من طريق ابن إسحاق (¬1). وقد حسنها الحافظ ابن حجر (¬2). ولكن في سندها محمد بن محمد مولى زيد بن ثابت، حكم عليه الحافظ نفسه بأنه مجهول (¬3). وإذا قبلنا تحسين ابن حجر لها فإن ذلك لا يعني أن سبب جلاء بني قينقاع يعود إلى رفضهم قبول الإسلام، ففي هذه المرحلة كان الإسلام يقبل التعايش السلمي معهم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على أحد من يهود أن يدخل في الإسلام مقابل بقائه في المدينة المنورة بل إن نصوص المعاهدة (¬4) تؤكد إعطاء اليهود حريتهم الدينية في المدينة المنورة. وإنما يعود سبب الجلاء إلى ما أظهروه من روح عدائية. انتهت إلى الإخلال بالأمن داخل المدينة المنورة، فقد وردت رواية تشير إلى أن أحدهم عقد طرف ثوب امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع، فلما قامت انكشفت وصاحت فقام أحد المسلمين فقتل اليهودي وتواثب عليه اليهود فقتلوا المسلم، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وهذه الرواية ضعيفة في إسنادها انقطاع بين ابن هشام وعبد الله بن جعفر المخرمي، ثم إنها موقوفة على تابعي صغير مجهول الحال هو أبو عون ولكن يستأنس بها من الناحية التاريخية، فقد أوردتها معظم مصادر السيرة (¬5) وهي ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة 294 وأبو داود: السنن 3/ 402 - 403. (¬2) فتح الباري 7/ 332. (¬3) التقريب 2/ 205. (¬4) راجع مبحث "إعلان دستور المدينة". (¬5) ابن هشام: السيرة 2/ 561 والواقدي: المغازي 1/ 176 - 177. وابن كثير: البداية والنهاية 4/ 3 - 4 وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/ 295.

تصور تتابع الأحداث التي أدت إلى إجلاء بني قينقاع، وإن رفضهم الدخول في الإسلام لم يكن سبب جلائهم، بل السبب الحقيقي في ذلك هو إخلالهم بالأمن ومجاهرتهم بالعدوان مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقتنع بعدم إمكان العيش معهم بسلام. الحصار: إن خبر إجلاء بني قينقاع صحيح (¬1) وقد أورد ابن إسحق بروايته عن عاصم ابن عمر بن قتادة - والواقدي - دون إسناد - تفاصيل حصار المسلمين لبني قينقاع، وتابعهم المؤرخون وكتاب السيرة في ذلك، ورغم أن هذه التفاصيل لم تثبت صحتها من الناحية الحديثية ولكنها مما يتساهل في نقله عند المحدثين ومما يعتمد عليه وفق مناهج النقد التاريخي التي لا تشترط الإسناد وصحته, ولا يعقل إهمال هذه الأخبار في الدراسات التاريخية إلا إذا تعلقت بالعقيدة أو الشريعة فإنه لا يعتمد في ذلك إلا على الروايات الصحيحة والحسنة التي تنهض للاحتجاج بها، وقد ورد في تفاصيل خبر حصار بني قينقاع أنهم كانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول وكانوا أشجع اليهود وكانوا صاغة، فلما أظهروا صريح العداء والبغضاء وخاف النبي صلى الله عليه وسلم خيانتهم، استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، وعقد لواء أبيض حمله حمزة بن عبد المطلب، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة فاشتد عليهم الحصار ونزلوا على حكم الرسول، على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا ثم كلمه فيهم حليفهم عبد الله بن أبي بن سلول وألح في ذلك قائلا: "أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك" (¬2). وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة وتولى أمر جلائهم عبادة بن الصامت، ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح 3/ 11 (¬2) كلام عبد الله بن أبي نقله ابن إسحق عن عاصم بن عمر موقوفاً عليه (ابن هشام: السيرة 2/ 562 - 563) وعاصم من صغار التابعين، فالرواية ضعيفة حسب اصطلاح المحدثين، وهي مما يتساهل فيه من الأخبار، وأهميتها في ذكر عدد مقاتلي بني قينقاع.

فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة الأنصاري حيث تم تقسيمها بين الصحابة بعد إخراج الخمس للرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). وقد نزل في إجلاء بني قينقاع قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} إلى قوله تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} (¬2) وقد نقل أهل التفسير أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3). نزل في موالاة عبد الله بن أبي ليهود بني قينقاع. وفي نفس الوقت أعلن عبادة بن الصامت براءته من حلفائه من يهود مظاهرة لله ولرسوله بقوله: "يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله". والفرق واضح بين عبد الله بن أبي الذي أشرب قلبه بالنفاق وبين عبادة بن الصامت الذي صقلته التربية المحمدية، وخلصته من آثار العصبية الجاهلية والأهواء والمصالح الشخصية، فنظر إل مصلحة العقيدة وقدمها على مصالحه الخاصة، فكان مثالاً للمؤمن الواعي الملتزم. مقتل كعب بن الأشرف: ذهب جمهور العلماء إلى أن قتل ابن الأشرف وقع بعد غزوة بدر وقبل غزوة بني النضير، وحدد الواقدي ذلك بدقة فذكر أنه وقع في السنة الثالثة لأربع عشرة ¬

_ (¬1) الواقدي: المغازي 1/ 176 - 177 وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 29. (¬2) أبو داود: سنن 3/ 402 - 403 وابن حجر: فتح الباري 7/ 332 وحكم على إسناد ابن إسحق بالحسن رغم أن فيه محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت وهم حكم عليه في التقريب بأنه مجهول وقد انفرد ابن حبان بتوثيقه. وسند أبي داؤد من طريق محمد بن أبي محمد أيضاً. (¬3) سورة المائدة الآية 51 - 52. وقد ذكر سبب نزول الطبري في تفسيره 6/ 274 - 275 وابن كثير في تفسيره 2/ 67 - 69 وفي سند الرواية ضعف لأن عطية بن سعد من رجال إسنادها صدوق يخطئ كثيراً ويدلس ولم يصرح فيها بالسماع، ولكن ابن إسحاق أورد حديثاً مرسلاً في ذلك كما ساق ابن مردويه رواية في ذلك، فربما قويت هذه الروايات ببعضها والله أعلم.

ليلة مضت من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة النبوية (¬1). وكعب بن الأشرف، وأبوه عربي من طيء وأمه عقيلة بنت أبي الحقيق من بني النضير الذين حالفهم الأب وتزوج منهم، وكان كعب شاعراً يناصب الإسلام العداء (¬2) وقد غاظه انتصار المسلمين ببدر وساءه الأمر فزار مكة، فكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش (¬3) ويبكي قتلى المشركين ببدر ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين (¬4) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وفصل البخاري خبر مقتله، وخلاصته أن محمد بن مسلمة الأنصاري أبدى استعداده لتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، واستأذنه في أن يستخدم الخديعة، فأذن له لأن كعباً صار محاربا مهدور الدم فمضى محمد بن مسلمة إلى كعب وطلب منه أن يقرضه تمراً ليدفعه للرسول مظهراً تذمره منه لما يكلفهم به، فأراد كعب رهينة من النساء أو الأبناء فاعتذر محمد بن مسلمة لما يلحقهم من عار ذلك وعرض عليه أن يرهن عنده السلاح فوافق كعب. فجاءه محمد بن مسلمة ليلاً ومعه صحابي آخر وهو أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة ومعهما ثلاثة آخرون من الصحابة، فنادوه فنزل إليهم ومشى معهم فاحتالوا لقتله متظاهرين بشم عطر شعره فأجهزوا عليه بسيوفهم حتى أصيب أحدهم بسيوف أصحابه (¬5). وقد اشتكت اليهود مقتله، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما صدر منه من عداء وهجاء، وفزعت يهود وبقايا المشركين مما حدث وخافوا على أنفسهم، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كتابة معاهدة بينهم فكتبت صحيفة عامة كما تذكر رواية أبي داود في رواية تصلح للاحتجاج بها لما لها ¬

_ (¬1) الواقدي: المغازي 1/ 184. (¬2) انظر ابن هشام: السيرة 2/ 564 وابن حجر: فتح الباري 7/ 337. (¬3) أبو داود: السنن 3/ 402. وانظر دلائل النبوة للبيهقي 3/ 197. (¬4) ابن هشام: السيرة 2/ 564 - 565 بإسناد ضعيف موقوف على أحد صغار التابعين لكن ما نقلناه مما يتساهل فيه وتؤيده الروايات الصحيحة الأخرى. (¬5) البخاري: الصحيح 5/ 25 - 26.

من شواهد ومتابعات (¬1). ويبدو أن كتابة الصحيفة جاء تأكيداً لما في المعاهدة التي كتبت قبل بدر بين المسلمين واليهود بعد أن أثار مقتل ابن الأشرف مخاوف يهود. وقد يبدو مقتل ابن الأشرف متسماً بالغدر، ولكن صاحب النظر الفاحص والبصيرة النافذة يدرك أن ابن الأشرف معاهد بموجب الصحيفة التي التزم فيها يهود بني النضير مع الآخرين، وأنه بهجائه للنبي وهو رئيس الدولة بالنسبة لابن الأشرف وبإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محارباً مهدور الدم. وأما استدراجه ممن يثق بهم وقتله بالخديعة فإنه جائز مع المحارب، وقد تم بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم (¬2) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ بني النضير بجريرة كعب بن الأشرف واكتفى بقتله جزاء غدره وجدد المعاهدة معهم، ولكن يبدو أن لمقتل كعب أثراً عميقاً في نفوسهم فقد مضوا يكيدون للإسلام رغم تجديدهم المعاهدة، حيث أن الخوف وليس النوايا الطيبة هو الذي جرهم إلى تجديدها كما سيتبين من الأحداث التالية: إجلاء بني النضير تاريخ غزوة بني النضير: وردت روايتان صحيحتا الإسناد تدلان على أن غزوة بني النضير كانت بعد غزوة بدر الكبرى. الأولى: ما رواه الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب ابن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). ¬

_ (¬1) أبو داود: سنن 3/ 402 والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 462 - 464. والهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 195 - 196.وانظر ابن إسحق: السيرة 199 - 200. بإسناد حسن. (¬2) انظر الطحاوي: مشكل الآثار 1/ 78 - 79. (¬3) عبد الرزاق: المصنف 5/ 357. وأبو داود السنن 2/ 139 - 140 كتاب الخراج والفيء والإمارة.

الثانية: ما رواه عروة عن عائشة (¬1) فرغم أن البيهقي قال إن ذكر عائشة غير محفوظ، ولكن الذهبي صححها ويبدو لي أنها من قبيل زيادة الثقة المقبولة، ولم يذكر غير البيهقي علة الإرسال فيها، كما وردت رواية مرسلة عن عروة بأنها كانت على رأس ستة أشهر من بدر (¬2). ونقل البيهقي رواية أخرى عن عروة أنها كانت في محرم سنة ثلاث (¬3) وهي توافق الأولى لأن بدراً كانت في 17 رمضان سنة 2 هـ ونقل ذلك عن موسى بن عقبة أيضاً (¬4)، وعروة تابعي كبير، وموسى تابعي صغير والإسناد إليهما فيه من لم أعثر على ترجمته ولولا ذلك لقويت الرواية إلى مرتبة الحسن. أما ابن إسحق فذكر أنها كانت في سنة أربع من الهجرة (¬5) وذكر الواقدي وابن سعد دون إسناد أنها كانت في شهر ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهراً من الهجرة (¬6) ووافقهم ابن هشام في أنها كانت في ربيع الأول (¬7). وقد تابع جل كتاب السيرة ابن إسحاق في تحديد تاريخ الغزوة. وقطع ابن القيم بوهم الزهري أو وقوع الغلط عليه في أنها كانت بعد بدر بستة أشهر، فلا شك عنده أنها بعد أحد وهو بذلك يرجح رواية جماهير أهل السيرة والمغازي (¬8). ويرى ابن حجر أن ما ذكره عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أقوى مما ذكره ابن إسحق من حيث الصحة الحديثية. ولكنه يرى أيضاً أنه إذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير يتعلق بقصة دية القتيلين العامريين يتعين الأخذ بقول ابن إسحق لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق (¬9). ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك 2/ 483 كتاب التفسير. (¬2) عبد الرزاق: المصنف 5/ 357. (¬3) (¬4) البيهقي: دلائل النبوة 3/ 466 - 450 وأبو نعيم: دلائل النبوة 3/ 176 - 177. (¬5) ابن هشام: السيرة 3/ 683 والبخاري: الصحيح 3/ 11 معلقا عن ابن إسحق. (¬6) مغازي الواقدي 1/ 363 وطبقات ابن سعد 3/ 57. (¬7) السيرة: 3/ 683. (¬8) ابن القيم: زاد المعاد 2/ 110. (¬9) الفتح 6/ 388 - 389.

وقد رويت آثار في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1) وأنها نزلت في شأن يهود بني النضير عندما هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأنقذه الله بنعمة منه. لكن هذه الآثار فيها ضعف ويمكن أن تعتضد لتصبح بمجموعها صالحة للاحتجاج بها (¬2). وهي تقوى ما ذهب إليه ابن إسحق ولكن يبقى السؤال قائماً دون جواب حاسم: متى تمت غزوة بني النضير؟ لم يجزم ابن حجر برأي قاطع في الأمر رغم رجحان الدليل الصحيح عنده وعلق التسليم برأي ابن إسحق بثبوت تعلق الغزوة بقصة العامريين القتيلين ... ويبدو أن استفاضة الروايات على ضعفها في تأييد قول ابن إسحق، هو السبب في عدم جزم الحافظ، وهو مسلك مع الروايات التاريخية يتسم بالمرونة في تطبيق قواعد مصطلح الحديث وبمراعاة التخصص واحترام أقوال أصحاب المغازي. سبب غزوة بني النضير: تذكر المصادر سببين لهذه الغزوة يتمثلان بمحاولتين لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم: الأولى: محاولة بني النضير قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر الكبرى وقد سجلت لهم المصادر محاولتين، الأولى بعد كتابة قريش إليهم وتهديدها لهم بالحرب إن لم يقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم فاستجاب بنو النضير لهم وعزموا على الغدر، وأرسلوا إلى النبي أن يخرج إليهم في ثلاثين رجلاً من أصحابه، ووعدوا أن يخرجوا بمثلهم من أحبارهم، إلى موضع وسط ليستمعوا منه، فإن صدقوه آمنت يهود، ¬

_ (¬1) سورة المائدة: الآية 11. (¬2) انظر أسانيدها في تفسير الطبري 6/ 146 - 147 بأسانيد منها ما فيها الوقف على يزيد بن رومان ومنها ما فيها ضعف محمد بن حميد الرازي وكثرة خطأ سلمة بن الفضل الأبرشي. ودلائل النبوة لأبي نعيم ص 176 - 177 بأسانيد فيها ضعف وترقى إلى ابن عباس وعروة ودلائل النبوة للبيهقي 3/ 446 - 448 بسنديه إلى عروة بن الزبير وموسى بن عقبة (موقوفين عليهما). وابن كثير التفسير 3/ 31 نقلاً عن ابن إسحق ومجاهد وعكرمة.

فلما اقتربوا اقترح اليهود أن يجتمع النبي ومعه ثلاثة من أصحابه بثلاثة من أحبارهم فإن أقنعهم آمنت بنو النضير، وقد حمل الثلاثة خناجرهم، لكن امرأة منهم أفشت خبرهم لأخ لها مسلم، فأخبر النبي فرجع ولم يقابلهم، ثم حاصرهم بالكتائب وقاتلهم فنزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم. وهذه الرواية إسنادها رجاله ثقات وفيه جهالة اسم الصحابي ولا تضر (¬1). أما المحاولة الثانية فقد رواها ابن إسحق وتابعه معظم كتاب السيرة الآخرين، وتتلخص بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير ليستعين بهم على دفع دية رجلين معاهدين قتلهما خطأ عمرو بن أمية الضمري في أعقاب حادثة بئر معونة، فجلس النبي إلى جدار لبني النضير فهموا بإلقاء حجر عليه وقتله فأخبره الوحي بذلك فانصرف عنهم مسرعاً إلى المدينة ثم أمر بحصارهم فنزلوا على الصلح بعد حصار ست ليال، على أن لهم ما حملت الإبل (¬2) وهذه الرواية موقوفة على يزيد بن رومان وهو من صغار التابعين، لكنها تتقوى مع المتابعة وقد توبعت برواية عروة بن الزبير في مغازي موسى بن عقبة (¬3)، أما موسى بن عقبة صاحب المغازي فقد ذكر فيها إضافة لما ذكره ابن إسحق أنه "كانت النضير قد دسوا إلى قريش وحضوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلوهم على العورة" (¬4). ورغم أن رواية عبد الرزاق أقوى سنداً من رواية ابن إسحق، ولكن الأخيرة حظيت بقبول كتاب السيرة، وكلتا الروايتين تعزو حصار المسلمين لبني النضير إلى محاولتهم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم غدراً، وأما رواية موسى بن عقبة فلم تحدد وقتاً ¬

_ (¬1) عبد الرازق: المصنف 5/ 359 - 360 وانظر فتح الباري 7/ 331، وسنن أبي داود 2/ 139 - 140 كتاب الخراج والفيء والإمارة. والمستدرك للحاكم 2/ 483 كتاب التفسير. (¬2) ابن إسحق: السيرة 3/ 191. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 7/ 331. (¬4) ابن حجر: فتح الباري 7/ 332.

للأعمال التي ارتكبها اليهود ضد المسلمين من الدس والتحريض وتقديم المعلومات لقريش، والمعروف أنهم حرضوا المشركين على قتال المسلمين فكانت غزوة أحد، وأنهم أعانوا أبا سفيان في غزو أطراف المدينة التي أدت إلى مطاردة المسلمين له في غزوة السويق بعد أحد، ومعلوم تلك الأشعار التي أنشدها كعب ابن الأشرف النضري في تحريض قريش على حرب المسلمين. فلعل الإشارة إليها في رواية موسى بن عقبة فيكون ما ذكره إشارة إلى سوء العلاقة بين المسلمين وبني النضير وأنها ختمت بمحاولة الغدر التي كانت سبباً مباشراً في حصارهم تقف وراءه سلسلة من الأعمال العدائية. إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء. لم ترد رواية صحيحة من الناحية الحديثية على إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء لكن إجلاءهم ثابت في حديث صحيح يرويه عبد الله بن عمر (رض) (¬1). أما الإنذار فقد ذكره الواقدي وابن سعد - دون إسناد - وفيه أنه طلب منهم الخروج من المدينة خلال عشرة أيام فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فاستعدوا للخروج لكن عبد الله بن أبي بن سلول حرضهم على التمرد وعدم الخروج ووعدهم النصر، فأعلنوا تمردهم وحاصرهم المسلمون (¬2) وقد أوردت روايتان - بإسنادين موقوفين على عروة بن الزبير وموسى بن عقبة وفيهما رواة لم أعثر لهم على ترجمة - خبر إنذار النبي لبني النضير بالجلاء (¬3)، وقد سجلت ¬

_ (¬1) البخاري: صحيح 3/ 11. ومسلم: صحيح 5/ 159. (¬2) مغازي الواقدي 1/ 363 - 370 والواقدي متروك وابن إسحق: سيرة ابن هشام 3/ 682 بدون إسناد وطبقات ابن سعد 3/ 57 - 58 بدون إسناد والبيهقي دلائل النبوة 3/ 446 - 450 بإسنادين فيهما مجاهيل أربعة. (¬3) البيهقي: دلائل النبوة 3/ 446 - 448 وأبو نعيم: دلائل النبوة 3/ 176 - 177. وفي إسناديهما أبو جعفر محمد بن عبد الله البغدادي وأبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد ومحمد بن عبد الله بن عتاب ولم أعثر على تراجمهم، وبقية رجال الإسنادين ممن يحتج بهم. وقد وثق الخطيب القاسم بن عبد الله بن المغيرة. (تاريخ بغداد 12/ 433).

معظم كتب السيرة خبر الإنذار دون أسانيد (¬1). ورغم أن موقف المنافقين لم تسجله إلا روايات ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها لكن يكفي لثبوته ما ورد في سورة الحشر التي ثبت بطرق صحيحة أنها نزلت في بني النضير (¬2). حصار بني النضير ومعاهدة إجلائهم: وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصرهم بالكتائب وقال لهم: "إنكم لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك هو والمسلمون، ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب - وترك بني النضير - ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحلقة (¬3)، فجاءت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم، فيهدمونها فيحملون ما وافقهم من خشبها" (¬4). وقد ثبت بنص القرآن (¬5) والحديث (¬6) أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق وقطع بعض نخل بني النضير خلال الحصار. ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 334 - 335 وابن سيد الناس: عيون الأثر 3/ 48. وابن كثير: البداية والنهاية 3/ 45 وغيرها. (¬2) ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 49 وابن كثير: التفسير 4/ 330 والسيوطي: لباب النقول في أسباب النزول 214. (¬3) الحلقة: السلاح. (¬4) عبد الرزاق: المصنف 5/ 358 - 361 وأبو داود: السنن 3/ 404 - 407 والبيهقي: دلائل النبوة 3/ 446 - 448 وانظر فتح الباري 7/ 331. (¬5) سورة الحشر من الآية 5 قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ...}. (¬6) صحيح البخاري 3/ 11، 143 وسنن أبي داود 3/ 36 وسنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 5/ 157 - 158 وسنن ابن ماجة 3/ 948 - 949.

وتقرر معاهدة الجلاء حقن دماء اليهود، وإجلاءهم عن ديارهم، والسماح لهم بأخذ ما تحمله إبلهم من المتاع والأموال سوى السلاح فيتركونه للمسلمين. ويمكن الجمع بين الروايات الصحيحة التي تذكر أنهم أجلوا إلى الشام (¬1) وبين ما ذكره ابن سعد (¬2) من توجههم إلى خيبر بأن زعماءهم مثل حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وغيرهم ذهبوا إلى خيبر ومعظمهم ذهب إلى الشام، ورواية ابن سعد ضعيفة دون إسناد ولكن تؤيد ذلك الأحداث اللاحقة الثابتة بالمرويات القوية مثل أخبار قتالهم في غزوة خيبر وقتل كنانة وأسر صفية وخبر سلام بن أبي الحقيق، والجمع يكون بالقول بأنهم أجلوا إلى الشام وبعضهم استقر بخيبر. وبذلك قال ابن إسحق (¬3). وقد أسلم من بني النضير إثنان فأحرزا أموالهما وهما يامين بن عمر بن كعب وأبو سعد بن وهب (¬4) أما أموال بني النضير ونخلهم فكانت للرسول خاصة بنص القرآن (¬5) "فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله" (¬6). وقد قسم النبي أرضهم بني المهاجرين، وأعطى اثنين من الأنصار فقط هما سهل بن حنيف وأبو دجانة بن سماك بن خرشة لحاجتهما (¬7). وقد أدى إجلاء بني النضير إلى كسر شوكة اليهود والمنافقين في المدينة حيث جددت قريظة المعاهدة مع المسلمين خلال حصار بني النضير وأظهرت رغبتها في ¬

_ (¬1) عبد الرزاق: المصنف 5/ 358 - 361. (¬2) ابن سعد: الطبقات 3/ 58. (¬3) ابن هشام: السيرة 3/ 683 دون إسناد ويؤيده ما في دلائل النبوة 3/ 446 - 449بإسناديه إلى عروة وموسى بن عقبة وفيهما رجال لم أعثر لهم على ترجمة. (¬4) ابن هشام: السيرة 3/ 683 بإسناده إلى عبد الله بن أبي بكر. (¬5) الحشر 6 {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقد نزلت سورة الحشر في بني النضير (صحيح البخاري 3/ 141 وصحيح مسلم 8/ 345). (¬6) البخاري: الصحيح 3/ 143 والشافعي في السنن (الساعاتي: بدائع السنن 3/ 110). (¬7) عبد الرزاق: المصنف 5/ 358 - 361 وأبو داود السنن 3/ 404 - 407 وانظر ابن حجر: الفتح 7/ 331 وسيرة ابن هشام 3/ 683 - 684.

المحافظة على العهد حتى كانت غزوة الأحزاب. والمنافقون لم ينجزوا عدهم لنبي النضير بالنصر وتبين ليهود عدم جدوى الاعتماد عليهم. وقوي كيان الإسلام بالتخلص من بني النضير والإفادة من أراضيهم بإقطاعها للمهاجرين الذين كانوا يعتمدون في سكناهم على أراض وبيوت للأنصار. تحريض بني النضير للمشركين: وقد استمر الحقد يعمل في نفوس يهود بني النضير مما دفعهم إلى تحريض المشركين من قريش والأحزاب على مهاجمة المدينة في غزوة الخندق، وقد وردت روايات ضعيفة إما لإرسال أو لانقطاع أو لجهالة (¬1) أحد الرواة في الإسناد، ولكنها تصلح بمجموعها للاحتجاج وتقوى ببعضها وهي ترقى إلى عروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وسعيد بن المسيب وموسى ابن عقبة, حيث ذكر بعضها أسماء بعض هؤلاء المحرضين من بني النضير، ذكرها ابن إسحق وهم سلام بن أبي الحقيق النضري وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري (¬2). غزوة بني قريظة تاريخ الغزوة: وقعت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة (¬3)، عقب غزوة الخندق التي كانت في شوال سنة خمس للهجرة على قول ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 3/ 700 - 701 ومصنف الرزاق 5/ 368 - 373. وابن سعد 3/ 65 - 66 - وابن حجر: فتح الباري 7/ 412 - 414. (¬2) سيرة ابن هشام: 3/ 700 - 701. (¬3) طبقات ابن سعد 3/ 74، وسيرة ابن هشام 3/ 715 - وتاريخ الرسل والملوك 3/ 593 وابن سيد الناس: عيون الأثر 3/ 68.

قتادة وعروة بن الزبر وابن إسحق وعبد الرزاق (¬1). وقد ذهب الإمام مالك وموسى بن عقبة إلى أن الخندق كانت في شوال سنة أربع، وبه قال ابن حزم وقد استدل الثلاثة بحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه (¬2). وقد بين البيهقي إمكان الجمع بين القولين فقال: "ولا اختلاف بينهم في الحقيقة، لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس". وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أحدا في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة التالية لسنة الهجرة، ولم يقدروا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي، وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي وقد صرح بأن بدراً في الأولى وأحدا في سنة اثنتين وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن عمر رضي الله عنه جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك أنه من ربيع الأول سنة الهجرة. فصارت الأقوال ثلاثة والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة. أما حديث ابن عمر فقد أجاب عنه جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد وهو في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب وهو في أواخر الخامسة عشرة، وهو المعقول لأن المشركين لما انصرفوا عن أحد وأعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل ولم يقع. فقال: فلا يعقل أن يأتوا لحصار المدينة بعد شهرين (¬3). ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرزاق 5/ 367 وسيرة ابن هشام 3/ 699 والهيثمي 6/ 143 وعزاه للطبراني وقال إن رجاله ثقات. (¬2) صحيح البخاري 3/ 33، 73 وانظر قول مالك. (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 93 - 94 والسيرة النبوية 3/ 180 - 181. وابن القيم: زاد المعاد 388 - 389 وابن حجر: فتح الباري 7/ 393.

سبب الغزوة: ويرجع سبب الغزوة إلى نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت ذلك بطرق قابلة بمجموعها للاحتجاج بها، وكان نقضهم للعهد بتحريض من حيي بن أخطب النضري (¬1) وفي وقت حرج وخطير بالنسبة للمسلمين الذين كان يحاصرهم عشرة آلاف مقاتل من الأحزاب، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام (¬2) لاستطلاع خبرهم ثم أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جيبر (¬3). لمعرفة صحة ما يشاع من غدر بني قريظة، وقد أكد له هؤلاء صحة الخبر فاشتد الأمر على المسلمين. وقد فصل ابن إسحق خبر غدر بني قريظة ونقضهم العهد دون إسناد وجل كتاب السيرة أوردوا ذلك دون إسناد (¬4). وذكر موسى بن عقبة دون إسناد أيضاً أن قريظة طلبت من حيي بن أخطب أن يأخذ لهم تسعين رجلاً من أشراف قريش وغطفان رهائن لئلا يرجعوا عن المدينة قبل القضاء على المسلمين فيها، فوافق حيي على ذلك فأعلنوا نقضهم للصحيفة (¬5). وقد أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح (¬6) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتوجه إليهم وقد أعلم أصحابه بأن الله تعالى ¬

_ (¬1) أورد ذلك عبد الرزاق من مراسيل سعيد بن المسيب وهي أصح المراسيل والرواية صالحة للاحتجاج بها مع المتابعة (المصنف 5/ 368 - 373) وأبو نعيم من مراسيل سعيد أيضاً (دلائل النبوة 3/ 183). (¬2) صحيح البخاري 3/ 306 وصحيح مسلم 7/ 138. (¬3) ابن هشام: السيرة 3/ 706 بدون إسناد. (¬4) مغازي الواقدي 3/ 454 - 459 وتاريخ الرسل والملوك 3/ 570 - 573. وابن حزم جوامع السيرة 187 - 188 وابن عبد البر: الدرر 181 - 183 وابن سيد الناس عيون الأثر 3/ 59 - 60 وابن كثير، البداية والنهاية 4/ 103 - 104. (¬5) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 103 - 104. (¬6) البخاري: الصحيح 3/ 24 وأحمد: المسند 6/ 56، 131،280.

قد أرسل جبريل ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب (¬1) وأوصاهم أن (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) كما في رواية البخاري (¬2) - أو الظهر - كما في رواية مسلم (¬3). وقد حان وقت العصر وبعضهم في الطريق فمنهم من صلى ومنهم من أخر وأقر النبي الطرفين فقد اجتهدوا في مراده من أمره. ومن أخر صلاها بعد العشاء الآخرة كما وضح ابن إسحق (¬4). وقد جمع العلماء بين روايتي البخاري ومسلم بالقول باحتمال أن يكون بعضهم قد صلى الظهر قبل الأمر وبعضهم لم يصلها فأمر من لم يصلها أن لا يصلي الظهر ومن صلاها أن لا يصلي العصر، وقيل باحتمال أن تكون طائفة قد ذهبت بعد طائفة فقيل للأولى الظهر وللثانية العصر (¬5). وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى بني قريظة واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم (¬6) وإن لم يثبت بحديث صحيح لكنه مما يتساهل في قبوله. وقد وردت آثار مرسلة تتقوى ببعضها إلى رتبة الحسن لغيره تفيد أنه بعث عليا على المقدمة برايته (¬7). وانفرد ابن سعد بذكر عدد جيش المسلمين وعدد خيلهم فذكر أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل معهم ستة وثلاثون فرساً (¬8). وتختلف الروايات في مدة حصاره لبني قريظة أكان شهراً (¬9) أم خمساً وعشرين ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح 3/ 24، 144. (¬2) البخاري: الصحيح 3/ 34. (¬3) مسلم: الصحيح 5/ 163. (¬4) سيرة ابن هشام 3/ 716 - 717 من مراسيل معبد بن كعب بن مالك وهو مقبول من الثالثة. (¬5) ابن حجر: فتح الباري 7/ 408 - 409. (¬6) ابن هشام: السيرة 3/ 716 وابن سعد 3/ 74 وكلاهما دون إسناد (¬7) سيرة ابن هشام 3/ 716 - 717 وفتح الباري 7/ 413. (¬8) ابن سعد 3/ 74 وابن سيد الناس: عيون الأثر 3/ 68 دون إسناد. (¬9) تاريخ الرسل والملوك 2/ 583 بلفظ الشك من الراوي بين الشهر والخمس وعشرين ليلة.

ليلة (¬1) أم خمسة عشر يوماً (¬2) أم بضع عشرة ليلة (¬3)، وأقوى الأدلة تبين أنه كان خمساً وعشرين ليلة وتميل معظم كتب المغازي إلى ذكر هذه المدة تبعاً لرواية ابن إسحق (¬4). نجاح الحصار ومصير بني قريظة: ولما اشتد الحصار وعظم البلاء على بني قريظة، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وقد استشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر من الصحابة - وكان حليفاً لهم - فأشار إلى أن ذلك يعني ذبحهم. وقد ندم على مشورته هذه وربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي حتى قبلت توبته (¬5). أما بنو قريظة فقبلوا النزول على حكم سعد بن معاذ، ورأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس. فجيء بسعد محمولا لأنه كان قد أصابه سهم في ذراعه يوم الخندق فقضى فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قضيت بحكم الله (¬6) وبذلك تبرأ سعد بن معاذ من حلف بني قريظة ولم يقع في نفوس الأوس شيء رغم تحالفهم مع بني قريظة وقرب عهدهم بالإسلام، فسيدهم سعد هو الذي حكم فيهم، وكان عدد مقاتلتهم ¬

_ (¬1) الفتح الرباني لترتيب مسند الأمام أحمد 21/ 81 - 83 ورواته كلهم ممن يحتج بهم. وتاريخ الرسل والملوك 2/ 583 ومجمع الزوائد للهيثمي 6/ 136 - 138. (¬2) ابن سعد 3/ 74 بدون إسناد. (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 118 - 119 وفتح الباري 7/ 413 عن موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً. (¬4) وتاريخ الرسل والملوك 2/ 583 وابن حزم: جوامع السيرة 193، وابن عبد البر: الدرر 189 وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 69. (¬5) الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد 21/ 81 - 83 بإسناد حسن. (¬6) البخاري: الصحيح 2/ 120، 3/ 24 - 25 ومسلم: الصحيح 5/ 160 - 161.

الذين نفذوا فيهم الحكم أربعمائة (¬1)، ونجا ثلاثة من بني قريظة بدخولهم في الإسلام (¬2) فأحرزوا أنفسهم وأموالهم وربما نجا ثلاثة آخرون منهم بحصولهم على الأمان من بعض الصحابة أو لما أظهروه من وفاء بالعهد خلال الحصار، فقد وردت أخبار كثيرة في ذلك لكنها لا تبلغ درجة الاحتجاج بها، وقد حبس أسراهم في دار بنت الحارث (¬3)، ثم نفذ القتل في سوق المدينة حيث حفرت أخاديد وقتلوا فيها بشكل مجموعات (¬4)، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة (¬5) كانت قتلت صحابياً هو خلاد بن سويد برحى ألقتها عليه. أما الغلمان غير البالغين فقط أطلق سراحهم (¬6) - وبعد إنفاذ حكم القتل في مقاتلة بني قريظة شرع في تقسيم أموالهم وذراريهم بين المسلمين (¬7) وقد فصلت كتب المغازي كيفية تقسيم الأموال والذراري لكن ما ذكرته لا يرقى إلى درجة الاحتجاج به. وقد اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت عمرو بن خناقة من بين السبي لنفسه وهو قول ابن إسحق وابن سعد وغيرهم كثير وقال الواقدي ومن تابعه إنه تزوجها والأول أرجح. ¬

_ (¬1) أحمد: المسند 3/ 350 بإسناد حسن، وذكر ابن حجر الفتح 7/ 414 الاختلاف في عددهم ما بين أربعمائة إلى تسعمائة، وجمع بين الأقوال بأن الزيادة لأتباع بني قريظة من مواليهم وغيره. (¬2) البخاري: الصحيح 3/ 11 ومسلم: الصحيح 5/ 159 والثلاثة هم ثعلبة بن سعية وأسيد ابن سعية وأسيد بن عبيد. (¬3) وهذه رواية ابن إسحق (ابن هشام: السيرة 3/ 721) أما عروة فذكر أنها "دار أسامة بن زيد" والجمع بينهما أن الأسرى وضعوا في الدارين لكثرتهم. (¬4) أحمد: المسند 3/ 350 والترمذي: سنن 4/ 144/145. (¬5) ابن هشام: السيرة 3/ 722. وأحمد: المسند 6/ 277 وأبو داود: السنن 2/ 250. وإسناده حسن لذاته. (¬6) ابن هشام: السيرة 3/ 724 وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 76 - 77. (¬7) البخاري: الصحيح 3/ 11. ومسلم: الصحيح 5/ 159.

وقد جنح بعض المؤرخين المعاصرين إلى نفي الروايات المتعلقة بالعقوبات التي واجهتها بنو قريظة وتضعيفها (¬1). بزعم أن إثباتها يجرح المشاعر الإنسانية ويخدم الدعاية الصهيونية، وليس الأمر كذلك فإن أوثق المصادر الإسلامية قد أثبتت وقوع ذلك، ولم تكن العقوبة الشديدة إلا جزاء للخيانة العظمى التي ارتكبها بنو قريظة عندما غدرت بالمسلمين وتبرأت من حلفهم بدل من أن تشترك معهم في الدفاع عن المدينة المنورة بموجب نصوص المعاهدة بين الطرفين. وما زالت الدول تحكم بقتل الخونة المتواطئين مع الأعداء حتى في الوقت الحاضر. وكان جزاء بني قريظة من جنس عملهم حين عرضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل وأموالهم للنهب ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان أن عوقبوا بذلك جزاءا وفاقاً، وليس من داع للتنصل من حقائق التاريخ وتكذيب الروايات الصحيحة. ¬

_ (¬1) انظر بحث الدكتور وليد عرفات ضمن بحوث مؤتمر السيرة العالمي بقطر.

فتح خيبر وبقية المعاقل اليهودية في الحجاز

فتح خيبر (¬1) وبقية المعاقل اليهودية في الحجاز. خيبر واحة زراعية تقع شمال المدينة المنورة وتبعد عنها بحوالي 165كم (¬2) وترتفع عن سطح البحر بنحو 850 م، وهي من أعظم حرار بلاد العرب بعد حرة بني سليم (¬3) وامتازت خيبر بخصوبة أرضها ووفرت مياهها فاشتهرت بكثرة نخيلها. هذا سوى ما تنتجه من الحبوب والفواكه لذلك كانت توصف بأنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجلاً، وكان بها سوق يعرف بسوق النطاة تحميه قبيلة غطفان التي تعتبر خيبر ضمن أراضيها (¬4). ونظراً لمكانتها الاقتصادية فقد سكنها العديد من التجار وأصحاب الحرف وكان فيها نشاط واسع للصيرفة. وكان يسكنها قبل الفتح أخلاط من العرب واليهود، وزاد عدد اليهود فيها بعد إجلاء يهود المدينة في عهد السيرة (¬5). ولم يظهر يهود خيبر العداء للمسلمين حتى نزل فيهم زعماء بني النضير، الذين حز في نفوسهم إجلاؤهم عن ديارهم، ولم يكن الإجلاء كافياً لكسر شوكتهم، فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأبناء والأموال وخلفهم القيان ¬

_ (¬1) أفدت في حصر الروايات وانتقاء الصحيح منها في هذا المبحث من الرسالة التي أعدها الشيخ عوض أحمد الشهري، وعنوانها (مرويات عن غزوة خيبر) لنيل درجة الماجستير في قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكنت أحد أعضاء لجنة المناقشة، هي رسالة نافعة حبذا لو نشرت بعد تنقيحها. (¬2) هذا بالنسبة للطريق المسفلت، وهو يختلف عن الطريق التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر. (¬3) انظر الموسوعة العربية الميسرة 770 وحمد الجاسر: في شمال غرب الجزيرة 217. (¬4) حمد الجاسر: في شمال غرب الجزيرة 236 - 237. (¬5) حمد الجاسر في شمال غرب الجزيرة 238 - 239.

يضربن الدفوف والمزامير بزهاء وفخر مارئي مثله في حي من الناس في زمانهم (¬1). وكان من أبرز زعماء بني النضير الذين نزلوا في خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب فلما نزلوا دان لهم أهلها (¬2). وكان تزعم هؤلاء ليهود خيبر كافيا في جرها إلى الصراع والتصدي للانتقام من المسلمين، فقد كان يدفعهم حقد دفين ورغبة قوية في العودة إلى ديارهم داخل المدينة. وكان أول تحرك قوي ما حدث في غزوة الأحزاب حيث كان لخيبر وعلى رأسها زعماء بني النضير دور كبير في حشد قريش والأعراب ضد المسلمين وتسخير أموالهم في ذلك، ثم سعيهم الناجح في إقناع بني قريظة بالغدر والتعاون مع الأحزاب (¬3). فلما رد الله الأحزاب عن المدينة خائبين، اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعالجة الموقف في خيبر التي صارت مصدر خطر كبير على المسلمين. ويذكر ابن إسحق بإسناد فيه راو مجهول أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام ويذكرهم بما في كتبهم من ذكر بعثته عليه الصلاة والسلام (¬4).ولم يستجب اليهود بالطبع لدعوته، ولم يعتذروا عما فعلوه في تأليب الأحزاب فكان أن عمد الرسول إلى القضاء على زعمائهم الذين لعبوا دورا في التأليب عليه، ومنهم سلام بن أبي الحقيق الذي وجبه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ومعه رجال من الأنصار فقتلوه. وقد ساق البخاري قصة قتله مفصلة حيث احتال عبد الله بن عتيك في الدخول إلى بيت داخل حصنه وبين حرسه ورجاله حتى قتله في مخدعه (¬5)، مما ¬

_ (¬1) (¬2) ابن هشام السيرة 3/ 272. (¬3) ابن هشام السيرة 3/ 253 وقد نقل ذلك عن أئمة السيرة جامعاً لأسانيدهم وفيها راو مجهول وهي معلولة بالإرسال لكنها مما يتساهل فيها من الأخبار ولا يشترط لقبولها بلوغ درجة الصحة الحديثية. (¬4) ابن هشام: السيرة 2/ 195. (¬5) فتح الباري، كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع 7/ 340.

تاريخ الغزوة

يدل على رباطة جأشه وعلو همته وعظم استعداده للتضحية من أجل عقيدته. ولكن القضاء على بعض الزعماء لا يكفي لإزالة الخطر عن المسلمين، وكانت معاهدة الحديبية التي وقعت سنة ست من الهجرة بين المسلمين وقريش، قد أتاحت الفرصة أمام المسلمين ليتفرغوا لفتح خيبر. وقد ذهب كثير من المفسرين أن الله تعال وعد المسلمين بفتح خيبر وحيازة غنائمها في سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية، وذلك بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (¬1). تاريخ الغزوة: ذهب ابن إسحق إلى أنها في المحرم من السنة السابعة، وقال الواقدي إنها في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة بعد العودة من الحديبية إلى المدينة في ذي الحجة سنة ست (¬2) وذهب الإمامان الزهري ومالك إلى أنها وقعت في المحرم من السنة السادسة (¬3) وقد تابع المؤرخون هؤلاء الرواد في تحديد تاريخ الغزوة فاختلفت أقوالهم تبعا لذلك، والخلاف بين ابن إسحق والواقدي يسير أقل من ثلاثة أشهر. وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الإمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الأولى فمنهم من احتسب الأشهر التي سبقت ربيع أول وهو شهر الهجرة فأضاف سنة إلى تواريخ الحوادث التي في عصر السيرة ¬

_ (¬1) الفتح 18 - 21. (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 130 والواقدي: المغازي 2/ 634. (¬3) ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 1/ 33.

الطريق إلى خيبر

ومنهم من أهملها واعتبر ربيع أول بداية التقويم فأسقط سنة من تواريخ الحوادث، ولا بد من التفطن لهذا الأمر عندما يكون الاختلاف بين كتاب السيرة في تاريخ الحادث سنة، واحدة، وقد رجح الحافظ ابن حجر قول ابن إسحق على قول الواقدي (¬1). الطريق إلى خيبر: ولما توجه المسلمون بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كانوا يكبرون ويهللون رافعين أصواتهم فطلب منهم أن يرفقوا بأنفسهم قائلاً: "إنكم تدعون سمعياً قريباً وهو معكم" (¬2) وهذه الصورة توضح الروح المهيمنة على الجيش الإسلامي ودوافعه الإيمانية القوية ومعنوياته القتالية العالية وهو يتوجه نحو قلاع وحصون ملئت رجالاً وسلاحاً ومؤونة ومتاعاً، ولكن هل يحول ذلك كله دون المؤمنين وبلوغهم أهدافهم السامية؟. وقد انفرد الواقدي بتحديد الطريق التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر بصورة مفصلة، والواقدي خبير بمسالك الطرق وتحديد الأماكن التي جرت فيها أحداث السيرة فقد كان يتتبعها ويسأل عنها، ويقف عليها بنفسه، وقد تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة فسلك ثنية الوداع فزغابة فنقمى فالمستناخ فالوطة فعصر فالصهباء فالخرصة ثم سلك بين الشق والنطاة ثم المنزلة ثم الرجيع حيث انطلق منها لفتح خبير (¬3). والملاحظ أن الرجيع تقع شمال شرق خيبر ويبدو أن النبي قصد من ذلك أن يفصل خيبر عن الشام وعن حلفائها من غطفان. وصف فتح خيبر: وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم منطقة النطاة أولا وسقط حصناها ناعم والصعب بيد المسلمين ثم منطقة الشق وسقط حصناها أبي والنزار، والنطاة والشق في الشمال ¬

_ (¬1) الفتح 7/ 464. (¬2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/ 470. (¬3) مغازي الواقدي 2/ 639.

الشرقي من خيبر ثم فتح منطقة الكتيبة وأسقط حصنها المنيع (القموص) وهو حصن ابن أبي الحقيق. ثم افتتح منطقة الوطيح ثم منطقة السلالم وأسقط حصنيها وهذا التسلسل في فتح مناطق خيبر معتمد على وصف الواقدي (¬1)، ويختلف وصف ابن إسحق في التقديم والتأخير فهو يتفق مع الواقدي في أن بداية الفتح كانت لحصن ناعم من منطقة النطاة ويختلف في تقديم حصن القموص على حصن الصعب (¬2). وتدل الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل خيبر قبل انبلاج الفجر وصلى الفجر قربها ثم هاجمها بعد أن بزغت الشمس، وقد فوجئ الفلاحون من يهود الذين خرجوا إلى أعمالهم ومعهم مواشيهم وفؤوسهم ومكاتلهم بوجود المسلمين فقالوا: محمد والخميس!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" (¬3). فلجأ اليهود إلى حصونهم وحاصر المسلمون حصن ناعم، وسعت غطفان إلى نجدة يهود خيبر وكان حلفاءهم, ولكنهم لم يشتركوا في القتال فقد خافوا أن يهاجم المسلمون ديارهم، ويقرر الواقدي وصول غطفان إلى حصون خيبر، أما ابن إسحق فيقرر أنهم عادوا إلى ديارهم قبل وصولهم إلى خيبر، وينفرد الواقدي بأن النبي عرض على غطفان تمر خيبر لسنة مقابل انسحابهم وأنهم رفضوا ذلك ولا يصلح الاعتماد على هذه الرواية لضعف الواقدي مع تفرده بها (¬4). وحمل راية المسلمين في حصار ناعم أبو بكر رضي الله عنه لليومين الأولين، ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني دافع اللواء غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 2/ 639. (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 438. (¬3) البخاري: الصحيح، كتاب الصلاة 1/ 478، كتاب الأذان 2/ 89 ومسلم: الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 3/ 426. (¬4) مغازي الواقدي 3/ 650 وسيرة ابن هشام 3/ 438.

له، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى الفجر في اليوم التالي دعا علياً رضي الله عنه ودفع إليه اللواء فحمله رضي الله عنه في اليوم الثالث فتم الفتح على يديه (¬1) وتشير رواية إلى أن حامل الراية قبل على هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدل أبي بكر رضي الله عنه وهي رواية ضعيفة مدارها على ميمون البصري وهو ضعيف (¬2) وكذلك وردت رواية تفيد أن أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم تعاقبوا في الأيام الثلاثة على حمل الراية، وهي رواية ضعيفة لضعف راويها بريدة بن سفيان (¬3). وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يدعو يهود خيبر إلى الإسلام وما يجب عليهم من حق الله وقال له: (فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم) (¬4). مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان حريصاً على غنائم خيبر بل كان همه نشر العقيدة وإزاحة العقبات من طريقها. ولما سأله علي رضي الله عنه (يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسباهم على الله) (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد 5/ 353 ومستدرك الحاكم 3/ 37 ومجمع الزوائد 6/ 150 وقد حكم عليه الحاكم بصحة الإسناد ووافقه كل من الذهبي والهيثمي. (¬2) مسند أحمد 5/ 358 وكشف الأستار عن زوائد مسند البزار للهيثمي 2/ 338.والطبري 3/ 11 - 12، وتقريب التهذيب 2/ 292. (¬3) سيرة ابن هشام 3/ 445 والطبري: تاريخ 2/ 300 ومستدرك الحاكم 2/ 37 وانظر تهذيب التهذيب 1/ 433. وأوردها الطبراني (مجمع الزوائد 9/ 124) والبزار (ابن كثير: السيرة 3/ 355) من طريق أخرى فيها حكيم بن جبير وهو ضعيف كما في تقريب التهذيب 1/ 192. (¬4) مسلم: الصحيح، كتاب فضائل الصحابة 4/ 1872. (¬5) شرح النووي على مسلم 15/ 177.

وقد استشهد في حصار حصن ناعم محمود بن مسلمة الأنصاري حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن (¬1). وقد بارز على مرحباً هذا وقتله (¬2) وكان مرحب من أبطال يهود فأثر مقتله في معنوياتهم. ووردت عدة روايات تفيد تترس علي رضي الله عنه بباب عظيم كان عند حصن ناعم بعد أن أسقط يهودي ترسه من يده، وكلها روايات ضعيفة (¬3) وأطراحها لا ينفي قوة علي وشجاعته، فيكفيه ما ثبت في ذلك وهو كثير. وقد استغرق فتح حصن ناعم عشرة أيام (¬4). وتوجه المسلمون بعده إلى حصن الصعب بن معاذ في منطقة النطاة وكان فيه خمسمائة مقاتل وفيه الطعام والمتاع وكان المسلمون في ضائقة من قلة الطعام، وقد حمل الراية في فتحه الحباب ابن المنذر وأبلى بلاء حسناً، وقاوم اليهود مقاومة عنيفة واستغرق الفتح ثلاثة أيام، ثم فتح المسلمون حصن قلعة الزبير وهو آخر حصون النطاة، وقد اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود، وكان حصن قلعة الزبير منيعا مرتفعا، وقد قطع المسلمون مجرى الماء عنهم واضطروهم إلى النزول للقتال وأصابوا منهم عشرة وفتح الحصن بعد حصار ثلاثة أيام، وانتقل المسلمون من الرجيع إلى المنزلة بعد أن تخلصوا من أهل النطاة وهم أشد اليهود. ولا شك أن موقف المسلمين قوي كثيراً بعد هزيمة أهل النطاة وحيازتهم أطعمتهم ومتاعهم، بالإضافة إلى ما أصاب بقية يهود خيبر من رعب لسقوط منطقة النطاة. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 3/ 438 ومغازي الواقدي 2/ 645. (¬2) مسلم: الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد 3/ 1433 (¬3) الفتح الرباني للساعاتي 21/ 120 وسيرة ابن هشام 3/ 446 - والسيرة لابن كثير 3/ 359 والإصابة لابن حجر 2/ 509. (¬4) مغازي الواقدي 2/ 657.

وقد توجه المسلمون لفتح منطقة الشق وهي تحتوي على عدة حصون منها حصن أبي وحصن النزار، وقد بدأ المسلمون بفتح حصن أبي وجرت مبارزات فردية أما الحصن اصيب فيها مقاتلة يهود ثم اقتحم المسلمون الحصن وحازوا ما فيه من طعام ومتاع، وتمكن بعض مقاتلة يهود من التحول إلى حصن نزار وتحصنوا فيه وقاتلوا المسلمين بالنبل والحجارة ثم تهاوت مقاومتهم أمام حصار المسلمين حتى فتح الحصن وفر بقية أهل الشق من حصونهم إلى منطقة الكتيبة في الجنوب الغربي من خيبر وتحصنوا في حصن القموص المنيع، وتحصن بعض فلهم من أهل حصني الوطيح والسلالم فحاصرهم المسلمون أربعة عشر يوما حتى طلبوا الصلح دون أن يقع قتال إذ إن حصن نزار كان آخر حصن جرى فيه قتال وانهارت بعده مقاومة اليهود فاقتصروا على التحصن في حصونهم وانتهي التحصن دائما بطلب الصلح. ووصف فتح حصون الصعب والزبير ومنطقتي الشق والكتيبة يعتمد على الواقدي (¬1). الذي انفرد بتقديم صورة واضحة عن أحداث فتح هذه المناطق، وهو إخباري غزير المعلومات رغم ضعفه عند المحدثين، ولكن مثل هذه الأخبار مما يتساهل فيه. أما روايات ابن إسحق في وصف فتح خيبر فهي مضطربة وتنقصها الدقة إذا ما طوبقت مع مواقع حصون خيبر. وقد ذكرت رواية صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة (¬2). ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل خيبر. وكان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فيه جلبهم. ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 2/ 259، 670. (¬2) أي الذهب والفضة والسلاح والدروع.

قال: فقال لسعية (¬1) أين مسك حيي بن أخطب؟. قال: أذهبته الحروب والنفقات. فوجدوا المسك. فقتل ابني أبي الحقيق، وسبي نساءهم وذراريهم (¬2). ويذكر ابن إسحق دون إسناد أن الذي أخفى الكنز وسئل عنه هو كنانة بن الربيع (¬3) ويذكر ابن سعد كنانة وأخوه الربيع (¬4)، وفي إسناد ابن سعد محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو صدوق سيىء الحفظ جداً (¬5). والثابت أن يهود حسن القموص سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلح ونكثوا العهد فحاز أموالهم. أما أهل حصني الوطيح والسلالم فإنهم لما أيقنوا بعدم جدوى المقاومة بعد سقوط النطاة والشق والقموص سألوا النبي صلى الله عليه وسلم "أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ففعل" (¬6). وبذلك سقطت سائر خيبر بيد المسلمين، وسارع أهل فدك في شمال خيبر إلى طلب الصلح وأن يسيرهم ويحقن دماءهم ويخلوا له الأموال فوافق على طلبهم (¬7) فكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وحاصر المسلمون وادي القرى، وهي مجموعة قرى بين خيبر وتيماء ليالي (¬8) ثم استسلمت فغنم المسلمون أموالاً كثيرة وتركوا الأرض والنخل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر وصالحت تيماء على مثل صلح خيبر ووادي القرى (¬9). ¬

_ (¬1) عم حيي بن أخطب (عون المعبود 8/ 241). (¬2) أبو داود: السنن، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في حكم أرض خيبر 3/ 408. (¬3) ابن هشام - السيرة 3/ 449. (¬4) ابن سعد: الطبقات 2/ 112. (¬5) تقريب التهذيب 2/ 184. (¬6) (¬7) سيرة ابن هشام 32/ 449 (¬8) تاريخ خليفة 85 نقلاً عن ابن إسحق. (¬9) ابن القيم: زاد المعاد 1/ 405.

وبذلك انهارت سائر المعاقل اليهودية أمام المسلمين. وخبر طلب الصلح من قبل أهل حصني الوطيح والسلالم وأهل فدك أورده ابن إسحق بسند منقطع لا يصلح للاحتجاج به في أحكام السياسة الشرعية، وصلح لوصف الوقائع التأريخية فرواية عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم مشهور بمعرفة المغازي. وقد بلغ قتلى يهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلاً (¬1). وسبيت نساؤهم وذراريهم، ووقعت في السبي صفية بنت حيي بن أخطب أم المؤمنين رضي الله عنها فاعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها (¬2). واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحق (¬3)، وأما الواقدي فذكر أنهم خمسة عشر رجلا (¬4) وهذا من خذلان الله تعالى ليهود فإن قتلاهم وهم يدافعون في حصون منيعة أكثر بكثير من شهداء المسلمين المهاجمين في ساحات مكشوفة!! وقد صح أن امرأة يهودية أهدت النبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية قد سمتها، وأكثرت السم في الذراع عندما عرفت أنه يحبها، فلما أكل من الذراع أخبرته أنها مسمومة فلفظ اللقمة، واعترفت المرأة، فلم يعاقبها (¬5)، وقد قتلها بعد ذلك عندما مات بشر بن معرور من أثر السم الذي ازدرده مع الطعام (¬6). ومما أعان على فتح خيبر تفرغ المسلمين بعد صلح الحديبية لقتال يهود خيبر دون أن تنجدهم قريش، وتخاذل قبيلة غطفان حليفة يهود خيبر عن نجدتهم خوفاً على ديارهم من المسلمين. وقد أصابت الكآبة والغيظ قريشاً لما بلغها خبر انتصار المسلمين على يهود خيبر (¬7) وهو أمر ما كانت تتوقعه لما هو مشهور من ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 2/ 699. (¬2) صحيح مسلم، كتاب النكاح 2/ 1045. (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 804 - 805 حيث يذكر قائمة بأسمائهم. (¬4) مغازي الواقدي 2/ 700. (¬5) البخاري الصحيح 5/ 176 ومسلم: الصحيح 7/ 14 - 15. (¬6) الحاكم المستدرك 3/ 220. وابن هشام: السيرة 2/ 240 - 241. (¬7) مسند أحمد 3/ 138 وموارد الظمآن 413.

حصانة قلاع اليهود وحصونهم في خيبر وكثرة مقاتليهم وسلاحهم. وكذلك كان صدى فتح خيبر مدوياً في أوساط القبائل العربية الأخرى التي أدهشها الخبر وخذلها النصر، فكفكفت من عدائها، وجنحت إلى المسالمة والموادعة، ففتحت آفاق جديدة أمام انتشار الإسلام. عدم إجلاء يهود خيبر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبقى يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم ولهم نصف ثمارها. على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا وكان اليهود قد بادروا بعض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم فوافق على ذلك بعد أن هم بإخراجهم منها (¬1). وهمه بإخراجهم دليل على أن خيبر كلها فتحت عنوة لأن من صالح منهم صالح على حقن دمه وإجلائه منها. فأقاموا فيها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث من قبله رجلاً لتقدير الثمار وقبض حصة المسلمين، وقد بعث الله عبد الله بن رواحة مرة فقدر الثمار بعشرين ألف وسق من تمر ثم خيرهم بين أخذها حسب تقديره أو تركها له وفق ذلك فقالوا متعجبين من عدالته: هذا الحق وبه تقوم السموات والأرض قد رضينا أن نأخذه بما قلت (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب معاملة النبي أهل خيبر 7/ 496 وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من التمر والزرع 3/ 1186، 1187. وأبو داود: سنن، كتاب البيوع، باب في المساقاة 3/ 697 ولا يتعارض ذلك مع رواية أخرى في سنن أبي داود، كتاب الخراج، باب ما جاء في حكم أرض خيبر 3/ 412 تقول (فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ولم يكن لهم عمال يكفونهم عملها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم) إذ يمكن التوفيق بأن اليهود عرضوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه رد عليهم بعد أن تأمل في عرضهم ورأى ما فيه من مصلحة للمسلمين فدعاهم وعاملهم. (¬2) الفتح الرباني في ترتيب مسند أحمد 21/ 125 وهو حديث صحيح.

أثر فتح خيبر

ولكن وردت رواية أخرى صحيحة تفيد أنه قدرها بأربعين ألف وسق فأخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق (¬1). والجمع بين الروايتين الصحيحتين ممكن لأن المراد بالأربعين حصة اليهود والمسلمين، وبالعشرين حصة أحدهما فقط. أثر فتح خيبر: ولا شك أن فتح خيبر عاد على المسلمين بالخير الكثير وعزز إمكانياتهم الاقتصادية بدخل سنوي دائم حتى قالت عائشة رضي الله عنها معقبة على فتح خيبر: (الآن نشبع من التمر) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (ما شبعنا حتى فتحنا خيبر) (¬2). ولا شك أن هذه الأقوال كافية لتوضيح ما عاد به فتح خيبر من تعزيز لوضع المسلمين الاقتصادي ولإيضاح حقيقة الوضع الاقتصادي قبل الفتح، ومع شدة حاجة المسلمين قبل خيبر فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفضل إسلام يهود خيبر على كل غنيمة كما يتضح من وصيته لعلي رضي الله عنه، ولم يكن راغباً في إفناء يهود أو إجلائهم لذلك قبل الصلح لما عرض عليه يهود حصون القموص والوطيح والسلالم ذلك، كما قبل بعد الصلح - الذي وافق بموجبه اليهود على إجلائهم من خيبر - أن يبقيهم في خيبر بناء على طلبهم، وكل ذلك يدل على الروح السمحة والعدالة السامية، كما أن ذلك حقق للدولة الإسلامية مصالح عليا اقتصادية وعسكرية حيث تمت المحافظة على طاقات المسلمين العسكرية ووجهوا إلى الجهاد الدائم من أجل توحيد جزيرة العرب تحت راية الإسلام ولم يتحولوا إلى الفلاحة التي تحتاج إلى إدامة العمل في استصلاح الأرض ورعاية الزرع والنخل ¬

_ (¬1) أبو داود سنن، كتاب البيوع، باب الخرص 3/ 700 وأبو عبيد: الأموال 198. والوسق: ستون صاعاً والصاع: أربعة أمداد والمد 543,4 غم. (¬2) صحيح البخاري: كتاب المغازي باب غزوة خيبر 7/ 495.

كيفية توزيع غنائم خيبر

مما يستنفذ طاقتهم، وكذلك تمت الإفادة من خبرة وطاقة الفلاحين اليهود للحفاظ على مستوى الإنتاج الزراعي في خيبر لأنهم يمتلكون خبرة الأرض وزراعتها، مما يوفر للمسلمين حصة كبيرة يمكن الإفادة منها في تجهز الجيوش والقيام بالنفقات الأخرى التي تحتاجها الدولة. وقد حاز المسلمون الأموال المنقولة، فكان الرجل يأخذ حاجته من الطعام دون أن يقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس إذ كان قليلاً (¬1). خلافاً لما يذكره الواقدي من كثرته وأنه يكفي المسلمين يأكلون ويعلفون دوابهم شهراً أو أكثر (¬2). كيفية توزيع غنائم خيبر: وقد وردت آية قرآنية توضح أن غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين لا يشركهم فيها أحد وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬3). وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أرض خيبر إلى نصفين، نصف لما ينزل به من النوائب والوفود ونصف للمسلمين من أهل الحديبية، وبلغ عدد الأسهم كلها ستة وثلاثين سهماً (¬4) منها ثمانية عشر سهماً، قسمت على أهل الحديبية، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهماً (¬5). ¬

_ (¬1) الساعاتي: الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد 21/ 125. وأبو داود: السنن، كتاب الجهاد، باب النهي عن النهي إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو 3/ 151 والحاكم: المستدرك 2/ 134. (¬2) مغازي الواقدي 2/ 665. (¬3) سورة الفتح آية 15 وانظر: تفسير الطبري 26/ 50. (¬4) عوض الشهري: مرويات غزوة خيبر ص 195. (¬5) سنن أبي داود، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر 3/ 413 والحاكم: المستدرك 2/ 131 وصححه وأقره الذهبي.

نماذج من المجاهدين

ولم يغب عن فتح خيبر من أصحاب بيعة الحديبية أحد سوى جابر بن عبد الله ومع ذلك أعطى سهما مثل من حضر ولكن هذه الرواية ضعيفة وردت من طريق ابن إسحق دون إسناد (¬1). وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين عادوا منها إلى المدينة ووصلوا خيبر بعد الفتح من غنائم خيبر، وكانوا ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً بقيادة جعفر بن أبي طالب، ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم (¬2). وربما يرجع استثناؤهم إلى أنهم حبسهم العذر عن شهود بيعة الحديبية ولولا ذلك لشهدوها. ولعله استرضى أصحاب الحق من الغانمين في الإسهام لهم، كما أعطى أبا هريرة وبعض الدوسيين من الغنائم برضا الغانمين حيث قدموا عليه بعد فتح خيبر، ولم يشتركوا في القتال (¬3). نماذج من المجاهدين: وقد صح أن أعرابياً شهد فتح خيبر أراد النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المعركة أن يقسم له قسماً وكان غائباً، فلما حضر أعطوه ما قسم له فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلاً. ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم بجبته وصلى عليه ودعا له، فكان مما قال: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، وأنا عليه شهيد) (¬4). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 3/ 467. (¬2) صحيح البخاري كتاب فرض الخمس 6/ 237 وصحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة 4/ 1946. (¬3) عمر بن شبة: تاريخ المدينة 105. (¬4) مصنف عبد الرزاق 5/ 276.

إلا أن هذه الرواية شاهد قوي على ما يبلغه الإيمان من نفس أعرابي ألف حياة الغزو والسلب والنهب في الجاهلية فإذا به لا يقبل ثمناً لجهاده إلا الجنة فكيف يبلغ الإيمان إذاً من نفوس الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيقال إنهم فتحوا ديار يهود طمعاً في أرض ومال؟ أيتهمون بأن التعصب الديني دفعهم لطرد يهود وهم الذين دعوهم للإسلام قبل القتال وقبلوا أن يعطوهم الأمان بعد الحصار وأبقوهم في خيبر بعد الاستسلام فمكثوا فيها رغم قتلهم عبد الله بن سهل الأنصاري حيث اتهمه بقتله المسلمون، فحلفوا أنهم لم يقتلوه، فوداه الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قضية مقتله شرعت القسامة - وأقرهم بخيبر فاستقروا. حتى خلافة عمر رضي الله عنه فبدت منهم العداوة والبغضاء وغدروا بالمسلمين. ففدعوا (¬1) يدي ورجلي عبد الله بن عمر وهو نائم في سهمه من خيبر. فأجلاهم عمر رضي الله عنه من خيبر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من التمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال. وأخذ المسلمون ضياعهم من مغانم خيبر فتصرفوا فيها. وهكذا انتهى دور اليهود العسكري والاقتصادي في الحجاز وتفرغ المسلمون لإخضاع قبائل العرب المشركة ولتوحيد جزيرة العرب تحت راية الإسلام. ¬

_ (¬1) الفدع: عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم (المعجم الوسيط مادة "فدع").

تمَّ بعونه تعالى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله: الفصل الثالث الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة الجهاد ضد المشركين

السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النوبية تأليف الدكتور أكرم ضياء العمري الجزء الثاني الناشر مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الثالث الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة الجهاد ضد المشركين

الفصل الثالث الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة الجهاد ضد المشركين

تشريع الجهاد

تشريع الجهاد الجهاد مصطلح شرعي يراد به القتال في سبيل الله لإقامة نظام عادل يلتزم بأحكام الشريعة ويسعى لتحقيق أهداف الإسلام في المعمورة .. ولم يشرع الجهاد في الإسلام في العهد المكي، بل أمر المسلمون بألا يواجهوا المشركين بالقوة وألا يحملوا السلاح في وجوههم، فكان الشعار المعلن آنذاك {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬1) وهو الموقف الذي اتخذ عندما كانت الدعوة جديدة مثل النبتة الصغيرة تحتاج إلى الماء والغذاء لترسخ جذورها وتقوي على مواجهة العواصف، فلو واجهت الدعوة آنذاك المشركين بالسيف، فإنهم يجتثونها ويقضون عليها من أول الأمر، فكانت الحكمة تقتضي أن يصبر المسلمون على أذى المشركين، وأن يتجهوا إلى تقويم أنفسهم وزيادة إيمانهم بدعوتهم عن طريق العبادة ومجاهدة النفس ودعوة الآخرين لتكثير سواد المسلمين. ولم يكن المسلمون متميزين عن المشركين في معيشتهم اليومية، وليس لهم معسكر ينحازون إليه عند إسلامهم، وإن كانوا يجتمعون بينهم في دار الأرقم وغيره لتلقي تعاليم الإسلام. ولو كان الجهاد قد فرض في تلك الفترة لجرت معركة في كل بيت أسلم منه أحد. فلما هاجر المسلمون إلى المدينة وآزر الأنصار دعوة الإسلام وصارت للمسلمين أرض يمتلكون السيادة عليها شرع الله تعالى الجهاد، وكان الإذن بالقتال دفاعا عن النفس أولى المراحل وذلك في الآية الكريمة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬2). ثم أمر المسلمون بالقتال دفاعا عن النفس والعقيدة في الآية الكريمة {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬3) وكانت هذه هي المرحلة الثانية في تشريع الجهاد. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 77. (¬2) الحج 39. وانظر عن سبب النزول مسند أحمد 7/ 122 وابن القيم: زاد المعاد 2/ 58. (¬3) سورة البقرة: آية 190. والآية محكمة إن أريد بها عدم الاعتداء بقتل النساء والشيوخ والأطفال ومن يرفع السلاح بوجه المسلمين (نواسخ القرآن لابن الجوزي 180).

وهو بذلك يختلف عن القتال والحروب التي شهدها التاريخ الإنساني والتي استهدفت تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية لأفراد أو جماعات طموحين يريدون العلو في الأرض، فالهدف وضوابط الحق والعدل والرحمة التي احتفت بالجهاد ميزته عن أنواع الحروب الأخرى {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} (¬1). (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً) (¬2). ثم كانت المرحلة الثالثة وتتمثل في الأمر بقتال المشركين وابتدائهم به، وذلك للتمكين للعقيدة الإسلامية من الانتشار دون أية عقبات تضعها قوى الشرك، ولتصبح كلمة المسلمين هي العليا في الأرض، وبذلك لا يقوى أحد على فتنة المؤمنين وصرفهم عن دينهم حيثما كانوا ويظهر هذا التوجيه الأخير في الآيات الكريمة الآتية: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (¬3). {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬4). وكتب معناها فرض كما في الآية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}. {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية 76. (¬2) حديث رواه مسلم في صحيحه 3/ 1357. (¬3) سورة الأنفال: آية 39. (¬4) سورة البقرة: آية 216 (¬5) سورة التوبة: آية 29.

إن الجهاد يمثل فريضة من أبرز الفرائض الإسلامية، وهو يوضح الهدف الكبير الذي يسعى المسلمون إلى تحقيقه وهو حرية اعتناق الناس للإسلام في سائر أرجاء الأرض وتكوين القوة العسكرية والسياسية اللازمة لدعم هذه الحرية وحماية المسلمين الجدد، ورغم أن اعتناق الإسلام على صعيد الأفراد لا يمكن أن يتحقق بالقوة إذ (لا إكراه في الدين) ولكن الإعلان عنه والتمكين له وحماية معتنقيه في سائر المعمورة يقتضي التفوق على القوى السياسية والعسكرية العالمية الأخرى، خاصة في العالم الذي ظهر في الإسلام قبل أربعة عشر قرناً حيث كانت الحكومات المعاصرة تمنع أتباعها من اعتناق الإسلام وتوقع بالمسلمين الفتنة مثل ما حدث من قبل الملأ من قريش بمكة ومثل موقف الفرس والروم المتاخمين لجزيرة العرب في الشام ومصر. وقد أوضحت النصوص الإسلامية أن تشريع الجهاد ليس مؤقتا بظرف طارئ وإنما هو فرض ديني دائم ففي الحديث (الجهاد باق إلى يوم القيامة) و (من مات ولم يغزو ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق) (¬1). وهو من فروض الكفاية إلا إذا غزيت ديار الإسلام في عقرها فيتعين على الجميع الدفاع عنها. وقد خصصت كتب الفقه أقساماً خاصة لأحكام الجهاد المتنوعة مثل ما خصصت للصلاة والصوم والحج والزكاة مما يدل بوضوح على دوام هذه الفريضة على الأمة الإسلامية مثل بقية الفروض والأركان الأخرى. وكان الجهاد يوحد الجبهة الداخلية للأمة الإسلامية ويصرف طاقاتها في مواجهة أعدائها، وكان النداء بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله والمساواة بين الناس وتكريم الإنسان أيا كان لونه أو جنسه يسبق قوات المسلمين حيثما توجهت، فيجتذب النداء بالمبادئ السامية القلوب قبل أن تصدعها السيوف وهذا هو السر في انتشار الإسلام وانتصار قواته. ¬

_ (¬1) مسلم: الصحيح 3/ 1517.

وقد حاول بعض الدارسين لحركة الفتوح الإسلامية أن يضعوا تفسيرات متنوعة لنجاحها وامتدادها السريع، فذهب كابتاني وبعض المستشرقين الآخرين إلى تفسيرها بالدافع الاقتصادية، بدعوى أن جزيرة العرب تعرضت لتغيرات مناخية أدت إلى نضوب المياه والجفاف مما استدعى خروج الموجات البشرية منها إلى الهلال الخصيب حيث تتوافر دواعي الرخاء الاقتصادي. وأن حركة الفتح الإسلامي موجه من هذه الموجات. ولكن الدراسة الموضوعية تبين أن الجزيرة العربية لم يحدث فيها تغير مناخي قبيل الإسلام ولم يحدث انقلاب هام في الظروف الاقتصادية المتنوعة ولم تنتقل القبائل العربية بهذا الحجم الهائل إلى الهلال الخصيب إلا بعد ظهور الإسلام وتوحدها تحت رايته وانطلاقها لتحقيق مبادئه. وكذلك يلاحظ من دراسة الرسائل المتبادلة بين الخلفاء وقادة الفتوح ومن متابعة أخبار الفتح الأخرى، مدى سيطرة العقيدة على الجند وتحقيقها للانضباط الدقيق في صفوهم، وأن المثل العليا والرغبة في هداية الناس كانت تمثل الروح المهيمنة على القيادة ومعظم الجيش، ولا يمنع ذلك من القول بأن الغنائم كانت تحفز بعض المقاتلين وتوسع عدد المشاركين، خاصة من الأعراب، لكن تفسير حركة الفتح ومعرفة الروح العامة المسيطرة على تفكير القيادة التي خططت للفتح ينبغي ألا تتأثر كثيراً بمواقف فردية لبعض الأعراب من المقاتلين، ولا شك أن القيادة كانت تحرص على هداية الناس ولو فوت ذلك عليها الغنائم الكثيرة. وإن تخفيض الضرائب على سكان المناطق المفتوحة، وإبقاء الأملاك الشخصية والمحافظة على البنية الاقتصادية لها يدل على أن روح الهداية والإعمار كانت تتحكم في موقف الفاتحين. وهناك تفسير آخر لحركة الفتح يتمثل بالعوامل السياسية، فإن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بمنع حركات الردة ومحاولات تمزيق كيان الأمة الإسلامية جعلهم يوجهون الطاقات في حركة فتح شاملة بدل أن تنصرف إلى

الفتن والشقاق مما أدى إلى وحدة الصف الداخلي، ورغم أن هذا التصور يبين جانبًا إيجابيًا، ويكشف عن بعض الحكمة من تشريع الجهاد، إلا أنه لا يمكن أن تفسر به حركة الفتح الإِسلامي، فإن أكثر الشقاق والفتن كان يقوم بها الأعراب المرتدون في خلافة أبي بكر الصديق وقد منعهم أبو بكر بعد إخضاعهم لسلطان الدولة من المشاركة في الفتوح وجردهم من السلاح تأديبًا، لعدم الوثوق بإخلاصهم، ولأنهم لا يصلحون أن يمثلوا طلائع الفتح لعدم استكمالهم لمقومات الشخصية الإسلامية تصورًا وسلوكًا مما لا يعطي سكان المناطق المفتوحة صورة صحيحة عن الإسلام، فكان الاعتماد على سكان المدن (المدينة - مكة - الطائف) التي استقرت فيها معاني العقيدة وآثارها التربوية العميقة، وكان سائر القادة من الصحابة رضوان الله عليهم. وهناك تفسير آخر لحركة الفتح يتسم بالطابع التبريري، وهو أن حركة الفتح ذات صبغة دفاعية وأنها استخدمت الهجوم للدفاع عن الدولة الإسلامية أمام خصومها الأقوياء، وهذا التفسير يسود معظم الكتابات التي حررتها أقلام المؤرخين العرب والمسلمين، فهم أمام المفاهيم السليمة التي سادت إيديولوجيات القرن العشرين، وكراهية الناس للحرب لآثارها السيئة في دمار الحضارات وإهلاك البشر وابتلائهم بالعاهات والتشرد، ولظهور المؤسسات الدولية المعنية بالتوفيق بين مصالح الدول المتعارضة والمساعدة في إقرار السلام الدولي وإحلال التفاوض والحوار لحل المشاكل الدولية بدلًا من الحروب. فروح العصر جعلت كثيرًا من الكتاب عن حركة الفتح ينحون منحًى تبريريًا يهدف إلى التوفيق بين روح العصر الحديث وفكرة الجهاد في الإسلام، ويرجع ذلك إلى عوامل نفسية وفكرية متداخلة منها سيطرة مفاهيم الحضارة الغربية على الكثير من المتعلمين من المسلمين، بسبب الغزو الفكري، وما ولده ذلك من الإحساس بالضعف أمام الغرب ومحاولة تبرير كل ما يتعارض مع روح حضارته وتصوراتها الفكرية السلوكية، ومنها عدم فهم حقيقة الجهاد وأهدافه بحيث يتميز

في الأذهان بوضوح أن الجهاد لا يهدف إطلاقًا إلى فرض العقيدة الإسلامية على الناس بل يهدف إلى إزالة معوقات انتشار الإسلام في الأرض سواء بإضعاف القوى السياسية المعاصرة أو القضاء عليها بحيث يتم استعلاء المسلمين في الأرض وتمتنع فتنة أحد عن الإسلام حيثما كان. إن ارتباط الجهاد بفرض العقيدة على الناس مبعثه الدعاية والتمويه الذي شحنت به الدراسات الاستشراقية، وإن فك الارتباط بين الاثنين ضروري لتصور الحقيقة، ويكفي أن القرآن الكريم أوضح بما لا يقبل الشك حرية الناس في اختيار الإسلام أو البقاء على النصرانية واليهودية حتى داخل المجتمع الإسلامي وضمن سيادة الدولة الإسلامية، وهذا ما تثبته آيات القرآن الكريم وتدعمه الوقائع التاريخية الصحيحة حيث رحبت الشعوب بتحرير الإسلام لها من سيطرة الرومان والفرس، وعبر القبط في مصر واليعاقبة في الشام عن سرورهم بالحرية الدينية التي أعلنها الإسلام، ولولا هذا الإعلان الصادق لحرية المعتقد لذابت سائر الأقليات الدينية في المسلمين ولما حافظت على وجودها حتى الوقت الحاضر رغم مرور أربعة عشر قرنًا على ظهور الإسلام. إن دراسة الواقع التأريخي لانتشار الإسلام تكشف عن حقيقة اعتناق الناس للإسلام منذ عصر السيرة، وأنه كان يتم في ظروف السلم بنطاق أوسع بكثير من ظروف القتال، فعدد من دخله بعد صلح الحديبية كان أضعاف عدد من دخله قبل الصلح. وكانت البعثات الدعوية في عصر السيرة إلى البوادي تترى رغم الأخطار المحدقة بها، وقد استمر انتشار الإسلام بعد انحسار سلطانه العسكري والسياسي، ومازال يمتد في العصر الحديث فلا شك إذًا في تهافت مقولة إن الإسلام انتشر بالسيف. إن وصف حركة الفتح بأنها دفاعية هو محاولة تبريرية لا تصمد لأية مناقشة جادة، فهل اعتدى سكان الأندلس أو ما وراء النهر على حدود المسلمين ليفتحوها؟ وهل تأمين الحدود يقتضي التوغل في القارات الثلاث، آسيا وأوربا

وأفريقيا حيث وقعت الأحداث الخطيرة والمواقع الحاسمة بعيدًا عن جزيرة العرب، فكانت "توربواتيه" جنوب فرنسا وكان فتح كريت وجنوب إيطاليا وكانت موقعة طراز على نهر طلس في ما وراء النهر وأخيرًا حصار فيينا .. لذلك فإن التفسير الصحيح لحركة الفتح أنها تطبيق لفريضة دينية هي الجهاد الذي وصفه الحديث الشريف بأنه ذروة سنام الإسلام.

[هذه الصفحة تحتوي على خريطة لـ: طلائع حركة الجهاد قبل غزوة بدر الكبرى].

طلائع حركة الجهاد

طلائع حركة الجهاد تتمثل طلائع حركات الجهاد في غزوات وسرايا صغيرة اتجهت إلى مواقع غربي المدينة واستهدفت ثلاثة أمور، تهديد طريق تجارة قريش إلى الشام، وهي ضربة خطيرة لاقتصاد مكة التجاري. والثاني: عقد المحالفات والموادعات مع القبائل التي تسكن المنطقة لضمان تعاونها أو حيادها على الأقل - في الصراع بين المسلمين وقريش وهي خطوة هامة يعتبر تحقيقها نجاحًا للمسلمين، لأن الأصل أن هذه القبائل تميل إلى قريش وتتعاون معها، إذ بينها محالفات تاريخية سماها القرآن الكريم بالايلاف، سعت قريش من خلالها لتأمين تجارتها مع الشام واليمن، ثم إن هذه القبائل لها مصالح وثيقة مع قريش سادنة البيت الحرام حيث يحج العرب جميعًا إلى الأصنام حوله هذا فضلًا عن وحدة العقيدة بين هذه القبائل وقريش واشتراك الجميع في معاداة الإسلام، فلا شك إذًا في أن تمكن المسلمين من موادعة هذه القبائل وتحييدها خلال الصراع يعتبر نجاحًا كبيرًا لهم في تلك المرحلة. والثالث: إبراز قوة المسلمين في المدينة أمام اليهود وبقايا المشركين، فالمسلمون صاروا لا يقتصرون على السيادة في المدينة بل يتحركون لفرض سيطرتهم على أطرافها وما حولها من القبائل، ويؤثرون في مصالحها وعلاقتها. وأولى الغزوات هي غزوة الأبواء (¬1)، تسمى بغزوة ودّان أيضًا، وهما موقعان متجاوران بينهما ستة أميال أو ثمانية، والأبواء تبعد عن المدينة حوالي أربعة وعشرين ميلًا، ولم يقع قتال في هذه الغزوة بل تمت موادعة بني ضمرة (من كنانة)، وكانت هذه الغزوة في 12 صفر سنة اثنتين. وقد عاد الجيش إلى ¬

_ (¬1) ورد في صحيح البخاري من حديث زيد بن أرقم أن أول غزوة العشيرة، ووفق الحافظ ابن كثير بينه وبين رواية ابن إسحق بأن المقصود أول غزوة غزاها زيد بن أرقم مع الرسول هي العشيراء (البداية والنهاية 3/ 246).

المدينة (¬1) بعد أن مكث خارجها إلى بداية شهر ربيع الأول في رواية المدائني (¬2) ويذكر عروة بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية من الأبواء تضم ستين رجلًا بقيادة عبيدة بن الحارث (¬3)، في حين يذكر ابن إسحاق أن السرية أرسلت إلى سيف البحر بعد العودة إلى المدينة، وأن ثمة سرية أخرى من ثلاثين رجلًا بقيادة حمزة بن عبد المطلب اتجهت إلى سيف البحر أيضًا في نفس الوقت للتعرض إلى قافلة قرشية لكن السريتين لم تشتبكا مع القرشيين في قتال، فقد حالت القبائل الموادعة للطرفين دون ذلك في سرية حمزة، وجرى تراشق بالسهام فقط بين سرية عبيدة والقرشيين (¬4). ولا شك أن السريتين استهدفتا تهديد تجارة قريش بالدرجة الأولى، وهو تحذير أولى لقريش بأن تجارتها أصبحت في خطر ما لم تغير موقفها المتعنت من الإسلام، وفي ربيع الثاني استمر المسلمون في حملاتهم باتجاه الطريق التجاري أيضًا، فكانت غزوة بواط إلى رضوى قرب ينبع في مائتي مقاتل لاعتراض قافلة تجارية قرشية، ثم غزوة العشيرة (بينبع) في جمادى الأولى ولم يقع قتال في رضوى والعشيرة لكنه جرت موادعة بني مدلج في العشيرة (¬5)، وقد تعرض كرز بن جابر الفهري في جمادى الآخرة في أعقاب العشيرة إلى أطراف المدينة ونهب بعض الإبل والمواشي فطارده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سفوان من نواحي بدر فسميت الغزوة ببدر الأولى. وقد تمكن كرز من الإِفلات من حملة المطاردة (¬6)، لكن الحادث أكد للمسلمين ضرورة تأمين العلاقة مع جيران المدينة فاستمرت الحملات، ولم ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 279 وتاريخ خليفة بن خياط 56 من رواية ابن إسحاق دون إسناد. (¬2) تاريخ خليفة 56. (¬3) فتح الباري 7/ 279. (¬4) تاريخ خليفة 61 - 62 وسيرة ابن هشام 1/ 591 - 592 من رواية ابن إسحاق دون إسناد، ومغازي الأموي دون إسناد أيضًا كما في فتح الباري 7/ 279. (¬5) تاريخ خليفة 57 من طريق ابن إسحاق دون إسناد. (¬6) تاريخ خليفة 57 من طريق ابن إسحاق دون إسناد.

يقتصر تعرض المسلمين لتجارة قريش مع الشام بل تعرضوا لطريق تجارتها مع اليمن أيضًا، فأرسلت سرية عبد الله بن جحش في ثمانية من المهاجرين إلى نخلة جنوب مكة في آخر رجب للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها وقتلوا قائدها وأسروا اثنين من رجالها وعادوا بها إلى المدينة (¬1)، ونظرًا لأن هذه الحادثة وقعت في الشهر الحرام فقد أثار المشركون ضجة كبيرة بدعوى أن المسلمين ينتهكون حرمة الأشهر الحرم، وكان لذلك وقع خطير في الحواضر والبوادي، فهو خرق لعرف عام ساد الجزيرة العربية مدة طويلة قبل الإسلام. والواقع أن عبد الله بن جحش كان يدرك خطورة الأمر، فقد اختار قرار القتال بعد مشاورة لأصحابه، ولما رجع إلى المدينة وأراد تسليم الغنائم أبى الرسول صلى الله عليه وسلم تسلمها وقال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وانتشرت داعية قريش أن قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال!! وقد نزلت آيات من كتاب الله توضح سلامة موقف المسلمين، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الغنائم وفادى الأسيرين مع قريش، والآيات هي {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (¬2) وهكذا بينت الآيات أن ما فعلته قريش من فتنة المسلمين عن دينهم وإخراجهم من مكة أكبر من قتال المسلمين في الشهر الحرام (¬3) -مع إقرار مطلع الآية لحرمة "الأشهر الحرم"- فهلا التزمت قريش بالقيم والأعراف فيما فعلته مع المسلمين حتى يحق لها أن تعلن عن نفسها وكأنها القيم على الأعراف والمقدسات!! ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة 63 من رواية عروة المرسلة، والإسناد إليه حسن. (¬2) سورة البقرة: آية 217. (¬3) ابن هشام: سيرة 1/ 59 - 60 من مراسيل عروة. والبيهقي: سنن 9/ 12، 58 - 59 بسند صحيح إلى عروة. وله شواهد مسندة عند الطبراني بإسناد حسن وغيره (انظر الإصابة 2/ 278 وابن كثير 3/ 251 والهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 66 - 67). والحديث يرقي بمجموع طرقه إلى الصحيح لغيره.

وقد تعرض الشبهة للبعض فيظن أن تعرض المسلمين لقوافل المشركين يشبه أعمال قطاع الطرق، فرد هذه الشبهة بأن المسلمين كانوا في حالة حرب مع قريش فإضعافها اقتصاديًا وبشريًا من مقتضيات حالة الحرب، هذا فضلًا عما قامت به قريش من مصادرة أموال المسلمين عند هجرتهم من مكة، وما زالت حالة الحرب حتى الوقت الحاضر تسمح بضرب الطاقات البشرية والاقتصادية للعدو. * * * وفي شهر رجب أيضًا، وقع حادث مهم لابد من التنويه به لأثره في التأكيد على تمييز المسلمين واستقلالهم في وجهة صلاتهم، وهو تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة. * * *

تحويل القبلة إلى الكعبة

تحويل القبلة إلى الكعبة كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجه في صلاته بمكة قبل الهجرة مستقبلًا بيت المقدس تاركًا الكعبة المشرفة بينه وبين بيت المقدس. هكذا ورد في رواية صحيحة الإسناد إلى عبد الله بن العباس (¬1). وذهب بعض العلماء إلى أنه كان يصلي بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس. وقد مال إلى هذا الرأي الأخير الحافظ أبو عمرو بن عبد البر القرطبي (¬2)، وانتقد الحافظ ابن حجر هذا الرأي وضعَّفه فقال: "وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره" (¬3) وقد بين سعيد بن المسيب أن الأنصار كانوا يصلون إلى بيت المقدس قبل الهجرة بثلاث سنوات (¬4). ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة استمر في الاتجاه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا (¬5) وفي منتصف رجب سنة اثنتين للهجرة أمره الله تعالى بالتحول في صلاته إلى الكعبة قبلة إبراهيم وإسماعيل، وقد حدّد سعيد بن ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 1/ 243 وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس وكأن البخاري -في ترجمة الباب- أراد الإشارة إلى أن الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس (فتح الباري 1/ 95 - 96). (¬2) فتح الباري 1/ 97. (¬3) فتح الباري 1/ 96. (¬4) تفسير الطبري 2/ 4 بإسناد حسن لولا عنعنة قتادة وهو مدلس، وقد ضعف ابن المديني مرواياته عن سعيد بن المسيب إذا لم يصرح بالسماع كما في ترجمة قتادة في تهذيب التهذيب وقال بذلك أيضًا من المفسرين ابن جريج مثل قول سعيد بن المسيب (تفسير الطبري 2/ 5) ويلاحظ أن عبارة ابن المسيب فيها "ثلاث حجج" بدل "ثلاث سنوات". (¬5) روى ذلك عدد من الصحابة هم معاذ بن جبل وأنس بن مالك والبراء بن عازب كما روى ذلك سعيد بن المسيب مرسلًا، والأسانيد إليهم صحيحة (صحيح مسلم 1/ 374 وجزم به وصحيح البخاري (فتح الباري 1/ 95) لكن رواية البخاري تذكر "ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا" -على الشك- وتاريخ خليفة بن خياط 64 وتفسير الطبري 2/ 3).

المسيب تاريخ تحويل القبلة إلى الكعبة بشهرين قبل بدر (¬1)، فيكون في 17 رجب سنة اثنتين إذا توخينا الدقة أو منتصف رجب كما هو قول الجمهور إذا لم نعتبر اليومين (¬2). وقد أرخ ابن إسحاق تحويل القبلة في رجب بعد سبعة عشر شهرًا من قدومه (¬3) وورد عنه أيضًا رواية شاذة أن التحويل في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرًا من الهجرة (¬4). وأما الواقدي فأرخ ذلك للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرًا (¬5). وهناك روايات شاذة فقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة، وقال آخرون: ثلاثة عشر شهرًا، وتسعة أشهر، وعشرة، وشهرين (¬6) وسنتين (¬7). وإذا أسقطنا الروايات الشاذة، فإن ظاهر التعارض بين "ستة عشر شهر" و "سبعة عشر شهرًا" يسهل إزالته بالجمع بين القولين بأن يكون من جزم بستة عشر شهر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معًا، ومن شك تردد في ذلك (¬8). ¬

_ (¬1) تاريخ خليفة 64 وطبقات ابن سعد 1/ 242 بإسناد إليه صحيح لكنه مرسل ومراسيل سعيد بن المسيب قوية. وانظر تفسير الطبري 2/ 3. (¬2) ابن حجر: فتح الباري 1/ 97 وقد اعتمدوا على أن تاريخ الهجرة في شهر ربيع الأول بلا خلاف فأضافوا ستة عشر شهرًا فيكون تحويل القبلة في منتصف شهر رجب على الصحيح، وبه جزم الجمهور. (¬3) تاريخ خليفة 64 بدون إسناد. (¬4) سيرة ابن هشام 2/ 243 بدون إسناد. (¬5) طبقات ابن سعد 1/ 242 والواقدي متروك. (¬6) فتح الباري 1/ 97 وتفسير الطبري 2/ 3 - 4 وتاريخ خليفة 64 في إسنادهما عثمان بن سعد الكاتب ضعيف. (¬7) من مرسل الحسن البصري، ومراسيله ضعيفة (تاريخ خليفة بن خياط 65). (¬8) فتح الباري 1/ 96.

ولا شك أن استمرار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في الصلاة إلى بيت المقدس لقي ترحيباً من اليهود الذين كانوا قد عاهدوه. ولعل ما يذكره مجاهد من أنهم استغلوا ذلك قائلين: "يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا" (¬1) صحيح، فكأنهم يرون أن الدين الجديد يتابعهم في قبلتهم ويأخذ عنهم في التقاليد والطقوس وقد يطمحون في جره إليهم، وقد ذهب البعض إلى القول بأن تغيير القبلة إلى بيت المقدس كان أول الهجرة إلى المدينة تأليفاً ليهود (¬2) وقد تبين أن الصحيح خلاف ذلك وأن الصلاة إلى بيت المقدس كانت استمراراً لما كانت عليه الحال بمكة قبل الهجرة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الوحي ويرغب في التوجه إلى الكعبة .. عودة إلى قبلة إبراهيم عليه السلام حيث أول بيت مبارك بني لتوحيد الله وعبادته، ورغبة في تمييز المسلمين بقبلة مستقلة تقطع على يهود دعايتهم فاستجاب الله تعالى له وحقق أمنيته {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬3). وأول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة كانت صلاة الظهر في بني سلمة، وأول صلاة صلاها في المسجد النبوي العصر، وأول صلاة صلاها أهل قباء في مسجدهم الفجر عندما بلغهم خبر تحويل القبلة (¬4). وكان وقع ذلك على اليهود شديداً، فقد غضبوا للأمر وقاموا بدعاية واسعة، فنزل القرآن الكريم في تفنيد مزاعمهم، فلما زعموا أن البر في الاتجاه بالصلاة إلى بيت المقدس نزل قوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (¬5) وعندما يتساءلون عن سبب التحول عن ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 2/ 20. (¬2) قد وردت في ذلك روايات ضعيفة في تفسير الطبري 2/ 4 من طريق محمد بن حميد الرازي وهو ضعيف والمثنى بن إبراهيم الآملي وهو مجهول. (¬3) سورة البقرة: آية 144. (¬4) فتح الباري 1/ 97. (¬5) سورة البقرة: آية 177.

القبلة الحق - في نظرهم - يعلم نبيه أن يجيبهم: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1).وقد أوضح القرآن الكريم أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة امتحان وابتلاء للمؤمنين لتظهر قوة عقيدتهم وتختبر سرعة استجابتهم لأوامر الله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2). يعني: وما جعلنا صرفك عن القبلة التي كنت عليها وهي بيت المقدس إلا للاختبار وإنما يظهر وجه الابتلاء عندما تطالعنا الأخبار التي تعكس صدى تحويل القبلة حيث يزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحير في دينه ورجع إلى قبلتهم ويرجف المنافقون في أوساط المؤمنين ما بال محمد يحولنا مرة إلى هنا ومرة إلى هنا حتى خاف المسلمون على صلواتهم التي صلوها إلى بيت المقدس أن يبطل أجرها (¬3). فأوضحت الآية أن الله لا يضيع صلاة من صلى منهم إلى بيت المقدس ومات قبل تحويل القبلة دون أن يتجه إلى الكعبة، وهم عشرة من الصحابة، لأنهم أطاعوا الله ورسوله بالاتجاه إلى بيت المقدس كما أطاعه الأحياء في الاتجاه إلى الكعبة (¬4). ¬

_ (¬1) سورة البقرة: آية 142 وانظر تفسير الطبري 2/ 1 - 2. (¬2) سورة البقرة: آية 143. (¬3) تفسير الطبري 2/ 11 - 12. (¬4) طبقات ابن سعد 1/ 243 بإسناد صحيح وفتح الباري 1/ 98، وتفسير الطبري 2/ 17.

(صفحة تحتوي على خريطة) من كتاب "معجم معالم السيرة النبوية"

غزوة بدر الكبرى

غزوة بدر الكبرى رغم تهديد المسلمين لطرق التجارة إلى الشام فإنهم لم يشتبكوا مع قوافل قريش في قتال حاسم حتى هذه المرحلة، مما جعل قريشاً تواصل إرسال قوافلها التجارية مع تأمين الحراسة لها، ولكن المسلمين كانوا لها بالمرصاد، فلما بلغهم تحرك قافلة كبيرة لقريش عائدة من الشام ترصدوها وكان يقودها أبو سفيان صخر ابن حرب، وكانت تحمل أموالاً عظيمة لقريش. ويحرسها ثلاثون أو أربعون رجلا (¬1)، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بسبس لاستطلاع أخبار القافلة، فلما رجع إليه بخبرها ندب أصحابه للخروج، وتعجل بمن كان مستعداً دون أن ينتظر من رغب في الخروج من سكان العوالي لئلا تفوتهم القافلة (¬2). لذلك فإن جيش المسلمين ببدر لا يمثل كل طاقتهم العسكرية فإنهم خرجوا لأخذ القافلة ولم يعلموا أنهم سيواجهون جيش قريش. وقد ذكر عكرمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عدي بن الزغباء وبسبس بن عمرو إلى بدر طليعة للتعرف على أخبار القافلة، فرجعا إليه بخبرها (¬3) وخبر إرسال بسبس ثابت في صحيح مسلم وهو دليل على الأخذ بالأسباب ومن ذلك التجسس على العدو وجمع أخباره. وقد خرج المسلمون إلى بدر وهم ثلثمائة وتسعة عشر رجلا فقط (¬4) منهم مائة من المهاجرين وبقيتهم من الأنصار، إذا أخذنا براوية الزبير بن العوام، وقد شهد الموقعة، أما البراء بن عازب الذي رده الرسول صلى الله عليه وسلم عن شهودها لصغر سنه ¬

_ (¬1) ابن حزم: جوامع السيرة، 107، وقد قدرت الأموال بخمسين ألف دينار، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار ديناراً (مغازي الواقدي 1/ 200 والبلاذري: أنساب الأشراف 1/ 312). (¬2) صحيح مسلم حديث رقم 1157 ووقع فيه "بسيسة" بدل "بسبس" وقال ابن حجر إن الصواب "بسبس" (الإصابة 1/ 151). (¬3) ابن سعد: الطبقات 2/ 24 ط. مصر بإسناد صحيح إلى عكرمة مرسلاً. (¬4) شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 84. وقال البخاري في روايته "بضعة عشر وثلثمائة (فتح الباري 7/ 290 - 292).

فقد ذكر أن المهاجرين كانوا يزيدون على الستين وأن الأنصار كانوا يزيدون على أربعين ومائتين (¬1). وقد ذكرت المصادر أسماء 340 صحابياً ممن شهد بدراً، وهذا بسبب الاختلاف بينها في شهود بعضهم الغزوة (¬2). وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان ولأبيه بعدم شهود بدر لأنهما كانا قد وعدا كفار قريش بعدم القتال معه فطلب منهما الوفاء بعهدهما (¬3). وقد التحق بهم أحد شجعان المشركين في الطريق ليقاتل مع قومه فرده الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ارجع فلن أستعين بمشرك وكرر الرجل المحاولة فرفض الرسول حتى أسلم الرجل والتحق مع المسلمين (¬4). فلا بد أن تظهر الصبغة العقائدية على أولى الملاحم الإسلامية، ولا بد من وحدة الهدف فيها. وكان مع المسلمين سبعون بعيرا يتعاقبون على ركوبها (¬5) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو لبابة وعلي بن أبي طالب يتعاقبون على بعير واحد، فأرادا أن يؤثراه بالركوب فقال: "ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغني عن الأجر منكما" (¬6) ويالروعة هذا الموقف عندما يستوي القائد والجند في تحمل الشدائد وقد تملكم الصدق والإخلاص في التطلع إلى رضوان الله وثوابه! وكيف لا يحتمل الجند المشاق وقائدهم يسابقهم في ذلك, ولا يرضى أن يكون دونهم في مواجهتها، وهو شيخ في الخامسة والخمسين من عمره!!. ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 290 - 292، 324 - 326. (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 314. وانظر: مرويات غزوة بدر للعليمي 365 - 419. (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 144 (ط. دار الفكر ببيروت). (¬4) شرح النووي على مسلم 12/ 198. (¬5) البداية والنهاية 3/ 260، من طريق ابن إسحق دون إسناد. وابن حزم: جوامع السيرة 108. (¬6) أحمد: المسند 1/ 411 بسند قال الحاكم إنه صحيح على شرط مسلم (المستدرك 3/ 20) وقال الهيثمي "رواه أحمد والبزار وفيه عاصم بن بهدلة وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد 6/ 69).

وقد أمر النبي على المدينة عند خروجه عبد الله بن أم مكتوم للصلاة بالناس، ثم أعاد أبا لبابة من الروحاء - وهي على أربعين ميلا من المدينة - وعينه أميراً على المدينة (¬1). مما يبين أهمية وجود الأمير في الحضر والسفر والسلم والحرب. وقد بلغ أبا سفيان خروج المسلمين لأخذ القافلة، فسلك بها في طريق الساحل وأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري لاستنفار أهل مكة، فلما علمت قريش الخبر استعد للخروج دفاعاً عن قافلتها، وقد ذكر ابن عباس وعروة بن الزبير أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت في المنام أن رجلاً استنفر قريشا وألقى بصخرة من رأس جبل أبي قبيس بمكة فتفتتت ودخلت سائر دور قريش، وقد أثارت الرؤيا خصومة بين العباس وأبي جهل حتى قدم ضمضم وأعلمهم بخبر القافلة (¬2). فسكنت مكة وتأولت الرؤيا. وكان وقع الخبر على قريش كالصاعقة، فإن التعرض لقوافلها السابقة كان ينتهي بمناوشات خفيفة قصد منها المسلمون إقلاق قريش، أما هذه المرة فقد قصدوا أخذ القافلة فعلا، يدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها" (¬3). لذلك سارعت قريش للخروج، وحاولت أن تجند كل طاقتها، فلم يتخلف أحد من فرسانها ورجالها إلا البعض - مثل أبي لهب - ممن أرسل بدله رجلاً. فقد كانت قريش في أشد الغضب وكانت ترى فيما حدث امتهاناً لكرامتها وحطاً لمكانتها بين ¬

_ (¬1) البداية والنهاية 3/ 260 نقلا عن ابن إسحق دون إسناد. والحاكم: المستدرك 3/ 632 وفي إسناده ابن لهيعة، وهو صدوق خلط بعد احتراق كتبه (التقريب لابن حجر) وفيه أبو جعفر البغدادي وأبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد لم أقف على ترجمتهما. وسكت عنه الذهبي. (¬2) الحاكم: المستدرك 3/ 19 بإسناد ضعيف إلى ابن عباس والبداية والنهاية 3/ 257 من طريق ابن إسحق وبإسناد حسن إلى عروة لكنه مرسل. وثمة روايات أخرى لا تخلو من ضعف لكنها تعتضد للدلالة على صحة الحادثة (الإصابة 4/ 347 ومجمع الزوائد 6/ 72). (¬3) ابن هشام: السيرة 2/ 61 من طريق ابن إسحق بسند صحيح إلى ابن عباس.

العرب، فضلاً عن ضرب مصالحها الاقتصادية الكبيرة. لذلك كان من يظهر التردد في الخروج مع جيش قريش يتجه إليه زعماء قريش بالعتاب واللوم حتى يقنعوه بالخروج (¬1). وقد صح أن عدد جيش المشركين بلغ ألفاً (¬2)، وقد ذكر ابن إسحق - دون إسناد - أنهم كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين (¬3). وأما عن تمويل الجيش فإن الأموي ذكر - دون إسناد - أن أثرياء قريش كانوا ينحرون الإبل مرة تسعاً ومرة عشراً لإطعام الجيش (¬4). وقد انشق بنو زهرة ورجعوا إلى مكة بعد أن نصحهم بذلك الأخنس بن شريق حين علموا بنجاة القافلة. وهم بالجحفة شرق رابغ (¬5)، ولكن معظم الجيش تقدموا حتى وصلوا إلى منطقة بدر. فلم تعد نجاة القافلة هدفهم بل تأديب المسلمين وتخليص طرق التجارة من تعرضهم وإعلام العرب بقوة قريش وسلطانها وسقط بعض خدمهم أسرى بيد المسلمين عند عيون المياة ببدر، وقد عرف منهم الرسول صلى الله عليه وسلم عدد الجيش وموقعه وزعماءه، فقد ذكروا عدد ما ينحرون من الإبل لطعامهم كل يوم فقال:"القوم ألف، وكل جزور لمائة وتبعها" (¬6). ولم يرتح بعض المسلمين لنجاة القافلة ومواجهة جيش المشركين لأنهم لم يستعدوا للقتال. وقد صور القرآن الكريم موقفهم في الآيات التالية: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 7/ 283. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 84. (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 260. (¬4) المصدر السابق. (¬5) سيرة ابن هشام 2/ 301 وتاريخ الطبري 2/ 443. (¬6) مسند أحمد 2/ 193 رقم 948 وقال المحقق أحمد شاكر: إسناده صحيح، وفيه أبو إسحق السبيعي مدلس ولكن العلة زالت لوروده من طرق أخرى. وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة (مجمع الزوائد 6/ 76).

الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (¬1). وكان الأنصار قد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية على أن يحموه في بلدهم، ولم يبايعوه على القتال معه خارج المدينة لذلك اقتصرت السرايا التي سبقت بدر على المهاجرين، ونظرا لوجود الأنصار مع المهاجرين ببدر وتفوقهم العددي الكبير فقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة رأيهم في الموقف الجديد. فكان أن شاور أصحابه عامة وقصد الأنصار خاصة، وقد روى ابن إسحق خبر المشورة بسند صحيح قال: "فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أيها الناس؟ وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يارسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك ما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: آية 5 - 6.

فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يارسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك. فامض يارسول الله لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. قال: فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم" (¬1). فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم طاعة الصحابة وشجاعتهم واجتماعهم على القتال، وحبهم للتضحية من أجل الإسلام بدأ بتنظيم جنده، فأعطى اللواء - وكان أبيض - إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين لعلي بن أبي طالب وسعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة (¬2). وقد ظهرت الخلافات في جيش المشركين حيث كان عتبة بن ربيعة يريد العودة دون قتال المسلمين لئلا تكثر الترات بين الطرفين وبينهم أرحام وقرابات، أما أبو جهل فكان مصراً على القتال، وقد غلب رأيه أخيرا (¬3)، فقام المشركون بإرسال جاسوس لهم للتعرف على عدد المسلمين فأخبرهم بعددهم (¬4). وأخذ ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية (3/ 262 - 263) من رواية ابن إسحق بإسناد صحيح. وقال ابن كثير: وله شواهد من وجوه كثيرة فمن ذلك رواية البخاري والنسائي وأحمد ويشير ابن كثير إلى رواية البخاري ورواية الإمام أحمد لقول المقداد بن الأسود (الفتح 7/ 287 ومسند أحمد 5/ 259 حديث رقم 3698 من ط. أحمد شاكر). (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 260 من طريق ابن إسحق دون إسناد. وابن القيم: زاد المعاد 2/ 85. (¬3) الطبري: تاريخ 2/ 443، 424 - 425 بسند حسن. (¬4) البداية والنهاية 3/ 269 من طريق ابن إسحق بإسناد جيد إذ يغلب على الظن أن شيوخ إسحق بن يسار فيه من الصحابة. ولو تحقق ذلك فإن الحديث صحيح لأن جهالة الصحابي لا تضر خاصة وهم كثرة.

أبو جهل يدعو على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم أينا كان أقطع للرحم، وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة" فكان ذلك استفتاحه الذي أشارت إليه الآية الكريمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). لقد وصل المسلمون إلى بدر وقاموا باستطلاع المكان قبل وصول المشركين وقد ورد بسند حسن إلى عروة لكنه مرسل أن الحباب بن المنذر أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يترك مياه بدر خلفه لئلا يستفيد منها المشركون وأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورته (¬2). ورغم ضعف هذه الرواية من جهة الإرسال فإن مبدأ الشورى ثابت بنصوص القرآن الكريم وأحداث السيرة المطهرة. فكثيراً ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه فيما لا وحي فيه، من الكتاب والسنة تعويداً لهم على التفكير بالمشاكل العامة وحرصا على تربيتهم على الشعور بالمسئولية ورغبة في تطبيق الأمر الإلهي بالشورى وتعويد الأمة على ممارستها. وقد وصف علي (رض) في رواية صحيحة كيف بات المسلمون ليلة السابع عشر من رمضان ببدر وأمامهم معسكر المشركين قال: "لقد رأيتنا يوم بدر، وما منا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح ... ثم إنه أصابنا من الليل طش (¬3) من مطر، فانطلقنا تحت الشجر ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك 2/ 328 والطبري: التفسير 13/ 454 تحقيق أحمد شاكر، كلاهما بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير العذري من صغار الصحابة لم يثبت له سماع لكن مرسل الصحابي ليس علة قادحة لأن الصحابة كلهم عدول. والآية من سورة الأنفال 19. (¬2) ابن حجر: الإصابة 1/ 302 من طريق ابن إسحق وقد صرح بالسماع، وثمة رواية عند الحاكم في المستدرك 3/ 426 - 427 بإسناد فيه من لم أقف على تراجمهم لكن الذهبي قال أنه حديث منكر وساق ابن هشام الخبر من طريق ابن إسحق بسند فيه إبهام. ولو عرف المبهم لحسن السند (سيرة ابن هشام 2/ 303). (¬3) الطش: القليل.

والحجف (¬1) نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه يدعو ربه ويقول: (اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد) فلما طلع الفجر نادى: (الصلاة عباد الله)، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرَّض على القتال" (¬2). وقد وردت رواية ضعيفة تشير إلى أن تعبئة الجيش من حيث تهيئتهم للحرب وترتيبهم في مواضعهم تمت خلال الليل (¬3).وقد أثبتت آية قرآنية نزول المطر ببدر وهي {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (¬4). ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يريح جيشه فقام بحراستهم بنفسه تلك الليلة. وفي صبيحة يوم السابع عشر من رمضان نظم الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه في صفوف كصفوف القتال (¬5). وهو أسلوب جديد في القتال يخالف ما جرت عليه عادة العرب من القتال بأسلوب الكر والفر وهو الأسلوب الذي قاتل وفقه المشركون ببدر، ولا شك أن نظام الصفوف يقلل من خسائر المسلمين ويعوض عن قلة عددهم أمام المشركين، وفيه مزية السيطرة على القوة بكاملها وتأمين العمق للجيش حيث تبقى دائماً بيد القائد قوة احتياطية في الخلف يعالج بها المواقف التي ليست بالحسبان (¬6). ¬

_ (¬1) الحجف: التروس من جلود ليس فيها خشب ولا عقب (الفتح الرباني 21/ 31). (¬2) أحمد في المسند بإسناد صحيح (الفتح الرباني 21/ 30، 36). (¬3) تحفة الأحوذي 5/ 324 - 325 وفي إسناد الترمذي محمد بن حميد الرازي ضعيف وسلمة بن الفضل الأبرش صدوق كثير الخطأ كما في التقريب لابن حجر. فلا تنهض الرواية لمعارضة رواية الإمام أحمد. (¬4) سورة الأنفال: آية 11. (¬5) أحمد في المسند بإسناد صحيح (5/ 420). والهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 75 من رواية الإمام أحمد بإسناد صحيح. ويذكر ابن عساكر أن المحفوظ أن وقعة بدر كانت يوم الجمعة (السيرة 53، 54) أما الرواية التي تذكر أنها يوم الاثنين فهي ضعيفة من طريق ابن لهيعة (المعجم الكبير للطبراني 12/ 237). (¬6) محمود شيت خطاب: الرسول القائد 78 - 79.

وقد بنى للرسول صلى الله عليه وسلم عريش أو قبة كان فيها. ليدير منها المعركة باقتراح من سعد بن معاذ (¬1) وذلك لأهمية الحفاظ على القائد في المعركة. ولما اقترب المشركون من المسلمين قال لهم الرسول الكريم: "لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه". فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" (¬2). فلما سمع عمير بن الحمام الأنصاري ذلك قال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض"؟ قال: نعم. قال: بخ بخ (¬3). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: فإنك من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه (¬4) فجعل يأكلن منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل" (¬5)!!. وحكى عمر بن الخطاب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء يوم بدر قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه "اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} " فأمده الله بالملائكة) (¬6). وقد خرج من العريش وهو يقول: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) (¬7). ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 287 من رواية البخاري. (¬2) مختصر صحيح مسلم للمنذري 2/ 70 حديث رقم 1157. (¬3) كلمة تقال لتعظيم الأمر في الخير. (¬4) القرن: جعبة النشاب. (¬5) صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 3/ 1509 - 1510 حديث رقم 1901. (¬6) شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 84 - 85. (¬7) من رواية البخاري (فتح الباري 7/ 287).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر القتال بنفسه قال علي، رضي الله عنه: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً" (¬1). وقد بدأ القتال بمبارزات فردية، حيث تقدم عتبة بن ربيعة وتبعه ابنه الوليد وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فانتدب لهم شباب من الأنصار فرفضوا مبارزتهم طالبين مبارزة بني قومهم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث بمبارزتهم، وقد تمكن حمزة من قتل عتبة ثم قتل علي شيبة، وأما عبيدة فقد تصدى للوليد وجرح كل منهما صاحبه فعاونه علي وحمزة فقتلوا الوليد واحتملا عبيدة إلى معسكر المسلمين (¬2). وقد أثرت نتيجة المبارزة في معسكر قريش وبدأوا الهجوم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنضح المشركين بالنبل إذا اقتربوا منهم حرصاً على الإفادة من النبال بأقصى ما يستطاع فقال: "إذا أكثبوهم فارموا واستبقوا نبلكم" (¬3). ويذكر عروة وقتادة أن الرسول صلى الله عليه وسلم رمى الحصا في وجوه المشركين (¬4)، وتدل على صحة ذلك الآية الكريمة: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬5). ثم التقى الجيشان في ملحمة قتل فيها عدد من زعماء المشركين، منهم أبو جهل عمرو بن هشام الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه فرعون هذه الأمة (¬6). وقد ¬

_ (¬1) أحمد: المسند 2/ 228 وقال أحمد شاكر: صحيح. (¬2) سنن أبي داؤد 4/ 49 وصححه ابن حجر (الفتح 7/ 298). (¬3) فتح الباري 7/ 306 من رواية البخاري. (¬4) الطبري: تفسير 13/ 442 - 443 بإسنادين صحيحين إلى عروة وقتادة لكنهما مرسلان، وهما يعتضدان لأن المرسل إذا تعددت مخارجه يقوى. (¬5) سورة الأنفال: آية 17. (¬6) الهيثمي (مجمع الزوائد 6/ 79) من طريق الطبراني وقال: ورجاله رجال الصحيح غير محمد ابن وهب بن أبي كريمة وهو ثقة. وفي التقريب 2/ 216 أنه صدوق.

قتله معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء وهما غلامان لا يعرفانه حتى دلهما عليه عبد الرحمن بن عوف، وقد أخبرا بأنهما يريدان قتل أبي جهل لما كان من سبه للرسول صلى الله عليه وسلم وقد أجهز عليه ابن مسعود بعد أن أصاباه (¬1). ومنهم أمية بن خلف، فقد أسره عبد الرحمن بن عوف بعد المعركة وأسر معه علياً ابنه، فلمحه بلال، وكان هو الذي يعذبه بمكة، فقال: رأس الكفر أمية ابن خلف، لا نجوت إن نجا، واستصرخ عليه الأنصار فأعانوه على قتله هو وابنه علي (¬2). وقد ثبت في القرآن والحديث أن الله تعالى أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر وكذلك صح أنها قاتلت ببدر. فأما القرآن ففيه {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬3). وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬4). وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 293 - 296، 321. ومسلم بشرح النووي 12/ 159 - 160. (¬2) انظر فتح الباري 4/ 480 من رواية البخاري، وابن كثير: البداية والنهاية 3/ 286 من رواية ابن إسحق بإسناد صحيح. (¬3) سورة آل عمران: آية 123 - 126. (¬4) سورة الأنفال: آية 9 - 10.

بَنَانٍ} (¬1). هذا إذا أرجعنا الضمير في "اضربوا" إلى الملائكة لكن الطبري أرجعه للمؤمنين، وإن الله تعالى يعلمهم كيفية الضرب (¬2). وأما الأحاديث: فقد قال ابن عباس: "بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم (¬3). فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم (¬4) أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت ذلك مدد من السماء الثالثة" (¬5). وقد أسر رجل من الأنصار العباس بن عبد المطلب، فقال العباس: "يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح (¬6) من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ما أراه في القوم". فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال: أسكت، فقد أيدك الله تعالى بملك كريم" (¬7). وفي مغازي الأموي بإسناد حسن: "خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة في العريش ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل متعجر بعمامة آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع أتاك نصر الله وعدته" (¬8). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: آية 12. (¬2) تفسير الطبري 13/ 430، تحقيق أحمد شاكر. (¬3) اسم فرس الملك. (¬4) الخطم: الأثر على الأنف. (¬5) شرح النووي على مسلم 12/ 85 - 86. (¬6) الأجلح: الذي انحسر شعره عن جانبي رأسه (النهاية 1/ 284). (¬7) أحمد: المسند 2/ 194 وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح". وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة (مجمع الزوائد 6/ 75 - 76). (¬8) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 284 والألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي 243. وحكم عليه بالحسن. وقارن برواية البخاري في الصحيح (فتح الباري 7/ 312).

وفي صحيح البخاري: "جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها - قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة" (¬1). فهذا ما صح من الآثار عن اشتراك الملائكة ببدر وقتالها فيها، وأما عن حكمة ذلك مع أن جبريل وحده قادر على إهلاكهم بأمر الله فيوضح السبكي ذلك بقوله: "وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى في عباده. والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلم" (¬2). وقد يتحاشى بعض الكتاب المسلمين الإشارة إلى مشاركة الملائكة ببدر وهذا من مظاهر الهزيمة أمام الفكر المادي الذي لا يؤمن إلا بالمحسوسات، والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بالملائكة. وأخذ المشركون يتساقطون صرعى، حتى قتل منهم سبعون وأسر سبعون (¬3)، وكان بعضهم يصرعون في مواضع كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لأصحابه قبل المعركة أنهم يصرعون فيها وذكرهم بأسمائهم (¬4). ثم فروا لا يلوون على شيء تاركين غنائم كثيرة في ميدان المعركة. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسحب قتلى المشركين إلى آبار ببدر فألقوا فيها، وأقام ببدر ثلاثة أيام ودفن شهداء المسلمين فيها، وهم أربعة عشر شهيدا سمتهم المصادر (¬5) ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 311 - 312. (¬2) المصدر السابق 7/ 313 وكلام السبكي يكشف عن طبيعة الإسلام في تحقيق أهدافه معتمدا على الجهد البشري وفي حدود السنن والقوانين الطبيعية والاجتماعية وهذا الكلام يدل على بصيرة نافذة وعمق في فهم طبيعة هذا الدين. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 86 - 87. (¬4) أحمد: المسند 1/ 232 بإسناد صحيح. (¬5) ابن هشام: السيرة 2/ 428. وابن كثير: البداية والنهاية 3/ 327.

وزاد ابن حجر عليهم في الإصابة اثنين آخرين (¬1). ولم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليهم وهي السنة في الشهداء ولم ينقل أحد منهم من بدر ليدفن في المدينة. فلما كان اليوم الثالث ببدر وقف على أربعة وعشرين رجلا منهم من صناديد قريش في إحدى الآبار فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ويقول: "أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". قال قتادة: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما" (¬2). ولم يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم قافلة أبي سفيان بعد بدر فقد وعده الله إحدى الطائفتين وأنفذ له وعده بالنصر على جيش المشركين (¬3). وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على حياة بعض المشركين الذين خرجوا إلى بدر مكرهين خائفين من لائمة قومهم، ومنهم من قدم يدا للمسلمين في العهد المكي، وقد سمى منهم بني عبد المطلب - وفيهم عمه العباس بن عبد المطلب - وأبا البختري بن هشام (¬4)، فطلب من المسلمين أن يأسروهم (¬5) وقد تم أسر العباس بن عبد المطلب، وأما أبو البختري فقد أصر على القتال فقتل (¬6). ¬

_ (¬1) ابن حجر: الإصابة 3/ 328، 608 وهما معاذ بن الحارث وهلال بن المعلي بن لوذان. (¬2) فتح الباري 7/ 300 من رواية البخاري. (¬3) أنظر: أحمد: المسند 3/ 320، 4/ 313، 5/ 5 بإسناد صححه أحمد شاكر وجوده ابن كثير وحسنه الترمذي (ابن كثير: تفسير 2/ 288 وتحفة الأحوذي 8/ 471). (¬4) كان ممن قام بنقض صحيفة المقاطعة بمكة، وان لا يؤذي المسلمين (البداية والنهاية 3/ 285). (¬5) مسند أحمد 2/ 76 - 77 بإسناد صحيح كما يقول أحمد شاكر. (¬6) البداية والنهاية 3/ 285 وسيرة ابن هشام 2/ 69 - 71.

وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فيما يصنع بالأسرى؟ فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم وعلل ذلك بقوله "فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام" وأشار عمر بن الخطاب بقتلهم "فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها". ومال النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر بقبول الفدية، فنزلت الآية الكريمة في موافقة رأي عمر، رضي الله عنه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1) إلى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬2). وبذلك أحل لهم ما أخذوه من الفداء بعد أن عاتبتهم الآية في تفصيل الفداء على عقوبة أئمة الكفر. وهذا الحكم كان في أول الإسلام ثم جعل الخيار للإمام بين القتل أو المفاداة أو المن عليهم دون فداء ما عدا الأطفال والنساء إذ لا يجوز قتلهم (¬3). وقد تباين فداء الأسرى، فمن كان ذا مال فقد أخذ فداؤه أربعة آلاف درهم (¬4). وقد فدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها أبا العاص بن الربيع بقلادة، فأطلق الصحابة أسيرها وردوا عليها قلادتها إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5). ومن لم يكن لهم فداء من الأسرى، جعل فداؤهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة (¬6). ولم يكن هم المسلمين أخذ المال من هؤلاء قدر إضعافهم معنويا، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كان مطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى ¬

_ (¬1) شرح النووي على مسلم 12/ 86 - 87. (¬2) سورة الأنفال: آية 67 - 68. (¬3) ابن قدامة: المغني 8/ 372 - 374. (¬4) الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 90 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات. (¬5) مسند أحمد بإسناد جيد (الفتح الرباني 14/ 100). (¬6) مسند أحمد بإسناد فيه علي بن عاصم صدوق يخطئ ويصر (المسند 4/ 47). وانظر طبقات ابن سعد 2/ 1 /14 والأموال لأبي عبيد 116 ومستدرك الحاكم 2/ 140.

لأطلقتهم له) (¬1). وقد أراد الأنصار إعفاء العباس من دفع الفدية فهو عم الرسول صلى الله عليه وسلم وجدته نجارية، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: "لا تذرون منه درهما" (¬2) فلست هناك محاباة ولو مع عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الكل سواء أمام حكم الله ورسوله. رغم أنه أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان مسلما وقد أكره على الخروج إلى بدر (¬3). فدفع العباس مائة أوقية فدية ودفع عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية في حين دفع بعض الأسرى الآخرين أربعين أوقية فقط (¬4)!!. هذا بالنسبة للأسرى. أما الغنائم فقد وقع خلاف حولها إذ لم يكن حكمها قد شرع بعد، قال عبادة بن الصامت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهم الله تبارك وتعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، فنحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين (¬5) - أي بالتساوي بينهم. وتدل الآثار الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الخمس من الغنيمة ثم قسمها بين المقاتلين (¬6). وكانت آية الخمس قد نزلت ضمن سياق الآيات في ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 323 من رواية البخاري. (¬2) فتح الباري 7/ 321 من رواية البخاري. (¬3) الطبري: تفسير 14/ 73 بإسناد حسن. (¬4) فتح الباري 7/ 322 من كتاب الأوائل لأبي نعيم بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر. (¬5) رواه أحمد بإسناد صحيح (الفتح الرباني 14/ 73 وانظر تعليق البنا عليه). (¬6) فتح الباري 7/ 316 من رواية البخاري، 317

غزوة بدر وهي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬1). وقد أسهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتسعة من الصحابة لم يشهدوا الغزوة لأعمال كلفوا بها في المدينة أو لإصابتهم بجروح وكسور في الطريق إلى بدر أو لغيرها من الأعذار. منهم عثمان بن عفان الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالعناية بزوجته رقية في مرض موتها (¬2). وما إن اتضح الحكم في الغنائم وكيفية توزيعا حتى ثاب الناس إلى طاعة الله ورسوله واختفى كل خلاف، وكان هذا شأنهم في كل أمر يقطع فيه الله ورسوله بحكم. وكان تقسيم الغنائم في الصفراء في طريق عودة الجيش إلى المدينة وقد تقدمهم زيد بن حارثة إليها بالبشارة، وقد تلقى المسلمون بالمدينة هذه البشارة بالفرح الغامر والحذر ألا يكون الخبر يقينا، قال أسامة: "فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى (¬3). وكانت الدهشة تعلوا الوجوه، أحقا هزمت قريش وأسر زعماؤها وتحطمت كبرياؤها وظهرت حقيقة آلهتها الزائفة وعقائدها الباطلة، وها هي أم المؤمنين سودة لفرط دهشتها تقول لأبي يزيد سهيل بن عمرو ويداه معقودتان إلى عنقه بحبل: "أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما"!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعلى الله وعلى رسوله"!! - أي تؤلبين - فقالت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنه بالحبل أن قلت ما قلت" (¬4)!! وفي طريق عودة الجيش إلى المدينة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل اثنين من الأسرى أولهما النضر بن الحارث وثانيهما عقبة بن أبي معيط (¬5)، وكانا يؤذيان المسلمين بمكة ويشتدان في عداوتهما لله ولرسوله. فهما من أئمة الكفر ومجرمي الحرب وفي ¬

_ (¬1) سورة الأنفال: آية 41، وانظر البداية والنهاية لابن كثير 3/ 302 - 303. (¬2) العليمي: مرويات غزوة بدر 420 - 424. (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 304 نقلا عن البيهقي بإسناد صحيح. (¬4) ابن هشام: السيرة 2/ 335 بإسناد صحيح. (¬5) البداية والنهاية 3/ 305.

قتلهما صبرا درس للطغاة بليغ، وقد تخلى عقبة عن جبروته ونادى: من للصبية يا رسول الله؟ فأجابه: النار (¬1). فهلا تذكر عقبة يوم ألقى سلاة شاة على رأس الني وهو ساجد فجاءت فاطمة فغسلته عنه (¬2)!! أما بقية الأسرى فقد استوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، حتى حكى أبو عزيز - وقد أسره أخوه مصعب بن عمير ومعه رجل أنصاري - أن آسريه كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوه بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى. حتى ما تقع في يد أحدهم خبزة إلا ناوله إياها قال: "فاستحي فأردها علي ما يمسها" (¬3) وهذا الموقف آية على حسن معاملة الأسير في الإسلام وإيثاره بأفضل ما عند آسريه. مما لا نجد له مثيلاً في تواريخ الدنيا. لقد كانت موقعة بدر - رغم صغر حجمها - فاصلة في تاريخ الإسلام لذلك سماها الله تعالى في كتابه بـ "يوم الفرقان" لأنه فرق بها بين الحق والباطل، وفيها حققت العقيدة الإسلامية انتصارات كبيرة، فقد ظهر استعلاؤها على سائر المصالح والمطامح والعلائق الدنيوية، فهاهم الأنصار يعلنون قبل بدئها أن التزاماتهم تجاه العقيدة لا تحدها اللوائح والعهود التي قطعوها في بيعة العقبة الثانية، بل هم جند مطيعون ومضحون من أجل عقيدتهم دون شرط ولا قيد، وها هم المهاجرون يواجهون أقاربهم في المعركة فالابن يلقى أباه والأخ يلقى أخاه، فلا تمنعهم أواصر القربى من قتلهم لأن مصلحة العقيدة فوق كل آصرة وارتباط. وقد استحق المقاتلون ببدر أن ينالوا التقدير الكبير الذي صار يلازم كلمة "البدري" حتى كونوا الطبقة الأولى من الصحابة في سجل الجند لعمر (رض) فكانوا يأخذون أعلى العطاء واحتلوا الصفحات الأولى من كتب الطبقات، وهكذا نالهم التكريم الأدبي والمادي على مر الدهور ¬

_ (¬1) الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 89 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح. وقارن برواية أبي داود في السنن 2/ 55 بإسناد حسن. (¬2) البداية والنهاية 3/ 306 بسند حسن إلى الشعبي لكنه مرسل. (¬3) البداية والنهاية 3/ 306 - 307.

وقد أوضحت الأحاديث الصحيحة فضل البدريين وعلو مقامهم في الجنة، فقد أصيب حارثة بن سراقة الأنصاري يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر واحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع. فقال: ويحك - أو هبلت - أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس (¬1). وفي قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أخبر قريشاً بخبر قدوم المسلمين لفتح مكة فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم" (¬2) ولما قال عبد لحاطب: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية" (¬3). وكانت أصداء بدر عميقة في المدينة ومكة وأرجاء الجزيرة العربية فقد استعلى المؤمنون في المدينة على اليهود وبقايا المشركين، فانخذل اليهود وظهرت أحقادهم التي دفعت بهم إلى المجاهرة بالعداء، فقد غاظتهم النتيجة التي ما كانوا يتوقعونها فلم يعودوا يسيطرون على أفعالهم وأقوالهم التي تنم عن الغضب والحقد المتأججين. فاندفعوا نحو العدوان مما أدى إلى إجلاء بني قينقاع عن المدينة. ودخل الكثيرون في الإسلام، وبعضهم دخل حماية لمصالحه بعد أن شعر برجحان كفة المسلمين، فكون هؤلاء جبهة المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول. وأما قريش في مكة فلم تكد تصدق ما حدث، فقد قتل ساداتها وأبطالها، وتشير رواية مرسلة إلى أنها تجلدت فمنعت البكاء والنياحة على قتلاها لئلا يشمت ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 304 حديث رقم 3982. (¬2) المصدر السابق 7/ 304 - 305 وشرح النووي على مسلم 16/ 55. (¬3) شرح النووي على صحيح مسلم 16/ 55.

بهم المسلمون (¬1). وصممت على الانتقام والثأر، فأرسلت عمير بن وهب الجمحي لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن وعده صفوان بن أمية بإعالة أهله إن قتل، فمضى إلى المدينة متوشحا سيفه، فملا بلغ المسجد أمسك به عمر بن الخطاب وذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأله عما جاء به فكذب عليه وزعم أنه جاء في طلب أسير، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بمقصده وما كان بينه وبين صفوان بن أمية، فأعلن إسلامه وطلب أن يأذن له بدعوة أهل مكة إلى الإسلام (¬2). ومما فعلته قريش للثأر لقتلاها أنها اشترت اثنين من أسرى المسلمين في حادثة الرجيع وهما خبيب وزيد ابن الدثنة فقتلتهما (¬3). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 340 (¬2) ابن حجر: الإصابة 3/ 36 من مرسل عروة بن الزبير والزهري، وفي الغالب فإن الزهري يرويها عن عروة فيتحد المخرج ولا يقوي المرسل. (¬3) فتح الباري 7/ 308 من رواية البخاري.

في أعقاب بدر

في أعقاب بدر غزوة قرقرة الكدر: وجه المسلمون جهودهم للمحافظة على الحصار الاقتصادي الذي فرضوه على قريش، ويبدو أن بعض القبائل المستفيدة من تجارة قريش ومرورها بديارها قامت بتجمعات للتحرك ضد المسلمين من ذلك أن بني سليم وغطفان جمعوا جموعا بقرقرة الكدر وهي ماء لبني سليم، فقاد النبي صلى الله عليه وسلم جيشا وداهمهم على الماء، فلم يجد سوى الإبل، فقد فر المقاتلون لما سمعوا بقدومه، فأقام ثلاثة أيام بالمكان ثم عاد (¬1). وذكر ابن سعد - بدون إسناد - أن الغنيمة كانت خمسمائة بعير، وأن المقاتلين كانوا مائتي رجل (¬2). غزوة السويق: وقام أبو سفيان بعمل انتقامي حيث قدم سراً بمائتي فارس من مكة، ولجأوا إلى بني النضير في أطراف المدينة، ثم قام بمهاجمة ناحية العريض - واد بالمدينة في طرف حرة واقم - فقتل رجلين وأحرق نخلا وفر عائدا إلى مكة. وقد تعقبه المسلمون إلى قرقرة الكدر فلم يدركوه، وعادوا بالسويق الذي رماه المشركون للتخفف من حملهم والمسارعة في الفرار فسميت بغزوة السويق (¬3). غزوة ذي أمر: وبعد شهر من غزوة السويق التي كانت في محرم سنة ثلاث، غزا الرسول صلى الله عليه وسلم نجدا يريد غطفان التي تجمعت في ذي أمر ففروا أمامه ولم يقع قتال. فأقام ¬

_ (¬1) ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 421). (¬2) طبقات ابن سعد 2/ 31. (¬3) ابن إسحق بإسناد صحيح إلى عبد الله بن كعب بن مالك. لكنه مرسل (سيرة ابن هشام 2/ 422 - 423) وابن سعد: طبقات 2/ 30 بدون إسناد.

غزوة بحران

طيلة شهر صفر في ديارهم ثم عاد إلى المدينة. وهي غزوة ذي أمر (¬1). وبين الواقدي وابن سعد أن المجتمعين على ماء ذي أمر هم من غطفان من بني ثعلبة ابن محارب وأن عدد جيش المسلمين كان أربعمائة وخمسين رجلاً، وخالف ابن إسحق في تاريخها فذكر أن خروج المسلمين إليها كان في يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث (¬2). غزوة بحران: ثم غزا الرسول صلى الله عليه وسلم بحران من ناحية الفرع على الطريق التجارية بين مكة والشام ولم يقع قتال (¬3). وذكر الواقدي أنه غاب عن المدينة في هذه الغزوة عشرة أيام (¬4). وبين ابن سعد أن عدد جيش المسلمين كانوا ثلثمائة مقاتل (¬5). غزوة القردة: وحاولت قريش الإفادة من الطريق التجارية عبر نجد باتجاه العراق للإفلات من الحصار الاقتصادي. فخرج أبو سفيان في تجار من قريش معظمها من الفضة، فأرسل الني صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقي القافلة في ماء من مياه نجد يدعى القردة، ففر الرجال تاركين القافلة غنيمة له. وكان ذلك بعد ستة أشهر من غزوة بدر الكبرى (¬6). وذكر ابن سعد أن جند زيد بن حارثة كانوا مائة، وأن القافلة كانت تحمل وزن ثلاثين ألف درهم من الفضة، وأن قيمتها بلغت مائة ¬

_ (¬1) ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 425). (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 2. وطبقات ابن سعد 2/ 34. (¬3) ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 425). (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 3. (¬5) طبقات ابن سعد 2/ 35 بدون إسناد. (¬6) ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 429 - 430 وابن كثير: البداية والنهاية 4/ 4). وقد ذكر الواقدي أن قائد القافلة كان صفوان بن أمية بدلا من أبي سفيان كما في البداية والنهاية 4/ 5.

ألف درهم (¬1). وبذلك فشلت خطة قريش في إيجاد طريق جديد لتجارتها، وهكذا أحكم الحصار الاقتصادي عليها وأحست بشديد وطأته على اقتصاد مكة التجاري. فكان لابد أن تقوم بعمل حاسم لإنقاذ اقتصادها وسمعتها. ... ¬

_ (¬1) طبقات 2/ 36 بدون إسناد.

(صفحة تحتوي على خريطة)

غزوة أحد

غزوة أحد عرفت هذه الغزوة باسم الجبل الذي وقعت عنده، ويقع في شمال المدينة وكان يرتفع 128 مترا أما الآن فيرتفع 121 مترا فقط بسبب عوامل التعرية، ويبعد عن المسجد النبوي خمسة أكيال ونصف الكيل (¬1) بدءا من باب المجيدي أحد أبواب المسجد النبوي، ويتكون أحد من صخور جرانيتية حمراء وله رءوس متعددة، ويقابله من جهة الجنوب جبل صغير يسمى "عينين" وهو الذي عرف بعد المعركة بجبل الرماة، وبين الجبلين واد عرف بوادي قناة. وقد وقعت هذه المعركة نتيجة هجوم شنته قريش على المدينة ولم يمر على غزوة بدر سوى سنة واحدة وشهر، واستهدفت الثأر لقتلاها ببدر، وإنقاذ طرق التجارة إلى الشام من سيطرة المسلمين واستعادة مكانتها عند العرب بعد أن زعزعتها موقعة بدر. وقد اتفق كتاب السيرة على أن أحد كانت في شوال في السنة الثالثة من الهجرة، واختلفوا في اليوم الذي وقعت فيه، وأشهر الأقوال أنها في يوم السبت للنصف من شوال (¬2). وقد ذكر ابن إسحق عن جمع من شيوخه أن قريشا أعدت لغزوة أحد منذ هزيمتها ببدر حيث خصصت القافلة التجارية التي نجت (¬3) أو أرباحها (¬4) لتجهيز جيشها. ويذكر ابن إسحق أنهم أخرجوا معهم ثماني نسوة سماهن في حين يذكر الواقدي أنهن أربع عشرة سماهن (¬5). وبلغ عدد جيش قريش ثلاثة آلاف رجل ¬

_ (¬1) الكيل مصطلح أطلقه المجمع العلمي بدمشق على الكيلو متر. وانظر عن تقدير المسافة (العياشي: المدينة بين الماضي والحاضر ص 12) وهو: عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة 197. (¬2) روى ذلك خليفة بن خياط بإسناد فيه مجهول عن الزهري ويزيد بن رومان (تاريخ خليفة 97) والطبري - بإسناد فيه حسين عبد الله الهاشمي وهو ضعيف - عن عكرمة (تفسير الطبري 7/ 399) وهو أصح ما في الباب على ضعفه. (¬3) سيرة ابن هشام 3/ 1 وشيوخ ابن إسحق فيهم الثقات والضعفاء وقد جمع كلامهم ولم يميزه وبعضهم من صغار التابعين فروايتهم مرسلة ضعيفة ولكن في مثل هذا الخبر يتساهل عادة. (¬4) الواقدي: المغازي 1/ 200. (¬5) سيرة ابن هشام 3/ 6 دون إسناد ومغازي الواقدي 158 وهو ضعيف.

ومعهم مائتا فرس جعلوا على ميمنتها خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل (¬1). وكان فيهم سبعمائة دارع (¬2). يتكون جيش المشركين من قريش ومن أطاعها من كنانة وأهل تهامة (¬3). وقد علم المسلمون بقدوم جيش المشركين لغزو المدينة، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا - ورؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي - حكاها لأصحابه فقال: "رأيت في رؤيا أني هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد كأحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت بقرا - والله خير - فإذا هم المؤمنون يوم أحد" (¬4). وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا بأن هزيمة تكون في أصحابه وقتلا يقع فيهم (¬5)، وفي رواية أخرى: "ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة" (¬6). وقد شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في البقاء في المدينة والتحصن فيها "وكانت المدينة قد شبكت بالبنيان فهي كالحصن" (¬7) أو الخروج لملاقاة جيش قريش فقال: "إنا في جنة حصينة". فقال ناس من أصحابه من الأنصار: يا نبي الله إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه، فابرز إلى القوم، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته (¬8). فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 3/ 8 - 12 من رواية ابن إسحق دون إسناد والطبري: تاريخ 3/ 504 من رواية الواقدي. ولا تصح رواية في ذلك وإنما هي أقوال الإخباريين المعنيين بذلك. (¬2) الطبري: تاريخ 3/ 504 من رواية الواقدي. (¬3) ابن إسحق دون إسناد (سيرة ابن هشام 3/ 4 ومغازي الواقدي 1/ 101). (¬4) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 274). (¬5) و (¬6) رواه أحمد (الفتح الرباني 21/ 50 وقال الساعاتي: سنده صحيح). وانظر روايات أخرى في الفتح الرباني 21/ 5 وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 45 كلاهما بإسناد رجاله ثقات وفيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس. (¬7) عبد الرزاق: المصنف 5/ 363. (¬8) اللأمة: الدرع الحصينة وسائر أداة الحرب.

يا حمزة فقل لنبي الله صلى الله عليه وسلم (أمرنا لأمرك تبع) فأتى حمزة فقال له: (يا نبي الله إن القوم قد تلاوموا فقالوا: أمرنا لأمرك تبع). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز) (¬1). ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عود أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى لو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لا نص فيه تعويدا لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا لأنه اخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام، فلا بد أن يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم التوجيه القرآني {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (¬2) لتعتاد على ممارسة الشورى، وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة رضوان الله عليهم، فرغم أن لهم إبداء الرأي إلا أنه ليس لهم فرضه على القائد فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يترجح لديه من الآراء فلما رأوا أنهم ألحوا في الخروج وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على الخروج بسبب إلحاحهم عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرسول الكريم علمهم درسا آخر هو من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع. وتتلخص دوافع الراغبين في الخروج بإظهار الشجاعة أمام الأعداء، وبرغبة الذين فاتتهم المشاركة في غزة بدر أن يشاركوا في موقعة مماثلة. أما رأي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن وافقه فمبني على الإفادة من حصون المدينة في الدفاع مما يقلل من خسائر المدافعين ويزيد من خسائر المهاجمين، ثم الإفادة من طاقات سائر السكان حتى الذين لا يستطيعون القتال في الميادين المكشوفة من النساء والصبيان. ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 7/ 372 بإسناد حسن إلى قتادة مرسل لكن الإمام أحمد وصله من طريق أبي الزبير عن جابر نحوه وفيه عنعنة أبي الزبير وهو مدلس وتقوية رواية البيهقي بسند حسن عن ابن عباس وبمجموع الطرق يصح الحديث كذلك حكم عليه الألباني في فقه السيرة. (¬2) سورة آل عمران: آية 159.

وعلى أية حال فقد ارتفعت راية سوداء (¬1) وثلاثة ألوية، لواء المهاجرين يحمله مصعب بن عمير، فلما قتل حمله علي بن أبي طالب، لواء الأوس يحمله أسيد بن حضير ولواء الخزرج يحمله الحباب بن المنذر (¬2). واجتمع تحتها ألف من المسلمين والمتظاهرين بالإسلام، معهم فرسان فقط ومائة دارع (¬3). ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم درعين (¬4). رغم علمه بأن الله تعالى يعصمه من القتل تعويدا لأمته على الأخذ بالأسباب المادية ثم التوكل على الله. وخرج الجيش الإسلامي إلى أحد مخترقا الجانب الغربي من الحرة الشرقية (¬5) حيث انسحب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بثلثمائة من المنافقين، مدعيا أنه لن يقع قتال مع المشركين!! معترضا على قرار الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج بقوله (أطاعهم وعصاني) (¬6). أما الواقدي فذكر أن انسحاب المنافقين كان من منطقة الشيخين قريبا من منطقة أحد (¬7). وقد بين القرآن الكريم أن انسحاب عبد الله بن أبي بالمنافقين إنما هو تنقية لصف المؤمنين وتمييز لهم فلا يبقى فيهم من يرجف ويخذل. قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬8). وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ ¬

_ (¬1) خليفة بن خياط (تاريخ 67) بإسناد حسن إلى سعيد بن المسيب مرسلا ومراسيله قوية. (¬2) مغازي الواقدي 1/ 33، وانظر الاستعياب لابن عبد البر 3/ 450 ولم تصح رواية في موضوع الألوية. (¬3) الطبري: تاريخ 3/ 504 وابن سعد: الطبقات 3/ 44. (¬4) الحاكم: المستدرك 3/ 25 وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) منطقة ملعب التعليم الآن، وكان يجري فيها سباق الخيل قديماً (العياشي: المدينة بين الماضي والحاضر 369 والبلادي: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص 170). (¬6) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 3/ 8 - 12) بدون إسناد. (¬7) تاريخ الطبري 3/ 504 وطبقات ابن سعد 3/ 44. (¬8) سورة آل عمران: آية 179.

نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (¬1). وقد ورد في رواية مرسلة لابن إسحق عن شيوخه أن عبد الله بن عمرو بن حرام حاول إقناع المنافقين بالعودة فأبوا وذكروا ما حكته الآية الكريمة السابقة، فقال: "أبعدكم الله أعداء الله فسيغنى الله عنكم نبيه" (¬2). وقد ظهر رأيان في أوساط الصحابة، الأول: يرى قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم واشنقاقهم عن الجيش. والثاني: لا يرى قتلهم، وقد بين القرآن الكريم موقف الفريقين في الآية {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} (¬3). وقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين ففكروا بالعودة إلى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم, وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله تعالى فدفع عنهم الوهن، فثبتوا مع المؤمنين وهما بنو سلمة (من الخزرج) وبنو حارثة (من الأوس) (¬4). وقد صور القرآن الكريم موقف الطائفتين فقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ...} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 66، 67. (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 9. (¬3) النساء: 88 والحديث في مسند أحمد 5/ 184، 187 بإسناد رجاله ثقات، وقد رواه البخاري (فتح الباري 4/ 96) ومسلم: الصحيح 4/ 2142 حديث رقم 2776. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 357 و 8/ 325). وصحيح مسلم 2/ 402 وسيرة ابن هشام 3/ 67. (¬5) سورة آل عمران: آية 122.

وفي موقع الشيخين عسكر جيش المسلمين واستعرض الرسول صلى الله عليه وسلم صغار السن الذين لا طاقة لهم بقتال ممن هم أبناء أربع عشرة سنة أو أقل فردهم سوى رافع بن خديج أجازه لما قيل له أنه رام، وسمرة بن جندب لما علم أنه أقوى من رافع (¬1)، وبلغ عدد من ردهم من صغار السن أربعة عشر صبياً سماهم ابن سيد الناس (¬2) وقد صح أن ابن عمر منهم (¬3) وموقف هؤلاء الصبيان وهم مقبلون على الموت بشجاعة ورغبة يبعث على الدهشة حقا، وقد تنافسوا في ذلك متطلعين إلى نيل الشهادة في سبيل الله دون أن يجبرهم قانون للتجنيد أو تدفع بهم قيادة غاشمة إلى ميدان القتال، ولكن أليست هذه سمات التربية المحمدية ومزايا الروح الإسلامية؟ وقد تقدم الجيش الإسلامي إلى ميدان أحد، واتخذ مواقعه بموجب خطة محكمة حيث نظم الرسول صلى الله عليه وسلم صفوف جيشه جاعلا ظهورهم إلى جبل أحد ووجوههم تستقبل المدينة، وجعل خمسين من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير فوق جبل عينين المقابل لأحد لحماية المسلمين من التفاف خيالة المشركين عليهم وشدد عليهم بلزوم أماكنهم وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا مكانكم" (¬4). وبذلك سيطر المسلمون على المرتفعات تاركين الوادي لجيش قريش الذي تقدم وهو يواجه أحد وظهره إلى المدينة. ¬

_ (¬1) ابن إسحق (ابن هشام: السيرة 3/ 11) والواقدي: مغازي 1/ 109. وابن حزم: جوامع السيرة 159 ولم تصح في ذلك رواية. ولكن شتان بين صحة الأخبار حديثياً - وهي عزيزة - وبين نفيها. (¬2) عيون الأثر 2/ 7. (¬3) رواه البخاري (فتح الباري 5/ 276) وصحيح مسلم 2/ 142. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 162).

وتشير روايات ضعيفة - حديثياً - إلى وقوع مبارزة قبل التحام الجيشين بين علي بن أبي طالب وطلحة بن عثمان حامل لواء المشركين وأن عليا قتله (¬1)، وإلى محاولة أبي عامر الفاسق (الراهب) - الذي كان من زعماء الأوس وترك المدينة فالتحق بالمشركين - إقناع الأوس بالالتحاق به، لكنهم ردوه رداً شديداً (¬2). وقد اشتد القتال بين الجيشين وتراجع المشركون إلى معسكرهم فقد أبدى المسلمون بطولة فائقة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ سيفا فيقول: من يأخذ مني هذا؟ فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا. أنا قال: من يأخذه بحقه؟ قال: فأحجم القوم. فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين (¬3). وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الأبطال. فلما طلب سباع بن عبد العزى المبارزة تصدى له فقتله، وكان وحشي مولى جبير بن مطعم قد وعده مولاه أن يعتقه إن قتل حمزة - وكان حمزة قد قتل عمه طعيمة بن عدي ببدر - فكمن له وحشي تحت صخرة فلما دنا منه رماه بحربته فقتله غيلة (¬4)، وهل لمثل وحشي أن ينازل حمزة منازلة الأبطال أو يواجهه كما يفعل الرجال!! واستشهد آخرون في هذه المرحلة الأولى من القتال منهم حامل الراعية داعية الإسلام مصعب بن عمير. قال خباب: "هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى - أو ذهب - لم يأكل من أجره شيئا كان منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا نمرة (أي كساء) كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه وإذا غطى بها رجلاه خرج رأسه. فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه واجعلوا الأذخر أو قال ألقوا على رجليه من ¬

_ (¬1) الطبري بإسناد صحيح لكنه من مراسيل السدي (تفسير 7/ 281). (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 13 ومغازي الواقدي 1/ 223 وهو من رواية عاصم بن عمر بن قتادة ولم يسنده. (¬3) صحيح مسلم 2/ 384. (¬4) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 367) من حديث وحشي نفسه

الأذخر" (¬1).ولما استشهد مصعب بن عمير أخذ علي بن أبي طالب اللواء (¬2). وقد أشارت الآية الكريمة {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (¬3) إلى قتل المسلمين للمشركين بإذن الله في هذه المرحلة من القتال. فلما رأى الرماة هزيمة المشركين قالوا لعبد الله بن جبير: "الغنيمة الغنمية ظهر أصحابكم فما تنتظرون. فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة" (¬4). ثم انطلقوا يجمعون الغنائم. وتبين رواية مرسلة للسدي ما حدث بعد نزول الرماة، فقد رأى خالد بن الوليد - وكان على خيالة المشركين - الفرصة سانحة ليقوم بالالتفاف حول المسلمين، ولما رأى المشركون ذلك عادوا إلى القتال من جديد (¬5). وأحاطوا بالمسلمين من جهتين، وفقد المسلمون مواقعهم الأولى، وأخذوا يقاتلون دون تخطيط، بل لم يعودوا يميزون بعضهم، فقد قتلوا اليمان - والد حذيفة بن اليمان - وهو شيخ كبير وابنه يصيح فيهم: أبي. فأجهزوا عليه فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (¬6)!! ولم ينفع بأس المسلمين وحرارة قتالهم ما دام لا تحكمه خطة منظمة، فأخذوا يتساقطون شهداء في الميدان وقد فقد المسلمون اتصالهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وشاع أنه قد قتل (¬7). ¬

_ (¬1) من وراية البخاري (فتح الباري 7/ 375) والإذخر: نبات معروف زكي الريح وإذا جف أبيض (المصباح / 1/ 245). (¬2) تاريخ خليفة 67 من مرسل سعيد بن المسيب ومراسيله قوية. (¬3) سورة آل عمران: آية 152، والحس: القتل. (¬4) من رواية البخاري (فتح الباري 6/ 162). (¬5) البداية والنهاية 4/ 23. (¬6) الحاكم: المستدرك 3/ 202 وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي ومسند أحمد 4/ 2609 ط. شاكر. (¬7) فتح الباري 7/ 361 من رواية البخاري.

وأسقط في يد المسلمين، ففر كثيرون منهم من ميدان القتال، وانتحى بعضهم جانبا فجلس دون قتال (¬1) في حين آثر آخرون الموت على الحياة بعد فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أنس بن النضر الذي كان يأسف لعدم شهوده بدرا ويقول: "والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله كيف أصنع". فلما رأى في أحد بعض المسلمين جلوسا محتارين صاح "واها لريح الجنة أجد دون أحد" فقاتل حتى قتل ووجد في جسده بضع وثمانون أثرا من بين ضربة ورمية وطعنة حتى ما عرفته أخته الربيع بنت النضر إلا ببنانه، ونزلت فيه وفي أمثاله من المجاهدين الصادقين هذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬2). وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بعد المعركة يتفقد أنس بن النضر، فوجده بين القتلى وبه رمق فما كان منه - بعد أن رد علي سلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: "أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي من الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف. وفاضت عينه (¬3). فما أروعها من وصية وما أقواه من التزام لا يؤثر فيه الموت وآلام الجراحات!!. وقد حكى القرآن خبر فرارهم والعفو عنهم فقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬4). ويبدو أنهم ترخصوا في الفرار لسماعهم بخبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم (¬5) وكان أول من عرف بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حي هو كعب بن مالك فنادى ¬

_ (¬1) انظر عن قعود البعض سيرة ابن هشام 3/ 33 وتفسير الطبري 7/ 256. (¬2) ابن المبارك: كتاب الجهاد 63 والبخاري (فتح الباري 6/ 21، 7/ 274، 8/ 517). وانظر عن سبب النزول أيضا وأنه في مصعب (الحاكم: المستدرك 3/ 200) وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. (¬3) من رواية ابن إسحق بإسناد رجاله ثقات (مجمع البحرين 2/ 239 وشرح المواهب 2/ 44). (¬4) سورة آل عمران: آية 155. (¬5) ابن الجوزي: زاد المسير 1/ 483.

في المسلمين يبشرهم فأمره الرسول بالسكوت لئلا يفطن له المشركون (¬1). وقد صمدت فئة قليلة كانت حول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ثبت في الميدان ولم تزعزعه الأحداث كما هو شأنه عليه الصلاة والسلام في سائر المواقف الصعبة، فكان يدعو أصحابه كما حكى القرآن الكريم {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} (¬2). وخلص بعض المشركين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وهو في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فقال: "من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟ فقاتلوا عنه واحدا واحدا حتى استشهد الأنصار السبعة (¬3). ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قتالا مشهورا حتى شلت يده بسهم أصابها (¬4)، وقاتل سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناوله السهام ويقول: "إرم فداك أبي وأمي" (¬5) وكان سعد من مشاهير الرماة. ودافع أبو طلحة الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان راميا، فكان النبي يشرف على القتال فيقول له أبو طلحة: "لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك" وكان إذا مر الرجل معه جعبة السهام يقول الرسول: "انثرها لأبي طلحة" (¬6). وقد عبر الرسول عن إعجابه بقتاله فقال: "لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة" (¬7). ورغم استبسال الصحابة في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أصيب إصابات كثيرة فكسرت رباعيته وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك 3/ 201 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي وقال: صحيح. (¬2) سورة آل عمران: آية 153، وتصعدون أني تهربون في بطون الأودية والشعاب. (تفسير الطبري 7/ 301 - 302). (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 146. (¬4) من رواية البخاري (الفتح 7/ 359). (¬5) من رواية البخاري (الفتح 7/ 358). (¬6) من رواية البخاري (فتح الباري 7/ 361). (¬7) رواه أحمد (الفتح الرباني 22/ 589) بإسناد رجاله ثقات.

يمسح الدم وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الإسلام" فأنزل الله عز وجل في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (¬1). لقد استبعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوفق الله من آذوه بهذه الصورة فأخبره الله سبحانه بأن ذلك ليس ببعيد إن أراد الله هدايتهم، فقال عليه الصلاة والسلام لما طمع بإسلامهم "رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" (¬2). وقد ورد أن أبا دجانة كان يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم بظهره حتى كثر النبل فيه، وأن قتادة بن النعمان أبلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عينه أصيبت فردها الرسول صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه (¬3). وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال "في الجنة فألقى ثمرات في يده ثم قاتل حتى قتل (¬4). وكان عبد الله بن جحش قد دعا ربه فقال: (إني أقسم أن نلقي العدو فإذا لقينا العدو أن يقتلوني ثم يبقروا بطني ثم يمثلوا بي فإذا لقيتك سألتني: فيم هذا؟ فأقول: فيك. فلقى العدو ففعل ذلك به) (¬5). وقد أبى عمرو بن الجموح- وكان أعرج شديد العرج مما يسقط عنه الجهاد - إلا أن يشهد المعركة مع أبنائه الأربعة طلبا لشهادة، فقال للرسول ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2/ 149 وسيرة ابن هشام 3/ 29 والبخاري معلقا. (فتح الباري 7/ 365). (¬2) صحيح مسلم 2/ 149. (¬3) ابن إسحق من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة، ولم تثبت من طريق صحيحة، ولكن اشتهرت في كتب السيرة دون إسناد أو بمراسيل (سيرة ابن هشام 3/ 82 ط السقا ومغازي الواقدي 1/ 242 والبداية والنهاية 4/ 23). (¬4) صحيح البخاري (الفتح 7/ 354) وصحيح مسلم 2/ 154 وهذا الرجل المبهم آخر غير عمير بن الحمام الذي استشهد ببدر. (¬5) الحاكم: المستدرك 3/ 199 من مرسل سعيد بن المسيب وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه. وقال الذهبي (مرسل صحيح) قلت: لأن مراسيل سعيد ابن المسيب قوية.

صلى الله عليه وسلم: "أرأيت إن قتلت اليوم أطأ بعرجتي هذه الجنة؟ قال: نعم قال: فوالذي بعثك بالحق لأطأن بها الجنة اليوم إن شاء الله ثم قاتل حتى قتل (¬1). واستشهد حنظلة بن أبي عامر الغسيل وهو جنب، وكان عروسا ليلة أحد فسمع النداء بالخروج فعجل بالخروج ولم يغتسل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "إن صاحبكم لتغسله الملائكة" (¬2)!! وقتل في أحد مخيريق الذي كان من علماء يهود بني النضير وكان قد أوصى بأمواله - إن قتل - للرسول صلى الله عليه وسلم فقبلها (¬3). وقد أبى شيخان كبيران تركهما الرسول صلى الله عليه وسلم في الحصون مع النساء والأطفال عند خروجه إلا اللحاق به والاشتراك في القتال طلبا للشهادة وهما اليمان والد حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش فاستشهدا في الميدان. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فقتله المسلمون خطأ ووداه الرسول صلى الله عليه وسلم فتصدق ابنه حذيفة بديته مما زاده عند الرسول خيراً (¬4). وسارع عمرو بن أقيش إلى أحد، وكان للإسلام كارها، فلما رآه المسلمون منعوه، فقال: "إني قد آمنت" فقاتل حتى جرح فحمل إلى أهله جريحا، فجاءه سعد بن معاذ فقال لأخته: "سليه حمية لقومك أو غضباً لهم أو غضبا ¬

_ (¬1) ابن المبارك: كتاب الجهاد 69 من مرسل عكرمة وابن إسحق عن أبيه عن أشياخ من بني سلمة (سيرة ابن هشام 3/ 44) وتقويان ببعضهما لتعدد المخارج. (¬2) الحاكم: المستدرك 3/ 204وقال: صحيح على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي وقال الألباني: الحديث حسن فقط لأن ابن إسحق إنما أخرج له مسلم في المتابعات وله شاهد عند ابن عساكر، قال عنه: هذا حديث حسن صحيح (الأحاديث الصحيحة 4/ 36 رقم 326). (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 152، 148 ولم يصح في إسلامه حديث ولكن نص على ذلك ابن إسحق والواقدي دون إسناد، ويؤيده أن ابن حجر ترجم له في الصحابة (الإصابة 6/ 57 وانظر عن أموال مخيريق هذه طبقات ابن سعد 1/ 501 - 503 وتركة النبي 78). (¬4) سيرة ابن هشام 3/ 40 والحاكم: المستدرك 3/ 202 وقال: حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

لله؟ فقال: بل غضبا لله ولرسوله، فمات فدخل الجنة وما صلى لله صلاة" (¬1)!! وقد ثبت أن رجلاً (¬2) أخبر الناس الرسول صلى الله عليه وسلم عن حسن بلائه. فقاله: إنه من أهل النار، ثم أخبرهم الرجل بأنه إنما قاتل عصبية لقومه وليس لله. وقد انتحر بسهمه لما آلمته الجراح!! وفي هذين الخبرين آية وبيان لمكان النية في الجهاد، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ومن قاتل لغير ذلك من الأهداف مهما سمت في نظر الناس فليس بشهيد (¬3). وقد خرجت بعض النسوة مع جيش المسلمين إلى أحد منهن أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية التي اضطرت للقتال دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جرحت جراحا كثيرة (¬4). وكانت حمنة بنت جحش الأسدية تسقي العطشي وتداوي الجرحى (¬5). وثبت أن أم سليط كانت تحمل قرب الماء لسقاية المسلمين (¬6). وصح أن عائشة (رض) وأم سليم قامتا بسقي الجرحى بعد تراجع المسلمين (¬7).وهذه الآثار تدل على جواز الانتفاع بالنساء عند الضرورة لمداواة الجرحى وخدمتهم إذا أمنت فتنتهن مع لزومهن الستر والصيانة، ولهن أن يدافعن عن أنفسهن بالقتال إذا تعرض لهن الأعداء. مع أن الجهاد فرض على الرجال وحدهم إلا إذا داهم العدو ديار الإسلام فيجب قتاله من الجميع رجالاً ونساء. ¬

_ (¬1) سنن أبي داؤد 2/ 19 ومستدرك الحاكم 3/ 28. (¬2) سماه ابن إسحق "قزمان" ووافقه الواقدي (سيرة ابن هشام 3/ 4 ومغازي الواقدي 1/ 236). (¬3) الهيثمي: المقصد العلي 1 /ق 80 من رواية أبي يعلي وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. (¬4) ابن هشام: السيرة 3/ 32 بإسناد منقطع. ومغازي الواقدي 1/ 268 وهو ضعيف جداً. (¬5) مجمع الزوائد 9/ 292 وقال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن. (¬6) فتح الباري 7/ 366. (¬7) فتح الباري 6/ 78 وشرح النووي على صحيح مسلم 12/ 189.

ورغم ما أصاب المسلمين من جراح، وما لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم من أذى فقد استمر القتال بين الطرفين وأجهد الجانبين. وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالانسحاب نحو شعاب أحد وقد لحق به المسلمون حتى صعد في أحد شعابه وتمكن المسلمون من صد المشركين عنه، وقد ثبت أن الله تعالى أرسل جبريل وميكائيل من الملائكة ليقاتلا دفاعا عنه لأن الله تعالى تكفل بعصمته من الناس (¬1). ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال. وإن وعدهم الله تعالى أن يمدهم، لأنه جعل وعده معلقاً على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد (¬2). {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (¬3) وكان المسلمون مغتمين لما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم ولما أصابهم فأنزل الله تعالى عليهم النعاس فناموا يسيرا ثم أفاقوا وقد زال عنهم الخوف وامتلأت نفوسهم طمأنينة، قال أبو طلحة الأنصاري: "كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط فآخذه" (¬4). وقال تعالى {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}. وهذه الطائفة التي أهمتها نفسها دون أن تفكر بمصاب المسلمين ومصير الإسلام هي المنافقون الذين قال قائلهم: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) (¬5). ولا شك أن النعاس أعاد للمسلمين بعض ¬

_ (¬1) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 358 و 10/ 282) وصحيح مسلم (2/ 321). (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 401. (¬3) سورة آل عمران: آية 124 - 125. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 365). (¬5) تفسير الطبري 7/ 323 وتفسير ابن كثير 1/ 418.

طاقتهم ونشطهم للدفاع عن أنفسهم خلال الانسحاب، وقد تبعهم بعض المشركين منهم أبي بن خلف الجمحي وقد حلف أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرماه الرسول بحربة فجرحه فرجع إلى أصحابه ومات في طريق عودتهم من أحد (¬1). وقد يئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين، فكفوا عن مطاردة المسلمين في شعاب أحد، ولكن أبا سفيان تقدم من المسلمين وخاطبهم فقال: "أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوا. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني" وفي رواية أخرى قال عمر: "لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار" (¬2). وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيرا له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة. ¬

_ (¬1) الطبري: تفسير 7/ 254 وتاريخ 4/ 23 من مرسل السدي. وابن سعد: الطبقات 2/ 46 من مرسل سعيد بن المسيب ومراسيله قوية، ووصله الواحدي في أسباب النزول ص 56. والخبر تواردته كتب السيرة. (سيرة ابن هشام 3/ 35 - 36 ومغازي الواقدي 1/ 252. (¬2) رواية البخاري (فتح الباري 7/ 349). وأحمد: المسند 4/ 211، 6/ 181 بإسناد حسن.

ويقرر ابن إسحق والواقدي أن أبا سفيان واعدهم لحرب أخرى بعد عام وأنهم وافقوا على الموعد (¬1). وذكر ابن إسحق والسدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل علياً ليعرف وجهة قريش وهل تنوي غزو المدينة أم العودة إلى مكة (¬2) كما ذكر الواقدي أنه أرسل سعد بن أبي وقاص لهذا الاستطلاع (¬3)، والقول الأول أقوى. وعلى أية حال، فقد امتطت قريش إبلها ورضيت بما أحرزت من انتقام دون أن تتطلع إلى نصر حاسم بتعقب المسلمين في شعاب أحد والقضاء عليهم قضاء مبرماً أو بغزو المدينة. وما إن غادرت قريش المكان حتى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدفن الشهداء، وكانوا سبعين شهيداً (¬4)، ولم يؤسر أحد من المسلمين، أما قريش فقد قتل منها اثنان وعشرون رجلاً سماهم ابن إسحق (¬5). وأسر منهم أبو عزة الشاعر فقتل صبراً لأنه أخلف وعده للرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يقاتل ضده عندما منَّ عليه ببدر وأطلقه فعاد فقاتل بأحد (5). وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بني الرجلين من الشهداء في ثوب واحد، وقدَّم عند الدفن أكثرهم حفظاً للقرآن، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلَّ عليهم، وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) (¬6). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 3/ 49 ومغازي الواقدي 1/ 297. (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 49 وتفسير الطبري 7/ 319. (¬3) الواقدي: مغازي 1/ 298. (¬4) ذكر منهم ابن إسحق خمسة وستين بأسمائهم وراد ابن هشام خمسة آخرين. (¬5) سيرة ابن هشام 3/ 104. (¬6) البخاري (فتح الباري 3/ 209، 7/ 374) وأنظر رواية أبي داود من طريق صحابي آخر بإسناد رجاله ثقات (سنن 2/ 174).

وقد وردت روايات تفيد الصلاة على شهداء أحد لكنها لا تقوى على معارضة أحاديث نفي الصلاة عليهم، فكلها متكلم فيها (¬1). وقد دفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد (¬2) وحمل بعض الشهداء أهلوهم ليدفنوهم في المدينة فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بدفنهم في أماكن استشهادهم بأحد (¬3). ولما انتهى من دفن الشهداء صف أصحابه وأثنى على ربه (¬4) فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة (أي الفاقة)، والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الخلق" (¬5) ثم ركب فرسه ورجع إلى المدينة. ¬

_ (¬1) ابن إسحق: سيرة ابن هشام 3/ 53 ومسند أحمد 6/ 191 وأبو داود: السنن 3/ 196 والمراسيل 46. (¬2) الترمذي: سنن (تحفة الأحوذي 5/ 371 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسيرة ابن هشام 3/ 54 - 55. (¬3) أبو داؤد: سنن 3/ 202 والترمذي (تحفة الأحوذي 5/ 279) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح ومسند أحمد بإسناد صحيح (الفتح الرباني 8/ 149). (¬4) الحاكم: المستدرك 3/ 23. (¬5) أحمد: المسند 3/ 324 ط. المكتب الإسلامي. والحاكم: المستدرك 3/ 23 وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقد ظلت ذكرى شهداء أحد عميقة في نفسه عليه الصلاة والسلام فقد تمنى أن يكون استشهد معهم فكان إذا ذكروا يقول: "أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي نحص الجبل - أي سفحه - " (¬1). وكانت صور المقاتلين الشجعان تمر بمخيلته فيثنى عليهم، لما أعطى علي (رض) سيفه لفاطمة (رض) قائلا: "هاك السيف فإنها قد شفتني" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاد سهل بن حنيف وأبو دجانة وعاصم بن ثابت الأقلح والحارث بن الصمة" (¬2). وفي المدينة خرجت نسوة وأطفال يتطلعون في وجوه الجيش ينشدون آباءهم وأزواجهم، وقد استعلت فيهم معاني الإيمان واحتمال المصاب، فلما أخبرت حمنة بنت جحش باستشهاد أخيها عبد الله بن جحش وخالها حمزة بن عبد المطلب استرجعت واستغفرت، ثم أخبرت باستشهاد زوجها مصعب فصاحت وولولت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم إن زوج المرأة منها لبمكان. لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها وصياحها على زوجها (¬3). ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني عبد ديتار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟ فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل - تعني صغيرة (¬4)!! وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بما نال الشهداء من عظيم الأجر فقال ¬

_ (¬1) مسند أحمد (الفتح الرباني 21/ 58) بإسناد حسن. (¬2) الحاكم: المستدرك 3/ 24 وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وأقره الذهبي والهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 123 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. (¬3) ابن إسحق بإسناد عن أبيه عن أشياخ مجهولين من بني سلمة. وابن ماجة: سنن 1/ 507 وفي إسناده عبد الله بن عمر العمري وقد ضعف. (¬4) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 3/ 57) بإسناد فيه عبد الواحد بن أبي عون المدني صدوق يخطئ.

لابنة عبد الله بن عمرو والد جابر: لم تبكين؟! فما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفع (¬1). وقد سمع رسول الله لأهل المدينة نحيبا وبكاء على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له. فبكته نسوة الأنصار، فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ونهاهن عن النياحة أشد ما يكون النهي (¬2). وبذلك حرمت النياحة على الميت إلى الأبد ولم يؤذن إلا بدمع العيون. وقد نزل في شهداء أحد قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬3)، وقال الجمهور: إن الشهداء أحياء حياة محققة وإن أرواحهم في أجواف طير خضر، وإنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون (¬4). وكذلك نزلت آيات القرآن الكريم تمسح جراحات المسلمين، وتزيل عنهم آثار أحد: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬5). {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬6). {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬7). وكان المسلمون يواجهون في المدينة اليهود الشامتين والمنافقين االمرجفين ويواجهون في أطراف المدينة الأعراب المشركين الذين كانوا يتطلعون بشراهة إلى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 3/ 385. (¬2) مسند أحمد 7/ 98 وقال ابن كثير: على شرط مسلم وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح ومستدرك الحاكم 1/ 381 وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وطبقات ابن سعد 3/ 16. (¬3) أحمد: المسند 4/ 123 وأبو داؤد: السنن 3/ 15 والحاكم: المستدرك 3/ 88 وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والآية من سورة آل عمران 169. (¬4) الشوكاني: فتح القدير 1/ 399. (¬5) سورة آل عمران، آية 139. (¬6) و (¬7) سورة آل عمران: الآيتان 140 و 142.

ثمار المدينة وخيراتها. وكان ثمة احتمال أن تندم قريش فتعود لمهاجمة المدينة فكان لابد من التحرك السريع لاستعادة موقع المسلمين والاحتفاظ بمكانتهم، ومن هنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش الذي شهد "أحدا" أن يخرج لمطاردة جيش قريش إلى حمراء الأسد (¬1) رغم إصابة الكثيرين منهم بالجراح، ولم يأذن لسواهم بالاشتراك في حملة المطاردة هذه (¬2)، وقد سارع سبعون من الصحابة للاشتراك ثم بقية الجيش فصار عددهم ستمائة وثلاثين. وقد أثنى القرآن الكريم على مبادرتهم بالخروج. قالت عائشة (رض) لعروة بن الزبير في قوله تعالى {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} قالت: أبوك منهم الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلاً" (¬3). ويذكر ابن إسحق دون إسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بحمراء الأسد ثلاثة أيام هي الاثنين والثلاثاء والأربعاء وأن معبد الخزاعي مر به ثم لقي أبا سفيان والمشركين بالروحاء وقد اعتزموا العودة لاستئصال المسلمين، فخذلهم وأخبرهم بخروج المسلمين إلى حمراء الأسد ونصحهم بالعودة إلى مكة (¬4). ولا شك أن حملة حمراء الأسد حققت الأهداف المرسومة بإظهار قدرة المسلمين على التصدي لخصومهم من الأعراب وقريش رغم ما أصابهم في أحد، فإنهم إذا كانوا قادرين على التحرك العسكري خارج المدينة فهم أقدر على مواجهة اليهود والمنافقين داخلها. ¬

_ (¬1) تقع على بعد 8 أميال من المدينة عل الطريق إلى مكة (سيرة ابن هشام 2/ 102، ومعجم ما استعجم للبكري 2/ 468 ومعجم البلدان لياقوت 2/ 301) وقال البلاذري: تقع جنوب المدينة بعشرين كيلا (معجم المعالم الجغرافية 105). (¬2) سوى جابر بن عبد الله لما أخبره أن أباه خلفه عن أخواته فلم يشهد أحدا. (¬3) من رواية البخاري (فتح الباري 7/ 373) والآية من سورة آل عمران، 172. (¬4) سيرة ابن هشام 3/ 61.

في أعقاب أحد

في أعقاب أحد وكان من نتائج غزوة أحد أن تجرأ الأعراب حول المدينة على المسلمين، وظهر ذلك في التجمعات التي قام بها بنو أسد بقيادة طليحة الأسدي وأخيه سليمة في نجد، وبنو هذيل بقيادة خالد بن سفيان الهذلي في عرفات، مستهدفين غزو المدينة طمعا في خيراتها وانتصارا لشركهم ومظاهرة لقريش وتقربا إليها، وكان ذلك في شهر محرم من السنة الرابعة للهجرة (¬1). وتحرك المسلمون قبل أن يستفحل الأمر، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سلمة بن عبد الأسد بمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار إلى طليحة الأسدي الذي تفرق عنه أتباعه تاركين إبلهم وماشيتهم بيد المسلمين من هو المفاجأة (¬2). وأرسل عبد الله بن أنيس الجهني إلى خالد بن سفيان الهذلي فقتله وهو يرتاد بماشيته في بطن عرنة (¬3) - واد معروف قرب عرفات -. وسعت هذي للثأر لسفيان الهذلي ولجأت إلى الغدر والخديعة، ففي صفر (¬4) سنة أربع قدم وفد من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل جمعا من أصحابه ليفقهوهم في الدين، فبعث عشرة من الصحابة - وقال ابن إسحق إنهم ستة، وقال موسى بن عقبة إنهم سبعة وذكرا أسماءهم - وجعل عليهم عاصم بن ثابت الأقلح أميرا، فلما وصل الوفد بين عسفان ومكة، أغار عليهم بنو لحيان (من هذيل) وهم قريب من مائتي ¬

_ (¬1) طبقات ابن سعد 2/ 50 وزاد المعاد 2/ 121. (¬2) طبقات ابن سعد 2/ 50. (¬3) مسند أحمد 3/ 496 بإسناد حسن، وقد صرح ابن إسحق بالسماع، وسنن أبي داؤد 1/ 287 وقال ابن حجر: إسناده حسن (فتح الباري 2/ 437). (¬4) قال ابن حزم في نصف صفر (جوامع السيرة 176).

مقاتل، فأحاطوا بهم وقد لجأ الوفد إلى مكان مرتفع، وأعطى الأعراب الأمان من القتل للوفد، لكن عاصم بن ثابت قال: "أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر" فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما وستة من أصحابه، وبقي ثلاثة فأعطاهم الأعراب الأمان من جديد فقبلوا، فلما نزلوا إليهم ربطوهم وغدروا بهم، فقاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة فباعوهما لقريش وهما خبيب وزيد. فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث، استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاماً منهم. فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى. فكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزق رزقه الله, فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سَنَّ الركعتين عند القتل هو. ثم قال اللهم أحصهم. ثم قال: ما أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع فقتل (¬1) ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5/ 40 - 41 (ط. استانبول) ومسند أحمد 2/ 310 - 311. وسيرة ابن هشام 3/ 165 - 167 من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة.

وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه (أمية بن خلف الذي قتل ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: أنشدك الله يا زيد أتحب محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي. فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً (¬1). ويرى الواقدي أن هذيلاً على اتفاق مع عضل والقارة في الترتيب لهذا الحادث (¬2) الذي عرف بحادثة الرجيع نسبة إلى الماء الذي جرت عنده. ورغم ما حدث في الرجيع فإن وفود المسلمين لدعوة الأعراب لم تنقطع إذ لا بد من تبليغ دعوة الإسلام مهما غلت التضحيات. فلما قدم أبو براء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنَّة على المدينة دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد ووعد بإجارة وفد يرسله النبي صلى الله عليه وسلم لدعوة الأعراب في نجد، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم وفدا برئاسة المنذر بن عمرو الخزرجي (¬3) في شهر صفر من سنة أربع (¬4) ومعه سبعون من القراء - وقال ابن إسحق أنهم أربعون فقط - فلما وصلوا بئر معونة من نجد على بعد 160 كيلاً عن ¬

_ (¬1) رواه ابن إسحق من مرسل شيخه عاصم بن عمر بن قتادة وقد صرح بالسماع منه فتبقى علة الإرسال (سيرة ابن هشام 3/ 160). (¬2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 50. (¬3) ابن إسحق من مرسل عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي وهما ثقتان (تاريخ خليفة بن خياط 76 وسيرة ابن هشام 2/ 174 وأخرجه موسى بن عقبة من مرسل عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، ورواها الطبري من حديث كعب بن مالك (تاريخ الأمم والملوك 2/ 30 - 31). (¬4) أرخ بن حزم حادثة بئر معونة لعشرين بقين من صفر (جوامع السيرة 180) فيكون قد أرخ لها قبل الرجيع لأنه ذكر أن الرجيع في نصف صفر - مع أنه سرد حادثة الرجيع قبل بئر معونة متابعاً ابن إسحق.

غزوة بدر الموعد

المدينة (¬1) غدر بهم عامر بن الطفيل (¬2) فقتل رسولهم إليه حرام بن ملحان طعنه رجل بأمره في ظهره برمح فصاح "الله أكبر فزت ورب الكعبة"!! وأحاط بهم الأعراب من رعل وذكوان (من بني سليم)، ودافع القراء عن أنفسهم فاستشهدوا سوى عمرو بن أمية الضمري كان قد تأخر عنهم، فعاد وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم الخبر. فمكث يدعو على رعل وذكوان شهراً في صلاة الغداة وذلك بدء تشريع القنوت. وكان القراء السبعون هؤلاء من خيار المسلمين يحتطبون بالنهار ويتصدقون به على أهل الصفة ويصلون بالليل ويتدارسون القرآن (¬3). وهكذا فقد المسلمون في شهر صفر من سنة أربع ثمانين من خيرة الدعاة فلم يكن تبليغ الدعوة الإسلامية سهلاً مأموناً في بوادي الأعراب بل كان محفوفاً بالأخطار والموت ولكن لم يحل شيء دون الدعاة وتبليغ دعوة الله. وكان لابد من تأديب الأعراب الغادرين فقاد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى بني لحيان - الذين قتلوا القراء في الرجيع - في جمادي الأولى من سنة أربع فعلموا به وتفرقوا في الجبال وهذه رواية المدائني (¬4). وأما ابن إسحق فذكر أنها كنت سنة ست (¬5). ولعلهما يشيران إلى حادثتين مختلفتين. غزوة بدر الموعد: وفي ذي القعدة من سنة أربع خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بألف وخمسمائة من أصحابه إلى بدر ومعه عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، وذلك في انتظار ¬

_ (¬1) ياقوت: معجم البلدان 5/ 159 لكنه قدر المسافة بأربع مراحل، والمرحلة أربعون كيلا (كيلو متراً). (¬2) هو ابن أخي البراء عامر بن مالك (فتح الباري 7/ 387). (¬3) صحيح البخاري 5/ 41 - 44 وهي عدة أحاديث عن أنس بن مالك. وفتح الباري 7/ 386 - 388. (¬4) تاريخ خليفة بن خياط 77 من رواية علي بن محمد المدائني. (¬5) سيرة ابن هشام 3/ 321. والبداية والنهاية 4/ 81.

من تاريخ التشريع

قدوم قريش حسب الموعد المحدد منذ وقعة أحد مع أبي سفيان زعيم قريش. وانتظر المسلمون ثمانية أيام دون أن تقدم قريش، وكان أبو سفيان قد خرج بألفين ومعهم خمسون فرساً فلما وصلوا مر الظهران على أربعين كيلا من مكة عادوا بحجة أن العام عام جدب، وكان لإخلافهم الموعد أثر في تقوية مكانة المسلمين وإعادة هيبتهم (¬1). وقد واصل المسلمون إرسال سراياهم إلى الأنحاء المختلفة من نجد والحجاز لتأديب الأعراب فقاد أبو عبيدة بن الجراح سرية إلى طيء وأسد بنجد فتفرقوا في الجبال دون أن يقع قتال (¬2). وقاد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً من ألف مقاتل في شهر ربيع الأول من سنة خمس باتجاه دومة الجندل، وقد بلغه وجود تجمع للمشركين بها، ولكن الجمع تفرق عندما علموا بقدوم المسلمين الذين أقاموا أياماً في المنطقة بثوا خلالها السرايا فلم يلقوا مقاومة ورجعوا إلى المدينة بعد أن وادع في العودة عيينة بن حصن الفزاري (¬3). من تاريخ التشريع: وفي سنة أربع من الهجرة حرمت الخمر في قول البلاذري (¬4). وفي ذي القعدة من سنة أربع للهجرة تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية، وفي حادثة زواجها نزل فرض الحجاب، وقد لخص الحافظ ابن حجر الأقوال في تاريخ نزول الحجاب بقوله: "كان في قول أبي عبيدة وطائفة ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 59 وابن القيم: زاد المعاد 2/ 120 وابن كثير البداية والنهاية 4/ 87. (¬2) تاريخ خليفة بن خياط 77 - 78 من رواية المدائني دون إسناد، وذلك في حوادث سنة خمس. (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 213 ويقرر ابن إسحق عدم وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الدومة. وابن القيم: زاد المعاد: 2/ 125. (¬4) أنساب الأشراف 1/ 272.

في ذي القعدة سنة ثلاث، وعند آخرين فيها سنة أربع وصححه الدمياطي. وقيل: فيها سنة خمس" (¬1). فأما القول بأنه نزل سنة ثلاث فلا يعقل أن يقوم المسلمون بغزو بني المصطلق بعد أسابيع من أحد - التي وقعت في النصف من شوال سنة ثلاث - ولم تندمل جراحاتهم بعد!!. وأما القول بأنه نزل في الخامسة فلا يمكن، لأن ذا القعدة من السنة الخامسة يقع بعد حادثة الإفك التي جرت في شعبان من السنة الخامسة، ومن الثابت أن تشريع الحجاب نزل قبلها، فلا يبقى إلا سنة أربع". ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 462.

غزوة بني المصطلق (المريسيع)

غزوة بني المصطلق (المريسيع) بنو المصطلق بطن من قبيلة خزاعة الأزدية اليمانية (¬1)، وكانوا يسكنون قديداً (¬2) وعسفان (¬3) على الطريق من المدينة إلى مكة، فقديد تبعد عن مكة 120 كيلاً، وعسفان تبعد 80 كيلاً، فيكون بينهما أربعون كيلاً. في حين تنتشر ديار خزاعة على الطريق من المدينة إلى مكة ما بين مر الظهران التي تبعد عن مكة 30 كيلاً وبين الأبواء (شرق مستورة بثلاث أكيال) (¬4) التي تبعد عن مكة 240 كيلاً (¬5)، وبذلك يتوسط بنو المصطلق ديار خزاعة، وموقعهم مهم بالنسبة للصراع بين المسلمين وقريش وقد عرفت خزاعة بموقفها المسالم للمسلمين، وربما كان لصلات النسب والمصالح مع الأنصار تأثير في تحسين العلاقات (¬6)، رغم المحالفات القديمة بينها وبين قريش ذات المصالح الكبرى في الطريق التجارية إلى الشام، ورغم سيادة الشرك في ديار خزاعة حيث كانت هضبة المشلل التي كانت بها "مناة" في قديد. ورغم أن ديارها كانت أقرب إلى مكة منها إلى المدينة. ¬

_ (¬1) القلشندي: قلائد الجمان 93 وانظر التقاء نسبهم مع الأنصار (الأوس والخزرج) في عمرو بن عامر وهو الجد الثاني للأوس والخزرج والرابع للمصطلق (طبقات بن خياط ص 76، 107). (¬2) الحربي: كتاب المناسب 458 - 460. (¬3) الحربي: كتاب المناسك 463. (¬4) عبد الله آل بسام: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام 1/ 584. (¬5) إبراهيم القريبي: مرويات غزوة المصطلق 54 - 58. (¬6) راجع موقف معبد الخزاعي في نصحه لقريش بعدم العودة لمهاجمة المدينة بعد غزوة أحد ص 86.

ولعل هذه العوامل أعاقت - في نفس الوقت - انتشار الإسلام في خزاعة عامة وبني المصطلق خاصة الذي يستفيدون إلى جانب الموقع التجاري بوجود مناة الطاغية في ديارهم معنوياً ومادياً حيث يحج إليها العرب. وأول موقف عدائي لبني المصطلق من الإسلام كان في إسهامهم ضمن الأحابيش في جيش قريش في غزوة أحد (¬1). وقد تجرأت بنو المصطلق على المسلمين نتيجة لغزوة أحد كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة (¬2)، ولعلها كانت تخشى انتقام المسلمين منها لدورها في غزوة أحد، وكذلك كانت ترغب في أن يبقى الطريق التجاري مفتوحاً أمام قريش لا يهدده أحد لما في ذلك من مصالح لها محققة فكانت - بزعامة الحارث ابن أبي ضرار - تتهيأ للأمر بجمع الرجال والسلاح وتأليب القبائل المجاورة ضد المسلمين. وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب الأسلمي للاطلاع على أحوالهم، فأظهر أنه جاء لعونهم وعرف نيتهم في الهجوم على المدينة فعاد وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يبيتون (¬3). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 61 ومغازي الواقدي 1/ 200. (¬2) انظر ص 87. (¬3) طبقات ابن سعد 2/ 63 وقد جمع الأسانيد في أول الكتاب وفي أول هذه المجلدة وأحال عليها في هذه الصفحة بلفظ "قالوا" وهي من طريق الواقدي وأبي معشر السندي وموسى بن عقبة، دخل حديث بعضهم في حديث بعض. ومثل هذا الجمع للأسانيد معيب لاختلاط كلام الضعفاء والثقات ببعضه وصعوبه تخليصه. ومغازي الواقدي 1/ 404 - 405. وشرح المواهب اللدنية 2/ 96.

وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه من المدينة نحو ديار بني المصطلق، وهذا هو الراجح وهو قول موسى بن عقبة الصحيح حكاه عن الزهري وعن عروة (¬1). وتابعه أبو معشر السندي والواقدي وابن سعد (¬2) ومن المتأخرين ابن القيم والذهبي (¬3) أما ابن إسحق فذهب إلى أنها في شعبان سنة ست، ويعارض ذلك مافي صحيحي البخاري ومسلم من اشتراك سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق مع استشهاده في غزوة بني قريظة عقب الخندق مباشرة، فلا يمكن أن تكون غزوة بني المصطلق إلا قبل الخندق (¬4). ولا توجد روايات صحيحة تبين عدد الجيش الذي خرج إلى ديار بني المصطلق أو عدته، ولكن الذهبي قال إنهم سبعمائة مقاتل (¬5) وقال الواقدي: إن معهم ثلاثين فرساً، للمهاجرين عشرة وللأنصار عشرون (¬6). وقد وردت روايتان مهمتان عما حدث عند المريسيع وهو ماء في ديار بني المصطلق بقديد. فالبخاري ومسلم يذكران عن عبد الله بن عمر - وهو شاهد عيان حضر الغزوة - أن النبي صلى الله عليه وسلم "أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقي على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 30/ 242 و 4/ 2156. والبيهقي: السنن الكبرى 9/ 54 وفي إسناده ابن لهيعة خلط بعد احتراق كتبه سنة 171 هـ. والرواية هنا ليست من طريق العبادلة عنه، وفي الإسناد أيضا محمد بن فليح صدوق يهم. ولكن قول موسى بن عقبة أخرجه الحاكم وأبو سعيد عبد الله بن محمد النيسابوري والبيهقي في الدلائل، وأما نقل البخاري عن موسى بن عقبة أنها سنة أربع فكأنه سبق قلم (انظر ابن حجر: فتح الباري 7/ 430). (¬2) فتح الباري 7/ 430 ومغازي الواقدي 1/ 404 وطبقات ابن سعد 2/ 63. (¬3) زاد المعاد 3/ 125 والذهبي: تاريخ الإسلام 2/ 275. (¬4) صحيح مسلم 8/ 115 وفتح الباري 8/ 471 - 472. (¬5) تاريخ الإسلام (المغازي) 1/ 230. (¬6) مغازي الواقدي 1/ 404.

جويرية" (¬1) ولفظ مسلم "كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون ... " (¬2) ورواية مسلم صريحة في أن الغارة وقعت دون إنذار (¬3) لبني المصطلق لأنهم ممن بلغتهم دعوة الإسلام، وقد كانوا يعتبرون في حرب مع المسلمين منذ اشتراكهم مع قريش في غزوة أحد، كما كانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين، فبوغتوا واضطربوا ولم يتمكنوا من المقاومة طويلاً، بل إن رواية الصحيحين لا تشير إلى المقاومة، ولكن ابن إسحق ذكر وقوع قتال على ماء المريسيع ثم انهزم بنو المصطلق وقتل بعضهم وأخذ المسلمون أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فتمت قسمة ذلك بينهم (¬4). ولم تصح رواية في عدد القتلى ومقدار السبي والأموال سوى ما ذكره ابن إسحق من عتق "مائة أهل بيت من بني المصطلق" (¬5)، ولكن الواقدي يذكر أنه قتل عشرة من بني المصطلق وأسر سائرهم "فما أفلت منهم إنسان" (¬6) ويذكر أيضاً أن الغنائم كانت ألفي بعير، وخمسة آلاف شاة، وأن السبي كان مائتي أهل بيت (¬7). وروى أن السبي أكثر من سبعمائة (¬8). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3/ 129 واللفظ له. (¬2) صحيح مسلم 5/ 139. (¬3) خالف الواقدي فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب أن ينادي بني المصطلق يدعوهم إلى الإسلام، ولا عبرة بقول الواقدي إذا انفرد (مغازي الواقدي 1/ 404 - 407). (¬4) سيرة ابن هشام: 2/ 290 - 293 - من مراسيل ثلاثة من شيوخه الثقات ولم يميز كلام بعضهم عن بعض لتقوي بالتعدد بل جمع كلامهم وألف بينه. (¬5) سيرة ابن هشام: 2/ 294 و 645 وسيرة ابن إسحق 1/ 245 بإسناد رجاله ثقات. (¬6) لعله يريد من حضر الوقعة، وإلا فإن الحارث بن ضرار قائدهم لم يؤسر. (¬7) الواقدي: المغازي 1/ 140 وابن سعد: الطبقات 2/ 64 وقوله "مائتي أهل بيت" أي كل واحدة منهم أهل بيت، ومعها أهل بيتها، فلا تعارض بين قوله والرواية التي تقول أنهم أكثر من سبعمائة. (¬8) الزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/ 245.

وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لهلا رمضان بعد أن غاب عنها شهراً إلا ليلتين (¬1). وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصراً جديداً ازدادوا غيظاً على غيظهم، وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشتفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال حادثة الافك التي اختلقوها. ولندع الصحابي زيد بن أرقم وهو شاهد عيان ومشارك في الحادث الأول يحكي خبر ذلك قال: "كنت في غزاة (¬2) فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي (¬3) - أو لعمر - فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا. فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (¬4) فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال: "إن الله قد صدقك يا زيد" (¬5). ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 1/ 404. (¬2) صرحت الروايات الأخرى بأنها غزوة بني المصطلق (أنظر مسند أحمد 3/ 392 - 393 بإسناد صحيح، وفتح الباري 8/ 649 من مستخرج الاسماعيلي بزيادة صحيحة، والترمذي: سنن 5/ 90 وقال هذا حديث حسن صحيح). (¬3) يريد بعمه سعد بن عبادة وهو رأس الخزرج، وليس عمه حقيقة، وأما عمر فهو ابن الخطاب (فتح الباري 8/ 645). (¬4) سورة المنافقين: آية 1، وكان نزولها في طريق العودة من الغزوة (الترمذي: سنن حديث رقم 3312 وقال: هذا حديث حسن صحيح). (¬5) صحيح البخاري 6/ 63 ط استانبول وصحيح مسلم 8/ 119.

ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبد الله الأنصاري ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: "كنا في غزاة فكسع (¬1) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال: دعوها فإنها منتنة. فسمع بذلك عبد الله ابن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه. وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة ثم إن المهاجرين كثروا بعد" (¬2). وقد وردت روايات قوية (¬3) أخرى تعارض هذه ومفادها أن عبد الله بن أبي قال هذه الكلمات في غزوة تبوك، وهو وهم والصحيح أنه لم يشهد غزوة تبوك (¬4). لقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن العصبيات هي من دعاوي الجاهلية وقال: "لينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره" (¬5) فجعل التناصر في طلب الحق والإنصاف، وأبطل المفهوم الجاهلي لـ (أنظر أخالك ظالماً أو مظلوماً). ويلاحظ اهتمامه بسمعة المسلمين في أوساط القبائل بترك معاقبة المنافق عبد الله بن أبي لما في ذلك من مصلحة تأليف القبائل ومنع الدعاية التي قد تنفر من الإسلام. ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على معالجة الموقف بالبيان وإنما أمر الجيش ¬

_ (¬1) أي ضربه برجله. (¬2) صحيح البخاري 4/ 146 و 6/ 128 وصحيح مسلم 8/ 19. (¬3) سنن الترمذي حديث رقم 3314 (ط. دار إحياء التراث العربي بيروت). (¬4) ابن كثير: تفسير 4/ 369 وفتح الباري 8/ 644، 650. (¬5) صحيح مسلم 8/ 19.

بالرحيل طيلة اليوم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً، ليشغل الناس عن الحديث في الفتنة. وقد ضعف مركز عبد الله بن أبي بن سلول في قومه فكانوا يعنفونه ويلومونه كلما أخطأ (¬1). بل إن ابنه عبد الله بن أبي بن سلول استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه، فنهاه فقال: "لا" ولكن بر أباك وأحسن صحبته" (¬2)، ومنع أباه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخولها (¬3). مع شدة بِرَّه بأبيه وهيبته له (¬4) وهو من أعجب المواقف التي تدل على صفاء عقيدة الابن وتخلصه من عصبية الجاهلية رغم قرب عهده بها، مما يبين قوة تأثير الإسلام في اتباعه وإحداثه التغيير العميق في مقاييسهم وسلوكهم. وقد علل الرسول صلى الله عليه وسلم منعه لعبد الله من قتل أبيه بالحرص على سمعة الإسلام فقال: لا يتحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه (¬5). وبعد فشل محاولة المنافقين في إثارة العصبية الجاهلية أعماهم الغضب وقد واتتهم الفرصة لإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته، وكانت عائشة (رض) أم المؤمنين قد خرجت معه إلى غزوة بني المصطلق وذلك بعدما شرع الله الحجاب للنساء، وفي طريق العودة، عندما اقترب المسلمون من المدينة نزلت من هودج البعير لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقداً لها، فرجعت تبحث عنه فحمل الرجال هودجها فوضعوه على البعير وهم يحسبونها فيه - إذ كانت صغيرة ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 290 - 293 من طريق ابن إسحق عن ثلاثة من شيوخه الثقات مرسلاً ويؤيده مرسل جيد من مراسيل عروة بن الزبير (فتح الباري 8/ 649) وأصله في الصحيحين (البخاري 6/ 127 ومسلم 8/ 119). (¬2) الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 318 من رواية البزار، وقال: رجاله ثقات، وانتظر رواية الطبراني صن مراسيل عروة وقال الهيثمي: رجاله الصحيح (مجمع الزوائد 9/ 318). (¬3) الترمذي: سنن 5/ 90 وقال هذا حديث حسن صحيح. (¬4) سيرة ابن هشام 2/ 293. (¬5) ابن حجر: اتحاف المهرة بأطراف العشرة حديث 172 نقلاً عن البزار بسند رجاله ثقات.

خفيفة - ومضى المسلمون إلى المدينة تاركيها في البيداء وقد وجدت عقدها وفقدت الركب، فمكثت في مكانها تنتظر أن يعرفوا بخبرها ويعودوا إليها، فمر بها صفوان بن المعطل السلمي وهو من خيرة الصحابة فحملها على بعيره وانطلق بها إلى المدينة، فوصل إليها بعد دخول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استغل المنافقون هذا الحادث ونسجوا حوله، وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول وأغرى بالكلام مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش فاتهمت عائشة أم المؤمنين بالإفك. وضاق الرسول صلى الله عليه وسلم ذرعاً بدعايات المنافقين وصرَّح بذلك للمسلمين وهم مجتمعون في المسجد معلناً ثقته بزوجته وبالصحابي صفوان بن المعطل، وقد أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من يروج ذلك إن كان من الأوس، فأظهر سعد بن عبادة معارضته لسعد بن معاذ لأن عبد الله بن أبي من الخزرج حتى كادت تقع الفتنة بين الأوس والخزرج لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هدأهم. ومرضت عائشة فاستأذنت النبي في الذهاب إلى بيت أبيها فأذن ثم علمت بخبر الإفك فكانت "لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم" وهي تنتظر أن يعلم الله نبيَّه ببراءتها برؤيا صادقة، وقد انقطع الوحي شهراً عانى خلاله الرسول صلى الله عليه وسلم أشد المعاناة فقط طعنه المنافقون في عرضه وآذوه في زوجه، ولا شك أنه كان يتطلع إلى الوحي وهو في أشد الحاجة إليه لتطمئن نفسه ويخرس ألسن النفاق ويذب عن زوجه الحبيبة وأبيها الذي كان أحب الناس إليه. ثم نزل الوحي بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ...} (¬1). وكان أبو بكر (رض) ينفق على قريبه مسطح، فحلف أن لا ينفق عليه فنزلت الآية {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى ..} إلى قوله {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (¬2) فعاد أبو بكر إلى النفقة عليه (¬3). ¬

_ (¬1) سورة النور: آية 11 - 20. (¬2) سورة النور: آية 22. (¬3) صحيح مسلم 8/ 112 - 118 والبخاري 9/ 89 وتفسير الطبري 18/ 89.

ولا شك أن المسلمين الثلاثة اشتركوا في إشاعة الإفك ولكن الدور الكبير كان للمنافقين أتباع عبد الله بن أبي بن سلول، وإنما ذكرت أسماء الثلاثة لأنهم مسلمون، وما كان ينبغي أن يقعوا في حبائل المنافقين وقد عاتبهم القرآن الكريم بقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (¬1) وكان كثير من المؤمنين على يقظة كاملة وثقة كبيرة بآل بيت النبوة، فلما سمع أبو أيوب الأنصاري بإشاعات المنافقين قال: (سبحانك ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم) (¬2). وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة حد القذف على مسطح وحسان وحمنة (¬3)، أما عبد الله بن أبي بن سلول الذي تولى كبر الإفك وقاد حملة الدعاية فلم يقم عليه الحد ولعل ذلك لأن إقامة الحدود فيها كفارة عن الجناة، وهو ممن توعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة فليس أهلاً لإقامة الحد عليه، وقيل لأن هذا المنافق كان لا يترك دليلاً ضده فلا يتكلم بالإفك أمام المؤمنين (¬4). وقد وردت أحاديث ضعيفة تفيد إقامة الحد عليه أيضاً (¬5). والحق أن حادثة الإفك كادت تشعل نار العصبية من جديد بين الأوس والخزرج هذه المرة حيث تجادل زعماؤهم بغضب في المسجد، وكان هذا هو مقصد المنافقين أن يهدموا وحدة المسلمين ويزعزعوا ثقتهم بقيادتهم، ويشعلوا نار الفتنة. بينهم، ولكن الله سلم، وتمكن الرسول عليه الصلاة والسلام من تهدئة الجميع والحفاظ على وحدتهم والخروج من الامتحان الصعب بنجاح. ¬

_ (¬1) سورة النور: آية 12. (¬2) البخاري 9/ 92 وفتح الباري 13/ 344. والآية من سورة النور 16 تشير إلى ذلك. (¬3) الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 230 من رواية البزار بإسناد حسن. والبيهقي: اسنن 8/ 250 بإسناد حسن. (¬4) زاد المعاد 2/ 127 - 128. (¬5) مجمع الزوائد 9/ 237 - 240، وفتح الباري 8/ 479 - 481.

وقد نالت عائشة (رض) تعويضاً عن محنتها وصبرها وحسن توكلها على الله فنزل في براءتها قرآن يتعبد به الناس على مر الدهور. وما أن رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى جاءته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار تستعينه في عتق نفسها من ثابت بن قيس بن الشماس الذي وقعت في سهمه، وكانت قد كاتبته، وقد ذكرت للرسول مكانها في قومها، فقضى عنها في كتابها وتزوجها فلما علم الناس بذلك أطلقوا سائر السبي وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق مائة أهل بيت، "فما كانت امرأة أعظم على قومها بركة منها" (¬1) فكان عتقها صداقها. وقد جاء الحارث بن أبي ضرار إلى المدينة وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلها، فأذن له أن يخيرها، فلما خيرها اختارت البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وقد أسلم الحارث بن أبي ضرار وقومه، وجعله الرسول صلى الله عليه وسلم يلي صدقات قومه (¬3). وكان لزواج الرسول صلى الله عليه وسلم من جويرية وإطلاق السبي أثر بالغ في تأليف قلوبهم , فبدأوا عهداً جديداً من المشاركة في الجهاد ذوداً عن الإسلام، ومن الطاعة والانقياد لأحكامه حتى إذا تأخر مصدق الرسول صلى الله عليه وسلم مرة عن موعد دفع الزكاة قلق الحارث بن أبي ضرار وقومه واعتزموا المضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة السبب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل الوليد بن عقبة ليقبض صدقاتهم، فمضى بعض الطريق ثم خافهم فرجع وزعم أنهم منعوه الزكاة وأرادوا قتله، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم سرية إليهم فحلف لهم أنه ما رأى الوليد ومضى معهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوضح موقفه فنزلت بحقه الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 294، 645 بإسناد صحيح وسنن أبي داؤد 2/ 347. (¬2) تاريخ خليفة بن خياط: 80 بإسناد رجاله ثقات لكنه من مراسيل أبي قلابة الجرمي. (¬3) مسند أحمد 4/ 279 بإسناد فيه دينار الكوفي وهو مقبول وحديثه يقوي بالمتابعات والشواهد، وله شواهد (انظر الطبري: تفسير 26/ 476 بإسناد حسن من مرسل قتادة).

جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬1) (¬2) وهو من أحسن ما روى في سبب نزول هذه الآية كما يقول ابن كثير (¬3). وقد حدثت هذه الحادثة بعد إسلام الوليد بن عقبة في فتح مكة (¬4). مما يشير إلى توطد الإسلام في بني المصطلق وحسن إسلامهم بعد غزوة بني المصطلق بسنوات قليلة. ومن الأحكام المستنبطة من هذه الغزوة جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار. أما من لم تبلغهم دعوة الإسلام فتجب دعوتهم أولا قبل قتالهم. ومنها صحة جعل العتق صداقاً كما فعل صلى الله عليه وسلم مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة، وكما فعل مع صفية بنت حيي بن أخطب في غزوة خيبر (¬5) - فيما بعد. ومنها مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزرة حيث أصابت القرعة عائشة فخرج بها (¬6). وقد ذكر الواقدي ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: آية 6 - 8 (¬2) مسند أحمد 4/ 279 ومجمع الزوائد 7/ 108 من رواية أحمد والطبراني وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات، والحق أن في إسناد أحمد دينار الكوفي والد عيسى مقبول تحتاج روايته إلى متابع لتقوي إلى الحسن وقد وجدت له شواهد تجعله حسناً لغيره منها مرسل قتادة بإسناد حسن (الطبري: تفسير 26/ 124) ومرسل يزيد بن رومان (سيرة ابن هشام 2/ 296) وحديث أم سلمة وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف (تفسير الطبري 26/ 123) ومرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى بإسناد رجاله ثقات (تفسير الطبري 26/ 123 - 124) وقد تقوت هذه المراسيل لتعدد مخارجها إلى الحسن لغيره. (¬3) الشوكاني: فتح القدير 5/ 60، 62 (¬4) الإصابة: 2/ 516. (¬5) البخاري 7/ 7 ومسلم 4/ 146. (¬6) سيرة ابن هشام 2/ 297 والهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 230 من رواية البزار بإسناد حسن كما ذكر الهيثمي وواقفه السيوطي (الدر المنثور 5/ 27). وأما البخاري فقد خرج ذلك دون التصريح باسم الغزوة (البخاري 4/ 27) وانظر فتح الباري 6/ 78.

خروج أم سلمة أيضاً في هذه الغزوة لم يثبت (¬1). وخروج عائشة يدل على جواز خروج النساء في الغزو، وقد تقدم في غزوة أحد ذكر ذلك وبيان حدوده. ومن الأحكام ثبوت إقامة الحد على القاذفين. ومنها جواز استرقاق العرب كما حدث في الغزوة وهو قول جمهور العلماء (¬2). وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءة قطعية بنص القرآن، ورماها بما اتهمت به فإنه كافر لأنه معاند للقرآن (¬3). ومن الأحكام التي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النساء حيث سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فأذن به وقال: "ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" (¬4). فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها (¬5). وفي حادثة الإفك توضيح دقيق لبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فقد تأثر أبلغ التأثر لرمي المنافقين زوجه. ومع حرصه عليها وحبه لها ولأبيها، فإنه لم يتمكن من الكشف عن الغيب أو استحضار الوحي الذي انقطع عنه شهراً ليجري عليه الابتلاء والامتحان. فلو كان الوحي إلهاماً أو تألقاً عقلياً - أي انبثاقاً من فكرة - فإن الحوافز الكثيرة التي أثرت في كيانه وأقلقت فكره وحفزت عاطفته كانت كفيلة بانطلاق الوحي لإنهاء الصراع والقلق والألم في نفسه عليه الصلاة والسلام ولكن الرسول كما حكى القرآن {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (¬6) ولا سلطان له على الوحي ولا يقدر على استحضاره ولا الإضافة إليه {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 2/ 426. (¬2) فتح الباري 5/ 170 والشافعي: كتاب الأم 4/ 186، ومجد الدين ابن تيمية: منتقى الأخبار 7/ 245 و 8/ 4 (مع نيل الأوطار). (¬3) ابن كثير: تفسير 3/ 276 وشرح صحيح مسلم للنووي 5/ 643. (¬4) صحيح البخاري 3/ 129، 5/ 96، 7/ 29، 8/ 104. (¬5) الطحاوي: معاني الآثار 3/ 30 - 35 والشوكاني: نيل الأوطار 6/ 222 - 224. (¬6) سورة الكهف: آية 110.

الْأَقَاوِيلِ (43) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬1). ولا شك أن حركات المسلمين العسكرية في أنحاء شبه الجزيرة العربية وتحديهم لقريش في بدر الموعد، واستمرارهم في الضغط على اقتصاد مكة بالسيطرة على الطرق التجارية كل ذلك كان يهييء ظرفاً مناسباً لتحالف المشركين مع يهود الذين أجلى المسلمون منهم بني قينقاع وبني النضير عن المدينة, وبقيت قريظة ظاهرها احترام الحلف بينها وبين المسلمين وباطنها الحقد والرغبة في الانتقاض والانتقام وقد تكشفت حقيقة ذلك فيما حدث في غزوة الأحزاب .. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة: آية 44 - 47.

(صفحة تحتوي على خريطة أثرية للمدينة المنورة)

غزوة الخندق (الأحزاب)

غزوة الخندق (الأحزاب) وقد جرت غزوة الأحزاب في شوال سنة خمس، وهو قول جمهور العلماء ومنهم ابن إسحق والواقدي ومن تابعهم (¬1)، ونقل عن الزهري ومالك بن أنس وموسى بن عقبة أنها سنة أربع (¬2)، ولا اختلاف بين القولين في الحقيقة، لأن القائلين أنها سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، فتكون غزوة بدر عندهم في السنة الأولى وأحد في الثانية والخندق في الرابعة، وهو مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة (¬3). فإذاً لا اختلاف بين المؤرخين في أن الخندق في السنة الخامسة. وقد شذ ابن حزم بقوله أنه لم يكن بين أحد والخندق سوى سنة واحدة (¬4)، وبني رأيه على ظاهر حديث عبد الله بن عمر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رده يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وأجازه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة (¬5). ولكن البيهقي وابن القيم والذهبي وابن حجر فسروا ذلك بأن ابن عمر كان يوم أحد في بداية الرابعة عشرة ويوم الخندق في نهاية الخامسة عشرة (¬6). وهو الموافق لقول جمهور علماء السيرة. وتعتبر غزوة الأحزاب للمدينة حلقة من حلقات الصراع العسكري بين المسلمين وقريش فالحرب معلنة بين الطرفين، ولا حاجة لتلمس الأسباب الرئيسية لوقوع القتال، ولكن ثمة عوامل مباشرة في التأثير يمكن بيانها، فغزوة الأحزاب جاءت على أثر إخفاق قريش في تحرير طرق تجارتها إلى الشام في غزوة ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 93؛ ومغازي الواقدي 2/ 440. (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 93؛ وصحيح البخاري 5/ 44، حيث نقل قول موسى بن عقبة والفسوي: المعرفة والتاريخ 3/ 258. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 7/ 393.وقد وضع عمر (رض) التقويم الهجري سنة سبع عشرة للهجرة (السخاوي: الاعلان بالتوبيخ 141). (¬4) جوامع السيرة 185. (¬5) صحيح البخاري 5/ 89. (¬6) البيهقي: دلائل النبوة 122 ب؛ وفتح الباري 5/ 278.

أحد، فقد أوقع المشركون خسائر بالمسلمين في أحد، لكنهم عجزوا عن القضاء عليهم أو دخول بلدتهم، وظلت طرق التجارة القرشية مهددة، ونشطت سرايا المسلمين وغزواتهم بعد أحد حتى محت آثار أحد في المدينة والبوادي معاً، فكانت قريش تفكر بالقيام بعمل عسكري يحسم الموقف لصالحها بالقضاء على المسلمين في المدينة قضاء مبرماً، ونظراً إلى أن قوة قريش وحدها لا تكفي لإنجاز المهمة، فقد سعت قريش إلى التحالف مع الآخرين لحرب المسلمين، وجاءت الفرصة المواتية عندما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة، فذهب عدد من زعمائهم الموتورين إلى خيبر، ومن هناك بدأوا اتصالاتهم بقريش والقبائل الأخرى للثأر لأنفسهم والعودة إلى أرضهم وأموالهم في المدينة، وهكذا خرج وفد منهم إلى مكة فيهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشاً إلى حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم وشهدوا بأن الشرك خير من الإسلام، وقد نزلت في ذلك الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (¬1) ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطفان الكبيرة على حرب المسلمين وهكذا تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير (¬2). ويذكر موسى بن عقبة أن وفد اليهود وعد غطفان بنصف ثمر خيبر لإغرائها بالمشاركة في التحالف (¬3). وكان مكان تجمع جيش قريش وحلفائها في مر الظهران التي تبعد أربعين كيلاً عن مكة، حيث وافاهم حلفاؤهم من بني سليم (¬4) وكنانة وأهل تهامة. ¬

_ (¬1) سورة النساء: آية (51). (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 214، بإسناد صحيح إلى عروة لكنه من مرسل عروة، وابن كثير: تفسير 1/ 513 من رواية ابن إسحق بإسناد حسن إلى ابن عباس. (¬3) فتح الباري 7/ 393. (¬4) فتح الباري 7/ 393 من رواية موسى بن عقبة دون إسناد.

والأحابيش، ثم تحركوا نحو المدينة حتى نزلوا بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة. أما غطفان وبنو أسد فنزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد (¬1) وقد سمى السيوطي القبائل النجدية المشاركة - ومعظمها فروع من غطفان - وهي: غطفان وبنو سليم وبنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة (¬2). وما أن علم المسلمون بخبر تجمع الأحزاب لغزوهم حتى بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم باستشارتهم فيما ينبغي عمله لمواجهة الموقف، وكان هذا دأبه في المواقف كلها تأليفاً لقلوب أصحابه ويقتدي به من بعده وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحرب والأمور الجزئية الأخرى (¬3)، وتدريباً لهم على التفكير بالمشاكل التي تواجه المجتمع والدولة فيظهر فيهم القادة النابهون والساسة المتمرسون، وليشعروا بمسئوليتهم تجاه القضايا العامة ومشاركتهم فيها. وقد أشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق (¬4) في المنطقة الشمالية من المدينة ليربط بين طرفي حرة واقم وحرة الوبرة، وهي المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة، أما الجهات الأخرى فكانت كالحصن تتشابك فيها الأبنية وأشجار النخيل وتحيطها الحرات التي يصعب على الإبل والمشاة السير فيها (¬5). ولم يعترض أحد على خطة الدفاع عن المدينة، فقد كانت جموع الأحزاب كبيرة، وكانت دروس أحد ماثلة قريبة، والخندق يشكل حاجزاً يمنع الالتحام المباشر بين الغزاة والمسلمين، ويمنع اقتحام المدينة، ويوفر للمسلمين موقعاً دفاعياً جيداً، فيكبدون الغزاة الخسائر برشقهم بالسهام من رواء الخندق. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 219، 220 من رواية ابن إسحق دون إسناد وذكر بني أسد من رواية موسى بن عقبة (فتح الباري 7/ 393). (¬2) الخصائص الكبرى 1/ 565. (¬3) ابن تيمية: السياسة الشرعية 134. (¬4) أقدم من أشار إلى ذلك أبو معشر السندي (ت 171 هـ) بدون إسناد (فتح الباري 7/ 393) والواقدي: مغازي 2/ 445، بدون إسناد، وابن هشام: السيرة 2/ 224. (¬5) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 66 - 67.

وشرع المسلمون بحفر الخندق، وكان يمتد من أم الشيخين طرف بني حارثة شرقاً حتى المذاذ غرباً (¬1)، وكان طوله خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة. وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً (¬2). وقد تولى المهاجرين الحفر من ناحية حصن راتج في الشرق إلى حصن ذباب، والأنصار من حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب (¬3). وقد تم الحرف بسرعة رغم الجو البارد والمجاعة التي أصابت المدينة في ذلك الوقت (¬4). فكان طعام الجيش قليلاً من الشعير يخلط بدهن سنخ (متغير الرائحة لقدمه) ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكريه ورائحته المنتنة لفرط الجوع (¬5). وأحياناً لا يجدون سوى التمر (¬6)، وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً (¬7). ولكن حرارة الإيمان طغت على آثار البرد والجوع القارصين، فكان المسلمون يعملون بقوة ويحملون التراب على أكتافهم، وفيهم من كان لا يخدم نفسه من التجار والزعماء، وقد استووا جميعاً في الحفر وحمل الأتربة وهم في غاية الحماس يرددون الأهازيج، والرسول صلى الله عليه وسلم يحفر معهم وينقل التراب حتى اغبرَّ بطنه ووارى التراب جلده، وقد شدَّ على بطنه حجراَّ لفرط الجوع (¬8)، وكان الصحابة يلجأون إليه إذا عرضت لهم الصخرة الكبيرة فيأخذ المعول ويفتت الصخرة (¬9). ¬

_ (¬1) لم تثبت في ذلك رواية صحيحة من الناحية الحديثية، ولكن وردت آثار ضعيفة يمكن الإفادة منها في مثل هذه الموضوعات (مجمع الزوائد للهيثمي 6/ 130؛ والطبري: تفسير 21/ 33؛ وفتح الباري 7/ 397)، ومدار هذه الروايات على كثير بن عبد الله بن عمرو المزني وهو ضعيف. (¬2) مصادر الحاشية السابقة نفسها. (¬3) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 66 - 67؛ وشرح ثلاثيات مسند أحمد 1/ 991 - 200. (¬4) صحيح البخاري 5/ 45؛ وفتح الباري 7/ 395. (¬5) فتح الباري 7/ 392 - 393 من متن صحيح البخاري. (¬6) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 99، وقال: "رواه ابن إسحق وفيه انقطاع". (¬7) فتح الباري 7/ 395 من صحيح البخاري. (¬8) صحيح البخاري 5/ 47، وصحيح مسلم 3/ 1430، وفتح الباري 7/ 395. (¬9) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 395).

وكان يردد معهم الأهازيج والأرجاز مشاركة لهم وتواضعاً، ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لا قينا إن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا وكان يمد صوته بآخرها (¬1). وكان المسلمون يقولون وهم يحفرون وينقلون التراب: نحن الذين بايعوا محمداً ... على الإسلام ما بقينا أبَدَاً فكان يجيبهم بقوله: "اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار والمهاجرة" (¬2)، وربما يبدؤهم بقوله فيردون عليه بقولهم (¬3). وكان لمشاركته صلى الله عليه وسلم بصورة فعلية - وليست رمزية - أثر كبير في الروح التي سادت موقع العمل، وقد تمكن المسلمون من إنجاز الخندق في ستة أيام فقط (¬4). وبذلك نفذوا متطلبات خطة الدفاع عن المدينة قبل وصول الأحزاب. وقد حدثت عدة معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق، منها تكثير الطعام، فقد لاحظ الصحابي جابر بن عبد الله ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الجوع الشديد فطلب من زوجته أن تصنع له طعاماً، فذبح معزى له، وطحنت زوجته صاعاً من شعير، وصنعت برمة، وذهب جابر فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام، وساره بكمية الطعام، فصاح النبي بالمسلمين ودعاهم إلى طعام جابر، فحضر ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5/ 47، والفتح 7/ 339. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 392 - 393). (¬3) صحيح البخاري 5/ 45، وفيه "الجهاد" بدل "الإسلام". (¬4) السمهودي: وفاء الوفاء 4/ 1208 - 1209، وينقل ذلك عن ابن سعد وابن الجوزي: الوفا بأخبار المصطف، ص 693، وتلقيح فهو من أهل الأثر، ص59.

منهم ألف، وأسقط في يد جابر وأهله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بارك في البرمة فأكل منها الجميع حتى شبعوا وتركوا فيها الكثير، فأكل منه أهل جابر وأهدوا منه (¬1). ومن معجزاته إخباره لعمار بن ياسر وهو يحفر بأمر غيبي حيث قال له: "تقتلك الفئة الباغية" فكان أن قتل في صفين (¬2). وعندما واجهت الصحابة صخرة عجزوا عن كسرها أثناء الحفر ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات ففتتها وقال إثر الضربة الأولى: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضربها الثانية، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة (¬3). وهكذا بشرهم بما سيكون من فتوح لهذه البلدان وهم محصورون في خندق يقرصهم البرد والجوع! فقال المؤمنون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬4) وأما المنافقون فقد سخروا من هذه البشارة وقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (¬5). وموقف المنافقين كان يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5/ 46، وصحيح مسلم 3/ 1610. (¬2) صحيح مسلم 4/ 2235. (¬3) من رواية أحمد والنسائي وقال الحافظ ابن حجر أن إسنادها حسن إلى البراء بن عازب - أحد شهود العيان - (فتح الباري 7/ 397) وأورده الطبراني (المعجم الكبير 11/ 376) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد ونعيم العنبري (مجمع الزوائد 6/ 131)، وعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ثقة وأما نعيم فلم أقف على ترجمته. وانظر: مسند أحمد 4/ 303، وفي إسناده ميمون البصري ضعيف، ولكن قد حسن الحافظ ابن حجر هذا الإسناد. (¬4) سورة الأحزاب: الآية (22). (¬5) سورة الأحزاب: الآية (12).

أقوالهم في السخرية والإرجاف والتخذيل (¬1)، ولكن القرآن الكريم يتكفل بتصوير ذلك أدق تصوير والآيات هي: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}. {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}. {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}. {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا}. {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}. {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}. {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}. {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}. ¬

_ (¬1) المعجم الكبير للطبراني 11/ 376،وفيه نعيم العنبري لم أقف على ترجمته وقد وثقه الهيثمي (مجمع الزوائد 6/ 131)، وتفسير الطبري 21/ 131 من مرسل أسامة بن زيد وهو ضعيف، والبيهقي: دلائل النبوة، ص 126 ب، من مرسل محمد بن فليح وهو ضعيف. والسيوطي: الدرر المنثور 5/ 185، من طرق مدارها على كثير بن عبد الله وهو ضعيف.

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} (¬1). والآيات تشير إلى حالة النفاق وما تولده من القلق في النفوس والجبن في القلوب وانعدام الثقة بالله عند تعاظم الخطوب والجرأة على الله تعالى بدل اللجوء إليه عند الامتحان، ولا يقف الأمر عند الاعتقاد بل يتبعه العمل المخذل المرجف، فهم يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم للانصراف عن ميدان العمل والقتال بحجج واهية زاعمين أن بيوتهم مكشوفة للأعداء، وإنما يقصدون الفرار من الموت لضعف معتقدهم وللخوف المسيطر عليهم، بل ويحثون الآخرين على ترك مواقعهم والرجوع إلى بيوتهم، ولم يراعوا عقد الإيمان وعهود الإسلام. ورغم كل تخذيل المنافقين وإرجافهم وظروف المجاعة وشدة البرد، فقد مضى المسلمون في تنفيذ مهامهم وإكمال خطة الدفاع عن المدينة، فلما أنجز الخندق، وضع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال في حصن فارع (¬2) وهو أقوى حصون المسلمين وهو لبني حارثة (¬3). وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم جيشه، فأسند ظهرهم إلى جبل سلع داخل المدينة (¬4)، ووجوهم إلى الخندق الذي يفصل بينهم وبين المشركين الذين نزلوا رومة بني الجرف والغابة ونقمى (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: الآية (13 - 20). (¬2) صحيح مسلم 4/ 1879. (¬3) رواه الطبراني (الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 123 وقال: رجاله ثقات) وفيه شيخ الطبراني وشيخ شيخه لم أقف لهما على ترجمة وفيه هرير الأنصاري مقبول فالإسناد ضعيف لكن المسألة تتعلق بوصف الحصن فيتساهل فيها، وقد ذكر ابن إسحق (الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/ 570 - 571). (¬4) السفاريني: شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد 1/ 199 - 200 وسيرة ابن هشام 2/ 220 والفيروز آبادي: المغانم المطابة 134. ولا يتعارض مع قول ابن إسحق "زغابة" بدل "الغابة" فإن الغابة شمال زغابة وقريبة منها (سيرة ابن هشام 23/ 215). (¬5) الطبري: تفسير 21/ 129 - 130 من مرسل عروة وغيره.

وكان تفوق المشركين العددي كبيراً فقد بلغوا عشرة آلاف مقاتل (¬1)، وذكر ابن سعد أن قريشاً وأحابيشها ومن قدم معها من العرب كانوا أربعة آلاف ومعهم ثلثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير ثم التحق بهم بنو سليم بمر الظهران وهم سبعمائة (¬2). وأضاف ابن الجوزي أن فزارة كانوا ألف رجل، وأشجع كانوا أربعمائة رجل وبنو مرة كانوا أربعمائة (¬3). وبذلك يكون جملة العدد ستة آلاف وخمسمائة مقاتل، وتكون بقية العشرة آلاف مقاتل من بني أسد وبقية غطفان. وأما جيش المسلمين فقد ذكر ابن إسحق أنهم ثلاثة آلاف مقاتل (¬4). وتابعه جمهور علماء السيرة. وجزم ابن حزم أنهم سبعمائة فقط (¬5)، وقد بنى ذلك على أساس أن المسلمين كانوا سبعمائة بأحد وبينها وبين الخندق في رأيه سنة واحدة فمن أين صار للمسلمين ثلاثة آلاف مقاتل!!. ورأي ابن حزم الذي جزم بصحته لا يصح، فالذين شهدوا الوليمة وحدهم في بيت جابر بن عبد الله كانوا ألفاً كما في الحديث الصحيح. والذين كانوا يقومون بالدوريات لحراسة المدينة كانوا خمسمائة (¬6)، فكيف يكون سائر الجيش تسعمائة!!. وما بين أحد والخندق سنتان وقد كبر من الصبيان عدد ممن لم يشهدوا أحداً لصغر سنهم، وقام المسلمون بنشاط كبير في الدعوة إلى الإسلام رغم الأخطار، وكانت الهجرة إلى المدينة تعقب دخول الإسلام، فلا غرابة إذا ما زاد عدد جيش المسلمين. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 215 دون إسناد، وتفسير الطبري 21/ 129 - 130 من مرسل عروة وغيره، وفتح الباري 7/ 393 من طريق ابن إسحق بأسانيده. (¬2) الطبقات الكبرى 2/ 66. (¬3) الوفا بأخبار المصطفى 692. (¬4) سيرة ابن هشام 2/ 220 دون إسناد. (¬5) جوامع السيرة 187. (¬6) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 67.

ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم كثرة الأحزاب، رأى أن يخفف الضغط على المدينة، وأن يصالح غطفان بأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة لعام، لكنه لما شاور سعد بن معاذ زعيم الأوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج قالا: "لا والله ما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية فكيف وقد جاء الله بالإسلام". وفي رواية الطبراني أنهما قالا: يا رسول الله أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله أو عن رأيك أو هواك؟ فرأينا تبع هواك ورأيك فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى. فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاوضة مع الأعراب. وكان يمثلهم الحارث الغطفاني قائد بني مرة (¬1). وقد اشتد الخطب على المسلمين عندما بلغهم أن حلفاءهم يهود بني قريظة قد نكثوا العهد وغدروا بهم، وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف. وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام إلى بني قريظة للاستطلاع، فلما رجع قال له: فداك أبي وأمي، وقال: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير (¬2). ثم أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فمضيا إلى بني قريظة فوجداها قد نقضت العهد ومزقت الصحيفة إلا بني سعنة فإنهم خرجوا من الحصون إلى المسلمين وفاء بالعهد. وكان ذلك على أثر سفارة حيي بن أخطب النضري الذي أقنع كعب بن أسد القرظي بنقض العهد مع المسلمين مبيناً له قوة الأحزاب وأنهم قادرون على القضاء على المسلمين مواعداً له إن رجع الأحزاب ¬

_ (¬1) كشف الأستار 1/ 332 وقد رواه البزار بإسناد حسن من حديث أبي هريرة، وساقه الطبراني أيضاً بإسناد حسن فيه محمد بن عمرو الليثي صدوق له أوهام، ومدار الروايتين عليه. وقد جاء في متن الطبراني ذكر السعود وهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وقد اتفقت الروايتان عليهما وذكر سعد بن الربيع وسعد بن خيثمة وسعد بن مسعود وهو خطأ لأن ابن الربيع استشهد في أحد وابن خيثمة استشهد ببدر. وأما ابن مسعود فلا مانع من مشاورته إذا صحت الرواية (الإصابة 2/ 36). (¬2) فتح الباري 7/ 80، 6/ 52 من متن البخاري.

عن المدينة أن يدخل معه حصنه، فأعلنت قريظة نقض العهد، وشاع الخبر بين المسلمين، فخافوا على نسائهم وأطفالهم من بني قريظة (¬1). وقد وصف القرآن الكريم البلاء الذي أصاب المسلمين في الآية {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬2). فالأحزاب جاءوا فوقهم وبنو قريظة من أسفل منهم والمنافقون ظنوا بالله الظنونا. فأصاب المسلمين زلزال شديد وبلاء عظيم، ولكن الإيمان العميق والتربية الدقيقة جعلت المسلمين يصمدون أمام سائر هذه الأخطار. وقد نظمت الدوريات لحراسة المدينة فكان سلمة بن أسلم الأوسي يقود مائتي رجل وزيد بن حارثة يقود ثلثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير لإشعار بني قريظة بيقظتهم ووجودهم خوفاً منها على النساء والأطفال في الحصون (¬3). وقد فوجئت قريش برؤية الخندق، واحتاروا في كيفية اقتحامه، إذا كلما هموا بذلك أمطرهم المسلمون بالسهام، واشتد الحصار وطال أربعا وعشرين ليلة (¬4). لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبال، وقال قتادة إن الحصار دام شهراً (¬5)، وقال موسى بن عقبة دام عشرين ليلة (¬6). ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 103 من رواية محمد بن إسحق وموسى بن عقبة دون أسانيد والقدر الثابت هو غدر بني قريظة. (¬2) سورة الأحزاب: آية 10 - 11. (¬3) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 67 دون إسناد. (¬4) ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 73 بإسناد رجاله ثقات، من مراسيل سعيد بن المسيب، ومراسيله قوية. وهو أقوى ما ورد حول مدة الحصار. وبه قال ابن إسحق (السيرة النبوية لابن هشام 3/ 224 بضعاً وعشرين ليلة دون تحديد البضع). (¬5) الطبري: تفسير 21/ 128 بإسناد حسن لكنه من مراسيل قتادة، وبه أخذ ابن القيم (زاد المعاد 2/ 131). (¬6) ابن حجر: فتح الباري 7/ 393 بدون إسناد.

وقد أورد ابن إسحق وابن سعد روايات دون أسانيد تفيد أن بعض المشركين اقتحموا الخندق وذكرا أسماء خمسة منهم، وأن علياً بارز عمرو بن عبد ود فارس قريش وقتله، وأن الزبير قتل نوفل المخزومي وأن الثلاثة الآخرين فروا إلى معسكرهم (¬1). ولكن هجمات المشركين لم تنقطع حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر - في أحد الأيام - في وقتها بل صلوها بعدما غربت الشمس (¬2). ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد لأنها إنما شرعت بعد ذلك في غزوة ذات الرقاع (¬3). ورغم طول مدة الحصار فقد استشهد من المسلمين ثمانية (¬4)، منهم سعد بن معاذ زعيم الأوس، أصيب في أكحله (¬5)، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، ثم مات بعد غزوة بني قريظة، حيث انتقض جرحه (¬6). وكان من خيرة الصحابة وله مناقب كثيرة وتضحيات عظيمة من أجل قضية الإسلام (¬7). وقتل من المشركين أربعة، فكانت غزوة الخندق أقل الغزوات قتلى رغم كثرة أعداد المشتركين فيها من الجانبين إذ لم يقع التحام مباشر بينهم حيث حال الخندق دون ذلك. ¬

_ (¬1) السيرة النبوية 2/ 224 والطبقات الكبرى 2/ 68 وأورد الطبري مبارزة على لعمرو بن عبد ودّ من مرسل الزهري ومراسيله ضعيفة ومن مرسل عكرمة بإسناد رجاله ثقات (تاريخ الأمم والملوك 3/ 48 وكنز العمال 10/ 455). ولكن لا يحتاج لإثبات صحة المبارزة إلى درجة الصحة الحديثية لأن مثل هذه الأخبار تشتهر وتعرف بين الناس، وقد شاهد المعركة ألوف المقاتلين. (¬2) فتح الباري 2/ 68، 72،123، 434، 5/ 92. (¬3) فتح الباري 7/ 421 - 424. (¬4) سيرة ابن هشام 3/ 253 والطبقات الكبرى 2/ 68 - 70. (¬5) عرق في وسط الذراع. (¬6) صحيح البخاري 5/ 51. (¬7) تحرك العرش لموته، ومناديله في الجنة أفضل من الحرير (صحيح البخاري: مناقب الأنصار 12 وصحيح مسلم 4/ 1915، 1916).

وكان طول الحصار سبباً في إضعاف معنوية الأحزاب، خاصة إن أهدافهم لم تكن واحدة، فقريش تريد القضاء على المسلمين لتحرير طرق تجارتها وللانتصار لوثنيتها، والأعراب يريدون نصراً سريعاً لنهب المدينة، ويهود مترددة بحيث لم تدخل القتال رغم نقضها للعهد خوفاً من ترك الأحزاب للحصار وجعلها تقف وحدها وجهاً لوجه أمام المسلمين فهي تريد رهائن قبل اشتراكها في القتال. وقد ساق ابن إسحق وموسى بن عقبة والواقدي أخباراً وحكايات حول دور نعيم بن مسعود الغطفاني، وأنه كان مسلماً جديداً لا تعرف قريش ويهود والأعراب بإسلامه، فقام بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئلا تدعهم وتنصرف عن الحصار، وقال لقريش بأن يهود إنما تطلب الرهائن لتسليمها للمسلمين ثمنا لعودتها إلى صلحهم، وهذه الروايات لا تثبت من الناحية الحديثية، ولكنها اشتهرت في كتب السيرة (¬1). وهي لا تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحرب خدعة (¬2). وأياً كان فإن معنوية الأحزاب انهارت لطول الحصار من ناحية ولهبوب العواصف الشديدة الباردة فقد نصر الله المسلمين بريح الصبا (¬3). فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رجالهم، فنادى فيهم أبو سفيان بالرحيل (¬4). وما نالهم من الغزوة سوى التعب وخسارة النفقات. وقد ثبت ذلك بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 229 - 230 من رواية ابن إسحق بدون إسناد والواقدي: المغازي 2/ 481 - 482، 485 وابن كثير: البداية والنهاية 4/ 113. (¬2) صحيح البخاري: الجهاد 157 وصحيح مسلم: الجهاد 18. (¬3) صحيح البخاري: 5/ 47 وصحيح مسلم 2/ 617. (¬4) ابن سعد: الطبقات الكبرى من مرسل سعيد بن جبير (2/ 71) ودلائل النبوة للبيهقي 148 ب وفتح الباري 7/ 400.

إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬1). ولنترك الحديث لشاهد عيان هو حذيفة بن اليمان الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم لاستطلاع حال الأحزاب قال: "لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذننا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة"؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد" ثم كرر قوله مرتين فلم يجبه أحد، "فقال: قم يا حذيفة، فأتتا بخبر القوم. فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم على)، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهماً في كبد القوس، فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولا تذعرهم علي) ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت (¬2)، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان" (¬3). وفي رواية البزار لما رجع حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلاّ في عصبة يوقد النار وقد صب الله عليهم من البرد مثل الذي صب علينا ولكنا نرجو من الله مالا يرجون" (¬4). وهكذا انفض الأحزاب عن المدينة فتنفس المسلمون الصعداء {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب: آية 9. (¬2) أي عاد إليه البرد. (¬3) صحيح مسلم 3/ 1414 - 1415 وقوله "ولا تذعرهم" أي (لا تهجهم) و"أمشي في حمام" أي زال شعوره بالبرد و "قررت" أي (بردت). (¬4) كشف الأستار 2/ 335 - 336.

عَزِيزًا} (¬1). واستجاب الله لدعاء نبيه خلال الحصار "أللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم" (¬2). وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الآثار الخطيرة التي ترتبت على فشل الأحزاب في غزوة المدينة رغم ما حشدوه من طاقاتهم- وهو أقصى ما يستطيعون- بقوله "الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم" (¬3) مما يدل على تغير الاستراتيجية الإسلامية من مرحلة الدفاع عن المدينة إلى مرحلة الهجوم ومما يوضح ذلك أن مسرح الأحداث انتقل من المدينة وما حولها إلى مكة والطائف ثم تبوك بعيداً عن عاصمة الإسلام "المدينة المنورة". * * * ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب. 25. (¬2) صحيح مسلم 3/ 1363 (¬3) صحيح البخاري 5/ 48.

في أعقاب غزوة الخندق

في أعقاب غزوة الخندق سرية الخبط (سرية سيف البحر) استثمر المسلمون ما أصاب الأحزاب من فشل، وضيقوا على قريش الخناق الاقتصادي من جديد فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار لرصد قافلة لقريش قرب ساحل البحر فأصابهم الجوع حتى أكلوا الخبط، فسمي جش الخبط، وقد نحروا بعض الإبل ثم نهاهم أبو عبيدة لحاجتهم إليها إذا لقوا عدوهم، فألقى إليهم البحر بحوت عظيمة فأكلوا منها نصف شهر وحملوا بعضها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منها (¬1). ولعل هذه السرية آخر ما أرسل من سرايا وبعوث لتهديد تجارة مكة حيث توقف ذلك تطبيقاً لمعاهدة صلح الحديبية بعد أن أجهدت اقتصاد مكة حيث عبر أبو سفيان عن ذلك بقوله "وكانت الحرب قد حصبتنا" (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري ومسلم (زاد المعاد 2/ 158) وقد أوضح ابن القيم خطأ ابن سيد الناس في تاريخ السرية في رجب سنة ثمان حيث لم يغزو ولم يبعث سرية في الشهر الحرام. ثم إن صلح الحديبية يمنع اعتراض المسلمين لقافلة قريش فلابد أن تكون سرية الخبط قبل الصلح. فلعلها كانت في أعقاب الخندق كما أثبتها. (¬2) فتح الباري 1/ 34 وذكر في 8/ 79 احتمالاً آخر هو إنهم لم يخرجوا لأخذ القافلة بل لحمايتها من جهينة. ولم أخذ بهذا الاحتمال فإن جهينة كانت قد أسلمت مبكراً والتزمت بالصلح مع المسلمين، وقبل إسلامها لم تكن تتعرض لقوافل قريش بل كانت موادعة للمسلمين ولقريش معاً حرصاً على مصالحها مع الطرفين (انظر مسند أحمد 1/ 178 وسيرة ابن هشام 1/ 595 ثم إن الحافظ صرح بأنها كانت قبل فتح مكة بمدة (فتح الباري 8/ 97).

غزوة الحديبية

غزوة الحديبية الحديبية اسم بئر تقع على بعد اثنين وعشرين كيلاً إلى الشمال الغربي من مكة وتعرف الأن بالشميسي، وفيها حدائق الحديبية ومسجد الرضوان (¬1). وأطرافها تدخل في حدود الحرم المكي ومعظمها من الحِلِّ خارجه (¬2). وقد سميت الغزوة بها لأن قريشاً منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية. وكان خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في يوم الاثنين مستهل ذي القعدة من السنة السادسة (¬3). وقد قصد بخروجه العمرة (¬4)، وفي ذلك إظهار لحقيقة مشاعر المسلمين نحو البيت العتيق وتعظيمهم له، وإبطال لدعاية قريش المعادية التي تريد إظهارهم وكأنهم لا يعترفون بحرمة الكعبة. ولا يخفى أن هذه التظاهرة الإسلامية تبرز قوة المسلمين في أرجاء الجزيرة العربية، خاصة بعد فشل غزوة الأحزاب، وكانت قريش تفطن لهذه المعاني عندما منعت المسلمين من دخول مكة وأداء العمرة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع أن تصده قريش وقد تقاتله، لذلك أراد أن يخرج بأكبر عدد من المسلمين، فاستنفر أهل البوادي من الأعراب فأبطأوا عليه فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وقد سجل القرآن الكريم على الأعراب هذا الموقف الضعيف: {سَيَقُولُ لَكَ ¬

_ (¬1) نسب حرب، ص 350 (¬2) زاد المعاد 3/ 380. (¬3) البيهقي: دلائل النبوة 2/ ق 212، من رواية يعقوب بن سفيان بإسناد حسن لكنه من مراسيل نافع مولى ابن عمر، وقد أجمع أهل العلم على تاريخها بلا خلاف (النووي: المجموع 7/ 78، وابن كثير- البداية والنهاية 4/ 164، وابن حجر: التلخيص الحبير 4/ 90). وأما التحديد بيوم الأثنين فأول من صرح به الواقدي وتلميذه ابن سعد (مغازي الواقدي 2/ 573 والطبقات الكبرى 2/ 95) (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري، ص 1778)

الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} (¬1). وقد ذكر مجاهد: أن المراد بالآية أعراب المدينة جهينة ومزينة (¬2). ونظرا لتوقع الشر من قريش فإن المسلمين أخذوا معهم سلاحهم فكانوا مستعدين للقتال (¬3). خلافا لما ذكر الواقدي من كونهم لم يحملوا السلاح (¬4). وبلغ عدد المسلمين في الحديبية ألفاً وأربعمائة رجل، ذكر ذلك شهود العيان من الصحابة وهم جابر بن عبد الله والبراء بن عازب ومعقل بن يسار وسلمة بن الأكوع (¬5) والمسيب بن حزن (¬6). وقال جابر في رواية أنهم ألف وخمسماثة (¬7). وقال الصحابي عبد الله بن أبي أوفى أنهم ألف وثلثمائة (¬8). واتفاق خمسة من شهود العيان على أنهم ألف وأربعمائة أولى من سواه من الأقوال فهو أصح الصحيح، وإن كان الجمع ليس بمتعذر والاختلاف ليس بكبير. ¬

_ (¬1) سورة الفتح: آيتي (11 - 12). (¬2) تفسير الطبري 26/ 77، بإسناد حسن إلى مجاهد وهو مرسل. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري حديث رقم 4179). (¬4) مغازي الواقدي 2/ 573. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري رقم الحديث 4154،4151 وصحيح مسلم، كتاب الإمارة 74، 76 كتاب الجهاد والسير، 132. (¬6) تاريخ يحيى بن معين 1/ 321، والبيهقي: دلائل النبوة 2/ ق 214، وفيه عنعنة قتادة ولا تضره لأن أصله في الصحيح. (¬7) صحيح البخاري؟ فتح الباري رقم الحديث 3576، 1453) وصحيح مسلم: كتاب الإمارة 73. (¬8) صحيح مسلم: كتاب الإمارة، 75.

وقد صلى المسلمون بذي الحليفة وأحرموا بالعمرة (¬1) وساقوا الهدي سبعين بدنة (¬2)، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عيناً إلى مكة هو بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي (¬3). ولما بلغ المسلمون الروحاء على بعد 73 كيلاً عن المدينة، أرسل أبا قتادة الأنصاري- ولم يكن محرماً بالعمرة- مع جمع من الصحابة إلى غيقة على ساحل البحر الأحمر حيث بلغه وجود بعض المشركين الذين يخشى من مباغتتهم للمسلمين، وقد اصطاد لهم أبو قتادة حمارا وحشيا وهم حرم فأكلوا منه ثم شكوا في حل ذلك، فالتقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في السقيا على بعد 180 كيلاً عن المدينة فسألوه فأذن لأصحابه بأكل اللحم ما داموا لم يعينوا على صيده (¬4). ومضى المسلمون إلى أن وصلوا عسفان على ثمانين كيلاً من مكة فجاءهم بسر بن سفيان الكعبي بخبر قريش وأنها سمعت بمسيرهم، وجمعت لهم الجموع لصدهم عن دخول مكة، وأن خالد بن الوليد خرج بخيلهم إلى كراع الغميم- على بعد 64 كيلاً عن مكة- طليعة، فاستشار النبي أصحابه في أن يغير على ديار الذين ناصروا قريشاً واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم، فقال: (أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 1694، 1695) وهو يشعر بتحديد الميقات قبل الغزوة. (¬2) مسند أحمد 4/ 323، بإسناد حسن وقد صرح ابن إسحق بالسماع في سيرة ابن هشام 3/ 308. (¬3) صحيح البخاري (الفتح الحديث رقم 4179، ومسند أحمد 4/ 323 بإسناد رجاله ثقات وفيه عنعنة ابن إسحق وقد صرح بالتحديث كما في سيرة ابن هشام 3/ 308). (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري رقم الحديث 1821، 1822، 1824) وأما ما رواه البزار بإسناد حسن من أن صيد حمار الوحش كان بعسفان فقد عارض الصحيح كما عارضه بأن إرسال أبي قتادة كان لجمع الصدقة. وما حاوله الكاندهلوي من التوفيق لا يصلح وذلك للتعارض القوي مما يستلزم الترجيح (أنظر: أوجز المسالك إلى موطأ مالك 6/ 352).

هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين وإلا تركناهم محروبين؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامراً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله) (¬1). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الاستشارة لأصحابه. وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعسفان صلاة الخوف، وذلك عندما علم بقرب خيل المشركين منهم (¬2)، فتكون أول صلاة خوف صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان في الحديبية (¬3). على رأي من أخّر غزوة ذات الرقاع إلى ما بعد خيبر وهو الصحيح (¬4). خلافاً لرأي ابن إسحق والواقدي ومن تبعهما (¬5)، لأن أبا موسى الأشعري وأبا هريرة قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر وليس قبل ذلك التاريخ وقد اشتركا في غزوة ذات الرقاع (¬6)، فلزم أن تتأخر عن خيبر، ولزم أن تكون الصلاة بعسفان في الحديبية، إذ أعقبها الصلح ولم يجر قتال في مكة وما حولها حتى كان الفتح. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (الفتح حديث 4179) وقال "غدير الأشطاط" بدل "عسفان"، وهي قريبة منها (فتح الباري 5/ 334). إلا ما يتعلق بذكر خالد بن الوليد فهو من مسند أحمد 4/ 323 بإسناد حسن وقد صرح ابن إسحاق بالسماع في سيرة ابن هشام 3/ 308 وعن موقع كراع الغميم (البلادي: معجم المعالم الجغرافية ص 264). (¬2) سنن أبي داؤد مع معالم السنن، كتاب الصلاة، ص 215 ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 3/ 338) وصححه البيهقي وابن كثير (السنن الكبرى للبيهقي 3/ 257، وتفسير ابن كثير 1/ 548) وقال عنه ابن حجر: سند جيد (الاصابة 7/ 294) ولكن الحديث لم يحدد الغزوة وقد رجح ابن حجر انها غزوة الحديبية (فتح الباري 7/ 423) ويؤيده أن خالد بن الوليد ذكر وجوده قرب عسفان وكان ذلك في غزوة الحديبية. (¬3) حافظ محمد الحكمي: مرويات غزوة الحديبية ص 115 - 133. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري حديث رقم 4125، 4128) وابن القيم: زاد المعاد 3/ 253، وابن كثير. البداية والنهاية 4/ 83، وابن حجر: فتح الباري 7/ 419 - 420. (¬5) سيرة ابن هشام 3/ 203، 304 ومغازي الواقدي 1/ 396. (¬6) فتح الباري حديث رقم 4128، 4233؛ وسنن أبي داؤد مع معالم السنن، كتاب الصلاة. ص 1240، 1241، ومسند أحمد 2/ 345 بإسناد حسن.

وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وعرة عبر ثنية المرار وهي مهبط الحديبية وقال: "من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل" فكان أول من صعدها خيل الخزرج (¬1). وقد غبر الرسول صلى الله عليه وسلم طريق جيشه تجنبا للقتال مع خالد بن الوليد وخيالة المشركين فلما أحس خالد بذلك رجع إلى مكة فخرجت قريش فعسكرت ببلدح (¬2)، فنزلوا على الماء وسبقوا المسلمين إليه. حتى إذا اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته فقالوا: خلات القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" (¬3) ثم عدل عن دخول مكة إلى أقصى الحديبية فنزل على بئر قليلة الماء فاشتكى المسلمون العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها فمازال يجيش بالري حتى صدروا عنه (¬4)، فكان تكثير الماء من معجزاته عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على الاستبقاء على حياة قريش ويأمل إسلامهم وإفادة الدعوة منهم فالناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وقريش من أكثر العرب فصاحة وذكاء وخبرة ومكانة، واستبقاؤها للأسلام فيه خير عظيم للدولة والدعوة كما برهنت الأيام. وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، ص 12. (¬2) بلدح واد بمكة أعلاه وادي العُشَر وأوسطه منطقة الزاهر اليوم ومصبه في مر الظهران شمال الحديبية (البلادي.:معجم المعالم الجغرافية، ص 49). وخروج قريش إلى بلدح لم يثبت من طريق صحيحة بل ورد في دلائل النبوة للبيهقي 2/ ق 219 - 220، من مرسل عروة بإسناد ضعيف إليه، وذكر ذلك الواقدي (مغاري 2/ 582)، وابن سعد (الطبقات الكبرى 2/ 95). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 5/ 329 حديث رقم 2731). (¬4) نفس المصدر السابق. رفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فمضمض ومج في البئر (صحيح البخاري: فتح الباري، حديث رقم 3577) ولا مانع من الجمع بينهما بأنه فعل الأمرين.

يتحسر لعناد قريش وفنائها في الحرب مع المسلمين، فيقول: "يا ويح قريش أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة .. " (¬1). وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش عن طريق رجال محايدين أحياناً وبواسطة رسل أرسلهم لهذا الغرض أحياناً أخرى أنه لا يريد حرب أحد، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وقد قدم عليه بديل بن ورقاء الخزاعي وبيّن أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح له الرسول صلى الله عليه وسلم موقفه، فقام بتوضيحه لقريش (¬2)، فأجابته قريش: "وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها أبدا عليناً ولا تتحدث بذلك العرب" (¬3). والحق أن المسلمين كسبوا الموقف سياسياً سواء دخلوا مكة وتحدثت العرب عن ذلك، أو لم يدخلوا فتحدثت العرب عن صد قريش لمن قصدوا تعظيم البيت العتيق، بعد أن كانت قريش تدعي أن السلمين لا يحترمون المقدسات. وقد سعى الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان موقفه أمام الناس جميعاً، فأرسل رسله تترى إلى قريش يعلنون مقصدهم، فأرسل خراش بن أمية الخزاعي فأرادت قريش قتله لولا أن منعهم الأحابيش (¬4). وأراد أن يرسل عمر بن الخطاب ثم عدل عنه إلى عثمان بن عفان عندما بين عمر شديد عداوته لقريش وأنها تعلم ذلك وأن بني عدي قومه لا يحمونه (¬5). فذهب عثمان إلى قريش، فأجاره أبان بن سعيد بن ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 323، بإسناد حسن وصرح ابن إسحق بالتحديث في سيرة ابن هشام 3/ 308. (¬2) صحيح البخاري (الفتح الحديث رقم 2731، 2732). (¬3) مسند أحمد 4/ 324، وسيرة ابن هشام 3/ 308، وإسناده حسن. (¬4) نفس المصدر السابق. (¬5) نفس المصدر السابق.

العاص حتى أبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سمحت له قريش بالطواف فأبى أن يسبق الرسول صلى الله عليه وسلم بالطواف، وقد أخَّرته قريش فحسب المسلمون أنها قتلته (¬1). فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجرة سمرة فبايعوه جميعاً سوى الجد ابن قيس- وكان منافقاً (¬2) - وكانت البيعة على الموت (¬3). وفي روايات أخرى أنهم بايعوه على ألا يفروا وليس على الموت (¬4). أو أنهم بايعوه على الصبر ولا تعارض في ذلك لأن المراد بالمبايعة على الموت ألا يفروا (¬5). وأول من بادر إلى البيعة أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي (¬6). ثم تتابع الأصحاب وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على موقف الصحابة ومبادرتهم إلى البيعة، فقال: "أنتم خير أهل الأرض" (¬7). وقال: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" (¬8). ولما كان عثمان محبوساً في قريش فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان" (¬9). فعد في المبايعين تحت الشجرة، ولكن عثمان رجع إلى المسلمين بعد بيعة الرضوان مباشرة. وأرسلت قريش عدداً من الرسل للتفاوض، أولهم عروة بن مسعود الثقفي، وقد لاحظ تعظيم المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم وحبهم له وتفانيهم في طاعته، ¬

_ (¬1) مسند أحمد 4/ 324، بإسناد حسن وقد تقدم. (¬2) صحيح مسلم: كتاب الإمارة، ص 69، من حديث جابر بن عبد الله وهو شاهد عيان. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري حديث رقم 4169) وصحيح مسلم. كتاب الإمارة 81. (¬4) صحيح مسلم: كتاب الإمارة 76، 67، 68، وصحيح البخاري (الفتح رقم الحديث2958). (¬5) فتح الباري 6/ 118. (¬6) الإصالة 11/ 171. (¬7) صحيح البخاري (الفتح الحديث 4154). (¬8) صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة 4/ 1942، حديث رقم 2496. (¬9) صحيح البخاري (الفتح، حديث رقم 3698).

فلما رجع إلى قريش قال:"أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً" (¬1). ثم أرسلت قريش الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلاً طلب من أصحابه أن يظهروا أمامه الإبل المشعرة، وأن يلبوا أمامه لأنه من قوم يعظمون ذلك، فلما رأى ذلك رجع إلى قريش، فقال: "رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت" (¬2). فقالوا: أجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك (¬3). ثم أرسلت قريش مكرز بن حفص وأعقبته بسهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم متفائلاً: "لقد سهل لكم أمركم" (¬4). وقال: "لقد أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل"، وكانت قريش قد ألزمت سهيل بن عمرو ألا يكون في صلحه إلا أن يرجع المسلمون دون عمرة في ذلك العام. وقد جرت مفاوضة طويلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو وانتهت إلى عقد صلح الحديبية (¬5). وقد وقع اختلاف في مقدمة العقد حيث أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاءه صبغة إسلامية فاعترض سهيل بن عمرو، وكان علي بن أبي طالب يكتب العقد (¬6)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: أما "الرحمن فو الله ما أدري ما هي ولكن أكتب "باسمك اللهم" كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (الفتح الحديث رقم 2731، 2732). وانظر مسند أحمد 4/ 324، بإسناد حسن من رواية ابن إسحق. (¬2) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 2731، 2732). (¬3) مسند أحمد 4/ 324، بإسناد حسن. (¬4) صحيح البخاري (الفتح الحديث رقم 2731، 2732). (¬5) نفس المصدر السابق. (¬6) عبد الرزاق: المصنف 5/ 343، بإسناد صحيح من حديث ابن عباس، آخر من مرسل الزهري.

أكتب: "باسمك اللهم". ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن أكتب "محمد بن عبد الله" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: "محمد بن عبد الله" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة (¬1). ولكن ذلك من العام المقبل فكتب. فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يوسف (¬2) في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال: والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي (¬3). فقال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزناه لك (¬4). وقد تم الاتفاق على الأمور التالية: "على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه. وأن بيننا عيبة (¬5) مكفوفة. ¬

_ (¬1) أي قهراً. (¬2) يتحامل بقيود رجليه. (¬3) أي يريد إمضاء فعله فيه وهو أن يستثنيه من الشرط. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري حديث رقم 2731، 2732). ويبدو أن قولة مكرز لم تحظ باحترام سهيل فقد أعاد أبا جندل إلى مكة. (¬5) أي بينهم صدر نقي من الغل والخداع مطوي على الوفاء بالصلح (ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3/ 327).

وأنه لا إسلال ولا إغلال (¬1). وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك. وأقمت فيها ثلاث معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب (¬2) " (¬3). وهكذا وقعت الهدنة لمدة عشر سنوات، على ألا يدخل المسلمون مكة إلا بعد مرور عام فيقيموا بها ثلاثة أيام معهم السيوف مغمودة فقط، ولا يقوم الطرفان بأي أعمال دعائية أو عدوانية، ويجوز للطرفين التحالف مع القبائل العربية على قدم المساواة، ويلتزم المسلمون برد المسلمين الفارين من قريش إليها، ولا تلتزم قريش برد المسلمين الفارين إليها. والواقع أن المسلمين تذمروا من هذه الاتفاقية وضاقوا بها ذرعاً، خاصة بعد أن جرت التعديلات على الصياغة الإسلامية للعقد، فقد اعتذر علي بن أبي طالب عن مسح كلمة "رسول الله" فأخذ الرسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب (¬4) ما أراد ¬

_ (¬1) الإسلال السرقة، وقيل سل السيوف، والأغلال: الخيانة وقيل لبس الدروع (النهاية في غريب الحديث 2/ 392، 3/ 380). (¬2) القرب: غمد السيوف. (¬3) مسند أحمد 4/ 325 من طريق ابن إسحق بإسناد حسن حيث صرح بالسماع في سيرة ابن هشام 3/ 308. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري حديث رقم 2699). وقال ابن إسحق "وليس يحسن يكتب - فكتب" (صحيح البخاري - فتح الباري حديث رقم 4251). وفي رواية أخرى "فمحاه رسول الله بيده (فتح الباري حديث رقم 2698 من متن صحيح البخاري) وفي كلتا الحالتين يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأ كلمة "رسول الله" ولا يستدل بذلك على معرفة القراءة والكتابة، كما ذهب أبو وليد الباجي ومن تابعه خطأ فإن معرفة رسم هذه الكلمات أو اسمه عليه =

سهيل بن عمرو. وغضب المسلمون لرد المسلمين الفارين من قريش إليها فقالوا: "يا رسول الله تكتب هذا؟ قال: نعم. إنه من ذهب إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً" (¬1). وظهر الغضب الشديد على عمر بن الخطاب فراجع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك قال: "فأتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال: قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به" (¬2). لكن عمر (رض) لم يكتف بذلك بل أعاد الكلام أمام أبي بكر (رض) بمثل كلامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: "يا عمر إلزم غرزه (¬3) حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد" (¬4). وقال عمر:"ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً" (¬5). ¬

_ = الصلاة والسلام مما يتكرر رسمه أمامه كثيراً من قبل كتابه لا يخرجه عن كونه أمياً كما أخبر القرآن الكريم وبذلك قامت الحجة، وذهب الجمهور إلى أن المراد من قوله "كتب" أي أمر بالكتابة. وهو الأحوط منعاً للشبهات والريب (راجع فتح الباري 7/ 504 ترتيب المدارك 4/ 805). (¬1) صحيح مسلم: كتاب الجهاد 93. (¬2) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 2731، 2732). (¬3) مسند أحمد 4/ 325 بإسناد حسن حيث صرح ابن إسحق بالتحديث في سيرة ابن هشام 3/ 308 وفيه أن عمر (رض) تكلم أولا مع أبي بكر (رض) ثم أعاد الكلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد بـ "إلزم غرزه" التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركاب الفارس فلا يفارقه؟ فتح الباري 5/ 346). (¬4) مسند أحمد 4/ 325 بإسناد حسن. (¬5) المصدر السابق.

وكان عمر (رض) يراجع الرسول صلى الله عليه وسلم ليقف على الحكمة من موافقته على شروط الصلح، وكان يرغب في إذلال المشركين "فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه" (¬1). وكان المسلمون لا يشكون في دخول مكة فلما جرى الصلح تألموا "حتى كادوا أن يهلكوا" وخاصة عندما أعيد أبو جندل وهو يستنجد بهم ويقول: "يا معشر المسلمين أترودنني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني" والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً" (¬2). وكان عمر يمشي بجنب أبي جندل يغريه بأبيه ويقرب إليه سيفه، لكن أبا جندل لم يفعل فأعيد (¬3). ومما يعبر عن مشاعر المسلمين من إبرام الصلح فهو سهل بن حنيف يوم صفين: اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول الله لرددته" (¬4). ولا شك أن ندم عمر (رض) ومن كره الصلح إنما هو لإبداء رأي مخالف لرأي ارتضاه الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن ما يقرره الرسول صلى الله عليه وسلم نص لا مكان للرأي معه. لذلك لما علموا أنه أمر الله لم يكن منهم إلا التسليم (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة في أمرهم" (¬5). ويلاحظ أن قريشاً لم تكف عن التحرش بالمسلمين خلال المفاوضات لكتابة الصلح بل وبعد إنجازه، وسواء أكان ذلك بعلم قادتها للضغط على المسلمين خلال المفاوضات، أم هو من تصرفات شبابها الطائشين، وقد احتمل المسلمين ذلك بانضباط دقيق، فقد أراد ثمانون رجلاً من أهل مكة أخذ معسكر ¬

_ (¬1) فتح الباري 5/ 346 - 347. (¬2) و (¬3) مسند أحمد 4/ 325 بإسناد حسن. (¬4) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 3181، 4189). (¬5) سورة الأحزاب: آية 36.

المسلمين غرةً فأسروا وعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلقهم (¬1). وخرج على معسكر المسلمين ثلاثون شاباً من قريش أثناء كتابة الصلح فأسرهم المسلمون، وأطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم (¬2)، وحتى بعد إبرام الصلح واختلاط المسلمين بالمشركين كان أربعة من المشركين يقعون بالرسول صلى الله عليه وسلم فأخذهم سلمة بن الأكوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، كما عفا عن سبعين من المشركين آخرين أسرهم المسلمون بعد إبرام الصلح، وقد نزلت في ذلك الآية {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (¬3) (¬4). ولعل هذه الأحداث إضافة لتصور معظم المسلمين أن في شروط الصلح إجحافاً بهم أدت إلى غضب المسلمين حتى إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينحروا الهدي ويحلقوا رءوسهم وكرر ذلك ثلاث مرات لم يقم منهم أحد، فكأنهم كانوا يأملون العودة عن الصلح، فلما رأوه قام - بمشورة من أم سلمة (رض) - فذبح بدنه وحلق رأسه قاموا "فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً" (¬5)!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حلق منهم ثلاثاً ولمن قصَّر مرة (¬6). وكان عدد ما نحره المسلمون من الإبل سبعين (¬7). كل بدنة عن سبعة (¬8). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم: كتاب الجهاد 133. (¬2) مسند أحمد 4/ 86 بإسناد رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي (مجمع الزوائد 6/ 145) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين (المستدرك 2/ 460). (¬3) سورة الفتح: آية 24. (¬4) صحيح مسلم: كتاب الجهاد 132. (¬5) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 2731، 2732) ومسند أحمد 4/ 326. (¬6) مسند أحمد 2/ 34، 151 بإسناد صحيح. (¬7) مسند أحمد، 4/ 324 بإسناد حسن. (¬8) صحيح مسلم، كتاب الحج 35.

وقد نحر الرسول صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل غنمه المسلمون ببدر ليغيظ بذلك المشركين (¬1). وقد نحر الهدي في الحديبية في الحل (¬2)، لكن بعض الهدي دخل به ناجية بن جندب منطقة الحرم فنحره (¬3). وهكذا تحلل المسلمون من عمرتهم وشرع التحلل للمحصر وأنه لا يلزمه القضاء. ثم شرع الناس في التهيؤ للعودة إلى المدينة، بعد أن أقاموا بالحديبية عشرين يوماً (¬4). واستغرقت رحلتهم ذهاباً وإياباً شهراً ونصف الشهر (¬5). وفي غزوة الحديبية أذن النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة - وكان محرماً بالعمرة - أن يحلق رأسه لأذى أصابه على أن يقدَّم فديه؛ يذبح شاة أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستين مسكينا. وقد نزلت فيه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (¬6)} (¬7). وفيها أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالصلاة في منازلهم عندما نزلت المطر (¬8). وفي الغزوة نماذج أخرى من تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لمبدأ الشورى في الإسلام حيث استشار المسلمين في الإغارة على ذراري المشركين وأخذ برأي الصديق (رض) (¬9). واستشار أم سلمة في أمر الناس لما لم يبادر بالنحر والحلق حين أمرهم، وأخذ برأيها (¬10). ¬

_ (¬1) سنن أبي داؤد مع معالم السنن، كتاب المناسك 1749. وصحيح ابن خزيمة 4/ 286 - 287 والمستدرك للحاكم 1/ 467 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬2) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 2701) وصحيح مسلم كتاب الجهاد والسير 97. (¬3) الطحاوي: شرح معاني الآثار 2/ 242 بإسناد صحيح. (¬4) والواقدي: مغازي 2/ 616 وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/ 98. (¬5) ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/ 123 من رواية ابن عائذ. (¬6) سورة البقرة: آية 196. (¬7) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 1816، 1817، 1818، 4190). وصحيح مسلم، كتاب الحج 80، 82، 83، 84، 86). (¬8) ابن ماجة: سنن، إقامة الصلاة 936 بإسناد صحيح، وصححه ابن حجر في فتح الباري 2/ 113. (¬9) انظر ص 130. (¬10) انظر ص 140.

ويستشف من غزوة الحديبية الحد الأعلى للمدة التي يجوز فيها مهادنة الكفار عليها لأن الأصل في العلاقة معهم الحرب لا الهدنة. ويستدل بها على جواز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً. وفيها وضح الرسول صلى الله عليه وسلم بعض مسائل العقيدة فبين كفر من يقول (مطرنا بنوء كذا وكذا) فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب (¬1). وبين استحباب التفاؤل بقوله (سهل أمركم) لما قدم سهيل بن عمرو (¬2). وفي الغزوة يظهر جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم مثل التوضأ بماء وضوئه، وهو خاص به خلافاً لآثار الصالحين من أمته (¬3). وحدث في طريق العودة أن نام المسلمون عن صلاة الصبح فلم يوقظهم إلا حر الشمس، وكان بلال بن رباح موكلاً بحراستهم فغلبه النوم، فصلوها بعد خروج وقتها، فهي السنة فيمن نام عن صلاته أو نسيها (¬4). وفي طريق العودة ظهرت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام والماء، قال سلمة بن الأكوع: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا (¬5)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا (¬6)، فبسطنا له نطعاً (¬7) فاجتمع زاد القوم على النطع قال: فتطاولت لأحرزه كم هو؟ فحرزته كربضة العنز، ونحن أربع عشر مائة. قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري، كتاب الأذان 846). (¬2) ابن القيم: زاد المعاد 3/ 305. وانظر فتح الباري كتاب الطب 5755، 5756. (¬3) الشاطبي: الاعتصام 2/ 8. (¬4) سنن أبي داود مع معالم السنن: كتاب الصلاة 447. والنسائي: السنن الكبرى في 119 وصححه الهيثمي وفيه عبد الرحمن بن أبي علقمة من التابعين وثقه ابن حبان وحده ولم يجرحه أحد. (مجمع الزوائد 1/ 319، وثقات ابن حبان 5/ 106 وتهذيب التهذيب 6/ 233) وانظر حول تكرر ذلك في خيبر (فتح الباري 1/ 449). (¬5) إبلنا. (¬6) أوعية الزاد. (¬7) بساط من جلد.

جربنا (¬1). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فهل من وضوء؟ " قال: فجاء رجل بأدواة (¬2) له فيها نطفة فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه (¬3) دغفقة أربع عشرة مائة (¬4) ". وفي الطريق إلى المدينة نزلت سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (¬5). وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن عظيم فرحته بنزولها: "أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" (¬6). قال أنس بن مالك: "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما لنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (¬7) (¬8). وقد أسرع الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم "إنا فتحنا لك فتحا مبينا" فقال رجل: يا رسول الله: أفتح هو؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح (¬9). فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح غامر، وأدركوا أنهم لا يمكن أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام. ¬

_ (¬1) أوعية الزاد. (¬2) إناء صغير من جلد يتخذ للماء. (¬3) نصبه صباً كثيراً. (¬4) صحيح مسلم، كتاب اللقطة 19 وأنظر صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 4152). والفريابي: دلائل النبوة، حديث تكثير الطعام عن عمر (رض). وأحمد: المسند 3/ 417 - 418 عن أبي عمرة الأنصاري. والبيهقي: دلائل النبوة 2 /ق 222 - 223. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 4177). والآية (1) من سورة الفتح. (¬6) المصدر السابق. (¬7) سورة الفتح: آية 5. (¬8) صحيح البخاري (الفتح حديث رقم 4172) وقد أوضح قتادة رواية عن أنس أن تفسيره الفتح بالحديبية عن انس وأما "قال أصحابه هنيئاً مريئاً" فعن عكرمة. (¬9) سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الجهاد 2736 ومسند أحمد 3/ 420 ومستدرك الحاكم 2/ 459 وقال: حديث كبير صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وسوف تتوالى الأحداث مؤكدة الحكمة البالغة والنتائج الباهرة لهذا الصلح الذي سماه الله تعالى: {فَتْحًا مُبِينًا}.وكيف لا يكون كذلك وقد اعترفت قريش بكيانهم لأول مرة فعاملتهم معاملة الند للند بعد أن كانت تصورهم أمام الناس بأبشع الصور مما كان صداه العميق في داخل مكة وأرجاء الجزيرة العربية، وأول ما يظهر في مبادرة خزاعة للتحالف مع المسلمين علنا دون هيبة قريش. وكان لهذا الموقف جذور تاريخية بعيدة، فقد كان العداء التقليدي بين خزاعة وبني بكر من كنانة، وموقف قريش المتحيز لبني بكر قد دفعها إلى محالفة عبد المطلب بن هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الحلف الذي أشار إليه عمرو بن سالم في قصيدته التي استنصر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل الفتح بقوله: "حلف أبينا وأبيه الأتلدا" (¬1). ويلاحظ أن تعاطف خزاعة مع المسلمين كان واضحاً منذ قيام دولتهم في المدينة حتى إعلانهم الصريح للتحالف في الحديبية "إذ كانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة" (¬2). ولكن خزاعة كانت تخفي حقيقة تعاطفها مع المسلمين عن قريش قبل إعلان التحالف الصريح مع المسلمين، وبذلك حافظت على علاقاتها مع قريش طيلة المدة السابقة. وكان السلام المبرم يتيح الفرصة للمسلمين للتفرغ ليهود خيبر آخر معاقل يهود التي استغلت للتحريض على المسلمين في الخندق وما بعدها. كما أتاح الفرصة لهم لنشر الإسلام، يقول الزهري: "فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وآمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 394 من رواية ابن إسحق ومغازي الواقدي 2/ 789 وتاريخ الطبري 4/ 45 وابن زنجويه: الأموال 1/ 401. (¬2) سيرة ابن هشام 743 ط. القاهرة والطبري 1428 ط. أوروبا.

والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك" (¬1). قال ابن هشام: "والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف" (¬2). وقد ظهرت حكم أخرى لهذا الصلح فبعد أن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاءه أبو بصير مسلماً وقد فرَّ من قريش، فأرسلت في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، وفي الطريق تمكن أبو بصير من قتل أحد الرجلين وفرَّ الثاني إلى المدينة وخلفه أبو بصير، "فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد"! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر ... " (¬3). وقد فهم المستضعفون من المسلمين بمكة من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمعت منهم عصابة، وتعرضوا لقوافل قريش التجارية يقتلون حرسها ويأخذون أموالها "فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم" (¬4) وهم بناحية العيص، فقدموا وكانوا قريباً من الستين أو السبعين (¬5). ¬

_ (¬1) و (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 322. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 5/ 332 حديث رقم 2731، 2732). (¬4) المصدر السابق. (¬5) البيهقي: السنن الكبرى 9/ 227 بإسناد فيه يونس بن بكير وهو صدوق يخطئ، والحديث حسن لمتابعاته الكثيرة. وهو من طريق ابن إسحق، وساقه البيهقي من رواية الزهري مرسلاً، ويذكر أنهم صاروا بالعيص ثلاثمائة رجل وأن أبا بصير قدم عليه كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يموت، =

وقصة أبي جندل وأبي بصير وام احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثبات والإخلاص والعزيمة والجهاد حتى مرّغوا رءوس المشركين بالتراب، وجعلوهم يتوسلون بالمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية. هذه القصة نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها وفيها ما يشير إلى مبدأ (قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة) فقد ألحق أبو بصير وجامعته الضرر بالمشركين في وقت كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاء بالصلح، لكن أبا بصير وأصحابه خارج سلطة الدولة - ولو في ظاهر الحال- ولم يكن ما قام به أو بصير والمستضعفون بمكة مجرد اجتهاد فردي لم يحظ باقرار الرسول صلى الله عليه وسلم ورضاه، بل كان بوسع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر أبا بصير بالكف عن قوافل المشركين ابتداء أو بالعودة إلى مكة، لكن ذلك لم يحدث فكان اقراراً له، إذ كان موقف أبي بصير وأصحابه في غاية الحكمة حيث لم يستكينوا لطغاة مكة يفتنونهم عن دينهم ويمنعونهم عن اللحاق بالمدينة، فاختاروا موقفا فيه خلاصهم وإسناد دولتهم بأعمال تضعف اقتصاد مكة وتزعزع إحساسها بالأمن في وقت الصلح. بل يمكن القول بأن اتخاذ هذا الموقف كان بإشارة وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم حين وصف أبا بصير بأنه "مسعر حرب لو كان معه رجال"!! وقد اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على رد الرجال من المسلمين الفارين من قريش بموجب الصلح، أما النساء المهاجرات فلم يردهن، وقد جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة، فجاء أهلها يطلبونها، فلم يردها إليهم" لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬1) فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يختبرهن فإن خرجن بسبب ¬

_ = فمات والكتاب في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وقدم أبو جندل ببقية الرجال على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة (دلائل النبوة 2/ق 343 - 344) نحوه ومن مرسل عروة (دلائل النبوة 2/ ق 245) والمرسل ضعيف ويقوى إذا تعددت مخارجه لكن عروة شيخ الزهري، والزهري من أوسع الرواة عنه رواية والاحتمال القوي أن يكون مخرج الرواية واحداً، فلا تقوى. (¬1) صحيح البخاري (الفتح حديث 2711/ 2712) وفتح الباري 5/ 425.

الإسلام استبقاهن مع دفع مهورهن لأزواجهن، وكان قبل الصلح لا يعيد إليهم مهور الزوجات (¬1). وعدم رد المؤمنات إما لعدم دخولهن في العهد أصلاً، وأنه قصد به الرجال وحدهم، كما في أحد نصوص البخاري "وعلى أنه لا يأتيك منا رجل" (¬2). وإما لأن القرآن نسخ ما ورد بحقهن بالآية: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} (¬3). وهذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك مؤمنة، وكذلك أمر المسلمون بفسخ نكاح المشركات {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (¬4). ويبدو أن إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وهما من رجالات مكة وهجرتهما تم بعد تنازل قريش عن شرط إعادة المسلمين الجدد الذين يلتحقون من مكة بالمدينة حيث لا توجد إشارة لمطالبة قريش بهما. وقد استمرت هدنة الحديبية نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا، ثم نقضت قريش الهدنة حيث أعانت حلفاءها بني بكر ضد خزاعة حلفاء المسلمين على ماء الوتير قريباً من مكة (¬5)، فاستنصرت خزاعة بالمسلمين، وبذلك بطلت المعاهدة، وكان ذلك سبباً مباشراً لفتح مكة. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 3/ 326 من مرسل عروة، والبيهقي (السنن الكبرى 9/ 229 من مرسل الزهري وعبد الله بن أبي بكر بن حزم). (¬2) صحيح البخاري (الفتح 2711، 2712) ولكن ورد في 6/ 240 من طريق الليث عن عقيل "أحد" بدل "رجل" فلو أمكن الترجيح عن طريق مقارنة الروايات وملاحظة اتحاد الكلمة مع اختلاف المخارج، لأمكن القول بأنهن غير مشمولات بالعهد دون تردد. (¬3) صحيح البخاري (الفتح 2711، 2712). (¬4) المصدر السابق والسنن الكبرى 9/ 228، وتفسير ابن كثير 4/ 351. (¬5) البداية والنهاية 4/ 278 بإسناد حسن وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان 414 ومجمع الزوائد 6/ 162 وكشف الأستار عن زوائد البزار 2/ 342 وقال ابن حجر عن إسناد البزار: هو إسناد حسن موصول (فتح الباري 7/ 520).

رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء

رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء أتاح صلح الحديبية الفرصة لتوسيع نطاق الدعوة إلى الإسلام داخل الجزيرة العربية وخارجها، حيث أرسل النبي صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وعبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى نجاشي الحيشة، وحاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس حاكم مصر، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي في اليمامة (¬1). وقد أرَّخ الواقدي والطبري إرسال هؤلاء الرسل في ذي الحجة سنة 6 هـ (¬2)، وأرخ ابن سعد ذلك في محرم من العام السابع (¬3) وتابعه ابن القيم (¬4). كما أرخ ابن سعد لرسالة كسرى قبل ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولى سنة سبع التي قتل فيها كسرى (¬5). وقد ذكر البخاري رسالة كسرى في أعقاب غزوة تبوك في العام التاسع الهجري (¬6)، لكن من الواضح أن البخاري لم يراع عنصر الزمن ¬

_ (¬1) و (¬2) تاريخ الطبري 2/ 228 (ط. مصر). وسيرة ابن هشام 4/ 279 ويضيف بعث عمرو ابن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجُلندي وسند ابن هشام منقطع وبينه وبين راويه مجهول وراويه هو أبو بكر الهذلي أخباري متروك الحديث (تقريب 2/ 401) وطبقات ابن سعد 1/ 258 (ط. بيروت) من رواية الواقدي. بأسانيده إلى أربعة من الصحابة. لكن الواقدي متروك عند المحدثين. ومعظم أخبار الرسل ساقها ابن سعد من هذه الطريق، وقد ألف بين الروايات وجمع كلام الصحابة الأربعة وأدخل بعضه في بعض وساقه مساقاً واحداً. وساق ابن سعد بعض أخبار إرسال بقية الرسل والكتب من طريق هشام الكلبي وهو ضعيف وعلي بن محمد المدائني وهو صدوق (سير أعلام النبلاء 10/ 400) لكن ما ساقه عنه لا يخلو من مطعن كالإرسال وغيره. (¬3) ابن سعد: طبقات 1/ 2: 15 (¬4) زاد المعاد 1/ 30 وذكر ابن حجر أنه قول الواقدي (فتح الباري 1/ 38) ونسب ابن حجر إلى تاريخ خليفة أنه أرخ للرسل سنة خمس وغلّطه، والذي في تاريخ خليفة ص 79 أنه سنة ست فلعل الحافظ اطلع على نسخة مغايرة أو أنه وهم في النقل عنه. (¬5) فتح الباري 8/ 127، والتاريخ المذكور يحدد تاريخ مقتل كسرى على يد ابنه شيرويه (طبقات ابن سعد 1/ 260). (¬6) فتح الباري 8/ 127.

في سرد محتويات "صحيحه". وقد يكون أراد الإشعار بذلك، كما ذهب الحافظ ابن حجر ولكنه يبقى مجرد استنتاج لا يمكن القطع به (¬1). مما يقوي ما ذكرت أن ابن هشام ساق خبر خروج الرسل إلى الملوك بعد حجة الوداع في العام العاشر رغم أن النص الذي ذكره يصرح بأن ذلك بعد عمرة الحديبية (¬2). مع ان مراعاة الترتيب على أساس زمني أقوى في سيرة ابن هشام من صحيح البخاري، وقد نبه الحافظ بن حجر نفسه على احتمال تصرف بعض رواة صحيح البخاري في تقديم وتأخير بعض التراجم مثل تقديم حج أبي بكر سنة تسع على ذكر الوفود ومثل تقديم حجة الوداع على غزوة تبوك (¬3). كما نبه إلى أن البخاري جمع ما وقع على شرطه من البعوث والسرايا والوفود ولو تباينت تواريخهم (¬4). وواضح أن الاختلاف يسير بين التاريخين ووّفق ابن حجر بينهما بقوله "إن دحية أرسل إلى هرقل في آخر سنة ست بعد أن رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية فوصل إلى هرقل في المحرم سنة سبع (¬5). ويدل حديث صحيح على أن كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد وصل إلى هرقل في مدة صلح الحديبية، ويرى ابن حجر أن ذلك كان سنة ست (¬6). وقال أنس بن مالك "كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل جبار يدعوهم إلى الله" وسمَّى منهم كسرى وقيصر والنجاشي، وقال: وليس بالنجاشي الذي أسلم (¬7). ولا شك أن مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبير عملي عن عالمية الرسالة الإسلامية، تلك العالمية التي أوضحتها آيات نزلت في العهد المكي مثل قوله تعالي: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬8) مما يوضح خطأ النظرة القائلة ¬

_ (¬1) فتح الباري 1/ 39، 8/ 129. (¬2) سيرة ابن هشام 4/ 278. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 8/ 83. (¬4) المصدر السابق 8/ 97. (¬5) فتح الباري 1/ 38. (¬6) فتح الباري 1/ 32، 39. (¬7) صحيح مسلم 3/ 1397. (¬8) سورة الأنبياء: آية 107.

بالتدرج في نطاق الدعوة من الإقليمية إلى العالمية تبعاً لاتساع النفوذ السياسي للرسول صلى الله عليه وسلم. فإن صفة العالمية تقررت والمسلمون مستضعفون بمكة يخافون أن يتخطفهم الناس. وقد أخرج البخاري في صحيحه نص كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل، وهو النص الوحيد الذي ثبتت صحته وفق شروط المحدثين من بين سائر نصوص الكتب التي وجهت إلى الملوك والأمراء التي ينبغي أن تنقد من جهة المتن والسند معاً قبل اعتمادها تاريخياً فضلاً عن الاستدلال بها في مجال التشريع، ونصه كما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (¬1) و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2). وقد استشكل الحفاظ المتأخرون ورود هذه الآية - التي قيل إنها نزلت بمناسبة قدوم وفد نجران إلى المدينة في العام التاسع (¬3) - في نص الخطاب الذي أرسل في آخر العام السادس الهجري (¬4)!! وقد ذكروا بعض الحلول التوفيقية للتخلص من هذا التعارض فقالوا إنه يجوز أن تكون الآية المذكورة قد أنزلت مرتين، ثم استبعدوا ذلك (¬5). وقال البعض: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك قبل ¬

_ (¬1) الأريسيون: الفلاحون. (¬2) فتح الباري 1/ 32، 8/ 162، والآية من سورة آل عمران 64. (¬3) ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 207، 215) وفتح الباري 1/ 39. (¬4) ابن حجر: فتح الباري 1/ 39 والقسطلاني: المواهب اللدنية 1/ 223 والزرقاني: شرح المواهب 3/ 338. (¬5) ابن حجر: فتح الباري 1/ 39 والقسطلاني: المواهب 1/ 223.

نزل الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت (¬1). وقيل: بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة، وقيل: نزلت في اليهود (¬2). ولا شك أن حل الإشكال يتوقف على معرفة سبب النزول ولم تثبت رواية صحيحة مسندة في أنها نزلت في وفد نجران، ولكن قال بذلك ابن إسحق عن محمد بن جعفر بن الزبير مرسلاً وهو ثقة وفي إسناد الطبري إلى ابن إسحق محمد بن حميد الرازي ضعيف، وقال بذلك السدي وفي إسناد الطبري إليه أسباط وهو صدوق كثير الخطأ يغرب، وكذلك قال به علي بن زيد بن جدعان مرسلا وهو ضعيف، فهذه ثلاث روايات مرسلة، وفي إسنادها جميعا ضعف، وقد ورد في تفسير الطبري (¬3) ما يعارضها بإسناد حسن إلى قتادة مرسلا وبإسناد فيه ضعف إلى ابن جريج مرسلا، وبإسناد فيه ضعف إلى الربيع بن خثيم مرسلا، فهذه ثلاث روايات مرسلة أيضا تقول بأن الآية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ...} نزلت في يهود المدينة، تدعوهم إلى الكلمة السواء ومعنى ذلك أنها نزلت قبل إجلائهم، وكان آخر إجلائهم في السنة الخامسة بعد الخندق وهو يعضد القول بأن نزول الآية قبل إرسال كتاب هرقل، ولعل في إيراد البخاري في صحيحه ما يشير إلى ترجيحه للروايات القائل بتقدم نزول الآية المذكورة وإلا ما كان يثبت نص الكتاب في صحيحه. ¬

_ (¬1) المصدران السابقان. (¬2) ابن حجر: فتح الباري 1/ 39 مختصر تفسير ابن كثير 1/ 287. (¬3) انظر طرق هذه الروايات في تفسير الطبري 3/ 302 - 304 ويلاحظ أن إسناده إلى قتادة حسن وإلى الربيع بن خثيم فيه المثنى مجهول الحال وعبد الله بن أبي جعفر صدوق يخطئ. وإلى عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج فيه القاسم بن عيسى الواسطي صدوق تغير والحسين بن بشر الحمصي لا بأس به وهذه هي حال أسانيد الروايات التي تقول بنزول الآية في يهود المدينة، وأما الروايات التي تقول بأنها نزلت في وفد نجران ففي إسناده إلى السدي أسباط بن نصر صدوق كثير الخطأ يغرب. وقد انتقد الإمام مسلم لروايته عنه في صحيحه!! وفي إسناده إلى ابن إسحق يوجد محمد بن حميد الرازي حافظ ضعيف وتنتهي الرواية الثالثة إلى علي بن يزيد بن جدعان وهو ضعيف.

فما دامت الآية قد وردت في نص كتاب صحيح كتب في العام السادس فإن ذلك من أقوى الأدلة على تقدم نزولها قبل قدوم وفد نجران. وينبغي أن يكون نص الكتاب مرجحاً لتاريخ نزولها لا أن تكون سبباً في استشكال نص الكتاب. وقد أشار البخاري إلى إرسال كتاب النبي إلى كسرى دون أن يذكر نص الكتاب. لكنه بيّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل كتابه مع عبد الله بن حذافة السهمي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين المنذر بن ساوي العبدي، وأن المنذر دفعه إلى كسرى الذي مزقه بعد أن قرأه وقد دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمزقهم الله كل ممزق (¬1). وقد مَزَّق الله ملك كسرى فقتله ابنه واستولى على عرشه وتمزقت الإمبراطورية الفارسية ثم زالت من الوجود. وأما نص الكتاب إلى كسرى فلم يثبت من طريق صحيحة وإنما أورده الطبري وغيره بأسانيد ضعيفة. وقد ثبت في صحيح مسلم إرسال كتاب النبي إلى النجاشي، وبين الإمام مسلم أنه ليس بالنجاشي الذي أسلم (¬2). ولم يثبت نص الكتاب فقد أورده ابن إسحق بدون إسناد (¬3). وأما نصوص الكتب التي وجهت إلى المقوقس حاكم مصر وهي كتابان وكذلك ردود المقوقس وهي كتابان أيضا فلم تثبت من طريق صحيحة. وكذلك لم تثبت نصوص الكتب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق وهوذة بن علي الحنفي حاكم اليمامة وجيفر وعباد ابني الجلندي حاكمي عمان والمنذر بن ساوي في البحرين (¬4) من الناحية الحديثية، ولا يعني ذلك نفي إرسال الكتب إلى ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 126 وهو من رواية البخاري لكنه لم يسم عظيم البحرين. (¬2) سيرة ابن إسحق 210. وقد ذكرت المصادر الأخرى نصين آخرين مختلفين (انظر مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد الله رقم 21 ومقابل ص 45) ولا تثبت هذه الروايات عند المحدثين إذ أنها لم ترو بإسناد صحيح. وكذلك حال الكتابين اللذين أرسلهما النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم (حميد الله: مجموعة الوثائق رقم 23 و 24). (¬3) صحيح مسلم حديث 1774. (¬4) ذكره أبو عبيد: الأموال 30 من رواية عروة مرسلا، وأرخه قدامة بن جعفر في السنة الثامنة للهجرة (الخراج 278).

هؤلاء الملوك والحكام كما أنه لا يعني الطعن التاريخي بالنصوص إذ يمكن أن تكون صحيحة من حيث الشكل والمضمون، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الاحتجاج بها في السياسة الشرعية. ومن ثم يبقى نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل هو الوحيد الذي يصح حديثياً ويمكن اعتباره نموذجا تقارن به بقية الكتب لغرض النقد التاريخي. وإن هذا الحكم يسري على معظم وثائق العهد النبوي الأخرى إذ لا مجال لتصحيحها من الناحية الحديثية ولم تُعنَ الكتب الستة بتخريجها سوى كتاب هرقل في البخاري وكتاب عمير ذي مران في (سنن أبي داؤد) (¬1)، رغم أن الكثير منها يمكن أن يكون صحيحاً من الناحية التاريخية، ولكنه يبقى دون الاحتجاج به في موضوعات العقيدة والشريعة. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لن يقرأوا كتابك إذا لم يكن مختوما، فاتخذ خاتماً من فضة ونقشه: محمد رسول الله (¬2). مما يدل على مرونة السياسة الإسلامية في الإفادة من الوسائل والرسوم المعاصرة ما دامت لا تتعارض مع أحكام الشريعة وروحها العامة (¬3). ¬

_ (¬1) سنن أبي داؤد 2/ 38 - 39. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 10/ 334). (¬3) عثر المستشرق بارتليمي (Barthelemy) على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس مكتوبة على ورق جلدي قديم بناحية أخميم من صعيد مصر سنة 1850 م وقد نشرتها المجلة الآسيوية سنة 1854 م وهي محفوظة في متحف طوب قبو ساري باستنبول وتبدو داكنة ورقيقة وقد أصابها تشقق من وسطها، ولكنها ما زالت مقروءة. وقد وثق بها المسيوبلين (Bellin) ووافقه نولدكه. وأعلن الدكتور بوش (Busch) الألماني سنة 1863 م في مجلة المستشرقين الألمان العثور على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي. ولن تحظ بالتوثيق الكافي. ونشر المستشرق الإنكليزي دنلوب (Dunlop) في مجلة الجمعية الآسيوية الملكية سنة 1940 م أنه حصل على رق جلدي فيه رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي. ولكنه شك في صحتها وأعلن الدكتور صلاح الدين المنجد في جريدة الحياة البيروتية سنة 1963 م عن الكشف عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى مرجحا صحتها ولكن الثابت أن كسرى مزق الرسالة!! كما كشف عن وثيقة خاصة من وثائق العهد النبوي سنة 1973 م وهي قديمة يزيد عمرها على ألف سنة، ولكن لم =

ويلاحظ أن الكتاب الموجه لهرقل يتسم بالمحافظة على الصيغة الإسلامية حيث بدأ بالبسملة، كما يتسم بالصراحة في الدعوة إلى الإيمان بالإسلام وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، لكنه بنفس الوقت يصبطغ بالحكمة والموعظة الحسنة واحترام المخاطب (عظيم الروم) لمكانته بين قومه وترغيباً له في الإسلام ومع الترغيب بالأجر ذكر الترهيب من الإثم الذي يلحقه إذا حجب قومه عن الإسلام. ... ¬

_ = يقطع بتوثيقها حتى الآن. وقد شك معظم المستشرقين في صحة إرسال الرسائل بالجملة منهم المستشرق الانكليزي وليام ميور في كتابيه "حياة محمد" و "الخلافة" والمستشرق الايطالي ليون كايتا؛ في كتابه "حوليات الإسلام" والمستشرق اليهودي مرجليوث في كتابه "محمد" وتتلخص اعتراضاتهم بأن الإسلام دين يخص العرب وأن الدولة الإسلامية كانت ضعيفة لا يمكنها تحدي القوى العالمية آنذاك وبأن ابن إسحق لم يذكرها، وبأن فيها تفاصيل أسطورية، وبأن بعض الرسائل تشتمل على آية قرآنية قبل أنها نزلت بعد تاريخ الرسائل بسنتين. وهذه الملاحظات لا تقوى على هدم الأساس التاريخي لوجود الرسائل، كما أن الرسائل التي عثر عليها تحتاج إلى دراسة مختبرية وتوثيقية للقطع بصحتها أو عدمه (راجع حول معلومات هذه الحاشية بحث "الدراسات المتعلقة برسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك في عصره" للدكتور عز الدين إبراهيم ضمن بحوث المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية، قطر - 1400 هـ).

تأديب الأعراب

تأديب الأعراب ولم تخل فترة الصلح من أحداث شغب قام بها الأعراب، لكنها لم تكن خطيرة ولم تؤثر على تفرغ المسلمين للدعوة ونشر الإسلام من ذلك ما حدث في: غزوة ذات القرَد: وقد وقعت قبل غزوة خيبر بثلاث ليال، وذلك حين أغار عبدالرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري على نياق للرسول صلى الله عليه وسلم فأخذها وقتل راعيها، فلحقه سلمة بن الأكوع بعد ان أنذر المسلمين، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد سلمة بن الأكوع قد خلص النياق منهم واضطرهم للهرب وقد انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ماء ذي قرد ورجع إلى المدينة (¬1). ومن ذلك أيضاً: قصة عُكل وعرينة: وبعد غزوة ذي قرد قدم رجال من قبيلتي عكل وعرينة إلى المدينة معلنين إسلامهم، ثم طلبوا أن يسكنوا الريف لأنهم يستوخمون المدينة، فأمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنياق وراع فخرجوا إلى الحرة فارتدوا وقتلوا الراعي وأخذوا النياق، فأرسل إليهم بعثا فجاءوه بهم حيث سمرت أعينهم وقطعت أيديهم وتركوا في حرة حتى ماتوا. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة بعدها (¬2). ... ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 460) وصحيح مسلم 3/ 1432. وأما ابن إسحق وكتاب السيرة الآخرون فيرون أن الغزوة كانت سنة ست قبل الحديبية (فتح الباري 7/ 460) وقال البيهقي: الذي لا نشك فيه أن غزوة ذي قرد كانت بعد الحديبية وخيبر وحديث سلمة بن الأكوع مصرح بذلك (فتح الباري 7/ 420 - 421) وقد وقعت فيها صلاة الخوف وإنما شرعت بعد الخندق. ويذكر خليفة بن خياط أن المغير هو عيينة بن حصن وليس ابنه عبدالرحمن (تاريخ خليفة 77). (¬2) صحيح البخاري: (فتح الباري 7/ 458).

ومن ذلك: غزوة ذات الرقاع: اختلف كتاب السيرة في تاريخ هذه الغزوة، فجنح البخاري إلى أنها بعد خيبر، وذهب ابن إسحق أنها بعد النضير وقبل الخندق سنة أربع، وعند ابن سعد وابن حبان أنها كانت في المحرم سنة خمس، وأما أبو معشر فجزم أنها كانت بعد بني قريظة والخندق. والراجح ما ذهب إليه البخاري وأبو معشر لأن أبا موسى الأشعري شهدها وقد قدم من الحبشة بعد فتح خيبر مباشرة، وأبو هريرة شهدها وقد أسلم حين فتح خيبر، وقد سميت بغزوة ذات الرقاع كما سميت بغزوة نجد وغزوة بني محارب وبني ثعلبة من غطفان. وقد اقترب المسلمون من جموع غطفان دون أن يقع قتال بينهم، ولكن أخافوا بعضهم حتى صلى المسلمون صلاة الخوف في مكان يبعد من المدينة يومين يدعى نخلا ثم عادوا إلى المدينة، وقد اختلف في سبب تسميتها بغزو ذات الرقاع، لكن أبا موسى الأشعري ذكر أنها سميت بذلك لأنهم لفّوا في أرجلهم الخرق بعد أن تنقبت خفافهم، وكان لكل ستة بعير يتعاقبون على ركوبه (¬1). وهذه الأحداث لم تحظ باهتمام كبير عند قدامى المؤرخين حيث طغت عليها أخبار إرسال الرسل لدعوة الملوك والامراء إلى الإسلام (¬2)، وفتح خيبر، وتوجه المسلمين إلى مكة في عمرة القضاء. وعلى أية حال فإن سقوط خيبر فسح المجال أمام المسلمين للسيطرة على المناطق الشمالية المتاخمة للشام ويبدو أن غزوة ذات الرقاع التي اتجهت إلى ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 416 - 421. (¬2) كان ذلك عقب عودته - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية وقد أرخ ابن سعد إرسالهم وهم ستة رسل في يوم واحد في المحرم سنة سبع (طبقات 1/ 2/15ط. أوروبا) وتابعه ابن القيم (زاد المعاد 1/ 30) في حين يقدم الطبري تاريخ إرسالهم قليلا فيجعلها في ذي الحجة سنة 6 هـ (تاريخ الطبري 2/ 228).

غطفان - وهي القوة الثانية في المنطقة بعد يهود خيبر - كانت ضمن خطتهم هذه، وقد أعقبتها غزوة مؤتة في هذا الاتجاه ولكن اهتمام المسلمين بزيارة الكعبة وأداء عمرة القضاء أخّر إرسال جيش مؤتة قليلاً.

عمرة القضاء

عمرة القضاء وفي ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاصدا العمرة، كما اتفق مع قريش في صلح الحديبية (¬1)، حيث اشترطوا "ألا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وألا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، وألا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها" (¬2) وقاضاهم أن يقيم بمكة ثلاثة أيام ثم يخرج عنها (¬3). وقد ذكر موسى بن عقبة أن المسلمين صحبوا معهم أسلحتهم خشية من غدر قريش، وأنهم أبقوها خارج الحر (¬4). وقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان فيهم الذين شهدوا الحديبية (¬5)، ولما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان عبد الله بن رواحة يمشي بين يديه وينشد: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله (¬6) وطاف المسلمون بالكعبة وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُظهروا القوة والجَلَد في طوافهم، لأن قريشا أشاعت أنهم ضعفاء "قد وهنتهم حمى يثرب" فأرملوا وسارعوا بالعدو في الأشواط الثلاثة الأولى (¬7)، وكانت قريش قد تركت مكة إلى جبل قعيقعان تنظر إليهم يطوفون (¬8) ويتعجبون من قوتهم، وقعيقعان يواجه ما بين الركنين من الكعبة. ¬

_ (¬1) ابن حزم: جوامع السيرة 219، وهو قول ابن إسحق وموسى بن عقبة ويعقوب بن سفيان بسند حسن عن ابن عمر (فتح الباري 7/ 500). (¬2) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 449) (¬3) رواه البخاري (فتح الباري 449) (¬4) فتح الباري 7/ 449 - 500 ولم يسند موسى بن عقبة الخبر. (¬5) ذكره الحاكم في الأكليل دون إسناد (فتح الباري 7/ 500) (¬6) الترمذي وقال: حديث حسن غريب (فتح الباري 1/ 502). (¬7) و (¬8) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 508 - 509) وانظر مسند أحمد رقم 3536 (من ط أحمد شاكر) بإسناد صحيح.

ولما انتهت الأيام الثلاثة جاء المشركون إلى علي (رض) فقالوا (قل لصاحبك اخرج عنا فقط مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم) (¬1). وقد نزل في عمرة القضاء قوله تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬2). ومن الأحكام التي اتضحت في هذه العمرة حكم من اعتمر فصد عن البيت فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه، وتحقيقه هل كانت عمرة القضاء قضاء لعمرة الحديبية التي لم تتم أم شروعا في عمرة جديدة؟. ومن الأحكام المتعلقة بالرضاعة قصة عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب حيث لحقت وهي طفلة بالرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة فأخذها (رض) ودفعها لفاطمة (رض) وهي ابنة عم أبيها فاختصم فيها زيد بن حارثة لأخوته لحمزة (بالمؤاخاة) وجعفر بن أبي طالب لأن خالتها زوجه وعلي بن أبي طالب، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال:"الخالة بمنزلة الأم". لأن جعفر محرم لها إذ لا يجمع الرجل بين المرأة وخالتها في الزواج (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (فتح الباري 7/ 499). (¬2) سورة الفتح: آية 27. (¬3) فتح الباري 7/ 505.

(صورة لمواضع بعض الغزوات من كتاب الرسول القائد لمحمود شيث).

غزوة مؤتة

غزوة مؤتة ينفرد الواقدي بذكر السبب المباشر لهذه الغزوة، وهو أن شرحبيل ابن عمرو الغساني، قتل صبرا الحارث بن عمير الأزدي الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى بكتابه، وكانت الرسل لا تقتل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل الجيش إلى مؤتة (¬1). والواقدي ضعيف لا يعتمد عليه خاصة إذا انفرد بالخبر. والحق أن البحث عن الأسباب المباشرة لغزو القبائل العربية في أطراف الشام لا يؤثر على تفسير الأحداث كثيراً، لأن تشريع الجهاد يقتضي الاستمرار في إخضاع القبائل العربية وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية بصرف النظر عن الأسباب المباشرة. فكان لابد من إخضاع الدويلات العربية النصرانية الموالية للروم، وبالتالي سبق الروم في التحرك في المنطقة قبل قيامهم بعمل ضد الدولة الإسلامية الفتية. وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد عودته من عمرة القضاء بقية شهر ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول والثاني، وفي جمادي الأولى بعث (¬2) جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل إلى الشام (¬3)، وعين زيد بن حارثة أميرا عليه، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن أبي رواحة (¬4) مما يدل على جواز تعليق الإمارة بشرط، وتولية عدة أمراء بالترتيب (¬5). وهذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها مثل هذا الاحتياط، وربما كان متوقعا أن تحف الأخطار هذه الحملة لوجهتها البعيدة، ولعدم وقوع احتكاك سابق بمناطق تخضع لنفوذ دولة قوية كالأمبراطورية البيزنطية التي كانت قبائل الشام وأطرافها موالية لها سياسيا. ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 1/ 2/17، وابن حجر: الإصابة 1/ 589، وفتح الباري 7/ 511. (¬2) ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 3/ 427) ط محمد محيي الدين عبد الحميد. (¬3) من مرسل عروة بن الزبير (سيرة ابن هشام 3/ 427) وإسناد ابن إسحاق إلى عروة حسن. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 510؛ وابن إسحق: من مرسل عروة (سيرة ابن هشام 3/ 427). (¬5) فتح الباري 7/ 513.

وقد وصل الجيش إلى معان عندما وصلته أخبار نزول هرقل بأرض مآب - وهي البلقاء- في مائة ألف من الروم ومائة ألف أخرى من نصارى العرب لخم وجذام وقضاعة (بهراء وبلي وبلقين) فأمضى المسلمون ليلتين في معان يتشاورون في أمرهم وبعضهم يرى مكاتبة الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بقوة العدو ليمدهم أو يأمرهم بأمره. فشجع عبد الله بن رواحة الجيش، وقال: "يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة" (¬1). وأحدثت كلماته أثرها فدب الحماس في الجيش، وفقدت آراء المتريثين قوتها، فاندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك بيسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولات عظيمة انتهت باستشهادهم، فشاط زيد بن حارثة في رماح الروم فاستشهد، وأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فعقر فرسه الشقراء وقاتل بالراية فقطعت يمينه فأمسكها بشمال فقطعت فاحتضن الراية حتى استشهد، فأخذ الراية عبد الله ابن رواحة فتردد يسيرا ثم اندفع فقاتل حتى استشهد، فأخذ الراية ثابت بن أرقم ونادى في المسلمين أن يختاروا لهم قائدا فاختاروا خالد بن الوليد، وقد أدرك خالد خطورة الموقف فأعاد تنظيم جيشه وبدل المسيرة بالميمنة وجعل قسما من الجيش يتقدمون من الخلف وكأنهم أمداد جديدة لإيهام الروم، وتمكن خلال ذلك من القيام بانسحاب منظم لم يفقده إلا اليسير من جنده حيث سمت المصادر ثلاثة عشر شهيدا فقط (¬2). ¬

_ (¬1) ابن إسحق دون إسناد (سيرة ابن هشام 3/ 430). (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 430 - 447 وابن حزم: جوامع السيرة ص 220 - 222 ولم يسند ابن إسحق قصة الوقعة سوى عقر جعفر بن أبي طالب لفرسه وخبر تردد ابن رواحة ثم إقدامه حيث ساقهما بإسناد حسن وفيه جهالة اسم الصحابي ولا تضر.

ويعتبر هذا الانسحاب المنظم الناجح فتحا عظيما حيث تمكن خالد من إنقاذ جيشه بخسائر طفيفة مع الإثخان في الروم وإصابتهم بقتلى وجرحى، ولا شك أن استبسال المسلمين في القتال وشجاعتهم النادرة وحرصهم على الشهادة بالإضافة إلى عبقرية خالد العسكرية هو الذي مكنهم بعون الله من الخلاص من المأزق. لقد وجد في جسد جعفر بن أبي طالب أكثر من تسعين إصابة بالرماح والسهام (¬1)، وما أقعده ذلك عن القتال حتى الرمق الأخير!! وقد انكسرت تسعة أسياف في يد خالد بن الوليد (¬2). ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام أنه أخبر أصحابه باستشهاد القادة الثلاثة وعيناه تذرفان بالدموع قبل أن يأتيه الرسول بالخبر، وأخبرهم باستلام خالد للراية وبشرهم بالفتح على يديه (¬3). والمراد بالفتح في هذا الحديث الصحيح إما الانسحاب المنظم الناجح، وإما ما أوقعه المسلمون بالروم من خسائر رغم تفوقهم العددي الكبير. ورغم نجاح الانسحاب، فقد صاح الناس في وجوههم- وهم يحثون في وجوههم التراب- "يافرار فررتم في سبيل الله!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله" (¬4). ولا شك أن موقف الرأي العام يعبر عن مدى عمق الوعي الإسلامي في تلك المرحلة. وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام مكانة شهداء مؤتة عند الله تعالى بقوله: "ما يسرني أو قال ما يسرهم أنهم عندنا" (¬5)، أي: لما نالهم من عظيم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 510). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 515). (¬3) نفس المصدر السابق 7/ 512. (¬4) ابن إسحق بسند حسن إلى عروة لكنه مرسل ضعيف (سيرة ابن هشام 3/ 438). (¬5) صحيح البخاري 6/ 135.

التكريم. وجيء بأبناء جعفر بن أبي طالب فداعبهم وأمر بحلق رءوسهم ودعا لهم وقال لأمهم وهي تذكر يتمهم "العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة" (¬1)!! ولا شك أن المسلمين أفادوا دروسا وخبرات عظيمة من هذا اللقاء الأول مع الروم في مستقبل حركاتهم الجهادية معهم حيث تعرفوا على قوتهم وعددهم وأساليب قتالهم وخططهم وطبيعة الأرض التي يقاتلون عليها. ¬

_ (¬1) مسند أحمد حديث رقم 1750 (ط. شاكر) بإسناد صحيح.

غزوة ذات السلاسل

غزوة ذات السلاسل ولم تمض سوى أيام على عودة الجيش من مؤتة إلى المدينة حتى جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشا بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، وذلك لتأديب قضاعة التي غرّها ما حدث في مؤتة التي اشتركت فيها إلى جانب الروم فتجمعت تريد الدنو من المدينة، فتقدم عمرو بن العاص في ديارها ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستعين ببعض فروع قضاعة من بليّ وعذرة وبلقين عليها، وقد بلغ عمرو بن العاص أن جموعها كبيرة فاستمد الرسول صلى الله عليه وسلم فأمده بمائتين من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعليهم أبو عبيدة عامر بن الجراح. ويذكر عامر الشعبي (ت 103 هـ) أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا عبيدة على المهاجرين وعمرو بن العاص على الأعراب وطلب منهما أن يتطاوعا وأن الجيش أرسل ضد بني بكر لكن عمرو بن العاص أغار على قضاعة (¬1). وقد توغل الجيش في ديار قضاعة التي هربت وتفرقت، وقد أعادت هذه الحملة الهيبة للمسلمين في هذه المنطقة، تلك الهيبة التي كانت أحداث غزوة مؤتة قد زعزعتها (¬2). وفيها صلى عمرو بن العاص بالمسلمين بعد أن تيمم من الجنابة حيث خاف على نفسه المرض إذا اغتسل بسبب البرد، وقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاده حين بلغه (¬3). ¬

_ (¬1) الرواية ساقها الإمام أحمد بإسناد صحيح إلى عامر الشعبي، لكنه أرسلها والمرسل من أنواع الضعيف عند المحدثين، وكان عامر الشعبي من المعنيين بالمغازي حتى شهد له بذلك عبد الله بن عمر (تهذيب التهذيب 5/ 67). (¬2) زاد المعاد 3/ 157، نقلا عن ابن سعد بدون إسناد. وابن حجر: فتح الباري 8/ 74 - 75. (¬3) حديث صحيح أخرجه أبو داؤد والدارقطني والحاكم والبيهقي (الألباني: صحيح سنن أبي داؤد رقم 360، 361). وأخرجه الإمام أحمد: المسند 4/ 203، بإسناد فيه ابن لهيعة.

ويدل تأمير عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر على جواز تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية (¬1). وإذا كانت حملات المسلمين العسكرية قد اتجهت نحو الشمال منذ صلح الحديبية الذي أوقف حملاتهم نحو الغرب والجنوب الغربي حيث تقبع مكة آمنة في ظلال الصلح، فإن ذلك لم يدم طويلا حيث لم تقدّر قريش نعمة الأمن والسلم، فبادرت إلى نقض الصلح مما أدى إلى عودة النشاط الإسلامي العسكري إلى سابق عهده نحو مكة وما حولها. ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 75.

فتح مكة

فتح مكة لقد ارتكبت قريش خطأ فادحاً عندما أعانت بالخيل والسلاح والرجال حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين، فأوقعوا بها الخسائر على ماء بأرض خزاعة يدعى الوتير، فاستنجدت خزاعة بالمسلمين، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة فأنشد أبياتا من الشعر أمام الرسول صلى الله عليه وسلم يستنصره، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" (¬1). ويذكر ابن إسحاق أن بني بكر ألجأوا خزاعة إلى الحرم وقاتلوها فيه (¬2)، ويذكر الواقدي أن قتلى خزاعة بلغوا عشرين رجلا (¬3). وقد أوضح موسى بن عقبة أن الذين أعانوا بكرا على خزاعة من زعماء قريش فيهم صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، ويذكر أن الإعانة كانت بالسلاح والرقيق (¬4). وتصرف قريش هذا نقض صريح لمعاهدة الحديبية، وعدوان سافر على حلفاء المسلمين، وقد أدركت قريش خطورة الموقف، وتشير بعض الروايات إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى قريش يخيرهم بين دفع دية قتلى خزاعة أو البراءة من حلف بكر أو القتال فاختارت القتال، ثم ندمت وأرسلت أبا سفيان إلى المدينة يطلب تجديد المعاهدة، لكنه فشل في الحصول على وعد بتجديد المعاهدة (¬5). ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 278 من طريق ابن إسحق بإسناد حسن لذاته وقد صرح ابن إسحق بالتحديث وله شاهد ضعيف في الطبراني: المعجم الصغير 2/ 73 لضعف يحيى بن سليمان الخزاعي وشاهد آخر في مسند أبي يعلى الموصلي 4/ 400 وفي سنده حزام بن هشام الخزاعي شيخ محله الصدق وأبوه تابعي مجهول الحال وقد وثقهما ابن حبان (الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 162). (¬2) السيرة النبوية 2/ 389 بدون إسناد. (¬3) الواقدي: المغازي 2/ 784 بإسناد ضعيف جدا. (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 281 من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد. (¬5) ابن حجر: المطالب العالية 4/ 243 من مرسل محمد بن عباد بن جعفر بإسناد إليه صحيح. وفتح الباري 8/ 6 من رواية محمد بن عائذ الدمشقي من حديث ابن عمر وقارن بابن كثير: البداية والنهاية 4/ 281 والواقدي: المغازي 2/ 786.

وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز للغزو ولم يعلمهم بوجهته وحرص على السرية لئلا تستعد قريش للقتال (¬1). وقد استنفر القبائل التي حول المدينة: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه بالطريق، وقد بلغ عدد جيش المسلمين عشرة آلاف مقاتل (¬2). "وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد" (¬3) مما يدل على طاقة المسلمين العليا في حشد الجيوش في هذه المرحلة. وكان في الجيش ألف من مزينة وألف من سليم (أو سبعمائة) (¬4). وهذا العدد الكبير يدل على تعاظم قوة المسلمين ما بين صلح الحديبية وفتح مكة. وقد أرسل حاطب بن أبي بلتعة - وهو صحابي بدري- كتابا إلى قريش يخبرها بأن المسلمين يريدون غزوها، وحملت الكتاب امرأة عجوز، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً والزبير والمقداد، فأمسكوا المرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلا من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب، فسلمته لهم "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امراً ملصقاً في قريش، يقول: كنت حليفاً، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين، من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً، يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنه قد صدقكم. فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 283 من رواية ابن إسحق بإسناد صحيح. (¬2) ابن سعد: الطبقات 2/ 397 بدون إسناد. (¬3) ابن إسحق بإسناد حسن لذاته (سيرة ابن هشام 2/ 399). (¬4) المصدر السابق.

ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى آخر قوله {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬1) (¬2). وبذلك شرع الله عداوة الكفار ومصارحتهم ومنع موالاتهم وصداقتهم. وفي حادثة حاطب هذه تظهر معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بأمر المرأة وكتاب حاطب الذي أرسله معها. وفيها حكم الجاسوس وجواز هتك ستره، وأنه بارتكابه هذه الكبيرة لا يكفر. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدينة في رمضان سنة ثمان للهجرة، وكان المسلمون صياما حتى بلغوا كديدا - وهي عين جارية تبعد عن مكة 86 كيلا، وبينهما وبين المدينة 301 كيل - فأفطروا (¬3). وقد استخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين الغفاري (¬4). وقد وصل الجيش الإسلامي إلى مر الظهران دون أن تعلم قريش بتحركه، وكان خروجه من المدينة لعشر خلون من رمضان ودخوله لتسع عشرة خلت منه وهو المشهور في كتب المغازي (¬5). وقد وقع اختلاف في تاريخ الفتح ما بين ثلاث عشرة وست عشرة وسبع عشرة وثماني عشرة من رمضان واتفقوا أنه في رمضان سنة ثمان (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة: آية 1. (¬2) البخاري: صحيح 4/ 72، 579/ 99، 9/ 23 وصحيح مسلم 2/ 170. (¬3) البخاري: صحيح 5/ 185 وفتح الباري 4/ 180 - 181. والنووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 3/ 173 وقد حدد المسافات بالمراحل والأميال. (¬4) سيرة ابن هشام 2/ 399 من رواية ابن إسحاق بإسناد حسن لذاته وقد صححه الحافظ ابن حجر (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 4/ 248). وصححه الحاكم وقال أنه على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (المستدرك 3/ 44) ولكن ابن إسحق ليس على شرطهما وقد أخرج له مسلم في المتابعات فقط. (¬5) النووي: شرح مسلم 3/ 176. (¬6) صحيح مسلم 1/ 452، 453 وطبقات ابن سعد 2/ 138.

وفي طريق المسلمين إلى مكة قدم بعض زعماء المشركين، فأعلنوا إسلامهم، ففي الأبواء قدم أبو سفيان بن الحارث أخو الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فأسلما. وكانا شديدين في معاداة الإسلام، فكان أبو سفيان بن الحارث يهجو المسلمين ويقاتلهم في سائر الحروب عشرين سنة حتى قذف الله في قلبه الإسلام، وحسن إسلامه فكان أحد الذين صمدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين فر الناس (¬1). وكان عبد الله بن أبي أمية شديد العداوة للمسلمين وهو أخو أم سلمة -أم المؤمنين- لأبيها، وقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين السقيا والعرج على طريق (المدينة - مكة)، فأسلم وحسن إسلامه فشهد فتح مكة واستشهد في حصار الطائف (¬2). وفي الجحفة - قرب رابغ الآن- قدم العباس بن عبد الطلب على الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجرا (¬3)، وكان العباس قد أسلم قبل فتح خيبر (¬4)، وقد وردت روايات ضعيفة تبين إسلامه قبل بدر (¬5). بل قبل الهجرة إلى المدينة (¬6). ويردُّ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طالبه بأن يفتدي عندما أسر ببدر ولا شك أن العباس قدم خدمات جليلة للإسلام قبل دخوله فيه فقد كان يوافي الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش، وكان ملاذاً للمسلمين المستضعفين بمكة. ¬

_ (¬1) مستدرك الحاكم 3/ 43 - 45 بإسناد حسن وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وانظر سيرة ابن هشام 2/ 400 وتاريخ الطبري 3/ 50 وأنظر قصيدته في إسلامه في صحيح مسلم 2/ 395. (¬2) ابن عبد البر: الاستيعاب (بهامش الاصابة) 2/ 263. (¬3) ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 400 نقلا عن الزهري دون إسناد. (¬4) عبدالرازق: المصنف 5/ 466 وأحمد: المسند 21/ 122 والفسوي: المعرفة والتاريخ 1/ 507، 508، 509، وقال ابن كثير: هذا الإسناد على شرط الشيخين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي (البداية والنهاية 4/ 217). (¬5) طبقات ابن سعد 4/ 10 وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي ضعيف، و 4/ 11 وفي إسناده الواقدي متروك وابن أبي سبرة لا يحتج به. (¬6) طبقات ابن سعد 4/ 31 وفي إسناده الواقدي متروك وابن أبي حبيبة ضعيف والسند منقطع.

وفي مر الظهران عسكر المسلمون وعميت أخبارهم عن قريش فخرج أبو سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي يتحسسون الأخبار، فالتقى بهم العباس بن عبد المطلب، وكان يريد أن يرسل إلى قريش رسولاً يطلب منهم أن يخرجوا أن يخرجوا لمصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل عليهم مكة، وكان أبو سفيان وصاحباه يتناقشون بينهم في أمر الجيش المعسكر بمر الظهران وقد ظنه بعضهم "خزاعة" مما يدل على نجاح المسلمين في كتمان خبر تقدمهم إلى مكة، فلما أخبرهم العباس بأنه جيش المسلمين، سألوه عن رأيه، فطلب من أبي سفيان أن يمضي معه وبجواره إلى معسكر المسلمين، فوافق، وقابل الاثنان الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعا أبا سفيان للإسلام فتلطف في الكلام وتردد في الإسلام فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس بأن يأخذه إلى خيمته ويحضره في صباح اليوم التالي، ففعل وأسلم أبو سفيان في اليوم التالي، وأطلعه العباس على قوة المسلمين حيث استعرض الجيش أمامه، فأدرك أبو سفيان قوة المسلمين وأنه لا قبل لقريش بهم، حتى إذا مرت به كتيبة المهاجرين والأنصار وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذاً. ومضى أبو سفيان إلى مكة فأخبر قريشا بقوة المسلمين ونهاهم عن المقاومة (¬1). وكان سعد بن عبادة يحمل راية الأنصار عند استعراض الجيش فقال لما مر بأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فاشتكى أبو سفيان للرسول صلى الله عليه وسلم من قولة سعد فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم ¬

_ (¬1) ابن حجر: المطالب العالية 4/ 244 من رواية إسحق بن راهويه، وقال ابن حجر: هذا حديث صحيح، والطحاوي: شرح معاني الأثار 3/ 322 وقال: هذا حديث متصل الإسناد صحيح وقد صرح ابن إسحق فيه بالتحديث. وهي توافق ما في صحيح البخاري 5/ 186 وإن كان فيها تفصيل أكبر.

الله فيه الكعبة ويوم تُكسى فيه الكعبة" (¬1). وأخذ الراية من سعد بن عبادة فدفعها إلى ابنه قيس ثم كلم سعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الراية من ابنه قيس مخافة أن يقع في خطأ، فأخذها منه (¬2). وفي مر الظهران قرر النبي صلى الله عليه وسلم الزحف على مكة، فعين القادة وقسم الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب، فكان خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى والزبير بن العوام على المجبنة اليسرى، وأبو عبيدة على الرجالة، وكانت راية الرسول صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض (¬3). وقد فصَّل الواقدي الكلام عن توزيع الرايات وحملتها، وذكر أن عدد المقاتلين من المهاجرين سبعمائة ومن الانصار أربعة آلاف ومن سليم أربعمائة ومن جهينة ثمانمائة ومن بني كعب بن عمرو خمسمائة ومجموع هؤلاء سبعة آلاف وأربعمائة مقاتل، وأن خيل هؤلاء المقاتلين بلغت تسعمائة وثمانين (¬4). وما ذكره من العدد يخالف الروايات الصحيحة والواقدي متروك فلا يعول عليه خاصة إذا خالف غيره. وقد جمعت قريش جموعاً من قبائل شتى ومن أتباعها لحرب المسلمين، وقصدت من ذلك أن تحمي أنفسها فإن أحرزوا نصراً أعانتهم وإلا صالحت المسلمين. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتالهم ودخلت جيوشه حتى انتهت إلى الصفا ما يعرض لهم أحد إلا قتلوه ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها من جهة كداء (¬5) ودخل خالد بن الوليد من أسفلها (¬6). وكانت مقاومة القرشيين يسيرة، حيث ذكر ابن إسحق أن عدد قتلى المسلمين في الخندمة حيث التحم خالد بن الوليد مع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5/ 186. و"كذب" كانت تستعمل بمعنى "أخطأ". (¬2) ابن حجر: مختصر زوائد البزار 248. وقال: صحيح. (¬3) سنن ابن ماجة 2/ 941 بإسناد حسن لذاته. (¬4) مغازي الواقدي 2/ 799، 801. (¬5) صحيح البخاري 5/ 189. (¬6) فتح الباري 8/ 10.

بعض المشركين في قتال بلغ ثلاثة من الفرسان في حين قتل من المشركين اثنا عشر رجلا (¬1). وذكر موسى بن عقبة أن قتلى المشركين بلغوا قريبا من أربعة وعشرين (¬2) وقال الواقدي إنهم بلغوا ثمانية وعشرين (¬3). وقد ذكرت رواية ضعيفة أوردها الطبراني أن قتلى المشركين بلغوا سبعين قتلا (¬4). وأقوى هذه الروايات ما ذكره ابن إسحق وموسى بن عقبة فهما أوثق كتاب المغازي، ومغازي ابن عقبة أوثق بالجملة من سيرة ابن إسحق كما أن أبا سفيان أشار إلى كثرة القتلى من قريش فربما ترجِّحُ هذه القرائن رواية موسى بن عقبة. فقد قال أبو سفيان للرسول صلى الله عليه وسلم:"يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم" مما يشير إلى كثرة القتلى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان وأغلق آخرون أبوابهم. وقد خشى الأنصار أن يكون الأمان الذي أعطي لقريش دليلاً على رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بقومه ورغبة في البقاء بمكة فطمأنهم الرسول بقوله:"المحيا محياكم والممات مماتكم" (¬5). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم، وأعلن الأمان للناس سوى أربعة رجال وامرأتين أباح دماءهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وهم: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد ¬

_ (¬1) السيرة النبوية 2/ 407 من رواية ابن إسحق عن اثنين من ثقات شيوخه مرسلا والحاكم: المستدرك 3/ 241. وقد ذكر البخاري اثنين من شهداء المسلمين فقط. (¬2) البيهقي: السنن الكبرى 9/ 120 بإسناد فيه لم أقف على ترجمته، وهو من مراسيل موسى ابن عقبة. (¬3) مغازي الواقدي 2/ 827 - 829 بدون إسناد. (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 297 وفي إسناده شعيب بن صفوان الثقفي مقبول فالرواية ضعيفة. (¬5) صحيح مسلم 2/ 95، 96، 2/ 296 - 297.

الله بن سعيد بن أبي سرح، وقد قتل عبد الله بن خطل (¬1) وهو متعلق بأستار الكعبة وقتل مقيس بن صبابة في سوق مكة، وتمكن عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلنا إسلامهما وحقنا بذلك دمهما (¬2). وقد جمع الحافظ ابن حجر أسماء الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم من مفرقات الأخبار فبلغ عدد الرجال تسعة وعدد النساء ثماني (¬3). وهؤلاء الذين أهدرت دماؤهم كانوا ممن ألحق الأذى الشديد بالمسلمين، فكان في إهدار دمهم عبرة لم تسول له نفسه الظلم والطغيان على أمل أن ينجو من العقاب طمعا في رحمة الإسلام وطيبة أتباعه. وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة أن تثأر من بني بكر في اليوم الأول من فتح مكة حتى العصر، وذلك لما كان من غدر بني بكر بخزاعة قبل الفتح رغم دخولها في صلح الحديبية. ¬

_ (¬1) كان ابن خطل قد أسلم ثم قتل أحد المسلمين وارتد عن الإسلام، وفي قتله وهو متعلق بأستار الكعبة ما يدل على أن الكعبة لا تعيذ عاصيا مستحقا للحد الشرعي. (سيرة ابن هشام 2/ 410 من طريق ابن إسحق بدون إسناد). (¬2) النسائي: سنن (السيوطي: زهر الربا 7/ 105) وفي إسناده ضعف. وللحديث شاهدان رواهما البيهقي أحدهما في (ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 299 بإسناد فيه الحكم بن عبد الملك البصري ضعيف. ويذكر "عبد العزى بن خطل" بدل " عبد الله بن خطل" - وفي اسمه خلاف- و "أم سارة" بدل "عكرمة") والآخر في السنن الكبرى 9/ 120 وفيه عمرو بن عثمان المخزومي مقبول ويذكر "الحويرث بن نقيذ" بدل "عكرمة" ورغم أن هذه الروايات ضعيفة لكنهما تتضامن لإسناد الخبر تاريخياً، وخبر مقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة في الصحيحين (صحيح البخاري 5/ 188 وصحيح مسلم 1/ 570). (¬3) فتح الباري 8/ 11، 12.

فلما كان العصر أعلن وقف أي قتال بمكة وأوضح حرمتها فلما قتلت خزاعة رجلا تطلبه بثأر وداه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أن من قتل بعد ذلك قتيلا فأهل القتيل بالخيار بين القصاص والدية (¬1). وأما عامة أهل مكة فقد نالهم عفو عام رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم فقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. فقال:"لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" (¬2). وقد نزلت الآية الكريمة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬3). فاختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم ويدع عقوبتهم تفضلاً منه واحتسابًا فقال: "نصبر ولا نعاقب" (¬4). وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها وعدم فرض الخراج عليها، فلم تعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة لقدسيتها وحرمتها، فإنها دار النسك ومتعبد الخلق وحرم الرب تعالى، لذلك ذهب جمهور الأئمة من السلف ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند (الفتح الرباني 21/ 159) بإسناد حسن لذاته. وانظر رواية مكلمة في المسند 4/ 32 بإسناد حسن حيث صرح ابن إسحق بالتحديث. وانظر رواية أخرى في المسند 4/ 31 وفيها مسلم بن يزيد السعدي مقبول وقد توبع فقويت روايته إلى الحسن لغيره. (¬2) لأبو عبيدة: الأموال 143 بإسناد حسن لكنه مرسل وانظر سيرة ابن هشام 2/ 412 من رواية ابن إسحق بإسناد فيه جهالة. (¬3) سورة النحل 126 (¬4) أحمد: المسند 5/ 135 والترمذي: سنن 4/ 361، 362 والطريقان يعتضدان إلى الحسن، ففي إسناد أحمد هدية المروزي صدوق ربما وهم، وفي إسناد الترمذي الربيع بن أنس صدوق له أوهام، وعيسى بن عبيد الكندي صدوق، وقد قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (المستدرك 2/ 359).

والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارة بيوتها (¬1)! فهي مناخ لمن سبق، يسكن أهلها فيما يحتاجون إلى سكناه من دورها وما فضل عن حاجتهم فهو لإقامة الحجاج والمعتمرين والعباد القاصدين، وذهب آخرون إلى جواز بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها، وأدلتهم قوية في حين ان أدلة المانعين مرسلة وموقوفة (¬2). ولم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته بمكة بل ضربت له قبة في الحجون - في المكان الذي تعاقدت فيه قريش على مقاطعة بني هاشم والمسلمين- وقال عندما سأله أسامة بن زيد إن كان سينزل في بيته: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟) مبينا أنه لا يرث المسلم الكافر (¬3)، وكان عقيل قد ورث أبا طالب هو وطالب أخوه وباع الدور كلها. وأما علي وجعفر فلم يرثاه لأنهما مسلمان وأبو طالب مات كافراً (¬4). ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة دخول الفاتحين المتغطرسين، بل كان خاشعا لله شاكرا لأنعمه يقرأ سورة الفتح ويرجِّع في قرائتها (¬5) وهو على راحلته، بل إنه لما طاف بالكعبة استلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين وتعليماً لأمته (¬6). وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حرمة مكة وأنها لا تغزى بعد الفتح (¬7)، كما أعلى من مكانة قريش فأعلن أنه لا يقتل قرشي صبراً بعد يوم الفتح إلى يوم القيامة (¬8). ¬

_ (¬1) زاد المعاد 2/ 194 وقال إنه مذهب مجاهد وعطاء في أهل مكة، ومالك في أهل المدينة، وأبي حنيفة في أهل العراق، وسفيان الثوري، والإمام أحمد، وإسحق بن راهويه. (¬2) زاد المعاد 2/ 194. (¬3) البخاري: صحيح 5/ 187 ومسلم: صحيح 1/ 567. (¬4) فتح الباري 8/ 15. (¬5) صحيح البخاري 5/ 187. (¬6) أبو داؤد: سنن 1/ 434 بإسناد حسن لذاته. والمحجن عصا معقوفة. والهيثمي: مجمع الزوائد 3/ 244 من طريق الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح. (¬7) الترمذي: سنن 3/ 83 وقال عنه: حسن صحيح وأحمد: المسند 412 بإسناد حسن لذاته. (¬8) صحيح مسلم 2/ 97 ومسند أحمد 3/ 412 بإسناد صحيح.

وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحطيم الأصنام وتطهير البيت الحرام منها، وشارك في ذلك بيده فكان يهوي بقوسه إليها فتساقط وهو يقرأ {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬1). وكانت ستين وثلاثمائة من الأنصاب (¬2)، ولطخ بالزعفران صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام وكانت هذه الصور داخل الكعبة، وقال: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام (¬3). وفي رواية أن صورة مريم كانت داخل الكعبة أيضاً (¬4). ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة إلى بعد أن محيت هذه الصور منها (¬5). ثم دخلها فصلى فيها ركعتين، وذلك بين العمودين المقدمين منها، وكانت مبنية على ستة أعمدة متوازية، وقد جعل باب الكعبة خلف ظهره، وترك عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة وراءه (¬6). ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة، وكانت الحجابة في بني شيبة في الجاهلية فأبقايا بأيديهم (¬7). ثم استلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود وطاف بالبيت مهللا مكبرا ذاكرا شاكرا، وكان غير محرم وعلى رأسه المغفر ثم لبس عمامة سوداء مما يدل على جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد حجا ولا عمرة (¬8). وهكذا تم تطهير البيت العتيق من مظاهر الوثنية وأوضار الجاهلية ليعود كما أراد له الله تعالى وكما قصد ببنائه إبراهيم وإسماعيل مكانا لعبادة الله وتوحيده. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2/ 95، 96، 296، 297. (¬2) صحيح البخاري 5/ 188 وصحيح مسلم 2/ 97. (¬3) صحيح البخاري 5/ 88 ومسند أحمد 1/ 365 بإسناد صحيح والبوصيري: أتحاف الخيرة المهرة القسم الثالث من الجزء الثالث، ص109 من مسند أبي بكر بن أبي شيبة بإسناد حسن. (¬4) صحيح البخاري 4/ 169. (¬5) صحيح البخاري 5/ 188. (¬6) صحيح البخاري 5/ 222، 109، 110 وصحيح مسلم 1/ 556. (¬7) وردت في ذلك عدة أحاديث مرسلة ومنقطعة تقوي بمجموعها (انظر مصنف عبد الرزاق 5/ 83، 84، 85 وابن حجر: فتح الباري 8/ 19). (¬8) صحيح البخاري 3/ 21 وصحيح مسلم 1/ 570 وشرح النووي على صحيح مسلم 3/ 508.

ولا شك أن تطهير البيت من الأصنام كان أكبر ضربة للوثنية في أرجاء الجزيرة العربية حيث كانت الكعبة أعظم مراكزها، وما أن تم فتح مكة وطُهرت الكعبة حتى أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى نخلة لهدم العزى التي كانت مضر جميعا تعظمها فهدمها (¬1). وأرسل عمرو بن العاص إلى سواع صنم هذيل فهدمه (¬2). وأرسل سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل (ناحية قديد على طريق مكة - المدينة) فهدمها (¬3) وبذلك أزيلت أكبر مراكز الوثنية حيث ذكرها القرآن الكريم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (¬4). وفي فتح مكة نزلت سورة النصر {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬5) فقد كان العرب تنتظر نهاية الصراع بين المسلمين وقريش فلما كان الفتح أقبلت بمجموعها وبادرت لإعلان إسلامها (¬6). قال عمرو بن سلمة الجرمي: "وكانت العرب تلوّم بإسلامها الفتح يقولون: انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق وهو نبي، فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم" (1) وعقب ابن إسحق على حادثة الفتح بقوله: "وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 436، وطبقات ابن سعد 2/ 145 ولم تثبت في القصص التي تدور حول هدمها رواية صحيحة. (¬2) ابن سعد: الطبقات 2/ 146. (¬3) طبقات ابن سعد 2/ 146. (¬4) سورة النجم: آية 18. (¬5) صحيح البخاري: 5/ 189. (¬6) صحيح البخاري: 5/ 191. (¬7) ابن سعد 1/ 2، ص 70.

وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كام قال الله عز وجل أفواجاً يضربون إليه من وكل وجه" (¬1). وقد خطب الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة عدة خطب بيَّن في الخطبة الأولى- وكانت على باب الكعبة- دية الخطأ شبه العمد، وألغي مآثر الجاهلية وثأراتها واستثنى سقاية الحاج وسدنة البيت فاستبقاهما (¬2). وأعلن في الخطبة الثانية إبطال أحلاف الجاهلية إلا ما كان من المعاقدة على الخير ونصرة الحق وصلة الأرحام (¬3). ثم أعلن في الخطبة الثالثة تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها ولقطتها وتحريم القتال فيها وبين أن الله تعالى أحلها له ساعة وقت الفتح (¬4)، وأوضح أن لا هجرة بعد فتح مكة ولكن جهاد ونية (¬5)، فلم تعد الهجرة من مكة إلى المدينة واجبا، وإن بقي حكمها من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام إلى يوم القيامة (¬6). فقد شرعت الهجرة إلى المدينة ليعبد المسلمون ربهم بأمان، وليقوى كيان الإسلام بالمدينة أمام خصومه، وليتمكنوا من حماية الدولة ثم توسيع رقعتها عن طريق الجهاد، والهجرة بعد فتح مكة لم تعد ضرورة فقد قوي كيان الإسلام وصار وجود المسلمين في ديارهم أجدى لإقامة شعائر الإسلام ونشر هداه في سائر الأرجاء، وأما الجهاد فباق إلى يوم القيامة. ولذلك بايع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد الفتح على الإسلام والإيمان والجهاد ولم يبايعهم على الهجرة (¬7). وقد ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 560. (¬2) مسند أحمد 3/ 410 بإسناد حسن لذاته. وأبو داؤد: سنن 2/ 492 بإسناد صحيح. (¬3) صحيح مسلم 2/ 409 ومسند أحمد 2/ 215 وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله بن عياش صدوق له أوهام. (¬4) صحيح البخاري 3/ 17 وصحيح 2/ 568. (¬5) صحيح البخاري 3/ 18، 4/ 28. (¬6) فتح الباري 4/ 49، 7/ 270. (¬7) صحيح البخاري 5/ 72، 193 وصحيح مسلم 2/ 140.

بين ابن عمر (رض) ذلك بقوله (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار) أي ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة على من أسلم وخشى أن يفتن عن دينه (¬1). وأوضح في الخطبة الرابعة أن من قتل له قتيل فيخير بين أخذ الدية أو القصاص (¬2). وقد اتضحت بعض الأحكام الشرعية خلال فتح مكة، من ذلك جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية حيث صام الرسول صلى الله عليه وسلم في مسيرة الجيش من المدينة حتى بلغ كديدا فأفطر (¬3). ومن ذلك صلاته عليه الصلاة والسلام صلاة الضحى ثماني ركعات خفيفة (¬4). فهي سنة مؤكدة. ومن ذلك أن أحق المصلين بالإمامة أكثرهم حفظاً للقرآن (¬5) ومن ذلك تحديد مدة قصر الصلاة للمسافر، حيث أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة (¬6). ومن ذلك إقرار أمان النساء وجوارهن حيث أجازت أم هاني رجلين من أحمائها، فأمضى الرسول صلى الله عليه وسلم جوارها (¬7). وقد أجمع أهل العلم على أن أمان المرأة جائز (¬8). ¬

_ (¬1) فتح الباري 7/ 270 (¬2) صحيح البخاري 1/ 38 صحيح مسلم 1/ 569 (¬3) صحيح مسلم 1/ 451 (¬4) صحيح البخاري 5/ 189 وصحيح مسلم 1/ 289 (¬5) صحيح البخاري 5/ 191 (¬6) صحيح البخاري 5/ 190 (¬7) صحيح البخاري 4/ 122 (¬8) قاله الخطابي (عون المعبود 7/ 44).

ومن ذلك تحريم نكاح المتعة بعد إجازته ثلاثة أيام فقط ثم صار حراماً إلى الأبد (¬1). وكان تحريم المتعة وإباحتها مرتين، فكانت حلالاً قبيل خيبر ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة واستمر التحريم (¬2). ومن ذلك بيان حكم أن (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وذلك من خلال قصة ابن وليدة زمعة. حيث تنازع فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، فحكم به الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة لأنه ولد على فراش أبيه (¬3). وحكم نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله كما حدث لصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وقد اعتبر عقد النكاح قائما بينهما وبين زوجتيهما لأنهما أسلما قبل انقضاء عدة الزوجتين (¬4). ومنها حكم الوصية وأنها لا تجوز في أكثر من ثلث المال، كما تدل قصة سعد ابن أبي وقاص حين مرضه حيث نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصي بأكثر من الثلث (¬5). ومنها أن للمرأة أن تأخذ من مال زوجها لنفقتها ونفقة أولادها بالمعروف دون علمه إذا امتنع عن النفقة كما في قصة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان حيث استفتت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك (¬6). ومنها تحريم بيع الخمر والميتة والأصنام (¬7). ومنها بيان حكم خضاب الشيب بالحناء أو الصفرة كما في قصة أبي قحافة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبه (¬8). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 586، 587. (¬2) النووي شرح صحيح مسلم 3/ 553. (¬3) صححي البخاري 8/ 191. (¬4) موطأ مالك (الزرقاني: شرح الموطأ 3/ 156 - 157) وسيرة ابن هشام 2/ 417. (¬5) سنن الترمذي 3/ 291 وقال هذا حديث حسن صحيح. وانظر فتح الباري 5/ 369. (¬6) صحيح مسلم 2/ 60. (¬7) صحيح البخاري 3/ 110 وصحيح مسلم 1/ 690، 689. (¬8) صحيح مسلم 2/ 244.

ومنها تحريم الشفاعة في حدود الله عز وجل بعد بلوغها للإمام كما حدث في قصة المرأة المخزومية التي سرقت فقطعت يدها، وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من أسامة بن زيد لأنه شفع لها وقوله؛ (إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) (¬1). وفي هذا الحديث إقرارا لمبدأ المساواة بين الناس أمام أحكام الشريعة وتحذير للحكام من أن يقيموا الحدود على الضعفاء دون الأقوياء الذين يحاولون بالوساطات والضغوط تخطي الأحكام .. ولا شك أن بقاء الدول واستقرار المجتمعات منوط بالدرجة الاولى بإقرار العدالة وإنما يجد خصوم الدولة السبيل إلى هدمها من خلال الظلم الذي يقع منها فهو مبرر لاجتماع المظلومين وحافز للتضحية من أجل إسقاطها. ونتيجة لفتح مكة تحول ثقل معسكر الشرك من قريش إلى قبيلتي هوازن وثقيف اللتين سارعتا لملء الفراغ وقيادة المشركين لحرب الإسلام فكانت غزوة حنين وحصار الطائف. ويؤرخ ابن إسحاق سرية الطفيل بن عمرو الدوسي في أعقاب فتح مكة، حيث أحرق ذا الكفين صنم عمرو بن حُمَمَة (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5/ 192 وصحيح مسلم 2/ 47. (¬2) سيرة ابن هشام 1/ 385 بدون إسناد.

غزوة حنين

غزوة حنين هوازن قبيلة عربية مشهورة من عرب الشمال، فهي مضرية عدنانية تفرعت منها فروع كثيرة منها ثقيف، وقد استقرت ثقيف في مدينة الطائف الحصينة وما حولها، في حين انتشرت بطون هوازن الأخرى في تهامة على ساحل البحر الأحمر من حدود بلاد الشام الجنوبية إلى حدود اليمن الشمالية (¬1). وفي ديار ثقيف كانت تقام أسواق العرب في الجاهلية منها سوق عكاظ الشهير بين نخلة والطائف، حيث تتم البيوع والمقايضات التجارية، وتعقد الندوات الأدبية والشعرية، ومنها سوق ذي المجاز قرب عرفت على بعد فرسخ منها من جهة الطائف، وسوق مَجَنَّة بمر الظهران التي تبعد عن الطائف، وتقرب من مكة (¬2). ولا شك أن الثقفيين كانوا يستفيدون فوائد عظيمة من أسواق العرب هذه سواء في تجارتهم وتصريف نتاجهم الزراعي حيث يمتلكون بساتين الأعناب والرمان والخضراوات. أو في رقيهم الأدبي وتفتح مداركهم حيث التلاقح الثقافي في هذه اللقاءات الموسمية المنظمة، وحيث يقومون بالوساطة في التجارة الخارجية بين الشام واليمن من ناحية وسكان البوادي من ناحية أخرى. وقد تشابكت مصالح ثقيف وهوازن مع مصالح قريش تشابكاً وثيقاً بحكم الجوار. فمكة والطائف قريبتان من بعضهما بينهما تسعون كيلا فقط، وكان القرشيون يصطافون بالطائف، ويمتلكون فيها البساتين والدور حتى سميت الطائف "بستان قريش" (¬3)، وقد وطَّد هذه العلاقات ما كان بين قريش وهوازن ¬

_ (¬1) ياقوت: معجم البلدان 2/ 173، 3/ 204، 4/ 216 - 217، 5/ 55، 216 - 262، والحربي: كتاب المناسك ص 532 - 538، والبلادي: نسب حرب ص 349 - 350. (¬2) نفس المصادر السابقة. (¬3) اشتهر في السيرة عتبة وشيبة ابني ربيعة القرشين، والوهط بستان عمرو بن العاص، وذو الهرم مال أبي سفيان (معجم البلدان 5/ 386 ومغازي الواقدي 3/ 971؛ وسيرة ابن هشام 1/ 709)، وأخبار مكة للأزرقي, ص 70؛ والبلاذري: فتوح, ص 56.

من صلات نسبية قديمة توثقها المصاهرات المتجددة فكلاهما من مضر الذي هو الجد السادس لهوازن والسابع أو الخامس لقريش تبعاً لاختلاف النسابين (¬1). وإن نظرة إلى كتب معرفة الصحابة يمكن أن توضح تشابك العلاقات بين قريش وهوازن نتيجة المصاهرات الكثيرة بين القبيلتين (¬2). ولتوثيق هذه الصلات نجد أن عروة بن مسعود الثقفي كان رسولا لقريش إلى المسلمين في الحديبية (¬3). فلا غرابة وقد تشابكت علاقة قريش وهوازن بهذا الوثوق أن تقف هوازن مع قريش في صراعها ضد المسلمين منذ المرحلة المكية، وأن يئول إليها حمل الراية ضد الإسلام بعد فتح مكة لتملأ الفراغ إثر سقوط زعامة قريش لمعسكر الشرك في الجزيرة العربية. فمنذ أن لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف في الطائف يدعوهم بدعوة الإسلام، ثم يطلب منهم بعد رفضهم دعوته أن يكتموا ذلك، أبوا إلا أن يظهروا العداء الصريح وأمروا صبيانهم فرشقوه بالحجارة .. إن قريشا وهوازن أمرهم واحد، فمن خرج على قريش ودينها ومصالحها فقد خرج على دين هوازن وهدد مصالحها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية إسلام ثقيف، لمكانتها العسكرية والاقتصادية، ولعلاقاتها الوثيقة بقريش، وقد سعى إلى دعوة زعمائها للإسلام حتى بعد إخفاق رحلته إلى ثقيف، فالتقى بالعقبة وهو يعرض نفسه على زعماء ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة 1/ 1: 93؛ وابن سعد: الطبقات 1/ 55؛ وابن قتيبة: المعارف ص 31، 51؛ والطبري: تاريخ 2/ 262، والنويري: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص 397. (¬2) راجع في كتب معرفة الصحابة والأنساب ترجمة ميمونة بنت الحارث، ولبابة الكبرى بنت الحارث، ولبابة الصغرى بنت الحارث، وصفية بنت حزن، وأم جميل بنت مجالد الهلالية، وزينب بنت أبي سفيان، وأم الحكم بنت أبي سفيان. (¬3) صحيح البخاري 3/ 170.

القبائل بابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبه إلى الإسلام مما أهمَّه حتى انطلق بعيدا عن مكة لا يتعرف في طريقه إلى داره لفرط الهم (¬1). وقد وقفت هوازن بعيدا عن الصراع الذي احتدم بين قريش والمسلمين بعد الهجرة، ولعلها كانت تظن أن قريشا تكفيها، وظلت ترقب المعارك في بدر وأحد والخندق دون أن تحرك ساكنا، بل إن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة أقنعها بالرجوع عن المشاركة ببدر ما دامت تجاراتها قد سلمت (¬2). وكان عروة بن مسعود الثقفي يطلب من قريش قبول الخطة التي عرضها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية (¬3). ولكن هذه المواقف الفردية تعبر عن حكمة بعض الثقفيين فقط، ولا تعبر عن موقف مسالم لثقيف وهوازن. ويبدو أن عدم اشتراك ثقيف في الأحداث التي جرت حتى فتح مكة يرجع إلى اعتمادها على قريش وضعف تصورها لحقيقة القوة الإسلامية. وليس معنى ذلك أن هوازن لم تشعر قط بخطر المسلمين قبيل فتح مكة، فقد كان موقف قريش مشعرا بضعفها أمام المسلمين منذ اعترافها بهم ومعاهدتها معهم في الحديبية، واستمر موقفها يضعف مع الأيام ويعلو صوت الإسلام، وكانت معنوية قريش ضعيفة وقت فتح مكة، فلا شك أن جيرانها الثقفيين كانوا على قدر من الوعي بذلك، وكان بعض رجالهم قريبا من الأحداث، ولعل عدم نجدة هوازن وثقيف لقريش يرجع إلى نجاح المسلمين في كتمان هدف تحركهم. كما كانت هوازن تخشى على ديارها منهم، لذلك لم تبادر للدفاع عن مكة، ويشير الواقدي إلى أنهم أرسلوا عينا لهم لمعرفة إن كان المسلمون سيتوجهون إلى قريش أم هوازن، بل إن هوازن اتخذت موقف الاستعداد للمواجهة بجمع جموعها منذ ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 91، 9/ 95 وصحيح مسلم 3/ 1420. (¬2) ابن حجر: الاصابة 1/ 25. (¬3) صحيح البخاري 3/ 170.

أن تحرك المسلمون من المدينة، وقد تصورت أنها المقصودة (¬1). وأعان على هذا التصور غموض موقف المسلمين من مصير صلح الحديبية. فلما فتحت مكة وسقطت الزعامة القريشية، حملت هوازن راية الشرك، وتحركت بسرعة لمواجهة الموقف خاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوقف نشاط المسلمين العسكري بعد الفتح، بل أرسل السرايا منها سرية بقيادة خالد بن الوليد بثلاثين فارسا نحو نخلة لهدم العزى فهدمها (¬2)، وكانت بيتاً تعظمه العرب وهي من ديار ثقيف (¬3). وكان ذلك لخمس ليال بقين من رمضان كما أرسل سعد بن يزيد الأشهلي في عشرين فارسا لست بقين من شهر رمضان إلى مناة بالمشلَّل - وهي القديدية الآن- وكان صنماً يعظمه العرب وخاصة الأنصار قبل إسلامهم، فهدمه سعد الأشهلي، وعاد إلى مكة (¬4)، وقيل إن علياً (رض) هو الذي هدم مناة أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى مكة قبل الفتح (¬5). والروايتان ضعيفتان من الناحية الحديثية فابن سعد ساقها دون إسناد ومصدره فيما يبدو شيخه الواقدي وهو ضعيف، وابن الكلبي ضعيف، وثمة رواية تفيد أن أبا سفيان بن حرب هو الذي تولى هدمها، وليست بأقوى من الروايتين (¬6). ولكن لا شك أن مناة قد هدمت فهذا الذي يثبت تاريخيا، وليس الحديث كالتاريخ من حيث الحاجة إلى قوة الأدلة. وكذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد في شهر شوال من سنة ثمان للهجرة تضم ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار إلى بني ¬

_ (¬1) الطبري 3/ 70. (¬2) ابن هشام: السيرة 2/ 436 وابن سعد: الطبقات 2/ 145 والطبري: تاريخ 3/ 65؛ والمزي: تحفة الأشراف 4/ 235، حديث 5054 نقلا عن السنن الكبرى للنسائي لكن فيه الوليد بن جميع صدوق يهم. ولم تثبت في القصص التي تدور حول هدمها رواية صحيحة. (¬3) البلادي: نسب حرب ص 388. (¬4) ابن سعد: الطبقات 2/ 146 - 147؛ والواقدي: المغازي 2/ 869، 870. (¬5) ابن الكلبي: الأصنام, ص 15. (¬6) ابن هشام: السيرة 1/ 86؛ وابن حجر: الإصابة 2/ 179, منسوبة إلى ابن إسحاق.

جذيمة في يلملم جنوب مكة بثلاثين كيلا، داعيا لهم إلى الإسلام، فلما وصلهم دعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فقتل منهم وأسر، ثم أمر بعد حين بقتل الأسرى، وقد توقف عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن عوف وبعض الصحابة عن قتل الأسرى، حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم الذي تبرأ مما صنع خالد مرتين (¬1). لقد تأول خالد بن الوليد قولهم "صبأنا" بأنهم لا يريدون إعلان إسلامهم أو أنهم ينتقصون الإسلام بذلك فلم يحقن دماءهم (¬2)، ورأى عبد الرحمن بن عوف وعبد الله أنهم عبروا عن إسلامهم بما يعرفون، ولم تكن المصطلحات الشرعية قد اتضحت لسائر العرب آنذاك، لذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تبرأ من فعل خالد لعجلته وعدم تثبته فإنه لم يعاقبه ولم يعزله عن إمارة جنده، إذ أنه اجتهد فأخطأ. وتقول رواية لا تصلح للاحتجاج بها لانقطاعها أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع ديات القتلى جميعا وزادهم فيها تطييبا لنفوسهم وبراءة من دمائهم (¬3). وهذا يتفق مع أحكام الإسلام في قتل الخطأ، ولو اعتمدنا على الرواية المنقطعة فينبغي أن نقبلها جميعا وفيها أن خالد بن الوليد لما وصل بني جذيمة حملوا السلاح فأمرهم بإلقائه وذكرهم بأن الناس قد أسلموا، فوضعوا السلاح فكتفهم وقتل العديد منهم. وقد ساق هذه الرواية ابن إسحق وساق روايات أخرى تفيد أن عمل خالد كان ثأراً لعمه الفاكه بن المغيرة الذي قتلته بنو جذيمة في الجاهلية وقد عقب ابن كثير على روايات ابن إسحق بقوله: "وهذه مرسلات ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 5/ 131 وابن كثير: التفسير 4/ 306 وحول الملاحاة بين ابن عوف وخالد انظر: صحيح مسلم 4/ 1967. (¬2) ابن حجر: فتح الباري 8/ 57،وكان قريش تقول عن كل من أسلم إنه صبأ، فصارت تطلق في معرض الذم، وهو عذر لخالد الذي كان يعرف ظل الكلمة وظروف استعمالها، أما بن جذيمة فيبدو أنهم استعملوها دون أن يفطنوا لما أحاط بها من ظلال ووقع في حس المسلمين. (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 430، وهو من مراسيل أبي جعفر محمد على الباقر، فهو منقطع لأن الباقر ولد ما بين (40 - 56 هـ) كما في تهذيب التهذيب لابن حجر 9/ 351.

ومنقطعات" أي لا تقوم بها حجة (¬1). إن أعظم ما يبريء ساحة خالد ويفيد أنه اجتهد فأخطأ هو عدم معاقبة الرسول صلى الله عليه وسلم له واكتفاؤه بالبراءة من عمله. وعلى أية حال فإن اثنتين من سرايا المسلمين كانت في ديار هوازن وثقيف. ولم تكن هذه السرايا لتخفى على هوازن التي بدأت تحشد قواها في حنين بعد نصف شهر فقط من فتح مكة لمواجهة المسلمين (¬2). وقد عزمت على مهاجمة المسلمين قبل أن يهاجموها، ومما يدل على أنهم أرادوها موقعة فاصلة حشدُهُم للأموال والنساء والأبناء، حتى لا يفر أحد دون ماله وأهله. وكان يقودهم مالك بن عوف النصري وقد انضمت إلى هوازن بعض القبائل الأخرى من غطفان وغيرها (¬3)، وتخلف عنه من هوازن كعب وكلاب (¬4). ويلاحظ أن مالك بن عوف رتب قومه بشكل صفوف حسنة، وقد الخيل ثم الرجالة ثم النساء ثم الغنم ثم الإبل (¬5). وكان مالك النصري في الثلاثين من عمره، وقد عرف بالشجاعة وحسن البلاء في القتال (¬6)، وقد وردت روايات تبين أن دريد بن الصَّمة أنكر على مالك النصري الخروج بالنساء والأطفال والأموال لأن المنهزم لا يرده شئ- في رأيه- لكن مالك النصري لم يعمل برأيه (¬7). وقد انفرد الواقدي بتقدير عدد جيش هوازن فذكر انهم عشرون ألفا (¬8). وقد مال الحافظ ابن حجر إلى قبول هذا التقدير فقال إنهم كانوا ضعف عدد المسلمين وأكثر (¬9). ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 431، والطبري 3/ 66 وابن كثير: البداية والنهاية 4/ 313 - 314. (¬2) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/ 70. (¬3) البخاري: صحيح 5/ 130 - 131 ومسلم: الصحيح 2/ 735. (¬4) سيرة ابن هشام 2/ 437. (¬5) صحيح مسلم 2/ 736 وأحمد: المسند 3/ 157. (¬6) ابن حجر: الإصابة 3/ 182، 352. (¬7) سيرة ابن هشام 2/ 437. (¬8) مغازي الواقدي 3/ 893. (¬9) فتح الباري 8/ 29.

وقدر أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حدرد الأسلمي للتعرف على أمرهم فمكث فيهم يوماً أو يومين ثم عاد إلى المسلمين بخبرهم (¬1). فأخذ المسلمون أهبتهم واستعدوا لمواجهتهم. واستعار النبي صلى الله عليه وسلم مائة درع من صفوان بن أمية (¬2)، وكان لا يزال على الشرك، وقد سأله صفوان إن كان يأخذها غصباً أم عارية؟ فأخبره أنها عارية، وقد أعادها إليه بعد غزوة حنين شاكرا له صنيعه (¬3). وقد أورد عبد البر روايات دون أسانيد تذكر أنه صلى الله عليه وسلم استقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، وقبل عون نوفل بن الحارث بن عبد المطلب له بثلاثة آلاف رمح (¬4). ولا مانع من استعانته بهما إذ ثبت أنه استعان بصفوان وهو مشرك. وخاصة أن كيان الإسلام كان راسخا وأن صبغة المعركة الإسلامية لا يؤثر فيها قبول معونة من سواهم ما دامت لا تفرض عليهم شروطا تخل بالتزاماتهم العقدية. ولم يطل استعداد المسلمين فإن الجيش الذي فتح مكة لم يلق من الجهد والقتال سوى مناوشات يسيرة في الخندمة، فكان على استعداد لمواجهة هوازن، وخلال أيام تحرك المسلمون باتجاه حنين في اليوم الخامس من شوال - وقد مضى على مقامه بمكة بعد الفتح خمس عشرة ليلة وكان فتحها في التاسع عشر من رمضان- ووصلوا إلى حنين في مساء العاشر من شوال (¬5). ويبدو من ذلك أنهم ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك 3/ 48 - 49، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وللحديث شواهد جعلت الشيخ الألباني يحكم بصحته بمجموع طرقه (إرواء الغليل 5/ 344 - 346). (¬2) نفس المصدر السابق. (¬3) ابن ماجة: السنن 2/ 809، والنسائي: المجتبي 7/ 276، وفيه انقطاع بين إبراهيم بن عبد الرحمن -راويه- وجده عبد الله بن أبي ربيعة، ويصلح للاستشهاد به في التاريخ إذ هو يتفق مع أحكام الإسلام في الوفاء بالسلف. (¬4) الاستيعاب 1/ 385، 3/ 537. (¬5) ابن هشام: السيرة 2/ 437، البيهقي: السنن 3/ 151، وابن التركماني: الجوهر النقي بحاشية سنن البيهقي والنسائي: السنن 3/ 100؛ وابن حجر: فتح الباري 2/ 562، 8/ 27.

كلما اقتربوا من حنين ساروا ببطء وحذر فإنها لا تبعد عن مكة سوى عشرين كيلا شرقي مكة وتعرف الآن بالشرائع (¬1). أما في أول خروجهم من مكة فقط مضوا مسرعين (¬2). وقد استخلف الرسول صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد أميرا على مكة عند خروجه (¬3). وكان عدد جيش المسلمين كبيرا إذا قورن بسائر الغزوات السابقة فقد انضم إلى الجيش الذي فتح مكة -وعدده عشرة آلاف مقاتل (¬4) - ألفان من أهل مكة من مسلمة الفتح الذين سموا بالطلقاء، حيث أجمعت الروايات على ذلك رغم أنها لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية في عدد الطلقاء الذين انضموا إلى الجيش، ولكنها تكفي لاعتمادها تاريخياً (¬5). ولذلك تعتبر غزوة حنين أكبر المعارك التي خاضها المسلمون في عصر السيرة ومن أكثرها خطورة. وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بحراسة جيشه حتى إذا حضرتهم صلاة العشاء وهم قريبون من العدو أمر أحد الصحابة بمراقبة عدوهم من أحد الجبال المطلة على وادي حنين وقد عبر عن ثقته الكبيرة بربه وبنصره عندما أخبره الصحابي بما رأى من جموع هوازن وأموالها بقوله "تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله" ثم تطوع انس بن أبي مرثد الغنوي بحراسة المسلمين حيث ناموا في المكان وأوصاه ألا ¬

_ (¬1) حمد الجاسر: تعليقه ص 471 على كتاب المناسك للحربي وفؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب ص 268. (¬2) أبو داؤد: السنن 1/ 210، 2/ 9؛ والحاكم: المستدرك 1/ 237، 2/ 83 - 84 وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 440 وتاريخ خليفة ص 88؛ وتاريخ الطبري 3/ 73 والحاكم: المستدرك 3/ 270 وتصل هذه الروايات رغم ضعفها حديثياً للاستدلال التاريخي خاصة أنها تتفق مع أحكام الإسلام في الإمارة. (¬4) صحيح البخاري 5/ 20؛ وسيرة ابن هشام 2/ 399 - 400. (¬5) ابن هشام: السيرة 2/ 440 وتاريخ خليفة بن خياط ص 88؛ وطبقات ابن سعد 2/ 154 - 155 وتاريخ الطبري 3/ 73؛ والحاكم: المستدرك 2/ 121 وصحح الرواية ووافقه الذهبي لكن الهيثمي أشار إلى علة فيها هو عبد الله بن عياض لم يوثقه أحد (مجمع الزوائد 6/ 186).

يغفل عن الحراسة حتى الفجر، وقد أدى أنس مهمته خير أداء فوعده النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة (¬1). لقد كان لوجود الطلقاء في جيش المسلمين آثار سلبية، فقد كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يتخلصوا من كل الرواسب الجاهلية المستقرة في أعماقهم وحياتهم، حتى إذا رأى بعضهم في الطريق إلى حنين شجرة تعرف بذات أنواط يعلق عليها المشركون أسلحتهم قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال: "سبحان الله، كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من قبلكم" (¬2). ولا شك أن طلبهم يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص رغم إسلامهم لكن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لهم ما في طلبهم من معاني الشرك وحذرهم من ذلك، ولم يعاقبهم أو يعنفهم لعلمه بحداثة عهدهم بالإسلام. ومن تلك الآثار السلبية ما أصاب المسلمين من إعجاب بكثرتهم حتى رد أحدهم (¬3) ما سيحوزونه من نصر إلى أنهم "لن يغلبوا من قلة". وعبر عن ذلك جهرة، في حين أصاب هذا الشعور آخرين سواه حتى استحقوا معاتبة القرآن الكريم لهم وتذكيرهم بعدم الاتكال إلا على الله وحده، وإلا وكلهم إلى أنفسهم {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (¬4). وقد انتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر، ¬

_ (¬1) أبو داؤد: السنن 1/ 210، 2/ 9، وهو حديث صحيح الإسناد (الاصابة 1/ 86). (¬2) الترمذي: سنن 3/ 321 - 322، وقال: حسن صحيح والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف 11/ 112 حديث رقم 15516 وأحمد: المسند 5/ 218. وابن كثير: تفسير 2/ 243 ط. الحلبي وقال: أورده ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبد الله ابن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعا. (¬3) وردت روايات كلها ضعيفة في تحديد قائل ذلك (مغازي الواقدي 3/ 890؛ والهيثمي: كشف الأستار عن زوائد البزار 2/ 346 - 347؛ وسيرة ابن هشام 2/ 444). (¬4) سورة التوبة: الآية 25.

فأكد لهم بدعائه افتقاره لربه ولجوءه إليه وحده، فقال: "اللهم بك أحاول، وبك أصاول، وبك أقاتل"، وحكى لهم قصة نبي أعجبته كثرة أمته فسلط الله عليهم الموت (¬1). وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراقب المسلمين ويقِّوم ما يظهر من انحرافات في التصور أو السلوك حتى في أخطر ظروف المواجهة مع خصومه العتاة. لأن النصر معلق بشرط {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ولكن هل تتم تربية الجموع وإزالة رواسب الجاهلية التي عاشوا فيها أعمارهم بين عشية وضحاها، لقد كان الشعور بالزهو لكثرتهم سبباً لإدبارهم في أول المواجهة، وكان إدبارهم وهول اللقاء قد أعادهم إلى التصور الصحيح والتوكل الخالص فكانت الجولة الثانية خالصة لهم من دون الكفارين. ومن الآثار السلبية لوجود الطلقاء وبعض الأعراب في جيش المسلمين، أن معظمهم خرجوا للحصوص على الغنائم والنظر لمن تكون الغلبة، فلم يشعروا أنهم يدافعون عن قضية ومبدأ، إذ كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يتذوقوا طعم الإيمان ولا حب الجهاد في سبيل الله وكان منهم المقيم على الكفر (¬2) -ومنهم بالطبع من كان حسن الإسلام- فلا غرابة أن ينهالوا على الغنائم، في بدء المعركة وينشغلوا بها ويشغلوا سواهم من الجند معهم، ولم يكن مصير المعركة يهم بعضهم كثيراً، فقد عبر أحدهم عن فرحته بإدبار المسلمين في الجولة الأولى، فقال كلدة بن أمية - أخو صفوان بن أمية الجمحي-: ألا بطل السحر اليوم!! فقال له صفوان -وكان مشركاً آنذاك- اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يَرُبَّني رجل من هوازن (¬3)!! ¬

_ (¬1) الدارمي: سنن 5/ 135 وأحمد: المسند 4/ 333 و 6/ 16. (¬2) قيل إنه خرج ثمانون من أهل مكة وهم على كفرهم (القسطلاني: المواهب اللدنية 1/ 162؛ والزرقاني: شرح المواهب 3/ 5). (¬3) الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 179 - 180 وقال رواه أحمد وأبو يعلي ورجال أحمد رجال الصحيح وقد صرح فيه ابن إسحق بسماع في رواية أبي يعلي. ويربني: يصير لي رباً وسيداً.

وقد ذكر موسى بن عقبة أن أبا سفيان وصفوان وحكيم بن حزام وهم زعماء مكة كانوا يقفون في الخطوط الخلفية للمعركة ينظرون لمن يكون النصر!! وذكر عروة بن الزبير أن صفوان بن أمية كان يرسل غلاماً له للتعرف على أخبار القتال!! وذكر ابن إسحق أن أبا سفيان قال عندما رأى إدبار المسلمين في الجولة الأولى: "لا تنتهي هزيمتهم دون البحر" وكان يحمل الأزلام -وهي القداح- التي يستقسم بها في كنانته!! (¬1). ورغم أن ما رواه موسى بن عقبة وعروة وابن إسحق لا يصح من الناحية الحديثية لعلة الإرسال فيه، إلا أن الثلاثة أئمة المغازي ورواياتهم تتضافر لتعطي الصورة التاريخية لموقف زعماء مكة وفيهم صفوان المشرك وأبو سفيان مسلم جديد من المؤلفة قلوبهم آنذاك. المعركة: سبقت هوازن المسلمين إلى وادي حنين، واختاروا مواقعهم وبثوا كتائبهم في شعابه ومنعطفاته وأشجاره. وكانت خطتهم محكمة تتمثل في مباغتة المسلمين بالسهام أثناء تقدمهم في وادي حنين المنحدر (¬2)، وكانت معنويات هوازن عالية فقد أوضح لهم قائدهم مالك النصري ان المسلمين لم يلقوا مثلهم من قبل من حيث معرفتهم بالحرب وشجاعتهم وكثرتهم العددية (¬3). وقد تقدم المسلمون في الوادي قبل انبلاج الفجر، تتقدمهم الخيالة بقيادة خالد بن الوليد، وفي طليعتها بنو سليم، ثم بقية الجيش بشكل صفوف منتظمة (¬4). ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة 2/ 443 - 444؛ والبيهقي: دلائل النبوة 2/ 45؛ وفي سنده أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد مجهول وابن كثير: البداية والنهاية 4/ 230. (¬2) ابن هشام: السيرة 2/ 442، من حديث الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري بإسناد صحيح صرح فيه ابن إسحق بالسماع وأخرجه أحمد: المسند 3/ 376؛ وأبو يعلي: المسند 2/ 200 رقم 302، وابن حبان (موارد الظمآن ص 417) (¬3) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 330؛ والواقدي: مغازي 3/ 893. (¬4) الواقدي: المغازي 3/ 895 - 897 حيث انفرد بتفصيل ذكر جملة الألوية من قبائل العرب وحامليها. وأما قيادة خالد بن الوليد للخيالة فثابتة من حديث أنس بن مالك أحد شهود الغزوة (صحيح البخاري 5/ 130 - 131؛ ومسلم: الصحيح 2/ 735).

وفي بداية القتال تراجعت طلائع هوازن أمام تقدم المسلمين تاركين بعض الغنائم التي أقبل على جمعها الجند (¬1)، وكأنهم حسبوا أن هوازن قد هزمت هزيمة نهائية، ولكن هوازن فاجأتهم بالسهام الكثيفة تنهال عليهم من جنبات الوادي، وكان بعض المسلمين قد تعجلوا بالخروج دون استكمال عدة القتال، فكان بعضهم حاسري الرءوس، والبعض الآخر من الشبان لم يحملوا معهم السلاح الكافي (¬2) ولم يحسبوا للأمر حسابه، وأمام هول المفاجأة ودقة الرماة من هوازن حتى: "ما يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوه رشقاً ما يكادون يخطئون" (¬3) كما وصفهم البراء بن عازب أحد شهود المعركة من الصحابة - فانكشفت خيالة المسلمين ثم المشاة، وفر الطلقاء والأعراب، ثم بقية الجيش، حتى لم يصمد مع الرسول صلى الله عليه وسلم سوى فئة قليلة صمدت بصموده. لقد استمر القتال في هذه الجولة الأولى من الفجر إلى العشاء ثم طيلة الليل ثم انكشف المسلمون وأدبروا، وكان الحر خلال النهار شديداً فكان المسلمون يأوون قبل المعركة إلى ظلال الأشجار في النهار، أما في وقت المعركة فكانوا معرضين للشمس الملتهبة، وكانت الأرض رملية فكان الغبار يرتفع في وجوههم، فيحد من قدرة المقاتلين على الرؤية كما عبر أحدهم: "فما منا أحد يبصر كفَّه" (¬4). في حين استفادت هوازن من كمائنها في المنعطفات والشعاب. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 25 ومسلم 3/ 1401. (¬2) صحيح البخاري 4/ 35، 5/ 126 وصحيح مسلم 3/ 1400 - 1401 من حديث البراء بن عازب أحد شهود المعركة. (¬3) صحيح البخاري 4/ 35 وصحيح مسلم 3/ 1400 - 1401. (¬4) مسند أحمد 5/ 268 وسنن أبي داؤد 2/ 649 ومسند البزار (كشف الأستار 2/ 350) وطبقات ابن سعد 2/ 156 ومداره على أبي همام عبد الله بن يسار وهو مجهول لم يوثقه سوى ابن حبان، لكن أبا داؤد وصفه بأنه حديث نبيل ووثق سنده الهيثمي (مجمع الزوائد 6/ 182) وابن حجر (مختصر زوائد مسند البزار ص 251 رقم 816) والزرقاني (شرح المواهب اللدنية 3/ 13).

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يركب بغلته دلدل (¬1) رغم امتلاكه للخيل وبذلك يرسخ في أذهان المسلمين فكرة الصمود، فالبغلة لا تصلح للكر والفر ولا للإدبار خلافاً للخيل، وكان الرسول ينظر إلى إدبار المسلمين ويدعوهم للثبات وهو يدفع بغلته للأمام ويقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" والعباس عمه وأبو سفيان بن الحارث يمسكان بعنان بغلته لئلا تسرع به خلال العدو (¬2)، وقد تراجع قليل من المسلمين يسيراً (¬3)، في حين ابتعد معظمهم عن الميدان مدبرين ولم يصمد معه سوى عشرة أو اثني عشر من الصحابة كانوا يحيطون به فيهم العباس وأبو سفيان بن الحارث وأبو بكر وعمر وعلي (¬4)، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس - وكان جهوري الصوت - فنادى الناس للعودة ثم خص الأنصار وأصحاب الشجرة بالنداء ثم خص بني الحارث بن الخزرج بالنداء فتلاحقوا نحوه حتى صاروا ثمانين أو مائة، فقاتلوا هوازن (¬5)، وبدأوا جولة جديدة مليئة بالشجاعة والصدق والعزيمة والإيمان وحسن التوكل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ¬

_ (¬1) وانظر تعليق القسطلاني على ذلك (المواهب اللدنية 1/ 163). وقد انفرد الواقدي بذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس درعين والمغفر والبيضة (المغازي 3/ 895 - 897) والمغفر زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة أو حلق يتقنع به المتسلح، والبيضة تلبس في الرأس (الفيروز آبادي: القاموس المحيط 2/ 103، 3/ 20). (¬2) مسلم: الصحيح 3/ 1398 - 1400. والحاكم: المستدرك 3/ 255 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي. وأبو يعلي: المسند 3/ 338 ب رقم 303 ورجاله رجال الصحيح غير عمران بن دوار ففيه كلام. وابن إسحق (سيرة ابن هشام 1/ 442) بإسناد صحيح. (¬3) الزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/ 19 - 20، وهم الثمانون أو المائة الذين تراجعوا على أقدامهم ولم يولوا الدبر. (¬4) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 442 بإسناد صحيح إلى جابر بن عبد الله أحد شهود المعركة). (¬5) مسلم: الصحيح 3/ 1398، 1400 وسيرة ابن هشام 2/ 444 - 445 وعبد الرزاق: المصنف 5/ 380 - 381 وابن سعد. الطبقات 4/ 18.

ويسأله النصر، يقول: "إنك إن تشأ لا تبعد بعد اليوم" (¬1). حتى إذا غشيه الأعداء نزل عن بغلته وترجل (¬2)، وكان الصحابة إذا اشتد البأس والتحم القتال يتقون به لشجاعته وثباته (¬3)، فلما رأى الفارون من المسلمين ذلك وسمعوا العباس يناديهم أخذوا يتلاحقون به ويرددون: لبيك لبيك. حتى أن من لم يستطع منهم أن يثني بعيره ويعود به أخذ سلاحه وتركه (¬4)، فاشتد القتال من جديد وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "هذا حين حمي الوطيس" (¬5) وأخذ تراباً أو حصيات فرمى بهن وجوه الكفار وهو يقول:"شاهت الوجوه", "انهزموا ورب محمد" (¬6)، {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬7) ولم تصمد هوازن وثقيف طويلاً في الجولة الثانية، بل فروا من الميدان وتعقبهم المسلمون بعيداً عن حنين تاركين وراءهم قتلى كثيرين وأموالاً عظيمة في الميدان. ولم يتمكنوا من الانسحاب المنظم حتى أنهم تركوا خلفهم شراذم من الجيش تمكن المسلمون من القضاء عليها بسهولة (¬8) فكانت خسارتهم في الأرواح خلال الهزيمة أعظم من خسارتهم خلال المعركة فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعقب الفارين وقتلهم لإضعاف شوكتهم حتى لا يعودوا إلى الاجتماع والقتال (¬9). وقد أباح سلب المشرك لقاتله (¬10) ولكنه نهى عن قتل ¬

_ (¬1) أحمد: المسند 3/ 121 وهو من ثلاثيات المسند وقال ابن كثير والسفاريني إنه على شرط الشيخين (البداية والنهاية لابن كثير 4/ 348 وشرح ثلاثيات مسند أحمد للسفاريني 2/ 286). (¬2) صحيح البخاري 4/ 35، 53 وصحيح مسلم 3/ 1400 - 1401. (¬3) صحيح مسلم 3/ 1400 - 1401، والنووي: شرح صحيح مسلم 4/ 401 - 402. (¬4) مسلم: الصحيح 3/ 1398، 1400، وابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 444 - 445). (¬5) صحيح مسلم 3/ 1398، 1400. (¬6) صحيح مسلم 3/ 1398، 1400، 1402. (¬7) سورة التوبة: آية 26، وقال الشوكاني: الظاهر أن المراد جميع من حضر الغزوة من المؤمنين، الذين انهزموا والذين لم ينهزموا، لأنهم ثبتوا بعد ذلك وقاتلوا وانتصروا (فتح القدير 2/ 348). (¬8) كشف الأستار 2/ 346. (¬9) الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 181 وكشف الأستار 2/ 349 بإسناد رجاله ثقات. (¬10) أبو داؤد: سنن 2/ 65 وقال: هذا حديث حسن، والحاكم: المستدرك 2/ 130 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي.

النساء عندما رأي امرأة مقتولة فقال:"ما كانت هذه تقاتل" (¬1). وكذلك نهي عن قتل الذراري لما بلغه أن بعض المسلمين يقتلونهم، فلما ذكروا: إنما هم أولاد المشركين؟ قال: "أو هل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يُعرب عنها لسانها" (¬2). ولم يعنَّف الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا ممن فرَّ عنه، بل لما قالت له أم سليم الأنصارية أن يقتل الطلقاء لفرارهم قال: "إن الله قد كفى وأحسن" وكانت أم سليم تحمل خنجراً تدافع به عن نفسها (¬3) في المعركة. وقد بلغ قتلى هوازن خلال المعركة اثنين وسبعين قتيلاً من بني مالك من ثقيف وحدهم حسب رواية ابن إسحق (¬4)، وقتيلين من الأحلاف من ثقيف لأنهم سارعوا إلى مغادرة ميدان المعركة (¬5). وخلال الهزيمة ثلثمائة قتيل من بني مالك فقط قتلهم المسلمون بقيادة الزبير بن العوام في أوطاس (¬6) كما قتل عدد آخر في أوطاس (¬7) وقد قتل أبو طلحة وحده عشرين رجلاً منهم وأخذ أسلابهم (¬8)، كما ¬

_ (¬1) أبو داؤد: سنن 2/ 49 - 50. (¬2) مسند أحمد 3/ 435 من طريقين عن الحسن عن الأسود بن سريع وهو مشترك في الغزوة. ولكن الحسن لم يسمع منه، وفي الطريق الأولى عنعنة قتادة وهو مدلس. لكنه ورد من الطريق الأخرى بسند فيه قتادة تبقى علة الانقطاع بين الحسن والأسود. (¬3) صحيح مسلم 3/ 1442 (¬4) ابن هشام: السيرة 2/ 450 بدون إسناد ومن طريقه أخرجه الطبري من طريق معضل لأن يعقوب بن عتبة من صغار التابعين (تاريخ الرسل والملوك 3/ 78). (¬5) ابن هشام: السيرة 2/ 450. (¬6) كشف الأستار 2/ 346 وفي سنده على بن عاصم وثقه قوم وضعفه آخرون وحسن الحافظ ابن حجر هذا الحديث (فتح الباري 8/ 42). وقد بينت رواية البخاري أن دريد ابن الصمة قتل باوطاس وأن الزبير هو الذي قتله (صحيح 5/ 128). (¬7) سيرة ابن هشام 2/ 457 بدون إسناد. (¬8) أبو داود: السنن 2/ 65 وقال هذا حديث حسن، والحاكم: المستدرك 2/ 130 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي.

قتل المئات من بني نصر بن معاوية ثم من بني رئاب حيث استحر فيهم القتل وهم من أهم فروع هوازن (¬1). وهكذا كانت خسارة هوازن وثقيف في الأرواح جسيمة فضلا عن الجرحى وأما السبي فقد بلغ ستة آلاف في رواية سعيد بن المسيب (¬2). وقال عروة إن الستة آلاف من النساء والأبناء معاً (¬3)، وهو قول ابن إسحق أيضاً (¬4). ووصف الزهري كثرة السبي بقوله: "وملئت عُرُش مكة منهم" (¬5) وأما الأموال فكانت أربعة آلاف أوقية فضة (¬6) وأما الإبل فكانت أربعة وعشرين ألفاً (¬7)، وأما الشاة فكانت أكثر من أربعين ألف شاة (¬8). وكان معهم خيل وبقر وحمير لكن المصادر لم تذكر عدد ما غنمه المسلمون منها. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحبس الغنائم في الجعرانة لحين عودته من حصار الطائف (¬9). وأما تضحيات المسلمين فتتمثل في استشهاد أربعة منهم سماهم ابن إسحق (¬10) وإصابة عدد منهم بجروح منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن أبي أوفى وخالد بن الوليد (¬11). ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة 2/ 455 وابن سعد: الطبقات 2/ 152 ومغازي الواقدي 3/ 916. (¬2) عبد الرزاق: المصنف 5/ 381، وابن سعد: الطبقات 2/ 155، والطبري: تاريخ 10/ 102. (¬3) الطبري: تاريخ 3/ 82 وإسناده حسن إلى عروة. (¬4) ابن هشام: السيرة 2/ 488 بدون إسناد لكن في رواية الطبري عن ابن إسحق أن الإبل ستة آلاف وأما النساء والذراري فعدد كثير (تاريخ الرسل والملوك 3/ 86). (¬5) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 347 والعُرُش: بيوت من عيدان منصوبة ويظلل عليها (ابن الأثير: النهاية 3/ 207 - 208). (¬6) ابن سعد: الطبقات 2/ 152 بدون إسناد. (¬7) ابن سعد: الطبقات 2/ 152 بدون إسناد. (¬8) ابن سعد: الطبقات 2/ 152 بدون إسناد. (¬9) أخرجه البزار كما في كشف الأستار 2/ 353 وقال ابن حجر في الإصابة 1/ 145 "إسناده حسن" والصحيح أن فيه عنعنة ابن إسحق وهو مدلس وفيه اجام اسم ابن بديل بن ورقاء. (¬10) سيرة ابن هشام 2/ 459 بدون إسناد. (¬11) صحيح البخاري 5/ 126 ومسند الحميدي 2/ 398 بإسناد صحيح. والبزار (كشف الأستار =

ولعل خسارتهم الطفيفة هذه في الأرواح ترجع إلى أن الجولة الأولى التي أدبروا فيها كان القتال خلالها في الغالب تراشقاً بالسهام، وكان الالتحام في الجولة الثانية أكثر لكن الدائرة كانت على هوازن وثقيف فكانت معظم إصابات المسلمين جروحاً شفوا منها، ومما يدل على سلامة جيش المسلمين أنهم طاردوا المنهزمين في حنين إلى مسافات بعيدة كما أنهم اتجهوا إلى حصار الطائف مباشرة دون استجمام يزيل عنهم آثار هذه الموقعة الحاسمة. والتي تشبه في خطورتها غزوة بدر الكبرى فإن المسلمين قدموا كل جيشهم وكذلك فعلت هوازن، وكانت العرب والأعراب تنتظر مصير المعركة لتتخذ موقفها الأخير من الإسلام فلما هزمت هوازن أقبلت الوفود تعلن الدخول في الدين الجديد ... تعقب الفارين نحو نخلة وأوطاس: انهزمت هوازن وتفرقت في الجبال والأودية، وتحصن مالك بن عوف النصري بالطائف في حين عسكر آخرون منهم بأوطاس - وهو واد بين الطائف وحنين - وعسكر بنو غيرة من ثقيف في نخلة بين سبواحة والشرائع (حنين) (¬1). وقد تبعت خيل المسلمين من سلك في نخلة من هوازن، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري إلى أوطاس فقاتلهم وقتل دريد بن الصمة (¬2)، ثم أصيب بسهم وهو يقاتلهم فاستشهد بعد أن استخلف أبا موسى الأشعري وأوصاه بتبليغ ¬

_ = للهيثمي 2/ 346) وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري 8/ 42 لكنه وصف المتن بأنه منكر في (مختصر زوائد مسند البزار ص 249 - 250 رقم 816). وقد لفَّقتُ أسماء الجرحى من هذه المصادر ولم ينص كل مصدر عليهم جميعاً. (¬1) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 453 - 454) بدون إسناد. وانظر عن تحديد المواقع: كتاب المناسك للحربي، تعليق حمد الجاسر ص 346، 353، 471، 654. (¬2) سبقت الإشارة إلى أن الزبير بن العوام قتل دريد بن الصمة بعد معركة حنين وهذا يتفق مع رواية البخاري لأن الزبير كان في جيش أوطاس.

السلام لرسول الله وأن يطلب منه أن يستغفر له، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم لما أبلغه أبو موسى ذلك (¬1). وممن وقع في الأسر الشيماء أخت الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة حيث تضافرت الأحاديث المرسلة من ابن إسحق وغيره على إكساب هذه الحادثة القوة التاريخية، وقد أكرمها الرسول بعد أن استدل على صحة ما تقول من عضة عضها لها أيام رضاعه في بني سعد (¬2)، كما تدل روايات ليست قوية - لكنها تتضافر لإسناد الخبر التأريخي - على أن أمه من الرضاعة حليمة السعدية قدمت إليه فأكرمها وطوى لها ثوبه لتجلس عليه (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري: صحيح 5/ 128، 4/ 28، 8/ 69. ومسلم: الصحيح 4/ 1943، وابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 454) والواقدي: المغازي 3/ 915. (¬2) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 458) عن بعض بني سعد، وانظر البيهقي: دلائل النبوة 3/ 56 من مراسيل قتادة وفي إسناده راوٍ ضعيف أيضاً. (¬3) الطبري: جامع البيان 10/ 101 من مراسيل قتادة بإسناد حسن. وابن عبد البر: الاستيعاب 4/ 270 من مراسيل عطاء بن يسار - تابعي من الثالثة - والبخاري: الأدب المفرد 440 وأبو داؤد: السنن 2/ 630 من حديث أبي الطفيل ولكن في إسناده مجاهيل والحاكم: المستدرك 3/ 618 و 4/ 164 وقال: صحيح الإسناد وابن كثير: البداية والنهاية 4/ 364 ويرى أنها أخته الشيماء وليست حليمة لأنها تكون في حدود التسعين من عمرها. وأبو داؤد: المراسيل بإسناد معضل (ابن كثير: البداية النهاية 4/ 364).

غزوة الطائف

غزوة الطائف بعد أن شتت المسلمون هوازن وتعقبوها في نخلة وأوطاس اتجهوا إلى مدينة الطائف التي تحصنت فيها ثقيف ومعهم مالك بن عوف النصري قائد هوازن. وكانت الطائف تمتاز بموقعها الجبلي وبأسوارها القوية وحصونها الدفاعية، وليس إليها منفذ سوى الأبواب التي أغلقتها ثقيف بعد أن أدخلت من الأقوات ما يكفي لسنة كاملة، وهيأت من وسائل الحرب ما يكفل لها الصمود طويلاً، وكان وصول المسلمين إلى الطائف في حدود العشرين من شوال دون أن يستجم الجيش طويلاً من غزوة حنين وسرايا نخلة وأوطاس التي بدأت في العاشر من شوال واستغرقت أكثر من أسبوع. وقد حاصر المسلمون الطائف بضع عشرة ليلة في رواية عروة بن الزبير وموسى بن عقبة (¬1)، وحدَّدت رواية عن عروة أيضاً المدة بنصف شهر (¬2)، ورغم أن سائر هذه الروايات مراسيل لا تقوم بها حجة (¬3) فإن عروة وموسى من أجلّ كتاب المغازي وأوثقهم، وروايتهما تتفق مع تواريخ الأحداث وسياقها، وزعمت روايات أخرى أن الحصار استمر خمسة وعشرين يوماً (¬4) أو شهراً (¬5) أو أربعين يوماً (¬6)، والقول بهذا لا يتفق مع تواريخ الأحداث الأخرى وسياقها، وخاصة إذا قلنا أن الحصار دام أربعين يوماً. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة لست ليال ¬

_ (¬1) البيهقي: السنن الكبرى 9/ 84 ودلائل النبوة 3/ 47 ب، وهما مرسلان، وفي سندي البيهقي عنهما رجل لم أقف على ترجمته وهو في رواية عروة أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد وفي رواية موسى بن عقبة محمد بن عبد الله بن عتاب. (¬2) الطبري بإسناد حسن إلى عروة وهو مرسل (تاريخ الرسل والملوك 3/ 82). (¬3) لأن موسى تلميذ عروة فلا تتعدد المخارج. (¬4) ابن إسحق (البيهقي: دلائل النبوة 3/ 48 أ) وقال في السيرة: "بضعاً وعشرين ليلة" (سيرة ابن هشام 2/ 478 - 483). (¬5) ابن إسحق بروايته عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعبد الله بن المكرم مرسلاً بإسناد حسن إليهما (البيهقي: دلائل النبوة 3/ 48). (¬6) مسلم: الصحيح 2/ 736 وأحمد: المسند 3/ 157 وقد بين ابن كثير بعد إيراده هذا الحديث عن الإمام أحمد أن السميط - رواية - وهم في مدة الحصار (البداية والنهاية 4/ 356).

بقين من ذي القعدة (¬1) بعد أن مكث بضع عشرة ليلة في الجعرانة ثم قام بالعمرة ثم عاد إلى المدينة ويحتاج ذلك إلى ثمانية عشر يوماً على الأقل بعد فك الحصار عن الطائف. وقد سلك المسلمون في تقدمهم نحو الطائف الطريق القديم الذي يدخل الطائف من ناحية الجنوب. فمروا على نخلة اليمانية ثم قرن المنازل - على بعد 80 كيلاً عن مكة و 53 كيلاً جنوب الطائف - ثم المليح من وديان الطائف ثم بحرة الرغاء على بعد 15 كيلاً جنوب الطائف (¬2) وهي طريق طويلة إذا قورنت بالطريق المسفلت بين مكة والطائف وطوله 90كيلاً لكن الطائف يستحيل اقتحامها من ناحية الشمال حيث التضاريس الجبلية المعقدة التي تعطيها تحصيناً طبيعياً، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يحول بين ثقيف وبين أمدادها من هوازن شرق وجنوب الطائف. وقد نزل المسلمون قريباً من حصون الطائف فكانوا في متناول سهام ثقيف فأصيب بعضهم فتحولوا بعسكرهم إلى الموضع الذي بنى فيه مسجده (¬3) وهو المعروف اليوم بمسجد عبد الله بن عباس، والطائف قديماً كانت إلى الجنوب الغربي من المسجد (¬4) وكان القتال تراشقاً بالسهام على بعد، وقد استخدم المسلمون آلة من الخشب الثخين المغلف بالجلود مركبة على عجلات مستديرة احتموا بها من السهام حتى وصلوا إلى الأسوار ليثقبوها، فألقت ثقيف عليهم قطع حديد محماة فأحرقت "الدبابة" - وهو اسم الآلة - وخرج المقاتلون من ¬

_ (¬1) ابن هشام: السيرة 2/ 500 وابن حزم: جوامع السيرة 248 وجزم ابن حزم بأن مدة الحصار كانت بضع عشرة ليلة (جوامع السيرة 243، 248). (¬2) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 478 - 483) وعن تحديد المسافات انظر: البلادي: معجم المعالم الجغرافية 254 ونسب حرب 39، 225 والحربي، كتاب المناسك تعليق حمد الجاسر 353. (¬3) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 478 فما بعد). (¬4) البلادي: معجم المعالم الجغرافية 213، 214، 316.

تحتها فأصابتهم السهام (¬1) وهذه هي أول غزوة يستخدم فيها المسلمون آلات لضرب الحصون، وقد اشتهرت جرش اليمانية - التي لا تزال أطلالها قائمة أعلى وادي بيشة (¬2) - بصناعة الدبابات والمجانيق والضبور (¬3). ويذكر ابن إسحق أن اثنين من وجوه ثقيف كانا يتعلمان في جرش صنعة هذه الآلات للاستفادة منها في الدفاع عن الطائف (¬4). أما عن حصول المسلمين على آلات الحرب هذه حيث ضربوا الحصون بالمنجنيق (¬5) فقد ذكر أن خالد بن سعيد بن العاص جاء بمنجنيق ودبابتين من جرش في حين تفيد رواية أخرى أن سلمان الفارسي عمل المنجنيق بيده (¬6). ومن الواضح أن آلات فك الحصار لم تكن متوافرة للمسلمين بالقدر الكافي. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريق بساتين العنب والنخيل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف التي ناشدته ألا يفعل فتركها بعد أن أحدثت المحاولة أثرها في إضعاف معنوياتهم (¬7). ¬

_ (¬1) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 478 - 483) وعن الدبابة أنظر: محمود شيت خطاب: الرسول القائد 254. (¬2) الحربي: كتاب المناسك، تعليق حمد الجاسر، ص 285. (¬3) يتكون المنجنيق من عمود طويل قوي موضوع على عربة ذات عجلتين في رأسها حلقة أو بكرة، يمر بها حبل متين، في طرفه الأعلى شبكة في هيئة كيس، توضع حجارة أو مواد محترقة في الشبكة، ثم تحرك بواسطة العمود والحبل فيندفع ما وضع في الشبكة من القذائف ويسقط على الأسوار فيقتل أو يحرق ما يسقط عليه (محمود شيت خطاب: الرسول القائد 254). (¬4) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 278) والطبري: تاريخ 2/ 353 ط. القاهرة. (¬5) أبو داؤد: المراسيل 37 بإسناد صحيح إلى مكحول من مراسيله، وبإسناد آخر إلى عكرمة مولى ابن عباس من مراسيله. واحتج الإمام الشافعي بهذه الحادثة (الأم 4/ 161). (¬6) الواقدي: المغازي 3/ 927، 923 وقد ذكر أن الطفيل بن عمرو الدوسي ذهب بأمر رسول الله إلى صنم يدعى ذا الكفين فهدمه ووافى المسلمين في الطائف مع أربعمائة من قومه ومعهم دبابة ومنجنيق. (¬7) البيهقي: السنن الكبرى 9/ 84 من مراسيل موسى بن عقبة وعروة بن الزبير وفي إسناده إلى كل منهما من لم أقف على ترجمته. وابن إسحق من مراسيل عمرو بن شعيب، وانظر: الأم للشافعي 7/ 323.

وكذلك وجه نداء لعبيد الطائف أن من ينزل منهم من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فأسلموا فأعتقهم (¬1) ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامها (¬2). ورغم ما واجهته ثقيف من وابل السهام التي أمطرها بها المسلمون لينالوا درجة في الجنة وعدهم بها رسول الله (¬3)، فإنها صمدت أمام الحصار بكبرياء وإصرار. وقد كثرت الجراحات في المسلمين (¬4). واستشهد منهم اثنا عشر رجلا (¬5). في حين لم يقتل من المشركين سوى ثلاثة بسبب امتناعهم بالحصون والأسوار (¬6). وتدل رواية صحيحة (¬7) على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد بحصار الطائف فتحها، بل كسر شوكة ثقيف وتعريفها بأن بلدها في قبضة المسلمين، وأنهم متى شاءوا دخلوها. وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليشق على المسلمين ويكثر من تقديم الشهداء لفتح بلد حصين يحيط به الإسلام من كل مكان وليس له إلا الإسلام أو الاستسلام طال الوقت أم قصر، كما أنه كان يحرص على ثقيف حرصه على قريش من قبل، فهم إن تحولوا إلى الإسلام كانوا مادة له، فهم أهل فطنة وذكاء، وكان يطمح لإسلامهم وقد سعى لنشر الدعوة فيهم منذ المرحلة المكية ¬

_ (¬1) عبد الرزاق: المصنف 5/ 301 وابن حجر: فتح الباري 8/ 46 وطبقات ابن سعد 2/ 158 - 159. والطبراني (الهيثمي: مجمع الزوائد 4/ 245 وقال: رجاله رجال الصحيح) ونزول العبيد وعددهم ثابت في صحيح البخاري (5/ 129) دون ذكر الإسلام. (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 485 وطبقات ابن سعد 2/ 159 ومسند أحمد 1/ 236، 243، 248، ومداره على الحجاج بن أرطأة صدوق وهو مدلس وقد عنعن. (¬3) حديث "من بلغ بسهم فله درجة في الجنة" قاله في حصار الطائف وهو صحيح (مسند أحمد 4/ 113، 384 وصرح قتادة فيه بالتحديث عند البيهقي: السنن الكبرى 9/ 161). (¬4) صحيح البخاري 8/ 20، 9/ 113. (¬5) سماهم ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 486 - 487). (¬6) أبو داؤد: المراسيل 47 من مرسل عكرمة. والواقدي: المغازي 3/ 926، 929 - 930. (¬7) البخاري: صحيح 5/ 128، 9/ 113.

ودعا لهم بالهداية بعد أن رفضوا دعوته وآذوه، وقد سأله بعض الصحابة أثناء حصار الطائف أن يدعو على ثقيف فدعا لهم بقوله: "اللهم إهد ثقيفاً" (¬1). لا غرابة إذاً في أن يدعو الرسول أصحابه إلى فك الحصار، فلما رأى حرصهم على القتال في أوله سمح لهم ببعض المناوشات التي أثبتت لهم أن لا جدوى من القتال، عندئذ أعاد عليهم الرسول فكرة فك الحصار فأظهروا الرضا بهذا القرار الحكيم (¬2). وعادوا إلى الجعرانة، فوصلوها في اليوم الخامس من ذي القعدة. وفي الجعرانة كانت تقبع غنائم حنين الجليلة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخَّر قسمتها، ولم يعجل بالقسمة حتى بعد عودته من حصار الطائف - سوى بعض الفضة التي قسمها إثر العودة من حصار الطائف (¬3) -، بل انتظر بضع عشرة ليلة (¬4) متطلعاً إلى قدوم هوازن عليه ودخولها في الإسلام، لكنها أبطأت عليه، فقسم الغنائم. والأصل أن الغنيمة يؤخذ منها الخمس يتصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وفقاً للتوجيه القرآني {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬5). وأما الأربعة الأخماس الأخرى فهي حصة المقاتلين الذين شهدوا القتال، توزع بينهم بالتساوي للرجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه. هذا في غنيمة الأموال المنقولة، وأما الأموال غير المنقولة فالإمام مخير فيها بين قسمتها أو وقفها واعتبارها ملكاً عاماً للدولة. والأموال التي يحوزها المسلمون ¬

_ (¬1) الترمذي: سنن 5/ 385 - 386 وقال: حسن صحيح غريب، وبين الألباني أنه صحيح على شرط مسلم لولا عنعنة أبي الزبير - راويه - وهو مدلس (فقه السيرة للغزالي 432). (¬2) البخاري: صحيح 5/ 128، 9/ 113. (¬3) الحاكم: المستدرك 2/ 121 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عنه الذهبي. (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 32) وقد ورد في رواية أن المدة ثلاث عشرة ليلة. (¬5) سورة الأنفال: آية 41.

في القتال هي الغنيمة التي تقسم كما ذكرت، وأما الأموال التي يحوزونها دون قتال فتسمى بالفيء ويصرف في المصالح العامة وفقاً لاجتهاد الحاكم، وقد يعطي الحاكم النفل لبعض المقاتلين المبرزين من الغنيمة قبل إخراج الخمس منها أو بعده، كما يجوز أن يعطيهم من الخمس، وكذلك يأذن لهم بأخذ سلب من قتلوه من المشركين. وقد تم توزيع غنائم حنين بصورة خفيت حكمتها على بعض الصحابة آنذاك، حيث حظي بهذه الغنائم الطلقاء تأليفاً لقلوبهم لقرب عهدهم بالإسلام، وعدم تمكين معاني الإيمان من قلوبهم، فأعطى مائة من الإبل لكل من عيينة بن حصن - من زعماء غطفان - والأقرع بن حابس - من زعماء تميم-، وعلقمة بن علاثة والعباس بن مرداس وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية - من زعماء قريش (¬1) - وقد بلغ عدد أصحاب المائة من الإبل إثني عشر رجلا في قائمة ابن إسحق، ما ذكر خمسة آخرين أخذوا أقل من المائة من الإبل (¬2). وذكر ابن هشام أسماء تسعة وعشرين رجلا من المؤلفة قلبوهم (¬3). وزاد غيره ثلاثة وعشرين، فصار جملة العدد اثنين وخمسين رجلاً. وقد استمالت هذه الأعطيات قلوب هؤلاء الزعماء وأتباعهم فأظهروا الرضا بها وزادتهم رغبة في الإسلام، ثم حسن إسلامهم جميعاً فأبلوا في الإسلام بلاء حسناً وخدموه بأنفسهم وأموالهم إلا يسيراً منهم مثل عيينة بن حصن الفزاري "لم يزل مغموزاً" كما يقول ابن حزم (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 2/ 737. ومسند أحمد 3/ 246 وقال ابن حجر: إسناده على شرط مسلم (فتح الباري 8/ 50) وصحيح البخاري 2/ 104، 4/ 5، 73، 8/ 79. (¬2) سيرة ابن هشام 2/ 492 - 494 بدون إسناد. (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 494 - 496 والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/ 37 وفتح الباري 8/ 48. (¬4) جوامع السيرة 248. أما الأقرع بن حابس فقد استشهد مع عشرة من بنيه في اليرموك (ابن سعد 7/ 37 وابن عبد البر: الاستيعاب 1/ 103 وابن حجر: الإصابة 1/ 58).

قال أنس بن مالك: "إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" (¬1). وقد عبر بعض المؤلفة قلوبهم عن أثر ذلك فقال صفوان بن أمية "لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما ربح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي" (¬2). لقد كان صفوان بن أمية من المؤلفة قلوبهم، وكان يحب أن يناله من أعطيات الرسول صلى الله عليه وسلم فكلما أعطاه سأله المزيد، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم نظرة الإسلام إلى المال ووعظه، فإذا به يرغب حتى عن أخذ عطائه السنوي من بيت المال (¬3)! مما يوضح ما حدث من تحول عظيم في نفوس المؤلفة قلوبهم التي تشبعت بمعاني الإسلام على مر الأيام. وقد تأثر بعض المسلمين في بداية الأمر لعدم شمولهم بالأعطيات فكان لابد من بيان الحكمة لهم في ذلك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم موضحا: "والله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير" (¬4). وقال: "إني لأعطي رجالاً حدثاء عهد بكفر أتألفهم" (¬5). وقال: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار" (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4/ 1806. (¬2) صحيح مسلم 4/ 1806. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 3/ 336 وانظر الحديث في صحيح البخاري 2/ 104، 4/ 5، 73، 8/ 79 ومسلم: الصحيح 2/ 717. (¬4) البخاري: صحيح 2/ 10، 4/ 74، 9/ 125 - 126. (¬5) فتح الباري 8/ 53 من رواية البخاري. (¬6) صحيح البخاري 1/ 11، 2/ 105 - 106 وصحيح مسلم 1/ 132 - 133، 2/ 732 - 733.

وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم لعدم أخذهم شيئاً من الأعطيات، وأن بعض أحداثهم قالوا: "إذا كانت الشدة فنحن ندعي، وتعطى الغنائم غيرنا". وقالوا: "يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم". فجمعهم في قبة من أدم وقال: "إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة"، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم، لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار" فلما وضحت لهم الحكمة من التوزيع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكلهم إلى إيمانهم، فهم مثال للتضحية والتجرد في سبيل العقيدة، يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع، ولم تكن الدنيا همهم ولا المال مقصدهم، فلما عرفوا سبب منع الأعطيات عنهم أعلنوا رضاهم بذلك (¬1) ما دام فيه إعزاز الإسلام ومصلحة العقيدة التي يفتدونها بكل عزيز وغال من نفس ومال. وكيف لا يرضون وقد أدركوا أن الرسول القائد قدمهم على سواهم، واعتمد على إخلاصهم للعقيدة ووكلهم إلى إيمانهم فكانوا عند حسن ظنه بهم، فقد بكوا بعد سماع كلامه وقالوا: "رضينا برسول الله قسماً وحظاً" (¬2). وقد أظهر بعض الأعراب المشتركين في غزوة حنين جفاءً وغلظة عند قسمة الغنائم بالجعرانة، فقال أحدهم (¬3) مخاطباً الرسول عليه الصلاة والسلام: "اعدل، فقال: شقيت إن لم أعدل" (¬4). وقد غضب عمر بن الخطاب من كلام الأعرابي فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بقتله، فأبى عليه وقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 74،145، 5/ 26، 28، 130، 131، 7/ 133، 8/ 130، 9/ 106 وصحيح مسلم 2/ 733 - 736. (¬2) سيرة ابن هشام 3/ 76 - 77 من طريق ابن إسحق بإسناد حسن لذاته. (¬3) سماه ابن إسحق بإسناد حسن "ذو الخويصرة التميمي" (سيرة ابن هشام 2/ 496). (¬4) صحيح البخاري 4/ 72 وفتح الباري 8/ 68، 12/ 291، 293. (¬5) مسلم: الصحيح 2/ 740 وقارن براوية ابن إسحق (سيرة ابن هشام 2/ 496) ويبدو من كلام الحافظ ابن حجر أن الرجل اعترض على القسمة مرتين مرة في قسمة غنائم حنين ومرة ثانية في قسم ذهب أرسله على من اليمن في أثر حنين (فتح الباري 8/ 69، 12/ 291،293).

ولا غرابة في موقف الأعراب وهم إنما خرج معظمهم طلباً للغنائم، وقد ازدحموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين حتى علق رداؤه بغصن شجرة، فقال: "أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاة - شجر الشوك وكان يملأ المكان - نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً" (¬1). ثم أخذ وبرة من سنام بعير وقال: "والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم" ثم ذكر لهم تحريم أخذ شيء من الغنائم قبل قسمتها فجاء رجل أنصاري بخيوط شعر مكببة كان قد أخذها من الغنائم فألقاها (¬2). ولما مات كركرة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "هو في النار" ففتشوا في متاعه فوجدوا عباءة قد غلَّها (¬3). وهكذا كانت تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة لحماية الأموال العامة، وموقف الأنصاري يدل على الورع والالتزام بأوامر الرسول حتى في المال اليسير الذي لا قيمة له مثل خيوط الشعر التي أعادها. وقد ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الصبر على جفاء الأعراب وطمعهم في الأموال وحرصهم على المكاسب، فكان مثالاً للمربي الذي يدرك أحوالهم وما جبلتهم عليه بيئتهم وطبيعة حياتهم من القساوة والفظاظة والروح الفردية، فكان يبين لهم خلقه ويطمئنهم على مصالحهم ويعاملهم على قدر عقولهم، فكان بهم رحيماً، ولهم مربياً ومصلحاً، فلم يسلك معهم مسلك ملوك عصره مع رعاياهم الذين كانوا ينحنون أمامهم أو يسجدون وكانوا دونهم محجوبين، وإذا خاطبوهم التزموا بعبارات التعظيم والإجلال كما يفعل العبد مع ربه. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فكان كأحدهم يخاطبونه ويعاتبونه، ولا يحتجب عنهم قط، ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 19، 75. (¬2) ابن إسحق بإسناد حسن لذاته (سيرة ابن هشام 2/ 488 - 490، 492) وفقه السيرة للغزالي ص 426 تعليق للشيخ الألباني. (¬3) صحيح البخاري 4/ 59.

وكان الصحابة، رضوان الله عليهم، يراعون التأدب بحضرته ويخاطبونه بصوت خفيض، ويكنون له في أنفسهم المحبة العظيمة. وأما جفاة الأعراب فقد عنفهم القرآن الكريم على سوء أدبهم وجفائهم وارتفاع أصواتهم وجرأتهم في طبيعة مخاطبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). وبعد قسمة الغنائم، قدم وفد من هوازن يعلن إسلامها، ويطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد الأموال والسبي عليهم، فخيَّرهم بين السبي والمال، فاختاروا السبي (¬2)، فخطب الرسول في المؤمنين فقال: "إن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل. فقال الناس: طيبنا يا رسول الله لهم. فقال لهم: إنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا" (¬3). ويلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعود السبي إلى هوازن عن طيب نفس المقاتلين، لأن الغنيمة من حقهم، فلا بد أن يتنازلوا عنها برضاهم ووعد من لا يرضى بتعويضه عن السبي، وتأكد من ذلك عن طريق العرفاء المسئولين عن الجند. وقد تنازل معظم الجند عن السبي سوى الأقرع بن حابس وتكلم باسم قبيلة تميم كلها وعيينة بن حصن وتكلم باسم قبيلة فزارة، فوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) أنظر سورة التوبة: آية 97، 98. (¬2) صحيح البخاري 3/ 156. (¬3) صحيح البخاري 3/ 87. وأما حديث عطية السعدي الذي يفيد مناشدته لرسول الله إطلاق السبي لأنهن "أمهاتك وأخواتك وخالاتك" لرضاعه في بني سعد، فإسناده ضعيف لجهالة الزبير الصنعناني وعروة بن محمد بن عطية السعدي وأبيه محمد. (صحيح الألباني: السلسلة الضعيفة 2/ 51).

بتعويضهم عنها (¬1). وهذا يدل على أن قدوم وفد هوازن كان بعد تقسيم الأموال والسبي وليس قبل ذلك كما تشير رواية لابن إسحق (¬2). وقد سر الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف النصري، فأخبروه أنه بالطائف مع ثقيف، فوعدهم برد أهله وأمواله عليه وإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلماً، فجاءه مالك مسلماً فأكرمه وأمَّره على قومه وبعض القبائل المجاورة الأخرى. وقد حسن إسلام مالك، فكان يقاتل ثقيفاً في الطائف حتى ضيَّق عليهم (¬3). وفكر زعماؤهم في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان فلا تستطيع تحركاً ولا تجارة، ومال بعض زعمائها إلى الإسلام مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه، وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوباً عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذَّن في أعلى منزله فرماه بعضهم بسهام فأصابوه، فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف (¬4). ولكن زعماء ثقيف كانوا يحسون بحراجة موقفها، ويسعون لتأمين أنفسهم وأموالهم، فأرسلوا في رمضان من العام التاسع - بعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك - وفداً منهم برئاسة عبد ياليل بن عمرو ومعه ثلاثة من بني مالك واثنين من الأحلاف، وقد لقيهم المغيرة بن شعبة في وادي قناة شمال المدينة بيسير، فأخبر بقدومهم ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 448 - 490، 492 بإسناد حسن لذاته حيث صرح ابن إسحق بالتحديث فيه، وانظر مسند أحمد 2/ 184 وسنن أبي داؤد 7/ 359 وسنن النسائي 6/ 220، وانظر الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 187 - 188. (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 354 - 355 وفتح الباري 8/ 33، 34. (¬3) سيرة ابن هشام 2/ 490 - 492. (¬4) ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 2/ 537 - 538) وخالفه موسى بن عقبة فذكر تأخر إسلام عروة إلى ما بعد حجة أبي بكر بالناس عام 9 ورجح ابن كثير رواية ابن إسحق (البداية والنهاية 5/ 29).

أبا بكر الذي سارع لتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد علمهم المغيرة تحية الإسلام وأدب مخاطبة الرسول وقد أنزلهم الرسول في قبة في ناحية مسجده ليستمعوا القرآن ويشاهدوا صلاة المسلمين فيه، وقد أعلنوا إسلامهم، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا (¬1)، وقد طلبوا من الرسول أن يؤخر هدم اللات ثلاث سنين - خوفا من غضب قومهم - فأبى إلا أن يهدمها، ولكنه أعفاهم من القيام بذلك وأرسل أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدمها، كما طلبوا إعفاءهم من الصلاة لأنهم يرون فيها دناءة!! لما فيها من انحناء وسجود لله تعالى، وكأنهم نسوا أنهم ¬

_ (¬1) أورد أبو عبيد في الأموال 247 وابن زنجويه في الأموال 442 كتابا طويلا قالا أنه كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لثقيف، وهو من مرسل عروة بن الزبير وفي إسناده ضعف بسبب ابن هيعة، وقد ذكر أبن إسحق بدون إسناد ما يتعلق بتحريم وادي وج منه (سيرة ابن هشام 4/ 200) وأخرج الإمام أحمد في المسند 1/ 165 وأبو داود في سننه حديثا عن الزبير بن العوام في تحريم وادي وج بين الزبير أن التحريم كان قبل حصار الطائف وقد بين البخاري تفرد محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي به وقال أبو حاتم: ليس بالقوي في حديثه نظر وذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب التهذيب 9/ 248). وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: لين. وقال البخاري عن أبيه: لم يصح حديثه وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان يخطئ، وتعقبه الذهبي فقال:"هذا لا يقوله الحافظ إلا فيمن روى عدة أحاديث، وعبد الله ما عنده غير هذا الحديث، فإن كان أخطأ فيه فما هو الذي ضبطه؟ " (تهذيب التهذيب 4/ 194) وقد ذكر الخلال في العلل أن أحمد ضعفه وصحح الشافعي حديثه واعتمده (ميزان الاعتدال للذهبي) وصحح هذا الحديث الشيخ أحمد شاكر (المسند رقم الحديث 1416) وقد يتساهل في التصحيح ولعله رحمه الله اعتمد تصحيح الإمام الشافعي للحديث، ومعلوم أن الأئمة البخاري وأحمد وأبا حاتم أكثر تخصصا بالحديث من الإمام الشافعي على جلالة قدره فالحديث لا يصح وأيضا فإن الإمام الشافعي أخذ بهذا الحديث في القديم ولم يأخذ به في الجديد بل اتفق فيه رأيه مع رأي الجمهور بعدم تحريم وج (الزرقاني: شرح المواهب اللدنية 4/ 10) فأحسبه تنبه إلى ضعف الحديث. وقال الخطابي: "ولست أعلم لتحريمه وجا معنى إلا أن يكون ذلك على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، ويحتمل أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم، وفي مدة محصورة ثم نسخ" وبين الخطابي أن المسلمين أثناء حصار الطائف أفادوا من شجر وصيد ومرفق المكان فدل ذلك على أنها حل مباح (مختصر سنن أبي داؤد للمنذري 2/ 442) وإنما سقت هذه الحاشية الطويلة لئلا يعتمد الدارسون عليها في بيان السياسة الشرعية. خاصة أن بعض الباحثين المعاصرين اعتمد على هذا الكتاب وظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم تنازل لثقيف بتحريم وج الذي كانت تحرمه (عون الشريف قاسم: نشأة الدولة الإسلامية 137).

يفعلون ذلك للات وغيرها من الأصنام والأحجار!! فأبى عليهم قائلا: "لا خير في دين ليس فيه ركوع" (¬1). واشترطوا إعفاءهم من الزكاة والجهاد، وقد وافقهم، وسمعه جابر بن عبد الله يقول "سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا" (¬2). وسألوه أن يسمح لهم بترك الوضوء بحجة أن بلادهم باردة، وأن ينتبذوا في الدباء (القرع)، وأن يعيد لهم أبا بكرة الثقفي فأبى عليهم ذلك كله (¬3). وكان عثمان بن أبي العاص أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين فأمره الرسول على الطائف، وكان أصغرهم سناً (¬4). وبعد إسلام وفد ثقيف سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة كثيرة تتعلق بأمور دينهم، حتى سألوا الصحابة عن كيفية تقسيم القرآن إلى أحزاب فقالوا: "كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من قاف حتى يختم" (¬5). وهو نفس ترتيب القرآن المعروف الآن، ويبدوا أن الوفد تأثر بمقابلاته مع الرسول صلى الله عليه وسلم وباختلاطه مع الصحابة وما جرى من حوار بينهم وبين المسلمين حتى أنهم صاموا ما بقي عليهم من شهر رمضان (¬6). ¬

_ (¬1) ابن إسحق (سيرة ابن هشام 4/ 538 - 540) بإسناد معضل (فقه السيرة للغزالي تعليق الألباني ص 450). (¬2) سنن أبي داؤد 2/ 146 وإسناده حسن لذاته. (¬3) مسند أحمد 4/ 168 وقال الهيثمي: رجاله ثقات (مجمع الزوائد 4/ 245). (¬4) مسند أحمد 4/ 218 وسنن ابن ماجة 1/ 316 وانظر صحيح مسلم 1/ 342 حيث أشار إلى إمارته. (¬5) مسند أحمد 4/ 9، 343 وأبو داؤد: السنن 1/ 321 - 322 وابن ماجة: السنن 1/ 427 - 428 والحديث مداره على عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عثمان بن عبد الله، ويحتاج للمتابعة ليصير حسنا لأن الطائفي صدوق يخطئ ويهم عثمان مقبول عند ابن حجر ومحله الصدق عند الذهبي (التقريب لابن حجر 2/ 11 وميزان الاعتدال 3/ 43). (¬6) ابن هشام: السيرة 2/ 540 - 541 وفي إسناده عيسى بن عبد الله بن مالك قال عنه ابن حجر مقبول (تقريب 2/ 99).

وقد مكث الوفد خمسة عشرة يوما في المدينة ثم عادوا إلى الطائف ومعهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة الثقفي ليهدما اللات، وقد حكى ابن إسحق وصفا لحادثة هدم اللات واجتماع النساء الثقفيات حولها يبكين حتى أتم المغيرة هدمها وأخذ مالها من الذهب والجزع (¬1). وأهل الطائف يظنون أنها ستثأر لنفسها وقد سخر منهم المغيرة فرمى معوله وركض فقالوا: ثأرت الربة! فضحك ونصحهم بتوحيد الله وعاد فأنجز عمله. وبذلك زالت أسطورة اللات التي عبدت طويلا من دون الله. * * * وفيما يلي بيان أهم الأحكام المستنبطة من هذه الغزوة، لما في بيان تواريخ التشريعات من فوائد عظيمة فبها يعرف الناسخ والمنسوخ فيمكن الترجيح عند التعارض، وتبين علل الأحكام بمعرفة الظروف والملابسات التي أحاطت بتشريعها. الأحكام المستنبطة من غزوة حنين والطائف: 1 - نزول الآية الكريمة {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في يوم أوطاس لبيان حكم المسبيات المتزوجات، وقد فرق السبي بينهن وبين أزواجهن، فأوضحت الآية جواز وطئهن إذا انقضت عدتهن، لأن الفرقة تقع بينهن وبين أزواجهن الكفار بالسبي وتنقضي العدة بالوضع للحامل وبالحيض لغير الحامل (¬2). 2 - منع المخنثين خلقة من الدخول على النساء الأجنبيات، وكان ذلك مباحاً إذ لا حاجة للمخنث بالنساء، وكان سبب المنع سماع الرسول صلى الله عليه وسلم أحد ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 2/ 541 - 542 من طريق ابن إسحق دون إسناد والبداية والنهاية 5/ 33 - 34 من طريق موسى بن عقبة دون إسناد. (¬2) سورة النساء: آية 24 وعن سبب النزول أنظر شرح النووي على صحيح مسلم 3/ 637 وتحفة الأحوذي للمباركفوري 4/ 282 وعون المعبود 6/ 191، 193 وتفسير ابن كثير 1/ 473.

المخنثين يصف بادية بنت غيلان الثقفي قبيل حصار الطائف (¬1). وفي المنع حيطة لأخلاق المجتمع الإسلامي. 3 - النهي عن قصد قتل النساء والأطفال والشيوخ والأجراء ممن لا يشتركون في القتال ضد المسلمين (¬2). 4 - إقامة الحد في دار الحرب، حيث فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بشارب الخمر في يوم حنين (¬3). 5 - جواز الاستعانة بالمشركين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم باستعارة الدروع من صفوان ابن أمية مع ضمانه صلى الله عليه وسلم لها، ولا تكون الاستعانة بهم إلا بشرط الوثوق بهم، وألا يغلبوا على المعركة ويصبغوها بصبغتهم، بل يكون حكم الإسلام هو الغالب (¬4). 6 - جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنيمة، إذا رأى الإمام أن ذلك يعين على دخولهم في الإسلام أو دفع أذاهم عن المسلمين، أو جلب نفع للمسلمين. قال أنس بن مالك:"إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" (¬5) 7 - تشريع العمرة من الجعرانة. ¬

_ (¬1) البخاري: صحيح 5/ 128، 7/ 33،137 وصحيح مسلم 4/ 1715. (¬2) أحمد: المسند 3/ 488 بإسناد حسن (إرواء الغليل 5/ 35) والحاكم: المستدرك 2/ 123 والبيهقي: السنن الكبرى 9/ 130 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأنظر الألباني: إرواء الغليل 5/ 35، 36. وفتح الباري 6/ 147 - 148. (¬3) أبو داؤد: سنن 12/ 196 - 197 وأحمد: المسند 4/ 350 وسنن الدارقطني 3/ 157 - 158 ونيل الأوطار للشوكاني 7/ 145 وفي إسناده عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر مقبول (تقريب 1/ 427). (¬4) ابن القيم: زاد المعاد 3/ 479 والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 8/ 97 وابن حجر: التلخيص الحبير 4/ 100 - 101 وذكر "الأقرب أن الاستعانة بالمشركين كانت ممنوعة ثم رخص فيها وعليه نص الشافعي". (¬5) صحيح مسلم 4/ 1806.

غزوة تبوك

غزوة تبوك وقعت هذه الغزوة في رجب من صيف عام تسع للهجرة بعد العودة من حصار الطائف بستة أشهر تقريباً (¬1). ورغم أن المؤرخين - على عادتهم - حاولوا أن يجدوا سبباً مباشراً لها، فذكر ابن سعد أن هرقل جمع جموعاً من الروم وقبائل العرب الموالية لها، وأن المسلمين علموا بخبرهم فخرجوا إلى تبوك (¬2). وذكر اليعقوبي أن الثأر لجعفر بن أبي طالب هو سبب الغزوة (¬3) ولكن الصحيح أنها استجابة طبيعية لفريضة الجهاد وقد نبه على ذلك الحافظ ابن كثير بقوله: "فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم، لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام وأهله، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} " (¬4). ولا صحة لما قيل أن الخروج إلى تبوك كان عن مشورة يهود وقولهم إنها أرض المحشر وأرض الأنبياء تغريراً بالمسلمين ليخرجوهم من المدينة ويعرضوهم لخطر المواجهة مع الروم، وأن الآية {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} نزلت في ذلك، فإن الخبر في ذلك مرسل ضعيف ويرده أن الآية مكية (¬5) وتتميز هذه الغزوة وغزوة مؤتة التي سبقتها بأن وجهتها إلى الروم ونصارى العرب، في حين كانت الغزوات والسرايا الأخرى وجهتها إلى يهود ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 8/ 84، وما أشار إليه من أنها بعد حصار الطائف بستة أشهر ورد في رواية محمد بن عائذ صاحب المغازي بإسناد ضعيف من جهة عثمان بن عطاء الخراساني وأبيه. ولكنه لا يتعارض كثيراً مع المشهور من كونها في رجب ومن كون الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة بعد العودة من حصار الطائف في شهر ذي الحجة. (¬2) الطبقات الكبرى 2/ 165. (¬3) تاريخ اليعقوبي 2/ 67. (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 5؛ والآية من سورة التوبة (123). وأنظر: تفسير الطبري 11/ 71. (¬5) ابن كثير: تفسير 5/ 210 - 211 وأصل الرواية في سبب النزول هذا في تاريخ دمشق لابن عساكر 1/ 167 - 168، وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار العطاردي ضعيف.

والقبائل العربية المشتركة. وكانت النصرانية قد فقدت روحها وأضاعت تعاليمها وانقسمت إلى فرق عديدة، ومنشأ الخلاف عقيدتهم في المسيح (عليه السلام) فأكثرهم يعتقد بالأقانيم الثلاثة (الأب والابن وروح القدس) واتحاد اللاهوت والناسوت في المسيح، وبعضهم يرى أن له طبيعة واحدة هي الطبيعة الإلهية وهم اليعاقبة (المنوفستية) في الشام ومصر، وقد عقدوا لذلك المؤتمرات، وحاول هرقل التأليف بين الفرق الدينية حفاظا على الإمبراطورية الرومانية دون جدوى، وقد أوقعت الإمبراطورية الاضطهاد بسكان الشام ومصر اليعاقبة (المنوفستية) مما أدى إلى نفي بعض كبار رجال الدين من مصر وفرار بعضهم الآخر. ولم يقتصر الفساد على النواحي العقيدية بل امتد إلى سائر جوانب الحياة، فالظلم والاستبداد، وكثرة الضرائب وثقلها على الشعوب، والروح الطبقية التي تجعل الناس متفاوتين في المكانة بحكم المولد والانتماء للطبقة، كل ذلك كان يعشعش على البلاد، حتى إنه لم تعد ثمة فروق أساسية بين حياة النصارى والمشركين، وقد أمر الله تعالى المسلمين بجهاد أهل الكتاب كما أمرهم بجهاد المشركين، ولكنه وافق على احتفاظهم بدينهم إذا خضعوا سياسياً للمسلمين وأدوا إليهم الجزية، خلافاً لعبدة الأوثان فإنه لم يقبل منهم الجزية بل لا بد لهم من الدخول في الإسلام إذا أرادوا الأمن من القتال {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). وبذلك دخل المسلمون مرحلة جديدة بعض قضائهم على الوثنية في جزيرة العرب، وإجلائهم أهل الكتاب من يهود إلى قتال أهل الكتاب من النصارى (¬2). ¬

_ (¬1) سورة التوبة. (¬2) تفسير الطبري 11/ 72، حيث يوضح ذلك تفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي المتوفي 182 هـ وهو مفسر كبير لكنه ضعيف عند المحدثين (تقريب 1/ 480).

هذا التحول الذي يتسق مع طبيعة الإسلام وأهدافه في الحياة والذي تعتبر غزوة تبوك أحد شواهده. وتبوك موقع شمال الحجاز يبعد عن المدينة المنورة 778 كيلا حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك، وقد سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بتبوك (¬1)، وسميت بغزوة العسرة أيضا لما كان أصاب المسلمين من الضيق الاقتصادي وقتها (¬2)، والذي تدل عليه أيضا الآية الكريمة {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ..} (¬3)، وقد بين كل من قتادة ومجاهد (¬4) - وهما إمامان كبيران في التفسير بالمأثور - أن "الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها" (¬5) ولا يعرف إن كانت الأزمة الاقتصادية وقت هذه الغزوة ترجع إلى توقيت الحملة قبل جني ثمار التمر وبيعه أم أنها ترجع لعوامل أخرى أبعد (¬6). المنفقون على جيش تبوك: وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على النفقة ووعد المنفقين بعظيم الأجر من الله، فسارع أغنياء الصحابة وفقراؤهم إلى تقديم الأموال، وكان عثمان بن عفان أكثر ¬

_ (¬1) صحيح مسلم: كتاب الفضائل 7/ 60 - 61. (¬2) صحيح البخاري: كتاب التوحيد 9/ 129، ومواضع أخرى من صحيحه؛ وصحيح مسلم 5/ 82. انظر: فتح الباري 8/ 84؛ وانظر عن الضيق الاقتصادي أيضاً: صحيح مسلم 1/ 26 - 27، 41 - 42؛ والنووي: شرح صحيح مسلم 1/ 221 - 223؛ وتفسير القرطبي 8/ 279. (¬3) سورة التوبة: الآية (117). (¬4) الإسنادان منقطعان حيث أن قتادة ومجاهدا لم يدركا ذلك، والإسناد إلى قتادة صحيح وأما الإسناد إلى مجاهد ففيه ضعف سنيد بن داؤد المصيصي. (¬5) تفسير الطبري 11/ 55. (¬6) فتح الباري 3/ 343 - 344.

المنفقين على جيش تبوك، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزهم عثمان (¬1). حيث جاء بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ضرَّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم" - يرددها مرارا (¬2) -. وقد وردت روايات أخرى لكنها ضعيفة تفيد أن عثمان قدم معونات أخرى للجيش كالإبل وعدتها (¬3). وإن كان ذلك لا يمنع أن عثمان قدم ذلك، فقد ثبت أن الصحابة أقروا له بتجهيز جيش العسرة، وهم ثلاثون ألف مقاتل فلابد أنه أنفق نفقة عظيمة في ذلك. وقد ذكر الطبري بأسانيد عديدة لا تخلوا جميعا من ضعف لكنها تتساند لتقوية الخبر تاريخيا - أن عبد الرحمن بن عوف أنفق ألفي درهم - وهي نصف أمواله في تجهيز جيش العسرة (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: كتاب الوصايا 4/ 11؛ وفتح الباري 5/ 306، وقارن بسنن الترمذي؛ كتاب المناقب 12/ 153 - 154، وقال: حديث حسن صحيح غريب. (¬2) مسند أحمد 5/ 53؛ وسنن الترمذي: كتاب المناقب 13/ 154 - 155. وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. والحاكم: المستدرك 3/ 102، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي في التصحيح، ولكن يبدو أنهما تساهلا في تصحيحه لأن في إسناده كثير بن أبي كثير مولى ابن سمرة حكم عليه الحافظ في التقريب أنه مقبول (2/ 133) ووثقه العجلي وابن حبان وهما متساهلان (ميزان الاعتدال 3/ 410) ويبدو أن الحديث صالح للاعتبار ويقوي بغيره إلى الحسن. (¬3) سنن الترمذي، كتاب المناقب 13/ 153 - 154 وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث السكن بن المغيرة. والحاكم: المستدرك 3/ 102 وصححه ووافقه الذهبي، ولكن فيه فرقد أبو طلحة مجهول العين (تهذيب التهذيب 8/ 264) فلا يسلم لهما بهذا التصحيح. (¬4) الطبري: تفسير 10/ 191 - 196 وفيه المثنى بن إبراهيم الأملي لا يعرف وعمر ابن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف نبه الشيخ محمود محمد شاكر على سقوطه من السند وأنه يضعف. و10/ 194 - 195 وهو مسلسل بالضعفاء العوفيين. و10/ 197 وفي إسناده محمد بن رجاء أبو سهل العباداني لا يعرف وعامر بن يساف ضعيف. و10/ 195 وهو من مرسل مجاهد وفي سنده عبد الله بن أبي نجيح وهو مدلس وقد عنعن عن مجاهد. و10/ 195 وهو من مرسل قتادة بإسنادين صحيحين إليه.

ولم يجد فقراء المسلمين إلا أن يتقدموا باليسير الذي يقدرون عليه فجاءوا على استحياء متعرضين لسخرية المنافقين. فقد جاء خيثمة الأنصاري بصاع تمر فلمزه المنافقون (¬1) وجاء أبو عقيل بنصف صاع من تمر، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا!! وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ (¬2)} (¬3) فهم يتهمون الأغنياء بالرياء ويسخرون من فقر الفقراء!!. موقف المنافقين في غزوة تبوك: وقد استعلن أمر النفاق في هذه الغزوة وقام المنافقون بحرب دعائية عند إعلان النفير فمضوا يثبطون الناس ويقولن: (لا تنفروا في الحر) فقد كان الحر شديدا، وكان الناس يفيئون إلى ظلال الأشجار، فكان المنافقون يستغلون ذلك لإشاعة روح التخاذل وقد ذهب بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه بالتخلف مبدياً الأعذار الكاذبة حتى عاتب الله نبيه على إذنه لهم {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (¬4) وقد وصف القرآن منافقي الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً من منافقي أهل المدينة لأنهم أقسى قلوباً وأقل علماً بالسنن والأحكام {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (¬5). وهكذا فإن النفاق لم يكن منحصراً في المدينة بل امتد إلى البوادي {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (¬6). وقد نهى القرآن عن قبول أعذار المنافقين ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: كتاب التفسير 6/ 56؛ وفتح الباري 8/ 330. (¬2) تفسير الطبري: 10/ 197، بإسناد صحيح. (¬3) سورة التوبة: الآية (79). (¬4) سورة التوبة: الآية (43). وتفسير الطبري 10/ 142، بإسناد صحيح إلى مجاهد مرسلاً. (¬5) سورة التوبة: الآية (97). وتفسير الطبري 11/ 3. (¬6) سورة التوبة: الآية (101).

وتصديقهم {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1) ووصفهم القرآن بأنهم رجس (¬2). وهكذا وضعت الحواجز بين المؤمنين والمنافقين، ولم يعد التعامل مع المنافقين يقوم على الستر وعدم المجابهة، بل صارت المفاصلة أساسا للتعامل، فقد فضحهم القرآن الكريم، وامتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مسجد الضرار الذي بنوه وأحرقه كما أمتنع عن الصلاة على أمواتهم وكان قد صلى على عبد الله ابن أبي بن سلول حين موته عقب عودة المسلمين من تبوك ثم منعه الله من ذلك {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (¬3). وقد ابتنى المنافقون مسجداً قبيل غزوة تبوك ليجتمعوا فيه مكايدة للمسلمين ومضرة بهم، وزعموا أنهم بنوه للمنفعة والتوسعة على المسلمين، وقد أرادوا أن يفرقوا اجتماع المؤمنين في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بصرف بعضهم للصلاة فيه، وقد طلب المنافقون من الرسول أن يصلي فيه تمويهاً على الناس فنهاه القرآن عن ذلك وسماه مسجدا ضراراً {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬4). وقد تخلف معظم المنافقين عن الغزوة ومضى بعضهم الآخر مع الجيش يقتنصون الفرص للكيد والإرجاف. ¬

_ (¬1) سورة التوبة: الآية (94). (¬2) سورة التوبة: (الآية 95). (¬3) فتح الباري 8/ 333، 3/ 214 بإسناد صحيح. والآية في سورة التوبة: (84). (¬4) سورة التوبة: آيتي (107 - 108). وتفسير الطبري 11/ 23 - 24.

وقد انفرد الواقدي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسلا إلى القبائل يستنفرها للخروج إلى تبوك (¬1). ورغم تفرده فإنه يتفق مع النفير العام المعلن ولا شك أن قبائل العرب استنفرت للقتال كما تدل على ذلك سورة التوبة. أما داخل المدينة فقد أعلن النفير، وذكر ذلك القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (¬2). فقد ذكر مجاهد أنها نزلت في غزوة تبوك حيث أمروا بالنفير حين جني التمر وطيب الثمار واشتهاء الظلال. فشق عليهم المخرج (¬3). وقد طالبهم القرآن الكريم كما يبين مجاهد بأن ينفروا شباناً وشيوخاً وأغنياء وفقراء بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬4). ولما استأذن بعضهم في التخلف عن الغزوة نزل فيهم قرآن {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} إذا كانت تبوك بعيدة عن المدينة والسفر إليها شاقاً، ولم تكن غنيمة سهلة (¬5). فتخلف الأعراب والمنافقون وعدد يسير من الصحابة رضوان الله عليهم من أصحاب الأعذار سوى ثلاثة لم يكن لهم عذر عن شهود هذه الغزوة. ¬

_ (¬1) مغازي 3/ 990 وقد اعتمد عليه من ذكر ذلك بعده، ولا يحتج بالواقدي إذا انفرد، ولكن لابد أن يتم استنفار للقبائل خارج المدينة كما استنفر الصحابة بالمدينة. (¬2) سورة التوبة: الآية (28). (¬3) تفسير الطبري 10/ 133، ورجال إسناده إلى مجاهد ثقات لكنه مرسل، وفيه عنعنة عبد الله ابن أبي نجيح المكي وهو مدلس. (¬4) سورة التوبة: الآية (41). والإسناد إلى مجاهد صحيح لكنه مرسل (تفسير الطبري 10/ 138). (¬5) تفسير الطبري 10/ 141، بإسناد حسن إلى قتادة لكنه مرسل.

مسارعة المؤمنين إلى الجهاد: ونظرا لبعد السفر وكثرة الأعداء فقد كشف الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين عن وجهته ليستعدوا لذلك خلافا لنهجه في الحروب فإنه لا يعلن وجهته حتى لا يصل الخبر إلى عدوه فيأخذوا أهبتهم (¬1). وقد سارع المؤمنون إلى الخروج في هذه الغزوة، حتى إذا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب أن يخلفه في أهله، قال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي (¬2) "، وهكذا شأن أصحاب العقيدة لا يفرحون بالثمار والظلال بل يؤثرون الحر والظمأ والجوع في سبيل الله، فهي غنيمتهم التي يدخرونها لآخرتهم. قال أبو خيثمة الأنصاري: "تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت حائطا فرأيت عريشا قد رش بالماء، ورأيت زوجتي فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحرور وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي وتمرات فخرجت، فلما طلعت على العسكر فرآني الناس، قال النبي: كن أبا خيثمة فجئت، فدعا لي" (¬3). وقد حزن الفقراء المؤمنين لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد فهذا علبة بن زيد أحد البكاءين صلى من الليل وبكى، وقال: "اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (فتح الباري 8/ 113). (¬2) صحيح البخاري 5/ 17، ومواضع أخرى وصحيح مسلم 7/ 120 - 121. (¬3) رواه الطبراني (فتح الباري 8/ 119). والرواية ذكرها بتفصيل ابن إسحق بدون إسناد (سيرة ابن هشام 4/ 163 - 164)، وذكرها وزاد عليه كل من عروة بن الزبير وموسى بن عقبة (ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 7 - 8). وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه 8/ 107؛ والإمام أحمد في مسنده 6/ 387 - 388 قسما من هذه الرواية وهو قول: "كن أبا خيثمة، فإذا هو أبو خيثمة".

أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض" فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد غفر له (¬1). وجاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى الأشعري يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم على إبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد فلم يجد ما يحملهم عليه حتى مضي بعض الوقت فحل لهم على ثلاثة من الإبل (¬2). وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء شوقا للجهاد وتحرجا من القعود حتى نزل فيهم قرآن: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (¬3) وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المتخلفين المعذورين ممن حسنت نياتهم واستقامت طويتهم بقوله: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر" (¬4). وقد حكى كعب بن مالك أنه لم يبق بالمدينة إلا المنافقون وأهل الأعذار من الضعفاء (¬5). ¬

_ (¬1) قصة علبة بن زيد وردت من طرق ضعيفة متعددة المخارج ولها شاهد صحيح لكن دون تسمية صاحب الصدقة وهي بالجملة تصلح للشاهد التاريخي (راجع الإصابة 4/ 546 - 548). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 110 - 111)؛ ومسند أحمد 4/ 398 بسند صحيح. (¬3) سورة التوبة: آيتي (91 - 92). وتفسير الطبري 10/ 211، ولم يصح شيء في تعيين من نزلت بحقهم بالأسماء حيث اختلفت الروايات في ذلك. فمن قائل إنها في البكاءين أو في العرباض بن سارية أو عائذ بن عمرو أو في بني مقرن. (¬4) فتح الباري 8/ 126. (¬5) فتح الباري 8/ 126. (6) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 114).

عدد جيش تبوك: وقد وردت روايات في عدد جيش تبوك ظاهرها التعارض ولكن يسهل التوفيق بينها فقد قال كعب بن مالك: "والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان" (¬1). وفي رواية أخرى عن كعب: "يزيدون على عشرة آلاف" (¬2). وقال الحاكم في الإكليل إنهم "زيادة على ثلاثين ألفاً" وبهذه العدة جزم ابن إسحق. وقال الواقدي "إنه كان معه عشرة آلاف فرس" فيمكن أن تحمل رواية كعب على إرادة عدد الفرسان (¬3)، دون بقية الجيش من المشاة، ونقل عن أبي زرعة الرازي أنهم كانوا أربعين ألفاً (¬4). وقال زيد بن ثابت إنهم كانوا ثلاثين ألفاً (¬5). ويبدو أن أغلب المؤرخين يميلون إلى القول أنهم كانوا ثلاثين ألفاً وهو عدد يدل على مدى استجابة المؤمنين لدواعي العقيدة في تلك الظروف القاسية من الحر الشديد والعسرة. وهو أكبر جيش قاده الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته. ويذكر الواقدي أنه لما اجتمع الجيش مضى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى ذي خشب على 40 كيلاً من المدينة في طريق الشام، ومنها انطلق إلى تبوك وكان دليله علقمة ابن الفغواء الخزاعي (¬6). وفي تبوك أعطى اللواء الأعظم للصديق (رضي) والراية العظمى للزبير، وراية الأوس إلى أسيد بن حضير ولواء الخزرج إلى أبي دجانة ويقال إلى الحباب ¬

_ (¬1) حديث صحيح رواه البخاري (فتح الباري 8/ 113). (¬2) صحيح مسلم 8/ 112. (¬3) ابن حجر: فتح الباري 8/ 118. (¬4) المصدر السابق 8/ 118. (¬5) مغازي الواقدي 3/ 996. (¬6) مغازي الواقدي 2/ 999 وهو متروك فلا حاجة للنظر إلى سند الرواية وقد ذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بذي خشب بين الظهر والعصر، ونظراً لأن الكلام يتعلق بحكم شرعي والواقدي شديد الوهن فلم أشر إلى ذلك في المتن.

ابن المنذر (¬1). وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذوا لواء وراية، والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية. وكان زيد بن ثابت يحمل راية بني مالك بن النجار، وأبو زيد يحمل لواء بني عمرو بن عوف، ومعاذ بن جبل يحمل راية بني مسلمة (¬2). وسائر هذه المعلومات عن طريق الجيش وتوزيع الرايات ينفرد بها الواقدي، وهو متروك، ولكنه غزير المعلومات في السيرة، وأخذ مثل هذه المعلومات منه لا يضر. المتخلفون عن غزوة تبوك: وقد تخلف عن غزوة تبوك ثلاثة من الصحابة وهم: كعب بن مالك ومرارة ابن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، والثلاثة من الأنصار المعروفين بحسن إيمانهم، فقد شهد كعب بن مالك سائر الغزوات قبلها سوى بدر، كما شهد بيعة العقبة الثانية، وقد سوَّف في الاستعداد للغزوة ولم يكن يعتزم التخلف عنه، ولكن غلبه التسويف، والميل إلى الظلال والثمار حتى خرج الناس!! وأما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فكلاهما قد شهد بدراً، كما تخلف عنه بعضة وثمانون رجلاً (¬3) آخرون، وقد ذكر الواقدي أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء، وكانوا عدد كثيرا (¬4). وكان من يختلف يظن أن لا أحد يفطن لتخلفه لكثرة الجيش (¬5). ¬

_ (¬1) مغازي الواقدي 2/ 996 وابن سعد: طبقات 3/ 169 (¬2) ابن عساكر: تاريخ دمشق 1/ 416 بإسناده إلى الواقدي أيضا. (¬3) و (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 114). وتفسير الطبري 11/ 58 من مرسل الزهري. (¬5) فتح الباري 8/ 119.

وقد تفقد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى تبوك بعض من تخلف وسأل أبارهم كلثوم بن حصين الغفاري عمن تخلف من بني غفار واسلم (¬1) كما سأل في تبوك عن كعب بن مالك (¬2). وقد عقَّبت سورة التوبة بتفصيل على موقف المتخلفين، فأنكرت عليهم التخلف عن النفير العام حيث تحول الجهاد بذلك إلى فرض عين، ثم أعلنت قبول توبتهم وأخذ صدقات أموالهم بعد اعترافهم بذنوبهم في التخلف عن الغزوة وطلبهم قبول صدقاتهم منهم، كما عرَّت السورة المنافقين وأنهم لا يؤمنون بقدر الله ويحبون الحياة ويرغبون عن الجهاد بالنفس خوفاً من الموت، وقد ينفقون المال كرهاً دون نية صالحة، ولهم جرأة على قول الباطل فهم يتهمون سواهم بالجبن فإذا حوسبوا عن أقوالهم تنصلوا منها وزعموا أنهم كانوا يمزحون!! وقد رفض القرآن عذرهم وأعلن كفرهم ونهى عن الاستغفار لهم والصلاة على أمواتهم، وتوعدهم بالبكاء طويلاً في جهنم مقابل ضحكهم في الدنيا الفانية، ومنعهم من المشاركة في الجهاد مستقبلاً تبكيتاً لهم وتنقية لصف المؤمنين من أمثالهم، وتمييزاً لهم عن المؤمنين لئلا يشيعوا فيهم الضعف والخذلان، وقد أرجأت إحدى الآيات البت في أمر بعض المتخلفين الذين ندموا على تخلفهم وهم من غير المنافقين المعتذرين والمتخلفين المعترفين بخطئهم. وقد عاتبت هذه السورة المتخلفين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب مبينة عظيم أجر الجهاد. وما ذلك إلا لأن الجهاد يصير متعيناً وقت النفير العام. ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 4/ 172 - 173 من رواية ابن إسحق عن الزهري ولم يصرح بالسماع بل بلفظ "وذكر الزهري" فلعله أخذها وجادة من مغازي الزهري وقد وردت من طريق معمر عن الزهري (موارد الظمآن في زوائد ابن حبان 418) فتقوى الرواية إلى الحسن لغيره. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 114).

الوصول إلى تبوك: وقد ذكرت المصادر نصَّ خطبة طويلة ألقاها الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك ولم تثبت هذه الخطبة من طريق صحيح (¬1) رغم أن فقراتها مأخوذة من أحاديث أخرى معروفة بعضها صحيح وبعضها حسن، ويبدو أن بعض الرواة لفق منها هذه الخطبة. وفي تبوك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد مع عدد من الصحابة إلى دومة الجندل وقد ذكر عروة بن الزبير مرسلا أنه أرسله في أربعمائة وعشرين فارسا (¬2)، حيث أسر أكيدر بن عبد الملك الكندي - ملكها - وهو في الصيد خارجها (¬3)، فصالحه النبي صلى الله عليه وسلم على الجزية (¬4). وقد تعجب المسلمون من قباء كان أكيدر يلبسه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد ابن معاذ في الجنة أحسن من هذا" (¬5). وقد ورد أن غنائم خالد من أكيدر كانت ثمانمائة من السبي وألف بعير وأربعمائة درع وأربعمائة رمح (¬6). وقد وصلت إلى تبوك هدية ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي بغلة بيضاء وبرد، فصالحه على الجزية (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج الإمام أحمد في مسنده 3/ 37 وأبو عبيد: الأموال 255 - 256 نص خطبة قصيرة وفي إسنادهما أبو الخطاب المصري مجهول. وأخرج الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/ 13 - 14 نص خطبة طويلة وفي إسناده عبد العزيز بن عمران متروك. (¬2) ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 17 وفي إسناده ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة هنا ضعيف فضلا عن إرسالة عروة. (¬3) ابن حجر: الإصابة 1/ 412 - 415 من طريق ابن إسحق بإسناد حسن عن عاصم بن عمر عن أنس لولا عنعنة ابن إسحق وهو مدلس. والسيوطي: الخصائص الكبرى 2/ 112 - 113 من طريق ابن إسحق أيضا عن شيخيه عبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان مرسلا وقد صرح ابن إسحق بالسماع. (¬4) سيرة ابن هشام 4/ 182. (¬5) سيرة ابن هشام 4/ 170 بإسناد حسن. (¬6) ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 17 وفي إسناده ابن لهيعة عن أبي الأسود وابن لهيعة هنا ضعيف فضلا عن إرسال عروة. (¬7) صحيح البخاري، كتاب الجزية 6/ 77 وصحيح مسلم، كتاب الفضائل 7/ 61.

وتشير رواية ضعيفة إلى قيام مراسلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وهرقل ملك الروم من تبوك وأن النبي أوفد دحية الكلبي إليه، وأن هرقل أرسل التنوخي ليعرف بعض علامات النبوة (¬1) ولو صح ذلك لكان إرسال دحية للمرة الثانية لأنه حمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر في أول سنة 7 هـ. ولم يقع قتال مع الروم في هذه الغزوة بل انتهى المسلمون إلى تبوك ولم يلقوا جموع الروم والقبائل العربية المتنصرة وآثر حكام المدن الصلح على الجزية. وقد مكث الجيش عشرين ليلة (¬2) في تبوك ثم عادوا إلى المدينة. العودة من تبوك: وفي طريق العودة من تبوك إلى المدينة مر المسلمون بالحجر، وهي في ديار ثمود الذين امتحنوا بالناقة فنحروها فأخذتهم الصيحة لعتوهم وعصيانهم (¬3) وقد سارع الناس إلى دخول بيوت الحجر فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم (¬4) وقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين" ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي (¬5)، كما نهاهم عن شرب الماء من بئرها أو الوضوء منه، وأن يعلفوا إبلهم ما عجنوه من عجين بمائها (¬6). وقد اشتكى المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب إبلهم من الجهد في طريق العودة فدعا ربَّه: "اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي ¬

_ (¬1) مسند أحمد 1/ 203، 3/ 442، 4/ 74، 5/ 292 بإسناد فيه سعيد بن أبي راشد وهو مقبول وقد تفرد به. (¬2) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان 145 بإسناد صحيح. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء 4/ 118 - 119 وصحيح مسلم 8/ 220 - 221. (¬4) مسند أحمد 4/ 231 بإسناد حسن وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 5/ 11 وقال: إسناده حسن وصححه الحاكم في المستدرك 2/ 240 - 241 ووافقه الذهبي. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 125). (¬6) ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 11 بإسناد حسن إلى العباس بن سهل بن سعد الساعدي مرسلاً.

والضعيف، وعلى الرطب واليابس، في البر والبحر" فنشطت بهم حتى أبلغتهم المدينة ولم يشتكوها (¬1). وفي طريق العودة حاول المنافقون وهم متلثمون لا يعرفون تنفير دابة الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الثنايا لتطرحه، ففطن لهم وأمر بإبعادهم (¬2). ولما اقترب الجيش من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقونه (¬3)، ودخل المدينة فصلى في مسجده ركعتين ثم جلس للناس. وجاءه المنافقون المتخلفون عن الغزوة فاعتذروا بشتى الأعذار، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وجاء كعب بن مالك وقد سبقه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، وقد أقر الثلاثة بأنه لا عذر لهم في تخلفهم عن الغزوة، ولم يرضوا أن يضيفوا إلى ذنب التخلف ذنباً جديداً وهو الكذب ن فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الكلام مع الثلاثة، فاجتنبهم الناس خمسين ليلة وأمرت نساؤهم باعتزالهم، فذهبن عند أهلهن إلا زوجة هلال إذ كان شيخا كبيرا فبقيت لخدمته فقط بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ضاقت بهم الدنيا، وحاول ملك الغساسنة استغلال الموقف فراسل كعب بن مالك ليلحق به، لكن كعب بن مالك أحرق الرسالة وقال إنها زيادة في امتحانه. واستمرت المقاطعة حتى نزل القرآن يعلن توبة الله عليهم {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (¬4)} (¬5). ¬

_ (¬1) مسند أحمد 6/ 20 بإسناد حسن، وموارد الظمآن في زوائد ابن حبان 418. (¬2) مسند أحمد 5/ 390 - 391 بإسناد حسن. والبيهقي: السنن الكبرى 9/ 32 - 33 من طريقين أحداهما عن ابن إسحق بدون إسناد والثانية عن عروة بن الزبير مرسلاً أيضاً، وفي الإسناد إلى عروة ضعف بسبب ابن لهيعة. (¬3) صحيح البخاري، كتاب المغازي 6/ 8. (¬4) سورة التوبة: آية 118. (¬5) فتح الباري 8/ 113 - 116 من رواية البخاري.

الأحكام المستنبطة من غزوة تبوك: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف الذي أم المسلمين في صلاة الفجر بتبوك حيث تأخر عنهم في حاجته، ولما قدم أراد عبد الرحمن أن يتأخر فأومأ له النبي أن يتم بهم الصلاة وصلى خلفه. مما يدل على جواز إمامة المفضول وصلاة الأفضل خلفه (¬1). وقد سأله معاذ بن جبل عن عمل يدخله الجنة وهما في طريق العودة فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأن رأس هذا الأمر الشهادة وقوامه الصلاة والزكاة وذروة سنامه الجهاد (¬2). وقد سئل صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة عن سترة المصلي؟ فأجاب بأنها مثل مؤخرة الرحل (¬3). وقد جمع في الغزوة بين صلاة الظهر والعصر، وكذلك المغرب والعشاء (¬4). وقد أقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة (¬5). وفي الطريق إلى تبوك خرص الرسول صلى الله عليه وسلم حديقة في وادي القرى، أي حزر مقدار التمر الذي يجتني من الرطب على النخل، مما يدل على مشروعية الخرص (¬6). وطلب الماء من بيت في تبوك وهو في قربة من جلد، وقال عن أهبة الميتة: دباغها طهورها (¬7). وأهدر ثنية رجل عض يد رجل آخر فانتزعها بقوة ومعها الثنية (¬8). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 158 - 159 وصحيح البخاري 1/ 43 - 44. (¬2) مسند أحمد 5/ 245 - 246 بإسناد حسن. (¬3) سنن النسائي 2/ 62 بإسناد صحيح. (¬4) شرح موطأ مالك للزرقاني 2/ 55 - 58. (¬5) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان ص 145 بإسناد صحيح. (¬6) فتح الباري 3/ 343 - 344. (¬7) سنن أبي داؤد، كتاب اللباس 4/ 64 بإسناد حسن. (¬8) صحيح البخاري 9/ 7 - 8 ومسلم 5/ 104 - 105. وفتح الباري 8/ 112 - 113.

ويستدل من مقاطعة الثلاثة المتخلفين عن الغزوة من الصحابة على جواز الهجر أكثر من ثلاث لسبب شرعي (¬1). * * * لقد حققت هذه الغزوة أهدافها بتوطيد سلطان الإسلام في الأقسام الشمالية من شبه الجزيرة العربية، وكانت تمهيداً لفتوح بلاد الشام، حيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان قد جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة قبيل وفاته للتوجه إلى الشام، لكن الجيش لم يتحرك نحو أهدافه إلا في خلافة الصديق (رض) حيث حالت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دون إنفاذه في حياته، ورغم ظروف الخطر المحدقة بالمدينة وبكيان الإسلام كله بسبب حركة الردة فإن الصديق أصر على إنفاذ الجيش وما أن استتبت الأمور نسبيا حتى جهز الصديق جيوش الفتح إلى بلاد الشام والعراق تحقيقا لأهداف الدعوة الإسلامية بتحرير البشر من نير الظلم والطغيان والعبودية لغير الله {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}. ¬

_ (¬1) أنظر عن الفوائد الكثيرة المستنبطة، فتح الباري 8/ 123 - 124 حيث يفصل ذلك.

الأحداث الأخيرة

الأحداث الأخيرة - عام الوفود - حج أبي بكر بالناس ص 9 هـ - حجة الوداع. - تجهيز جيش أسامة بن زيد بن حارثة. - وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

عام الوفود

عام الوفود سمى العام التاسع بعام الوفود، حيث ابتدأت وفود القبائل العربية تقدم من أنحاء الجزيرة العربية معلنة دخولها في الإسلام منذ رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في أواخر سنة ثمان، فقد "كانت العرب تلوم بإسلامها الفتح" فلما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، ويعتبر طبقات ابن سعد أوسع المصادر جمعاً لأخبار تلك الوفود (¬1)، وقد بلغ مجموع ما ذكرته المصادر أكثر من ستين وفداً (¬2). وقد ساقت المصادر أخبار هذه الوفود دون أسانيد في الغالب، وأقدم من تكلم عنها بتفصيل ابن إسحق ولم يبين مصادر معلوماته وأسانيد مروياته إلا نادراً (¬3)، وهذه الروايات النادرة إنما هي مراسيل الزهري وعبد الله بن أبي بكر والحسن البصري سوى خبر ضمام بن ثعلبة وافدا فقد أسنده إلى ابن عباس وفيه محمد بن الوليد بن نويفع مقبول ولم يتابع فتضعف الرواية لأجله. والوفود التي ساق ابن إسحق أخبارها هي وفد تميم ووفد بني عامر ووفد بني سعد بن بكر ووفد عبد القيس ووفد بني حنيفة ووفد طيء ووفد بني زبيد ووفد كندة ووفد ملوك حمير، ووفد بني الحارث بن كعب ووفد همدان، ووفد عدي بن حاتم ووفد فروة ابن مسيك المرادي، ووفد صرد بن عبد الله الأزدي ووفد فروة بن عمرو الجذامي ويلاحظ أنه يكثر من سرد الأشعار ضمن الأخبار. وأما ابن سعد (¬4) فقد فصل كثيراً واستقصى في جمع المعلومات عن الوفود ولكن معظم رواياته من طريق الواقدي وهشام الكلبي وكلاهما متروك وبقيتها إلا القليل جدا من طريق على بن محمد المدائني وهو صدوق، ولكن سائر الأسانيد ¬

_ (¬1) أشار الحافظ ابن حجر إلى ذلك ولكنه بين إغفاله ذكر وفد هوازن من بينها. (¬2) سيرة ابن هشام 4/ 221 - 222. وفتح الباري 8/ 83. (¬3) سيرة ابن هشام 4/ 235، 241، 242، 254،260. (¬4) الطبقات الكبرى 1/ 291 - 359.

التي أوردها ابن سعد لا تخلو من مطعن في ضعف الرواة أو الإرسال. والقليل جدا (بضع روايات) عن عفان بن مسلم وعارم بن الفضل الدوسي. وهما ثقتان من شيوخ البخاري. ورغم عدم ثبوت هذه الأخبار المفصلة التي ساقها المؤرخون عن الوفود بالنقل الصحيح المعتمد عند المحدثين، فإن خبر قدوم بعض هذه الوفود ثابت بالروايات الصحيحة (¬1)، وكذلك بعض الأخبار المتعلقة بهم، فقد ذكر الإمام البخاري قدوم وفد تميم، كما حكت سورة الحجرات بعض ما صدر منهم من الأعمال المتسمة بجفاء الطبع وقلة الذوق حيث نادوا الرسول عليه الصلاة والسلام بصوت عال من خارج حجرته دون أن يستأذنوا عليه (¬2)، ولا شك أن سورة الحجرات نزلت لتعليم المسلمين جميعا بهذه المناسبة أدب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستئذان عليه. كما ذكر البخاري قدوم وفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة الكذاب، وأنه اشترط لإسلامه أن يكون له الأمر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إنه لو سأله قطعة جريد ما أعطاه، وأشار إلى ما سيكون منه من فتنة!!، وذكر وفد نجران وفيهم العاقب والسيد حاكما نجران، وقد دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا فدعاهم إلى المباهلة لما نزلت آية المباهلة {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا ¬

_ (¬1) فتح الباري 8/ 83 - 103 وابن كثير: البداية والنهاية 5/ 40 - 98 ومعظم رواياته عن ابن إسحق والواقدي والبيهقي. (¬2) الطبري: تفسير 26/ 122.

وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (¬1). فأرادا الاستجابة إلى الملاعنة ثم عدلا عن ذلك خوف أن تصيبهم اللعنة وطلبا منه المصالحة على أن يدفعوا الجزية، فأرسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح لتحصيلها (¬2)، ولا شك أن مصالحة أهل نجران (¬3) على الجزية ربطتهم بدولة الإسلام، وقطعت الأواصر بينهم وبين الروم، فكان ذلك تأميناً لظهر المسلمين وهم يخططون لمواجهة كبيرة مع الروم في الشام. وقد ذكر البخاري وفد الأشعريين وأهل اليمن كما ذكر وفد دوس ووفد طيء وقدوم عدي بن حاتم الطائي. وذكر ابن عباس إرسال بني سعد بن بكر لضمام بن ثعلبة إلى المدينة، وكان رجلا جلدا كثير الشعر له غديرتان، فأناخ بعيره على باب المسجد وعقله، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب. قال: محمد؟ قال: نعم، قال: يا محمد إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن علي في نفسك فأني لا أجد في نفسي، قال: سل عما بدا لك. قال: أنشدك الله ... الله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك الله ... الله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأوثان والأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: اللهم نعم. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران: آية 59 - 61. (¬2) فتح الباري لابن حجر 8/ 324 وأخرجه مسلم: الصحيح - فضائل الصحابة - باب فضائل علي بن أبي طالب، والترمذي: الجامع حديث رقم 3724. (¬3) أما نص كتاب صلح نجران فلم يثبت من طريق صحيحة أو حسنة بل إن طرق وروده كلها معلولة، ففي الأموال لأبي عبيد ولابن زنجويه طريق لها علتان؛ إحداهما الإرسال والأخرى أن أحد رجال السند وهو عبيد الله بن أبي حميد متروك كما في التقريب، وورد في سنن أبي داؤد 3/ 167 من رواية السدي عن ابن عباس، وفيها نظر لاحتمال الانقطاع بينهما، وورد في كتاب الخراج لأبي يوسف ص 72 بإسنادين مرسلين، وورد في طبقات ابن سعد 1/ 7 بإسناد جمعي فيه ضعفاء.

ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة وينشده عند كل فريضة حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ولا أزيد ولا أنقص ثم أنصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يصدق دخل الجنة. ثم رجع ضمام إلى قومه فاجتمعوا إليه فسب أمامهم اللات والعزى، فقالوا: ياضمام اتق البرص والجذام والجنون!! فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وأني قد جئتكم من عنده وبما أمركم به ونهاكم عنه. فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلما (¬1). فلا شك إذا في قدوم الوفود في العام التاسع إلى المدينة لإعلان إسلام قبائلهم ولكن الأخبار المفصلة تحتاج إلى نقد تاريخي للمتون وقد أدبي للأشعار التي ربما تخضع لمقاييس أدق يمكن عن طريقها تثبيت صحة المعلومات تاريخيا أو نفيها. وعلى أية حال فإنه في العام التاسع ساد الإسلام الجزيرة العربية التي توحدت سياسيا لأول مرة في تاريخها تحت رايته، فرغم أنها عرفت نشوء الدويلات ونظم السياسة قبل الإسلام، إلا أن أية دويلة من تلك الدويلات مثل (معين وسبأ وحمير وكندة والغساسنة والمناذرة) لم تتمكن من توحيد الجزيرة العربية تحت رايتها، بل إن حضارات تلك الدويلات كانت قد اضمحلت وطغت البداوة ¬

_ (¬1) أبو داؤد: سنن 1/ 79 ومستدرك الحاكم 3/ 54 - 55 ومسند أحمد رقم 2370 من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وإنما هو حسن فقط لأنه من طريق أبي إسحق وفيه محمد بن الوليد بن نويفع الأسدي مقبول وقد توبع في رواية أبي داؤد من قبل سلمة بن كهيل وهو ثقة وقد ذكر الإمامان البخاري ومسلم ورود ضمام بالمدينة باختصار. (صحيح مسلم 1/ 32 وصحيح البخاري 1/ 22).

على مراكزها قبل الإسلام، وقد تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من تحقيق وحدة الجزيرة في أقل من عشر سنوات رغم قوة الروح الفردية وتغلغل العصبية القبلية والنزعات الجاهلية ولم تكن وحدة صورية بل كانت تشابكا وثيقا وتجانسا في الروح والعقل والسلوك لذلك صلحت أن تكون لبنة قوية وأساسا متينا قامت عليه الدولة الإسلامية التي بسطت سلطانها على رقعة شاسعة من آسيا وأفريقيا وأوروبا. ***

حج أبي بكر بالناس عام 9 هـ

حج أبي بكر بالناس عام 9 هـ لم يحج الرسول صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة، بل اعتمر ورجع إلى المدينة، وقد حج المشركون والمسلمون معا في عام 8 هـ، فلما كان العام التاسع، أمر أبا بكر علي الحج، فخرج في ذي الحجة (¬1) إلى مكة، وقد انفرد الواقدي بذكر عدد من حج معه فقال: إنهم ثلثمائة من الصحابة ومعهم عشرون بدنة (¬2). ولما خرج أبو بكر بالناس من المدينة نزلت سورة براءة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بصدر سور براءة ليعلنها على الناس في موسم الحج يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة وقال النبي (لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي) (¬3) ولما رأى أبو بكر علياً سأله: أأمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، فمضيا (¬4)؛ أبو بكر أمير على الحج وعلي يبلغ صدر سورة براءة، ويساعده عدد من الصحابة في النداء بها منهم أبو هريرة (¬5). والطفيل بن عمرو الدوسي، وقد ذكر علي بن أبي طالب أنه بعث بأربع: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته) (¬6). وقد تضمن صدر سورة براءة مفاصلة مع الوثنية وأتباعها حيث منعت حج المشركين بعد التاسع وأعلنت الحرب عليهم، لكنها أمهلت المعاهدين منهم إلى انتهاء مدتهم، وأمهلت من له عهد إلى أجل غير محدود - أو إلى أجل محدود قد ¬

_ (¬1) نص على ذلك ابن سعد بإسناد صحيح إلى مجاهد (الطبقات الكبرى 2/ 168) وابن إسحاق (سيرة ابن هشام 4/ 201). (¬2) فتح الباري 8/ 82. (¬3)، (¬4) ابن إسحق بإسناد حسن لكنه من مرسل محمد بن علي الباقر (سيرة ابن هشام 4/ 302 وتفسير الطبري 10/ 65) وله شواهد يتقوى بها (ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 37 - 38). (¬5) مسند أحمد حديث رقم 594 بإسناد صحيح وسنن الترمذي 4/ 116 وصححه. وتفسير الطبري 10/ 63 - 64. (¬6) ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 38 نقلا عن مسند أحمد وقال: إسناده جيد.

نقضه - أربعة أشهر متتابعة تبتدئ في العاشر من ذي الحجة وتنتهي في نهاية العاشر من ربيع الآخر وأمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم أي خمسين يوما تنتهي بنهاية المحرم، فإذا انتهت مددهم صاروا في حالة حرب مع المسلمين (¬1). {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬2). لقد مضت على دعوة الإسلام اثنتان وعشرون سنة، بذل المسلمون خلالها كل جهد وسلكوا كل طريق مشروع لتبليغ الدعوة، ومع ذلك أصر بعض المشركين على عبادة الأصنام، والطواف بالبيت العتيق وفق طقوس الجاهلية، وقد آن الأوان لمفاصلتهم ووضع حد لعنادهم وتجاهلهم لدعوة الحق. ولم يقتصر الأمر على ذلك بل ساندته حملة للتوعية والدعوة إلى الإسلام وتنظيم المناطق النائية التي انضمت للدولة الإسلامية فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل قبل حجة الوداع كلا منهما على أحد مخلافيها وأوصاهما بقوله: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) (¬3). وقال لمعاذ: (إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 10/ 66، 74 وهي من ترجيحات الطبري، رحمه الله. وذهب ابن كثير إلى أن الصحيح أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ ولو زاد على أربعة أشهر، ومن ليس له أمد بالكلية فله تأجيل أربعة أشهر، والقسم الثالث من له أمد ينتهي إلى اقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول فيكون أجله إلى مدته وإن قل، ويحتمل أن يقال أنه يؤجل إلى أربعة أشهر لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية والله أعلم (البداية والنهاية 5/ 38). (¬2) سورة التوبة: آية 1 - 2. (¬3) صحيح البخاري 4/ 79.

فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) (¬1). ثم أرسل خالد بن الوليد إلى اليمن ثم أرسل علي بن أبي طالب مكانه فمكث بها ثم رجع فحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وقد نجح على في نشر الإسلام في صفوف قبيلة همدان (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري: الصحيح 4/ 79. (¬2) رواه البخاري (ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 104.

حجة الوداع

حجة الوداع يمثل الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وقد فرض في العام العاشر أو التاسع أو السادس على اختلاف الروايات (¬1)، وفي العام العاشر أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عزمه على الحج وهي المرة الوحيدة التي حج فيها بعد الهجرة إلى المدينة، فتقاطر الناس من أرجاء الجزيرة للحج معه، وخرج من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة (¬2). ولما وقف في عرفة نزلت عليه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3). وقد تعلم المسلمون مناسك الحج من النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لهم (خذوا عني مناسككم)، فجاءت حجته حافلة بالأحكام الشرعية وخاصة ما يتعلق بالحج وبالوصايا والأحكام العامة التي ورد في خطبة عرفات، لذلك اهتم العلماء بحجة الوداع اهتماما كبيرا واستنبطوا منها الكثير من أحكام المناسك وغيرها مما تحفل به كتب الفقه وكتب شروح الحديث وخصص بعضهم مؤلفات مستقلة في حجة الوداع (¬4). وقد شهد الموسم معه جمع غفير من المسلمين (¬5). استمعوا إلى خطبة الوداع التي ألقاها في عرفات في وسط أيام التشريق وجاء فيها: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلا أن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة ابن الحارث، وربا الجاهلية موضوع ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 109. (¬2) فتح الباري 8/ 104 وابن إسحق بإسناد حسن (سيرة ابن هشام 4/ 272) وابن كثير: البداية والنهاية 5/ 111 وهي رواية ابن إسحق نفسها وقال: إسناده جيد. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 108). (¬4) أفردها ابن حزم في مجلده (البداية والنهاية 5/ 109) ومن المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني في مؤلفه حجة النبي والشيخ محمد زكريا الكاند هلوي في مؤلفه حجة الوداع. (¬5) قدرهم أبو زرعة بأربعين ألفا، (ابن كثير: اختصار علوم الحديث 185).

وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فأنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعد إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، وأديت ونصحت لأمتك، قضيت الذي عليك، فقال: بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد) (¬1). وقد ألقى خطبا أخرى في منى وذكر في إحداها: (لا ترجعوا من بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) (¬2) وفي طريق العودة من حجة الوداع خطب الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في غدير خم قريبا من الجحفة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وأمسك بيد علي بن أبي طالب فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) وكان علي قد أقبل من اليمن وشهد ¬

_ (¬1) الرواية في صحيح مسلم 4/ 38 - 43 من حديث جابر بن عبد الله وقد أضاف إليها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني زيادات يسيرة من كتب الحديث الأخرى التي أوردت حديث جابر بزيادة صحيحة (حجة النبي ص 71 - 73) وأنظر تخريج حديث جابر في (حجة النبي 38 - 41) وأنظر بعض الخطبة في صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 108) وقد ساق ابن إسحق نصا طويلا لخطبة الوداع بدون إسناد، وساق الإمام أحمد نصا طويلا لخطبة حجة الوداع التي ألقيت في أوسط أيام التشريق وفي سنده علي بن زيد بن جدعان قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب "ضعيف" قال البنا: "وروى البزار نحوه بمعناه عن ابن عمر من وجه آخر، ورواه أئمة الحديث في كتبهم مقطعا في أبواب متفرقة من طرق صحيحة والله أعلم" (الفتح الرباني 279 - 281). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 107) وصحيح مسلم 1/ 82.

حجة الوداع (¬1) وقد اشتكى بعض الجند عليا وأنه اشتد في معاملتهم وكان قد استرجع منهم حللا وزعها عليهم نائبه، فأوضح لهم النبي صلى الله عليه وسلم في غدير خم مكانة علي ونبه على فضله لينتهوا عن الشكوى (¬2). ¬

_ (¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 209 وقال عن الحديث إسناده جيد قوي وذكره بأسانيد أخرى صحح الذهبي إحداها. وذكر 5/ 212 زيادة له وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه) وقال عن سندها: "إسناد جيد رجاله ثقات على شرط السنن وقد صحح الترمذي بهذا السند حديثا". (¬2) المصدر السابق 5/ 106.

تجهيز جيش أسامة بن زيد بن حارثة

تجهيز جيش أسامة بن زيد بن حارثة قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، ومضت بقية ذي الحجة والمحرم وصفر من العام العاشر فبدأ بتجهيز جيش إلى الشام وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يتوجه نحو البلقاء وفلسطين، فتجهز الناس وفيهم المهاجرون والأنصار، وكان منهم أبو بكر وعمر، وكان أسامة بن زيد بن ثماني عشرة سنة، وتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والأنصار، فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم طعنهم في إمارة أسامة وأوصى به خيراً (¬1). ولكن هذه الحملة تأخرت بسبب مرض الرسول صلى الله عليه وسلم بعد البدء بتجهيزها بيومين فقط. وكان أسامة قد أخذ اللواء الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بيده وعسكر بالجرف (¬2). وقد انفرد الواقدي بذكر عدد جيش أسامة وأنهم ثلاثة آلاف (¬3). ¬

_ (¬1) أنظر الفتح الرباني 21/ 221 - 223. (¬2) سيرة ابن هشام 4/ 328 وفتح الباري 8/ 152. (¬3) فتح الباري 8/ 152.

وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ألم المرض بالرسول صلى الله عليه وسلم فاشتكى بعد عودته من حجة الوداع بحوالي ثلاثة أشهر (¬1)، وكان بدء شكواه في بيت ميمونة أم المؤمنين (¬2)، واستغرق مرضه عشرة أيام (¬3)، ومات في يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول (¬4). وهو ابن ثلاث وستين (¬5) وقد صح أن شكواه ابتدأت منذ العام السابع عقب فتح خيبر بعد أن تناول قطعة من شاة مسمومة قدمتها له زوجة سلاّم بن مشكم اليهودية رغم أنه لفظها ولم يبتلعها لكن السم أثر عليه (¬6). وقد طلب من زوجاته أن يُمَرَّضَ في بيت عائشة أم المؤمنين (¬7)، فكانت تمسح بيده عليه لبركتها وتقرأ عليه المعوذتين (¬8). ولما حضرته الوفاة واشتد به المرض قال للصحابة: "هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده" فاختلفوا فمنهم من أراد إحضار أدوات الكتابة، ومنهم من خشي أن يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ويبدوا أن ثمة قرائن احتفت بذلك أفادت أن الأمر بإحضار أدوات الكتاب ليس على الوجوب بل فيه تخيير، فلما قال عمر (رض): حسبنا كتاب الله، لم يكرر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كان ما أراد كتابته ¬

_ (¬1) قال ابن كثير أن وفاته عليه السلام كانت بعد أحد وثمانين يوماً من يوم الحج الأكبر (البداية والنهاية 5/ 101). (¬2) قال ابن حجر إنه المعتمد، ووردت روايات متعارضة أخرى أنه اشتكى في بيت زينب بنت جحش أو ريحانة (فتح الباري 8/ 129). (¬3) جزم به سليمان التيمي، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح. والأكثر على أنها ثلاثة عشر يوماً (فتح الباري 8/ 129). (¬4) اعتمد الحافظ ابن حجر قول أبي مخنف أنه مات في ثاني شهر ربيع الأول وأن الآخرين زادوا "عشر" بعد "ثاني" غلطاً منهم (فتح الباري 8/ 130). (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 150). (¬6) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 131). (¬7) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 141) ومسند أحمد (الفتح الرباني 21/ 226) بإسناد صحيح. (¬8) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 131).

لازماً لأوصاهم به كما أوصاهم في تلك الحالة مشافهة بإخراج المشركين من جزيرة العرب وبإكرام الوفود (¬1). وقد أفادت رواية صحيحة أن طلبه الكتابة كان يوم الخميس قبل وفاته بأربعة أيام، "ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ (¬2) لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر". وقد دعا إليه فاطمة (رض) فسَارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسَارَّها بشيء فضحكت، وقد أخبرت بعد وفاته أنه أخبرها أنه يموت فبكت وأخبرها بأنها أول أهله لحاقاً به فضحكت (¬3) وقد كان ذلك فهو من علامات النبوة. وقد أثقله المرض ومنعه من الخروج للصلاة بالناس فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس، وقد راجعته عائشة (رض) لئلا يتشاءم الناس بأبيها فقالت: إن أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن (¬4) فأصر على ذلك، فمضى أبو بكر يصلي بهم (¬5) وخرج النبي مرة يتوكأ على العباس وعلي فصلى بالناس وخطبهم وقد أثنى في خطابه على أبي بكر (رض) وبين فضله وأشار إلى تخيير الله له بين الدنيا والآخرة واختياره الآخرة (¬6). وكانت آخر خطبة له قبل موته بخمس ليال وقال فيها: إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة، ففطن أبو بكر إلى أنه يقصد نفسه فبكى وتعجب الناس منه إذ لم يدركوا ما فطن له (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 132). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 135). (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 208) وأنظر معاني أخرى في أعلام الحديث للخطابي. (¬4) سيرة ابن هشام 4/ 330 بإسناد صحيح وابن كثير: البداية والنهاية 5/ 233. (¬5) أنظر ابن كثير: البداية والنهاية 5/ 232 - 233. (¬6) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 141) وأنظر مسند أحمد (الفتح الرباني 21/ 231). وابن كثير: البداية والنهاية 5/ 229 - 230. (¬7) مسند أحمد (الفتح الرباني 21/ 222 والحاشية رقم 3 منه) وتركة النبي (ق. أ. ب) بإسناد رجاله ثقات لكنه مرسل.

وكشف في صلاة الفجر يوم وفاته ستر حجرة عائشة ونظر إلى المسلمين وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم وضحك وكأنه يودعهم، وهم المسلمون أن يفتتنوا فرحاً بخروجه. وتأخر أبو بكر (رض) حيث ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد الخروج للصلاة فأشار الرسول إليهم بيده أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. ودخلت عليه فاطمة فقالت: واكربَ أباه. فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم (¬1). ودخل عليه أسامة بن زيد فدعا له بالإشارة إذ كان صامتاً لا يتكلم لثقل المرض (¬2). وكان عندما حضره الموت مستنداً إلى صدر عائشة، وقد أخذت سواكاً من أخيها عبد الرحمن فقضمته وأعدته فاستن به الرسول صلى الله عليه وسلم (¬3). وكان يدخل يده في إناء الماء فيمسح وجهه ويقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات (¬4). وأخذته بحة وهو يقول (مع الذين أنعم الله عليهم) (¬5). ويقول: اللهم في الرفيق الأعلى، فعرفت عائشة أنه يخير وأنه يختار الرفيق الأعلى (¬6). وقبض صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجر عائشة (رض) حين اشتد الضحى وقيل عند زوال الشمس، ودخل أبو بكر (رض) وكان غائباً في السنح فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثوباً كان عليه، ثم أكب عليه وقبله وخرج إلى الناس، وهم بين منكر ومصدق من هول الأمر، فرأى عمر (رض) يكلم الناس منكراً موت الرسول صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس على أبي بكر فقال: أما بعد من كان منكم يعبد محمداً فإن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح 8/ 149). (¬2) سيرة ابن هشام 4/ 329 بإسناد صحيح. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 138). (¬4) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 144). (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 136). (¬6) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 136) وسيرة ابن هشام 4/ 329 بإسناد صحيح.

محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فسكن الناس وجلس عمر (رض) على الأرض لا تحمله قدماه وكأنهم لم يسمعوا الآية إلا تلك الساعة (¬1). وقالت فاطمة (رض): يا أبتاه أجاب رباً دعاه. يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه إلى جبريل ننعاه (¬2). وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبيه وآله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 145). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 149).

الفصل الرابع الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

الفصل الرابع الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

عالم الغيب

عالم الغيب: إن الإيمان بالغيب يعني أن المؤمن لا يقتصر وعيه على العالم الفيزيائي المشهود، بل يعتقد بوجود عالم آخر غير مرئي هو عالم الغيب، وإليه يشير اصطلاح: "ما وراء الطبيعة" أو "الميتافيزيقيا" لكن الاصطلاح الفلسفي يظل غامضاً ومضطرباً أمام وضوح الاصطلاح الديني، فالمسلم يعتقد بوجود الله خالق الكون والحياة، وأنه يرسل رسلاً يوحي إليهم بالرسالات التي تنظم حياة الإنسان على الأرض، وتحدد القيم الأخلاقية المطلقة، وتجعل أتباعها يدينون لله بالعبودية، والعبودية لله لا تعني شل إرادة الإنسان ولا تقييد طاقاته، ولا إذلاله، بل هي منطلق لتحرره من عبادة المخلوقات إذ (لا إله إلا الله)، وهي تبصير له وتفتيح لوعيه على حقيقته وحقيقة الوجود، فلا يتضاءل فيحسن بأنه ذرة في فلاة، لا أهمية لها ولا غاية، ولا يستعلي فيحس أنه "الإله الخالق" كما يعبر الماركسيون والماديون في القرن العشرين، وهم يحسبون أنهم بنفي "الله" وإثبات الخلق للإنسان يعلون من قدر الإنسان ويحررونه، ويجعلونه مصدر القيم النسبية المتغير في الزمان والمكان تبعاً لرقي الإنسان وتغيره المستمر. وبذلك يكلون الإنسان إلى نفسه وطاقاته، ويحرمونه من رعاية الله ونور رسالاته، ويكبتون روحه عندما يمنعونها من الاتصال بخالقها ويحصرونها في عالم ضيق مظلم هو عالم المادة. وقد وصف الله تعالى المؤمنين المتقين بأنهم يؤمنون بالغيب، فقال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ...} (¬1). وعالم الغيب الذي يؤمن به المتقون يشتمل على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى. ولا يسمى مؤمناً إلا من آمن بهذه العقيدة كاملة، فلا يسعه أن يؤمن ببعضها وينكر بعضها الآخر. ¬

_ (¬1) البقرة 1 - 2.

والإسلام هو الدين الخاتم لرسالات الله تعالى إلى الإنسان، وهو الرسالة الخالد مدى الحياة، وهو يهدف إلى تبصير الإنسان بخالقه وبذاته وبعالمه وبمصيره، في حين تسعى الأدبيات الإنسانية من فلسفة وعلم اجتماع وانثروبولجي ونفس وسياسة واقتصاد وأدب شعري ونثري قصصي ومسرحي إلى تبصير الإنسان بذاته وعالمه فقط إلا تلك الأدبيات المتأثرة بالفكر الديني والمستوحية لرسالات الله فإنها تبصر الإنسان بالخالق وبالمصير. وفي عالم اليوم تركزت الأدبيات الإنسانية على ذات الإنسان وعالمه المادي وتهمل إلى حد كبير قضية المصير والعلاقة مع الخالق، وهو اتجاه محكوم بالفلسفات المادية التي لا تؤمن إلا بالمادة المحسوس، والتي تنكر عالم الغيب وتتنكر له، ولا ترى في المصير إلا العودة إلى تراب الأرض عودة نهائية ليس وراءها بعث ولا نشور ولا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار. وهكذا عاش إنسان القرن العشرين داخل نفسه وداخل حدود العالم المادي الضيقة لا يضيء قبسُ الإيمان إلاّ نفوساً قليلة، ولا يعيش تجارب الروح إلاّ عدد محدود، ولا يتطلع إلى الله وما عنده من رحمة ورضوان في الدنيا والآخرة إلا صفوة من الخلق، وقليل ما هم. إنَّ الناظر في كتاب الله تعالى وسنّة الرسول عليه الصلاة والسلام يدرك أن الإسلام أعطى مساحة واسعة من نصوصه للتعريف بالخالق عز وجل وما يحبه ويرضاه، وما يبغضه وينهي عنه، وبين الأمر والنهي الالهيين تقع سياسات المجتمع والثورة، فتتحدد خصائص الدولة وقيم الاقتصاد وسنة الاجتماع، وتتضح علاقة الإنسان بالإنسان، والرجل بالمرأة. وهنا تبرز تفصيلات كثيرة دقيقة وجليلة لتحديد العلاقات الاجتماعية ضمن أحكام الشريعة التي تمثل إرادة الله تعالى في شؤون خلقه. ولكن ما الذي يدعو الإنسان إلى الوقوف عند أحكام الشرع، والتماس رضا الله والبحث عن مراداته ومنهياته؟

هل يكفي أن يعرف الإنسان عظمة الخالق وقدرته وكمال صفاته؟ وهل يكفي أن يطلع على أمره ونهيه ليلتزم بشرعه في شؤون حياته؟. أم لابد أن يتربى الإنسان وفق منهج معين يرتكز على توثيق الصلاة بالله نظراً وعملاً، وفكراً وتطبيقاً. ويقوم بالإشراف على هذه التربية أساتذة المنهج الرباني. إن مطالعة التاريخ تبرز أن المنهج الإلهي تعاقب الأنبياء على تربية الناس وفقه، وهذا المنهج يتعامل مع النفس الإنسانية فيغرس فيها الخوف والرجاء، والخوف من الله تعالى وعقابه، والرجاء في رحمة الله ورضوانه ونيل ثوابه، وقد استقامت نفوس الملايين من البشر على العقيدة الصحيحة والسلوك الصالح عبر التاريخ عندما توازنت معاني الخوف والرجاء في نفوسهم. وعندما يستقيم الإنسان ويستبصر بالرؤية الإيمانية الصادقة فإن حياته ترقي حضاريا فيتوخى السلوك الراقي مع عالمه، يعاون الإنسان، ويرفق بالحيوان، ويحافظ على خيرات الأرض، ويمنع التلوث عن البيئة، ويرشد الاستهلاك وينظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفق معايير العدل والحق والمساواة والحرية والكرامة. لا غرابة إذاً عندما يعطي الإسلام مساحة واسعة للتعريف بالخالق وعظمته وقدرته المطلقة، ولا غرابة حين يجعل منهجه التربوي يقوم أساساً على تكوين الإنسان الصالح بغرس التقوى ومعانيها في قلبه، وأداتا المنهج في تحقيق التقوى هما الخوف والرجاء، قال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (¬1)، وقال تعالى: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} (¬2). ووصف تقلبهم بين الخوف والرجاء في الآية: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬3)، وقال تعالى كاشفاً عن العلة في ثوابه {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (¬4). ¬

_ (¬1) الأنبياء 49. (¬2) الرعد 21. (¬3) الأنبياء 90. (¬4) إبراهيم 14.

وغرس الخوف من الله في قلب المؤمن إيجابي في ثمرته خلافا للخوف من غير الله من قوى الطبيعة مظاهر الكون، فإن الشجاعة في مواجهتها والإفادة ثمن تسخيرها للإنسان، وذلك بإخضاعها لعلمه وصناعاته وإنتاجه. واجتناب الظن بأنها تملك قدرةً وإرادةً وتأثيراً على مجريات الأحداث في الحياة كما كان يظن قدامى اليونان عندما سيطرت عليهم أفكار التوهم والتخيل، فنسبوا لمظاهر الطبيعة صفات الألوهية، وعبدوها من دون الله، فللبحر إله، وللخصب إله، وللرعد إله، وللعواصف إله، وللحب إله وللجمال إله، حتى أن الآلهة العديدة التي اعتقدوها سلبت الإنسان كل سلطان فما هو إلاّ ذرة في مهب الرياح الهوجاء لا قدرة له على الثبات والمواجهة، بل هو خاضع للحتميات القاهرة التي تفرضها إرادات الآلهة المتعارضة. لقد جرد الإسلام الإنسان من خوف الطبيعة الصماء، ومن خوف الأحياء الضخمة والقوية، ومن خوفه من بعض بني جنسه، عندما وضح له حقيقة الأشياء، ومنعه من السقوط في عبودية غير الله. بل إن الخوف من الله تعالى عودل بالرجاء لئلا يسقط الإنسان فريسة القنوط والاكتئاب، ولئلا يشل الخوف طاقته، ويعطله عن العمل المثمر والإنتاج النافع، فكانت آيات الرجاء تبعث الأمل في نفوس المؤمنين، وتدفع إلى العمل، وتقاوم اليأس بل تحرمه {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬1). لقد اهتم الإسلام بتوجيه أتباعه نحو التفكير التأملي في ظواهر الكون وقوانين الحياة، فملاحظة الظواهر الطبيعية ورصدها هي أولى مراحل التفكير العلمي المنظم. قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬2). وقد تبدو بعض الظواهر غامضة، لا تعرف أسبابها وعللها، وقد يحاول الإنسان ¬

_ (¬1) الأنبياء 90. (¬2) يس 38.

تعليلها تعليلاً عقلياً قد لا يُوفَّق فيه، ومن هنا فإن الإسلام وهبه بعض القواعد والتفسيرات التي تعينه على فهم الكون والحياة، وتمنعه من الانحراف في تفسير ظواهر الكون والحياة تفسيراً يفسد عقيدة التوحيد، أو يقود إلى الخرافة والأساطير التي تعشعش في العقل وتحرفه عن التصور السليم، ومن هذا بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم لتصحيح تصور بعض الصحابة إزاء ظاهرتي الكسوف والخسوف، حيث اعتقدوا أن خسوف الشمس والقمر يتعلق بموت إبراهيم ابن الرسول عليه الصلاة والسلام، فبينَّ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ظاهرتي الكسوف والخسوف علامتان وآيتان من آيات الله تشيران إلى إسلام الشمس والقمر لله بخضوعهما للقانون الفلكي الذي يحكمهما، وأن لا علاقة لما يحدث في الأفلاك وعالم النجوم بما يقع من أحداث إنسانية على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا" (¬1). وهكذا يظهر المؤمن سجوده لخالقه وخضوعه الإرادي لمن تخضع له السموات والأرض طوعاً وكرهاً. وبذلك وضع الإسلام حداً لكل ما يتعلق بعلم التنجيم القائم على تأثير الكواكب على أحداث الأرض، ومن ثم الإفادة من رصد الأفلاك في التنبؤ بأحداث المستقبل التي تقع للأفراد والجماعات. وما أكثر المتشبثين بالتنجيم عبر تاريخ البشرية الطويل، بل وما أكثرهم في عالم اليوم رغم انتشار الوعي والعلم، بل قد نجد من المثقفين والعلماء المتخصصين في علوم الطبيعة والفلك والرياضيات وأنواع العلوم الدقيقة من يتقبل عقله أفكار التنجيم والتنبؤ بالمستقبل. ويبدو أن الإنسان مستعد للتعامل مع عالم الغيب بطريقة بعيدة عن المنطق وقيم العلم مهما بلغ من مكانة في علوم الدنيا وأن العقيدة الإسلامية هي سبيل النجاة من الوقوع تحت تأثير الأساطير. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 76 ط. استانبول.

لقد حددت العقيدة الإسلامية مجالات الغيب التي أتاح الوحي الإلهي للإنسان التعرف عليها، وسدت ما سوى ذلك. فليس على الإنسان إلا التحرك الواعي في التعامل مع "الغيب" من خلال نافذة الوحي الإلهي التي جعلته يطل على الإلهيات والروحانيات والسمعيات والنبوات دون أن يقع تحت سلطان الخرافات أو استغلال المشعوذين والسحرة. يقول المفكر "كولن ولسن" في كتابه "الإنسان وقواه الخفية": "لا تستطيع الحضارة أن تتقدم إلى أبعد مما وصلت إليه حتى يسلم الناس بقوى الغيب غير المنظورة تسليماً بديهياً على مستوى تسليمهم بالطاقة الذرية". ولكن هذا المفكر يدو إلى استخدام قوى الإنسان "الكامنة في لا وعيه" لإحداث الاتصال بعالم الغيب وهو ما يسميه بعلم السيطرة والاتصال - أو السيرناطيقا اصطلاحاً - والذي كشف عن حقيقة أن ثمة برمجة تتخلل الطبيعة بأسرها (¬1). وبعد دراسة عميقة لكل مكتشفات علم السيرناطيقا قال ولسن -وهو فيلسوف وجودي بريطاني-: "قد أقنعتني -يعني الأدلة- بأن المزاعم الأساسية للنزعة الغيبية، وهي مزاعم صحيحة، ويبدو لي أن حقيقة الحياة بعد الموت قد أصبحت قائمة بعيدة عن متناول أي شك معقول" (¬2). إن المعقول البشرية غالباً ما تتسم بالسذاجة ويسهل خداعها وغشها من قبل السحرة والمحتالين، ومن ثم فإن خواص العقل هذه جعلت الكثيرين من أبناء هذا القرن وبدافع الإحساس بالعقم والضجر اندفعوا نحو أحياء الاهتمام بالعالم الغامض وبالوسائل السحرية بعد أن ظن العلماء منذ القرن السادس عشر الميلادي أن عصر العقل قد بزغ وأن عهود السحر قد ولّت (¬3). ويقول كولن ¬

_ (¬1) كولن ولسن: الإنسان وقواه الخفية ص 8، 11، 14. (¬2) كولن ولسن: "الإنسان وقواه الخفية" ص21. (¬3) المصدر نفسه ص 268، 324.

ولسن: "إن انجلترا وأمريكا تضمان الآن أعداداً من السحرة تزيد على ما كان فيها منذ عصر الإصلاح" (¬1). وهكذا فإن العلم والمدنية المعاصرة لم يتمكنا من تحرير عقل الإنسان من الخرافة والأساطير، أما الإسلام فقد قطع السبيل على المشعوذين منذ أربعة عشر قرناً، عندما قال عليه الصلاة والسلام: "الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فصلوا" (¬2). وفهم الصحابة والتابعون المقصود وهو القطع بعدم تأثير النجوم في أحداث الناس والحياة، فقال قتادة السدوسي في تفسير الآية: " {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ": خلق -الله- هذه النجوم لثلاث؛ جعلها زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلاماتٍ يُهتدي بها، فمن تأول بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به" (¬3). إن عالم الغيب لا ينكشف للإنسان إلا عن طريق الوحي الإلهي، أما التعرف على القوى الكامنة في الإنسان والكون فهو لا يدخل في دائرة الغيب. فالله وحده عالم الغيب والشهادة، أما الإنسان فمجال نشاطه عالم الشهادة، ولكن الله تعالى أطلعه على قدر من عالم الغيب يوسع دائرة وعيه، ويلزمه في حياته الوجدانية والعقلية، ويفسح له في وجوده الذي تحده المادة، وهكذا أرسل الله الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، لنقل القدر المناسب من المعرفة الغيبية للإنسان، وفق ما حدده الله تعالى في وحيه لأنبيائه فليس للإنسان أن يطلب علم الغيب خارج دائرة الوحي، إذ ليس له أن يبدد قواه العقلية وطاقاته فيما لا سبيل لها إليه، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته" رواه البخاري في صحيحه (¬4). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 389. (¬2) صحيح البخاري 4/ 76 ط استانبول. (¬3) صحيح البخاري 4/ 76 ط، استانبول. (¬4) المصدر نفسه.

لقد جرت محاولات الإنسان الذاتية أن يتصور الخالق إلى أنواع من التجسيم والتجسيد، ومن هنا أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعدم التفكير في ذات الله والانصراف إلى التفكير في المخلوقات الجامدة والحية، ومحاولة التوصل إلى قوانين المادة وأسرار الطبيعة، للإفادة من ذلك كله في بناء الحضارة، أما التعرف على الله تعالى وصفاته وكيفية توحيده وعبادته فيتلقاه الإنسان عن الرسل الكرام، دون أن يجهد عقله في التصور أو الاستقراء أو الاستدلال، إلا ضمن دائرة الوحي الإلهي. إنَّ الإنسان المعاصر الذي يعيش في دائرة الحضارة الغريبة امتلأ غروراً وعجباً، وصورت له الإمكانيات التكنولوجية الهائلة أنه قادر على الاستقلال بذاته، والاعتماد على تجاربه وعقله لإحراز العلم والمعرفة وتسخير الطبيعة والكشف عن أسرار الكون، وقد نسي ربَّه في بهرج الانتصار العلمي، بل صور له الفلاسفة الوضعيون الوجوديون والبراجماتيكيون أنه الكائن الأول الذي تخضع له الموجودات الأخرى، وما عليه إلا أن يكتشف حريته ويثق بقدرته، وفي غمرة هذا التمويه الفكري سقط الإنسان في جاهلية القرن العشرين، وبدل أن يتحرر عاد ليسقط بفعل حاجاته النفسية والروحية في براثن السحر والشعوذة. وسبيل النجاة من أزمة الإنسان المعاصر هو العودة إلى تعاليم الوحي الإلهي، والتعرف على الله وعالم الغيب من خلاله. وبذلك يحقق الإنسان وجوده المتكامل ولا يفقد شيئا من طاقاته، وهو يندفع للكشف عن المجهول البعيد بوسائله الذاتية القاصرة. إن كبت الروح ومنعها من التعرف على الله - الواحد الأحد الفرد الصمد - لن يولِّد إلاّ موت الإنسان وبقاء الجسد المادي الذي لا يفضل عن الحيوان، وهذا هو مصدر شقاء الإنسان المعاصر إنه لا يشعر باكتمال الحياة. قال عليه الصلاة والسلام: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر مثل الحي والميت" (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 7/ 168.

وقد يرى بعض الفلاسفة والمفكرين أن تحديد العلاقة بالله أخذت حيزاً كبيرا في تعاليم الإسلام، وأن عالم اليوم قد اتجه إلى بحث العلاقات الاجتماعية وتحديد الحقوق والواجبات وأكد على حرية الإنسان وكرامته وتطلعاته نحو الرفاه والسعادة. والحق إن الإسلام أكد على التوحيد وجعله محورا للحياة، وأن أول العدل والوفاء أن يعدل المرء مع ربه وأن يفي له بحق الألوهية، ويجرد له العبادة. فإن لم يعدل مع الرب المنعم المتفضل القادر على الحساب والثواب والعقاب فكيف يعدل مع أمثاله من البشر؟ وإن لم يتحرر من أوهام الشرك وخرافة الخضوع لقوى الطبيعة أو للآلهة المصنوعة أو للمعتقدات الخاطئة فكيف سيتحرر من الخضوع لطواغيت البشر وكيف يحقق ذاته، ويحافظ على حريته وكرامته اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟ إن الموحِّد هو الرجل الحرُّ لأنه يعرف إن لا إله إلا الله، وأن لا أحد - كائنا من كان - يقدر على ضُرِّه أو نفعه إلا بإذن الله. وهكذا يعرف مكانه في الكون، ويعتز بدينه ونفسه، ويحقق الخير والحق والجمال، وقبل ذلك يحقق الغاية من وجوده. ولن يقع المؤمن بالاغتراب الذي يصوره سارتر والبير كامي والوجوديون الآخرون، ولن ينتهي اغترابه إلى الإحساس بالضياع والتمزق والعبث، ولن يحتاج إلى إثبات حريته ووجوده بإنكار وجود الله والبعد عن سلطانه، فتلك رؤى فكرية قاصرة لا تخرج عن حدود التجربة والمعاناة الإنسانية، مما يعبِّر عن خيبة الأمل وضياع اليقين، في حين يعيش المؤمن في رحاب واسعة ورؤى عريضة تقتبس من علم الله ونوره {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (¬1). ¬

_ (¬1) النور 40

الألوهية والربوبية

ومهما حاول الفلاسفة والمصلحون أن يتخطوا هذا الطريق، طريق الإيمان بالله وتوحيده، وطرحوا برامج الإصلاح الاجتماعي في إطار الفلسفات المتنوعة البعيدة عن الله تعالى فإنهم لن يحققوا الصلاح المنشود، لأن التنكر لله تعالى لن ينجب إلا الشر ولن يزرع إلا الحقد، ولن يكون إلا شخصيات قلقة تفتقد مقومات الإنسان الصالح. ولو قَدَرَ الفلاسفة والمصلحون الله حقَّ قدره لعرفوا أن أول لوازم اصلاح الإنسان تعريفه بالخالق عز وجل، وتوثيق صلته به بالعبادة والطاعة لأوامره ونواهيه، وأن مهمة المصلحين ليست في تشريع أديان جديدة، وتحديد رؤية للعالم والإنسان عن طريق النظر والاجتهاد، فإن حق التشريع لله وحده، لا ينازعه فيه إلا ظالم جاحد ومتكبر جاف، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬2). إن همة المفكرين ينبغي أن تتوجه نحو فهم المضامين العقدية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية في الإسلام وتعميق هذا الفهم باستمرار للوصول بالإنسان إلى الله تعالى وتحقيق سعادته في دنياه وآخرته. الألوهية والربوبية: ويرتكز نظام الاعتقاد في الإسلام على عقيدة الألوهية والربوبية استمع جبير ابن مطعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور فلما بلغ هاتين الآيتين: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} (¬3) قال: جبير: "كاد قلبي أن يطير" (¬4). ¬

_ (¬1) الزمر 67. (¬2) آل عمران 18 - 19. (¬3) الطور 35 - 36. (¬4) رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 4854.

فلماذا كاد قلب هذا الصحابي أن يطير عند سماع الآية؟ أليس لما فيها من بليغ الحجة على الخلق مما وعاه عقله واستشفته روحه؟ وكم من الناس يمرون على هذه الآية وغيرها فلا تحرك قلوبهم ولا تهز وجدانهم ولا تثير من المعاني ما أثارته في قلب هذا الصحابي الجليل. لقد تأمل المفسرون في هذه الآية تأملات شتى فـ (أم) هنا ليست بمعنى (بل) وإنما هي للاستفهام، ولم يكن المشركون ينكرون أن الله خلقهم وخلق السماوات والأرض وأنهم ليسوا بخالقين، ولكنهم يغفلون ما يترتب على ذلك من توحيد الألوهية وهو مقتضى الاعتراف بالخالق ونعمه. وقد لخص ابن تيمية أقوال المفسرين في الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} فقال: "من غير رب خلقهم، وقيل من غير مادة، وقيل من غير عاقبة وجزاء. والأول مراد قطعاً، فإن كل ما خلق من مادة أو لغاية فلابد له من خالق" (¬1). لقد جنح بعض فلاسفة القرن العشرين إلى القول بأن المادة هي الأصل الأول وأن "الإنسان يقوم وحده" لم يخلقه رب ولم يحكمه إله، وهذا عنوان كتاب جوليان هكسلي الذي أنكر فيه وجود الله زاعماً أنه يعتمد على أدلة العلم. وقد نقض رأيه عالم آخر هو كريسي موريسون في مؤلفه المشهور (الإنسان لا يقوم وحده) الذي بين فيه بأدلة العلم الحديث نفسه أن الله خالق كل شيء. وهذا يدل على أن الصراع بين الإيمان والإلحاد قديم وحديث وأن مقوله فيورباخ (لا إله والحياة مادة) ليست جديدة، وإنما هي ترديد لأقوال الدهريين القدامى والطبيعيين المحدثين، على أن هذه الآراء تصدعت منذ منتصف هذا القرن عندما تم الكشف عن حقيقة المادة، إذا تفجرت ذراتها، ودلت على أنها ليست "مادة" بالمعنى القديم بل هي طاقة سالبة وموجبة وهي في حالة حركة وليست ساكنة. وبذلك أطل العلم الحديث على تصور جديد للمادة نفسها هدم به كل التصورات القديمة للدهريين القدامى والطبيعيين الجدد. ¬

_ (¬1) الفتاوى 13/ 151.

ولم يكن العرب المشركون الذين أخبر القرآن عن عقائدهم ينكرون أن الله تعالى هو خالقهم قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬1) كما أنهم ما كانوا ينكرون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬2). بل لم يكونوا يجهلون بعض صفات الخالق مثل كونه عزيزا عليما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (¬3). ولكن المشركين مع اعترافهم بالربوبية، فقد أشركوا معه غيره في العبودية، متجاهلين تفرده بالخلق، ومن هنا أنكر عليهم الله تعالى هذا الخلط الذي أفضى إلى صرف العبادة إلى من لا يستحقها، لأن العبادة شكر للخالق المنعم فمن ليس بمصدر للخلق وللنعم لا يستحق العبادة، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (¬4). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (¬5). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (¬6). وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (¬7). وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (¬8). وبين ما هم فيه من تخليط، قال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} (¬9). فما دام الشركاء ليس لهم خلق فما مصدر ¬

_ (¬1) الزخرف آية 87. (¬2) الزمر آية 38. (¬3) الزمر آية 9. (¬4) النحل آية 17. (¬5) الحج آية 73. (¬6) النحل: 20. (¬7) الفرقان:3. (¬8) الأعراف:191. (¬9) الرعد: 16.

التشابه والالتباس إذاً؟. إن التمايز بين الخالق الواحد والمخلوقات المتنوعة واضح، لا يقبل اللبس والخلط إلا عندما تختل المقاييس وتعوج الموازين وتنحرف الفطرة. فكل ما في السماوات والأرض مخلوق لله وحده. قال تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (¬1). إن وحدة واتساق نظام الكون والحياة في العالم المشهود دليل على صدوره عن أمر واحد وإرادة واحدة لا تنازع، ولولا ذلك لتفكك نظام الكون واختلت وحدته واضطرب تناسقه و {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬2). قال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (¬3). يقول كريسي موريسون: "إن وجود الخالق تدل عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة، وإن وجود الإنسان على ظهر الأرض والمظاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون" (¬4). ويقول: "إن الإنسان ليكسب مزيداً لا حدَّ له من التقدم الحسابي في كل وحدة للعلم، غير أن تحطيم - ذره - دالتون التي كانت تعد أصغر قالب في بناء الكون إلى مجموعة نجوم مكونة من جرم مذنب وإلكترون طائرة قد فتح مجالاً لتبديل فكرتنا عن الكون والحقيقة تبديلاً جوهريا، ولم يعد التناسق الميت للذرات الجامدة يربط تصورنا بما هو مادي. وإن المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لتدع مجالاً لوجود مدبِّر جبار وراء مظاهر الطبيعة (¬5) ". ويقول ستانلي كونجدن: "إن جميع الكون يشهد على وجود الله سبحانه ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار يدي الله وعظمته ذلك هو الله ¬

_ (¬1) فاطر: 40. (¬2) المؤمنون: 91. (¬3) الملك:3. (¬4) العلم يدعو للإيمان 46. (¬5) المصدر السابق 46 - 47.

الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آيته في أنفسنا، وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته" (¬1). ويقول بول كلارنس: "إن الأمر الذي نستطيع أن نثق به كل الثقة هو أن الإنسان وهذا الوجود من حوله لم ينشأ هكذا نشأة ذاتية من العدم المطلق، بل أن لهما بداية، ولابد لكل بداية من مبديء، كما أننا نعرف أن هذا النظام الرائع المعتمد الذي يسود هذا الكون يخضع لقوانين لم يخلقها الإنسان، وأن معجزة الحياة في حد ذاتها لها بداية، كما أن وراءها توجيهاً وتدبيراً خارج دائرة الإنسان. إنها بداية مقدسة وتوجيه مقدس وتدبير إلهي محكم" (¬2). ويقول جورج أيول: "إن كل ذرة من ذرات هذا الكون تشهد بوجود الله، وإنها تدل على وجوده حتى دون حاجة إلى الاستدلال بأن الأشياء المادية تعجز عن خلق نفسها" (¬3). فهذه أقوال علماء الطبيعة الكبار في القرن العشرين تشهد بما قاله الله تعالى في كتابه المنزل على نبيه من أن وجود المخلوق يدل على وجود الخالق، وأن سبب الكفر يرجع إلى انعدام اليقين عند الكافرين لأن الله تعالى لم يكتب لهم الإيمان {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ}. قال الخطابي: "فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان، وهي عدم اليقين الذي هو موهبة من الله عز وجل ولا ينال إلا بتوفيقه، ولهذا كان انزعاج جبير ابن مطعم حتى قال: كاد قلبي أن يطير والله أعلم" (¬4). ¬

_ (¬1) الله يتجلى في عصر العلم 26. (¬2) الله يتجلى في عصر العلم 44. (¬3) المصدر السابق 47. (¬4) الخطابي: أعلام الحديث 1000.

النبوات

النبوات الإيمان بسائر الأنبياء وأثره: يهتم الإسلام بتوجيه أتباعه نحو النظرة الإنسانية الواسعة، ونحو استشراف التاريخ واختراق الجدران بين الثقافات والحضارات والإفادة من الحصيلة الثقافية العالمية لخير المجتمع الإسلامي. وفي قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) يوضح القرآن عقيدة المسلمين في الإيمان الشامل بأنبياء الله وأمنائه على وحيه، فالدين في نظر المسلم واحد من لدن آدم عليه السلام وحتى محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام، والإيمان بالأنبياء واجب حتى إن إنكار نبوة أحدهم تفضي بالمنكر إلى الردة عن الإسلام، بل إن تعاليم الأديان ومناسك العبادة أحيانا تبقى ثابتة، تشير عمليا إلى وحدة المصدر الإلهي لهذه الأديان جميعاً ... فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أفاض جبريل بإبراهيم صلى الله عليهما، فصلى به بمنى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، ثم غدا من منى إلى عرفة، فصلى به الصلاتين: الظهر والعصر، ثم وقف له حتى غابت الشمس، ثم دفع حتى أتى المزدلفة، فنزل بها فبات وصلى، ثم صلى كأعجل ما يصلى أحد من المسلمين، ثم وقف به كأبطأ ما يصلى أحد من المسلمين، ثم دفع منه إلى منى فرمي وذبح، ثم أوحى الله تعالى إلى محمد أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" (¬2). وهو يدل على وحدة مناسك الحج في تعاليم إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو مصداق قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا ¬

_ (¬1) آل عمران 84، 85. (¬2) تفسير ابن أبي حاتم للآية 95 من سورة آل عمران، وإسناد الحديث حسن وله حكم الرفع لأنه من أمور الغيب.

إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬1). إن التشابه وأحيانا التماثل بين الأديان في العقيدة خاصة ثم في بعض المناسك التعبدية والتشريعات الاجتماعية لا يبعث على الشك في صحتها، كما هو منحى بعض العلماء المعاصرين من الأنثروبولوجيين والمؤرخين، والذي يدرسون الدين على نفس منهجهم في دراسة الفولكلور والأساطير الشعبية، فهم يرصدون أوجه التماثل بين الديانة اللاحقة والديانة السابقة ليصلوا إلى نتيجة قد حددوها - خلافا للمنهج العلمي - وهي أن الإسلام ليس مصدره الوحي الإلهي، بل هو نسيج من تعاليم سابقة بعضها استمد من التوراة مثل قصص الأنبياء، وبعضها من الأنجيل، وبعضها من القانون الروماني، وهكذا متناسين أن التماثل سببه وحدة المصدر الإلهي، وأثر الأديان السابقة في المجتمعات البشرية المتنوعة عبر التاريخ الإنساني، فهذا ما يتغافله الأنثروبولوجيون والمؤرخون، وبذلك يخونون الحقيقة عندما يغفلون هذا الوجه منها. لقد حاول بعضهم ربط معاني الآيات القرآنية بالأساطير السومرية والبابلية والآشورية والفرعونية واليونانية والرومانية لإسقاط فكرة الوحي الإلهي، والقول بأن مصادر الدين - كما يثبتها العلم الذي يدعونه - هي الفولكلور والأساطير الشعبية وليس الوحي الإلهي (¬2). وبالطبع فليس العيب في علم الأنثربولوجي -وهو علم الإنسان وبيئته الثقافية التاريخية - بل هو في التوجيه المنحرف الذي سعى اللادينيون لإقحام هذا العلم فيه تحقيقا لأهداف عقدية بعيدة عن العلم المجرد ومتطلبات البحث العلمي، ومن هنا صار لزاما على المؤمنين في هذا العصر أن يعيدوا لهذا العلم وجهته الصحيحة في الكشف عن فطرة الإنسان، وحقيقة الأديان، وصلة البشر بالخالق الرحيم الرحمن، مستشرفين التاريخ باحثين في جذور الحياة وأول الآثار، وعندما يقود ¬

_ (¬1) الشورى: آية 13. (¬2) محمود سليم الحوت: في طريق المثيولوجيا عند العرب 146 - 162.

العلم رجال يتسمون بالوعي والتجرد فإنهم سيقبلون النتائج التي أعلنها اللادينيون من المتلبسين بثياب العلم زورا وبهتانا. لقد بين القرآن بوضوح التشابه بين الأديان ولم ينكره، فقال تعالى مخاطباً رسوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} (¬1) فالقرآن تصديق لرسالات الأنبياء السابقين وليس نقيضاً لها. وقد اختار الله تعالى الرسل الكرام من بين الناس، وجعلهم أئمة يهدون العباد إلى توحيد الله وتحكيم شرائعه، وهم أمثلة عالية في عمل الخير وتنفيذ أوامر الله، لذلك فإن الإسلام ينظر إليهم بوصفهم أمثل الناس وأفضلهم وأعلاهم درجة وقدرا، وأسماهم تصورا وسلوكا. كيف لا وقد اختارهم الله تعالى رسلاً {اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬2). وهو {يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} (¬3) لذلك فهم منزهون عن المعاصي، معصومون من الخطايا، ليصح الاقتداء بهم في سائر سلوكهم وجميع أحوالهم. قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (¬4). من أجل ذلك كانت صورة الأنبياء السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة أمثل وأجل وأسمى من الصور التي ترسمها الكتب الدينية الأخرى كالتوراة - وشرحه التلمود - والإنجيل، لما نال الكتب الأخرى من تحريف على أيدي أتباعها. والأنبياء أوحي إليهم بشرع دون أن يكلفوا بتبليغه، لكنهم يعملون بموجبه، وأما الرسل فأوحى إليهم بشرع وكلفوا بتبليغه. وقد سمى القرآن منهم خمسة وعشرين رسولاً، وهم: آدم ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ¬

_ (¬1) آل عمران: 3. (¬2) الأنعام:124. (¬3) الحج:75 , (¬4) الأنبياء:73.

وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحي وإدريس ويونس وهود وشعيب وصالح ولوط وإلياس واليسع وذو الكفل وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (¬1). وهؤلاء الرسل يجب الإيمان برسالاتهم على تعيين أسمائهم وأشخاصهم، وإنكار واحد منهم كفر بصريح القرآن، وهم يتفاضلون، وأفضلهم أولو العزم من الرسل لشدة ابتلائهم وعظيم جهادهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬2) وأفضل الرسل جميعا محمد صلى الله عليه وسلم كما في الحديث (ما من نبي، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) (¬3)، ولا يتنافى هذا التفضيل مع قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (¬4) لأن المراد عدم التفريق بالإيمان برسالاتهم جميعا وليس في التفاضل بينهم. والأنبياء والمرسلون من البشر، لا يخرجون من البشرية بالوحي، بل هم يحافظون على طبيعتهم، وقد حرَّف النصارى وحي الله، وخالفوا عيسى عليه السلام عندما أضفوا عليه صفات الألوهية، وقد بين القرآن بوضوح أن أفضل المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم هو بشر لم تكسبه الرسالة صفات الألوهية قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (¬5) فالوحي هو الذي يميز الرسول، ويكشف له الغيب، ويعرفه بالله وبصفاته وبأسمائه، وما يحب وما يكره، وبأوامر ونواهيه، وبشريعته التي يريد إنفاذها في الحياة، وبأسرار الخلق والأمر، والقضاء والقدر. ولم يكن الأنبياء من أرباب الفلسفات أو علماء الطبيعيات، ولم يكن علمهم كسباً، بل كان أفضل الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم أميا لا ¬

_ (¬1) تشير رواية ضعيفة إلى أن عدد الأنبياء 24،000 نبي وعدد الرسل 315 رسولا. انظر مسند أحمد 5/ 266 وفي إسناده معان بن رفاعة السلامي لين الحديث كثير الإرسال كما في التقريب وعلي بن يزيد الألهاني ضعيف والقاسم بن عبد الرحمن صدوق يغرب كثيراً. (¬2) البقرة:253. (¬3) أخرجه الترمذي: سنن 5/ 587 وقال: هذا حديث صحيح، وأخرجه أحمد في المسند 1/ 5. (¬4) البقرة: 136. (¬5) فصلت:6.

يحسن القراءة والكتابة، وعاش في بيئة خالية من الدراسات الفلسفية والطبيعية المعقدة، كالتي عرفها اليونان والفرس والهنود ومع ذلك فإن تعاليمه رسمت طريق السعادة والفلاح، وأثرت في مئات الملايين من البشر الذين اتبعوها، ونظمت حياتهم الخاصة والعامة, وحكمت اجتماعهم واقتصادهم وسياستهم وأخلاقهم وقيمهم قرونا طويلة، وأثمرت حضارة عالمية سامقة كان لها دور كبير في الحضارة العالمية، ولا شك أن هذا ما كان ليحدث لولا الوحي الإلهي. وكان تكليف الرسل بحمل الوحي الإلهي وتبليغه مما يجر عليهم الأخطار، لأن الرسالات التي يدعون إليها تقتضي أحداث تغيير كبير في أطر الحياة العقدية والاجتماعية، فكانوا يلقون مقاومة كبيرة من أصحاب النفوذ والمصالح، ومن الجمهور الذي تنتشر فيه العقائد المخالفة لرسالاتهم، وهذا عرَّضهم للأخطار. ولم يكن بوسع الأنبياء أن يتخذوا مواقف وسطاً أو حلولاً توفيقية، لأن الرسالة ليست نابعة من اجتهادهم فيغيروا ويبدلوا، بل لابد لهم من الالتزام بنص الوحي الإلهي وبمضامينه، قال تعالى في حق سيد المرسلين {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). فلابد للرسول إذاً من التزام أمانة التبليغ مهما كابد من البلاء والمقاومة ومن هنا جاءت محن الأنبياء. فهذا نوح عليه السلام أول رسول إلى الناس - كما أن آدم أول نبي - عمر طويلا، فدعا قومه ليلا ونهارا سرا وجهرا إلى توحيد الله، فما استجاب له بعد إقامته فيهم ودعوتهم إلا قليل، هم الذين نجوا من الغرق. قال تعالى {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (¬2) وقد اتهمه قومه بالسفه والضلال والجنون وكثرة الجدل بالافتراء على الله، وهددوه بالرجم، وقابلوه بالسخرية والتهكم، وهو يقابل ذلك بالصبر والاستمرار في دعوتهم حتى أدرك أنهم لا يستجيبون -بعد أن دعاهم قرونا-، فدعا عليهم كما يحكي القرآن ¬

_ (¬1) الحاقة:46. (¬2) هود:40.

الكريم: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (¬1). فعاقبهم الله تعالى بالطوفان ونجَّى نوحا ومن آمن معه. وهذا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، وخليل الرحمن نشأ في بابل التي يحكمها النمرود الذي أدعى الألوهية، وكان قومه يعبدون الأصنام، وقد عصم الله إبراهيم وآتاه الحجة منذ صغره، فدعا قومه واحتج عليهم وكسر أصنامهم ليثبت لهم عجزها عن الدفاع عن ذاتها فكيف تدافع عن غيرها!! فما كان منهم إلا أن ألقوه في النار فحفظه الله ونجاه. قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬2). وهاجر إبراهيم في الأرض يدعو إلى الله، فنزل حران حيث تعبد الكواكب، ثم مصر الفراعنة، وهو يتعرض لأنواع الابتلاء والمحن في نفسه وأهله وولده. وهذا موسى - كليم الله عليه السلام -واجه طغيان فرعون مصر وهو يدعي الإلوهية، ويستعبد بني إسرائيل، يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم، فدعاه إلى عبادة الله وحده، فتمادى فرعون في كفره، واعتزم قتل موسى وقومه لولا أن نجاهم الله وأغرق فرعون وجنده. وقد لقى موسى من بني إسرائيل أنفسهم من العنت والكبرياء والجدل والاستعداد للانحراف عن العقيدة حتى توفاه الله. وهذا عيسى عليه السلام دعا اليهود إلى دين الحق الذي انحرفوا عنه، وأجرى الله عليه يديه المعجزات الباهرة، فعارضه الكهنة واجمعوا على قتله، فأنجاه الله منهم ورفعه. وهذا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وقع عليه من أنواع الابتلاء من أذى المشركين بمكة ودعايتهم وتحديهم وحصارهم له ولأتباعه في شعب أبي طالب ¬

_ (¬1) نوح:26. (¬2) الأنبياء:69

واضطرارهم لأتباعه للهجرة إلى الحبشة، ثم تركه صلى الله عليه وسلم موطنه وهجرته إلى المدينة، ثم استمرارهم في حربه والتأليب عليه حتى نصره الله عليهم وأظهر دينه في الأرض. وهذه السيرة النبوية تشير إلى حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأنهم تعرضوا للابتلاء والامتحان بسبب تبليغهم لرسالات الله تعالى، ولم ينتفعوا في الحياة الدنيا بالنعيم والراحة، بل كانت حياتهم شديدة يلحقهم الأذى في أنفسهم وأهليهم، ويهجرون مواطنهم، ويتعرضون للقتل، فما يصدهم ذلك عن تبليغ دعوة الله وتغيير الواقع الجاهلي. ومن أجل ذلك النهج العملي في الدعوة والتربية للأتباع كان أثر رسالات الأنبياء في حياة البشرية أثرا عميقا شاملا، في حين بقيت آراء الفلاسفة قابعة في كتبهم ولم تتحول إلى واقع عملي .. ولكل عاقل أن يقارن بين أثر القرآن والسنة وبين جمهورية أفلاطون أو مدينة الله لأوغسطين أو المدينة الفاضلة للفارابي، ليدرك أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هي النهج العملي المؤثر في حركة التاريخ ومصير الأحياء. إن إيمان المسلمين بالأنبياء جميعا أعطاهم نماذج روحية متنوعة وعظيمة القيمة، تتمثل فيها القيم الخلقية بأرفع سلوكيات التي يمثلها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهكذا فإن المسلم يجد في نوح عليه السلام مثالا للداعية الصامد، فرغم تنكر قومه لدعوته بما فيهم ابنه وزوجه، فإن ذلك لم يقعده عن الاستمرار في دعوته، وتهيئة العوامل اللازمة لنجاحها ثم لنجاة أصحابه. كما يجد المسلم في أيوب - عليه السلام - مثالا للصبر على الأمراض والأسقام وجفوة الناس والخلطاء حتى الزوجة، فلم يزده ذلك إلا احتسابا وإيمانا، ودعاء وتضرعا حتى رفع الله عنه البلاء. وإذا كان الإيمان الشامل بالأنبياء يوسع من مجال الاقتداء، ويعبر عن وحدة الرسالات الإلهية، فإنه يورث المسلمين التسامح الديني ويوجد بينهم وبين أهل

الكتاب بعض عناصر الالتقاء، ويكسبهم مرونة عالية في التعامل معهم داخل المجتمع الإسلامي بمنح الأقليات الدينية حرية المعتقد، وحق الحماية. وإمكان التعايش السلمي معهم، بل تلطيف هذه العلاقة مع الأقليات الدينية عندما تسمح عقائد المسلمين ببرهم ومهاداتهم. ولو افترضنا على سبيل الجدل أن المسلمين ينكرون نبوات الأنبياء السابقين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، لتغير موقفهم من الأقليات الدينية التي ما كانت لتتمكن من المحافظة على وجودها لولا التسامح الديني الذي لم يشهد له التاريخ الإنساني مثيلا حتى اعتبرت الدولة الإسلامية مسئولة عن حماية أماكن العبادة للديانات الإلهية الأخرى مثل حمايتها للمساجد الإسلامية قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (¬1). ولا مانع من الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بشرط أن يتقيد الجميع بأدب المناظرة. قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2). وقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬3). وقد اعترف عديد من الباحثين الغربيين بتسامح الإسلام والمسلمين فقال غوستاف لوبون: "إن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم". ويقول توماس أرنولد: "كان المسلمون -على خلاف غيرهم- إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جدها في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحين بالعدل والقسطاس". ¬

_ (¬1) الحج:40. (¬2) العنكبوت:46. (¬3) الأنعام: 108.

إن عالم اليوم بحاجة أشد إلى أن تسود روح التسامح ويتقرر العدل ويقضى على العصبيات والعنف الذي يمكن أن يحول التقدم التقني إلى كارثة خطيرة تعصف بالبشر وحضاراتهم. وليس كالإسلام في غرس روح الخير وبذر التعاون في ظلال الإيمان والسماحة الدينية.

بشرية الرسول

بشرية الرسول ومما لاشك فيه أن الأنبياء هم أوعى البشر بحقيقة الألوهية، ومعرفة استحقاق الإله وحده للعبادة، وذلك بما اختصهم الله به من علم الوحي الإلهي، فالتمييز واضح عندهم بين ما هو حق لله وما هو حق للنبي. لذلك نفي القرآن الكريم عن الأنبياء أن يوجهوا الناس لعبادتهم بدلا من عبادة الله قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (¬1). وهكذا اتضحت طبيعة العلاقة بين "الإله" و "النبي" و "البشر"، ولم يقع في تاريخ الإسلام الطويل أي جدل حول طبيعة النبي كما جرى في تاريخ النصرانية التي كانت قضية طبيعة المسيح وهل هي إلهية أم بشرية، أم إلهية وبشرية متحدة أساسا لانقسامها إلى فرق عديدة متطاحنة. لقد أعلن محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين جميعا أنه بشر مثلهم كما ورد في القرآن الكريم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (¬2). وإذا كان الأنبياء لا يستحقون العبادة - وهم أفضل البشر، فإن القادة الفكريين والزعماء المبرزين لا يستحقون ¬

_ (¬1) الكهف: 110. (¬2) آل عمران:79.

العبادة من باب الأولى، وبالتالي قطع الإسلام الطريق أمام الدعوة إلى عبودية الإنسان من دون الله مهما بلغ مقامه وعظم مكانه. وبذلك حافظ على كرامة الإنسان وحريته، ومنعه من السقوط في هاوية الخضوع الأعمى لغيره من البشر، فضلا عن حمايته من عبادة المخلوقات الأخرى من حيوان وجماد وقوى الطبيعية. وقد لا يدعو القائد المفكر إلى عبادة ذاته، ولكن يحرف كلام الله ويغير أحكامه، وهو بذلك يعطي نفسه حق التشريع، وهو من حقوق الله وحده، وبذلك يتعبد الناس ويخضعهم لفكره وتشريعه، وهو نمط من العبودية حذر منه الرسول الكريم عليه السلام ونبه بعض المفسرين إلى وقوع الأم السابقة فيه. فقال المفسر ابن جريج في تفسير قوله تعالى: {كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1) قال: "كان ناس من اليهود يتعبدون الناس دون ربهم، بتحريفهم كتاب الله عن مواضعه بغير الذي يقرأون مما أنزل الله في كتابه (¬2). وقال عدي بن حاتم رضي الله عنه: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته، وانتهيت إله وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬3) قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم" (¬4). وهكذا أوضح المصطفى صلى الله عليه وسلم أن حق التشريع لله، ومن نازعه فيه فقد دعا الناس إلى تأليه ذاته وعبادته من دون الله تعالى. ¬

_ (¬1) آل عمران: 79. (¬2) تفسير ابن أبي حاتم للآية 79 من سورة آل عمران. (¬3) التوبة:31. (¬4) تفسير الطبري: 10/ 114.

بل إن الإسلام مضى إلى ما هو أبعد من هذه التوجيهات، احتياطا للناس وإبعادا للأمة من الوقوع في براثن المضللين فجعل الولاء للعقيدة وليس للرجال مهما علت مكانتهم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي أصحابه عن المبالغة في تعظيمه يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) (¬1). وينهى عن مديح الرجل في وجهه، لئلا يناله العجب بالنفس فيجره ذلك إلى الهلاك، فلما أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك (¬2) - مرارا". فأين هذه التعاليم مما تتعود عليه الأمم التي لا دين لها من الانحناء والسجود للزعماء، والتقرب إليهم بمعسول الكلام وعظيم الثناء، وتشبيهم بالله تعالى وإسباغ صفاته عز وجل عليهم، بل والوقوف طوابير في انتظار زيارة قبورهم بعد موتهم في الأعياد والمناسبات الوطنية وصرف المبالغ الطائلة على بناء مقابرهم وزخرفة أضرحتهم، وقديما صرف الفراعنة الملايين وسخروا الألوف من شعبهم لبناء أهراماتهم، وحديثا نجد هذه المظاهر في دول تدعي نبذ الدين وتخليص الناس من الخرافة وتحريرهم من عبودية الله!! فإذا بها تتعبدهم للزعماء من البشر في حياتهم وبعد مماتهم!! روى الترمذي عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا. قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا. قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال نعم (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (الصحيح 4/ 132) كتاب الأنبياء - باب 48 {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}، والدارمي: سنن 2/ 320، وأحمد: المسند 1/ 23. (¬2) أخرجه البخاري (الصحيح 3/ 158) كتاب الشهادات باب 16 إذا زكى رجل رجلا كفاه. وأخرجه مسلم (الصحيح 4/ 2296). (¬3) أخرجه الترمذي: سنن 5/ 75 حديث رقم 2728وقال: هذا حديث حسن.

ولم يكن الداخل على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يميزه عن أصحابه من هيئته أو مكان جلوسه، بل كان الغريب يسأل عنه ليعرفه .. أخرج الدارمي قال العباس: يا رسول الله إني رأيتهم قد آذوك وآذاك غبارهم فلو اتخذت عريشا تكلمهم منه؟ فقال: لا أزال بين أظهرهم يطأون عقبي، وينازعون ردائي، حتى يكون الله يريحني منهم" (¬1). وأخرج الطبراني عن عبد الله بن جبير الخزاعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في أناس من أصحابه فتستر بثوب، فلما رأى ظله رفع رأسه، فإذا بملاءة قد ستر بها فقال له: مه!! وأخذ الثوب فقال: "إنما أنا مثلكم" (¬2). وسئلت عائشة - رضي الله عنها - هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم. كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته. (¬3). فهذه صورة النبي في الإسلام، وهو أرفع البشر، له الحب والتوقير والدعاء، وله الدرجة الرفيعة، لكنه لا يتجاوز مقام العبودية والطاعة لله، ولا يخلع على نفسه صفات الألوهية، ولا يدعو الناس إلى عبادته، بل يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويجعل نفسه مثلهم الأعلى في عبادة الله وطاعته، وشعاره ({كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} (¬4). وقد حرص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على التمييز بين الألوهية والنبوة، خاصة أن الأمم السابقة قد ألهت أنبياءها، فقالت اليهود عزير ابن الله ¬

_ (¬1) الدارمي: سنن 1/ 35 - 36 من طريقين، وأخرجه البزار من طريق ابن عباس أيضا (الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 21 وقال: رجاله رجال الصحيح). (¬2) الهيثمي: مجمع الزوائد 9/ 21 وقال: رجاله رجال الصحيح. (¬3) مسند أحمد 6/ 176 وأنظر: 121، 260 منه. (¬4) آل عمران آية: 79.

وقالت النصارى المسيح ابن الله، ولا شك أن تأليه الأنبياء لم يكن في حياتهم، بل بعد زمنهم بقليل أو كثير حيث تدخل المبالغات والأساطير إلى تاريخهم وسيرتهم، ويبالغ أتباعهم في أخبارهم، حتى يوصلوهم إلى مرحلة الألوهية، ويعبدوهم من دون الله، أو يشركوهم في عبادة الله. ومن هنا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأليهه وأكد على صفاته البشرية. فقد "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه فقال: (هوِّن عليك. فإني لست بملك. إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد) (¬1) وهذا تواضع منه عليه الصلاة والسلام، وهو الذي اختاره الله من خيار خلقه، وعصمه في نسبه وطهارة محتده؛ فكل آبائه وأمهاته من زواج صحيح. ورغم علو مكانته وسمو خلقه وإشادة القرآن برفعته وعظمته فإنه لم يتخط خصائص البشرية، فهو يتألم كما يتألم البشر، بل إن آلامه تفوق آلامهم. روى البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن أوعك كما يوعك رجلان منكم) (¬2)، ولما اشتد المرض عليه حين وفاته لاحظت فاطمة - بنته - ما كان يتغشاه فكانت تقول: واكرب أباه. فيقول لها مهدئا: ليس على أبيك كرب بعد اليوم) (¬3). وكان يقول: (إنا معشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء) (¬4). ولم يدع مناسبة إلا وبين خصائصه البشرية التي لا تنفك عنه إلا في عصمة النبوة، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنما محمد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد أخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته، أو سببته أو جلدته، فاجعلها له كفارة وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة) (¬5). ¬

_ (¬1) ابن ماجة: السنن 2/ 1101 حديث رقم 3312 وصحيح سنن ابن ماجة 2/ 232 حديث رقم 2677. (¬2) صحيح البخاري حديث رقم 5648. (¬3) صحيح البخاري حديث رقم 4462. (¬4) مسند أحمد 3/ 94. (¬5) صحيح مسلم حديث رقم 2601.

وكما يطرأ عليه الغضب يطرأ عليه النسيان، فهو وإن كان الله قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فإنه لم يبرئه من سمات الحدث ولم يخله من الأعراض البشرية (¬1). فقد سها في صلاته ونسى بعض العدد من ركعاتها حتى ذكر بها ونبه عليها. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم) (¬2). ولم تمنع نبوته ورفعة درجته أصحابه من مراجعته في الرأي حتى يعزم الله له، ففي صلح الحديبية راجع عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موافقته على شروط الصلح فقال عمر - رضي الله عنه - "فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به) (¬3). ¬

_ (¬1) الخطابي: أعلام الحديث 77. (¬2) صحيح البخاري حديث رقم 482 (فتح الباري 1/ 565). (¬3) رواه البخاري في صحيحه كما في فتح الباري حديث رقم 2731.

وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقف على الحكمة من موافقته على شروط الصلح، وكان يرغب في إذلال المشركين، "فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه" (¬1). ولم تقتصر المراجعة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المقربين، ولا على أصحاب المسئولية في الدولة والمجتمع، بل إن النساء كن يراجعنه أيضا. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:"كنا معشر قريش نغلب الناس، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني! فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فأفزعني ذلك فقلت: جاءت من فعلت ذلك منهم بعظيم، ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة فقلت: أي حفصة، أتغاضب إحداكن رسول الله حتى الليل، فقالت: نعم. فقلت: خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله. لا تستكثري على رسول الله، ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه وسليني ما بدا لك" (¬2). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد لأصحابه هذا المعنى، معنى بشريته، وأنه إنما يمتاز عليهم بالنبوة، ويحذرهم من فعل الأمم السابقة مع أنبيائهم عندما غلت فيهم فاتخذتهم آلهة مع الله سبحانه. وإنما نهاهم عن المبالغة في مدحه خشية أن يجر ذلك مع الأيام إلى إسباغ صفات الألوهية عليه كما حصل لمن أطرى عيسى ابن مريم من النصارى، وقد تمسك عليه الصلاة والسلام بصفة العبودية لله وصفة الرسالة، فهو عبد الله ورسوله، وفيه تتمثل العبودية الصادقة لله فهو أكثر البشر عبادة وطاعة وأشدهم التزاما بتعاليم الرسالة .... ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 5/ 346 - 347. (¬2) صحيح البخاري 3/ 103.

عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا" (¬1). إن عبادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هي ثمرة إحساسه صلى الله عليه وسلم بعظمة الخالق ونعمه الكثيرة عليه، وخاصة ائتمانه على الرسالة الخاتمة التي حملها للعالمين .. والتي صارت بفضل الله ثم بفضل تبليغ الرسول لها أعظم نعم الله على العباد، فهي تتقدم سائر النعم الأخرى جليلها وصغيرها، فليس من نعمة أعظم من الهداية إلى معرفة الله الخالق، واستبانة طريقه المستقيم المفضي إلى النعيم المقيم. في الآخرة، وإلى الطمأنينة والراحة النفسية في الدنيا، حيث لم يعد الإنسان بحاجة إلى طواف طويل وجهد عقلي كبير سعيا للوصول إلى الحق، وتعرفا على الله، ووصولا إلى الحق والخير والجمال. فكل ذلك جاءت به الرسالة الخاتمة التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغها لأصحابه رضوان الله عليهم، وهم بدورهم حملوها إلى أمم الأرض، وتوارثها الخلف عن السلف عبر القرون، فاهتدى بنورها ألوف الملايين من أهل الأرض. إن نعم الله على الإنسان لا تعد ولا تحصى في روحه وعقله وبدنه، بحيث إن الإنسان الواحد يمتلك ثروة عظيمة جهزه بها الخالق القدير في أعضائه المختلفة، ومن البديهي أن الإنسان صاحب هذه الأعضاء لا يرضى أن يستبدل أيا منها بالألوف المؤلفة من الدنانير والذهب والفضة، وهذا ينطبق على نعمة البصر والسمع والعقل، بل واليد والرجل .... وقد جاء الوقت الحاضر ليرى الناس جميعا أن أعضاء البدن تقوم بالمال الكثير عندما يحتاج مريض إلى كلية أو غيرها. إن النعم تحيط بالإنسان وتكتنفه لكن تعوده عليها ينسيه قيمتها، ولو فقد الإنسان شربة ماء ثم وجدها بالمال الكثير لدفعه لحيازتها، لكن كرم الخالق معه ¬

_ (¬1) متفق عليه (صحيح البخاري 2/ 44) وصحيح مسلم حديث رقم 2819.

ختم النبوة وعموم الرسالة الإسلامية

أن وهبه الماء والطعام والهواء وكل ما يلزم لحياته دون أن يطالب بشيء سوى العبادة التي تحقق غاية الوجود. وكان رسول الله يعبر عن إحساسه بكل معاني الإحسان الإلهي والتعهد الرباني عندما يصلي حتى ترم قدماه. (أفلا أكون عبدا شكور؟). ختم النبوة وعموم الرسالة الإسلامية: بعث محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، بعد أن ضاعت معالم الرسالات السماوية السابقة، وتحرفت تعاليمها، وخفت إشعاعها، وضعف أثرها في الحياة الإنسانية، فكانت رسالته تجديدا لدعوة التوحيد التي بعث بها سائر الأنبياء والمرسلين، وتعديلا للشرائع السابقة وإكمالا لها، بعد أن ارتقت البشرية وتفتحت عقولها وتهيأت نفوسها لاستقبال الرسالة الخاتمة بكل جوانبها الروحية والاجتماعية، وقد أوضح المصطفى صلى الله عليه وسلم أن رسالته إكمال لرسالات الأنبياء السابقين، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬1). وفي الحديث الشريف عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجي بني دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة. فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون: لولا موضع اللبنة". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنا موضع اللبنة، فجئت فختمت الأنبياء" (¬2). والحديث يبين اكتمال الرسالة الخاتمة ووفاءها بحاجات البشرية، مهما درجت في مراقي التقدم الحضاري ثقافة وصناعة، مما نص القرآن الكريم بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3)، فالإسلام هو الدين الخاتم الذي لا دين بعده، ومحمد هو ¬

_ (¬1) الأحزاب: 40. (¬2) صحيح مسلم ص 1791. (¬3) المائدة آية: 3.

الرسول الخاتم فلا نبي بعده، فهو الدين الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء حتى قيام الساعة، وقد أمر الله أتباع الديانات الأخرى بالدخول فيه مبينا لهم أنه نسخ الأديان كلها فلا يقبل الله بعد بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- دينا سواه ... قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬1) وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2). وقد أخذ الله العهد على جميع الأنبياء والرسل من قبله أن يؤمنوا به إذا أدركوا بعثته وأن ينصروه، لذلك فقد كانوا وأتباعهم على علم بصفاته حيث وردت في كتبهم المنزلة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ...} (¬3). وقد اختار الله تعالى الاسم لأمته - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (¬4) فمن الخطأ تسميت المسلمين بغير الاسم قياسا على أتباع الديانات الأخرى، كما يفعل المستشرقون فيطلقون اسم (المحمدية) على (الإسلام)، واسم (المحمدين) على المسلمين، وينبغي للمسلم أن يجهر بإسلامه ويعلنه ويعتز به كما في القرآن ... {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬5). ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أول المسلمين من هذه الأمة، وهو أولى بالأنبياء من أتباعهم الذين حرفوا تعاليمهم، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (¬6). ¬

_ (¬1) آل عمران آية:19. (¬2) آل عمران آية: 85. (¬3) الأعراف آية: 157. (¬4) الحج آية:78. (¬5) فصلت آية: 33. (¬6) آل عمران آية:68.

وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة" (¬1). وقال ليهود: "أنا أولى بموسى منكم" (¬2). وكما أن الرسالة الخاتمة امتدت بآفاقها الرحيبة إلى الماضي، فاعترفت برسالات الأنبياء السابقين في التاريخ، فإنها اختصت بعمومها فهي لسائر البشر وليست خاصة بقوم معينين وهي دين الحاضر والمستقبل وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" (¬4) وفي رواية مسلم "وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون" (¬5). فالرسالة الخاتمة دعوة لوحدة الإنسانية تحت راية التوحيد لا تعترف بالطبقة، ولا بالعنصرية، ولا باختلاف اللون والعرق واللغة، بل هي تتجاوز كل ذلك تحقيقا للمساواة التامة بين البشر، وتوحيدا لموكب الإيمان في طريقه إلى الله. ونظرا لأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، تمتد في المكان لتشمل المعمورة، وفي الزمان لتستغرق ما بقي من تاريخ الإنسان، فقد تكفل الله بحفظها من التحريف والتبديل والضياع، وهكذا حفظ كتاب الله الخالد "القرآن الكريم" وحفظت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا، فصار بوسع الأجيال المتلاحقة أن تعرف حقيقة الإسلام وتفاصيل العقيدة والشريعة كما عرفتها الأجيال الأولى دون اختلاف. قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 4/ 142 واللفظ له وصحيح مسلم حديث رقم 2365. (¬2) متفق عليه (صحيح البخاري 4/ 126) وصحيح مسلم حديث رقم 1130. (¬3) سبأ آية:28. (¬4) صحيح البخاري 1/ 86. (¬5) صحيح مسلم 1/ 371 حديث رقم 523. (¬6) الحجر:9.

ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة هي القرآن الكريم، فهي معجزة دائمة باقية، ظاهرة الإعجاز في كل زمان ومكان، وكانت رسالات الأنبياء من قبله موقوتة محدودة بالزمان والمكان، فكانت معجزاتهم حسية تهدف إلى قهر وتعجيز من يحضرها في حينها، ويشهدها عند حدوثها، كما هو ظاهر من معجزات موسى عليه السلام، حين ضرب البحر بعصاه فانفتح أمامه طريق العبور وسط الماء، وكما هي معجزات عيسى عليه السلام حين يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله ... فمن لم يشهد هذه المعجزات فإنه لا يذعن للحق ولا يتبع النبي .. أما معجزة الرسول الكريم فكانت معجزة خالدة لخلود الرسالة، باقية - بحفظ الله - بقاء الحياة، تذعن لها العقول المستنيرة والقلوب الواعية في كل زمان ومكان، ويتذوق بيانها وبلاغتها الفصحاء والبلغاء فهي معجزة بيانية بلاغية تحدث العرب وقت النزول وبعده، وهم أمة البيان، فعجزوا عن إجابة التحدي عبر العصور (¬1). وقد أشار المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى اختلاف معجزته عن معجزات الأنبياء من قبله فقال: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما الذي أوتيت وحيا أوحي الله، إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) (¬2). وقد كثر أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم على مر القرون حتى بلغوا في الوقت الحاضر ربع سكان المعمورة، ولو أنهم التزموا بتعاليم النبي الكريم في عقائدهم وسلوكهم ونظمهم، وأدركوا مسئوليتهم في الدعوة إلى دين الله لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولحققوا السعادة لأنفسهم في الدنيا ونالوا مغفرة الله ورضوانه في الآخرة. لقد قطع الإسلام بختم النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الطريق أمام أدعياء النبوة، وضيق مسالك نشر دعواتهم الباطلة بأن هيأ الأذهان لعدم قبولها، وكذلك قطع ¬

_ (¬1) انظر إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني. (¬2) متفق عليه واللفظ لمسلم (صحيح البخاري 6/ 97، وصحيح مسلم 1/ 134 حديث رقم 152).

القرآن معجزة الرسول الخالدة

الطريق على الأفكار السلبية التي تدعو للإبقاء على الأوضاع الظالمة وعلى الشر والفساد لحين ظهور نبي أو إمام منتظر. فلم يبق أمام المسلمين إلا العمل الدائب وفق هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم دون انتظار لوحي جديد. القرآن معجزة الرسول الخالدة: القرآن هو كتاب الله المنزل على نبيه لفظا ومعنى، وهو قطعي الثبوت لتواتر نقله، ولوعد الله بحفظه. ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يعرف الكتاب ولا الإيمان قبل أن يوحي إليه القرآن الذي جعله الله تعالى يهدي به عباده إلى الصراط المستقيم. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). وقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن يساره جواد، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط المستقيم انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2). وتدلنا رواية أحمد والنسائي على أن عبد الله بن مسعود تعلم هذا التعريف للصراط المستقيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن مسعود: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال: ¬

_ (¬1) الآية رقم 52 من سورة الشورى. (¬2) أخرجه رزين موقوفا على عبد الله بن مسعود، ومعناه عند الإمام أحمد والنسائي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. ومعنى كلام ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك أصحابه بعد أن أخذ بأيديهم إلى طرف الطريق المفضية إلى الجنة، فتركهم على المحجة البيضاء والسنة الزهراء، لكن هذه الطريق تحتاج إلى الاستقامة عليها حتى النهاية، وعدم سلوك أية جادة مما يتشعب عنها نتيجة الإفراط والمبالغة والتعمق، أو نتيجة التفريط ورقة الدين وإتباع الهوى حيث يحاول أهل الأهواء دعوتهم وإغراءهم بسلوك الطرق المتفرقة والشاذة التي تبعد بهم عن الجنة، فطريق السنة هو أقصر الطرق إلى الجنة. والوحي: بمعنى، الإيماء، وهو لغة: الإعلام بالشيء سرا، وشرعا هو الإعلام بالشرع وهو خاص بتعليم الله للأنبياء بواسطة ملك، أو بدون واسطة إما بإلقاء المعنى في النفس وهو الإلهام، وإما بالكلام من وراء حجاب أي بدون رؤية كما حدث لموسى -عليه السلام-. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشاهد جبريل -عليه السلام- إما على صورته الحقيقية وهذا نادر، وإما متمثلا في صورة بشر فيكلمه فيعي ما يقول، وهو أيسر الوحي عليه، وتارة لا يراه بل يسمع عند قدومه دويا وصلصلة شديدة، فيدرك من عنده من الصحابة أنه يوحى إليه بثقل بدنه وتفصد جبينه عرقا، وأحيانا بسماع دوي كدوي النحل عند وجهه، وكان صلى الله عليه وسلم يسمع صلصلة الجرس ويجد من ذلك شدة - فإذا قضي جبريل رسالة ربه عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى حالته العادية، ونظرا لحب النبي صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن ولشدة الوحي عليه من ناحية أخرى، فإنه كان ينازع جبريل القراءة ولا يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، فنزل قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (¬1). أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" (¬2). ¬

_ (¬1) القيامة:16. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم (فتح الباري 1/ 23).

ويدل حديث عائشة - رضي الله عنها - على أن الرؤيا الصادقة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت وحياً, وكانت أول الوحي إيناسا للرسول صلى الله عليه وسلم فهي أخف وقعا على نفسه البشرية كما أنها تهيئة لتلقي شدائد الوحي في اليقظة. والوحي المحمدي نظير الوحي إلى الأنبياء قبله لا تباين فيه. قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبب الله إليه العزلة في غار حراء يتعبد متبعا الحنيفية، وهي دين إبراهيم عليه السلام، فيبقى في الغار مدة شهر، ثم يرجع إلى أهله ليتزود بالطعام أخذا بالأسباب، وقد تكررت خلوته في غار حراء حتى جاءه الوحي وهو في الغار معتكفا في شهر رمضان، وقد طلب منه الملك أن يقرأ. فأجاب: ما أنا بقارئ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ. والأمية من دلائل معجزته، وأبعد الله تعالى بها عنه شبهة الأخذ عن الكتب السابقة، فأمسك به الملك وضمه ضما شديدا مكررا طلبه منه أن يقرأ. ثم أوضح له أن يقرأ عن ظهر الغيب لشيء لم يسبق له حفظه، بل يتعلمه في الآن بأمر الله، وهي الآيات الخمس من صدر سورة العلق - وهي أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، ونزل باقي سورة العلق بعد ذلك بسنين، وأما أول سورة نزلت بتمامها فهي الفاتحة على المشهور - فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات الخمس يرتجف قلبه فطلب من زوجته أن تدثره، ففعلت حتى ذهب عنه الفزع، وأخبرها الخبر، ولم يكن ذلك عن شك بما أوحي إليه، بل للمفاجأة التي لم يكن يتوقعها، ولما أبدى لخديجة رضي الله عنها خشيته أقسمت له أن الله لا يعرضه للذل والهوان والفضيحة، وذكرته بحسن أخلاقه، فهو يصل الرحم ببر أقربائه والإحسان إليهم، ويعين المحتاج، وينال معالي الأمور والسبق إلى المكرمات، ويقري الضيف، ويعين صاحب الحق على بلوغه فمن كان هذا شأنه لا يخزيه الله بل يرفعه مكانا عليا. ثم إن خديجة انطلقت به إلى ورقة بن نوفل، وكان نصرانيا عالما بالعربية والعبرية، وله اطلاع على التوراة والإنجيل حيث كان متمكنا من نقل التوراة من العبرية إلى العربية، وكان شيخا

قد صقلته التجارب والنظر في الكتب، فلما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى أدرك حقيقة الأمر فصرح بأنه وحي مثل الوحي الذي تلقاه موسى عليه السلام، وتمنى ورقة لو عاد شابا ليتمكن من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم على قومه حين يخرجوه من مكة، ثم أدرك استحالة ذلك لشيخوخته فتمنى لو يدرك ذلك اليوم فقط، واستغرب النبي صلى الله عليه وسلم من كلام ورقة فقومه يحبونه وينادونه بالصادق الأمين فكيف يخرجونه من بلده!، فسأل ورقة: أو مخرجي هم؟ فبين ورقة: أن هذه هي سنة الحياة، فما من نبي دعا قومه إلى نبذ الجاهلية وتوحيد الله بالعبادة والطاعة إلا عادوه، وآذوه ... وتوفى ورقة ... وانقطع الوحي فترة - قال الشعبي إنها سنتان ونصف السنة - وحزن النبي صلى الله عليه وسلم على انقطاعه حتى عاوده الوحي آمرا له بالدعوة والإنذار {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. وكان ذلك في بيت خديجة - رضي الله عنها -. وهكذا بدأت مرحلة الرسالة وقد سبقتها ثلاث سنوات هي مرحلة النبوة. ومع نزول الوحي المحمدي عرف البشر مصدرا للتلقي والعلم عن الله عز وجل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تكفل الله بحفظه لينير لأجيال العالمين الطريق الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم صراط الله العزيز الحميد. تكفل الله بحفظ القرآن وقد تكفل الله بحفظ القرآن الكريم من أن يزاد فيه ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو من أحكامه وحدوده وفرائضه، فهو الكتاب الخالد المحفوظ بحفظ الله له على تعاقب الزمان واختلاف السكان، فما دام القرآن دستور الرسالة الإسلامية، وما دامت الرسالة الإسلامية لكل البشر، في كل الأزمان والأصقاع، فإن حفظ القرآن وخلوده لازم ودائم دوام الرسالة نفسها. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1) ¬

_ (¬1) الحجر: 9.

ونظرا لطبيعة الإسلام التي تحمل الإنسان المسئولية، وتطلب منه بذل الجهد في الوصول إلى الحق والحفاظ على المبدأ والجهاد في سبيل الرسالة، فإن الله تعالى هيأ للقرآن الكريم كل لوازم حفظه وخلوده، فمنذ كان الوحي الأمين يلقي الآيات القرآنية على سمع النبي الأمين، بينت آيات كريمة أن الله يتكفل بحفظ النبي لهذه الآيات ونبهت الرسول إلى ألا يسترسل في بذل الجهد العنيف في الانتباه والتحفز النفسي والشد العقلي الكثير خوفا من تفلت آيات الوحي منه وعدم القدرة على حفظها ... قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}. لقد حفظ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، وكان جبريل يتعاهده به ويعرضه عليه في رمضان من كل عام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي ما ينزل عليه من الآيات على الكتاب من الصحابة منذ المرحلة المكية. وقد بلغ عدد كتاب الوحي تسعة وعشرين كاتبا أشهرهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص وأبي بن كعب ومعاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت ومعاوية وزيد كانا أكثر التصاقا بهذه المهمة الخطيرة، وكانت الكتابة في الغالب على قطع الجلد وأكتاف العظام وجريد النخل وصفائح الحجارة، إذ لم يكن البردي متوافرا آنذاك في الحجاز. وكان كتاب الوحي يحتفظون بما يكتبونه عندهم، ولم تكن ثمة نسخة عند الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وقد جمع القرآن أربعة من الأنصار هم أبي بن كعب ومعاذ ابن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (¬1) من الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن كانت الرقاع متفرقة بينهم، وكانت بمجموعتها تشتمل على نص القرآن الكريم كاملا كما أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما كان محفوظا في صدور الكثيرين من الصحابة إلى حد التواتر ¬

_ (¬1) البخاري: الصحيح، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 9/ 47 وكتاب المناقب، باب مناقب زيد بن ثابت 7/ 127.

وقد حظي بعض الصحابة بالعرضة الأخيرة للقرآن الكريم حيث عرض جبريل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم عام وفاته في رمضان مرتين، وعرضه الرسول على بعض الصحابة منهم زيد بن ثابت، وميزة هذه العرضة أنها تمثل نص القرآن الخالد دون الآيات التي نسخت تلاوتها. وكان هذا مما رشح زيد بن ثابت للقيام بجمع نسخة كاملة من القرآن الكريم بأمر من الخليفة أبي بكر الصديق تنفيذا لاقتراح قدمه عمر بن الخطاب (رض الله عنهما). قال أبو بكر لزيد: (إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه) (¬1). فقام زيد بهذه المهمة بكل دقة، واعتمد على ما كتب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يشهد شخصان بأن المكتوب من إملاء الرسول ذاته وأنه جزء من التنزيل في صورته النهائية. وهكذا تم الجمع الأول للقرآن الكريم في خلافة الصديق، وانتقل المصحف من الصديق إلى عمر بن الخطاب الذي أودعه لدى حفصة أم المؤمنين عند استشهاده. فلما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة قام بالجمع الأخير معتمدا على المصحف الذي عند حفصة مع تشكيل لجنة من زيد بن ثابت الذي تولى الجمع الأول ومعه عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، ويلاحظ أن الثلاثة الأخيرين من قريش، في حين أن زيد بن ثابت أنصاري ويفسر طبيعة تكوين اللجنة ما ذكره عثمان من قاعدة العمل: (ما اختلفتم فيه وزيد فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم). وقد أتمت اللجنة عملها بنجاح ونسخت ست مصاحف وزعت أربعة منها على مكة والشام والكوفة والبصرة، وبقي المصحف الخامس في المدينة والسادس لدى عثمان .. وصارت المصاحف تنقل عنها عبر القرون التالية ويقال لرسمها (الرسم العثماني) نسبة إلى الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 98 وانظر التفاصيل في الاتقان للسيوطي 76.

وقد استمر علماء المسلمين طيلة القرون يبذلون جهودا عظيمة في خدمة المصحف، بإضافة النقط والشكل إلى الرسم العثماني الذي كان خاليا منهما، ويرجع الفضل في ذلك إلى أبي الأسود الدؤلي الذي وضع النقاط فوق الحروف لتمييزها، وإلى نصر بن عاصم الليثي ويحي بن يعمر العدواني اللذين وضعا الحركات فوق الحروف لمنع اللحن فيها، ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي ليجعل الشكل على صورته الحالية. ولم تقتصر جهود العلماء في خدمة المصحف على النقط والشكل وإنما عرفوا بمواضع الوقف والابتداء، ووضعوا العلوم المتنوعة لخدمته مثل التفسير وعلوم القرآن والتجويد ومعرفة القراءات وشرح غريب القرآن وكتب إعراب القرآن، فتكونت مكتبة نفيسة في العلوم القرآنية وما زال اللاحقون يضيفون فيها إلى جهود السابقين تحقيقا لإرادة الله في حفظه وبيانه. وقد آثار حفظ القرآن بهذا الإتقان على مر الأزمان دهشة وإعجاب المنصفين من علماء الشرق والغرب فقال لوبلوا: "من ذا الذي لم يتمن لو أن أحدا من تلاميذ عيسى الذين عاصروه قام بتدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة". إنَّ هذه الجهود التي سخرها الله تعالى لحفظ القرآن تحقيقا لوعده قد أفلحت في إيصال النص القرآن كاملا إلى الأجيال المتعاقبة حتى اليوم، في الوقت الذي وقع التحريف على سائر الكتب السماوية الأخرى والتي كتبت بعد أزمان طويلة من حياة أنبيائها. لقد ظل القرآن الكريم يغذي عقول وأرواح المسلمين، ويدخل الطمأنينة والقدرة على مواجهة صعاب الحياة إلى نفوسهم، ويذكي فيهم الطموح إلى المعرفة والاندفاع لبناء الحضارة وتشييد المدنية، ويهيئ لهم أسباب ذلك كله، بما حواه تشريعه من قوانين الأخلاق، ومبادئ الاجتماع، وإقرار العدل، وتحقيق السلام في داخل النفس وفي إطار المجتمع، فضلا عن حفاظه على اللغة العربية التي توحَّد أمة الإسلام، وتسهم بآدابها في توحيد ثقافتهم ومقاييسهم

أثر القرآن فى تبصير الإنسان

الخلقية والاجتماعية وأذواقهم الأدبية والفنية, فلا غرابة إذا ما عبَّر مفكر غربي هو الدكتور موريس عن إعجابه بقوله (إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الإلهية الأزلية لبنى البشر). أثر القرآن فى تبصير الإنسان: إن القرآن يفتح للمؤمن آفاقا بعيدا لاستشراف الحق والخير إذا سلك العبد سبيل الهداية ومجاهدة النفس, وبإلزامها المعروف وتجنبيها المنكر ,أو بتعبير آخر بإقامتها على السنة التى سنها محمد -صلى الله عليه وسلم- وتنفيرها من البدعة ,فهذه المجاهدة للنفس والأخذ بها فى مسالك الهداية والنور تفضي إلى انفساح الآفاق أمام النفس لزيادة الصعود والارتقاء, والإشراق .. فكلما زادت المجاهدة قويت البصيرة وعظمت معرفة الإنسان بالله ثم بالنفس وبالعالم من حوله. وفعل الأوامر واتباع المواعظ يفضى إلى الأجر العظيم فى الدنيا الآخرة, ويفضى إلى زيادة الهداية والاستقامة على نهج الحق. لقد علم الله تعالى عباده المؤمنين أن يدرسوا أنفسهم, ويحللوا دوافع سلوكهم, ويتبصروا فى خطرات النفس, ويستشرفوا نوايا أعمالها وكانت آيات القرآن الكريم تتابع فى رسم منحنيات النفس وبيان مكامن القوة ومواطن الضعف فيها قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬1) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (¬2) وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (¬3).فكان هذا التوجيه دافعا لظهور مدارس علم النفس فى الإسلام، ذلك العلم الذى زرع المسلمون الأوائل جذوره وأهمل الخلف تعهد تلك الجذور .. فلم يصل إلى غاياته إلا فى حضارة الغرب ¬

_ (¬1) العنكبوت:69. (¬2) محمد:17. (¬3) النساء:66 - 67.

ومفاهيمها ,مما حرفه عن الطريق الأصيل الذى وجه إليه القرآن أتباعه, وبهذه الصورة الجاهلية استورده المسلمون فيما استوردوا من ثقافة الغرب, مما كان له أثر خطير فى تشويه صورة الإنسان ودوافع سلوكه لدى مدرسة التحليل النفسي الفرويدية. إن الخواطر التى تبعث على إرتكاب الجريمة تبدأ بتسويل من النفس لتطويع المجرم ,قال تعالى على لسان أبي يوسف عليه السلام: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (¬1) ومن يقرأ قصة يوسف عليه السلام فى القرآن يجد تحليلا دقيقا لكوامن الغيرة والحسد فى نفوس إخوة يوسف, ويجد عواطف الأبوة والرحمة والحب والأمل بالله وعدم اليأس من روحه فى نفس يعقوب, ويجد تحليلا لشخصية بعض النساء ممن ينتمين إلى طبقة الحكم بمصر فى ذلك العصر, بل ويقرأ تعبيرا للرؤيا التنبؤية التى هى جزء من الوحى. وفى قصة قتل قابيل لأخيه هابيل تطالعنا دوافع أول جريمة قتل على الأرض بسبب الحسد, عندما تقبل الله تعالى قربان هابيل ولم يتقبل من الآخر, وهنا يبرز الدافع النفسي لارتكاب الجريمة تلعب فيه النفس الأمارة دورا بارزا قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} (¬2) لكنه سرعان ما ندم على ما فعل, فأراد أن يقدم الإحسان للقتيل ,ولم يأب أن يتعلم من الغراب طريقة الدفن {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (¬3) وهكذا كشفت قصة ابنى أدم عن النفس الأمارة والنفس اللوامة فى لقطة سريعة وبعبارات وجيزة تكشف عن أغوار الإنسان وتعرفه بذاته. وبذلك تتقدم به نحو الرشد الفكرى, بتكوين معتقداته الأساسية التى تمنع وقوعه فى التيه ,والاحساس بعبثية الحياة ولا جدوى الوجود, أو عدم معقولية العالم التى سقط ضحيتها الكثيرون من أبناء القرن العشرين, عندما ضاعت منهم حقائق الدين فى تثبيت أهداف الخلق والحياة ,وتحديد قضية مصير ¬

_ (¬1) يوسف:83. (¬2) المائدة:30. (¬3) المائدة: (31).

الإنسان ,وأخلاقيات السلوك المترتبة على تقرير قضية المصير {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (¬1). إن منهج القرآن فى تعريف الإنسان بذاته يرتكز على الصراحة والحق, فيكشف عن جوانب سلبية كما يكشف عن جوانب إيجابية ويوضح أن جوانب السلب والإيجاب تكمن فى أعماق النفس وتتعايش داخلها ,وقد يظهر جانب على آخر ويطغى بقوته عليه ويبقى الجانب الآخر فى أغوار الإنسان قال تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (¬2) وبين أن الطغيان يجر الإنسان إلى الكفر والرغبة فى الاستغناء عن الله قال تعالى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (¬3) وقال {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬4) وقال {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (¬5) وقال {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (¬6) وكاشف القرآن الإنسان بحقيقة وجوده ,ومصدر متاعبه وصراعاته فى هذه الحياة, وإنه مخلق للمكابدة والتعب والنصب قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬7) فالدنيا دار امتحان وابتلاء وتمحيص, وعلى الإنسان أن يسعى لخلاص روحه ونفسه, بتوحيد الله وطاعته وعبادته وشكره واستغفاره, قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬8) وقال تعالى {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} (¬9) وقال تعالى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (¬10) وكما أن الإنسان لديه استعدادا للطغيان فإن لديه أيضا قابلية للخضوع والاستخذاء قال تعالى عن قوم فرعون وقومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (¬11) وهكذا فإن القرآن انكر الطغيان كما انكر الاستخذاء ,وهما خلقان متلازمان فى المجتمعات, فحيثما يوجد أحدهما يوجد الآخر, وليس من منجى سوى الاستجابة لداعى الله فى التزام الحق والعدل والرحمة والخير, قال تعالى {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} (¬12) وإذا أسرف الإنسان على ¬

_ (¬1) المؤمنون: 115. (¬2) الشمس: 7 - 8. (¬3) العلق: 6 - 7. (¬4) سبأ: 13. (¬5) العاديات: 6. (¬6) عبس: 17. (¬7) البلد: 4. (¬8) النجم: 39. (¬9) القمر: 35. (¬10) نوح: 10. (¬11) الزخرف: 54. (¬12) الأحقاف: 32.

نفسه ونأى جنبا عن ربه, فإن باب التوبة مفتوح أمامه للعودة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬1). إن ما جُبلت عليه النفس الأمارة من سوء يقتضى من الإنسان الحذر منه ومدافعته, وإلا سقط فى المحذور وارتكب جرما بحق نفسه, أو بحقوق من حوله أو بحق الله تعالى. قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (¬2) وقد لا يبدو السوء ظاهرا للعيان, بل مستورا بالخديعة والمكر, مزخرفا بالتزيين والتحسين, يحتاج الكشف عنه إلى العمل والتثبيت والعرض على كتاب الله تعالى وسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وإجماع العلماء. قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3) وسمى القرآن هذا التزيين وسوسة كما فى قول الله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (¬4) وقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} (¬5).ولا شك أن قدرة الناس على معرفة الخير الخالص والحق المحض ليست واحدة, بل يتبع ذلك بصيرتهم ومعرفتهم بالشرع وتمييزهم للخير وللشر, فكلما تيقظت بصائرهم وزادت تقواهم وعظمت معرفتهم بالشرع وحدوده ,ازدادوا قدرة على تمييز نفحات الخالق وخطرات الخير, من وساوس الشيطان وتزيينه ونفثات النفس الأمارة ومكايدها. ولا عذر لمن غفل عن الله وأهمل التعرف على أحكام الشرع بادعاء الجهل, فإن الله تعالى ذم أولئك الذين يلتبس عليهم الخير والشر ويفقدون القدرة على الرؤية الصحيحة فقال تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (¬6) وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (¬7). وكيف يعذر من بلغته دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم_ وفيها البيان والتبصير والمعرفة والتذكير, وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ للشيطان لَمَّةً بابن أدم, ¬

_ (¬1) الزمر:53. (¬2) يوسف:53. (¬3) الأنعام:43. (¬4) الناس:5. (¬5) الأعراف:20. (¬6) الكهف:104. (¬7) فاطر:8.

خلو القرآن من التعارض

وللمَلَك لَمَّةً ,فأما لَمَّةُ الشيطان فإيعادُ بالشر وتكذيب بالحق, وأما لَمَّةً المَلَك فإيعاد بالخير وتصديقُ بالحق, فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ,فليحمَدِ الله ,ومن وجد الأخرى فليتعوَّذ بالله من الشيطان ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ (1)} " (¬2). ولكن معرفة الخير والحق الذى يخطر بنفس المؤمن لا تتم إلا بمعرفة الدين عقيدةً وشريعةً, نظراً وتطبيقاً, لذلك أرسل الله الرسل لتبصير العباد وإنارة الدرب أمامهم {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (¬3). خلو القرآن من التعارض: ولا شك أن كلام الله تعالى وكلام رسوله المبلغ عنه يخلو من التناقض الذى قد يقع فى كلام البشر. قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬4) لأن علم الله تعالى محيط, وإنما يقع فى التناقض من يقصر عن الإحاطة العلمية, أو يغفل عن جزئية فتشذ عن قاعدة يقعدها, أو استقراء يقوم به ,وأما الله الذى أحاط بكل شيء علماً, والذى لا يعزب عنه مثقال حبة فى الأرض ولا فى السماء, فمحال فى حقه التناقض والاختلاف فى القول, وكذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن من المحال أن يتناقض فى كلامه, ولا يدخل فى ذلك أن ينسخ قوله اللاحق قوله السابق فإن النسخ وقع فى الكتاب والسنة معاً فى عصر التنزيل, ولكن قصور علم الإنسان المتلقى عن الله ورسوله وعدم إحاطته بالنصوص لكثرتها أو لعدم وصولها إليه أو لقصوره عن فهمها وحسن توجيهها توجيها صحيحا, أو لقلة بضاعته اللغوية أو عدم إتقانه الصناعة النحوية, أو لعدم معرفته بقواعد إزالة التعارض التى قعَّدها العلماء من المحدثين ¬

_ (¬1) البقرة: 268. (¬2) رواه الترمذى: السنن5/ 219 - 220. (¬3) النور:547. (¬4) النساء:82.

حول ما يزعم من وجود الإعجاز الرياضى فى القرآن

والأصوليين ,مما عنونوا له بـ "تأويل مختلف القرآن" و"تأويل مختلف الحديث". والمؤمن الواعى يتبع السلف الصالح فى طرائق البحث والاستنباط والترجيح. وإلا تاه وسط آلاف الروايات فى مجلدات التفسير والحديث. فإن استغلق عليه فهم أمر عقدي أو شرعي فليقل كما علمنا ربنا تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (¬1). حول ما يزعم من وجود الإعجاز الرياضى فى القرآن: قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (¬2). لقد جائت هذه الآيات فى سورة المدثر بعد ذكر موقف الوليد بن المغيرة من الإسلام ,وقوله عن القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (¬3).وكان الوليد من رجلات قريش ,كثير المال والولد, حسن المعرفة بالشعر ,وبأفانين الكلام, مما يجعله واعيا لكلام الله تعالى مميزا له ,لكنه آثر الكفر عنادا منه للحق, واستكبارا وبطرا وجحودا للنعم العظيمة التى أنعمها الله عليه, مع أنه كان يطمع فى المزيد من النعم, ولعله كان يطمع فى النبوة بعد أن نالته حظوظ الدنيا شبع منها. فيكون الحسد أحد بواعث إنكاره لنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- ,فمضى يعين قومه فى دعايتهم ويوجههم فيها, مدعيا أن القرآن سحر يأخذه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن غيره, ويؤكد لهم أنه لقول بشر كما يذكر القرآن {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (¬4). ¬

_ (¬1) آل عمران:7. (¬2) المدثر:26 - 31. (¬3) المدثر:25.

مع أن المغيرة كان يعلم تماما أنه ليس من كلام البشر, فقد وَضَّحَ لقومه مباينة القرآن لكلام الكهان ومفارقته لشعر الشعراء, ومن هنا توعده الله تعالى بأن يصليه سقر وهو اسم علم لباب من أبواب جهنم, ناره لا تبقى من فيها حيا ولا تذره ميتا, بل تحرقه كلما تجدد خلقه ليخلد فى العذاب ,وهى "لوَّاحة للبشر" تحرق البشرة, التى تتجدد دوماً ,فتبقى حاسة المعذب كاملة ,فلا تخف معاناته على الدوام ,ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (¬1). وقد أخبر الله تعالى رسوله-صلى الله عليه وسلم- بأن سقر عليها تسعة عشر خازنا من الملائكة, وذلك أن أبا جهل ظنهم رجالا فزعم أن عدد قريش كثير, وأنهم يغلبون تسعة عشر رجلا, فبين تعالى أنهم ملائكة, وأن ذكر عددهم المحدود فيه فتنة للمشركين الذين استقلوا عددهم وطمعوا فى غلبتهم, وبين تعالى أن عدد خزنة النار مذكور أيضا في التوراة والإنجيل ,وأن هذا الإتفاق فى العدد لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا ,فيزيد يقين أهل الكتاب والمؤمنين بصحة نبوة أنبيائهم وصدق كتبهم, وأما المشركون فيزدادون شكا ونفاقا فى حقيقة البعث والنار التى وصفها القرآن بأنها تذكرة للبشر {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (¬2). ويتضح من النص القرآنى وكلام السلف فى بيان معناه أن عدد خزنة النار هم تسعة عشر خازنا, وأنهم من الملائكة, وأن الرقم "تسعة عشر" ليس لغزا غامضا ليأتى الباحثون فى القرن العشرين ,فيدخلوا القرآن فى الكمبيوتر ثم يحلوا لغز الرقم , وعندها يتجلَّى لهم مالم يتجلَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أوجه الإعجاز القرآنى -فيما يزعمون-!!! فقد ظهرت خلال العقود الثلاثة دراسات مبينة على أنه ثمة إعجازا رياضيا فى القرآن, وأن هذا الإعجاز كشف عنه الكمبيوتر حيث أظهر أن ثمة خصوصية للرقم "تسعة عشر" فى القرآن حيث تبين الدراسات التى استعانت بالعقل ¬

_ (¬1) النساء:56. (¬2) المدثر:31

الآلى أن عدد حروف البسملة تسعة عشر حرفا, وأن كل كلمة منها يتكرر ذكرها فى القرآن تسعة عشر مرة, وأن فواتح السور وردت فى تسع وعشرين سورة, ومجموع حروف الفواتح أربعة عشر حرفا فيكون رقم جمعها سبعة وخمسين ,وهو من مضاعفات رقم تسعة عشر. ومن خلال التركيز على رقم تسعة عشر يظهر أن بناء القرآن يقوم على هذا الرقم قصدا مما يدل على الإعجاز الرياضى حيث يستحيل على إنسان أن يقيم نظما وفق رقم تسعة عشر ومضاعفاته مما يدل على الإعجاز. وبناء على هذه المقدمات وصل الباحثون المعاصرون إلى نقض كلام المفسرين القدامى ,بل ومعارضة النص القرآنى الذي بين أن خزنة النار تسعة عشر ملكا ,بالقول بأن التسعة عشر التى ذكرت إنما هى عدد حروف البسملة وليست عدد خزنة النار. وقد يبدو للسذج أن الكشف عن أوجه جديدة للإعجاز القرآنى يخدم قضية الإسلام والإيمان فى هذا العصر. ولكن الصحيح أنها تزيد من الحيرة والشك عندما تبنى استنتاجاتها على أسس واهية ومصادافات واتفاقات اعتباطية ساذجة, فالقرآن لا يحمل ألغازا يكشف عنها الكمبيوتر ,ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام لم يكن يجهل معانى القرآن وطريقة نظمه وأوجه إعجازه ,ولم يخبر بأن ثمة أوجها للإعجاز سيكشف عنها الزمان .. والحق أنه ليس فيما ذكره الباحثون بواسطة الكمبيوتر ما يدل على وجود إعجاز رياضى ,وإنما هى بحوث تلفيقية لجأت إلى ملاحظة ظواهر متكررة بالنسبة للرقم تسعة عشر, ويمكن أن يلاحظ هذا الأطراد والتكرار بالنسبة لأرقام أخرى فلا تبقى ثمة خصوصية للرقم (تسعة عشر) ,وسواء أكان الحافز على مثل هذه الدراسات الرغبة فى الإثارة والتجديد ,أو الارتباط بجهات مشبوهة يعنى الرقم تسعة عشر عندها معنى تحيطه الأسرار والألغاز ,فإن على المسلم أن يحذر هذه الدراسات ولا يطمئن إلا لكلام أهل العلم المعروفين بالصدق والغيرة على دين الله.

إن إعجاز القرآن فى نظمه وأسلوبه ,وقد تحدَّى العرب-وهم أمة البلاغة والفصاحة- أن يأتوا بمثله فعجزوا ,ودام التحدى عبر تاريخ الإسلام دون أن يحقق الأعداء استجابة ناجحة للتحدى .. ثم أن شريعة الإسلام بما تضمنته من أحكام عادلة وعبرت عنه من رؤية شاملة لمصالح البشر وتقدير لآمالهم وآلامهم ,وتحديد دقيق لعلاقاتهم ,وإبراز للحق والواجب ,وكل ذلك بنى على مراعاة المصلحة والتيسير للناس ورفع الحرج عنهم ومنع التعسف والظلم. وكذلك فقد مضى على نزول القرآن أكثر من أربعة عشر قرنا دون أن يظهر العلم المتطور والبحث المتقدم أية تناقضات بين ما ذكره القرآن وما كشف عنه علم الإنسان النظرى والتجريبى فهذا كله دليل على أن القرآن من عند الله وليس كلام محمد -صلى الله عليه وسلم-,بل أن الفرق واضح بين بين أسلوب القرآن وأسلوب الرسول كما يظهر فى أحاديثه. ومعروف لدى نقاد الأدب استحالة أن يكتب الكاتب بأسلوبين متمايزين تمايز أسلوبي القرآن والحديث. وهذه الأوجه تغنى عن محاولة افتعال أوجه أخرى للإعجاز مثل فكرة الإعجاز الرياضى التى لم تبن على حقائق العلم بل استغلت موافقات معينة لخدمة أهداف مريبة سواء اتصلت بتدعيم مكانة الرقم تسعة عشر عند البابيين والبهائيين ,أو بالكسب المادى عن طريق الإثارة وادعاء التجديد مما يؤدى إلى رواج المنشور-وانخداع السذج بما فيها من معلومات غريبة ظاهرها خدمة الإيمان ,وباطنها التشكيك والنقض لأقوال السلف بل ولصريح القرآن. وقد حذَّر رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من تفسير القرآن بالرأى دون دليل فقال: (من قال فى القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار) (¬1).وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ) (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذى وقال: هذا حديث حسن (سنن2/ 157). (¬2) رواه الترمذى: (سنن2/ 157).

إنَّ القرآن معجزة بيانية ,وإن تشريعاته المحكمة دليل على أنه من عند الله ولكنه ليس المعجزة الوحيدة لمحمد-صلى الله عليه وسلم- كما ذهب إلى ذلك البعض من مؤلفى السيرة النبوية المعاصرين (¬1). بل ثمة معجزات أخرى ثابتة بأحاديث صحيحة لا يمكن ردها أو تأويلها ,وليس من داع لإنكارها سوى الخضوع لمنهج البحث المادى الذى ينكر ما وراء الطبيعة من عالم الغيب والروح. وفيما يلى أعرض للمعجزات الحسية التى جرت فى عصر السيرة. ¬

_ (¬1) منهم الدكتور محمد حسين هيكل فى كتابه (حياة محمد).

معجزات الرسول الحسية

معجزات الرسول الحسية كان المشركون يطالبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالآيات الحسية التى تخرق سنن الحياة وقوانين الطبيعة, وكانوا يقصدون من وراء طلبهم إظهار عجزه عن ذلك والسخرية منه ولعل المؤمنين-وقد ضاقت بهم السبل-كانوا يتطلعون إلى الاستجابة لطلب المشركين رجاء إيمانهم ,خاصة أن المشركين كانوا يحلفون ويؤكدون بأنهم سيستجيبون للإسلام حال ظهور المعجزات الخارقة. لكن الإسلام لم يعتمد على المعجزات الخارقة فى اجتذاب قلوب الناس إلى الإيمان, بل اعتمد على إقناع عقولهم واجتلاب قلوبهم وملء وجدانهم بمعانى القرآن, الذى يمثل المعجزة الدائمة الباقية, مما يمكن الأجيال المتعاقبة إلى التأثر بهذه المعجزة البيانية ,وما تحمل من معانى الحق والصدق, وما تزخر به من سمو التشريع ,وحسن الإرشاد إلى مكارم الأخلاق ,فضلا عن قوة التأثير الروحى والنفسي فى السامع والقارئ. وقد أخبر الله تعالى بأن المشركين لن يؤمنوا حتى لو جاءتهم المعجزات الخارقة, لأن الله تعالى يقلب افئدتهم وأبصارهم ,ولا يريد هدايتهم ,فهم أهل عناد واستهزاء وجحود للحق, مثلهم لا يستسلم للحق مهما وضح لهم وسوف يجدون لكل آية تأويلا ,ولكل معجزة تفسيرا ,إذ أنهم طبعوا على الكفر والتمرد على الله تعالى ,ومن كان هذا حاله لا يعدم التأويلات والتفسيرات والظنون والتقولات قريبة وبعيدة. قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (¬1). ¬

_ (¬1) الأنعام:108 - 110.

وما دامت الهداية بيد الله وحده, فمن لم يشأ أن يهديه لا يهتدى حتى ولو رأى الملائكة عياناً وكلمه الموتى جهارا وعاين كل شئ معاينة فانجلى له الأمر تماما ,وهذا فيمن كتب الله عليهم الشقاء ,وأما من كتب لهم السعادة والإيمان فهم الذين استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقد أكد القرآن على هذه الحقيقة فى آيات كثيرة .. فقال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} (¬1). وهنا يكشف الله تعالى عن حقيقة أخرى هى سنته فى الكافرين إذا جحدوا المعجزة الحسية ,فهو يعجل لهم العقاب ولا يفسح لهم الوقت للتوبة ,فكان عدم إجابة طلب المشركين رحمة بهم وإنظارا لهم ليثوب إلى الحق من كتبت له السعادة والإيمان ,وأما أهل الشقاء فلن تغير المعجزات مصيرهم مهما بلغت عظمتها واتسع خرقها لقوانين الحياة والطبيعة, وكما قال تعالى فى آية أخرى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (¬2). وهكذا حتى لو استجاب الحق لطلب المشركين المعجزات الحسية ,فإنهم سيتأولونها بأعمال السحرة, ويبطلون حجيتها عنادا واستكبارا ,تحقيقا لما كتبه الله عليهم من الشقاء. وهكذا فإن المعجزة القرآنية انفردت بالظهور والتأثير الكبير ,لما تتسم به من خلود يتسق مع خلود الرسالة الإسلامية وعمومها, أما بقية المعجزات الحسية فقد ظهرت غالبا للصحابة رضوان الله عليهم, وكان أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بينا, وقد استجابوا لدعوته قبل ظهورها ,فلم تكن سببا فى إيمانهم ,وإنما كان إطلاعهم على أحواله عليه الصلاة واسلام وكرامته على الله تعالى مما يزيد فى انشراح صدورهم وطمأنينة قلوبهم, بل كثيرا ما وقعت المعجزات الحسية لإزالة الكرب ¬

_ (¬1) الأنعام:7 - 8. (¬2) الحجر:14.

عنهم أو سد جوعهم أو إلحاق الهزيمة بعدوهم. أما المعجزة القرآنية فكانت تحديا مباشرا للكفار وسببا فى إسلام من أسلم منهم بالإضافة إلى تأثير شخص النبي-صلى لله عليه وسلم- فى حسن خلقه الجم ,ولطف حديثه ,وكمال معانيه وسدادها. قال ابن تيمية -رحمه الله- فى كتاب النبوات: "والقرآن مما يعلم الناس -عربهم وعجمهم - أنه لم يوجد له نظير له مع حرص العرب وغير العرب على معارضته, فلفظه آية, وأخباره آية, وأمره ونهيه, ووعده ووعيده آية, وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية, وإذا ما ترجم بغير العربي كانت معانيه آية, كل ذلك لا يوجد له نظير فى العالم" (¬1). وهذا تفصيل جميل لأوجه الإعجاز القرآنى لفظا ومعنى, وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكانة المعجزة القرآنية فى دعوته ,وأنها الغالبة على سائر معجزاته فقال: "ما من الأنبياء إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ,فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" (¬2). ورجاؤه -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أكثر اتباعا ممن سبقه من الأنبياء لخلود رسالته ,وخلود معجزاته القرآنية التى تكفل انضواء اتباع جدد تحت رايته حتى قيام الساعة. قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬3) وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬4). وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬5). ¬

_ (¬1) ابن تيمية: النبوات 164. (¬2) متفق عليه (صحيح البخارى9/ 3 وصحيح مسلم1/ 134). (¬3) الإسراء:88. (¬4) هود:14. (¬5) يونس:38.

وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (¬1) وقال: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (¬2). وهكذا تحدى القرآن الأجيال البشرية عبر القرون بأن يأتوا بمثل هذا القرآن ,أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله ,أو بحديث مثله, فلم يجب أحد على تحديه, فبان أنه أنزل بعلم الله. إن إنكار البعض للمعجزات الحسية غير القرآن لا وجه له ,فقد ثبتت بالأحاديث الصحيحة المستفيضة, فمعناها متواتر من حيث الدلالة على وقوع معجزات للنبي -صلى الله عليه وسلم- فيها خرق للناموس الطبيعى, كما فى حادثة شق الصدر فى العام الخامس من عمره - صلى الله عليه وسلم -.ثم تكرر ذلك قبل الإسراء والمعراج وهو فى الثانية والخمسين من عمره, وكلتا الحادثتين فى الصحيحين. فعن أنس بن مالك -رضى الله عنه-: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل -عليه السلام- وهو يلعب مع الغلمان ,فأخذه فصرعه فشق عن قلبه, فاستخرج القلب, فاستخرج منه علقة, فقال: هذا حظ الشيطان منك, ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم, ثم أعاده فى مكانه ,وجاء الغلمان يسعون -يعنى ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل فاستقبوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط فى صدره" (¬3). وفى الصحيحين عن أنس قال: "كان أبو ذر يحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: خرج سقف بيتى وأنا بمكة , فنزل جبريل ,ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم, ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه فى صدرى, ثم أطبقه, ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى السماء الدنيا" (¬4). ولا شك أن خبر شق الصدر لا تتقبله عقول الماديين ,أما المؤمنون بالغيب فهم يسلمون به تبعا لتسليمهم بالوحى والنبوة ,وهما خرق للقانون المادى ,لا ¬

_ (¬1) البقرة:23. (¬2) الطور:33. (¬3) رواه الإمام مسلم فى صحيحه1/ 147. (¬4) رواه البخارى فى صحيحه كما فى فتح البارى1/ 458 ومسلم فى صحيحه1/ 148.

تقبله الفلسفات الحسية لأنه ظاهرة لا يمكن إخضاعها لتجاريب المختبرات , ولكن الإيمان بالغيب شرط الإسلام: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (¬1). كان المشركون إذا يطالبون النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمعجزات الحسية ,واعدين بالإيمان إذا رأوا وسمعوا ,ولم يعتمد منهج الدعوة المحمدية أسلوب المعجزات الحسية فى هداية الناس إلى الله ونبيه ورسالته اعتمادا كبيرا, ولكن السيرة المحمدية لم تخل من خرق للسنن الطبيعية ,لكن الخرق كان يحدث أمام المؤمنين غالبا ولم يكن سببا فى إيمانهم ,لكنه كان يطمئن قلوبهم ويزيدهم إيمانا ,فضلا عن رفع الشدائد وحل الأزمات وتيسير الصعاب عليهم. ومن الأحداث النادرة التى استجاب الله تعالى فيها لتحدى المشركين ما رواه البخارى فى صحيحه من "أن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية, فأراهم إنشقاق القمر فقال عليه الصلاة والسلام: اشهدوا" (¬2). وقد فصل حديث صحيح حادثة انشقاق القمر فى المرحلة المكية من حديث الصحابى جبير بن مطعم -رضى الله عنه- قال: (انشق القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصارت فرقتين, فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل, فقالوا: سحرنا محمد وقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم) (¬3).ولم يكن قولهم سحرنا محمد تعبيرا عن اقتناعهم , وإنما كان ذريعة للتخلص من وعدهم بالإيمان عند رؤية المعجزة ,فالفرق بين معجزة النبى وعمل الساحر ظاهر ,فهم لم يألفوا من رسول الله تعلم السحر وتعاطيه, ولذلك لم يجر على لسان المشكرين بيان اكتسابه ومن علمه إياه. ثم إن النبى يريد هدايتهم إلى الحق وليس جرَّ نفع لنفسه كما هو شأن الساحر. وإذا كان انشقاق القمر استجابة لطلب المشركين وكشفاً لعنادهم وكذبهم فإنَّ حادثة الإسراء والمعراج وما رافقها من وصف دقيق لبيت المقدس قدَّمه الرسول ¬

_ (¬1) البقرة:3. (¬2) رواه البخارى فى صحيحه6/ 631. (¬3) رواه الإمام أحمد فى مسنده 4/ 81 وروى ابن حبان طرفه (موارد الظمآن 519).

عليه الصلاة والسلام أمام المشركين ولم يكن قد رآه, وما رأى من آيات ربه الكبرى فى المعراج كل ذلك كان معجزة دون أن يطالبه بها أحد ,بل كانت فتنة وامتحانا ميزت بين المؤمنين والكافرين. وقد وقعت معجزات حسية أخرى للرسول -صلى الله عليه وسلم- أمام بعض المشركين فى أوقات متابينة من المرحلة المدنية, لكنها لم تؤد إلى إيمان أحد منهم بصورة مباشرة استجابة لقهر المعجزة, بل تأخر إيمانهم بعدها حين شاء الله لهم الهداية, فقد حدث فى أحد أسفار الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة أن نفد الماء ,فأرسل اثنين من الصحابة يرتادان المياه, فلم يجدا ماء بل وجدا امرأة تحمل مزداتين من ماء على بعير لها, فقدما بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ففرغ من مائها فى إناء ثم سقى الناس منه, ثم أعاد إليها المزداتين كاملتين مع هدايا من الطعام ,وقال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا ولكن الله هو الذى اسقانا, فلما رجعت المرأة إلى أهلها قالت عنه فعل كذا وكذا, فوالله إنه لأسحر الناس, أو إنه لرسول الله حقا ولم تسلم وقومها إلا بعد حين (¬1). فرغم ما لاحظته المرأة من المعجزة الحسية الظاهرة, فإنها لم تسلم نتيجة ذلك لأن العقل الكافر قد يخلط ما بين معجزة النبي والسحر عند شيوع الجهل وضعف الوعى وانعدام التمييز بين الحق والباطل. ومثل هذا تكرر مع رجل من بنى عامر-فيما يرويه الإمام أحمد بسند صحيح قال: (أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل من بنى عامر فقال: يا رسول الله أرنى الخاتم الذي بين كتفيك فإنى من أطب الناس. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا أريك آية؟ قال: بلى. قال فنظر إلى نخلة فقال: ادعى ذلك العَذْقَ. قال: فدعاه فجاء ينقر حتى قام بين يديه. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:ارجع فرجع مكانه. فقال العامرى: يا آل عامر ما رأيت كاليوم رجلا أسحر) (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري فى صحيحه1/ 447. (¬2) المسند: 1/ 223.

ولكن أمر المرأة صاحبة المزادة والرجل العامرى يختلف عن موقف قريش, لأن المرأة والعامرى لم يكونا يعرفان الرسول-صلى الله عليه وسلم-,كما كانت قريش تعرف من صدقه وحسن سيرته وجوانب دعوته, وأنه رفض عروضها الدنيوية ,وهى مطلب الساحر ومراده من السحر. والحق أن اطلاع المشركين على المعجزات الحسية للرسول -صلى الله عليه وسلم- كان قليلا إلى جانب المعجزات الحسية الكثيرة التى شهدها المؤمنون فازدادوا إيمانا واستبشاراً .. قال عبد الله بن مسعود -رضى الله عنه-: (كنا نعد الآيات بركة ,وأنتم تعدونها تخويفا, كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى سفر فقلَّ الماء فقالوا: اطلبوا فضلة من ماء, فجاءوا بآناء فيه ماء قليل ,فأدخل يده فى الإناء ثم قال: حىَّ على الطهور المبارك, والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ,ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل) (¬1). وقد استفاضت الأخبار الصحيحة فى تكثير الماء والطعام بين يديه فى السفر والحضر, فقد توضأ سبعون صحابياً فى قدح فيه ماء يسير مدّ النبي فيه أصابعه الأربع, ومرة أخرى توضأ زهاء ثلثمائة من إناء وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده فيه ,فجعل الماء ينبع من بين أصابعه (¬2). وقد تكرر منه ذلك فى الحديبية مرارا ,فقد نزل المسلمون على ثمد قليل الماء فنزحوه, واشتكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-العطش "فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ,فوالله ما زال يجيش لهم بالرى حتى صدروا عنه" (¬3). ومرة أخرى فى الحديبية عطش الناس وبين يدى النبي ركوة فتوضأ منها ,واشتكى الناس إليه أن ليس عندهم ماء للشرب وللوضوء غير ما فى الرَّكوة ,فوضع يده فى الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون ,فشرب ألف وخمسمائة من الصحابة وتوضأوا. وهذا الخبر يرويه جابر بن عبد الله فى صحيح البخارى ,وقد شهده العيان من الصحابة وهم جمع غفير ,وما أنكره أحد (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخارى فى صحيحه 6/ 587. (¬2) أخرجه البخارى فى صحيحه 6/ 580 - 581. (¬3) أخرجه البخارى فى صحيحه 5/ 329. (¬4) صحيح البخارى 6/ 581.

ومن ذلك ما حدث فى غزوة تبوك حيث أخبر معاذ بن جبل بأن عين ماء تبوك كانت تبضُّ بشئ من ماء, وأن المقاتلين وقفوا عليها ,ومعروف أن جيش تبوك هو أكبر جيش قاده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فماذا يجدى معهم ماء لا يكفى للرجل الواحد إلا بعد جمعه فى إناء! فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يديه ووجهه بماء جمع له من العين في إناء, ثم أعاده فى العين فجرت بماء منهمر, فقال لمعاذ: "يوشك يا معاذ أن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا" (¬1). وكذلك فقد استفاضت الأخبار الصحيحة فى تكثير الطعام بين يديه عليه الصلاة والسلام, منها حديث جابر بن عبد الله -رضى الله عنه-فى الخندق, حيث رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعصب بطنه بحجر من الجوع, فقد لبث المسلمون ثلاثة أياما لا يذوقون طعاما ,فطلب جابر من امرأته أن تصنع طعاما فذبحت ماعزا وطحنت شعيرا, فصنعت من اللحم والشعير برمة ,وذهب جابر فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى طعامه قائلا: طعيم لى فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان ,فصاح النبي بأهل الخندق ودعاهم إلى طعام جابر وهم ألف ,فأسقط فى يد جابر واشفق من قلة الطعام ,فبارك النبي فى الطعام قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا, وإن برمتنا لتغط كما هى, وإن عجيننا ليخبز كما هو (¬2). وقد تكرر تكثير الطعام فى وليمة زواجه-صلى الله عليه وسلم- من زينب رضى الله عنها ,فقد أهدت له أم سليم حَيْسةً فى برمة صنعتها من تمر وسمن وأقط, فدعا النبى-صلى الله عليه وسلم- رجالا غصَّ بهم البيت ودعا بما شاء الله له من الدعاء ثم أكلوا منها جميعاً (¬3). وفى غزوة تبوك نفدت أزواد المسلمين حتى هموا بنحر بعض إبلهم التى تحملهم ,فقال عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-:يا رسول الله لو جمعت ما بقى من أزواد القوم فدعوت الله عليها ففعل, فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره ¬

_ (¬1) رواه مسلم فى صحيحه3/ 1784. (¬2) رواه البخارى ومسلم (صحيح البخارى7/ 395 وصحيح مسلم 3/ 1610). (¬3) رواه البخارى فى صحيحه 9/ 226.

فدعا عليها حتى ملأ القوم أزودتهم فقال -صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة (¬1). وقال أبو هريرة-رضى الله عنه-: (أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-بتمرات ,فقلت أدع الله لى فيهن بالبركة. قال: فصفَّهنَّ بين يديه ثم دعا. فقال لي: اجعلهن فى مزود وأدخل يدك ولا تنثره, قال فحملت منه كذا وكذا وسقا فى سبيل الله ونأكل ونطعم ,وكان لا يفارق حقوى فلما قتل عثمان -رضى الله عنه -انقطع عن حقوى فسقط (¬2). ومن هذه المعجزات الحسية الطبيَّة أن عبد الله بن عتيك عندما ذهب لقتل اليهودى أبى رافع لما كان يفعل من أذى الرسول والإعانة عليه, سقط عبد الله من درجة فى بيت أبى رافع, فانكسرت ساقه ,فلما رجع فأخبر رسول الله بقتل أبي رافع وأن رجله انكسرت قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:ابسط رجلك. قال: فبسطت رجلى فمسحها فكأنَّها لم اشتكها قط (¬3). وأصيبت ساق سلمة بن الأكوع فى غزوة خيبر فأتى النبى -صلى الله عليه وسلم- قال سلمة: فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيت حتى الساعة (¬4). وذهبت خالة السائب بن يزيد به وهو صغير إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-فقالت: إن ابن أختى شاك فادع الله له, فدعا له. فمات السائب وهو ابن أربع وتسعين وكان جلدا معتدلا, فكان يقول: لقد علمت ما متعت به سمعى وبصرى إلا بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم (¬5). ومسح رسول الله على وجه قتادة بن ملحان, فصار كأن على وجهه الدهان ,أو كالمرآة تنعكس عليه الأشياء (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم1/ 55. (¬2) رواه الإمام أحمد فى مسنده 2/ 352,والترمذى فى جامعه وقال: حسن غريب من هذا الوجه وقد روى من غير هذا الوجه عن أبى هريرة (سنن الترمذي 5/ 685 حديث رقم 3839). (¬3) رواه البخارى فى الصحيح 7/ 34. (¬4) المصدر السابق 7/ 475. (¬5) رواه البخارى فى صحيحه 4/ 163. (¬6) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح (المسند5/ 28و81).

وأما إخباره صلى الله عليه وسلم بالأمور المغيَّبة ,فهو لا يدل بالطبع على معرفة الغيب إذ ليس ذلك إلا لله وحده, ولكنه يخبر بما يعلمه الله بواسطة الوحى, فعن أبي هريرة-رضى الله عنه-:أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي فى اليوم الذى مات فيه, خرج إلى المصلى فصفَّ وكبَّر أربعا (¬1). ومن ذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن استشهاد القادة الثلاثة فى غزوة مؤتة ,قبل وصول الخبر إلى المدينة ,فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أخذ الراية زيد فأصيب ,ثم أخذها جعفر فأصيب ,ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ,وإن عينى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتذرفان ,ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له" (¬2). ومن ذلك ما رواه أبو حميد الساعدى فى سياق غزوة تبوك: "وانطلقنا حتى قدمنا تبوك, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ستهبُّ عليكم الليلة ريح شديدة, فلا يقم فيها أحد منكم, فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة, فقام رجل فحملته الريح حتى القته بجبلي طيئ" (¬3). وعندما قدَّمت له امرأة طعاماً مع جمع من أصحابه فلاك لقمة فى فمه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير أذن أهلها؟ فقالت المرأة: يا رسول الله إنى أرسلت إلى البقيع يشترى لى شاة. فلم أجد, فأرسلت إلى جار لى قد اشترى شاة أن أرسل إلى بها بثمنها, فلم يوجد, فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلى بها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطعميه الأساري" (¬4). وأما عصمة الله تعالى له فقد روى الصحابي جابر بن عبد الله (أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم قبل نجد, فلما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قفل معه, فأدركته القائلة فى واد كثير العضاه, فنزل رسول الله-صلى الله عليه وسلم-,وتفرق الناس يستظلون بالشجر, ¬

_ (¬1) رواه البخارى فى صحيحه 3/ 116. (¬2) رواه البخارى فى صحيحه 3/ 116 من حديث أنس بن مالك. (¬3) رواه مسلم فى صحيحه 4/ 1785. (¬4) أخرجه أبو داؤد بإسناد حسن (سنن3/ 627 حديث رقم 3332,ومسند أحمد 5/ 294.

فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق سيفه، ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذ عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله - ثلاثا -، ولم يعاقبه وجلس" (¬1). ومما يدل على عصمة الله له ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجئتهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتَّقي بيديه. قال: فقيل له: مالك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" (¬2). وأما إحساس النبات والجماد به ومخاطبته لهما فمن ذلك حديث جابر بن عبد الله قال: "إن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا؟ قال: إن شئت. فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكَّت حتى استقرَّت" (¬3). ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" (¬4). ومن ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها -: "كان لآل رسول الله وحش، فكان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَّ ولعب في البيت، فإذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن ولم يتحرك كراهية أن يؤذيه" (¬5). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 3/ 229. (¬2) رواه مسلم في صحيحه 2/ 2154. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 4/ 319. (¬4) رواه مسلم في صحيحه 4/ 1782. (¬5) رواه أحمد بإسناد حسن (المسند 6/ 209).

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار عن أذى جمل قائلا: "ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكاك إليَّ وزعم إنك تجيعه وتُدئبُهُ" (¬1). وقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالتراب في وجوههم في عدة مواقف من السيرة، فكان للتراب أثر في هزيمتهم. كما أخبر شهود عيان من الصحابة رضوان الله عليهم، فأخبر العباس بن عبد المطلب وسلمة بن الأكوع أنه صلى الله عليه وسلم لما غشيه المشركون في غزوة حنين، نزل عن بغلته فأخذ ترابا أو حصيات من الأرض، ثم استقبل به وجوهم فقال: "شاهت الوجوه. فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين" (¬2). وقد أخبر عبد الله بن عباس (أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر، فتعاهدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأينا محمدا قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله. قال: فأقبلت فاطمة تبكي حتى دخلت على أبيها فقالت له: ما علمت .... " قال: يا بنية أدني وضوءا فتوضأ، ثم دخل المسجد فلما رأوه قالوا هو هذا. منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رءوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه. قال: فما أصابت منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا" (¬3). إذا شهد المسلمون معجزات كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تزيدهم إيمانا واستبشارا، وكانت متنوعة في جنسها، متكررة في أوقات عديدة، ما بين تكثير الماء والطعام حتى ليكفي ماء وطعام الاثنين والثلاثة عددا كبيرا يبلغ الألف أو يزيد، وما بين تطبيب المرضى بالدعاء والمسح على موضع الأذى، وما بين ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح (المسند 1/ 250 و 269). (¬2) رواه مسلم واللفظ لسلمة بن الأكوع (الصحيح 3/ 1398 و 1402). (¬3) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن (المسند 1/ 368).

الأخبار عن أمور مغيبة فتقع كما أخبر، وما بين انصياع الحيوان والنبات والجماد له وهي لا تعقل، وما بين عصمة الله له من القتل، واستجابة الله لدعائه. وقد مال بعض الباحثين إلى إنكار المعجزات الحسية بحجة أنها لا تتمشى مع نمط التفكير العقلي الحديث. ولا تتقبلها الفلسفات الحديثة، ولا مناهج البحث المعاصرة. وقد اعترف هؤلاء بالمعجزة القرآنية وحدها، لأنها محسوسة لأهل هذا العصر يمكنهم دراستها والحكم على أوجه الإعجاز فيها، أما المعجزات الحسية التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يمكن إخضاعها للدراسة، ولا تتقبلها الأعراف العلمية السائدة. ونظرا لأن المصادر الإسلامية الصحيحة نقلت أخبار المعجزات الحسية، فإن إنكارها فيه اتهام لشهود العيان من الصحابة رضوان الله عليهم بالكذب أو بضعف العقل وخلل التصور، بحث نقلوا أخبارا تصوروها صحيحة وليست كذلك، ولا يخفى ما في الإتهامين من إجحاف وتناقض فقد قبلنا من نفس شهود العيان ما يتعلق بالعقيدة والشريعة، وتعرفنا على أخبار النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا قبلنا منهم رواياتهم في هذا كله، وأنكرناها عندما تعرضت لأخبار المعجزات الحسية، وإن كانت العلة أن العقل المادي يرفض المعجزات، فإنه يرفض الوحي كله ويرفض الإيمان بالله وبرسالاته، فلا مناص للمؤمن بالغيب من قبول الروايات الصحيحة المتعلقة بالمعجزات الحسية.

منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة

منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة لمحة عن الشعائر التعبدية في العهد المكي: لم تصح رواية في تشريع الوضوء بمكة، ولكن ثمة روايات ضعيفة يسوقها ابن إسحق مرة بمناسبة فرض الصلاة (¬1)، وأخرى في قصة إسلام عمر بن الخطاب (¬2)، ويستشف من الآية المكية {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬3) إن الوضوء شرع بمكة، وقد رجح ذلك السهيلي (¬4). وبه قال جمهور العلماء (¬5). رغم أن الآية الكريمة المتعلقة بالوضوء نزلت بالمدينة باتفاق وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬6) وقد أسمتها عائشة - رضي الله عنها - آية التيمم، ربما للإشارة إلى أن الوضوء كان مفروضا قبل أن يكون قرآنا يتلى (¬7). وكانت قبلة الصلاة بمكة نحو بيت المقدس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقف بين الركنين اليماني والأسود، فيجمع بين استقبال الكعبة وبيت المقدس (¬8). وقد ورد ذكر الصلاة في عدة سور مكية مثل الآية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (¬9) والآية {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (¬10) و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ ¬

_ (¬1) سيرة ابن هشام 1/ 244 حيث يسوق ابن إسحق الخبر دون إسناد، وروى الحديث مسندا إلى زيد بن حارثة لكن في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف هنا. (¬2) سيرة ابن هشام 1/ 345. (¬3) المدثر: 4 وراجع تفسيرها في ابن كثير 4/ 441. (¬4) الروض الأنف 3/ 13. (¬5) مسلم (بشرح النووي) 3/ 102. (¬6) المائدة: 6. (¬7) الروض الأنف 3/ 13. (¬8) مسلم (بشرح النووي) 5/ 9 و 10 وابن هشام 1/ 347. (¬9) العلق: 9 - 10. (¬10) طه: 132.

تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬1) و {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (¬2). وتشير بعض الأخبار الضعيفة إلى أن أوائل المسلمين كانوا يصلون، لكنها لا توضح كيفية صلاتهم، ولا عدد ركعاتها إن كان فيها ركوع. ولكنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج مع علي - رضي الله عنه - إلى شعاب مكة يصليان سراً (¬3). وأن الصحابة الخمسة الذين دعاهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أسلموا وصلوا (¬4)، على أن عائشة - رضي الله عنها - ذكرت في حديث صحيح أن الصلاة كانت أول فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر (¬5)، وبين المزني - صاحب الإمام الشافعي - أن الصلاة قبل حادث الإسراء والمعراج كانت صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها (¬6). وفي حادثة الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة - في رواية مرسلة للزهري - فرضت الصلاة في خمسة أوقات (¬7)، وحدد عدد ركعاتها، ثنتان للصبح وثلاث للمغرب وأربع للظهر والعصر والعشاء، في السفر والحضر ثم قصرت الصلاة الرباعية بعد الهجرة إلى المدينة فصارت ركعتين فقط للمسافر (¬8). وكان المسلمون في المرحلة المكية يؤدون الصلاة سراً (¬9)، خوفا من بطش المشركين، ونادرا ما جهروا بصلاتهم كما فعلوا مرة عند إسلام عمر بن الخطاب حيث صلى معه بعضهم في (¬10) الكعبة. وكان الكلام في الصلاة مثل رد السلام ¬

_ (¬1) الأعلى 14 - 15. (¬2) المدثر 42 - 43. (¬3) أكرم العمري: الرسوم في مكة ص 65. (¬4) ابن هشام: السيرة 1/ 251 - 252. (¬5) البخاري: الصحيح (فتح الباري (1/ 464). (¬6) السهيلي: الروض الأنف 1/ 11 - 12. (¬7) مسلم (بشرح النووي) 5/ 109. (¬8) البخاري: صحيح (فتح الباري 7/ 267 - 268). (¬9) ابن هشام: سيرة 1/ 263. (¬10) ابن هشام: سيرة 1/ 342.

وتشميت العاطس مسموحا به ثم نهي عن الكلام في الصلاة بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة من المرحلة المكية (¬1). وقد شرع قيام الليل بنزول سورة المزمل في المرحلة المكية {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (¬2). وفي المرحلة المكية شرعت الزكاة بمعناها العام، وهو الحث على الصدقات وإعطاء المحروم وإطعام المسكين دون تحديد للأنصبة والمقادير، فوصفت السور المكية المؤمنين بأنهم {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} و {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وأنه {حَقٌّ مَعْلُومٌ} (¬3). أما تحديد النصاب ومقادير الزكاة فقد شرع في سنة اثنتين من الهجرة (¬4). وأما صلاة الجمعة فقد كانت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وقد تمكن المسلمون في المدينة من أدائها، فقد روى أبو داؤد بإسناد حسن قول كعب ابن مالك الأنصاري: "أول من جمع بنا أسعد بن زرارة في هزم البيت، في نقيع يقال له: نقيع الخضعات .. وقال كعب إنهم كانوا أربعين رجلا" (¬5). لقد تأخرت بعض الفرائض التي اعتبرت من أركان الإسلام إلى المرحلة المدنية مثل الصوم والحج أما الصوم فقد كانت فرضيته يوم الاثنين لليلتين خلتا ¬

_ (¬1) البخاري: صحيح (فتح الباري 3/ 72 - 73 وابن القيم: زاد المعاد 2/ 118 - 119 وابن كثير: البداية والنهاية 3/ 92. (¬2) المزمل: 1 - 8. (¬3) أنظر سورة "المؤمنون" آية 1 - 4 وسورة الروم آية 39، وسورة الذاريات آية 15 - 19 وسورة المعارج آية 19 - 25. (¬4) ابن كثير: البداية والنهاية 3/ 347. (¬5) سنن أبي داؤد 1069 ومستدرك الحاكم 1/ 281 وسنن البيهقي 3/ 176 - 177 وقد صرح ابن إسحق بالتحديث عند الحاكم والبيهقي، وقال البيهقي: "وهذا حديث حسن الإسناد صحيح".

من شعبان من السنة الثانية من الهجرة. وأما الحج فقد فرض سنة ست للهجرة، وابن القيم أن افتراضه كان سنة تسع. ويتمثل منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة بإقامة الفرائض والإكثار من النوافل والاهتمام بالعبادات القلبية من ذكر وخشوع وإنابة رغم غفران الله له ورضاه عنه. قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (¬1)، وقد نزلت سورة الفتح في طريق عودة المسلمين من الحديبية إلى المدينة، بعد عقد صلح الحديبية، وكان فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بها عظيما، لما فيها من إقرار لموافقته على الصلح، وتبشير للمسلمين بأن ما تم فتح لهم، لما وراءه من الخير الكثير الذي تحقق بانتشار الإسلام بعد الصلح, وكذلك فإن الآية أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة العظيمة {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}. فما كان حال النبي الموعود بغفران الذنوب؟ هل ترك العمل وجنح إلى الراحة؟ وهل قلل ذلك الغفران من جده في العبادة واجتهاده في الجهاد، وهل قنع بما قدم وطوى صفحات الكفاح في السلم والحرب؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، بل مضى دءوباً في ملء أشواق روحه، وتطلعات قلبه الذي انغمر بمحبة الله تعالى، ولم يعد يفيض إلا الذكر والشكر، قلبه الذي ينبض بذكر الله ويخفق بشكره لا يسعه إلا المضي في السبيل الذي اعتاده، لقد بلغ الستين من عمره أو كاد حين نزول سورة الفتح، وكان العقدان الأخيران حافلين بمهام جسيمة تمثلت في حمل أعباء الرسالة وتبليغها، ومقارعة خصومها بالحجة والبيان في مكة، ثم بالحجة والسنان في المدينة وهو في صراعه الطويل من أجل الحق لا يدع التزود من طاقات الروح الهائلة بوصلها بالخالق القدير، فكان كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان يصلي ليلا طويلا ¬

_ (¬1) الفتح: 1.

قائما، وليلا طويلا قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس ركع وسجد وهو جالس" (¬1). ولم يكن يكلف نفسه فوق ما تطيق، بل يعمل ما يتيسر له حسب مراحل عمره وقوة جسده، فلما ثقل جسمه الشريف ولم يعد يطيق القيام الطويل في صلاة التطوع أخذ يصلي قاعدا، قالت عائشة رضي الله عنها: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان أكثر صلاته وهو جالس" (¬2). وكان قيامه لصلاة الليل طويلا، وكان أصحابه رضوان الله عليهم لا يطيقون ما يطيق قال عاصم بن ضمرة، سألت عليا كرم الله وجهه عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم لا تطيقون ذلك" (¬3). وعن عبد الله بن مسعود قال: "صليت ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء. قيل له وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأدع النبي صلى الله عليه وسلم (¬4)! " فعبد الله بن مسعود لم يكن يطيق - على ما عرف عنه من كثرة العبادة - ما يطيق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خطر في ذهنه أن يجلس في الصلاة، ويدع رسول الله قائما لفرط تعبه، لكنه لم يفعل وغالب الخطرة، لكنه لم ينس الموقف وأخبر الناس بطول صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترغيبا لهم في العبادة وحثا على الاقتداء بالنبي المغفور له، الذي يعبد الله تعالى تحت شعار "أفلا أكون عبدا شكورا" فكيف بمن لا يدري إلى أين يصير إلى الجنة أم النار؟ لقد وصف لنا عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - كيف يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله، فقد بات ابن عباس عند خالته ميمونة -وهي أخت أمه لأبيه- فشاهد ما حدث وحدَّثَ به قال: "فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل، أو قبله ¬

_ (¬1) مختصر الشمائل المحمدية 152 وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) مسلم: الصحيح رقم 116. (¬3) رواه الترمذي وقال حديث حسن (مختصر الشمائل المحمدية 154). (¬4) مسلم: الصحيح 1/ 537 رقم 773.

بقليل، أو بعده بقليل، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح النوم عن وجهه، وقرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران. وقال إلى شِنّ - أي قربة - مُعلَّق فتوضأ منها، فأحسن الوضوء ثم قام يصلي. قال عبد الله بن عباس: فقمت إلى جنبه، فذكر صلاته اثنتي عشر ركعة، ثم أوتر، ثم نام حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح" (¬1). وكانت قراءته للقرآن يمدُّها، ويقطِّعُها فيقول {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، ثم يقول {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف. وكان ربما أسرَّ بالقراءة، وربما جهر، وكان يرجِّع صوته بالقراءة - أي يرددها -، وكل ذلك ثابت عنه بالأحاديث الصحيحة (¬2). وأحيانا كانت قراءته تختلط ببكائه، ويسمع نشيجه كما في حديث عبد الله بن الشخير قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء "وكيف لا يتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن فيبكي وهو أعرف الناس بالله، وأوعاهم بالحق الذي أنزل عليه، وقد عرف وأبصر من أمور الغيب في الإسراء والمعراج ومباشرة الوحي ما ملأه علماً وخشية وفكراً وتأملا" (¬3). وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يسمع القرآن بصوت الآخرين من الصحابة مثل أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري من أصحاب الحفظ والتجويد والأصوات الحسنة بالقرآن. قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليّ. فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟. قال: "إني أحب ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1/ 53 وصحيح مسلم 1/ 525 حديث رقم 763. (¬2) مختصر الشمائل النبوية 166 - 168. (¬3) أخرجه أبو داؤد رقم 904.

أن أسمعه من غيري". فقرأت سورة النساء حتى بلغت {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: فرأيت عيني رسول الله تَهْمِلان" - متفق عليه - (¬1). وروى الإمام البخاري بسنده إلى أنس بن مالك قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: إنَّ الله أمرني أن أقرئك القرآن. قال: الله سمَّاني لك؟ قال: نعم. قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. فذرفت عيناه" (¬2). وكان عليه الصلاة والسلام يعجبه صوت أبي موسى الأشعري وقد شبهه لحسنه بمزاميز آل داؤد. وهكذا سمع القرآن بأصوات الصحابة رضوان الله عليهم. وكان يصلي التطوع في بيته، ويؤم الصحابة في المسجد في الصلوات الخمس المكتوبة، وقد سئل عن الصلاة في البيت والمسجد فقال: "قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة (¬3) " وذلك لأن صلاة الجماعة في المسجد خمس أوقات تحقق أغراضا نافعة؛ منها اجتماع المسلمين في الأماكن المتقاربة في مكان واحد مما يؤدي إلى تعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى، وتفقدهم لأحوال بعضهم، ومنها إقامة شعائر الإسلام بمظهر يدل على القوة والغلبة للإسلام وأهله. ثم إن صلاة المكتوبات في المسجد أعظم أجراً، لأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما صلاة التطوع فإن أداءها في البيت بعيدا عن الأعين يبعد بصحابها عن الرياء والخيلاء ويقربه من الأخلاص، ويجعله قدوة لأهل بيته ممن ليس يحضر صلاة الجماعة من النساء، وأصحاب الأعذار. ¬

_ (¬1) الآية من سورة النساء 41، والحديث أخرجه البخاري: الصحيح 6/ 114 ومسلم: الصحيح حديث رقم 800 والترمذي: سنن 5/ 238 رقم 3025 وسنن أبي داؤد 5/ 74 حديث رقم 3668. (¬2) فتح الباري 8/ 726 حديث رقم 4961. (¬3) سنن أبي داؤد: 919.

وهكذا كانت صلوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته في جوف الليل، وفي صلاة الضحى وفيما بين الصلوات المكتوبة، فقد جعلت قرة عينه في الصلاة، فهي معراج المؤمن، وكانت آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو يودع الدنيا وينتقل إلى الرفيق الأعلى: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" (¬1). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يهدف إلى توثيق صلة القلب بالله بصورة دائمة، كما عبَّرت عائشة - رضي الله عنها - بقولها: "كان عمله دِيمةً" وقالت مرة وشاركتها القول أم سلمة، وقد سئلتا: أي العمل كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالتا: "ما ديم عليه وإن قلَّ" (¬2). وكان ينوِّع في عبادته ما بين صوم وصلاة وذكر وتعليم وجهاد، قال عوف بن مالك: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً، فاستاك ثم توضأ ثم قام يصلي، فقمت معه، فبدأ فاستفتح البقرة، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمرُّ بآية عذاب إلا وقف فتعوذ ثم ركع، فمكث راكعا بقدر قيامه، ويقول في ركوعه: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة"، ثم سجد بقدر ركوعه، ويقول في سجوده: "سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة".ثم قرأ "آل عمران" ثم سورة ثم سورة، يفعل مثل ذلك" (¬3). وكان عليه الصلاة والسلام كثير الصوم. قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "كان يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته" (¬4). وقد ذكرت عائشة - رضي الله عنها - أنه كان يتحرى صوم الاثنين والخميس" (¬5) وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب تحريه الصوم يومي الاثنين والخميس ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه (الألباني: صحيح سنن ابن ماجة 2/ 109 رقم 2181). (¬2) الألباني: مختصر الشمائل 164 - 165. (¬3) النسائي في سننه 2/ 223 وأحمد: المسند 6/ 24. (¬4) صحيح البخاري 2/ 46. (¬5) الترمذي: سنن 745 وابن ماجة سنن 739 وإسناده صحيح (الإرواء 4/ 105 و 106).

بقوله: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحبَّ أن يعرض عملي وأنا صائم" (¬1). ومنهجه في الاتصال الدائم بالله لا يختل سواء كان في صلاة أو صوم أو كان مضجعا، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: يا عائشة إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي" (¬2). فقد كان يذكر الله على كل أحيانه، فإذا نام ذكر الله قائلا: "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (¬3). وإذا استيقظ قال: "الحمد الله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور" (¬4). وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. ثم يمسح ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات" (¬5). وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد الله الذي أطعمنا وساقانا وكافانا وآوانا، فكم ممَّن لا كافي له ولا مؤوى" (¬6). فدعواته صلى الله عليه وسلم عند النوم فيما معاني التسليم لله تعالى، وأنه لا حول ولا قوة للإنسان إلا بالله، وأن الله وحده المحيي والمميت، وإنه يستحق الحمد على النوم والاستيقاظ والطعام والشراب والكفاية عن سؤال الناس والإيواء بما يحمله من معاني الطمأنينة والستر، وما أعظم دلالات قوله عليه الصلاة والسلام: "فكم ممن لا كافي له ولا مؤوى". نعم كم من الناس على وجه الأرض لا يجد كفايته ¬

_ (¬1) صحيح سنن الترمذي 1/ 227. (¬2) صحيح البخاري 2/ 47 - 48 وصحيح مسلم 1/ 509 حديث رقم 838. (¬3) صحيح البخاري 7/ 149. (¬4) صحيح البخاري 7/ 147. (¬5) صحيح البخاري 6/ 106. (¬6) صحيح مسلم 4/ 285 حديثه رقم 2715.

ويسأل غيره العون، إن الجياع أكثر من الطاعمين، والعراة أكثر من الكاسين، ومن عندهم المال ولا يحسون بالكفاية بل يدفعهم الطمع والحرص على جمع المال من كل سبيل إلى القلق وعدم الإحساس بالكفاية. ومن درس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف قلة ما عنده من طعام وأثاث وأشياء أدرك معنى الزهد والقناعة والإحساس بالكفاية. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن ينظروا إلى من دونهم من الناس، ولا ينظروا إلى من فوقهم، فمن نظر إلى من دونه عرف عظيم نعمة الله تعالى عليه، وقنع بما أعطاه، وأحس الرضا بالقدر والحمد الله على الإيواء، فإن الإحساس بأن الله تعالى آوى العبد إليه، وهداه إلى سبيله، ونسبه إلى نفسه، وتولاه ولم يكله إلى سواه يجعل العبد في غاية الثقة بحاضره وبمستقبله، فلا يقلق لمصاب، ولا ينخلع قلبه خوفا من مواجهة الأحداث الثقيلة والتقلبات العنيفة، بل هو شامخ كالطود أمام أعاصير الحياة .... وكيف لا تطمئن نفس من آواه الله الذي أحاط بكل شيء علما، والذي لا تعزب عنه مثقال حبة في الأرض ولا في السماء والذي ليس لقدرته حدود ولا لأمره رد؟. وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلَّى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلُبَنَّكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبُّه على وجهه في نار جهنم" (¬1) فأي أمان للإنسان أعظم من أمان الله، وأن يكون في ذمة الله وعهده وحفظه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يقعد في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس (¬2) ثم لا يزال بعدها يشكر نعم الله، فإذا طعم طعاما أو شرب شرابا أو لبس جديدا دعا الله تعالى شاكرا حامدا، فإذا ارتفعت الشمس تطوع لله بأربع وهي صلاة الضحى، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 1/ 455. (¬2) صحيح مسلم 1/ 463، 4/ 1810 ومسند أحمد 5/ 91.

"أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد" (¬1). وفي الحديث القدسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله عز وجل يقول يا ابن آدم اكفني أوَّل النهار بأربع ركعات أكفك بهن آخر يومك (¬2) " ولا يزال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصن نفسه ليله ونهاره بالأدعية والأذكار، ويعلم أصحابه ذلك، فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيِّدُ الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا انت" (¬3). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه صلاة الحاجة وصلاة التوبة وصلاة الاستخارة، فكانوا يرتبطون بالله تعالى في صلوات كثيرة، فلا يخلو إنسان من ذنب كبير أو صغير ففي الحديث "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون" (¬4) ولا ينفك المرء عن حاجة تعرض له صغرت أو كبرت فعن عثمان ابن حنيف - رضي الله عنه -: أن أعمى أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أدع الله أن يكشف لي عن بصري, قال: أو أدعك. قال: يا رسول الله إنه قد شق علي ذهاب بصري قال: فانطلق فتوضأ ثم صلَّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة. يا محمد: إني أتوجَّه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري. اللهمّ شفعه فيَّ وشفعني في نفسي، فرجع وقد كشف الله عن بصره" (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم: الصحيح 1/ 499 وروى البخاري في صحيحه الوصية بركعتي الضحى 2/ 52. (¬2) رواه أحمد وأبو يعلي ورجال أحدهما رجال الصحيح، وأخرجه الترمذي (السنن 2/ 340 وقال: حسن غريب وأخرجه أبو داؤد: السنن 2/ 13 وأحمد: المسند 5/ 286، 287. (¬3) رواه البخاري (صحيحه 7/ 145). (¬4) صحيح سنن الترمذي 2/ 305. (¬5) رواه الترمذي (سنن 5/ 569) وقال: حسن صحيح غريب. وابن ماجة: سنن (صحيح سنن ابن ماجة 1/ 231 - 232).

نبي الرحمة

نبي الرحمة قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). فالرسول عربي قرشي معروف النسب، لم يطعن أحد في صحة نسبه, وكرم محتده، فمخاطبة الله تعالى للعرب بأن الرسول من أنفسهم تذكير لهم بأنه لهم ناصح ومحب، وعليهم مشفق، وعلى هدايتهم حريص، وأنه بهم رفيق وعليهم مشفق, يشق عليه ضلالهم ويفرح لهدايتهم، ووردت أحاديث كثيرة تبين بعض مظاهر الرحمة المهداة، والمتمثلة بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك وفاته صلى الله عليه وسلم قبل أمته ليكون لها سلفا ففي الحديث: "إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها، ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره" (¬2). ومن وقائع السيرة النبوية أن ثقيفا آذت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام حتى رشقوه بالحجارة وأدموا قدميه، وخيَّره الله أن يعاقبهم فيطبق عليهم الجبال، فقال عليه الصلاة والسلام: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" (¬3). وكان عليه الصلاة والسلام أَمنْاً لأمته في حياته، كما أن الاستغفار أمن لها بعد وفاته قال تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬4) وهو في حياته ومماته رحمة وخير للمؤمنين. قال عليه الصلاة والسلام: "حياتي خير لكم: تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم" (¬5). ¬

_ (¬1) التوبة: 128. (¬2) صحيح مسلم 4/ 1791 - 1792 حديث رقم 2288. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 312 - 313) وصحيح مسلم 3/ 1420. (¬4) الأنفال: 33. (¬5) رواه البزار كما في كشف الأستار 1/ 397.

وهو رحمة عامة كما في القرآن {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) كما أنه نور يضيء طريق الهداية للناس قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4). وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم كل شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا" (5). وقد منح الله تعالى الأنبياء دعوة مستجابة، فتعجلوها ودعوا بها، أما الرسول الكريم فقد ادخرها لأمته كما في الحديث: "لكل نبي دعوة مستجابة فعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" (6). وتتجلَّى في رسالة النبي الكريم كل معاني الرحمة، فقد رفع الله عن أمته الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، فيسر لها الدين ورفع عنها الحرج {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1). وقد امتلأت نفس الرسول الكريم بالرحمة، وأوصى أتباعه بأن يكونوا رحماء كما وصفهم القرآن {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (2). قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3). وقال زيد بن حارثة: "أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أن ابناً لي قبض فأتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: إنَّ لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل

_ (1) الأنبياء:107. (4) الأحزاب 45 (2) مسند أحمد 3/ 228 - 268 والحاكم والمستدرك 3/ 57 وصححه ووافقه الذهبي. (3) متفق عليه واللفظ لمسلم (صحيح البخاري 7/ 145 وصحيح مسلم 1/ 189 حديث رقم 199). (4) الحج:78. (5) الفتح: 29. (6) صحيح مسلم 4/ 2316.

عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينَّها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده. وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" (¬1). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه: " ... ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا" (¬2). وقد شملت رحمته ووصاته بالرحمة الحيوان فضلا عن الإنسان فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمررنا بقرية نمل قد أحرقت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله عز وجل" (¬3). عن سعيد بن جبير قال: "مرَّ ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فقال ابن عمر: "من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا" (¬4). وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والشاة إن رحمتها رحمك الله" (¬5). وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته" (¬6). وكان الرسول الرحيم يضرب لأصحابه الأمثال، ويحكي لهم من أخبار الماضين ما يرسم في نفوسهم الرحمة، قال لهم مرة: "بينما رجل يمشي بطريق ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2/ 80 وصحيح مسلم 2/ 635 حديث رقم 923. (¬2) صحيح مسلم 3/ 1357 حديث رقم 1731. (¬3) أحمد: المسند 1/ 296 وأبو داؤد: السنن 3/ 126. (¬4) صحيح مسلم 3/ 1549 - 1550 حديث رقم 1958. (¬5) مسند أحمد 3/ 426. (¬6) مسلم الصحيح 3/ 1548 حديث رقم 1955.

اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر" (¬1). وهذا غيض من فيض، وكله يشهد لهذا النبي الكريم بأنه "رحمة مهداة" وأنه غرس معاني الرحمة في أصحابه، وأوصاهم بها وملأ تعاليمه بذكرها، وشمل بها كل ذي روح من إنسان وحيوان، وسبق بذلك كل لوائح حقوق الإنسان الحديثة، وكل جمعيات البر والرفق بالحيوان مما يحسبه الناس من خصائص الحضارة الغربية وعطائها. فلا عجب أن كانت بعثته رحمة للعالمين، وأن يعبر عن جوهر رسالته بقوله عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة" (¬2). وسوف تظل تعاليمه تمسح جراحات المعذبين وتلمس حنايا المستضعفين وتلين قلوب المتجبرين وتملأ الحياة بالحب والدفء والرحمة ¬

_ (¬1) متفق عليه (صحيح البخاري 3/ 77) وصحيح مسلم 4/ 1761 حديث رقم 2244 واللفظ له. (¬2) الحاكم: المستدرك 1/ 35 وصححه وأقره الذهبي.

محبة الرسول من الإيمان

محبة الرسول من الإيمان قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). دلت هذه الآية على وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعت ميزانا لهذه المحبة تقاس به, فليس المطلوب أن يحب المؤمن رسول الله كحبه لأبيه وبنيه وأهله وماله، بل ينبغي أن ترجح كفة محبة الله ورسوله على سائر ما يحب، فلا يكون في قلبه محبة لشيء تزيد على محبته للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول سبب خروجه من ظلمات الجهالة والضلال وسعادته بالعلم والهداية، وإنقاذه من ضنك الدنيا وعذاب الآخرة، فنعمة الإيمان الحاصلة بسببه أعظم من سائر النعم وأكبر من كل الفوائد، فحق على من أدرك عظمة هذه النعمة أن يحب من أوصلها إليه، وقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم هذه المعاني فتعلقوا برسول الله أشد التعلق، وأحبوه أعظم الحب، وفدوه بالنفس والأهل والمال، قال صفوان بن عسَّال المُرادي: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فبينا نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري: يا محمد. فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته: هاؤم. وقلنا له: ويحك اغضض من صوتك فإنك عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهيت عن هذا. فقال: والله لا أغضض، قال الأعرابي: المرء يحب القوم ولما يلحق بهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب يوم القيامة" (¬2). ففي هذا الحديث بيان فضل حب الله ورسوله والأخيار الصالحين من المؤمنين. ¬

_ (¬1) التوبة:24. (¬2) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (سنن 5/ 545 حديث رقم 3535) وأخرجه البخاري في صحيحه 7/ 112 - 113 شاهدا مختصرا من حديث ابن مسعود، ومسلم في صحيحه 4/ 2304 حديث رقم 2640 شاهدا مختصرا أيضا من حديث ابن مسعود.

قال أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإنك مع من أحببت) (¬1). قال القرطبي: وإنما كان فرحهم بهذا القول عنه صلى الله عليه وسلم أشدَّ من فرحهم بسائر أعمال البر، أنهم لم يسمعوا أن في أعمال البر ما يحصل به ذلك المعنى من القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والكون معه إلا حب الله ورسوله، فأعظم بأمر يلحق المقصر بالمشهِّر، والمتأخر بالمتقدم، ولما فهم أنس أن هذا اللفظ محمول على عمومه علق به رجاءه وحقق فيه ظنه فقال: أنا أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وان لم أعمل بعملهم. وقد بيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم حدود المحبة اللازمة عندما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا رسول الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي" فقال: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر" (¬2). وعلامة هذه المحبة إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التقدم عليه بالقول أو العمل، فلا يكون رأى الإنسان أحب إليه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وحكمه، وعلامة حدود المحبة وبلوغها المرتبة الواجبة أن تكون نصرة السنة والذب عن الشريعة أحب لديه من رعاية مصالحه والحفاظ على نفسه وأهله وماله وجاهه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" (¬3). وقوله: "ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4/ 2032 حديث رقم 2639. (¬2) صحيح البخاري 7/ 218. (¬3) صحيح البخاري 1/ 9، وصحيح مسلم 1/ 67 حديث رقم 70 واللفظ له. (¬4) صحيح البخاري 1/ 9 وصحيح مسلم 1/ 66 حديث رقم 43.

قال البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وان كان على خلاف هوى النفس؛ كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهي إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل. والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له، ويتلذذ بذلك التلذذ عقليا، إذ الالتذاذ العقلي ادراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك. ومما يستدعي محبة الرسول التفكر في عظم رسالته وجهاده في تبليغها طيلة حياته، حرصا على هداية أكبر عدد من الناس ,حتى إن الله تعالى امتن على العبادة ببعثته صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). وجاء في صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا لدينه ومنّ علينا بك .. فقال لهم: أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة" (¬2). وهذه المحبة التي ربطت بين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم حملتهم على افتدائه بأرواحهم وأهليهم وأموالهم. هذا أنس بن النضر رضي الله عنه رأى بعض المسلمين قعوداً محتارين بعد أن اشاع المشركون خبر مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فصاح بهم: "واها لريح الجنة أجد دون أحد" فقاتل حتى قتل، ووجد في جسده بضع وثمانون أثرا من بين ضربة ورمية وطعنة، حتى ما عرفته أخته الربيع بنت النضر إلا ببنانه، ونزلت فيه وفي أمثاله من المجاهدين الصادقين هذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ ¬

_ (¬1) آل عمران 164. (¬2) صحيح مسلم ص 2075 وسنن الترمذي حديث رقم 3379 واللفظ له.

صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬1). وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بعد المعركة يتفقد أنس بن النضر، فوجده بين القتلى وبه رمق، فما كان منه - بعد أن ردَّ على سلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن قال: "أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي من الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف" وفاضت عيناه (¬2). فيالها من وصية تفوح بالحب الذي لا يؤثر فيه الموت وآلام الجراح. وكان أبو طلحة الأنصاري يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم ويرمي بين يديه ويقول: "لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك" (¬3). ورغم هذا الحب العميق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومفاداتهم له بالنفس والنفيس، فإن عقائد المسلمين استقامت بفضل الله، فلم يتجاوزوا صفة النبوة، ولم ينسبوا إلى نبيهم صفات الألوهية، ولم يعبدوه من دون الله، بل كان صوته صلى الله عليه وسلم يتردد في عقولهم (أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد) (¬4) ومن قبله تذكير القرآن ببشرية الرسول صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (¬5). وإنه يصيبه ما يصيب البشر {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬6). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 6/ 21، 7/ 274، 8/ 517). (¬2) الهيثمي: مجمع البحرين 2/ 239 من رواية ابن إسحق بإسناد رجاله ثقات. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 361). (¬4) صحيح سنن ابن ماجة 2/ 232. (¬5) الكهف: 110. (¬6) آل عمران: 144.

أمهات المؤمنين

أمهات المؤمنين إن تصفح سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يعطي صوراً مشرقة عن خلقه الكريم عليه الصلاة والسلام في معاملة الناس جميعاً، ولكن سلوكه في بيته ومع أزواجه له دلالته الخاصة على رقة طباعه، وعمق عاطفته، وقدرته الفذَّة على مراعاة مشاعر أزواجه واحترام رغباتهن، ما دامت لا تخرج عن حدود الشرع وأحكامه. هذه عائشة رضي الله عنها تحج معه صلى الله عليه وسلم فتمنعها حيضتها من أداء العمرة مع الناس، فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة قالت: يا رسول الله تعودون بحج وعمرة، وأعود بحجة وحدها. فإذا بالرسول يشفق أن تعود زوجه وهي تشعر بفوات بعض الفضل والخير عليها، فيتوقف ويطلب من أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن يصحبها إلى التنعيم حيث تحرم بالعمرة (¬1). وفي غزوة المريسيع (بني المصطلق) يوقف الجيش كله لأن عقدا لعائشة انفطر منها فهي تجمع حباته من بين الرمال .. وعندما تحضر الصلاة ولا يجد المسلمون الماء للوضوء فتنزل آية التيمم ويعبر أحد الصحابة عن إحساسه بالحب لأبي بكر واعترافه بفضل هذه العائلة وبركتها يقول:"هذه إحدى بركاتكم يا آل أبي بكر" (¬2). وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة خيبر وتزوج صفية بنت حيى كان يدير كساء حول البعير الذي تركبه يسترها به، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب!! ولم يكن هذا المشهد بعيدا عن أعين الناس، بل كان مشهد من جيشه المنتصر .. وكان يعلمهم أن الرسول البشر والنبي الرحمة والقائد المظفر لا ينقص من قدره أن يوطئ أكنافه لأهله، وأن يتواضع لزوجه، وأن يعينها ويسعدها. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 2/ 200 - 201 (ط. استنبول). (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 431).

ويتجلى موقف رائع يصور عظمة خلق الرسول الكريم حين دخل على امرأة كان قد عقد عليها هي الجونية، روى البخاري من حديث أبي أسيد الساعدي قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشَّوط حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجلسوا هاهنا، ودخل، وقد أتى بالجونية، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايتها - حاضنة لها - فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: هببي نفسك لي. قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة (ولم تعرف أنه رسول الله) قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن. فقالت: أعوذ بالله منك. فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد أكسها رازقيَّين وألحقها بأهلها" (¬2). لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعنِّف المرأة, بل لم يجهر أمامها بطلاقها, وإنما أمر أبا أسيد أن يمتعها بالثياب ويعيدها إلى أهلها. والمتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد الكثير من الأمثلة الرائعة على حسن ذوقه وجميل طبعه وكرم خلقه وحسن معاشرته ورفق معاملته واعتدال مزاجه وعدالة أحكامه وصدق كلامه ... وهذا الكمال الخلقي من أعظم أدلة نبوته عليه الصلاة والسلام. فقد كان الصدق يملأ حياته، ويحكم علاقاته، ويطبع أقواله وأفعاله، فلا غرابة إذا كان أول المسلمين المؤمنين بدعوته هم أقرب الناس إليه وأعرفهم به، خديجة رضي الله عنها زوجه، وعلى رضي الله عنه ابن عمه، وأبو بكر الصديق صاحبه، وزيد بن حارثة مولاه، والكل ظلوا أوفياء لدعوة الإسلام طيلة حياتهم يفدونها بالنفس والنفيس. ويشهد الإنسان طابع الصدق في علاقاته صلى الله عليه وسلم بأزواجه، فهو الرسول البشر، ليس فيه تعاظم وكبرياء الأقوياء بجاههم أو غناهم, بل فيه سماحة الأنبياء، وندى العظماء، وسيرة الأتقياء، تجده يحنو على أزواجه ويعينهن، فيقم ¬

_ (1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب من غزا بصبي للخدمة 6/ 86. (¬2) صحيح البخاري (فتح الباري 9/ 356).

بيته بيده، ويحلب الشاة، ويخرز النعل، ويتلطف إليهن، ويداري غضبهن، ويعدل بينهن، ويراعي ما جبلن عليه من الغيرة، ويحتمل هفواتهن، ويرفق بصغيرتهن، وهكذا عاش الرسول البشر عيشة إنسان لا ملاك، تلتصق خطواته بالأرض وقلبه معلَّق بالسماء، يهفو إلى ما عند الله، ويهتف متواضعاً "إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد" (¬1). ولنعرض لنماذج أخرى من حياة الرسول البشر في بيته: حيث تعيش أمهات المؤمنين في غرفهن الصغيرة بجوار المسجد النبوي، تمتزج حياتهن بأصوات الأذان للصلوات، ويشهدن جموع الناس مقبلين مدبرين، يصلون ويستمعون لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويشتركن في بيان تعاليم الإسلام، وخاصة في شؤون المرأة، حين يتعذر على النبي صلى الله عليه وسلم - لحيائه - البيان. ثم لهن حياة خاصة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حافلة بالعبادة والعلم، مليئة بالعبر، دافقة بالخير. ولا تخلو من الجدل والخصومة حينا، والغيرة حينا آخر. قالت عائشة رضي الله عنها: "ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت: يا رسول الله أحسبك إذا قبلت لك بنية أبي بكر ذريعتيها - أي ساعديها -؟ ثم أقبلت عليَّ، فأعرضت عنها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: دونك فانتصري. فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فيها ما تردُّ عليَّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلّلُ وجهُه" (¬2). وهنا نلمس تقدير النبي صلى الله عليه وسلم لغيرة الضرائر من بعضهن، ومراعاته للفطرة، فقد ترك زينب تفرغ غضبها وأذن لعائشة أن ترد عليها، وعدل بين زينب - وهي بنت عمه وزوجه - وعائشة - وهي بنت صاحبه وزوجه - ولم يغضب من هذه الملاحاة، فهي أمر طبيعي في حياة الضرائر. بل لم تتغير ملامح وجهه إلى العبوس لتكدير صفوه، بل علته ابتسامة رقيقة وهو يشهد انتصاف عائشة من زينب. ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 1/ 23 بإسناد صحيح. (¬2) البخاري: الأدب المفرد 558 بإسناد صحيح

وكانت زينب بنت جحش تطاول عائشة وتفاخرها في الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكرت عائشة في حديث الإفك (¬1)، وكانت تفخر بأن الله تعالى زوجَّها من الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل في ذلك قرآنا {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} (¬2). أما عائشة رضي الله عنها فكانت البكر الوحيدة من أزواجه صلى الله عليه وسلم، وكانت تدل بذلك وتشير إليه بذكاء وفطنة امتازت بها، تقول: "يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها ترتع بعيرك؟ قال: في التي لم يرتع منها. تعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها" (¬3) وهذا الإدلال المقبول لا يخالف الحقيقة ولا يجانب الصدق، فليس من ضرر في استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم وإرضائه لهذا الإدلال والاعتزاز، وإدخاله بذلك السرور على قلب زوجه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب إذا تجاوزت الغيرة حدها، واعتدت على حقوق الآخرين، فلم يكن زمام الموقف يفلت من يده بل كان يبين الخطأ ويقومه. قالت عائشة رضي الله عنها: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة. فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" (¬4). وهكذا كان عظيم وفائه لزوجه خديجة أول من آمن به وآزره, وتحمل معه أعباء دعوته فكان يذكرها دائما ويثني عليها وأبدا، ويصل صديقاتها ومعارفها، ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري 7/ 431. (¬2) الأحزاب:37. (¬3) صحيح البخاري (فتح الباري 9/ 120). (¬4) متفق عليه واللفظ للبخاري (فتح الباري 7/ 133).

ويفرح للقاء أقاربها ويكرمهم حتى غارت أم المؤمنين عائشة لإكثاره من ذلك وإلا فهل يغار الحي من الميت!! ولم يمنعه حبه لعائشة أن يصرِّح بفضل خديجة ومكانها في قلبه، ولو في ذلك الموقف الذي ظهرت فيه غيرتها، بل لم يكتم حبه لها وقد مضت على وفاتها أكثر من خمس سنين؟ فقال لعائشة: "إني قد رزقت حبها" (¬1)! فما أعظم وفاءه وما أرحب قلبه وما أصدق لسانه، وما أصرح وأفصح تعبيره!؟ إن محمدا الرسول البشر لا يجد غضاضة في أن يحب امرأته، وأن يصارحها بذلك معبرا عن عاطفة خيرة، ويكتم كثيرون سواه عواطفهم تجاه أزواجهم لئلا يخدش كبرياؤهم، أو يقل احترامهم فيما يحسبون وهم مخطئون. روى البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة (¬2). وكان عليه الصلاة والسلام يراعي صغر سن عائشة - رضي الله عنها - وحبها للعب مع صديقاتها، قالت عائشة: "كنت ألعبُ بالبنات - أي اللُّعب - عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه - أي يختفين - فيسربهن إلي فيلعبن معي" (¬3).وكانت عائشة - رضي الله عنها - توصي المسلمين بمراعاة ذلك مع أزواجهم حديثات السن تقول: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأم، فأقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو" (¬4). وهكذا سبق الإسلام نظريات التربية الحديثة في إعطاء الحرية للصغير في اللعب والتسلية البريئين. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم 4/ 1888 حديث رقم 2436. (¬2) متفق عليه (صحيح البخاري 8/ 74 وصحيح مسلم 4/ 1856 حديث رقم 2384). (¬3) صحيح مسلم 4/ 1890 حديث رقم 2440. (¬4) متفق عليه (صحيح البخاري - فتح الباري 9/ 336. وصحيح مسلم 2/ 609).

بل قد ذكرت عائشة رضي الله عنها: "أنه كان لها بنات - تعني اللُّعب - وكان إذا دخل النبي صلى الله عليه وسلم استتر بثوبه منها. قال أبو عوانة: لكيلا تمتنع (¬1). ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم غضاضة في أن يسابق عائشة - رضي الله عنها -مرتين في منأى عن الناس لادخال السرور على قلبها. قالت عائشة - رضي الله عنها -: "خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدَّموا فتقدَّموا. ثم قال لي: تعالي أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: تقدموا فتقدموا ثم قال: تعالى حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك" (¬2). وكان يتلطف معها بالكلام ويداعبها قال لها مرة: إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى. قالت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا وربِّ محمد. وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم. قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك" (¬3). فما أحسن هذه المعاشرة وما ألطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحسن خلق عائشة رضي الله عنها مع زوجها الرسول الكريم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق الطبع، حسن العشرة، عميق العاطفة، لكن هذه الخصال لم تؤثر على التزامه الدقيق بالعدل بين نسائه أمهات المؤمنين، وهو التزام بشرع الله تعالى الذي بلغه للناس وبينه لهم قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (¬4). ¬

_ (¬1) ابن سعد: الطبقات 7/ 65 بإسناد صحيح. (¬2) أحمد: المسند 6/ 264 بإسناد حسن، وأبو داود: السنن 2/ 28 مختصرا. (¬3) متفق عليه (صحيح البخاري كما في فتح الباري 9/ 325 وصحيح مسلم 4/ 1890 حديث رقم 2439. (¬4) النساء: 3.

والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج في شبابه خديجة رضي الله عنها، ولم يتزوج عليها حتى توفيت، فتزوج سودة بنت زمعة رضي الله عنها، ثم عائشة، ثم حفصة، ثم زينب بنت خزيمة، ثم أم سلمة بنت أبي أمية، ثم جويرية بنت الحارث، ثم زينب بنت جحش، ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم ميمونة بنت الحارث. وقد اجتمعت النسوة التسع في حياته صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه لأن الإسلام لم يبح الجمع - بالزواج - لأكثر من أربع من النساء. وكانت لكل زوجة غرفة صغيرة، فيها أثاث بسيط لا يكاد يزيد ثمنه على عشرة دراهم. وكان زواجه من كل واحدة يتصل بهدف يحقق مقاصد الإسلام، فعائشة رضي الله عنها تمتاز بحدة الذكاء، وصفاء الذهن، وجودة القريحة، فحفظت من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم الكثير، فنفعت وانتفعت، حتى بلغ عدد أحاديثها التي روتها عشرة ومائتين وألفي حديث. ولو قورنت رواياتها بعدد روايات أمهات المؤمنين الأخريات لاتضحت الحكمة من هذا الزواج، فإن أكثرهن حديثا بعد عائشة هي أم سلمة بنت أبي أمية، ولم يتجاوز عدد أحاديثها ثمانية وسبعين وثلثمائة حديث، وشتان ما بين الرقمين! وأما الأخريات فقد روت ميمونة ستة وسبعين حديثا، وروت أم حبيبة بنت أبي سفيان خمسة وستين حديثا، وروت حفصة بنت عمر ستين حديثا، وروت كل من جويرية وسودة بنت زمعة خمسة أحاديث، وروت زينب بنت جحش تسعة أحاديث، وروت صفية عشرة أحاديث، ولم ترو زينب بنت خزيمة شيئا، فلو جمعنا حديث سائر أمهات المؤمنين لبلغت ثمانية وستمائة حديث فقط وهي أقل من ثلث عدد أحاديث عائشة!! هذا فضلا عن فقهها وفتاويها وخاصة في شؤون المرأة. وكان زواجه من عائشة رضي الله عنها بعد رؤيا تكررت، مما يدل على أن الزواج منها كان بإرشاد الوحي لأن رؤيا الأنبياء حق، وهي جزء من الوحي، روى البخاري قالت عائشة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أريتك قبل أن أتزوجك مرتين، رأيت المَلَك

يحملك في سَرَقة من حرير فقلت له: اكتشف، فكشف فإذا هي أنت. فقلت: إن يكن هذا من عند الله يُمضِه". وقد تكررت الرؤيا كما أخبر عليه الصلاة والسلام (¬1). أما سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - فكانت ثيباً كبيرة السن، تزوجها على أثر وفاة خديجة رضي الله عنها، لترفق بأولاده الصغار من خديجة، وتطييبا لخاطرها فقد كانت زوجة للسكران بن عمر، وكان مسلما فهاجر بها إلى الحبشة، ثم رجعا فمات زوجها بمكة، وكان أبوها شيخاً كبيراً أقعدته السن، وكان أخوها عبد بن زمعة مشركاً عنيداً، حتى حثا التراب على رأسه عندما علم بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). أفليست هذه الظروف المحيطة بهذا الزواج تكشف عن طبيعة دوافعه وحقيقة مقاصده. من حماية الأيَّم وحضانة الأولاد؟. ولما كبرت سودة خشيت أن يطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم، فآثرت عائشة رضي الله عنها بيومها وليلتها، لتبقى في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم (¬3)، فنزل قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬4) قالت عائشة في سبب نزول الآية: لا يستكثر منها، فتكون لها صحبة وولد، فتكره أن يفارقها فتقول له: أنت في حلّ من شأني" (¬5). وهكذا بقيت سودة في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وفاته لتبعث في أزواجه يوم القيامة. وأما حفصة بنت عمر رضي الله عنهما - فقد توفى زوجها الصحابي خنيس بن حذافة السهمي بالمدينة، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراماً لأبيها. وأما زينب بنت خزيمة فكانت متزوجة من عبيدة بن الحارث، فاستشهد بعد بدر، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم جبراً لخاطرها. ¬

_ (¬1) متفق عليه (صحيح البخاري 8/ 75 - 76 وصحيح مسلم 4/ 1890 حديث رقم 2438). (¬2) مسند أحمد 6/ 211 بإسناد حسن كما في فتح الباري 7/ 225. (¬3) صحيح مسلم 2/ 1085 حديث رقم 1463 ورقم 1464. وانظر الأحاديث في سنن أبي داؤد 2/ 601 - 602 وسنن الترمذي 5/ 249 وقال: حسن غريب. (¬4) النساء:128. (¬5) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 265 وصحيح مسلم 4/ 2316).

وأما أم سلمة بنت أبي أمية فقد مات زوجها أبو سلمة بالمدينة، بعد إصابته بجراح في أُحُد تاركا معها ولدين وبنتين، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريماً لها ورعاية لأولادها. وأما جويرية بنت الحارث فكانت بنت رئيس قبيلتها بني المصطلق، وقعت أسيرة مع نساء قبيلتها، فكانت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبته، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في قضاء المكاتبة، فعرض عليها الزواج وقضى عنها كتابتها وتزوجها فلما علم الناس بذلك أطلقوا سائر السبي وقالوا: أصهار رسول الله، فأعتقوا سائر السبي "فما كانت امرأة أعظم على قومها بركة منها" وقد قصد الرسول صلى الله عليه وسلم بالزواج منها تكريمها، وتأليف قلوب قبيلتها، وإطلاق سبيهم، وقد أثمرت هذه المعاملة الحكيمة ثمرتها فأسلم بنو المصطلق. وأما زينب بنت جحش فهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوَّجها الرسول صلى الله عليه وسلم من مولاه زيد بن حارثة، فكانت لا تشعر بأنه كفؤ لها لمكانها من قريش مما أدى إلى إخفاق الزواج، وقد تدخل الرسول صلى الله عليه وسلم للاصلاح بينهما دون جدوى حتى نزل الوحي الإلهي يأمره بالزواج منها، لإبطال عادة جاهلية تتمثل بالتبني، وما كان يترتب عليه من آثار، منها عدم زواج الرجل من زوجة متبناه, وقد شق الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يكن وسعه إلا طاعة أمر الله، فكان أن تزوج منها، ولو كان الأمر يتعلق برغبة في الزواج منها لفعل قبل أن يزوجها مولاه زيد. وأما صفية فقد كانت سيدة قومها، ووقعت في السبي في غزوة خيبر فأسلمت، فأعتقها الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوجها حفاظاً على مكانتها. وأما ميمونة بنت الحارث فكانت أرملة كبيرة السن، وهي قريبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تمكث بعد زواجها إلاّ يسيراً. وبعد هذا العرض لملابسات زواجه صلى الله عليه وسلم تتبيَّنُ حقيقة مقاصده من الزواج، وهي مقاصد الإسلام في تأليف قلوب الناس، واجتذابهم إلى الإسلام، ورعاية الأرامل، وتربية اليتامى، وحفظ تعاليم الدين، وخاصة ما يتعلق منها بشؤون المرأة.

أفبعد هذا يجترئ المتشدقون فيمدّون ألسنتهم بالأراجيف الباطلة، والتهم الكاذبة لتشويه صفحة طاهرة من جوانب حياة النبي الكريم، وكأنه أمضى حياته في النعيم، وقضى وقته مع الزوجات العديدات، متناسين زهده وشظف عيشه حتى ضاقت بذلك أمهاتُ المؤمنين، وطلبن التوسعة عليهن في النفقة، فنزلت آية التخيير وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). فأمره الله تعالى أن يخيِّر أزواجه بين بقائهن معه، واحتمالهن عيشه وزهده، وبين الطلاق مع إعطائهن حقوقهن وتكريمهن، وقد اختارت أمهات المؤمنين البقاء في عصمته. وقد ذكرت عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمر الله أن يخيِّر أزواجه" قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري - أي تستشيري- وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: إن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة (¬2). وأما بقية أزواجه - رضي الله عنهن - فقلن كما قالت عائشة، فصبرن على ضيق النفقة وقلة المئونة، رغم أنهن من عقيلات قريش والعرب، وعشن قبل الزواج في ثراء الآباء، وتذوقن رغد العيش، واعتدن الحياة الكريمة، لكنهن آثرن عند تخييرهن الله ورسوله والدار الآخرة. وقد استفاضت الروايات في بيان قلة الطعام في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان أهله يشبعون من خبز الشعير يومين متتاليين، وكان جل طعامهم التمر، ¬

_ (¬1) الأحزاب: 28،29. (¬2) متفق عليه (صحيح البخاري كما في فتح الباري 8/ 519، وصحيح مسلم 2/ 1103 حديث رقم 1475).

وحتى التمر ما شبعوا منه حتى فتحت خيبر، وأما اللحم وخبز البر والسمن والقثاء فقلما كانوا ينالونه، وقد يمضي عليهم الشهر والشهران ما يوقدون ناراً تحت قدر لا لخبز ولا لطعام إلاّ نادراً، مكتفين بالتمر والماء, وقد يبيتون الليالي طاوين، لا يجدون عشاء، لقد خيِّرنَ فاخترنّ متطلعاتٍ إلى الرفيق الأعلى {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}. لقد انتبه كارلايل (Carlyle) إلى ظاهرة الزهد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: "لم يكن محمد في حياته الشخصية من عشاق اللَّذة على الإطلاق، فقد كان متاع بيته يعد من أكثر الأمور اعتدالا، ومع ذلك فلم يحظ أي قيصر بتاجه بالطاعة مثلما حظي هذا الرجل بردائه الذي كان يرقعه بيده" (¬1) واعتبر دروزة هذه الحادثة وما نزل فيها من القرآن "أقوى رد على سفهاء المبشرين ومغرضي المستشرقين الذين حاولوا النيل من أخلاقه الكريمة في نسبتهم حب الدنيا ومباهجها وشهواتها إليه، مع ما كان منه من استغراق في الدعوة وابتعاد عن ذلك في مكة، وتبدو قوة الرد حينما يلاحظ أن الآيات قد نزلت في أواسط العهد المدني وبعد أن تمكن من القضاء على أعدائه .. " (¬2). إن قصة زواجه من أم المؤمنين زينب بنت جحش أثارت جدلاً طويلاً لذلك يلزم تفصيل خبر هذا الزواج الذي نزل فيه قرآن. قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬3). ¬

_ (¬1) سيرة الرسول في تصورات الغربيين لجوستاف بفانمو للمر g.pfannmulle ترجمة د. محمود حمدي زقزوق (ضمن بحوث مجلة مركز بحوث السنة والسيرة في قطر. العدد الثاني 1407 هـ (1987 م) ص130. (¬2) محمد عزة دروزة: سيرة الرسول 1/ 56. (¬3) الأحزاب:37.

لقد ورد في صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة، وزينب هي بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وزيد بن حارثة عربي من بني كعب وقع في السبي في غارة على قوم أمه بني معن من طيء، فأشترى لخديجة أم المؤمنين رضي الله عنها فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رباه رسول الله وأحبه حتى ما كان يدعى إلا زيد بن محمد كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين (¬1). وقد حاول حارثة والد زيد استعادة ابنه فرفض الابن إلاّ البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد زوجه الرسول الكريم بمولاته أُم أَيمن، ثم زوجه ابنة عمه زينب بنت جحش، وقد نزلت الآيات الكريمة في شأن هذا الزواج الذي لم يكتب له التوفيق، والذي سجل اسم زيد في كتاب الله تعالى حيث انفرد بهذا الذكر من بين سائر الصحابة. ويظهر من مجموع الروايات التي يسوقها الطبري في تفسيره (¬2) أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين خطب زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، استنكفت منه وأعلنت عدم رضاها به، وقالت: أنا خير منه حسبا، وكانت امرأة فيها حدَّة فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فأسلمت زينب أمرها لله ولرسوله كانت امرأة عابدة أَوَّاهة، فتزوجت زيداً دون رغبة فيه. والحق أن الوحي الإلهي تدخل مباشرةً في عقد هذا الزواج، كما تدخل أخيراً في فصم عُراه، فهو زواج يهدف إلى تحقيق أمر الله عز وجل في تغيير عُرف ساد الحياة العربية في الجاهلية، وتأصل فيها حتى صارت له قدسية العقائد واحترام المحارم، ذلك هو نظام التبني بحيث ينسب الابن المتبني إلى متبنيه بدلاً من أبيه، وتترتبُ على ذلك حقوق في الميراث والحرمة تماثل حقوق الأبوة على البنوة من الصلب. ولا يخفى ما في ذلك من افتئات على الفطرة ومجانبة للعدل، وتجاوز ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 517) وصحيح مسلم 4/ 1884 حديث رقم 2425). (¬2) تفسير الطري 22/ 9 - 11.

على الأنساب، فضلاً عن أن التحريم لا يكون إلاّ بوحي إلهي ولا يستطيع البشر ولو اجتمعوا أن يقرروا حرمة شيء أو حله. ولكن كيف تبطل هذه العادة فيقلع الناس عن التبني وينتهون عن التحريم والتحليل من دون وحي إلهي؟ لقد اتجه الوحي الإلهي إلى التعامل مع الواقع القائم بصورة عملية كفيلة بالتغيير مباشرة، دون الاكتفاء بالاعلان النظري، وهذا التغيير الواقعي أقوى أثراً وأسرع في إحداث التغيير، فإقرار العدل يحتاج إلى سرعة التغيير، واجتثاث الانحراف والظلم، فكانت قصة زواج زينب بنت جحش من زيد وقصة انفصالهما تحكي تدخل الوحي في أولها وآخرها لإحداث التغيير السريع في الواقع القائم ... وهكذا كان. نزلت زينب على قضاء الله ورسوله، فتزوجت زيد بن حارثة، ولم يتم التوافق بين الزوجين، وكلما اشتكى زيد زوجه للرسول صلى الله عليه وسلم قال له: أمسك عليك زوجك مع علمه صلى الله عليه وسلم بقضاء الله تعالى، وتقديره زواجه من ابنة عمته زينب بعد طلاق زيد لها ... وعلمه هذا كان يخفيه في نفسه، فمواجهة الأعراف المستقرة في قضية خطيرة كانت أمراً ثقيلاً، إذ كيف يتزوج زوجة ابنه - في عرف نظام التبني الجاهلي - ماذا تقول العرب وماذا يقول ضعاف الإيمان من المسلمين؟ لم تكن زينب بعيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل كانت تحت عينه وفي رعايته، فلو كانت له رغبة في الزواج منها لما زوجها زيد بن حارثة ولكن ما كان له بد من تنفيذ قضاء الله. لم يطق زيد العيش مع زوج لا تألفه فكان أن طلقها، فلما انقضت عدتها أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيداً نفسه يخطبها له، ففعل زيد ذلك وبذلك تبين أنه ما كان راغباً في استمرار زواجه بها، وكان راضياً عن زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو الذي قام بالخِطبة، وقد ذهب زيد إلى زينب خاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رآها

هابها واستجلَّها من أجل إرادة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، فعاملها معاملة أمهات المؤمنين في الإعظام والإجلال والمهابة، كما يقول الامام النووي شارح صحيح مسلم (¬1). ويروي زيد بن حارثة قصة الخِطبة كما في رواية صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال: "فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمِّر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتُها ظهري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها, ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن ... " (¬2). وكان ذلك في ذي القعدة في السنة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة على اختلاف الروايات قبل غزوة بني المصطلق، وقصة زواجها ترتبط بنزول الحجاب. فقد روى البخاري في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أمهاتي يواظبنني على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، كان أول ما أنزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروساً، فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي رهط منهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخرج وخرجت معه لكي يخرجوا، فمشى النبي صلى الله عليه وسلم ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة، ثم ظن أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ورجعت معه حتى ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 9/ 228. (¬2) صحيح مسلم 2/ 1048 (ط. استنابول).

إذا بلغ عتبة حجرة عائشة وظن أنهم خرجوا، فرجع ورجعت معه فإذا هم قد خرجوا فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينه بالستر وأنزل الحجاب" (¬1). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة زواجه بزينب قد أولم عليها بشاة واحدة، وهي أعظم ما أولم على زوجة من أزواجه، كما في حديث أنس بن مالك الذي تقدم. وكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول: زوجكن أهلوكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات كما في صحيح البخاري (¬2). وهكذا كانت حادثة الزواج خرقا لعرف جاهلي سائد كان يؤدي إلى توارث باطل يحجب أصحاب الحقوق الفعليين. ويحرِّم زواج الرجل من امرأة تحل له، بزعم أنها كانت زوجة ابنه، وإنما هو متبناه. قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬3). ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ابن بالغ مبلغ الرجال حين الخطاب، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬4). فالعدل ألا يُحرم الوالد من نسبة ولده إليه، وأن تعود حقوق الإرث والحرمات إلى ما شرع الله تعالى في ذلك دون أهواء الناس وأعراف الجاهلية. وقد يتصور البعض أن زيداً - رضي الله عنه - لم يكن كفئا للقرشيات، فالحق خلاف ذلك فهو من أوائل المسلمين السابقين زوجه رسول الله بعد طلاقه زينب من عقيلات قريش أم كلثوم بنت عقبة وأروى بنت كريزة ودرة بنت أبي لهب وهند بنت العوام أخت الزبير. وقد أملت الأهواء على بعض الرواة الضعفاء روايات لا يؤبه لقائلها بأن ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُخفيه هو محبةُ زينب ورغبتُهُ في الزواج منها، والحق أن الوحي الإلهي أوضح علة هذا الزواج بقوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}. ¬

_ (¬1) متفق عليه (صحيح البخاري كما في فتح الباري 9/ 230 وصحيح مسلم 2/ 1050). (¬2) صحيح البخاري كما في فتح الباري 13/ 403. (¬3) الأحزاب آية: 40. (¬4) الأحزاب: 5.

وقد أشارت الآية إلى أن الله تعالى أنعم على زيد بالإسلام، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق والحرية، وارتضاه زوجاً لابنة عمته، وحاول جاهداً الإصلاح بينهما، وكتم العلم بما سيكون من زواجه منها حتى طلقها زيد - رضي الله عنه - فخطبها وتزوجها بأمر الله تعالى إبطالاً لعادة التبني، وإرجاعاً للحق إلى نصابه.

جيل عصر السيرة: فضل الصحابة ووجوب محبتهم وموالاتهم

جيل عصر السيرة فضل الصحابة ووجوب محبتهم وموالاتهم ما هي خصائص الجيل الذي رباه محمد صلى الله عليه وسلم فأقام دولة الإسلام، وخاض غمرات الجهاد ونشر دعوة الإسلام في الآفاق، وصار من أعظم الأدلة على نجاح التربية المحمدية، فإنه لم يسبق لنبي أن ربَّى جيلاً بكامله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلنتعرف على هذا الجيل من خلال الكتاب والسنة والواقع التاريخي. صفة الصحابة في القرآن والسنة: قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). هكذا يصف القرآن محمداً وصحبه، ذلك الجيل المثالي الذي حقق مستوى سامقاً في الارتقاء الروحي والخلقي، فصقلته العبادة وكساه الركوع والسجود نوراً وبهاءا، وحددت العقيدة مفاهيمه وقيمه وولاءه وبراءه {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} يوالون بعضهم ويحادون من سواهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}. ذلك الجيل الذي خلدته كتبُ السماء فوصفته التوراة والإنجيل والقرآن بهذا الوصف الرائع، ممثلةً امتداد قيمه وانتشار عقيدته وكثرة أنصاره وقوة وجوده واستمساك أمره بالزرع الذي يتفرع وينتشر ويزداد ويشتد ساقه، يعجب أهله الذين غرسوه ويغيظ الأعداء، وقد ذُكر عند الإمام مالك بن أنس رجل ¬

_ (¬1) الفتح:29.

ينتقص الصحابة رضوان الله عليهم فقرأ الإمام مالك هذه الآيات حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. ذلك الجيل الذي بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، وحفظ القرآن والسنة، ولو فرط فيهما ما وصلا إلينا سالمين محفوظين بحفظ الله تعالى، لذلك ذهب كثير من العلماء إلى أن الطعن في جيل الصحابة إنما هو طعن في مصادر تلقينا للقرآن والسنة. وبالتالي فهو طعن بالدين. ذلك الجيل الموصوف بالخيرية والأفضلية المطلقة على سائر الأجيال كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني. ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. إنَّ بعدكم قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يُسْتَشهدون، وينذرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمَنُ" (¬1). وهذه الخيرية تجعل من جيل الصحابة مُثُلا عليا للمسلمين في كل زمان ومكان، فهم يتطلعون إليهم ويعتذرون بهم، ويقتدون بأعمالهم، ويسترشدون بسيرهم، تلك السير المتنوعة في الحرب والسلم والعبادة والمجاهدة والمعاملة مما يكفل للمسلمين في مختلف العصور نماذج متنوعة صالحة للاقتداء. ففي الحرب تجد الصحابة مؤمنين محتسبين مجاهدين ثابتين وصفهم القرآن في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬2). وهم في السلم هداة معلمون، ومصلحون عاملون، وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم أَمَنةٌ لأمته، ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النجومُ أَمَنَةُ السماء، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعد، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي, فإذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (الصحيح 3/ 151). (¬2) آل عمران: 172.

ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أَمَنَة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" (¬1). ومعنى أَمنةُ أمتي: أي حَفَظَتهم كما أن الملائكة حفظة السماء، وهذا الحفظ للأمة بحفظهم لدينها، وقيامهم بطاعة الله والتزام أوامره، ودعائهم للمسلمين، وذودهم عن الدين بالجهاد بالنفس والمال واللسان، لذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في كل زمان ومكان بتوقير الصحابة واحترامهم ومحبتهم، ونهى عن أذاهم وتناولهم بالكلام الجارح والجرأة عليهم، ففي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحداً أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصِيفَه (¬2) "، أي ما بلغ القدر اليسير من فضلهم. وقد بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الصحابة بالجنة فقال ونعم "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة, وعلي في الجنة, وطلحة في الجنة, والزبير في الجنة, وسعد بن مالك في الجنة, وعبد الرحمن بن عوف في الجنة, وسعيد بن زيد في الجنة" (¬3). فهؤلاء هم المبشرون بالجنة. ولم يحظَ بذلك جيل سوى جيل الصحابة رضوان الله عليهم ولم يكن الصحابة - رضوان الله عليهم - متساوين في الفضل والدرجة، بل كانوا يتفاضلون في السابقة والجهاد وكثرة البذل في سبيل الإسلام، قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (¬4) وقد فصلت الأحاديث الشريفة مقامات الصحابة وتفاضلهم ودرجاتهم. روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2531. (¬2) رواه البخاري ومسلم (صحيح البخاري 7/ 27 و 28 وصحيح مسلم حديث رقم 541). (¬3) الترمذي: سنن 5/ 647 - 648 وأنظر: صحيح البخاري 4/ 196، 8/ 97، 136 وصحيح مسلم 4/ 1868. (¬4) الحديد:10.

"أهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" (¬1) وهذا من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فقد استشهد الخمسة الآخرون رضوان الله عليهم أجمعين. ودل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على خصائص بعض الصحابة العلمية أو الخلقية أو الجهادية، إرشاداً للأمة للأخذ عنهم والاقتداء بهم فقال: "خذوا القرآن من أربعة، من عبد الله وسالم ومعاذ وأبي بن كعب" (¬2) وهم عبد الله بن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب. وأشاد مرة بأبي بكر الصديق رضي الله عنه وسماحته بماله ونفسه في سبيل الإسلام، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال إنَّه ليس من الناس أحدا أمنَّ عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر ابن أبي قحافة ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن خُلَّة الإسلام أفضل، سُدَّوا عني كلّ خَوخَة في هذا المسجد غيرَ خوخة أبي بكر" (¬3). وأشاد صلى الله عليه وسلم بعمر بن الخطاب فقال: "إن الله تعالى جعل الحقَّ على لسان عمر وقلبه" (¬4). وقال: "لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناسُ مُحَدَّثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحدٌ فإنه عمر" (¬5). وهكذا بين خصائص عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث صار رمزاً للعدل في الإسلام، وبقيت سيرته الطافحة بالعدل الشامخ، والزهد في الدنيا، والجهر ¬

_ (¬1) صحيح مسلم حديث رقم 2417 وقارن برواية البخاري في الصحيح 4/ 204. (¬2) رواه البخاري ومسلم (صحيح البخاري 6/ 102 وصحيح مسلم 4/ 1913 حديث رقم 2464). (¬3) صحيح البخاري: 1/ 120. (¬4) رواه الترمذي وقال: حسن غريب (سنن 5/ 617 حديث رقم 3682). (¬5) رواه البخاري ومسلم (صحيح البخاري 4/ 200 وصحيح مسلم 4/ 1864 حديث رقم 2398).

بالحق، والقيام بمصالح الأمة من تنظيم الدواوين، ووضع الخراج، وتجهيز الجيوش، وتحرير المجتمعات من ظلمات الجاهلية، والأخذ بيد الشعوب نحو نور الإسلام، وكرامة الإيمان، وعدل الرحمن، فكان ملهماً محدثاً ذا فراسة. كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمق في الدين والعلم، والعبقرية في العقل والاجتهاد والعمل. وأشاد صلى الله عليه وسلم بعثمان ذي النورين، الذي ما جمع أحد بين بنتي نبي سواه حيث زوَّجَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته رقية، فلما ماتت زوجه بنته الثانية أم كلثوم، لذلك لقب بذي النورين، وقد بشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والشهادة. فافتدى الأمةَ وحقن دماءها بدمه، ورفض الانصياع للأعراب بالتنازل عن الخلافة بمشورة عبد الله بن عمر لئلا تصبح سنة كلما كره قوم أمامهم خلعوه أو قتلوه (¬1). مما يدل على بصيرة سياسية، ووعي بالسنن الاجتماعية، وقدرة على اتخاذ الموقف في أحرج الظروف ومع أشد التضحيات. وأشاد - صلى الله عليه وسلم - بعلي بن أبي طالب، وزوَّجه بنتَه فاطمة الزهراء البتول، وشهد له بالجنة والشهادة، وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلَّف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلِّفني في النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ (¬2). وروى الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله .. فدعا علياً فأعطاه الراية (¬3). فهذه نبذة عن مكانة الصحابة الكرام مما يوجب موالاتهم ومحبتهم والاستغفار لهم وحفظ حقهم ومكانتهم. ¬

_ (¬1) خليفة بن خياط: التاريخ 170 بإسناد حسن. (¬2) صحيح البخاري 4/ 208 وصحيح مسلم 4/ 1870 حديث رقم 2404. (¬3) صحيح البخاري 4/ 207 وصحيح مسلم 4/ 1871.

مبادرة الصحابة إلى طاعة الله

مبادرة الصحابة إلى طاعة الله كانت أجيال المسلمين في القرون الأولى تقرأ القرآن وكأنه ينزل على كل واحد منهم - رجلاً كان أو امرأة - غضاً طرياً، وكانت لغة التخاطب بينهم هي الفصحى التي نزل بها القرآن وقد أعانهم ذلك على فهم الخطاب الإلهي بسهولة ويسر، كما ولَّد الأثر القوي في نفوسهم، وسرعة الاستجابة التامة لتعاليمه وأحكامه. ولا شك أن جيل الصحابة (رضوان الله عليهم) كان أسرع استجابة وأبلغ تأثراً، وأقدر على التخلص من عادات الجاهلية وتقاليدها وأعرافها، حتى لو كانت العادة الجاهلية قد استقرت منذ قرون وصارت عُرفاً مشروعاً وتقليداً مقبولاً. قالت عائشة رضي الله عنها: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (¬1) شققن مروطَهُنَّ فاختمرن به" (¬2). ومن أبلغ المواقف التي بادر فيها الصحابة إلى إعلان الطاعة مع إحساسهم بالمشقة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:"لمَّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3) قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله كُلّفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة والجهاد والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. قالوا: ¬

_ (¬1) النور: 31. (¬2) صحيح البخاري 6/ 13 مختصراً وقارن بسنن أبي داؤد 4/ 356 - 357. (¬3) البقرة: 284

سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فأنزل الله عز وجل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ. رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (قال: نعم) رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا (قال: نعم) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (قال: نعم) (¬1) فهذا الحديث يفيد سرعة مبادرة الصحابة إلى الطاعة حتى عندما يجدون في التكليف مشقة. وقد عرف الله تعالى منهم حسن الطاعة فأثابهم بالتخفيف عنهم والتوسعة عليهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنه عندما قرأ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} قال: هم المؤمنون وسَّعَ الله عليهم أمر دينهم فقال {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬2). وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3). وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬4) (¬5). وقد جاء في الحديث النبوي "أن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬6). والحديث يوافق الآية {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} حيث استجاب الله تعالى لهم فقال: نعم كما في صحيح مسلم. قال ابن كثير في معنى الدعاء في الآية: أي إن تركنا فرضا على جهة النسيان، أو فعلنا حراماً كذلك، أو أخطأنا الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي" (¬7). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم رقم الحديث 125. وقارن برواية سنن الترمذي رقم الحديث 2992. (¬2) الحج:78. (¬3) البقرة:185. (¬4) التغابن:106. (¬5) تفسير الطبري: 3/ 154. (¬6) سنن ابن ماجة رقم الحديث 2045. (¬7) تفسير ابن كثير 1/ 342 - 343.

وقد حددت الآية والحديث قاعدة عظيمة في تحديد المسئولية فالإنسان لا يسأل عن الخواطر التي تقع في نفسه ما لم يتكلم أو يعمل بها كما في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به" (¬1). إذ لا يسيطر الإنسان على الخطرات والصور التي ترد إلى ذهنه، ومن هنا أحس الصحابة رضوان الله عليهم بالحرج عندما نزلت الآية {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} لكنهم بادروا بالطاعة فرفع الله عنهم الحرج، كذلك فالإنسان لا يُسأل إلا عن الأعمال التي صدرت منه في حال العقل والعمد والاختيار، ومن هنا لم يُعتبر الكفر مع الإكراه قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ولم يعتبر الطلاق للمجنون والمكره، ولم يعتبر ما أكله الصائم ناسياً قادحاً في صومه. فهذا التيسير في الأحكام إنما كان ببركة مبادرة الصحابة إلى الطاعة مع الإحساس بالمشقة. وقد حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى الطاعة، خوفاً من تغير الأحوال وإقبال الفتن والأهوال، مما يصرف الإنسان أو يضعفه عن المبادرة إلى الإحسان والطاعات، فقال: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يُصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يُمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيعُ دينه بعَرَض من الدنيا" (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: "أن تصدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحُلقوم. قلت: لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا وقد كان لفلان" (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم، رقم الحديث 127. (¬2) صحيح مسلم رقم الحديث 118. (¬3) صحيح البخاري 3/ 226 وصحيح مسلم رقم 1032.

فالحديث يبينِّ أهمية المبادرة إلى بذل الصدقة والمعروف، فالإنسان حين يبذل المال وهو في تمام صحته وعنفوان حياته، وهو إليه محتاج وعليه حريص، ينتابه الخوف من الفقر، وتتملكه الرغبة في جمع المال حباً له أو حيطةً لمستقبله ومستقبل عياله، هذا الإنسان حين يتصدق ويبذل فإنه يكون قد نجح في الامتحان، فغلب توكُلُه الصادقُ على كل الوساوس والخطرات، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1). فالشيطان إذاً يورد على ابن آدم خواطر الشر والشك في وعد الله تعالى من الثواب على الأعمال الصالحة والصدقات وبذل المعروف ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ما نقصت صدقة من مال) (¬2). فيورد عليه الشيطان الوساوس يقول: أمسك عليك مالك فإنك تحتاجه، وبادر إلى اللذات والنعيم بالدنيا قبل فواتها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً الصراع الذي ينتاب الإنسان بين وساوس الشر يلقيها الشيطان وخواطر الخير يلقيها الملاك: للشيطان لَمَّةٌ بابن آدم وللمَلَك لَمَّة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق. وأما الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (¬3). ولعل أقوى ما يدفع لَمَّة الشيطان وإلقاءه الوساوس حال الاقتراب من الإنسان أن يبادر الإنسان إلى فعل الطاعة. وبذلك يقطع السبيل على الوساوس والخطرات التي تستهدف إضعاف إيمانه والنيل من توكله على الله تعالى وتصديقه بوحيه وإخباره. ¬

_ (¬1) البقرة:268. (¬2) صحيح مسلم حديث رقم 2588. (¬3) سنن الترمذي حديث رقم 2988 (ط. شاكر) والآية من سورة البقرة: 268.

وقد روى الصحابي جرير البجلي رضي الله عنه: أن قوما من المسلمين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار، فإذا هم عراة حفاة يلبسون أكياس الصوف وعليهم السيوف، فتغيَّر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إشفاقاً عليهم، وجمع الناس، وحثهم على الصدقة، وقرأ عليهم الآيات في ذلك ومنها {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (¬1). فتتابع الناس حتى جمعوا كومين من طعام وثياب، فتهلل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فرحاً بمبادرة الصحابة إلى معونة إخوانهم وطاعة ربهم (¬2). ¬

_ (¬1) الحشر: 18. (¬2) صحيح مسلم 2/ 704 - 705 حديث رقم 1017.

تجرد الصحابة للدعوة إلى الإسلام

تجرد الصحابة للدعوة إلى الإسلام قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). هذه الآيات الكريمة نزلت في وصف المهاجرين والأنصار من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي توضح تجردهم لدعوة الإسلام، فلم يقف حب الديار والتعلق بالمال عائقاً أما خدمتها، فلما أمروا بالهجرة سارعوا إليها تاركين ما ألفته النفس من الديار، وما حازوه من المال تجرداً للدعوة، وابتغاء مرضاة الله التي تعلو على كل حظوظ النفس، وقد وصفتهم الآيات بالإيمان الصادق وتسديد النية في ابتغاء فضل الله ورضوانه، فليس لهم مطمع في المال والجاه والشهرة، وعندما يحين وقت البذل والعطاء نجد أيديهم سمحة بالمال ممدودة بالسخاء، لا تقف عند حدود بذل المال الزائد والفضل عن الحاجة بل تحقق ما هو أرفع ... تحقق الإيثار على النفس المحتاجة .. فتحرم من حاجتها لتلبي حاجة العقيدة أولاً .. لقد انخلع جيل الصحابة عن الشح ليحققوا الفلاح الذي وصفتهم به الآيات بعد أن استحقوا صفة النصرة لله وللرسول، وبذلك صاروا رموزا شامخة وأعلاماً هادية وقدوات سامقة تتطلع أجيال المسلمين إليهم بكل فخر واعتزاز وبكل تمجيد وتقدير، وما أحسن وصف ابن مسعود لأبناء جيله من الصحابة حين قال: "من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم" ¬

_ (¬1) الحشر 8 - 9.

نهض الصحابة رضوان الله عليهم بالدعوة إلى دين الله، وعبَّروا عن مضامينه ومقاصده أجمل تعبير، مما يدل على وعي عميق بواقع عصرهم، ومقاصد دينهم .. قال ربعي بن عامر لقائد الفرس رستم: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيف الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" (¬1). وكان الصحابة يحملون رسالة إلى أهل الأرض، وكان أشد فرحهم عند دخول الناس في الإسلام، وكانوا بذلك واعين لأهدافهم حريصين على نشر عقيدتهم مستوعبين لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: "لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم" (¬2). وكانت قياداتهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد هذا المعنى .. قال الصحابي الجليل أنس بن مالك: "بعثني أبو موسى الأشعري بفتح تُسْتَر إلى عمر، فسألني عمر وكان ستة نفر من بكر بن وائل قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين - فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت يا أمير المؤمنين، قوم قد ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلا القتل. فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء - أي من الذهب والفضة -. قلت: يا أمير المؤمنين، وما كنت صانعا بهم لو أخذتهم؟ قال لي: كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن" (¬3). ولما عرض المقوقس على عمرو بن العاص الجزية عند فتح الإسكندرية على أن يرد إليهم الأسرى، كتب عمر بن الخطاب إلى ابن العاص بقبول الجزية، وتخيير الأسرى بين الإسلام والنصرانية .. وقد وصف موقف التخيير ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 3/ 528. (¬2) صحيح مسلم 2/ 279. (¬3) البيهقي: السنن 8/ 207.

شاهدُ عيانٍ هو زياد بن جزء الزُّبيدي، قال: "فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا، ثم نخيِّرهُ بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبَّرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية. قال: ثم نحوزه إلينا. وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً حتى كأنه رجل خرج منا إليهم. قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم. وقد أُتي فيمن أتينا به - بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن، فوقفناه فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية - وأبوه وأمه وأخوته في النصارى - فاختار الإسلام فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وأخوته، يجاذبوننا حتى شقَّقوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا (¬1) ". وهذه الحادثة تكشف عن مشاعر الصحابة، وتعلقهم بدينهم، ورغبتهم الصادقة في إسلام الناس، وإن سقطت الجزية عنهم، ثم هي تكشف عن جو الحرية الدينية، وعدم إجبار أحد على اعتناق الإسلام حتى مع القدرة عليهم. ولم يكن طريق الإسلام في جيل الصحابة معبداً مفروشاً بالزهور، وخاصة في أولى مراحل الدعوة بل كان محفوفا بالأخطار، وكان الدخول فيه امتحانا شاقا لا تجتازه بنجاح إلا الهمم الشامخة والنفوس العالية، التي حازت الإيمان والتقوى والإخلاص والمجاهدة .. مرَّ رجل بالمقداد بن الأسود - رضي الله عنه - فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت!! فقال المقداد: ما يحمل أحدكم على أن يتمنَّى محضراً غيَّبه الله عز وجل عنه. لا يدري لو شهده كيف يكون فيه! والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام - كبهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم - لم يجيبوه ولم يصدقوه! أولاً تحمدون الله إذ أخرجكم الله عز وجل لا تعرفون إلا ربكم مصدِّقين بما جاء ¬

_ (¬1) تاريخ الطبري 4/ 227.

به نبيكم عليه السلام، وقد كُفيتُم البلاء بغيركم؟! والله لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشدِّ حال بعث عليه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرَّق بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافراً. وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان، ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه - أي أقربائه - في النار، وإنها للتي قال الله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}. وكان معظم الصحابة من الفقراء، وكانت الدولة الناشئة في المدينة المنورة لا تملك الأموال، فلا مطمع لمن يدخل في دين الله في نيل المال أو الجاه أو أي من أعراض الدنيا، ومن طريق الروايات التي تصور فقرهم وحالهم ما أخرجه البخاري في صحيحه عن الصحابي الجليل سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: كانت منا امرأة تجعل في مزرعة لها سِلْقًا، فكانت إذا كان يوم الجمع تنزع أصول السلق فتجعله في قِدْر، ثم تجعل قبضة من شعير تطحنه، فتكون أصول السلق عَرْقَة - أي عظمه ولحمه -. قال سهل: كنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنَّى يوم الجمعة لطعامها ذلك - وفي رواية: ليس فيها شحم ولا وَدَك، وكنا نفرح بيوم الجمعة" (¬1). وقد تحمَّل الصحابة الكرام من الجوع والعطش والحرِّ والبرد والأذى، فصبروا على الامتحان، وآثروا العقيدة على نعيم الدنيا، فاستحقوا المكانة التي وصلوا إليها حيث خلدهم كتاب الله تعالى بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظت لهم الأمة الإسلامية قدرهم على مدى الزمان. لقد كان الصحابة يلتزمون بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم للخلفاء الراشدين من بعده، وكان للبيعة قيمة عالية فهي التزام حرُّ وتعاقدٌ بين الطرفين، وقد دلَّلوا ¬

_ (¬1) المنذري: الترغيب والترهيب 5/ 173.

دائماً على صدق التزامهم فلبَّوا داعي الجهاد وخاضوا غمار المعارك في أماكن نائية عن ديارهم، ودُفِنَ كثير منهم في أطراف الأرض ما بين كابل والقسطنطينية والقيروان وما عرفوا القعود عن الجهاد والحفاظ على الكرامة والذود عن العقيدة. وبيعة الناس للخليفة تدل على أن الأمة هي مصدر السلطة، وأن السلطة ليست ثيوقراطية، وليست ممنوحة من الله لأحد من البشر بل هي تعاقد بين المسلمين وحاكمهم على أن يطيعوه في العسر واليسر والمنشط والمكره، مقابل حفاظه على دين الله، وإنفاذه حكم الله، وحفظه للأمن، وتحقيقه لمصالح الرعية، فلا كهنوت في الإسلام ولا تفويض إليهاً، بل بيعة حرة يدرك الطرفان، الأمة والحاكم عمق معناها ومدى التزاماتها؛ ذلك العمق والالتزام النابعان من معنى الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (¬1). وما أدق تعبير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين قال له عمير بن عطية الليثي - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين ارفع يدك - رفعها الله - أبايعْكَ على سُنَّة الله ورسوله. فرفع عمر يده وضحك وقال: هي لنا عليكم ولكم علينا. فالتزام البيعة إذاً يشمل الراعي والرعية. لقد خلد القرآن الكريم مواقف المسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار في آيات كثيرة. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). والسابقون الأولون هم الذين صلَّوا إلى بيت المقدس أولاً ثم صلوا إلى الكعبة بعد تحويل القبلة إليها، وهذا الرأي قال به سعيد بن المسيب، ومحمد ابن سيرين، وهما من كبار التابعين. وتحويل القبلة إلى الكعبة كان في السنة الثانية من الهجرة بعد ستةَ عشرَ شهراً من قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن كان على الإسلام قبل هذا التاريخ فهو من السابقين الأولين. ¬

_ (¬1) الفتح: 10. (¬2) التوبة: 100.

إنَّ أولى السابقة تحمَّلوا المسئولية في ظروف الشدة والخطر، فالمهاجرون ضحوا بالأهل والمال والديار، وهاجروا لنصرة عقيدتهم، والأنصار عرَّضوا مدينتهم للخطر، وآثروا العقيدة بالنفس والمال والأمن. وقد تفاضل الصحابة - رضوان الله عليهم - حسب قدمهم في الإسلام وخدمتهم للعقيدة، فكان البدريون طبقة أولى فهم من السابقين الأولين، وكان من شهد أُحُدًا طبقة ثانية، وكان من شهد الخندق طبقة ثالثة، ومن شهد بيعة الحديبية طبقة رابعة، ومن أسلم في ما قبل الفتح طبقة ومن أسلم بعد فتح مكة طبقة. وروى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يقتل حاطب بن أبي بلتعة وهو صحابي بدري، حاول أن يرسل خبر إعداد المسلمين لفتح مكة إلى قريش، لكن الرسالة سقطت بيد المسلمين، واعترف حاطب بأنه أراد أن يحمي أهله بمكة من أذى قريش، وهنا نجد أن سابقة حاطب وشهوده بدراً تشفع له، فلا يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بقتله بل يقول: إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلَّع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم" (¬1). وقد اشتكى أحد عبيد حاطب بن أبي بلتعة عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله ليدخلنَّ حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتَ لا يدخلها إنه شهد بدراً والحديبية" (¬2). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل النار أحدٌ شهد بدراً والحديبية" (¬3). وقد اختص عمر بن الخطاب أهلَ السابقة والخدمة للإسلام بعطاءٍ أوفر من الدولة، وهكذا قرن بين التكريم المعنوي والمادي لتمكين هؤلاء الرجال من العيش الكريم، ولتقوية نفوذهم في المجتمع، وتدعيم مركزهم في القيادة ¬

_ (¬1) صحيح البخاري (فتح الباري 2/ 519) وصحيح مسلم 4/ 1941. (¬2) صحيح مسلم 4/ 1942. وكذبت تستعمل بمعنى أخطأت. (¬3) صحيح مسلم 4/ 1942.

والتوجيه، وهي التفاتة تدلُّ على عبقرية أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -. روى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صبية صغاراً، والله ما ينضجون كُراعًا، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع - أي السنة المجدبة - وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم. فوقف معها عمر ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه ثم قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير. فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها. فقال عمر: ثكلتك أمُّك، والله إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمناً فافتتحناه، ثم أصبحنا نستفييء سهماننا فيه". وقد تكرر ذلك من عمر - رضي الله عنه -، فقد قسَّم مروطا (أكسية من صوف أو خز) بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيِّد، فقال بعض من حضر: يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك - يريدون أم كلثوم بنت علي - رضي الله عنه - وكانت زوجة لعمر بن الخطاب. فقال عمر: أم سُليط أحق به، فإنها ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحمل للناس القرب يوم أحد (¬1). وهكذا فإن تكريم الأبطال الذين يقدمون خدمات عظيمة للمجتمع انسحب على أبنائهم، وبذلك يعرف الناس جميعاً أن تضحياتهم لا تضيع في الدنيا ولا في الآخرة {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. ¬

_ (¬1) ابن الجوزي: مناقب عمر 57.

ولا شك أن الإسلام جعل اتباعه يتطلعون إلى ما عند الله من الأجر العظيم، الذي لا يعدله شيء من تكريم الدنيا مهما عظم، فقد صحّ أن أعرابياً شهد فتح خيبر أراد النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المعركة أن يقسم له قِسْمًا وكان غائبًا، فلما حضر أعطوه ما قسم له، فحاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلا. ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بجُبَّتِه وصلَّى عليه ودعا له فكان مما قال: "اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، وأنا عليه شهيد" (¬1) وقد أثبت الأبطال المسلمون ترفعا على الدنيا وما فيها, وشمخت نفوسهم إلى الرضوان الأكبر، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "والله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية، أنه يريد الدنيا مع الآخرة" (¬2). ولما قُدِم بسيف كسرى على عمر ومِنْطَقَتِه وزِبْرجِهِ، قال عمر: ان أقواما أَدَّوا هذا لَذَوو أمانة. فقال علي - رضي الله عنه -: إنَّكَ عففتَ فعفَّت الرعية (¬3). ومن أجل مظاهر تكريم الصحابة في الإسلام أنهم اعتبروا موضعَ قدوة وتأسٍ من بين المسلمين، فكتبت سيرهم وعرفت أخبارهم وبلغت كتب التراجم التي خلدت ذكراهم عشرات الألوف من الكتب، فلم تعنَ أمة بتسجيل تراجم رجالاتها مثل عناية الأمة الإسلامية، وهذا هو السبب الذي جعل كتب التراجم أوسع موضوعات المكتبة العربية الإسلامية. ¬

_ (¬1) مصنف عبد الرازق 5/ 276. (¬2) تاريخ الطبري 4/ 19. (¬3) المصدر السابق 4/ 20.

وكان العلماء قديماً وحديثاً يوجِّهون النشأ إلى النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير أصحابه الغر الميامين، لينشأوا على حب البطولة والأبطال، وليتأسوا بخلق أصحاب المروءة والشجاعة والكرم والصدق والعفاف والمعروف. وقد نبَّه القرآن الكريم إلى ضرورة تحقيق هذا المنهج في الاقتداء بالصالحين فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1). والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم شامل لمنهجه في مطالب الدين والدنيا لأنه لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى. أما الاقتداء بالعظماء والصالحين من البشر فيكون في الجانب الذي تميزوا به مما يتطابق مع أحكام الشرع ومقاصده، فيستفاد من تطبيقهم ذلك في حياتهم لتوضيح المعنى وإبراز موضع القدوة، مع ضرورة اعتبار بعض القواعد، ومنها أن الأفذاذ من الأبطال والصالحين لهم أخطاؤهم أيضاً، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومن هنا تظهر أهمية قاعدة "اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال" فمن المهم وضوح الحق وتميزه ومعرفة الباطل وتميزه، وقد قال الإمام أحمد: "من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال". والصحابة أنفسهم يتفاضلون في السابقة والجهاد والعلم بالقرآن والسنة والفقه، فمنهم البدريون والأحديون وأصحاب الخندق ومسلمة ما قبل الفتح ومسلمة ما بعد الفتح، ولا شك أن أصحاب السابقة هؤلاء يمتازون بأنهم رموز الدعوة الإسلامية ومثلها العليا، وكانت أعمالهم سوابق تُحتذى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن أعمال الخلفاء الراشدين سنّة تُحتذى، وسوابق يقاس عليها، وذلك في الحديث "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ" (¬2). ونجد الآية الكريمة هنا توجه المؤمنين إلى إتباع أهل السابقة {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}. ¬

_ (¬1) الأنعام: 90. (¬2) سنن أبي داود 5/ 14 حديث رقم 4607 وسنن الترمذي حديث رقم 2678 وقال: حسن صحيح. وسنن ابن ماجة حديث رقم 42.

ونجد الخليفة عمر بن الخطاب يختص أهل السابقة من البدريين بأعلى العطاء، وكان يدرك أن ترسيخ جذور هذه الفئة وتقويتها بالدعم المادي والأدبي يمكنها من القيام بدورها خير قيام، ويجعلها تتخلص من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وبذلك تعين على ترسيخ القيم الإسلامية والحفاظ عليها، وتمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون أن تعيقها الحاجة، أو تستذلها المادة، أو تخيفها من قولة الحق. إنَّ لكل مجتمع رموزاً وقادة يمثلون قيمه، ويوجهون الأمة نحوها، ورموز المجتمع الإسلامي الأول هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضلهم أهل السابقة، فقد محَّصتهم الفتن، وامتُحِنوا بالنفس والنفيس، فاسترخَصوا كل شيء من أجل رفع راية العقيدة الإسلامية. هذا صهيب - رضي الله عنه - أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعه نفر من قريش مشركون، فنزل فانتشل كنانته فقال: قد علمتم يا معشر قريش أني أرماكم رجلا بسهم، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم شأنكم بعد ذلك، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وتخلوا سبيلي، قالوا: نعم. فتعاهدوا على ذلك فدلَّهم، فأنزل الله على رسوله القرآن {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} (¬1). حتى فرغ من الآية. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا قال: ربح البيع يا أبا يحيى! ربح البيع يا أبا يحيى! وتلا عليه الآية (¬2). وأمثال صهيب كثير عافوا الأرض والأهل والمال، وهاجروا بأنفسهم إلى الله ورسوله، فكانوا مادة الإسلام ورجاله الأولين. وكانت الهجرة نصرةً لدين الله ودفعاً لفتنة الإِقامة بين ظهراني المشركين، كذلك كانت بيعة الأنصار في العقبة الثانية على النصرة، فقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في ¬

_ (¬1) البقرة: 207. (¬2) ابن سعد: الطبقات 3/ 162 - 163. والحاكم: المستدرك 3/ 398، وصححه على شرط مسلم.

منازلهم عكاظ ومجنة وفي المواسم يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ "فلا يجيبه أحد يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك. حتى بعث الله إليه الأنصار فآووه وصدقوه ونصروه (¬1). وأنفق الأنصار النفقة العظيمة، وواسوا المهاجرين بأموالهم، وآثروهم على أنفسهم حتى قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل القوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المؤونة واشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال صلى الله عليه وسلم: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" (¬2). وقد استحق الأنصار وصف رجال العقيدة المخلصين كما قال لهم صلى الله عليه وسلم: "إنكم ما علمت تكثرون عند الفزع وتقلّون عند الطمع". وتخليداً لمروءتهم وعفتهم وشهامتهم قال صلى الله عليه وسلم: "ما يضر امرأة نزلت بين بيتين من الأنصار، أو نزلت بين أبويها" (¬3). وهكذا كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم يقدم التضحيات الجسيمة في سبيل نصرة دين الله، فمكَّن الله لهم في الأرض كما وعدهم - ووعدُهُ الحقُّ - بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬4). وقد دلَّل التاريخ على نجاح التربية المحمدية للصحابة رضوان الله عليهم، فبرز منهم عظماء الإسلام من الخلفاء والولاة والقضاة والقادة والعلماء والمربين، وتمكنوا من إرساء قواعد العقيدة ومنهاج الشريعة وأصول التربية وقيم الأخلاق ¬

_ (¬1) الحاكم: المستدرك 2/ 625. (¬2) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح (مسند أحمد 3/ 200 - 204، وسنن الترمذي 4/ 653 حديث رقم 2487 وقال: صحيح حسن غريب. (¬3) الهيثمي: مجمع الزوائد 10/ 40 وقال: رجاله رجال الصحيح. (¬4) النور: 55.

في المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك في الدنيا الرجال الذين رباهم على عينه، وقد ودعهم الوداع الأخير عندما أطل عليهم من حجرته صفوفاً منتظمةً خلف الصديق - رضي الله عنه - فابتسم ابتسامة الرضا والطمأنينة والثقة على مصير العقيدة في أيدي الصحابة الثقات. وتتالت الأحداث الخطيرة بعد وفاته وعجم التاريخ عود الصحابة واختبر صلابة قناتهم التي لا تلين .. ارتد الأعراب خارج المدينة ومكة والطائف وامتنعوا عن أداء الزكاة، ونصح بعض الصحابة أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أن يدعهم يصلون ولا يؤدون الزكاة فقال: "والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو ضعوني عَناقًا كان يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" (¬1). فقاتل الأعراب حتى رجعوا إلى الإسلام، وأعاد توحيد الدولة، ونظم حملات الجهاد لفتح العراق والشام. وتوفي أبو بكر -رضي الله عنه - وبايع الناس عمر بن الخطاب، فحرص الناس على الجهاد، وأتم فتح العراق وإيران والشام ومصر، وأعاد تنظيم الجيش ورتب ديوان الجند وفرض الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة، وعزز استقلال القضاة عن الولاة، وحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: "لم أر عبقرياً يفري فريه" (¬2). وعزَّز مبدأ الشورى وطبقه في حياته وعند وفاته، وبذلك أكَّد على دور الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد، وصارت سيرته رمزاً للعدل المطلق على مدى التاريخ، ومات غيلة على يد أبي لؤلؤة المجوسي. وهكذا كان دور عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب في إقامة صرح الإسلام، وتوسيع رقعة دولته، ودعاء الناس إلى إعتناقه، وإقامة الشرع الحنيف وأحكامه بين أتباعه، وإعلاء راية الجهاد، ونشر العلم، وإشاعة الفقه وتولي الفتيا، وإطفاء الفتن، حتى ماتا شهيدين - كما بشَّرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) النسائي: سنن 5/ 5 - 6. (¬2) صحيح البخاري 4/ 198.

ورغم حداثة عهد العرب بالدولة الواحدة التي لم يعرفوها قبل الإسلام، فقد دامت دولة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قرونا طويلة، مما يدل على عمق الأساس الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى نجاح تربيته للصحابة الذين تولوا الأمر من بعده. لقد خرَّجت مدرسة القرآن جيلاً عظيماً في دينه، عظيماً في خلقه، عظيماً في جهاده، وحسن بلائه، وفتَّقت الأذهان والقرائح، وأنارت القلوبَ بَوهَج الإيمان، والعقول برحيق القرآن، وأثبتت تاريخياً أنها قادرة على تحقيق إنسانية الإنسان، والحفاظ على جوهره النقي، ومعدنه الأصيل، وفطرته السليمة، في حين أضاعت الأيديولوجيات والفلسفات الوضعية الإنسان وأحالته إلى مسخ، فصادرت روحه وعقله وخلقه، وغرست التوحش والانتقام، ونمَّت أنيابه ومخالبه، وما زالت مدرسة القرآن قادرة على إعادة الإنسان إلى إنسانيته، عندما يرتشف من رحيق الكتاب والسنة، ويقتدي بجيل الصحابة رضوان الله عليهم.

فضل الهجرة

فضل الهجرة لقد بيَّن القرآن في آيات كثيرة فضل الهجرة في سبيل الله، ومكانة المهاجرين الأولين الذين خلَّد الله ذكرهم، وأعلى مكانهم، وبيَّن عظيم أجرهم. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). وقال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (¬2). وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (¬3). وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4). وكانت الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة دليلاً على ما للعقيدة من تأثير بالغ، يقوى على فصم روابط الإنسان بالمكان؛ أرضاً ومالاً ومصالح وأهلاً، فقد ترك المهاجرون كل ذلك وراءهم عندما اقتضت مصلحة العقيدة ذلك، وكانوا يرسمون مستقبلاً وضيئاً لأمة الإسلام، فهجرتهم وصبرهم وجهادهم وتضحياتهم أقامت دولة الإسلام الأولى على أرض المدينة المباركة. ومنذ ذلك الحين قبل أربعة عشر قرناً استمرت دولة الإسلام تتوسع حتى شملت مساحة واسعة في قارات آسيا وأفريقيا وأوربا. صبغتها جميعاً بصبغة العقيدة، وأظلتها بروح الإسلام، وحضارته الشامخة، وشريعته السمحاء، فوحدت قلوب الناس بالمعتقد، وقانونهم ونظامهم بالشرع، وسلوكهم ووجهتهم بأهداف الإسلام في تحرير الإنسان من ¬

_ (¬1) البقرة: 218. (¬2) آل عمران: 195. (¬3) التوبة: 117. (¬4) التوبة: 100.

الشرك والظلم والتيه. وكانت اللغة العربية أداة الاتصال بين جميع المسلمين من سائر الأجناس والألوان، إذ ما أن يعتنق الإنسان الإسلام حتى يسعى لتعلمها ومعرفة كتاب ربه وحديث نبيه بواسطتها. وهكذا أسهم الجميع في بناء صرح أدب عربي إسلامي رفيع. كما أسهموا في فهم معاني القرآن والسنة وأحكامهما، ووضع قواعد الاستنباط منهما، فنمت الثورة الفقهية الهائلة التي هي مجهود عقول اعتصرها أصحابها للوصول إلى حكم الله في كل ما يستجد في الحياة من أحداث. وكما خلد القرآن ذكر المهاجرون الأولين فقد خلد ذكر الأنصار الذين آووهم وشاركوهم بيوتهم وأموالهم، وعرضوا أمن مدينتهم للخطر في سبيل العقيدة التي اعتنقوها والدين الذي آمنوا به. قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). وقال عليه الصلاة والسالم في بيان فضل الهجرة ومكانة النصرة (ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) (¬2). وسميت المدينة بـ "دار الهجرة والسنة" كما في صحيح البخاري. وصارت الهجرة إلهيا من مكة أولاً ثم من سائر الأنحاء الأخرى التي انتشر منها الإسلام، وكانت الآيات القرآنية تحث على الهجرة بقوة وترتب عليها من الفضل العظيم، ورجاء رحمة الله، وتكفير السيئات، وتوبة الله تعالى على المهاجرين، ورضا الله عنهم، ودخول الجنة .. هذا في الآخرة، وأما التقويم في الدنيا فقد اعتبرت الهجرة من أفضل الأعمال، وأولاها برفع مرتبة المسلم معنويا، ثم صار لها اعتبار مادي في العطاء السنوي منذ أن نظم عمر - رضي الله ¬

_ (¬1) الحشر: 9. (¬2) صحيح البخاري 4/ 222 ط. استنبول.

عنه - العطاء. فاعتبر السابقة في الإسلام سبباً في زيادة عطاء المسلم السنوي، وكان المراد من الحث المستمر على الهجرة توفير القوة البشرية اللازمة للدفاع عن المدينة المنورة، لذلك لم تتوقف الهجرة إلا بعد فتح مكة المكرمة حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" (¬1). أما قبل فتح مكة فكانت الآيات القرآنية ترتب حقوقاً خاصة للمهاجرين، وتحدد من حقوق المسلمين إذا لم يهاجروا. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬2). ولم يقبل القرآن عذرا للقادرين على الهجرة ممن يلاقون العنت في المحافظة على دينهم، فأرض الله وسعة فيمكنهم الهجرة، ولا ينبغي لهم الاستكانة للجبابرة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬3). ووعد الله تعالى المهاجرين بالرزق والسعة وثبوت أجرهم إذا توفوا في الهجرة فقال: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه (صحيح البخاري 3/ 200 وصحيح مسلم 3/ 1487 حديث رقم 1353). (¬2) الأنفال: 72. (¬3) الأنفال 97 - 99. (¬4) الأنفال: 100.

وتوافر النية الخالصة لازم للهجرة الصحيحة كما هو شرط في كل الأعمال الصالحة، قال عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (¬1). ومن أجل ذلك أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بامتحان النساء المهاجرات بعد صلح الحديبية، فمن تبين أنها هاجرت بسبب العقيدة فإنها لا تعاد إلى أهلها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} (¬2). وكانت البيعة التي يبايع بها المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتمل على الهجرة، حتى كان فتح مكة فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبايع أحدا على الهجرة لأنها انقطعت. قال مجاشع: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح، فقلت يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: ذهب أهل الهجرة بما فيها. فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد" (¬3). وعن مجاهد قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: "إني أريد أن أهاجر إلى الشام قال: لا هجرة ولكن جهاد، فانطلق فأعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت" (¬4). وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مهاجرة الحبشة الذين تركوا مكة في ظروف الاضطهاد بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهاجروا إلى الحبشة ثم هاجروا منها حين افتتح خيبر إلى المدينة المنورة بين أن لهم هجرتين، الهجرة إلى المدينة والهجرة إلى الحبشة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 2. (¬2) الممتحنة: 10. (¬3) رواه البخاري في صحيحه 5/ 97 (ط. استانبول). (¬4) رواه البخاري في صحيحه 5/ 97. (¬5) رواه البخاري في صحيحه 4/ 264.

إن عالم الإسلام اليوم لابد أن يقدر للعقيدة قدرها، ويعمل على إعادة بناء صرح العقيدة والحضارة من جديد، ويهجر المعصية إلى الطاعة، والفرقة إلى الوحدة، واليأس إلى الأمل، والكسل إلى العمل، والذل إلى العز، والضعف إلى القوة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

انتهي الكتاب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مصادر البحث

ثبت المصادر والمراجع للفصل الأول 1 - المصادر القرآن الكريم: ابن الأثير: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد (606 هـ). النهاية في غريب الحديث والأثر، 5 مجلدات، تحقيق طاهر أحمد الزواوي ومحمود محمد الطناحي. ابن الأثير: عز الدين أبو الحسن علي بن محمد الجزري (630 هـ). أسد الغابة في معرفة الصحابة، المطبعة الإسلامية بالأوفست، طهران - 1280 هـ الأجري: أبو بكر محمد بن الحسين (ت. 360 هـ). الشريعة، ط. مطبعة أنصار السنة المحمدية، بتحقيق محمد حامد الفقي. أحمد بن حنبل: (240 هـ). المسند، 6 مجلدات، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، وكذلك ط. أحمد محمد شاكر في القسم الذي حققه. فضائل الصحابة، مجلدان، تحقيق وصي الله بن محمد عباس، نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. الأزرقي: أبو الوليد أحمد بن محمد (ت 222 هـ). أخبار مكة وما جاء بها من الآثار، ط 3، تحقيق رشدي الصالح ملحس، دار الثقافة، مكة المكرمة - 1398 هـ (1978 م). ابن إسحق: محمد (151 هـ). السير والمغازي، تحقيق سهيل زكار، نشر دار الفكر (1398 هـ) 1978 م. السيرة، تحقيق محمد حميد الله، نشر معهد الدراسات والأبحاث للتعريب - 1396 هـ (1976 م). الألوسي: شهاب الدين محمود البغدادي (ت 1270 هـ). روح المعاني، نشر إدارة الطباعة المنيرية، مصر. البخاري: محمد بن إسماعيل (256 هـ). الصحيح ط. المكتبة الإسلامية باستانبول، وأيضا بواسطة فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر. الأدب المفرد، ط. المكتبة السلفية بمصر 1379 هـ. التاريخ الكبير مطبعة جميعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - 1262 هـ.

البكري: عبد الله بن عبد العزيز الأندلسي (487 هـ). معجم ما استعجم، تحقيق مصطفى السقا، نشر عالم الكتب - بيروت. البلاذري: أحمد بن يحي بن جابر (297 هـ). أنساب الأشراف، المجلد الأول، تحقيق محمد حميد الله ط. دار المعارف بمصر. البوصيري: أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن عمر الكناني (ت 840 هـ). إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (مخطوط منه صورة بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة). مصباح الزجاجة، تحقيق كمال يوسف الحوت، نشر دار الجنان، بيروت - 1406هـ (1986هـ). البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (ت 458 هـ): دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - 1405هـ (1985م). السنن الكبرى، ط 1، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند - 1344 هـ. الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة (ت 279 هـ). السنن، تحقيق أحمد محمد شاكر، وآخرين، نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت. ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد عبد الحليم (ت 728 هـ) الجواب الصحيح مطابع المجد التجارية. منهاج السنة، ط. 1، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر - 1321 هـ. ابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن الجوزي (597 هـ). الموضوعات، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، طبع المكتبة السلفية بالمدينة المنورة - 1383 هـ. صفة الصفوة، 4 أجزاء، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن - 1357 هـ. ابن أبي حاتم: أبو محمد بعد الرحمن بن أبي حاتم (ت 327 هـ). الجرح والتعديل، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - 1956 هـ. حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي (ت 1068 هـ) كشف الظنون، مجلدان، تحقيق محمد شرف الدين يالتقايا، ورفعت بيلكة الكيلسي، المطبعة البهية، إستانبول 1360 هـ (1941 م).

الحاكم النيسابوري: أبو عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 هـ). المستدرك طبعة حيدر آباد الدكن، الهند - 1341 هـ. ابن حبان البستي: أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي (ت 354 هـ). الثقات ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - 1401 هـ. المجروحين، 3 أجزاء، تحقيق محمود إبراهيم زايد، نشر دار المعرفة، بيروت. ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت 852 هـ). فتح الباري، 13 مجلداً، ط. المطبعة الخيرية، القاهرة - (1319 - 1329 هـ). هدى الساري ط. المطبعة الخيرية، القاهرة. تعليق التعليق، 5 مجلدات، تحقيق سعيد عبد الرحمن موسى القزفي، نشر المكتب الإسلامي، بيروت - 1405 هـ (1985 م). تعجيل المنفعة برجال الأربعة، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن. تقريب التقريب، تحقيق محمد عوامة، نشر دار الرشيد، حلب - 1406 هـ (1986 م). تهذيب التهذيب، 12 جزءاً، ط. دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - (1325 - 1327هـ). لسان الميزان،6 أجزاء، ط 1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - 1329 هـ. الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق على محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر القاهرة. التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، 4 أجزاء، تحقيق عبد الله هاشم اليماني، نشر دار المعرفة- بيروت منتقى من مغازي الواقدي (مخطوط). المعجم المفهرس (مخطوط). العجاب في بيان أسباب النزول (مخطوطة منها صورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة). ابن حزم الظاهري: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد (ت456 هـ). جوامع السيرة، ط. دار المعارف بمصر. الحلبي: علي بن برهان الدين الشافعي (ت 1044 هـ). إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (السيرة الحلبية)، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة - 1962 م.

الحميدي: محمد بن أبي نصر (ت 448 هـ). المسند، ط. دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن. الخرائطي: أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل السامري (ت 327 هـ). هواتف الجان، طبع ضمن "نوادر الرسائل" تحقيق إبراهيم صالح، ط2، نشر مؤسسة الرسالة - 1407 هـ (1986 م). الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي (ت 463 هـ). تاريخ بغداد، 14 مجلدا، ط1، مطبعة السعادة، مصر - 1349 هـ (1931 م). الموضح لأوهام الجمع والتفريق، جزءان، مطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - الهند 1379 هـ (1960 م). الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، تحقيق الدكتور محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف، الرياض - 1403 هـ (1983 م). خليفة بن خياط: التاريخ، ط 1، تحقيق أكرم ضياء العمري، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت 1397 هـ. الطبقات، ط1 تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة العاني، بغداد - 1967 م. ابن خير الإشبيلي: أبو بكر محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي (ت 575 هـ). فهرسة ما رواه عن شيوخه، تحقيق فرنشسكة، طبعة المكتب التجاري ومكتبة المثنى ومؤسسة الخانجي - 1382 هـ (1963 م). الدارمي: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام (ت 255 هـ). السنن، مجلدان، تحقيق محمد أحمد دهمان، مطبعة الاعتدال، دمشق - 1349 هـ. أبو داود السجستاني: سليمان بن الأشعث (ت 275 هـ). السنن: 5 مجلدات، ط1، بعناية عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، نشر دار الحديث، بيروت - 1388 هـ (1969 م) وأحيانا طبعة محي الدين عبد الحميد. ابن أبي الدنيا: أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي (ت 282 هـ). هواتف الجان (مخطوط). الدولابي: أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد (ت 320 هـ). الكني والأسماء، جزءان، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - 1322 هـ.

الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ). سير أعلام النبلاء، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، ط. محمد علي البجاوي، دار المعرفة-بيروت1382هـ (1963م). تذكرة الحفاظ، 4 أجزاء، ط3، مطبعة مجلس دائرة المعارف البريطانية بحيدر آباد الدكن -1955 م. السيرة النبوية، وهي المجلد الأول من تاريخ الإسلام نشرته مستقلا دار الكتب العلمية - بيروت. العلو للعلي الغفار، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر للطباعة والنشر - ط2، 1388 هـ (1968 م). تاريخ الإسلام، مكتبة القدسي، مصر - 1367 هـ. الزرقاني: محمد بن عبد الباقي بن يوسف (ت 1122 هـ). شرح المواهب اللدنية، ط1، المطبعة الأزهرية، مصر -1327 هـ. الزركشي: أبو عبد الله محمد بن بهادر (ت 794 هـ). البرهان في علوم القرآن، 4 أجزاء، ط 1، 1376 هـ (1957 م). السخاوي: محمد بن عبد الرحمن (ت 902 هـ). فتح المغيث، 3 مجلدات، نشر محمد عبد المحسن الكتبي، مطبعة العاصفة القاهرة. الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ، طبع مع كتاب علم التاريخ عند المسلمين لروز نثال، ترجمة الدكتور صالح أحمد العلي، نشر مكتبة المثنى ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، بغداد - 1963 م. ابن سعد: محمد (ت230 هـ). الطبقات الكبرى، نشر دار صادر - بيروت. السفاريني: محمد بن أحمد. لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية نشر المكتب الإسلامي بيروت ومكتبة أسامة بالرياض. السهيلي: عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد (ت 581 هـ). الروض الأنف: تحقيق عبد الرحمن الوكيل، نشر دار الكتب الحديثة، القاهرة.

إبن سيد الناس: أبو الفتح محمد بن محمد اليعمري (ت 734 هـ) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، مكتبة القدس - 1356 هـ. السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ). الدر المنثور في التفسير المأثور، نشر محمد أمين دمج، بيروت. لبال النقول في أسباب النزول، نشر دار إحياء العلوم، بيروت - 1403 هـ الخصائص الكبرى، ط2، مطبعة المدني، مصر. الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (ت 1250 هـ). فتح القدير، نشر دار الفكر، ط2، 1393 هـ (1973 م). نيل الأوطار، تحقيق طبه عبد الرءوف سعد ومصطفى محمد الهواري - نشر مكتبة الكليات الأزهرية - 1398 هـ (1978م). ابن أبي شيبة: أبو بكر عبد الله بن محمد (ت 235 هـ). المصنف، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، نشر الدار السلفية - 1399 هـ (1979م). الصالحي: محمد بن يوسف الشامي (ت 942 هـ). سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد وآخرين، نشر لجنة إحياء التراث الإسلامي بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر. الطبراني: أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت 360 هـ). المعجم الكبير. ط. تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، نشر وزارة الأوقاف العراقية. المعجم الأوسط، تحقيق الدكتور محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف بالرياض. المعجم الصغير، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار النصر للطباعة، القاهرة-1398هـ (1968م). الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ). تفسير (جامع البيان عن تأويل القرآن)، ط 3، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. تاريخ الأمم والملوك،10 مجلدات، بعناية أبي الفضل إبراهيم، نشر دار المعارف بمصر - 1960 - 1969. الطحاوي: أبو جفعر أحمد بن محمد بن سلامة (ت 321 هـ). شرح معاني الآثار، مطبعة الأنوار المحمدية، تحقيق محمد سيد جاد الحق، القاهرة - 1387 هـ (1968 م). الطيالسي: سليمان بن داؤد بن الجارود (ت هـ) المسند: طبع دائرة المعارف بحيدر آباد الدكن.

ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت 463 هـ). الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 4 أجزاء، تحقيق علي محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر، القاهرة (بدون تاريخ)، وأحيانا بحاشية الإصابة، مطبعة مصطفى محمد، مصر. الدرر في اختصار المغازي والسير، تحقيق الدكتور شوقي ضيف. الصنعاني. (ت 211 هـ). عبد الرزاق بن همام الصنعاني. (ت 221 هـ). المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، دار القلم بيروت - 1390 هـ. أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ). غريب الحديث، طبعة حيدر آباد الدكن، الهند - 1964 م. ابن عدي: أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني (ت 365 هـ). الكامل في ضعفاء الرجال، ط1، نشر دار الفكر، بيروت، 1404 هـ (1984 م). العراقي: زين الدين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين (ت 806 هـ). طرح التثريب شرح التقريب. ابن عساكر: علي بن الحصن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي (ت 571 هـ). تاريخ دمشق (مخطوط). تاريخ دمشق (السيرة)، تحقيق نشاط غزاوي، نشر مجمع اللغة العربية، بدمشق - 1404 هـ (1984 م). العسكري: أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري (ت 382 هـ). تصحيفات المحدثين، 3 مجلدات، تحقيق الدكتور محمود الميرة، ط1،المطبعة العربية الحديثة 1402 هـ (1982 م). العقيلي: أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد المكي (ت 322 هـ). الضعفاء الكبير، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، ط1، نشر دار الكتب العلمية، بيروت 1404 هـ (1984 م). الفاكهي: أبو عبد الله محمد بن إسحق (القرن الثالث الهجري). أخبار مكة، تحقيق عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، ط1، نشر مكتبة النهضة الحديثة - 1407 هـ (1987 م). ابن فهد: عمر بن فهد الهاشمي المكي (ت 885 هـ). معجم الشيوخ، تحقيق محمد الزاهري، منشورات دار اليمامة - السعودية- 1402 هـ (1982م). ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت276 هـ). المعارف، ط4، تحقيق الدكتور ثروت عكاشة، نشر دار المعارف بمصر - 1981 م.

ابن قدامة المقدسي: عبد الله بن أحمد بن محمد (ت620 هـ). التبيين في أنساب القرشيين، تحقيق محمد نايف الدليمي، نشر المجمع العلمي العراقي - 1402 هـ (1982 م). ابن القيم: شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت 751 هـ). زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، نشر مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامية 1405 هـ (1985 م). ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ). البداية والنهاية، تحقيق الدكاترة أحمد أبو ملحم وعلي نجيب عطوي وآخرين، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - 1405 هـ (1985 م). السيرة، تحقيق مصطفى عبد الواحد (وهي قطعة من البداية والنهاية أفردها). ابن الكيال: أبو البركات محمد بن أحمد (ت 939 هـ). الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات، تحقيق عبد القيوم عبد رب النبي، نشر دار المأمون للتراث، بيروت ودمشق - 1401 هـ (1981 م). ابن ماجة: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ). السنن، مجلدان، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، مصر - 1953 م. ابن ماكولا: أبو نصر علي بن هبة الله (ت 475 هـ). الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف، تحقيق عبد الرحمن بن بحي المعلمي اليماني، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن - 1381 هـ (1962 م). مالك بن أنس: (179 هـ). الموطأ، بعناية محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. المباركفوري: أبو العلاء محمد بن عبد الرحمن (1353 هـ). تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، ط. مصر. محمد بن حبيب البغدادي (ت 245 هـ). المنمق في أخبار قريش، تحقيق خورشيد أحمد فارق، ط1، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن - 1384 هـ (1964 م). المزي: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن (ت 742 هـ). تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، نشر دار القيمة، بومباي - 1384 هـ. تهذيب الكمال، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت.

المسعودي: مروج الذهب، مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ). الصحيح، 5 مجلدات، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط1، نشر دار إحياء الكتب العربية، مصر - (1374 - 1375 هـ). المقريزي: تقي الدين أبو العباس أحمد (ت 845 هـ). إمتاع الأسماع، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة - 1941 م. ملا على القاري: شرح الشفا للقاضي عياض، نشر دار الكتب العلمية، بيروت. ابن النديم: محمد بن إسحق (ت 385 هـ). الفهرست، نشر مكتبة خياط. النسائي: أبو عبد الرحمن بن علي بن شعيب (ت 303 هـ). خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، تحقيق أحمد ميرين البلوشي، ط1 - نشر مكتبة المعلي، بيروت - 1406 هـ (1986 م). السنن (المجتبي) ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت. أبو نعيم الأصبهاني: أحمد بن عبد الله (ت 430 هـ). دلائل النبوة، توزيع دار الباز، مكة المكرمة، طبع بمصر 1397 هـ (1977 م). النووي: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف الشافعي (ت 676 هـ). المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري (ت 218 هـ). السيرة النبوية، تحقيق السقا والأبياري وشلبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1375 هـ. الهيثمي: نور الدين على بن أبي بكر (ت 807 هـ). مجمع الزوائد ومنع الفوائد، ط. مصر. بغية الباحث في زوائد مسند الحارث، تحقيق الدكتور حسين الباكري (أطروحة ماجستير مكتوبة بالآلة الكاتبة). الواحدي: أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري (ت 468 هـ). أسباب النزول، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - 1402 هـ (1982م). الواقدي: محمد بن عمر (ت 207 هـ).

المغازي، نشرة مارسدن جونس، تصوير مؤسسة الأعلمي، بيروت. وكذلك نشرة فون كريمر بالهند، ومعه قطعة من السيرة الصحيحة لسليمان بن طرخان. يعقوب بن سفيان الفسوي: (ت 277 هـ). المعرفة والتاريخ، تحقيق أكرم ضياء العمري، ط3، نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة - 1408 هـ (1988 م). أبو يعلي الموصلي: أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي (ت 307 هـ). المسند، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، بيروت - 1404 هـ (1984 م).

ب- المراجع الحديثة الأعظمي: (د. محمد مصطفى): مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير برواية أبي الأسود عنه، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، عام 1401 هـ (1981 م). الألباني: (محمد ناصر الدين) فهرس مخطوطات الظاهرية، دمشق - 1390 هـ (1970 م). سلسلة الأحاديث الصحيحة، ط 4، نشر المكتب الإسلامي، بيروت 1405 هـ (1985 م). سلسلة الأحاديث الضعيفة، ط 5، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ (1985 م). صحيح سنن الترمذي، ط1، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج - 1406 هـ (1986 م). صحيح سنن ابن ماجة، ط1، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج - 1408 هـ (1988 م). تخريج أحاديث "فقه السيرة للغزالي". دفاع عن الحديث النبوي والسيرة، نشر مؤسسة ومكتبة الخافقين، دمشق. مشكاة المصابيح، ط. المكتب الإسلامي، بيروت - 1380 هـ. نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، نشر المكتب الإسلامي بدمشق. البنا: أحمد عبد الرحمن الساعاتي. منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داؤد، ط. المطبعة المنيرية - مصر 1372 هـ. الفتح الرباني مع شرحه بلوغ الأماني، نشر دار الشهاب، القاهرة. البلادي: عاتق بن غيث. معجم المعالم الجغرافية في السيرة، دار مكة للنشر والتوزيع 1402 هـ (1982 م). جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط3، نشر دار العلم للملايين ببيروت، ومكتبة النهضة ببغداد - 1980 م. تاريخ العرب قبل الإسلام (السيرة النبوية)، ج1، بغداد، مطبعة الزعيم - 1961 م.

حجازي: أحمد حجازي السقا التوراة السامرية، نشر دار الأنصار، مصر - 1398 هـ (1978 م) دائرة المعارف الإسلامية. دائرة المعارف للبستاني. دراز: (محمد عبد الله): مدخل إلى القرآن الكريم، نشر دار القلم، الكويت - 1400 هـ (1980 م). الدوري (عبد العزيز): نشأة علم التاريخ عند العرب، ط1، المطبعة الكاثوليكية، بيروت -1960م. سليمان السعود: أحاديث الهجرة، رسالة ماجستير قدمت إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. سليمان العودة: السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحق (أطروحة دكتوراه قدمت لقسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية). سهيل زكار: المغازي النبوية للزهري، دار الفكر دمشق - 1401 هـ (1981 م). السيد أحمد أبو الفضل عوض الله: مكة في عصر ما قبل الإسلام، ط 2،مطبوعات دارة الملك عبد العزيز - 1401 هـ (1980 م). السيوطي: الخصائص الكبرى. شوقي ضيف: مقدمة لكتاب "الدرر في اختصار المغازي والسير"، ط 2، دار المعارف بمصر 1403 هـ. صبحي صالح: علوم الحديث ومصطلحه، مطبعة جامعة دمشق، دمشق 1379 هـ (1959 م). عادل عبد الغفور: مرويات السيرة في العهد المكي إلى نهاية حدث الإسراء والمعراج، رسالة ماجستير قدمت للجامعة الإسلامية بالمدينة المنور. عصام عبد المحسن الحميدان: أسباب النزول وأثرها في التفسير (رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة مقدمة إلى قسم القرآن وعلومه بكلية أصول الدين بجامعة محمد بن سعود الإسلامية.

العلي (صالح): محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام. عماد الدين خليل: دراسة في السيرة. ط، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت. العمري (أكرم ضياء): بحوث في تاريخ السنة المشرَّفة، ط4، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت -1405 هـ (1984 م). الغزالي (محمد): فقه السيرة، ط3، نشر دار القلم، دمشق - 1407 هـ (1987 م). غوستان لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة - 1969م. فاضل صالح السامرائي: نبوة محمد بين الشك واليقين، نشر مؤسسة لرسالة - بيروت. فنسنك: مفتاح كنوز السنة، ترجمة محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت 1402 هـ (1983 م). المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، نشر مكتبة بريل، لندن - 1936م. كولون ولسن: الإنسان وقواه الخفية. محمد باقشيش: مغازي موسى بن عقبة، رسالة ماجستير مقدمة إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. محمد عزة دروزة: سيرة الرسول، صور مقتبسة من القرآن الكريم، طبع بعناية عبد الله بن إبراهيم الأنصاري. قطر - 1400 هـ. محمود سليم الحوت: في طريق الميثولوجية عند العرب، دار النهار للنشر، بيروت - 1979 م. مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، مطبعة المدني - القاهرة 1380 هـ (1961 م). مونتكمري واط: محمد في مكة، تعريب شعبان بركات، نشر المكتبة العصرية - بيروت.

ثبت المصادر والمراجع للفصل الثاني

ثبت المصادر والمراجع للفصل الثاني مصادر موضوع أهل الصفة القرآن الكريم: 1 - أحمد بن حنبل (ت240 هـ) المسند، 6 مجلدات (بدون محل وتاريخ الطبع). 2 - البخاري: محمد بن إسماعيل (ت 256 هـ) الصحيح، 9 أجزاء في ثلاثة مجلدات، مطبوعات محمد على صبيح، مصر (بدون تاريخ). 3 - ابن أبي حاتم: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327 هـ) كتبا الجرح والتعديل، 7 مجلدات، ط 1، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن - الهند (1952 - 1956). 4 - حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله (ت 1068 هـ) كشف الظنون، مجلدان، تحقيق محمد شرف الدين يالتقيا ورفعت بيلكة الكليسي المطبعة البهية، استانبول - 1360 هـ (1941م). 5 - خليفة بن خياط (240 هـ) التاريخ، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الآداب، النجف - 1967 م. 6 - أبو داود السجستاني: سليمان بن الأشعث (ت 275 هـ) السنن، مجلدان، ط1، بعناية أحمد سعد علي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر - 1371 هـ (1952 م). 7 - ابن سعد: محمد (ت 230 هـ) الطبقات الكبرى، 8 أجزاء، نشر دار بيروت ودار صادر - بيروت - 1958م. 8 - السلمي: أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي النيسابوري (ت 412 هـ) طبقات الصوفية، تحقيق نور الدين شريبة. 9 - السمهودي: علي بن عبد الله بن شهاب الدين الحسيني الشافعي (ت 1011 هـ) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، مجلدان، مطبعة الأداب والمؤيد، مصر 1326 هـ. 10 - ابن سيد الناس: أبو الفتح محمد بن عبد الله (ت 734 هـ) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، جزآن، نشر مكتبة القدسي، القاهرة (بدون تاريخ). 11 - الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ) تفسير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة دار المعارف، مصر. 12 - ابن كثير: عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ) تفسير القرآن العظيم، 4 أجزاء، طبع بدار إحياء الكتب العربية بمصر. 13 - ابن ماجة: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ) السنن، مجلدان، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية بمصر، 1953 م.

14 - مسلم بن الحجاج القشيري (ت261 هـ) الصحيح، 5 مجلدات، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط1، دار إحياء الكتب العربية، مصر 1374 - 1375 هـ. 15 - ابن منظور: جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي (ت 711 هـ) لسان العرب، 20 مجلدا، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر 1300 - 1307 هـ. 16 - النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب (ت 303 هـ) السنن، 8 أجزاء في أربعة مجلدات، نشر المكتبة التجارية، القاهرة. 17 - أبو نعيم: أحمد عبد الله الأصبهاني (ت 430 هـ) حيلة الأولياء،10 مجلدات، ط1، مطبعة السعادة، مصر 1351 - 1357 هـ. 18 - ياقوت: أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (ت 622 هـ) معجم البلدان، 6، مجلدات، تحقيق وستنفلد، لايبرك 1866 - 1870 م. المراجع الحديثة 1 - أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة، مطبعة الإرشاد، بغداد 1967 م. 2 - ريكندورف: دائرة المعارف الإسلامية، مجلد 3، ترجمة عباس محمود ورفاقه. 3 - سامي مكي العاني: ديوان كعب بن مالك الأنصاري، مطبعة المعارف، بغداد 1966م.

مصادر بحث إعلان دستور المدينة 1 - القرآن الكريم: 2 - ابن الأثير: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد (ت 606 هـ) النهاية في غريب الحديث والأثر، 5 مجلدات، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، نشر عيسى البابي الحلبي القاهرة - 1963م. 3 - أحمد بن حنبل (240 هـ). المسند، 6 مجلدات (بدون محل وتاريخ الطبع). 4 - البخاري: محمد بن إسماعيل (ت 256 هـ). الصحيح، 9 أجزاء، ط مصطفى البابي الحلبي، القاهرة - وأحيانا ط. ليدن وقد ميزتها في الحاشية - 1958. 5 - البلاذري: أحمد بن يحي بن جابر (ت276 هـ). أنساب الأشراف، الجزء الأول، تحقيق محمد حميد الله: ط.1، مطبعة دار المعارف، مصر -1959م. 6 - البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (ت458 هـ). كتاب السنن الكبرى، ط.1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن. 7 - الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة السلمي (ت 279 هـ). صحيح الترمذي بشرح ابن العربي المالكي، ط.1، المطبعة المصرية بالأزهر - 1931 م. 8 - الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري (ت405 هـ). المستدرك على الصحيحين، مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض. 9 - ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر (ت852 هـ) تهذيب التهذيب، 12 مجلدا، ط.1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن 1325 - 1327 هـ. 10 - ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت456 هـ). جوامع السيرة، تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور ناصر الدين الأسد، ط. دار المعارف المصرية. 11 - الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (ت 463 هـ). تاريخ بغداد،14 مجلدا، بعناية محمد حامد الفقي، ط.1،مطبعة السعادة، مصر1349هـ (1931م). تقييد العلم، تحقيق الدكتور يوسف العش دمشق - 1949م.

12 - خليفة بن خياط (ت 240 هـ). التاريخ، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الآداب، النجف - 1967م. 13 - أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ). السنن. بعناية الشيخ أحمد سعد علي، ط1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1952م. 14 - الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 هـ). تاريخ الإسلام، طبع منه 6 أجزاء، مطبعة دار السعادة بمصر 1367 - 1369 هـ. 15 - الزرقاني: شرحه على المواهب اللدنية للقسطلاني، ط.1، المطبعة الأزهرية المصرية - 1327 هـ. 16 - الزيلعي: الإمام جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي (ت 762 هـ) نصب الراية لأحاديث الهداية، ط1، مطبعة دار المأمون، القاهرة 1357 هـ 1938 م. 17 - ابن سعد: محمد (ت 230 هـ) الطبقات الكبرى، ط. ليدن. 18 - ابن سيد الناس: أبو الفتح محمد بن محمد بن عبد الله (ت734 هـ) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، جزآن نشر مكتبة القدسي القاهرة (بدون تاريخ). 19 - الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (ت 1250 هـ). نيل الأوطار، 4 مجلدات، ط3، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1352 - 1961 م. 20 - الطبري: محمد بن جرير (ت 310 هـ). تاريخ الطبري، 10 مجلدات، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - مصر. 21 - أبو عبيد: القاسم بن سلام (ت 224 هـ). الأموال تحقيق محمد خليل هراس، ط.1، مصر - 1388 هـ. (1968 م). 22 - ابن القيم: أبو عبد الله محمد (ت 751 هـ). زاد المعاد، 4 أجزاء، ط1،مطبعة محمد علي صبيح مصر 1353 هـ 1934 م. 23 - ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ) البداية والنهاية، 14 جزءا، ط1، مطبعة السعادة، القاهرة 1351 هـ (1932م). 24 - ابن ماجة: محمد بن يزيد (ت 273 هـ). السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء الكتب العربية، القاهرة - 1953 م.

25 - مالك بن أنس: (179 هـ). المدونة الكبرى، 8مجلدات، مطبعة السعادة، مصر - 1323 هـ. 26 - مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ). صحيح مسلم بشرح النووي، مصر - 1349 هـ. 27 - المقدسي: المطهر بن طاهر (ت 355 هـ). كتاب البدء والتاريخ، 6 أجزاء، بعناية كلمان هوار، باريس 1903 م. 28 - المقريزي: تقي الدين أبو العباس أحمد (ت 845 هـ). إمتاع الأسماع، تحقيق محمود شاكر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1941م. 29 - ابن منظور: جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي (ت 711 هـ) لسان العرب، ط. دار صادر, بيروت. 30 - ابن هشام: أبو محمد عبد الملك (ت 218 هـ). السيرة النبوية، 4 مجلدات، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، ط 2، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1375 هـ - 1955 م. 31 - الواقدي: محمد بن عمر (ت 207 هـ). كتاب المغازي، 3 أجزاء، تحقيق الدكتور مارسدن جونس مطبعة أوكسفورد - 1966 م. 32 - أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (ت 182 هـ). الرد على سير الأوزاعي، بتحقيق أبي الوفا الأفغاني، ط1، مصر - 1357 هـ. المراجع الحديثة: 33 - أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة، ط1، مطبعة الإرشاد، بغداد 1967م. 34 - صالح أحمد العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السابع عشر، بغداد - 1969 م. 35 - فلهاوزن: الدولة العربية وسقوطها، ترجمة يوسف العش، مطبعة الجامعة السورية، دمشق -1956 م. 36 - محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية، ط2، الناشر دار الإرشاد، بيروت 1389 - 1969 م. 37 - محمد عزة دروزة: سيرة الرسول، ط2، الناشر مطبعة عيسى البابي الحلبي مصر - 1965 م. 38 - Sarjaant , The constitution of Medina in Islamic Quarterty .Vlll / 1 - 2

ثبت المصادر والمراجع للفصل الثالث

ثبت المصادر والمراجع للفصل الثالث (1) القرآن الكريم إبراهيم القريبي (2) مرويات غزوة بني المصطلق، نشر المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1402 هـ. ابن الأثير: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (ت 606 هـ). (3) النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق محمود الطناحي، نشر المكتبة الإسلامية، مصر (بدون تاريخ) أحمد بن حنبل (ت 241 هـ): (4) المسند، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط. دار المعارف بمصر؛ وطبعة المكتب الإسلامي بيروت. الأزرقي: أبو الوليد أحمد بن محمد (ت 222 هـ). (5) أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، ط 3، تحقيق رشدي الصالح ملحس، دار الثقافة، مكة المكرمة 1398 هـ (1978 م). ابن إسحق: محمد بن إسحق (ت 150 هـ). (6) السيرة (المبتدأ والمبعث والمغازي)، تحقيق محمد حميد الله 1396 هـ. الألباني: محمد ناصر الدين. (7) الأحاديث الصحيحة، نشر الكتب الإسلامي. (8) حجة النبي، ط2، نشر المكتب الإسلامي، بيروت 1384 هـ. (9) صحيح سنن أبي داؤد. (10) تخريج أحاديث كتاب "فقه السيرة" لمحمد الغزالي. (11) إرواء الغليل آل بسام: عبد الله بن صالح (12) تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، كتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة 1398 هـ. البنا الساعاتي: أحمد عبد الرحمن. (13) الفتح الرباني، ط.1، مصر 1377 هـ. البخاري: محمد بن إسماعيل (ت 256 هـ). (14) الصحيح (مع فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني) وأحيانا ط. استانبول، وأحيانا ط. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1378 هـ.

(15) الأدب المفرد. البلادي: عاتق بن غيث. (16) معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، دار مكة للنشر والتوزيع 1402 هـ (1982 م). (17) نسب حرب، مكتبة دار البيان، ط 1، دمشق 1397 هـ. البلاذري: أحمد بن يحي بن جابر (ت 279 هـ). (18) أنساب الأشراف، نشر مكتبة النهضة العربية (بدون تاريخ). البوصيري: أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن عمر الكناني (ت840 هـ). (20) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، مخطوطة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (ت 458 هـ). (21) السنن الكبرى، ط1، مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، 1344 هـ. ابن التركماني: علاء الدين علي بن عثمان (ت 745 هـ). (22) الجوهر النقي (بحاشية السنن الكبرى للبيهقي)، ط. مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند. الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة (ت 279 هـ). (23) سنن، ط. السلفية، المدينة المنورة وأحيانا بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة المدني، مصر 1384 هـ (1964 م). ابن تيمية: مجد الدين عبد السلام بن عبد الله (ت652 هـ). (24) منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار (مع شرحه نيل الأوطار للشوكاني). ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (728 هـ). (25) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ط1، دار المعرفة بيروت. ابن الجوزي: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت 597 هـ). (26) تلقيح فهوم أهل الأثر، ط1، مطبعة الآداب، مصر. (27) الوفاء بأخبار المصطفى، ط1، مطبعة السعادة، مصر. (28) زاد المسير في علم التفسير، ط1، نشر المكتب الإسلامي، 1385 هـ. حافظ محمد حكمي:

(29) مرويات غزوة الحديبية، رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1403 هـ (مطبوعة على الآلة الكاتبة). الحاكم النيسابوري: أبو عبد الله محمد بن عبد الله (ت 405 هـ). (30) المستدرك، ط. حيدر آباد الدكن، الهند، 1341 هـ. ابن حبان البستي: أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي (ت 354 هـ) (31) الثقات، ط1،مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن، الهند 1401 هـ. ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي (ت852 هـ). (32) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط 1، المطبعة العصرية، الكويت 1393 هـ (1973 م). (33) فتح الباري، ط. السلفية. (34) تهذيب التهذيب، ط. دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند. (35) الإصابة في معرفة الصحابة، مطبعة مصطفى محمد، مصر 1358 هـ وأحيانا طبعة الكليات الأزهرية 1396 هـ وأحيانا ط. البجاوي. (36) مختصر زوائد مسند البزار، مخطوطة مصورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. (37) تقريب التهذيب، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، ط. النمنكاني. (38) التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ط1، المكتبة الأثرية، باكستان 1393 هـ وأحيانا بتحقيق عبد الله هاشم اليماني المدني، القاهرة (بدون تاريخ). الحربي: أبو إسحق إبراهيم بن إسحق بن إبراهيم (ت 285 هـ). (39) كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة، تحقيق حمد الجاسر، منشورات دار اليمامة، الرياض 1389 هـ. ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456 هـ). (40) جوامع السيرة. ط. دار المعارف بمصر (بدون تاريخ)، وأحيانا ط. إحياء السنة باكستان. حماد بن إسحق القاضي (ت267 هـ). (41) تركة النبي، مخطوطة الظاهرية، وقد طبعت أخيرا بتحقيق أكرم العمري مؤسسة الرسالة، بيروت 1403 هـ. الحميدي: محمد بن أبي نصر (ت 488 هـ). (42) مسند الحميدي، ط. دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن، الهند، ابن خزيمة

(43) الصحيح، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي ومراجعة محمد ناصر الدين الألباني، نشر المكتب الإسلامي، بيروت. خليفة بن خياط العصفري (ت240هـ) (44) التاريخ، تحقيق أكرم العمري، ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1397 هـ. (45) الطبقات, تحقيق أكرم العمري, ط.1, مطبعة العاني, بغداد1387هـ. أبو داؤد: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت275هـ). (46) سنن، ط 1، تعليق أحمد سعد علي، مطبعة مصطفي البابي الحلي، مصر 1371 هـ، وأحيانا مع حاشية السندي، المطبعة الأزهرية، مصر، وأحيانا مع معالم السنن للخطابي، تحقيق الدعاس، ط1، حمص 1388 هـ. (47) المراسيل، ط. محمد علي صبيح، مصر الذهبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد (ت 748 هـ). (48) تاريخ الإسلام، مكتبة القدسي، مصر 1367 هـ. (49) ميزان الاعتدال، دار المعرفة، بيروت (بدون تاريخ). (50) سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت. الزرقاني: محمد بن عبد الباقي بن يوسف (ت1122 هـ). (51) شرح المواهب اللدنية، ط1. المطبعة الأزهرية، مصر 1327 هـ. ابن زنجويه: أبو أحمد حميد بن مخلد الأزدي (251 هـ) (52) الأموال، تحقيق شاكر ذيب فياض، رسالة دكتوراه من كلية الشريعة بجامعة أم القرى (مطبوعة على الآلة الكاتبة). ابن سعد: محمد (ت230هـ) (53) الطبقات الكبرى، ط. دار صادر، بيروت 1376 هـ السفاريني: محمد بن أحمد النابلسي الحنبلي (ت 1188 هـ). (54) شرح ثلاثيات مسند أحمد، ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت 1391 هـ. السمهودي: علي بن عبد الله (ت 911 هـ). (55) وفاء الوفا، مطبعة الآداب والمؤيد، مصر 1326 هـ. ابن سيد الناس: أبو الفتح محمد بن محمد اليعمري (ت 734 هـ). (56) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير, مكتبة القدس 1356هـ. السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر: (911 هـ). (57) الدر المنثور في التفسير المأثور، نشر محمد أمين دمج، بيروت (بدون تاريخ). (58) الخصائص الكبرى، ط. مطبعة المدني، مصر.

(59) زهر الربا على المجتبي للنسائي، المطبعة المصرية بالأزهر 1348 هـ. الشاطبي: أبو إسحق إبراهيم بن موسى بن محمد (ت 790 هـ). (60) الاعتصام، نشر دار المعرفة (بدون تاريخ). الشافعي: أبو عبد الله محمد بن إدريس المطلبي (ت 204 هـ) (61) الأم، نشر دار الشعب، مصر 1388 هـ. الشوكاني: محمد بن علي (ت 1250 هـ). (62) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في فن التفسير، ط 2، مطبعة الحلبي، مصر 1383 هـ. (63) نيل الأوطار، ط. مصطفى البابي الجلبي، مصر. الطبراني: أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت 360 هـ). (64) المعجم الكبير، ط1، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، نشر وزارة الأوقاف العراقية. (65) المعجم الصغير، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار النصر للطباعة، القاهرة 1388 هـ (1968م). الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 هـ). (66) تاريخ الرسل والملوك، ط. المطبعة الحسينية، وط. دار المعارف بمصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مصر 1961م. (67) تفسير (جامع البيان عن تأويل القرآن)، ط 3، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1388 هـ، وأحيانا ط. محمود شاكر وأحمد شاكر، دار المعارف بمصر. الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة (ت 321 هـ). (68) شرح معاني الآثار، مطبعة الأنوار المحمدية، تحقيق محمد سيد جاد الحق، القاهرة 1387 هـ (1968م). ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر (ت463 هـ). (69) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (بحاشية الإصابة)، مطبعة مصطفى محمد، مصر. عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ): (70) المصنف تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. ط 1، دار القلم، بيروت 1390 هـ. عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ). (71) كتاب الجهاد، تحقيق الدكتور نزيه حماد، دار النور، بيروت 1391 هـ. أبو عبيد: القاسم بن سلام (ت 224 هـ). (72) الأموال، تحقيق محمد خليل هراس ط 2، دار الفكر، القاهرة 1395 هـ، وأحيانا تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، مصر.

ابن عساكر: علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي (ت 571 هـ). (73) تاريخ دمشق، نشر المجمع العلمي العربي بدمشق ومنه مخطوطة مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. العليمي: أحمد محمد. (74) مرويات غزوة بدر، ط1، نشر مكتبة طيبة بالمدينة المنورة 1400 هـ. العياشي: إبراهيم بن علي. (75) المدينة بين الماضي والحاضر، ط1، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة 1392 هـ عياض بن موسى بن عياض السبتي (ت 544 هـ). (76) ترتيب المدارك، نشر وزارة الأوقاف المغربية. الفرياني: محمد بن يوسف (ت212 هـ). (77) دلائل النبوة مما كان صلى الله عليه وسلم يدعو في الشيء القليل من الطعام فيحصل فيه البركة، مخطوطة في دار الكتب الظاهرية، السيرة 27 (ق1 - 17). الفسوي: يعقوب بن سفيان (ت 277 هـ). (78) المعرفة والتأريخ، ط1، تحقيق أكرم العمري، مطبعة الإرشاد، بغداد 1394 هـ. فؤاد حمزة: (79) قلب جزيرة العرب. الفيروز آبادي: مجد الدين محمد بن يعقوب (ت 817 هـ). (80) المغانم المطابة في معالم طابة، ط1، داير اليمامة 1389 هـ. (81) القاموس المحيط د طبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1371 هـ الفيومي: أحمد بن محمد بن علي المقريء (ت 770 هـ). (82) المصباح المنير، ط. دار الكتب العلمية. ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري (ت 276 هـ). (83) المعارف، ط2، دار إحياء التراث، بيروت 1390 هـ. ابن قدامة المقدسي: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد (ت 620 هـ). (84) المغني، ط. المكتبة الحديثة بالرياض القسطلاني: أحمد بن حمد (ت 923 هـ). (85) المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، مع شرح الزرقاني، بيروت 1393 هـ. القلقشندي: أبو العباس أحمد بن علي (ت 821 هـ). (86) قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، ط1، تحقيق إبراهيم الأبياري، مطبعة السعادة، مصر 1383 هـ. ابن القيم: أبو عبد الله محمد (ت 751 هـ).

(87) زاد المعاد في هدي خير العباد بعناية عبد الرءوف طه، ط1، مصطفى البابي الحلبي، مصر 1390 هـ، وأحيانا ط2، تحقيق الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت 1401 هـ. ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 هـ). (88) التفسير، ط. دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، مصر، وأحيانا ط3، مطبعة الاستقامة، مصر 1373 هـ. (89) البداية والنهاية، ط1. (90) اختصار علوم الحديث، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط مصر. ابن الكلبي: أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب (ت 204 هـ). (91) الأصنام، تحقيق أحمد زكي، نشر دار الكتب المصرية 1343 هـ (1924م). مالك بن أنس (ت 179 هـ). (92) الموطأ (بشرح الزرقاني) مصر 1355 هـ. ابن ماجه: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ). (93) سنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط. عيسى البابي الحلبي، القاهرة (بدون تاريخ). المباركفوري: أبو العلاء محمد بن عبد الرحمن (ت1353 هـ). (94) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، ط. مصر. محمد حميد الله: (95) مجموعة الوثائق السياسية، ط. مصر محمد زكريا الكاندهلوي: (96) أوجز المسالك إلى موطأ مالك، ط 2، دار الفكر، بيروت 1394 هـ. محمد شمس الحق العظيم آبادي. (97) عون المعبود شرح سنن أبي داؤد، دار الكتاب العربي، بيروت. محمود شيت خطاب. (98) الرسول القائد، ط. مصر المزي: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن (ت742 هـ). (99) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف، نشر الدار القيمة، بومباي 1384 هـ. مسلم بن الحجاج (ت261 هـ). (100) الصحيح، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط1، عيسى البابي الحلبي، مصر 1374 هـ. المنذري:

(101) مختصر صحيح مسلم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتب الإسلامي بيروت. النسائي: (102) السنن الكبرى، مخطوطة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. والجزء الأول نشر بتحقيق عبد الصمد شرف الدين، الهند 1391 هـ. (103) المجتبي، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت. النووي: أبو زكريا محي الدين يحيى بن شرف (ت676 هـ). (104) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. (105) المجموع شرح المهذب، مكتبة الإرشاد، جدة (بدون تاريخ). النويري: شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب (ت 733 هـ). (106) نهاية الأرب في فنون الأدب، ط2، دار الكتب المصرية، القاهرة 1346 هـ. ابن هشام: أبو محمد عبد الملك بن هشام الحميري (ت 218 هـ). (107) السيرة النبوية، ط. محمد محيي الدين عبد الحميد، وأحيانا ط2، تحقيق السقا والأبياري وشلبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1375 هـ، وأحيانا بتحقيق محمد خليل هراس، ط. مكتبة الجمهورية بمصر. الهيثمي: نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ). (108) كشف الأستار عن زوائد البزار، ط1، مؤسسة الرسالة بيروت 1399 هـ. (109) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ط. مصر (110) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، ط. المطبعة السلفية. (111) مجمع البحرين في زوائد المعجمين، للطبراني، مخطوطة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت رقم 76، 79. (112) المقصد العلي في زوائد أبي يعلي الموصلي، مخطوطة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. الواقدي: محمد بن عمر (ت 207 هـ). (113) مغازي: تحقي مارسدن جونس تصوير مؤسسة الأعلمي، بيروت (بدون تاريخ). ياقوت: (114) معجم البلدان، ط. بيروت. يحيى بن معين:

(115) التاريخ، ط1، تحقيق أحمد نور سيف، نشر مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة 1399 هـ. اليعقوبي: (116) تاريخ، دار صادر، بيروت 1379 هـ. أبو يعلي الموصلي: أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي (ت307 هـ). (117) مسند، مخطوطة مصورة بمكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

ثبت المصادر والمراجع للفصل الرابع

ثبت المصادر والمراجع للفصل الرابع القرآن الكريم: - الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، نشر دار المعرفة، بيروت. - الأدب المفرد، للبخاري، ط2، نشر عالم الكتب _ بيروت 1405 هـ (1985 م). - إرواء الغليل، للألباني، ط1، نشر المكتب الإسلامي، بيروت - 1399 هـ (1979 م). - الله يتجلى في عصر العالم. - إعجاز القرآن، لأبي بكر الباقلاني (طبع بحاشية الإتقان في علوم القرآن للسيوطي). - أعلام الحديث، للخطابي، نشر مركز البحوث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة. - الإنسان وقواه الخفية، لكولن ولسن. - البداية والنهاية، لابن كثير، تحقيق الدكتور أحمد أبو ملحم والدكتور علي نجيب عطوي وآخرين، نشر دار الكتب العلمية، بيروت -1405 هـ (1985 م). - الترغيب والترهيب، للمنذري، بعناية محمد مصطفى عمارة، نشر دار الفكر، بيروت 1401 هـ (1981 م). - تفسير ابن أبي حاتم (مخطوط). - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل القرآن) ط3، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. - تفسير إبن كثير، بتصحيح خليل الميس، نشر دار القلم، بيروت. - تفسير المنثور، للسيوطي، نشر محمد أمين دمج - بيروت. - الرسول في مكة، لأكرم العمري. - الروض الأنف، للسهيلي، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، نشر دار الكتب الحديثة. - زاد المعاد، لابن القيم. - سنن أبي داؤد، بعناية عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، دار الحديث، بيروت - 1388 هـ (1969 م). - سنن الترمذي، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرين، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت. - سنن الدارمي، تحقيق محمد أحمد دهمان، مطبعة الاعتدال، دمشق - 1349 هـ. - السنن الكبرى، للبيهقي، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند - 1344 هـ.

- سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار الفكر. - سنن النسائي (المجتبي) ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت - 1406 هـ (1986 م). - سيرة ابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر - 1375 هـ. - سيرة الرسول، لمحمد عزة دروزة، بعناية عبد الله بن إبراهيم الأنصاري - قطر - سيرة الرسول في تصروات الغربيين، لجوستاف بفانموللر ترجمة د. محمود حمدي زقزوق. - صحيح البخاري، نشر المكتبة الإسلامية باستنابول - صحيح سنن ابن ماجة، للألباني، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج. - صحيح مسلم، ط. محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، مصر - 1956 م. - طبقات ابن سعد، 8 أجزاء، ط. دار بيروت ودار صادر، بيروت - 1958 م. - العلم يدعو للإيمان، لكريسي موريسون، نشرة دار القلم، بيروت - 1986 م. - كشف الأستار في زوائد مسند البزار، للهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر مؤسسة الرسالة. - الفتاوى، لابن تيمية، 13 مجلداً، ط1، المطبعة الخيرية بالقاهرة - 1329 هـ. - فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ط. المطبعة الخيرية، القاهرة (1319 - 1329 هـ). - في طريق الميثولوجية عند العرب، لمحمود سليم الحوت، دار النهضة للنشر - بيروت 1979م. - مجمع البحرين في زوائد المعجمين، للهيثمي (مخطوط). - مجمع الزوائد، للهيثمي، ط. مصر. - مختصر الشمائل المحمدية للترمذي، للألباني، ط1، نشر المكتبة الإسلامية - الأردن - 1405 هـ. - المستدرك، للحاكم النيسابوري، ط. حيدر آباد الدكن بالهند - 1341 هـ. - مصنف عبد الرزاق، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ط1 دار القلم، بيروت - 1390 هـ. - مناقب عمر، لابن الجوزي، تحقيق دكتورة زينب إبراهيم القاروط، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - 1402 هـ (1982 م).

- موارد الظمآن إلى زائد ابن حبان، للهيثمي، تحقيق محمد عبد الرزاق حمزة، نشر دار الكتب العلمية، بيروت. - النبوات، لإِبن تيمية، نشر دار الكتب العلمية، بيروت - 1402 هـ (1982 م).

§1/1